الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن لطف الله ورحمته بهذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلالة، كما في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أجاركم من ثلاث خلال؛ لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعًا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة» .
وفي حديث أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها» رواه الإمام أحمد.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يجمع أمتي -أو قال أمة محمد- على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ إلى النار» رواه الترمذي، والحاكم، وأبو نعيم في الحلية، وقال الترمذي وأبو نعيم: حديث غريب.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة» الحديث رواه ابن ماجة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبدًا» رواه الحاكم في مستدركه.
فلا تزال -ولله الحمد والمنة- طائفة من هذه الأمة على الحق والاستقامة حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قال الله تعالى:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]، قال علي رضي الله عنه: هي التي تنجو من هذه الأمة. رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب (الاعتصام).
وروى ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أمتي قومًا على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى نزل» .
وفي سنن أبي داود
(1)
، ومستدرك الحاكم، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون» وهم أهل العلم: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» .
حدثنا إسماعيل، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، أخبرني حميد، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله» .
ورواه في كتاب العلم بلفظ: «لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» .
ورواه في باب علامات النبوة وفي كتاب التوحيد من طريق عمير بن
(1)
جاء في اللحق بين السطرين في هذا الموضع [وروى الإمام أحمد]، ويستقيم الكلام إذا قيل: وروى الإمام أحمد، وأبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه .. إلخ. على المعهود من سياق الوالد رحمه الله تعالى.
هانئ أنه سمع معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك» قال عمير: فقال مالك بن يخامر: قال معاذ: وهم بالشام، فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذًا يقول: وهم بالشام.
وقد روى مسلم في صحيحه حديث المغيرة من طرق، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن المغيرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» .
وروى أيضا حديث معاوية من طريق عمير بن هانئ قال: سمعت معاوية على المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» .
ورواه أيضا من طريق يزيد بن الأصم، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان ذكر حديثًا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم أسمعه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم على منبره حديثًا غيره- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة» .
وفي صحيحه أيضًا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم: تعال صل لنا،
فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة».
وفي صحيحه أيضا عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» .
ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبرقاني في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لن يبرح هذا الدين قائمًا يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة»
(1)
.
وفيه أيضا عن عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو بن العاص نحوه، وسيأتي بلفظه.
وفيه أيضا عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» .
وعن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من
(1)
جاء لحقًا بين السطرين (رواه أحمد).
أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها» رواه ابن ماجة.
فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال فيهم طائفة على الحق والاستقامة، ظاهرين على من ناوأهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وفي هذا معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلم من أعلام نبوته، فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى موجودًا من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمننا هذا في آخر القرن الرابع عشر، ولا يزال كذلك حتى يأتي أمر الله تعالى المذكور في هذا الأحاديث، وهو هبوب الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين في آخر الزمان عند اقتراب قيام الساعة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث ريحًا من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحدًا في قلبه مثقال حبة، وفي رواية: مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته» .
وفيه أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما نحوه، وسيأتي.
وفيه أيضا من حديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فبينما هم كذلك إذا بعث الله ريحًا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم» .
ورواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة وغيرهم، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه» قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم، والنسائي.
ولمسلم أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزى» فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أن ذلك تامًا، قال:«إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبة فتوفَّى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم» .
ففي هذه الأحاديث الصحيحة دليل على أن المراد بقوله: «حتى يأتي أمر الله» أنه هبوب الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين عند اقتراب قيام الساعة.
وأما قوله في حديث يزيد بن الأصم، عن معاوية بن أبي سفيان:«إلى يوم القيامة» ، ومثله في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وكذلك
قوله في حديث حميد عن معاوية: «حتى تقوم الساعة» ، ومثله عن جابر بن سمرة، وعقبة بن عامر، وسعد بن أبي وقاص، وقرة بن إياس، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم؛ فيحتمل أن المراد بذلك دنو الساعة المتناهي في القرب منها، بحيث يعقبه قيامها ولا يتخلف عنه إلا زمنًا يسيرًا، وبهذا جزم النووي رحمه الله تعالى، ويحتمل أن يكون ذكر القيامة والساعة على بابه، ويكون المراد بذلك قيامة الطائفة المنصورة وساعتهم، وهو وقت موتهم بهبوب الريح الطيبة، وبهذا جزم الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، ويدل لهذا ما في الحديث الصحيح أن الأعراب كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فينظر إلى أحدثهم سنا فيقول:«إن يعمر هذا لم يدرك الهرم حتى تقوم الساعة» أي ساعة أولئك الذين يسألونه.
والاحتمال الأول أولى، وحاصل الاحتمال الثاني يرجع إليه، والله أعلم.
والدليل على أن المراد بما في الأحاديث التي سلفت دنو الساعة وقربها؛ أن الساعة العظمى إنما تقوم على شرار الخلق، كما في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ذكر موت الطائفة المنصورة:«ويبقى شرار الناس؛ يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن وغيرهم، وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، رواه مسلم، والنسائي.
وفي المسند، وصحيح البخاري، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من شرار الناس مَن تدركهم الساعة وهم أحياء» .
وفي المسند أيضًا، وصحيح مسلم عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» .
وفي سنن ابن ماجة، والمعجم الصغير للطبراني، ومستدرك الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي المستدرك أيضا عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضا.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي.
وفي رواية لمسلم: «لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله» .
وفي مستدرك الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى أبو نعيم في الحلية من طريق مجاهد، عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تقوم الساعة على أحد يقول: لا إله إلا الله» .
وفي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص فقال عبد الله: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم» فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر فقال له مسلمة: يا عقبة، اسمع ما يقول عبد الله! فقال عقبة: هو أعلم، وأما أنا
فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك» ، فقال عبد الله:«أجل، ثم يبعث الله ريحًا كريح المسك، مسها مس الحرير، فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة» .
والمراد بالطائفة المذكورة في هذا الحديث والأحاديث قبله، أهل السنة والجماعة.
وجزم البخاري في صحيحه أنهم أهل العلم كما تقدم ذكره قريبًا.
وقال أيضا: باب قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم. انتهى.
وقال الترمذي رحمه الله تعالى في جامعه: قال محمد بن إسماعيل: قال علي بن المديني: هم أصحاب الحديث. انتهى.
وكذا قال ابن المبارك، وأحمد بن سنان، وابن حبان وغيرهم، وبوَّب عليه ابن حبان في صحيحه فقال: ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة، ثم ساق حديث معاوية بن قرة عن أبيه.
وقال يزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. رواه عنهما الحاكم في علوم الحديث.
قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث.
وعن علي بن المديني رواية أنهم العرب، واستدل بحديث:«لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» قال: والمراد بالغرب: الدلو؛ أي العرب؛ لأنهم أصحابها، لا يستقي بها أحد غيرهم. ذكره يعقوب بن شيبة، ونقله عنه صاحب المشارق وغيره.
قلت: ويؤيد ذلك ما رواه ابن ماجة من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه في ذكر الدجال، وفيه: فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟ قال:«هم قليل، وجُلهم يومئذ ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى؛ ليقدم عيسى يصلي، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصل، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم» الحديث.
وأصل هذه القطعة ثابت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أخبرتني أم شريك أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليفرن الناس من الدجال في الجبال» ، قالت أم شريك: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟ قال:«هم قليل» .
ورواه الترمذي في جامعه وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وله أيضًا شاهد في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله
هذه الأمة».
وله أيضًا شاهد في مسند الإمام أحمد من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر الحديث وفيه: «وينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند صلاة الفجر، فيقول له أميرهم: يا روح الله، تقدم صل، فيقول: هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض، فيتقدم أميرهم فيصلي» الحديث.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بني تميم: «هم أشد أمتي على الدجال» .
وبنو تميم قبيلة كبيرة من العرب.
ففي هذين الحديثين؛ حديث أبي أمامة، وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما دليل على أن العرب هم الطائفة التي تقاتل المسيح الدجال، ويدخل مع العرب تبعًا من كان متمسكًا بالكتاب والسنة من غيرهم.
قال النووي رحمه الله تعالى: يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف، وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض، قال: وفيه دليل لكون الإجماع حجة، وهو أصح ما استدل به له من الحديث. انتهى.
واحتج به الإمام أحمد رحمه الله تعالى على أن الاجتهاد لا ينقطع ما
دامت هذه الطائفة موجودة.
وقد اختلف في محل هذه الطائفة؛ فقال ابن بطال: إنها تكون في بيت المقدس. كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قيل: يا رسول الله، أين هم؟ قال:«بيت المقدس» .
وقال معاذ رضي الله عنه: هم بالشام.
وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائما، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة.
قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: قلت: يشهد له الواقع، وحال أهل الشام، وأهل بيت المقدس من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن، فإنهم في زمانهم على الحق، يدعون إليه، ويناظرون عليه، ويجاهدون فيه، وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة، والله على كل شيء قدير، ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة، وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد، بل هم في غالب الأمصار؛ في الشام منهم أئمة، وفي الحجاز، وفي مصر، وفي العراق، واليمن، وكلهم على الحق يناضلون ويجاهدون أهل البدع، ولهم المصنفات التي صارت أعلامًا لأهل السنة وحجة على كل مبتدع، فعلى هذا فهذه الطائفة قد تجتمع، وقد
تفترق، وقد تكون في الشام، وقد تكون في غيره، فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ لا يفيد حصرها بالشام، وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها. انتهى.
قلت: الظاهر من حديث أبي أمامة وقول معاذ رضي الله عنهما أن ذلك إشارة إلى محل هذه الطائفة في آخر الزمان، عند خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.
ويدل لذلك ما تقدم ذكره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه الذي رواه ابن ماجة وفيه: فقالت أم شريك: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟ قال:«هم قليل، وجلهم يومئذ ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح ..» الحديث.
ويدل له أيضا ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والبخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو هامتي، ثم قال:«يا ابن حوالة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك» .
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي المسند أيضا، وجامع الترمذي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستخرج نار من حضرموت أو من نحو بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس» قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ فقال:«عليكم بالشام» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وفي المسند أيضا، وسنن أبي داود، وصحيح الحاكم، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة، فيها مدينة يقال له دمشق، خير منازل المسلمين يومئذ» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
ولفظ أبي داود: «إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها دمشق، من خير مدائن الشام» .
قال المنذري في (تهذيب السنن): قال يحيى بن معين، وقد ذكروا عنده أحاديث من ملاحم الروم، فقال يحيى: ليس من حديث الشاميين شيء أصح من حديث صدقة بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «معقل المسلمين أيام الملاحم دمشق» . انتهى.
ففي هذه الأحاديث دليل على أن جُل الطائفة المنصورة يكون بالشام في آخر الزمان، حيث تكون الخلافة هناك، ولا يزالون هناك ظاهرين على الحق حتى يرسل الله الريح الطيبة فتقبض كل من في قلبه إيمان، كما تقدم في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» قال معاذ: وهم بالشام؛ يعني أنهم يكونون بالشام حين يأتي أمر الله تعالى وهو هبوب الريح الطيبة، فأما في زماننا وما قبله، فهذه الطائفة متفرقة في أقطار الأرض كما يشهد له الواقع من حال هذه الأمة منذ فتحت الأمصار في عهد الخلفاء الراشدين إلى اليوم، ولا يختص بها مصر من أمصار المسلمين دون الآخر، ولكنها تكثر في بعض الأماكن أحيانًا
ويعظم شأنها ويظهر أمرها ببركة الدعوة إلى الله وتجديد الدين، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» رواه أبو داود، والحاكم في مستدركه.
ومن أعظم المجددين بركة في آخر هذه الأمة، شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني وأصحابه في آخر القرن السابع وأول الثامن، فقد نفع الله بدعوته ومصنفاته الخلق الكثير، والجم الغفير، منذ زمانه إلى زماننا هذا، وكذلك مصنفات تلاميذه وتلاميذهم قد نفع الله بها آخر هذه الأمة، جزاهم الله جميعًا عن المسلمين خيرًا وأثابهم الجنة والرضوان. وجلالة كتبهم، وعظم قدرها، وغزارة فوائدها معروف عند أتباع السنة النبوية والطريقة السلفية، ففيها يتنافس المتنافسون، وعليها وعلى مثلها يعول المحققون، ومن طالع كتب شيخ الإسلام أبي العباس وتلميذه ابن القيم رحمة الله عليهما ونظر فيها بعين العدل والإنصاف عرف مالها من المزية والفضل على أكثر المصنفات، ورأى العجب العجاب من قوة تأثيرها في النفوس وإزالة أدواء القلوب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وللشيخين اليد البيضاء والهمة العلياء في نصر السنة وعلوم السلف ونشرها، وقمع البدع ومحدثات الخلوف وإخمادها وكسرها، فهما في هذا الباب فارسا الميدان، ومحرزا قصب السبق على أكثر الفرسان.
تلك المكارم لا ما روي عن هرم
…
ولا الذي قيل عمن ضم غمدان
وللشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى ورضي عنه مقامات مشهورة في الدعوة إلى الله تعالى، وجهاده أعداءه من الكفار والمنافقين، وقد قام في قتال
التتار مقامًا لم يقمه غيره، وبذل نفسه وماله في جهادهم ودفعهم عن حوزة المسلمين حتى كسر الله شوكتهم ويسر هزيمتهم على يد السلطان ومن معه من جنود مصر والشام، وكل ذلك بسبب الشيخ قدس الله روحه، فإنه ذهب بنفسه إلى السلطان وجنود مصر مستصرخا بهم على التتار، فاجتمع بأركان الدولة، وحضهم على الجهاد، وتلا عليهم الآيات والأحاديث، وأخبرهم بما أعد الله للمجاهدين من الثواب؛ فلبوا دعوته وسارعوا إلى لقاء العدو، ولما التقى الجمعان جعل الشيخ رحمه الله تعالى يوصي المسلمين بالصبر والثبات، ويحرضهم على القتال، ويعدهم النصر والظفر إن صبروا ويقسم على ذلك؛ فحقق الله أمله، وأبر قسمه، وصدق الله وعده، وأعز جنده، وهزم التتار وحده، ومنح المسلمين أكتافهم يقتلونهم كيف شاؤوا، ولم يفلت منهم إلا القليل، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
فالله يجزيه الذي هو أهله
…
من جنة المأوى مع الرضوان
قال ذلك فيه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية، وقال فيه أيضًا:
وله المقامات الشهيرة في الورى
…
قد قامها لله غير جبان
نصر الإلهَ ودينَه وكتابَه
…
ورسولَه بالسيف والبرهان
ولما اجتمع أبو حيان -شيخ النحاة في زمانه- بشيخ الإسلام أبي العباس قال: ما رأت عيناي مثله، ثم مدحه على البديهة في المجلس فقال:
لما أتينا تقي الدين لاح لنا
…
داع إلى الله فرد ماله وزر
على محياه من سيما الأولى صحبوا
…
خير البرية نور دونه القمرُ
حَبْر تسربل منه دهره حِبرا
…
بحر تقاذف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
…
مقام سيد تيم إذ عصت مُضَرُ
فأظهر الدين إذا آثاره درست
…
وأخمد الشرك إذ طارت له شررُ
يا من تحدث عن علم الكتاب أصخ
…
هذا الإمام الذي قد كان يُنتظر
قوله: مقام سيد تيم؛ يعني بذلك أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فإنه قام في جهاد المرتدين أعظم قيام، حتى ردهم الله ببركة جهاده إلى الحق، وأدخلهم من الباب الذي خرجوا منه.
وللشيخ تقي الدين في بيان الحق، وتجديد الدين، والجهاد بالنفس والمال لإعلاء كلمة الله ونصر دينه شبه قوي بما فعله الصديق رضي الله عنه وأرضاه- أيام الردة؛ فلهذا شبه أبو حيان فعله بفعله، وإن لم يكونا سواء.
وثناء أكابر العلماء في آخر القرن السابع فما بعده نثرا ونظمًا على هذا الإمام المجدد أكثر من أن يحصر، وقد صنفت في مناقبه كتب كثيرة شهيرة، فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنة الفردوس منقلبه ومثواه، إنه جواد كريم.
ومن أعظم المجددين بركة في آخر هذه الأمة أيضا شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام؛ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه ونور ضريحه، نشأ في أناس قد اندرست فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك وأنواع
البدع والخرافات ما عم وطم في كثير من البلاد إلا بقايا متمسكين بالدين يعلمهم الله تعالى، وأما الأكثرون فقد عاد المعروف بينهم منكرًا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وكان الأمر كما قال معاصره محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى:
طغى الماء من بحر ابتداع على الورى
…
. . . . . . . . .
إلى آخر الأبيات التي تقدم ذكرها قريبا.
وكان سكان الجزيرة العربية في ذلك الوقت على أسوأ الحالات في أمور دينهم ودنياهم.
أما في أمر دينهم: فكان كثير منهم في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، يدعون الأموات، ويعتقدون في الأشجار والأحجار والغيران وغيرها، ويطوفون بقبور الصالحين ومن يظن صلاحه، ويرجون الخير والنصر ودفع الضر من هذه المعتقدات، وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية وجهالات الصوفية ما يرون أنه من الشعب الإيمانية والطريقة المحمدية، وفيهم من إضاعة الصلوات، ومنع الزكاة، وإتيان المنكرات ما هو معروف مشهور.
وأما في أمر دنياهم: فكانوا على غاية من الخوف والجوع والتفرق والشقاق، ليس لهم جماعة، ولا إمام يرون له طاعة، قد غلبت عليهم الفوضى، وكثر فيهم الهرج، وصار ضعيفهم نهبة لقويهم.
ففتح الله تعالى بصيرة شيخ الإسلام، وألهمه رشده، وسدده ووفقه
لمعرفة ما بعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، وشرح صدره لقبوله والعمل به، ثم قوى عزيمته على الدعوة إليه، وتجديد أمر الإسلام، فشمر عن ساق الجد والاجتهاد، قام في هذا الأمر العظيم أعظم قيام، فدعا الناس إلى ما كان عليه السلف الصالح في باب العلم والإيمان، وفي باب العمل الصالح والإحسان، دعاهم إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، ونهاهم عن التعلق بغير الله من الملائكة والأنبياء والصالحين وعن عبادتهم من دون الله، ونهاهم عن الاعتقاد في القبور والأشجار والأحجار والعيون والغيران وغيرها مما يعتقد فيه المشركون، ودعاهم إلى تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأعمال، ونهاهم عن الابتداع في الدين، وحذرهم عما أحدث الخلوف من البدع والتقاليد والتعصبات التي أعمت الأكثرين، وأصمَّتهم وأضلتهم عن سواء السبيل، ودعاهم إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وترك المنكرات، ونهاهم عن التهاون بالحج وصيام رمضان، ودعاهم إلى الجماعة والائتلاف والسمع والطاعة لإمام المسلمين، والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك مما دعاهم إليه ورغبهم فيه من الأمور الدينية ومكارم الأخلاق، وما نهاهم عنه مما يضاد ذلك من المحظورات ومساوئ الأخلاق وسفسافها، وهو في كل ذلك متبع لا مبتدع، فجعل الله في قيامه أعظم البركة، ونفع الله بدعوتهم ومصنفاته الخلق الكثير والجم الغفير من أهل نجد وغيرهم منذ زمانه إلى يومنا هذا، ومحا الله بدعوته شعار الشرك ومشاهده، وهدم بيوت الكفر ومعابده، وكبت
الطواغيت والملحدين، وقمع الفجار والمفسدين، ورفع الله بدعوته أعلام الشريعة المحمدية والملة الحنيفية في أرجاء الجزيرة العربية، وصار لهم جماعة وإمام يدينون له بالسمع والطاعة في المعروف، وعقدت الألوية والرايات للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، وقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقيمت الحدود الشرعية والتعزيرات الدينية، وحوفظ على الصلوات في الجماعات، وأخذت الزكاة من الأغنياء وفرقت في مستحقيها، وقام سوق الوعظ والتذكير وتعلم العلوم الشرعية وتعليمها، ونشرت السنة وعلوم الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واشتغل الناس بها، ورفعت رايات الجهاد بالحجة والبرهان لدحض المعاندين من المشركين وأهل البدع، وغيرهم من المبطلين المعارضين لهذه الدعوة العظيمة بالشبه الباطلة والإفك والبهتان، حتى سارت بحمد الله تعالى في الآفاق، وجعل الله لها من القبول ما لا يحد ولا يوصف، وجمع الله بسببها القلوب بعد شتاتها، وألف بينها بعد عداوتها، فأصبحوا بنعمة الله إخوانا متحابين بجلال الله، متعاونين على البر والتقوى، وأعطاهم الله من الأمن والنصر والعز والظهور ما هو معروف مشهور، وفتح الله عليهم البلاد العربية من بحر فارس إلى بحر القلزم، ومن اليمن إلى أطراف الشام والعراق، فأصبحت نجد محطًا لرحال الوافدين، تُضرب إليها أكباد الإبل في طلب الدنيا والدين، وعاد دين الإسلام فيها بسبب هذه الدعوة غضًا طريًا، له شبه قوي بحالته في الصدر الأول، فجزى الله هذا الإمام المجدد عن المسلمين خيرًا، وأثابه الجنة والرضوان.
وقد شهد له أهل العلم والفضل من أهل عصره ومن بعدهم أنه أظهر
توحيد الله، وجدد دينه ودعا إليه، واعترفوا بعلمه وفضله وهدايته ونصيحته لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، بل قد اعترف أعداء الإسلام والمسلمين من عقلاء النصارى وغيرهم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول.
قال صاحب المنار محمد رشيد رضا في مقدمة كتاب (صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان): لم يخل قرن من القرون التي كثرت فيها البدع من علماء ربانيين يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما ورد في الأحاديث، ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده بما شرعه في كتابه، وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع والمعاصي، وإقامة شعائر الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة، فنهدت لمناهضته واضطهاده القوى الثلاث: قوة الدولة والحكام، وقوة أنصارها من علماء النفاق، وقوة العوام الطغام. وتصدى للطعن في الشيخ محمد بن عبد الوهاب والرد عليه أفراد من أهل الأمصار المختلفة، ومنهم رجل من أحد بيوت العلم في بغداد، قد عهدناه يفتخر بأنه من دعاة التعطيل والإلحاد، وكان أشهر هؤلاء الطاعنين مفتي مكة المكرمة الشيخ أحمد زيني دحلان المتوفى سنة 1304 هـ، ألَّفَ رسالة في ذلك تدور جميع مسائلها على قطبين اثنين: قطب الكذب والافتراء على الشيخ،
وقطب الجهل بتخطئته فيما هو مصيب فيه، وكان نسمع في صغرنا أخبار
الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا ورسائل أمثاله، فنصدقها بالتبع لمشايخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين، ولأجله حاربتهم وخضدت شوكتهم، وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر، والاطلاع على تاريخ الجبرتي، وتاريخ الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى، فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها، ولا سيما تواريخ الإفرنج، الذي بحثوا عن حقيقة الأمر فعلموها، وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذًا لتجدد مجده، وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفًا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى، على أن العلامة الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت كان ألف كتابًا في تاريخ الإسلام ذكر فيه الدعوة التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقال إنها عين ما دعا إليه النبيون والمرسلون، ولكنه قال: إن الوهابيين في عهده متشددون، وقد عجبنا له كيف تجرأ على مدحهم في عهد السلطان عبد الحميد، ورأيت شيخنا محمد عبده في مصر على رأيه في هداية سلفهم وتشدد خلفهم، وأنه لولا ذلك لكان إصلاحهم عظيمًا ورجي أن يكون عامًا، وقد ربى الملك عبد العزيز غلاتهم المتشددين منذ سنتين بالسيف تربية يُرجى أن تكون تمهيدًا لإصلاح عظيم، وإن علماء السنة في الهند واليمن قد بلغهم كل ما قيل في هذا الرجل، فبحثوا وتثبتوا
وتبينوا كما أمر الله تعالى فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون، لا أمانة لهم، وأثنى عليه فُحُولهم في عصره وبعد عصره، وعدّوه من أئمة المصلحين المجددين للإسلام ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم، ولا تتسع هذه المقدمة لنقل شيء من ذلك. انتهى ملخصًا.
قلت: التشدد الذي أشار إليه إنما وقع في بعض الأعراب في زمن يسير نحو عشر سنين، وذلك أنهم أقبلوا على الدين إقبالًا كليا مع الجهل الكثيف، وأقبلوا على العمل وأهملوا التعلم، فصار التشدد غالبًا عليهم، حتى آل الأمر ببعضهم إلى أن خلعوا أيديهم من الطاعة، وفارقوا الجماعة، وبغوا عليهم، وبدأوهم بالقتال، فقاتلهم الإمام ومن معه من الحاضرة والبادية في عدة وقعات؛ أولها في منتصف شوال سنة ألف وثلاثمائة وسبع وأربعين حتى أطفأ الله فتنتهم، وكفى المسلمين شرهم، فأما الحاضرة وكثير من البادية فكانوا على الطريقة السلفية ولله الحمد والمنة، ولم يكن فيهم تشدد كما يزعمه بعض الناس، فإطلاق التشدد على العموم متعقب على من ادعاه كما لا يخفي على من له أدنى إلمام ومعرفة بحال أهل نجد، والله الموفق.
وقال محمد رشيد رضا في هامش (صيانة الإنسان): من المعلوم بالتواتر أن الشيخ رحمه الله جدد الإسلام في نجد وغير نجد.
وقال أيضا في مقدمة رسائل العلامة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: لا نعرف في تاريخ الإسلام شعبًا دخل في جميع الأطوار التي دخل فيها الإسلام في نشأته الأولى غربة وجهادًا وهجرة وحجاجًا وقوة غير هذا الشعب النجدي؛
فقد ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في وقت كان حال أهله شرًا من حال المشركين وأهل الكتاب في زمن البعثة؛ من شرك وخرافات وبدع وضلالات وجهالة غالبة، فدعا إلى عبادة الله وحده، والرجوع إلى أصل الإسلام الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فعاداه في بلاده الأكثرون، ووالاه فيها الأقلون، فنصر الله تعالى أولياءه من أمراء آل سعود وأتباعهم على أعدائهم، ثم تصدى لعداوتهم الترك وأعوانهم فكانت الحرب سجالا بينهم، وعاقب الله السعوديين زمنا بما كان من تخاذل بينهم، وتقصير في إقامة بعض سنن الله في دولتهم، ثم كانت العاقبة الحسنى لهم عندما تابوا من ذنبهم ورجعوا إلى وحدتهم واعتبروا بقوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقوله في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ظهر عليهم المشركون في غزوة أحد:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقوله:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
امتحن الله النجديين بتصدي الترك لعداوتهم، وتأليب العرب وشرفاء الحجاز والمصريين عليهم؛ لئلا يعيدوا ملك العرب وسلطانهم الذي سلبوه منهم، فحاربوهم باسم الإسلام، ونشروا الكتب والفتاوى في رميهم بالكفر والابتداع، وقد اغتر كثيرون بما فعلوه باسم الإسلام، وشايعهم عليه أفراد وجماعات هم دون الخوارج الذين خرجوا على الإمام أمير المؤمنين الخليفة الرابع للرسول صلى الله عليه وسلم وكفَّروه وتبرؤوا منه، ودون الذين بغوا عليه وحاربوه مع معاوية، نعم هم دونهم علما بالدين وعملا به، بل كفَّرهم
وقاتلهم أخلاط؛ منهم المسلم والكافر، والزنديق والمنافق، وعسكر لا يقيم الصلاة، ولا يؤدي الزكاة، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الخمر والزنا واللواط، وأكل أموال الناس بالباطل، والقتال لطاعة الرؤساء ولو في معصية الله تعالى، بهذا كله كان علماؤهم وأمراؤهم، في حالة تشبه حال مسلمي الصدر الأول في مقاومة المشركين؛ الذين يدعون غير الله، ويجعلون لله أندادًا كالذين جاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مقارعة تاركي الصلاة ومانعي الزكاة كالذين قاتلهم أبو بكر الخليفة الأول رضي الله عنه، وفي مجالدة البغاة كالذين قاتلهم الخليفة الرابع علي رضي الله عنه، وفي مجادلة المبتدعين من الروافض والجهمية كالذين ناضلهم الإمام أحمد وإخوانه أئمة السنة بالحجة، فأعادوا نشأة الإسلام العملية سيرتها الأولى في الصدر الأول؛ من ولاية وبراءة، وهجرة وجهاد بالسيف والسنان وبالحجة والبرهان، على حين صارت النصوص الخاصة بهذه الأحوال منسية أو كالمنسية عند غيرهم من شعوب الإسلام ودوله؛ لا يتعلق بها عمل من الأعمال، ولا حكم من الأحكام.
وقال أيضا في مقدمة (مجموعة الحديث النجدية): وقد كان مما استعمل الله به الشيخ محمد بن عبد الوهاب -مجدد الدين في نجد وما حولها- أن أحيا مدارسة السنة النبوية فيها؛ للاهتداء بها، لا لمجرد التبرك بألفاظها، ولا لأجل الاستقلال فيها دون ما كتب المحدثون والفقهاء في شرحها والاستنباط منها، بل نرى مَن هداهم الله تعالى بدعوته، وأنقذهم من الجاهلية التي عادت إلى أكثر أهل جزيرة العرب، ما زالوا يحبون كتب فقه شيخ السنة الأكبر الإمام أحمد رضي الله عنه مع خيار كتب التفسير والحديث
لغير الحنابلة من علماء السنة، فكانوا من أجدر المسلمين بلقب أهل السنة. انتهى.
وقال الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن سند في رده على الراوي العراقي: لقد نهض الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى نهضة أكرِم بها من نهضة، وقد بلغ من أمر تلك النهضة أن عرفها الباحثون في علل رقي الأمم وانحطاطها حتى من غير علماء الإسلام، وإليك نظرية أحد علماء الغرب في تلك النهضة الإصلاحية التي نهض بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ قال لوشروب ستودارد الأمريكي في كتابه (حاضر العالم الإسلامي) المترجم إلى اللغة العربية بقلم الأستاذ عجاج نويهض: الفصل الأول من الكتاب في اليقظة الإسلامية في القرن الثامن عشر؛ أي الميلادي: كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركة، فاربدّ جوّه، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجاء من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، وتلاشي ما كان باقيًا من آثار التهذيب العربي، واستغرقت الأمم الإسلامية في اتِّباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، فليس يُرى في العالم الإسلامي في ذلك العهد سوى المستبدين الغاشمين؛ كسلطان تركيا وأواخر ملوك المغول في الهند؛ يحكمون حكمًا واهنًا فاشي القوة متلاشي الصبغة، وقام كثير من الولاة والأمراء يخرجون على الدولة التي هم في حكمها، وينشئون حكومات مستقلة ولكن مستبدة؛ كحكومة
الدولة التي خرجوا عليها، فكان هؤلاء الخوارج لا يستطيعون إخضاع من في حكمهم من الزعماء هنا وهناك، فكثر السلب والنهب، وفقد الأمن، وصارت السماء تمطر ظلمًا وجورًا، وجاء فوق جميع ذلك رجال الدين المستبدون يزيدون الرعايا إرهاقًا فوق إرهاق، فغُلَّت الأيدي، وقعد عن طلب الرزق، وكاد العزم يتلاشى في نفوس المسلمين، وبارت التجارة بورًا شديدًا، وأهملت الزراعة أي إهمال.
وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحبُ الرسالة الناسَ سجفًا من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت عن الناس فضائل القرآن فصار يشرب الخمر والأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل، وهتكت ستر الحرمات على غير خشية واستحياء، ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام، فصار الحج المقدس الذي فرضه الله تعالى وفرضه النبي صلى الله عليه وسلم على من استطاعه ضربا من المستهزءات، وعلى الجملة فقد بدل المسلمون غير المسلمين، وهبطوا مهبطًا بعيد القرار، فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر، ورأى ما كان يدهى الإسلام، لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين كما يُلعن المرتدون وعبدة الأوثان.
وفيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته، ومدلج في ظلمته، إذا بصوت قد دوى من قلب صحراء شبه الجزيرة مهد الإسلام، يوقظ المؤمنين، ويدعوهم إلى الإصلاح والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم، فكان الصارخ هذا الصوت إنما هو المصلح المشهور محمد بن عبد الوهاب، الذي أشعل نار الوهابية، فاشتعلت واتقدت، واندلعت ألسنتها إلى كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي، ثم أخذ هذا الداعي يحض المسلمين على إصلاح النفوس، واستعادة المجد الإسلامي القديم والعز التليد، فتبدت تباشير صبح الإصلاح، ثم بدت اليقظة الكبرى في عالم الإسلام.
ولد محمد بن عبد الوهاب في نجد الواقعة في قلب الصحراء العربية حوالي سنة ألف وسبعمائة ميلادي، وكانت نجد في ذلك العصر -على انحطاط العالم الإسلامي وتدليه- أنقى البلدان إسلامًا، وأطهر الأقطار دينًا، وإذ كان منذ أول شأنه شديد الميل إلى الاطلاع والتفقه في الدين لسرعان ما اشتهر ذكره، وذاع اسمه، فعرف بعلم وافر، قوامًا على التقوى، فحج إلى مكة في أوائل عمره، وطلب العلم في المدينة المنورة، وساح إلى كثير من البلاد المجاورة حتى فارس، ثم عاد إلى نجد مشتعلًا غضبا دينيًا لما رآه بأم عينه من سوء حالة الإسلام، فصحَّت عزيمته على القيام بدعوة الإصلاح، فقضى سنين عديدة راحلًا من بلاد إلى بلاد في شبه الجزيرة، فبشر بالدعوة موقظًا النفوس حتى استطاع بعد جهاد طويل أن يجعل محمد بن السعود -وهو أكبر أمراء نجد- وأعلى زعمائهم كعبًا وشأنًا يقبل الدعوة ويدخل فيها، فاكتسب ابن عبد الوهاب بذلك مكانة أدبية
عالية، ومنزلة اجتماعية رفيعة، وقوة حربية لا يستهان بها، فاستفاد من ذلك استفادة جليلة، قد مكنته من بلوغ غايته وإدراك غرضه.
فتكونت على التوالي وحدة دينية سياسية في جميع الصحراء العربية، شبيهة بتلك الوحدة التي أنشأها صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، وفي الواقع فإن المنهج الذي نهجه ابن عبد الوهاب يشبه شبها كبيرًا ذاك الذي نهجه الخلفاء الراشدون كأبي بكر وعمر، ولما مات سنة ألف وسبعمائة وسبعة وثمانين خلفه ابن السعود، فكان خير خليفة للمُصلح الإسلامي الكبير، واقتفى الوهابيون آثار خلافة الراشدين، وعلى ما كان في يد ابن السعود من القوى الحربية العظيمة، فإن ذلك ما كان ليصرفه عن أن يكون على الدوام نازلًا على رأي الجماعة وشوراها، فلم يمتهن حرية أتباعه وبني قومه، وكانت حكومته على عنفها مكينة عادلة فانقطع التعدي، وأمن الناس السرقات، وانتشر الأمن، وسادت الطمأنينة والراحة، وعكف على العلم والتهذيب، فكان في كل واحة مدرسة، وفي كل قبيلة بدوية عدد من المعلمين، وبعد أن أخضع ابن السعود نجدًا وتم له الأمر في كاملها أخذ يستعد ليقوم بعمل أكبر ألا وهو إخضاع جميع العالم الإسلامي ونشر الإصلاح فيه، فجعل نصب عينيه في المقام الأول تحرير الأماكن المقدسة الحجازية، فكرّ على الحجاز في صدر القرن التاسع عشر بمقاتلته الشجعان المشتعلين غيرة دينية، وكان له ما أراد من الاستيلاء على الأماكن المقدسة، فلم تستطع قوة الوقوف في وجه الوهابيين وهم يحملون على الترك، والترك في نظرهم أهل الارتداد والجحود، ومغتصبو الخلافة اغتصابًا، وحقها أن تكون أبدًا
في العرب، وبينما كان ابن السعود سنة ألف وثمانمائة وأربعة عشرة يعد العدة لفتح سوريا، وهمَّته متينة، كان يخيل إلى العالم منه أن الوهابيين متدفقون على الشرق تدفقًا، وصانعون ما شاء الله من الإصلاح في الإسلام، غير أن ذلك ما قدر ليكون، فلما أيقن سلطان تركيا أنه لا يستطيع القضاء على الوهابيين استصرخ بطلا من مشاهير الأبطال وهو محمد علي، واستكفاه أمر القضاء عليهم، وكان هذا المقدام الألباني سيد مصر وأميرها واقفا حق الوقوف على قدرة أوربة وشدة بأسها وتفوقها، فدعا إليه ضباط من أهل الغرب، فنظموا له جيشًا قويًا، ودربوه تدريبًا على الطراز الغربي، وجهزوه بمعدات الأسلحة الغربية، وكان غالب هذا الجيش مؤلفًا من المقاتلة الألبانيين الأشداء، فسرعان ما أجاب محمد علي نداء السلطان، فأيقن حينئذ أن الوهابيين على شدة غيرتهم الدينية وحماستهم لن يستطيعوا بعد الوقوف بوجه البنادق والمدافع الأوربية يطلق عيارها جنود مجربون، وما هي إلا مدة قصيرة حتى استردت الأماكن المقدسة الحجازية، ورد الوهابيون على أعقابهم فانقلبوا إلى الصحراء، فاختفت الإمبراطورية الوهابية الوليدة للحال اختفاء، وأرخى الستار على الدور السياسي الوهابي، بيد أن خاتمة هذا الدور السياسي كانت فاتحة الدور الديني، فقد ظلت نجد بؤرة تشتعل فيها نار الغيرة الدينية ومنبثق النور تنبعث منه الأشعة الوهاجة إلى كل ناحية من نواحي الأرض، وما فتئ الوهابيون منذ قضي على قوتهم السياسية يبثون روح الحركة الدينية في مئات الألوف من الحجيج الوافدين كل عام إلى مكة والمدينة من كل قطر من أقطار العالم الإسلامي، فيقتبس هؤلاء نارًا وهابية، ثم يعودون إلى أوطانهم يشعلون بها ما استطاعوا إشعاله
في سبيل الإصلاح، وهكذا قد استطاع الوهابيون أن يبذروا بذورًا تلاها الاختمار الشديد للثورة الدينية في كل فج إسلامي، حتى بلغت دعوتهم الدينية أقصى المعمور، فقام في شمال الهند الزعيم الوهابي المغالي السيد أحمد
(1)
مستنفرًا مسلمي بنجاب، وأنشأ وهابية، فكان هذا الزعيم يعد عدته لفتح سائر شمالي الهند، فحالت منيته بينه وبين ذلك، واضمحلت الدولة الوهابية الهندية سنة ألف وثمانمائة وثلاثين، غير أنه لما جاء الإنكليز يفتحون البلاد عانوا الأمرَّين من بقايا النار الوهابية الكامنة في الرماد، وظلت هذه النار مخبوءة إلى ما شاء الله، فكانت عاملًا من عوامل الثورة الهندية، ثم استطار من شررها ما تناول أفغانستان وسائر القبائل الهندية عند الحدود الشمالية والغربية فأشعلها أيما إشعال -إلى أن قال-: فالدعوة الوهابية إنما هي دعوة إصلاحية خالصة بحتة، غرضها إصلاح الخرق، ونسخ الشبهات، وإبطال الأوهام، ونقض التفاسير المختلفة والتعاليق المتضاربة التي وضعها أربابها في عصور الإسلام الوسطى، ودحض البدع، وعبادة الأولياء.
وعلى الجملة هي الرجوع إلى الإسلام، والأخذ به على أوله وأصله ولبابه وجوهره؛ أي إنها الاستمساك بالوحدانية التي أوحى الله بها إلى صاحب الرسالة صافية ساذجة، والاهتداء والائتمام بالقرآن المنزل مجردًا، وأما ما سوى ذلك فباطل وليس في شيء من الإسلام، ويقتضي ذلك الاعتصام كل الاعتصام بأركان الدين وفروضه وقواعد الآداب؛ كالصلاة
(1)
هو أحد أمراء إقليم البنجاب بالهند، وقد اعتنق الإسلام وحج عام 1231 هـ الموافق 1816م، والتقى بعلماء الدعوة الإصلاحية السلفية بمكة وتأثر بهم، فلا يقع اللبس بداعية الإلحاد والضلالة ميرزا غلام أحمد القادياني، فذاك إنما كان بعده بزمن، فقد ولد عام 1265هـ الموافق 1849م.
والصوم وغير ذلك، والكون على السذاجة التامة في أحوال المعيشة، وتحريم اتخاذ الملابس الحريرية، والتأنق في الأطعمة وشرب الخمر والأفيون والتبغ -أي التتن- وغير ذلك مما بعضه من أسباب السرف، وبعضه الآخر من المضار المفسدة لسلامة العقل. انتهى ما يقتضي إيراده هنا مما كتبه ذلك الأجنبي عن الإسلام من الشهادة الصحيحة، والاعتراف بفضل نهضة الإصلاح الوهابية التي لم تحصر في قطر من أقطار الإسلام ولا شعب من شعوبه، بل عم أصل نفعها وهدايتها سائر الأقطار والشعوب الإسلامية.
فما أشبه ذلك بأمر هرقل -قيصر الروم- وأبي سفيان القرشي، حين اطَّلع قيصر على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي دعاه به إلى الإسلام، وجرت قصة محادثة قيصر مع أبي سفيان، وقول قيصر لأبي سفيان: إن صدقت فسيملك محمد ما تحت قدمي، فيخرج أبو سفيان وهو يقول: لقد أَمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة، فقد أصبح يخافه ملك بني الأصفر، فما أشبه الليلة بالبارحة، فقد اعترف بفضل الوهابية وإصلاح نهضتها أعداء الإسلام من العلماء كما اعترف قيصر بصحة الرسالة، وأنكر فضل الوهابية أدعياء العلم من المسلمين الجغرافيين كما جحد فضل الرسالة الأقربون من العرب، والفضل ما شهدت به الأعداء. انتهى باختصار من كتاب (البراهين الإسلامية على إبطال المزاعم الراويّة).
ومقالات علماء المسلمين وعقلاء أهل الكتاب وغيرهم في وصف هذه الدعوة وأهلها بما يشبه حال الصدر الأول، واعترافهم بهدايتهم وأنهم على منهج السلف الصالح كثيرة جدًا، وفيما ذكرناه هنا كفاية، ولله الحمد والمنة.
ولما كانت هذه الدعوة العظيمة مؤسسة على العلم بالكتاب والسنة،
والسير على منهاج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، والغرض منها تجديد ما اندرس من أمور الإسلام، وإصلاح ما أفسده الناس من السنة النبوية، فقد أيدها الله تعالى بالجهابذة المحققين يجادلون من عارضها بالحجة والبرهان، وأيدها بالأبطال الشجعان يجالدون من عاندها بالسيف والسنان، فأصبح الإسلام بعد طول اغترابه ظاهرًا عزيزًا، وجعل الله للطائفة المنصورة بفضله ونعمته دولة عظيمة ذات شوكة قوية وبأس شديد بعد ما كانوا قليلًا غرباء مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، فآواهم الله وأيدهم بنصره، ورزقهم من الطيبات لعلهم يشكرون.
فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضي، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وقد قال الله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ} [الحج: 40 - 41]، وقد جعل الله لأهل هذه الدعوة المباركة نصيبا وافرًا مما وعد به في هذه الآيات، والله المسؤول أن لا يغير ذلك عليهم إنه جواد كريم.
وما أحسن ما قاله قتادة عن حال أول هذه الأمة: إن المسلمين لما قالوا: لا إله إلا الله أنكر ذلك المشركون، وكبرت عليهم، وضاق بهم إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيها ويعليها وينصرها ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها.
قلت: وهكذا كان الأمر في ابتداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه سواء بسواء، فإنه لما دعا الناس إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، والسير على منهاج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وترك ما أحدث الخلوف من البدع والتقاليد المخالفة للكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، أنكر ذلك المشركون وأهل البدع وكبر عليهم وضاقوا به ذرعًا، فأبى الله إلا أن يمضي هذه الدعوة ويظهرها ويفلجها وينصرها على من ناوأها كما قال تعالى في كتابه العزيز:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه في خطبة كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين،
وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذه الخطبة تلقاها الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد ذكرها محمد بن وضاح في أول كتابه في الحوادث والبدع فقال: حدثنا أسد، حدثنا رجل يقال له يوسف ثقة، عن أبي عبد الله الواسطي، رفعه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بكتاب الله أهل العمى، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وتائه ضال قد هدوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، وما نسيهم ربك وما كان ربك نسيًا، جعل قصصهم هدى، وأخبر عن حسن مقالاتهم، فلا تقصر عنهم فإنهم في منزلة رفيعة، وإن أصابتهم الوضيعة.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» .
وقد رُوي هذا الحديث من طرق متعددة، عن جماعة من الصحابة؛ منهم علي، ومعاذ، وابن عمر، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن مسعود،
وأبو أمامة الباهلي، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
ورواه الدارقطني وغيره من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلًا.
قال الخلال في كتاب (العلل): قرأت على زهير بن صالح بن أحمد، حدثنا مهنا، قال: سألت أحمد عن حديث معاذ بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» فقلت لأحمد: كأنه موضوع، قال: لا، هو صحيح، فقلت: ممن سمعته أنت؟ فقال: من غير واحد، قلت: من هم؟ قال: حدثني به مسكين، إلا أنه يقول عن معاذ، عن القاسم بن عبد الرحمن؟ قال أحمد: ومعاذ بن رفاعة لا بأس به.
قال أبو عبيد الهروي: (الخلف) بالتحريك والسكون؛ كل من يجيء بعد من مضى، إلا أنه بالتحريك في الخير، والتسكين في الشر يقال: خلَف صدق، وخلْف سوء؛ ومعناهما جميعا القرن من الناس، والمراد في هذا الحديث المفتوح، ومن السكون حديث «سيكون بعد ستين سنة خلْف أضاعوا الصلاة» . انتهى.
وقد روى البخاري في الكنى، وابن ماجة في سننه، وابن حبان في صحيحه، عن أبي عنبة الخولاني -وكان قد صلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته» .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: غرس الله تعالى هم أهل العلم والعمل، فلو خلت الأرض من عالم خلت من غرس الله، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة» ، فلا يزال غرس الله الذين غرسهم في دينه يغرسون العلم في قلوب من أهَّلهم الله لذلك وارتضاهم، فيكونوا ورثة لهم كما كانوا هم ورثة لمن قبلهم، فلا تنقطع حجج الله والقائم بها من الأرض، وكان من دعاء بعض من تقدم: اللهم اجعلني من غرسك، الذين تستعملهم بطاعتك. ولهذا ما أقام الله لهذا الدين من يحفظه ثم قبضه إليه إلا وقد زرع ما علمه من العلم والحكمة إما في قلوب أمثاله، وإما في كتب ينتفع بها الناس بعده، وبهذا وبغيره فَضلَ العلماءُ العُبّادَ، فإذا العالم إذا زرع علمه عند غيره ثم مات جرى عليه أجره وبقي له ذكره، وهو عُمْر ثان وحياة أخرى، وذلك أحق ما تنافس فيه المتنافسون، ورغب فيه الراغبون. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ومن أعظم نعم الله تعالى التي أمتن بها علينا في هذه الأزمان الحالكة بظلام الشرك والكفر والنفاق والبدع والشكوك والشبهات أنه سبحانه وتعالى أقام لنا الأئمة الأعلام ومصابيح الظلام، يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويجاهدون فرق الزيغ والضلال، ولا يخافون في الله لومة لائم، وأعني بهم شيخ الإسلام أبا العباس أحمد بن تيمية وأصحابه وأصحاب أصحابه، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأصحابه وأصحاب أصحابه، ومن سار على منهاج الجميع
في الدعوة إلى الله تعالى والذب عن دينه، والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، إلى يومنا هذا وقليل ما هم، والله المسؤول أن يتم نعمته علينا، وعلى جميع المسلمين، ويصلح أحوالنا وأحوالهم، ويوفقنا وإياهم للتمسك بكتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسير على منهاج سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وأن يصلح أئمتنا وولاة أمورنا ويوفقهم لما وفق له الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، إن ربي لسميع الدعاء قريب مجيب.
فصل
إذا عُلم أن الإسلام الحقيقي قد عاد غريبا كما بدأ، وأن سبب اغترابه طغيان الشرك الأكبر، والكفر الأكبر، والنفاق الأكبر، والزندقة والإلحاد، والبدع المضلة في أكثر الأقطار الإسلامية، وغلبة ذلك على الأكثرين.
فليعلم أيضًا أن المنكرات التي فشت في المسلمين، وظهرت بين ظهراني الأكثرين منهم ولم تُغير، قد زادت الإسلام وهنا على وهن، وغربة على غربته، وكذلك ما انتقض من عرى الإسلام أو كاد ينتقض في هذه الأزمان، كل ذلك قد أثَّر في الإسلام ضعفًا، وزاده وهنًا وغربة، وأنا أذكر من ذلك ما هو أكثر وقوعًا وأشد خطرًا؛ نصيحة لإخواني المسلمين، وإنذارًا لهم من شؤم المعاصي وسوء عاقبتها، لعلهم يحذرون غضب الله، ويبتعدون عما يدعو إلى نقمته وأليم عقابه في الدنيا والآخرة.
فمن ذلك الشرك الأصغر، والكفر الأصغر، والنفاق الأصغر، وكل من هذه الثلاثة قد فشا وظهر وانتشر، وقلّ من سلم من التلطخ بأدرانها، أو درن بعضها.
فأما النفاق الأصغر فقد مضى الكلام فيه مع النفاق الأكبر بما أغنى عن إعادته ههنا فليراجع.
وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخَلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وإنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت
لم يكن كذا وكذا. قرر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، ثم قال: وقد يكون هذا شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. انتهى.
وروى الحافظ أبو يعلى، وابن المنذر، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الشرك أخفى من دبيب النمل» ، قال أبو بكر: يا رسول الله، وهل الشرك إلا ما عُبد من دون الله، أو ما دُعي مع الله؟ قال: «الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل
…
» الحديث، وفيه:«أن تقول: أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان: لولا فلان قتلني فلان» .
وروي الحاكم في مستدركه، وأبو نعيم في الحلية، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:«الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور، أو تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}» صححه الحاكم، وفي إسناده عبد الأعلى بن أعين، قال الدارقطني: ليس بثقة.
وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} قال: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلان، هذا كله به شرك.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلًا يقول: والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي رواية للحاكم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل يمين يحلف بها دون الله شرك» قال الحاكم: على شرط مسلم، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وروى الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا وأبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مه! إنه من حلف بشيء دون الله فقد أشرك» .
وفي المسند أيضا عن سعد بن عبيدة قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما في حلقة، فسمع رجلا في حلقة أخرى وهو يقول: لا وأبي، فرماه ابن عمر رضي الله عنهما بالحصى وقال: إنها كانت يمين عمر رضي الله عنه فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عنها وقال: «إنها شرك» .
وعن ابن عمر أيضا رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» رواه مالك، وأحمد، والشيخان، وأهل السنن.
وفي رواية: قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكرًا ولا آثرًا.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله» ، وكانت قريش تحلف بآبائها فقال:«لا تحلفوا بآبائكم» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي.
وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بالطواغي، ولا بآبائكم» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجة، ولفظ النسائي:«لا تحلفوا بآبائكم، ولا بالطواغيت» .
قال أبو موسى المديني وغيره: «الطواغي» ؛ جمع طاغية وهي ما كانوا يعبدونه من الأصنام وغيرها.
قال ابن الأثير: ومنه الحديث: «هذه طاغية دوس وخثعم» ؛ أي صنمهم ومعبودهم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» رواه أبو داود، والنسائي.
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق» رواه الشيخان، وأهل السنن، واللفظ للبخاري.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: اليمين إنما تكون بالمعبود المعظم، فإذا
حلف باللات ونحوها فقد ضاهى الكفار، فأمر أن يتدارك بكلمة التوحيد.
وقال ابن العربي: من حلف بها جادًا فهو كافر، ومن قالها جاهلًا أو ذاهلًا يقول: لا إله إلا الله، يكفر الله عنه، ويرد قلبه عن السهو إلى الذكر، ولسانه إلى الحق، وينفي عنه ما جرى به من اللغو. انتهى.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: حلفت باللات والعزى فقال أصحابي: قد قلت هجرًا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن العهد كان قريبًا، وإني حلفت باللات والعزى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قل لا إله إلا الله وحده ثلاثًا، ثم انفث عن يسارك ثلاثًا، وتعوذ ولا تعد» رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجة.
وفي رواية لأحمد والنسائي: «وتعوذ بالله من الشيطان ولا تعد» .
وللنسائي أيضا: «وتعوذ من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له» .
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال» رواه الإمام أحمد، والشيخان، وأهل السنن إلا أبا داود.
وعن أنس رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يقول: أنا إذا اليهودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وجبت» رواه ابن ماجة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال: هو يهودي فهو يهودي، وإن قال: هو نصراني
فهو نصراني، وإن قال: هو بريء من الإسلام فهو بريء من الإسلام، ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم» قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ قال:«وإن صام وصلى» رواه الإمام الحاكم في مستدركه وصححه، وفي إسناده ضعف.
وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال: إني برئي من الإسلام، فإن كان كاذبا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا» رواه الإمام أحمد، وأهل السنن إلا الترمذي، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بالأمانة فليس منا» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعن زياد بن حدير قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي. رواه أبو نعيم في الحلية.
وروى أيضا عن زياد بن حدير أنه قال: لئن تحك أحشائي حتى تدمى؛ أحب إلي من أن أحلف بالأمانة.
وعن قتيلة بنت صيفي رضي الله عنها أن يهوديًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تنددون، وإنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا يقولوا: ورب الكعبة، ويقول أحدهم: ما شاء الله ثم شئت. رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم في
مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن رجلًا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلًا من أهل الكتاب فقال: نِعم القوم أنتم، لولا أنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أما والله إن كنت لأعرفها لكم، قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد» رواه ابن ماجة.
وله أيضا عن الطفيل بن سخبرة -أخي عائشة رضي الله عنها لأمها- عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ولم يسبق لفظه، وساقه ابن مردويه مطولًا في تفسير قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].
وروى الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي، وابن ماجة، كلهم من حديث الأجلح بن عبد الله الكندي، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال:«جعلت لله ندًا، ما شاء الله وحده» هذا لفظ البخاري، ولفظ أحمد نحوه.
ولفظ ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت» .
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان» رواه أبو داود، والنسائي.
وقد كثرت هذه الأمور الشركية في زماننا، وخفّت على ألسن الأكثرين،
ولا سيما الحلف بغير الله تعالى، كالحلف بالرسول والكعبة والأمانة.
وكثير من الجهال يحلف بالأمانة، ويستحلف غيره بها، ولا يرضى إذا حلف له بالله، وهذا من تلاعب الشيطان ومكره بهم، حيث زين لهم الشرك، وكرّه إليهم التوحيد.
وقد روى ابن ماجة في سننه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يحلف بأبيه فقال: «لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض بالله فليس من الله» .
وكثيرًا ما سمعناهم يحلفون بالأمانة في أشرف البقاع وأحبها إلى الله تعالى، وما رأينا أحدًا أنكر عليهم هذا المنكر القبيح، فالله المستعان.
وكذلك حَلِف كثير من الجهال بحياته وحياة أبيه أو من يعظمه قد كثر أيضًا، وكذلك الحلف بغير ملة الإسلام قد كثر جدًا؛ كقول كثير من الجهال: إنه يهودي أو نصراني أو مجوسي إن كان قد فعل كذا، أو إن لم يفعل كذا، فهو يهودي أو نصراني أو مجوسي ونحو ذلك.
وكذلك قول: ما لي إلا الله وأنت، وأنا بالله وبك، وأنا متوكل على الله وعليك، ونحو هذه الألفاظ التي تقتضي التشريك بين الخالق والمخلوق، كل ذلك قد كثر جدًا.
وقد سمعت بعض الجهال يقول ذلك لبعض القضاة، فلا ينكر عليهم، عياذا بالله من الجهل.
ومن أهم الأمور إنكار هذه الشركيات وما في معناها، وهو واجب على كل أحد بحسب قدرته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره
بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي رواية للنسائي: «من رأى منكرًا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بلقبه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان» .
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» .
وأما
الرياء، والتصنع للخلق،
فأكثر ما يكون وقوعًا في صلاة النافلة، وصدقة التطوع، والذكر والاستغفار، وقراءة القرآن والخطب والوعظ والتذكير، ونحو ذلك، وكثيرًا ما يظهر أثره على صفحات الوجوه، وفلتات الألسن ومن أفعال المرائين وشمائلهم.
وقد روى الإمام أحمد، وابن ماجة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟» قال: قلنا: بلى، فقال:«الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل» .
وقد رواه الحاكم في مستدركه مختصرًا ولفظه: «الشرك الخفي أن يعمل الرجل لمكان الرجل» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى ابن خزيمة في صحيحه، عن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس، إياكم وشرك السرائر» قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال:«يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر» .
وروى أبو نعيم في الحلية، عن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ترك العمل من أجل الناس هو الرياء، والعمل من أجل الناس هو الشرك.
وروى أبو نعيم أيضًا، عن أبي روح المروزي قال: قال عبد الله بن المبارك: لو أن رجلين اصطحبا في الطريق، فأراد أحدهما أن يصلي ركعتين، فتركهما لأجل صاحبه، كان ذلك رياء، وإن صلاهما من أجل صاحبه فهو شرك.
وروى الإمام أحمد، وابن ماجة، والطبراني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أن رسول الله قال:«لا يَقُصُّ على الناس إلا أمير، أو مأمور، أو مراء» .
وفي سنن أبي داود، عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يَقُصُّ إلا أمير أو مأمور أو مختال» .
وقد رواه البخاري في (التاريخ الكبير) عن ذي الكلاع قال: كان كعب يقص في إمارة معاوية، فقال عوف بن مالك لذي الكلاع: يا أبا شراحيل، أرأيت ابن عمك أبأمر الأمير يقص؟ فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«القُصاص ثلاثة: أمير أو مأمور أو مختال» فمكث كعب سنة لا يقص حتى أرسل إليه معاوية يأمره أن يقص.
وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام، حدثنا عبد الجبار الخولاني قال: دخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا كعب يقص، فقال: من هذا؟ قالوا: كعب يقص، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال» قال: فبلغ ذلك كعبًا فما رُئي يقص بعد. إسناده حسن.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: بلغني عن ابن سريج أنه كان يقول هذا في الخطبة، وكان الأمراء يلون الخطب، فيعظون الناس، ويذكرونهم فيها، فأما المأمور: فهو من يقيمه الإمام خطيبًا، فيعظ الناس ويقص عليهم، وأما المختال: فهو الذي نصب نفسه لذلك من غير أن يؤمر به، ويقص على الناس طلبا للرياسة، فهو يرائي بذلك ويختال، وقد قيل: إن المتكلمين على الناس ثلاثة أصناف؛ مذكر، وواعظ، وقاص؛ فالمذكر: الذي يذكر الناس آلاء الله ونعماءه، ويبعثهم بها على الشكر له، والواعظ: يخوفهم بالله وينذرهم عقوبته، فيردعهم به عن المعاصي، والقاص: هو الذي يروي لهم أخبار الماضين ويسرد عليهم القصص، فلا يؤمن أن يزيد فيها أو ينقص، والمذكِّر والواعظ مأمون عليهما هذا المعنى. انتهى.
قلت: لكن لا يؤمن على المذكر والواعظ الخيلاء والرياء، فإن ذلك هو الغالب على كثير ممن ينصب نفسه ابتداء، من غير أن يؤمر به.
وظاهر الحديث يشمل الأصناف الثلاثة، وقد روي عن علي، وعابد بن عمر، وابن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم ما يدل على ذلك.
فروى حنبل بن إسحاق، من طريق أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: مرّ علي رضي الله عنه على قاص، فقام إليه فقال: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هل تعرف المحكم من المتشابه؟ قال: لا، قال: هل تعرف الزجر من الأمر؟ قال: لا، قال: فأخذ بيده فرفعها وقال: إن هذا يقول: اعرفوني، اعرفوني.
وروى حنبل أيضًا، عن عابد بن عمر أنه قال لقاص: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: فعلام تقص على الناس وتغرهم عن دينهم، وأنت لا تعرف حلال الله من حرامه!
فهذا علي وعابد، أطلقا اسم القاص على من ينصب نفسه لإرشاد الناس وتعليمهم، فهو أعم من رواية الأخبار وسرد القصص.
وروى البخاري في (التاريخ الكبير)، عن جبير بن نفير قال: أرسلتني أم الدرداء رضي الله عنها -يعني إلى نوف البكالي- قالت: يا جبير، اذهب إلى أنيف، وفلان لم يسمه -قاصين كانا بحمص- فقل لهما: يجعلان من موعظتهما للناس في أنفسهما.
فهذه أم الدرداء -رضي لله عنها- أطلقت اسم القاص على من يعظ الناس ويذكرهم.
وفي صحيح البخاري، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن انصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك، يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتتناب.
فهذا ابن عباس رضي الله عنهما أطلق اسم القاص على المحدث.
وفي المسند، والسنن إلا الترمذي، عن أبي الحصين الهيثم بن شفي قال: خرجت أنا وصاحب لي يكنى أبا عامر -رجل من المعافر- لنصلي بإيلياء، وكان قاصهم رجلا من الأزد يقال له أبو ريحانه -من الصحابة- قال أبو الحصين: فسبقني صاحبي إلى المسجد ثم ردفته فجلست إلى جنبه، فسألني هل أدركت قصص أبي ريحانة؟ قلت: لا، قال: سمعته يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشر: «عن الوشر والوشم والنتف، وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، وعن مكامعة المرأة المرأة بغير شعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم، أو يجعل على منكبه حريرًا مثل الأعاجم، وعن النهبى، وركوب النمور، ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان» .
قال الذهبي له طرق حسنة.
فهذا أبو الحصين وصاحبه أطلقا اسم القاص على من يروي الأحاديث ويعلم الناس ويرشدهم.
والوشر: تحديد الأسنان وترقيق أطرافها، تفعله المرأة الكبيرة تتشبه بالشواب.
وأما الوشم فهو: أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو يخضر.
وأما النتف: فالمنهي عنه من ذلك نتف الشيب، ونتف الشعر عند المصيبة، ونتف اللحية، ونتف الحاجبين للزينة.
وأما المكامعة فهي المضاجعة: وهو أن يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحد لا حاجز بينهما، أو تضاجع المرأةُ المرأة في ثوب واحد لا حاجز بينهما، والكميع الضجيع، وزوج المرأة كميعها.
وأما النهي عن ركوب النمور فمعناه: النهي عن الركوب على جلودها، والله أعلم.
وهذه الأحاديث الأربعة تفيد أن اسم القاص يطلق على المذكِّر والواعظ وراوي الأخبار، والله أعلم.
والأصل في هذا قول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
قال البغوي: أي يبين لهم أكثر الذي هم فيه يختلفون من أمر الدين، قال الكلبي: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابًا يطعن بعضهم على بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه. انتهى.
وهذه الآية دالة على أن القصص يطلق ويراد به البيان، فهو أعم من رواية
الأخبار وسرد قصص الماضين، فما ذكره الخطابي أولًا هو الصحيح، والله أعلم.
وقد روى البخاري في (التاريخ الكبير)، عن همام بن عبد الله قال: لما قص إبراهيم التيمي أخرجه أبوه من داره، وقال: رأيت حذيفة وابن مسعود يكرهان هذا الأمر.
وذكر البخاري أيضًا، عن سعيد بن عبد الرحمن الغفاري قال: كان سليم بن عِتْر التجيبي يقص قائمًا، فقال له صلة بن الحارث الغفاري؛ وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما تركنا عهد نبينا، ولا قطعنا أرحامنا، حتى قمت أنت وأصحابك بين أظهرنا.
وعن شداد بن أوس رضي الله عنهما أنه قال: يا بقايا العرب، يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية.
قيل لأبي داود السجستاني: وما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرياسة.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب (الإخلاص)، والطبراني، والحاكم في مستدركه، عن شداد بن أوس رضي الله عنهما قال: كنا نعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرياء الشرك الأصغر. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله، أما إني لست أقول يعبدون شمسًا ولا قمرًا ولا وثنًا، ولكن أعمالًا لغير الله، وشهوة خفية» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة واللفظ له،
والحاكم وصححه، وإسناده ضعيف.
وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك» .
قال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد الله إلى ما ابتُغي به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئًا فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني» رواه الإمام أحمد، والحاكم في مستدركه مختصرًا.
وقال الأعمش: حدثنا حمزة أبو عمارة مولي بني هاشم، عن شهر بن حوشب قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه فقال: أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلًا يصلي يبتغي وجه الله، ويُحب أن يُحمد، ويصوم يبتغي وجه الله، ويُحب أن يُحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله، ويُحب أن يُحمد، ويحج يبتغي وجه الله، ويُحب أن يُحمد؟ فقال عبادة: ليس له شيء، إن الله تعالى يقول:«أنا خير شريك، فمن كان له معي شرك فهو له كله، لا حاجة لي فيه» هكذا ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره.
وروى الإمام أحمد، والنسائي، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ قال: «لا شيء له» فأعادها ثلاث مرات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا شيء له» ثم قال: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه» . إسناده جيد.
وفي مستدرك الحاكم، عن طاوس قال: قال رجل: يا نبي الله، إني أقف المواقف ابتغي وجه الله، وأحب أن يُرى موطني؟ قال: فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} الآية.
وروى البزار، والطبراني، والدارقطني، والبيهقي، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُجاء يوم القيامة بصحف مختمة، فتنصب بين يدي الله عز وجل، فيقول الله عز وجل لملائكته: ألقوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك ما رأينا إلا خيرًا، فيقول -وهو أعلم-: إن هذا كان لغيري، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما ابتغي به وجهي» .
وروى البزار، والدارقطني، والبيهقي، عن الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول: أنا خير شريك، فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكي، يا أيها الناس، أخلصوا أعمالكم لله عز وجل، فإن الله لا يقبل إلا ما أخلص له، ولا تقولوا: هذا لله وللرحم، فإنها للرحم، وليس لله منها شيء، ولا تقولوا: هذا لله ولوجوهكم، فإنها لوجوهكم وليس لله منها شيء» .
وفي صحيح مسلم، من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» .
ورواه ابن ماجة في سننه، من حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قال الله عز وجل: أنا أغني الشركاء عن الشرك فمن عمل لي عملًا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك» .
وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده، من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو رواية ابن ماجة.
وروى الإمام أحمد أيضًا، والترمذي، وابن ماجة، والبخاري في الكُنى، وابن حبان في صحيحه، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري -وكان من الصحابة رضي الله عنهم أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدًا فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» .
وروى الإمام أحمد أيضًا، عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء؛ يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟!» .
وروى ابن ماجة في سننه، والطبراني في الصغير، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن يسير الرياء شرك» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي الصحيحين، عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي نحوه. رواه الإمام أحمد، ومسلم.
ولأحمد أيضا، وابن ماجة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك.
وكذا عن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه الإمام أحمد.
وقد ذكر العلماء في معنى هذه الأحاديث أقوالا كثيرة؛ ومن أحسنها ما قاله الخطابي رحمه الله تعالى: إن معناها: من عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه.
وقيل: من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس، ولم يرد به وجه الله، فإن الله يجعله حديثا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة.
وقيل: معنى «سمع الله به» : شهره، أو ملأ أسماع الناس بسوء الثناء عليه في الدنيا، أو في يوم القيامة؛ بما ينطوي عليه من خبث السريرة. انتهى.
وحاصل هذه الأقوال الثلاثة يرجع إلى شيء واحد؛ وهو شهر المرائي وفضيحته عند الناس؛ بإظهار سريرته لهم، وما كان يقصده بعمله من طلب المحمدة والتعظيم والإكرام منهم، كما جاء في الحديث:«ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله ردائها، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرا فشر» رواه الطبراني من حديث جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه.
وقد روى الإمام أحمد، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من سمَّع الناس بعمله سمَّع الله به مسامع خلقه وصغَّره وحقَّره» .
قال أبو عبيد الهروي: يقال: سمَّعت بالرجل تسمعًا وتسمِعة؛ إذا شهرته ونددت به، أراد أن الله يسمع به أسماع خلقه يوم القيامة. انتهى.
وروى الإمام أحمد أيضا، والدارمي، عن أبي هند الداري رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«من قام مقام رياء وسمعة، راءى الله به يوم القيامة وسمَّع به» .
وروى الطبراني من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وله من حديث معاذ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمَّع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة» .
وروى البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه الصغير، عن ابن عقربة الجهني رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من قام بخطبة لا يلتمس إلا رياء وسمعة، وقفه الله يوم القيامة موقف رياء وسمعة» .
وروى ابن وهب، عن عبد الله بن قيس الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من قام رياء وسمعة لم يزل في مقت الله حتى يجلس» .
وروى أبو نعيم في الحلية، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤمر يوم القيامة بناس من الناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها ونظروا إليها، واستنشقوا رائحتها وإلى ما أعد الله لأهلها، نودوا أن اصرفوهم لا نصيب لهم فيها، قال: فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها، قال: فيقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما
أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا، قال: ذاك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين، تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هبتم الناس ولم تهابوني، أجللتم الناس ولم تجلوني، وتركتم للناس ولم تتركوا لي، فاليوم أذيقكم أليم العذاب، مع ما حرمتكم من الثواب».
وروى أبو نعيم أيضًا، عن الأوزاعي قال: بلغني أنه ما وعظ رجل قومًا لا يريد به وجه الله إلا زلَّت عنه القلوب كما زال الماء عن الصفاء.
وروى الإمام أحمد في الزهد عن مالك بن دينار قال: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلَّت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا.
وروى أبو نعيم، عن سفيان بن عيينة أنه قال: من تزين للناس بشيء يعلم الله تعالى منه غير ذلك شانه الله.
إذا علم هذا، فليعلم أيضا أن الرياء والسمعة من أكثر ما يكون وقوعًا، فينبغي للمسلم الناصح لنفسه أن يحذر من ذلك أشد الحذر ويحاسب نفسه على الدقيق والجليل من أعماله؛ فما كان منها خالصًا فليمضه، وما كان فيه شائبة لغيره فليتركه، وليجتهد في إتقان العمل وإخلاصه لله وحده لا شريك له، قال الله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، قال سعيد بن جبير في هذه الآية: لا يرائي بعبادة ربه أحدًا. رواه أبو نعيم في الحلية، وقال الله تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سئل: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك،
وعبادة الأوثان، وأخلصوا العبادة. رواه ابن أبي حاتم.
ورُوي عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى أنه قال في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا؛ والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، ومتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمتى فقد الإخلاص كان منافقًا وهم الذين يراءون الناس، ومتى فقد المتابعة كان ضالًا جاهلًا، ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم. الآية. انتهى.
وينبغي للمسلم -أيضا- أن يواظب على
الدعاء المأثور في اتقاء الشرك
وإذهابه، وهو ما رواه الإمام أحمد، والبخاري في الكُنى، والطبراني وغيرهم، عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أيها الناس اتقوا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل» قالوا: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه» .
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه: «الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره؛
تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، تقولها ثلاث مرات».
وروى البخاري في (الأدب المفرد)، عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا بكر، لَلشرك فيكم أخفى من دبيب النمل» فقال أبو بكر رضي الله عنه: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلها آخر؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لَلشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟» قال: «قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم» .
وروى أبو نعيم في الحلية من حديث سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا» فقال أبو بكر: يا رسول الله، وكيف النجاة والمخرج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا أعلمك شيئا إذا قلته بَرِئت من قليله وكثيره، وصغيره وكبيره؟» قال: «قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما تعلم ولا أعلم» .
ورُوي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئًا.
فمن لازم الدعاء بهذا والذي قبله، رُجي له الخلاص من الرياء والسمعة إن شاء الله تعالى.
ومن الشرك الأصغر أيضًا: التماس الدنيا بعمل الآخرة؛ كمن يجاهد لأجل المغنم، أو ليرى مكانه ويُمدح بالشجاعة والجرأة والإقدام، أو يهاجر لدنيا يصيبها؛ مالا كان ذلك، أو رياسة، أو وظيفة، أو غير ذلك من الأغراض الدنيوية، أو من أجل امرأة يتزوجها. أو يحج، أو يقرأ القرآن، أو يتعلم العلم، أو يعلِّمه، أو يؤذِّن، أو يصلي بالناس، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأجل المال الذي يأخذه على ذلك؛ كما هو الواقع كثيرًا في هذه الأزمان، ومثل ذلك من يتعلم العلم لتحصيل الوظائف والرتب الدنيوية وكذلك الدينية إذا كان القصد منها تحصيل الشرف والجاه أو المال أو غير ذلك من الأغراض الدنيوية.
قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: إن هذا القرآن قد أخلق في صدور كثير من الناس، والتمسوا ما سواه من الأحاديث، وإنَّ فيمن يبتغي هذا العلم من يتخذه بضاعة يلتمس بها الدنيا، ومنهم من يريد أن يشار إليه، ومنهم من يريد أن يماري به، وخيرهم من يتعلمه ويطيع الله عز وجل به. رواه أبو نعيم في الحلية.
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: إن أقبح الرغبة أن تعمل للدنيا بعمل الآخرة. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في (زوائد الزهد).
وقال سفيان الثوري: إن أقبح الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة. رواه أبو نعيم في الحلية.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: لأن يطلب الرجل الدنيا بأقبح
ما تطلب به؛ أحسن من أن يطلبها بأحسن ما تطلب به الآخرة. رواه أبو نعيم في الحلية.
وروى أيضًا في ترجمة زهير بن نعيم البابي -وكان من عُبَّاد أهل البصرة في زمن يحيي بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي- قال: أخبرنا عبد الله، حدثنا أحمد بن عاصم قال: كانت يدي في يد زهير أمشي معه، فانتهينا إلى رجل مكفوف يقرأ، فلما سمع قراءته وقف ونظر، وقال: لا تغرنّك قراءته، والله إنه شر من الغناء وضرب العود -وكان مهيبًا- ولم أسأله يومئذ، فلما كان بعد أيام ارتفع إلى بني قشير، فقمت وسلمت عليه، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إنك قلت لي يومئذ كذا وكذا، فكأنه نصب عينه، فقال لي: يا أخي نعم، لأن يطلب الرجل هذه الدنيا بالزمر والغناء والعود؛ خير من أن يطلبها بالدين.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في (زوائد الزهد)، عن مالك بن دينار، عن الحسن قال: قلت له: ما عقوبة العالم؟ قال: موت القلب، قلت: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة.
قلت: لعلهما أرادا به العالم الذي لا يعمل بعلمه.
إذا علم هذا فقد قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].
وروى الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في
مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، والبغوي في تفسيره، عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«بشِّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي رواية للحاكم: «بشِّر أمتي بالسناء والرفعة، والتمكين في البلاد؛ ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فمن طلب الدنيا بعمل الآخرة لم يكن له في الآخرة من نصيب» .
وقال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة هود: 15 - 16].
قال مجاهد وغيره: نزلت في أهل الرياء.
وقال العوفي، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا، يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا؛ صومًا أو صلاة أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا التماس الدنيا، يقول الله تعالى: أُوفِّيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين. ذكر ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، قال: وهكذا رُوي عن مجاهد، والضحاك، وغير واحد. انتهى.
وعن سليمان بن يسار قال: تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له ناتل أهل الشام: أيها الشيخ حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه؛ رجل استشهد، فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم أُلقي في النار» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي.
ورواه الترمذي، والحاكم من حديث شُفي بن ماتع الأصبحي، أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فلما سكتَ وخلا قلتُ له: أسألك بحقٍّ وبحقٍّ لما حدثتني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته -ثم ذكر قصة لأبي هريرة رضي الله عنه في
تشوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتحزنه على فراقه- ثم قال: قال حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا كان يوم القيامة يَنزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك، ويؤتي بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك، ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قُتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقَاتلت حتى قُتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يُقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك» ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: «يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه هكذا، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
زاد الترمذي في روايته: قال الوليد -أبو عثمان المدائني-: فأخبرني عقبة أن شُفيا هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا، قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافًا لمعاوية، قال: فدخل عليه رجل
فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فُعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس؟! ثم بكى معاوية بكاء شديدًا حتى ظننا أنه هالك، وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل بِشَرٍّ، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16] قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: سمعت شيخ الإسلام -يعني أبا العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى- يقول: كما أن خير الناس الأنبياء، فشر الناس من تشبه بهم من الكاذبين، وادعى أنه منهم وليس منهم، وخير الناس بعدهم العلماء، والشهداء، والمتصدقون المخلصون، فشر الناس من تشبه بهم، يوهم أنه منهم وليس منهم.
وقال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم في الغازي والعالم والجواد، وعقابهم على فعلهم ذلك لغير الله، وإدخالهم النار، دليل على تغليظ تحريم الرياء، وشدة عقوبته، وعلى الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال كما قال الله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وفيه أن العمومات الواردة في فضل الجهاد إنما هي لمن أراد الله تعالى بذلك مخلصًا، وكذلك الثناء على العلماء، وعلى المنفقين في وجوه الخيرات، كله محمول على من فعل ذلك لله تعالى مخلصًا. انتهى.
وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن، وغيرها عن أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض» .
وفي رواية: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش» الحديث.
وقد رواه الترمذي مختصرًا ولفظه: «لعن عبد الدينار، لعن عبد الدرهم» وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وعنه رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، الرجل يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي عرض الدنيا؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«لا أجر له» فأَعْظَمَ الناسُ ذلك، وقالوا للرجل: عُدْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله لم يفهم، فعاد فقال: يا رسول الله، الرجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرض الدنيا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا أجر له» ثم عاد الثالثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا أجر له» رواه الإمام أحمد، والبخاري في تاريخه.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علمًا مما يُبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة
يوم القيامة -يعني ريحها-» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه ابن حبان والحاكم، قال الحاكم: صحيح سنده، ثقات رواته، على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلَّم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله جهنم» رواه ابن ماجة.
وله أيضا عن ابن عمر، وحذيفة رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك. رواه الترمذي، والحاكم في مستدركه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وصححه الحاكم، وأقرَّه الذهبي.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طلب العلم لغير الله، أو أراد به غير الله، فليتبوأ مقعده من النار» رواه الترمذي، وابن ماجة.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيَّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار» رواه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، وأقره الذهبي.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «من طلب العلم لأربع دخل النار:
ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أو ليأخذ به من الأمراء» رواه الدارمي.
وعنه رضي الله عنه قال: لو أن أهل العلم صانوا العلم، ووضعوه عند أهله لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم، فهانوا عليهم، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول:«من جعل الهموم همًا واحدًا -هم آخرته- كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك» رواه ابن ماجة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعوذوا بالله من جب الحزن» قالوا: وما جب الحزن؟ قال: «وادٍ في جهنم، تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة» قيل: يا رسول الله، ومن يدخله؟ قال:«أُعِدَّ للقُراء المُرائين بأعمالهم، وإنَّ من أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء» .
قال المحاربي: «الجَوَرة» رواه البخاري في (التاريخ الكبير)، والترمذي مختصرًا، وابن ماجة وهذا لفظه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أناسا من أمتي سيتفقهون في الدين، ويقرؤون القرآن، ويقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يُجتنى من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يُجتنى من قربهم إلا» قال محمد بن الصباح -أحد رواته-: كأنه يعني الخطايا. رواه ابن ماجة، وقال المنذري: ورواته ثقات.
وروى أبو نعيم في الحلية، عن مالك بن دينار أنه قال: إن من القراء قراء
ذا الوجهين، إذا لقوا الملوك دخلوا معهم فيما هم فيه، وإذا لقوا أهل الآخرة دخلوا معهم فيما هم فيه، فكونوا من قراء الرحمن.
وقد تقدم في أول الكتاب حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: أبي تغترون؟! أم عليَّ تجترئون؟! فبي حلفتُ لأبعثنَّ على أولئك منهم فتنة تدع الحليمَ منهم حيرانًا» رواه الترمذي.
وتقدم أيضا حديثا ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: لقد خلقت خلقًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصب، فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانًا، فبي يغترون؟! أم علي يجترئون؟!» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عمر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وتقدم أيضا قول معاذ بن جبل رضي الله عنه: «لا تذهب الدنيا حتى يأتي قرَّاء فسقة، أهواؤهم مختلفة، ليست لهم زِعةٌ، يلبسون ثياب الرهبان، وقلوبهم أنتن من الجيف، فيلبسهم الله فتنة ظلماء، يتهوكون فيها تهوك اليهود» ذكره أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في كتاب (الورع).
ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في (زوائد الزهد) مختصرًا.
وتقدم أيضا قول ابن مسعود رضي الله عنه: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتؤخذ سُنّة يجري الناس عليها، فإذا غير منها
شيء قيل تركت سنة!» قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «إذا كثر قرَّاؤكم، وقلَّ فقهاؤكم، وكثرت أموالكم، وقل أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين» رواه عبد الرزاق، والدارمي، والحاكم.
وتقدم أيضا حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعا في ذكر أشراط الساعة وفيه: «وتفقه لغير الدين، وطلبت الدنيا بعمل الآخرة» رواه أبو نعيم في الحلية.
وتقدم أيضا حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعًا: «اقرؤوا القرآن وابتغوا به الله عز وجل من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه» رواه الإمام أحمد، وأبو داود.
وتقدم أيضا حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اقرؤوه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم، يتعجل أجره ولا يتأجله» رواه أبو داود.
وتقدم أيضا حديث أنس رضي الله عنه في ذلك، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال:«وسيأتي على الناس زمان يثقفونه كما يثقف القدح، يتعجلون أجورهم ولا يتأجلونها» رواه الإمام أحمد.
وتقدم أيضا حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما في ذلك، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال:«سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس» رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وهذه الأحاديث من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكونه أخبر بما سيقع في آخر أمته؛ من كثرة الرياء والسمعة، والتماس الدنيا بعمل الآخرة، فوقع
الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، وظهر ذلك في زماننا ظهورًا جليًا، فالله المستعان.
وقد روى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب (السنة) من طرق صحيحة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«الرياء بضع وسبعون بابًا، والشرك نحو ذلك» .
ومن الشرك الأصغر أيضا: الطيرة؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الطيرة شرك، الطيرة شرك -ثلاثًا- وما منا إلاَّ، ولكن الله يذهبه بالتوكل» رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، والبخاري في الأدب المفرد، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب (السنة)، والحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح سنده، ثقات رواته، ولم يخرجاه، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل، قال: وفي الباب عن سعد، وأبي هريرة، وحابس التميمي، وعائشة، وابن عمر رضي الله عنهم، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- يقول: كان سليمان بن حرب يقول في الحديث: «وما منا
…
ولكن الله يذهبه بالتوكل» قال سليمان: هذا عندي قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انتهى.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: قوله: وما منا إلا
…
معناه: إلاَّ من يعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه، فحذف اختصارًا للكلام، واعتمادًا على فهم السامع. انتهى.
وقد روى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن معاوية بن
الحكم السلمي رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: منا رجال يتطيرون؟ قال: «ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم» .
وفي لفظ لمسلم قال: قلت: كنا نتطير؟ قال: «ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم» .
وروى الإمام أحمد، والطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» قالوا: يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال:«أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك» .
وروى الإمام أحمد أيضا من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الطيرة ما أمضاك أو ردّك» .
وفي سنن أبي داود، عن عروة بن عامر القرشي رضي الله عنه قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم [ما يكره]
(1)
فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك».
وروى ابن مردويه، وأبو نعيم، والبغوي، كلهم من طريق عبد الملك بن عمير، عن رجاء بن حيوة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يلج الدرجات من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفر طائرًا» هذا لفظ ابن مردويه.
(1)
ساقطة من الأصل، والتصحيح من السنن.
ولفظ البغوي: «من تكهن، أو استقسم، أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة» .
وروى البزار بإسناد جيد، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له» .
وروى أبو نعيم في الحلية عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل
…
» فذكر الحديث، وفيه أن الله تعالى قال:«ليس مني من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له» .
الطيرة -بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن- هي: التشاؤم بالشيء المكروه من قول، أو فعل، أو مرئي، أو مسموع.
قال أبو موسى المديني: وأصله فيما يقال التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرها، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم؛ فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر. انتهى.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» .
قال أبو عبيد الهروي: العدوى اسم من الإعداء، يقال: أعداه الداء يعديه إعداء، وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء، وذلك أن يكون ببعير جرب مثلا، فتتقى مخالطته بإبل أخرى حذارًا أن يتعدى ما به من الجرب إليها
فيصيبها ما أصابه، وقد أبطله الإسلام؛ لأنهم كانوا يظنون أن المرض بنفسه يتعدى، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس الأمر كذلك، وإنما الله هو الذي يمرض وينزل الداء، ولهذا قال في بعض الأحاديث:«فمن أعدى البعير الأول؟!» .
أي: من أين صار فيه الجرب؟! انتهى.
وقد قرر هذا المعنى كثير من الأئمة؛ منهم الخطابي، والبيهقي، وابن الصلاح، والمنذري، والنووي، وابن القيم، وابن مفلح، وابن رجب، وغيرهم من المحققين.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: اختلفوا في معنى قوله «لا عدوى» وأظهر ما قيل في ذلك: إنه نفيٌ لما كان يعتقده أهل الجاهلية، من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك، ويدل على هذا قوله:«فمن أعدى الأول؟!» يشير إلى أن الأول إنما جرب بقضاء الله وقدره، فكذلك الثاني وما بعده.
فأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح، وأمره بالفرار من المجذوم، ونهيه عن الدخول إلى موضع الطاعون؛ فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها أسبابًا للهلاك أو الأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان في عافية منها، فكما أنه يُؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء، أو في النار، أو يدخل تحت الهدم ونحوه، مما جرت العادة بأنه يهلك أو يؤذي، فكذلك اجتناب مقاربة المريض؛ كالمجذوم، أو القدوم على بلد الطاعون، فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله
تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر غيره، قال: وأما إذا قوي التوكل على الله تعالى، والإيمان بقضائه وقدره، فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادًا على الله تعالى؛ ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر، ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك، لا سيما إذا كانت فيه مصلحة عامة أو خاصة، وعلى مثل هذا يحمل الحديث الذي خرجه أبو داود، والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، ثم قال:«كل باسم الله، ثقة بالله، وتوكلا عليه» وقد أخذ به الإمام أحمد.
وروي نحو ذلك عن عمر، وابنه عبد الله، وسلمان رضي الله عنهم.
ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه من أكل السم، ومنه مشي سعد بن أبي وقاص، وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر، ومنه أمر عمر رضي الله عنه لتميم حيث خرجت النار من الحرة أن يردَّها، فدخل إليها في الغار الذي خرجت منه.
فهذا كله لا يصلح إلا لخواص من الناس، قوي إيمانهم بالله وقضائه وقدره، وتوكلهم عليه، وثقتهم به، فإن التوكل أعظم الأسباب التي تستجلب بها المنافع، وتستدفع بها المضار. انتهى.
وأما قوله: «ولا طيرة» فقال ابن القيم رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون نفيًا، أو نهيًا أي: لا تطيروا، ولكن قوله في الحديث:«ولا عدوى، ولا صفر، ولا هامة» يدل على أن المراد النفي، وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعاينها، والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على
بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه.
وفي صحيح مسلم، عن معاوية بن الحكم، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ومنا أناس يتطيرون؟ قال: «ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم» فأخبر أن تأثره وتشاؤمه بالطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه، فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر، وبين لهم فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويحذرونه؛ لتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، وخلق لأجلها السماوات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار، فبسبب التوحيد ومن أجله جعل الجنة دار التوحيد وموجباته وحقوقه، والنار دار الشرك ولوازمه وموجباته، فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم؛ لئلا يبقى فيها علقة منها، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة، فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها من قبل استمكانها.
قال عكرمة: كنا جلوسًا عند ابن عباس رضي الله عنهما فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير، خير، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: لا خير، ولا شر. فبادره بالإنكار عليه؛ لئلا يعتقد لها تأثيرًا في الخير أو الشر.
وخرج طاوس مع صاحب له في سفر فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاوس: وأي خير عند هذا؟! والله لا تصحبني. انتهى ملخصًا.
ثم ذكر رحمه الله تعالى أحاديث وآثارًا ظن بعض الناس أنها تدل عل جواز الطيرة، وساق معها قصصا كثيرة للمتطيرين، وأجاب عن الجميع بما يشفي ويكفي، فمن أراد الوقوف على ذلك فليراجع آخر كتابه (مفتاح دار السعادة).
وأما الهامة -بتخفيف الميم على المشهور- فقال أبو عبيد الهروي: هي أسم طائر، وهو المراد في الحديث، وذلك أنهم كانوا يتشاءمون بها، وهي من طير الليل.
وقيل: هي البومة، قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إليَّ نفسي أو أحدًا من أهل داري، قال النووي: وهذا تفسير مالك بن أنس.
قلت: والتشاؤم بالبومة كثير في الجهال من أهل زماننا، فإذا وقعت على دار أحدهم تطير بها، وقال: إنها تنذر بموته أو موت أحد من أهل داره.
وهذا مما درج إليهم من عقائد أهل الجاهلية وضلالاتهم التي نفاها الإسلام وأبطلها.
قال أبو عبيد الهروي: وقيل: كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتطير ويسمونه الصدى، فنفاه الإسلام ونهاهم عنه.
قال النووي: وهذا تفسير أكثر العلماء، وهو المشهور، ويجوز أن يكون المراد النوعين، فإنهما جميعًا باطلان، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك، وضلالة الجاهلية فيما تعتقده من ذلك. انتهى.
وأما قوله: «ولا صفر» اختلف في تأويله.
قال البخاري رحمه الله تعالى: هو داء يأخذ البطن.
وروى أبو داود في سننه، عن محمد بن راشد قال: سمعنا من يقول: هو وجع يأخذ في البطن، فكانوا يقولون هو يعدي، فقال:«لا صفر» .
وروى أيضا عن عطاء قال: يقول ناس: الصفر وجع يأخذ في البطن.
وروى مسلم في صحيحه، عن أبي الزبير أن جابرًا رضي الله عنه فسّر لهم قوله:«ولا صفر» فقال أبو الزبير: الصفر البطن، فقيل لجابر: كيف؟ قال: كان يقال: دواب البطن.
وذكر أبو عبيدة، وأبو عبيد، عن رؤبة بن العجاج قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب.
قال أبو عبيد: فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدي.
وصحح النووي رحمه الله تعالى هذا التأويل، قال: وبه قال مطرف، وابن وهب، وابن حبيب، وأبو عبيد، وخلائق من العلماء.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وممن قال هذا من العلماء ابن عيينة، والإمام أحمد، وغيرهما، قال: ولكن لو كان كذلك لكان هذا داخلا في قوله: «لا عدوى» وقد يقال: هو من باب عطف الخاص على العام، وخصه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى.
وقالت طائفة: بل المراد به شهر صفر، ثم اختلفوا في تفسيره علي قولين:
أحدهما: أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، فكانوا
يحلون المحرّم، ويحرمون صفر مكانه. وهذا قول مالك، وأبي عبيدة.
والثاني: أن المراد بذلك التشاؤم به. رواه أبو داود في سننه عن محمد بن راشد قال: سمعنا أن أهل الجاهلية يستشئمون بصفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا صفر» .
قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، وكثير من الجهال يتشاءم بصفر وربما ينهى عن السفر فيه، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء. انتهى.
وهذا القول الأخير هو أرجح الأقوال عندي.
وقد سلك الروافض سبيل أهل الجاهلية في التشاؤم بشهر صفر، بل زادوا على أهل الجاهلية في التطير به وسوء الاعتقاد فيه، وبلغ من سخافة عقولهم، وتلاعب الشيطان بهم، أنهم كانوا يعمدون في آخر يوم من صفر فيكسرون أواني الفخار التي استعملوها فيه، ويغسلون غيرها من الأواني، ويمسحون سقف بيوتهم وجُدُرها، ويكنسون البيت كله، يبتدئون من أقصاه حتى ينتهوا إلى الباب، فيخرجوا الكناسة وكسر الأواني إلى السوق بغاية السرعة، ليخرج معها شؤم صفر على زعمهم الباطل.
وقد قابلهم بعض الجهال من المنتسبين إلى السُنَّة، فوصفوه بالخيرية، فكانوا يقولون: صفر الخير، وقصدهم بذلك مراغمة الروافض، ومعارضتهم فيما زعموه من شؤمه، وهذا من مقابلة الضلالة بضلالة أخرى، فإن شهر صفر وغيره من الشهور لا خير ولا شر عندها، وإنما هي أوقات
وأيام مخلوقة، يتصرف فيها خالقها بما يشاء، فيخلق فيها ما يشاء، ويرزق من يشاء، ويُحيي ويميت، ويسعد ويشقي، ويُجري لمن شاء خيرًا ولمن شاء شرًا، وله الحكمة البالغة {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، ولا علم للشهور والأيام ولا غيرها من المخلوقات بشيء مما قدره الباري وقضاه، فالتطير ببعض الشهور والأيام شرك، ووصفها بالخيرية بغير دليل كذب وخطأ، والله أعلم.
ومن الشرك الأصغر أيضا: الرقى بما فيه شرك، وتعليق الحروز وغيرها من أنواع التمائم، واستعمال التولة وما في معناها؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعند ابن حبان قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقي والتمائم قد عرفناها، فما التولة؟ قال: شيء يصنعه النساء يتحببن به إلى أزواجهن.
وعند الحاكم قال: التولة ما يهيج النساء.
وفي رواية: هو الذي يهيج الرجال.
قال أبو عبيد الهروي: التولة -بكسر التاء وفتح الواو- ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره، جعله من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثِّر، ويفعل خلاف ما قدَّره الله تعالى. انتهى.
قلت: وهي في هذه الأزمان فاشية في الأقطار التي ضعف فيها الإيمان،
واشتدت فيها غربة الإسلام، ويسميها بعضهم الصرف، وبعضهم يسميها بغير ذلك.
ومن هذا الباب ما يزعمه كثير من المتكلمين في خواص الحيوانات والنباتات والمعادن وغيرها، من تحصيل المحبة والمهابة، والجاه والمنزلة العالية، والتعظيم والإجلال والإكرام، وغير ذلك من أغراض النفوس وشهواتها بفعل الخاصية التي يزعمون أنها تفعل لهم ما يريدون، وتجلب لهم ما يحبون وما يشتهون، فهذا ونحوه يدخل في معنى التِوَلة، وهو جهل وضلال وشرك بالله تعالى.
وأما الرُّقى، فقال الخطابي رحمه الله تعالى: المنهي عنه هو ما كان منها بغير لسان العرب، فلا يدري ما هو، ولعله قد يدخله سحر أو كفر؛ فأما إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به، والله أعلم.
قلت: وعلى جواز الرقية بالآيات القرآنية، والتعوذات والأدعية المأثورة، وما في معنى ذلك مما هو مشتمل على ذكر الله تعالى ولا محذور فيه- تدل الأحاديث الكثيرة في الصحيحين وغيرهما، فعلا من النبي صلى الله عليه وسلم وأمرًا وتقريرًا.
وفي صحيح مسلم، وسنن أبي داود، وتاريخ البخاري، عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك» .
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به، فضلا عن أن يدعو به ولو عرف معناه؛ لأنه يكره
الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارًا فليس من دين الإسلام. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى. انتهى.
وقد روى ابن جرير بإسناده، عن طاوس قال: ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية الحية والمجانين.
قلت: ومن الباب ما يفعله كثير من الضُّلال من استعمال الرقى الشركية أو المجهولة لمنع لدغ الحية والعقرب، وبعضهم يمسك الحية والعقرب بيده ويلعب بها فلا تضره، وهذا مما تفعله الشياطين لهم إذا أشركوهم بالله تعالى ودعوهم من دونه ورقوا بأسمائهم، فيمسك الشيطان حينئذ بفم الحية وذنب العقرب حتى لا تلدغ أولياءه المشركين به، وهكذا تفعل الشياطين مع من استجاب لأوليائهم واستعمل رقاهم الشركية، وهي التي يسمونها في زماننا السقوه، ومعناها أن ولي الشيطان يرقي لهم في ماء ويسقيهم إياه حتى لا تضرهم الحية ولا العقرب، وقد افتتن برقاهم كثير من الجهال الأغمار في زماننا وقبله جهلًا منهم بحكمها، وإيثارًا للمصلحة العاجلة، فالله المستعان.
وأما التمائم: هي جمع تميمة، قال أبو عبيد الهروي: هي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتَّقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام.
قال أبو السعادات ابن الأثير: ومنه حديث ابن عمر: «وما أبالي ما أتيت إن علقت تميمة» والحديث الآخر: «من علق تميمة فلا أتم الله له» كأنهم كانوا يعتقدون أنها تمام الدواء والشفاء، وإنما جعلها شركًا لأنهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه. انتهى.
وقال ابن عبد البر: إذا اعتقد الذي قلدها أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر، واعتقاد ذلك شرك. انتهى.
قلت: ومن هذا الباب ما يفعله بعض الجهلة من تعليق الحروز لدفع ضرر الجن، ومثله تعليق الخيوط والسيور ونحوها لدفع الآفات والمؤذيات.
وفي المسند، وسنن ابن ماجة، وغيرهما، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رأى في عنق امرأته خيطًا فقال: ما هذا الخيط؟ قالت: قلت: خيط رُقي لي فيه، فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الرقى والتمائم والتولة شرك» الحديث.
وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي الضحى، عن أم ناجية قالت: دخلت على زينب -امرأة عبد الله- أعوذها من جمرة ظهرت بوجهها، وهي معلقة بحرز، فإني لجالسة دخل عبد الله، فلما نظر إلى الحرز أتى جذعا معارضا في البيت، فوضع عليه رداءه، ثم حسر عن ذراعيه، فأتاها فأخذ بالحرز فجذبها حتى كاد وجهها أن يقع في الأرض فانقطع، ثم خرج من البيت فقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك،
ثم خرج فرمي بها خلف الجدار، ثم قال: يا زينب، أعندي تُعلِّقين؟! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن الرقى والتمائم والتولة» فقالت أم ناجية: يا أبا عبد الرحمن، أما الرقى والتمائم قد عرفنا، فما التولة؟ قال التولة: ما يهيج النساء.
ورواه الحاكم أيضا من حديث قيس بن السكن الأسدي قال: دخل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على امرأة فرأى عليها حرزًا من الجمرة، فقطعه قطعا عنيفًا، ثم قال: إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء، وقال: كان مما حفظنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة من الشرك» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
ورواه الحاكم أيضًا من حديث عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زينب امرأة عبد الله أنها أصابها حمرة في وجهها، فدخلت عليها عجوز فرقتها في خيط فعلقته عليها، ودخل ابن مسعود فرآه عليها فقال: ما هذا؟ فقالت: استرقيت من الحمرة، فمد يده فقطعها ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، قالت: ثم قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن الرقي والتمائم والتولة شرك» قال: فقلت: ما التولة؟ قال: التولة هو الذي يهيج الرجال. وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى ابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه دخل على مريض، فرأى في عضده سيرًا فقطعه أو انتزعه، ثم قال:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
وروى الحاكم في مستدركه من حديث بكير بن عبد الله، أن أُمَّه حدثته أنها أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها بأخيه مخرمة؛ وكانت تداوي من قرحة تكون بالصبيان، فلما داوته عائشة رضي الله عنها، وفرغت منه، رأت في رجليه خلخالين جديدين، فقالت عائشة رضي الله عنها: أظننتم أن هذين الخلخالين يدفعان عنه شيئًا كتبه الله عليه؟! لو رأيتهما ما تداوى عندي، وما مس عندي، لعمري لخلخالان من فضة أطهر من هذين. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي المسند، وسنن ابن ماجه، وصحيح ابن حبان، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة -قال: أراه من صفر- فقال: «ويحك ما هذه؟» قال: من الواهنة؟ قال: «أما إنها لا تزيدك إلا وهنًا، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا» .
وفي رواية ابن حبان: «فإنك إن مت وكلت إليها» .
ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه: قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر فقال: «ما هذه؟» فقلت: من الواهنة، فقال:«انبذها» .
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له» رواه الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
الودع: هو الصدف الأبيض الصغار.
قال أبو عبيد الهروي: الودع -بالفتح والسكون- جمع ودعة، وهي شيء أبيض يجلب من البحر، يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم، وإنما نهى عنها لأنهم كانوا يعلقونها مخافة العين، وقوله:«لا ودع الله له» أي: لا جعله في دعة وسكون، وقيل: لا خفف عنه ما يخافه. انتهى.
وروى الإمام أحمد، والحاكم في مستدركه، عن عقبة بن عامر أيضا رضي الله عنه أنه جاء في ركب عشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايع تسعة وأمسك عن بيعة رجل منهم، فقالوا: ما شأن هذا الرجل لا تبايعه؟! فقال: «إن في عضده تميمة» فقطع الرجل التميمة، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:«من علق تميمة فقد أشرك» قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات.
وروى الإمام أحمد أيضًا، والترمذي، والحاكم في مستدركه من حديث عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: دخلت على عبد الله بن عكيم أبي معبد الجهني أعوده وبه حمرة، فقلت: ألا تعلق شيئًا؟! قال: الموت أقرب من ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من تعلق شيئا وكل إليه» .
وروى النسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه» .
قال المناوي في (شرح الجامع الصغير): «من تعلق شيئًا» أي: تمسك بشيء من المداواة واعتقد أنه فاعل للشفاء، أو دافع للداء، «وكل إليه» أي؛ وكل الله شفاءه إلى ذلك الشيء، فلا يحصل شفاؤه، أو المراد؛ مَن تعلقت نفسه بمخلوق غير الله وكله الله إليه، فمن أنزل حوائجه بالله والتجأ إليه
وفوض أمره كله إليه كفاه كل مؤنة، وقرب عليه كل بعيد، ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى علمه وعقله، واعتمد على حوله وقوته وكله الله إلى ذلك، وخذله وحرمه توفيقه وأهمله، فلم تنجح مطالبه ولم تتيسر مآربه، وهذا معروف على القطع من نصوص الشريعة وأنواع التجارب. انتهى باختصار.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: التعلق يكون بالقلب وينشأ عنه القول والفعل، وهو التفات القلب عن الله إلى شيء يعتقد أنه ينفعه أو يدفع عنه، فإن كان من الشرك الأصغر فهو ينافي كمال التوحيد، وإن كان من الشرك الأكبر كعبادة أرباب القبور والمشاهد والطواغيت ونحو ذلك فهو كفر بالله وخروج من دين الإسلام، ولا يصح معه قول ولا عمل. انتهى.
وفي معنى التمائم ما يفعل في بعض الجهات اليمنية من وضع سكين عند النفساء حتى تطهر من نفاسها، ومع المختون حتى يبرأ، وعند المولود ما دام في المهد، يزعمون أنها ترد الجن عنهم.
وهذا جهل وضلال وشرك بالله تعالى، وقد روى البخاري في (الأدب المفرد) عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تؤتى بالصبيان، إذا وُلدوا فتدعو لهم بالبركة، فأُتيت بصبي فذهبت تضع وسادته، فإذا تحت رأسه موسى فسألتهم عن الموسى فقالوا: نجعلها من الجن، فأخذت الموسى فرمت بها ونهتهم عنها، وقالت:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الطيرة ويبغضها» ، وكانت عائشة رضي الله عنها تنهى عنها.
إذا عرف هذا فالمقصود ههنا التحذير من هذه الأمور الشركية، فإن الشرك وإن كان أصغر فهو أكبر من الكبائر وأسوأ منها عاقبة، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقد ينضم إلى الشرك الأصغر من مزيد التعلق به والاعتقاد فيه، ما يجعله أكبر، فينسلخ فاعله من دين الإسلام بالكلية عياذًا بالله من الخذلان، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
فصل
وأما الكفر الأصغر: فهو كفر العمل، وهو أنواع كثيرة، نذكر منها ما تيسر مما هو كثير الوقوع.
فمن ذلك الحكم بغير ما أنزل الله لقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
…
} الآية، قال: هي به كفر، قال ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.
وروى ابن أبي حاتم، والحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه.
وزاد الحاكم في روايته: إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} كفر دون كفر. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى ابن جرير عنه رضي الله عنه قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرَّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق.
وله عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
ورواه أبو داود في كتاب (المسائل عن الإمام أحمد) قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء فذكره.
وقال أبو داود أيضا: حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس قال: ليس بكفر ينقل عن الملة.
وقال السدي: يقول: ومن لم يحكم بما أنزلتُ فتركه عمدًا، أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين.
وهذا الذي قاله السدي رحمه الله تعالى جيد قوي، وقد حكاه البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره عن العلماء فقال: وقال العلماء: هذا إذا رد نص حكم الله عيانا عمدًا، فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فلا. انتهى.
وروي الطبراني، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال عن الرشوة في الحكم: كفر وهي بين الناس سحت.
وروى ابن جرير، عن علقمة، ومسروق أنهما سألا ابن مسعود رضي الله عنه عن الرشوة، فقال: من السحت، فقالا: وفي الحكم؟ قال: ذاك الكفر، ثم تلا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
وروى أبو داود، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه وصححه، عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«القضاة ثلاثة؛ واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» .
وفي رواية للحاكم: «قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض قضى بالحق فهو في الجنة، وقاض قضى بجور فهو في النار، وقاض قضى بجهله فهو في النار» قالوا: فما ذنب هذا الذي يجهل؟ قال: «ذنبه أن لا يكون قاضيًا حتى يعلم» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الحافظ أبو يعلى، والطبراني في الكبير، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما نحوه، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
وقد عظمت البلوى في زماننا بالحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وخصوصًا في الأماكن التي غلبت فيها التقاليد والسياسات والقوانين والنظامات المحدثة، فأكثر حكام هؤلاء بين رجلين:
أحدهما: عارف بالحق، ولكنه يخالفه تقليدًا للأكابر من أهل مذهبه، أو متابعة للقوانين والنظامات الخاطئة، أو لعرض يأخذه من رشوة ونحوها، أو لكون الحق مخالفًا لهوى الدولة والأكابر، فيحكم بخلافه مراعاة لهم، واتِّباعًا لرغباتهم وأهوائهم، أو خوفا من العزل، أو لغير ذلك من الأهواء والأغراض الدنيوية، وهذا الجنس هم الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة وهي قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، فإن انضم إلى هذه الأحكام الجائرة تفضيل التقاليد المذهبية والسياسات والنظامات المحدثة على الأحكام الشرعية فهي ردة صريحة وخروج من الإسلام بالكلية، وسواء كان التفضيل من الحاكم الجائر أو غيره، فكل من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من
حكمه، فهو كافر الكفر الأكبر، قال الله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، وكل ما خالف القرآن أو السنة فهو من حكم الجاهلية، والتحاكم إليه من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى بالكفر به، ومن هذا الباب التحاكم إلى محاكم النصارى وغيرهم من دول الكفر، والرضى بقوانينهم وسياساتهم وأنظمتهم التي وضعوها بآرائهم وأهوائهم، ما أنزل الله بها من سلطان، فكل من اختار التحاكم إليها على التحاكم إلى الكتاب والسنة فهو مرتد عن الإسلام، وما أكثر الواقعين في هذه الهوة المهلكة عياذًا بالله من ذلك.
الثاني من حكام هذه الأزمان: الجاهل المركب الذي لا بصيرة له بالحق، وإنما يخبط خبط عشواء، فما وافق رأيه واستحسنه عقله قضى به، وما أكثر هذا الجنس والذي قبله في قضاة هذا الزمان الذي اشتدت فيه غربة الإسلام وعاد العلم عند الأكثرين جهلًا، والجهل علمًا، فالله المستعان.
ومن الكفر الأصغر أيضا: كفر النعمة؛ لقول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83].
قال عون بن عبد الله: هو قول الرجل: لولا فلان لكان كذا وكذا، ولولا فلان لما كان كذا. ذكره البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره.
قلت: ومن ذلك ما يجري على ألسن كثير من الجُهَّال من
إسناد النعم إلى الأسباب،
لا إلى المسبب الفاعل المختار جل جلاله، كقولهم: هذا من عمل يدي، أو هذا من تعبي، أو ورثته من آبائي، ونحو هذه الألفاظ
التي يسندون فيها النعم إلى الأسباب، ويُعرضون عن المسبِّب المُيَسِّر الخالق الرازق.
فريق منهم ومن ذلك أيضا: ما يذكره كثير من أهل التقاويم الفلكية في الأنواء كقولهم: هذا النوء محمود، أو مذموم، أو غزير المطر، أو قليل المطر، أو مطره نافع أو ضار، ونحو ذلك مما يضيفونه إلى الأنواء المخلوقة العاجزة، وينسون فاطر السماوات والأرض وما فيهما، الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو الذي {يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} ، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} ، وهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فينزل الغيث على قوم، ويحبسه عن قوم، ويجعله نافعًا لقوم وضارًا لآخرين، وغزيرًا في موضع وقليلا في آخر، وله في كل ذلك الحكمة البالغة والمشيئة النافذة، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} .
وفي الصحيحين وغيرهما، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال:«هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» .
ولمسلم، والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح بها كافرين يقولون: الكواكب وبالكواكب» .
وفي رواية لمسلم: «ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين؛ ينزل الله الغيث فيقولون: الكوكب كذا وكذا» .
وفي رواية: «بكوكب كذا وكذا» .
وله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مُطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر؛ قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا» قال: فنزلت هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [سورة الواقعة: 82].
وروى الإمام أحمد، والبخاري في (التاريخ الكبير)، عن معاوية الليثي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقًا من السماء من رزقه فيصبحون مشركين» فقيل له: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: «يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا» .
ولأحمد أيضا من حديث إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال: شكركم، تقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا» .
ورواه ابنه عبد الله في (زوائد المسند)، والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب.
وروى سفيان، عن عبد الأعلى هذا الحديث بهذا الإسناد ولم يرفعه. انتهى.
وروى البخاري في (التاريخ الكبير)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أمسك الله القطر عن الناس سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفة منهم كافرين؛ يقولون: بنوء المِجْدَح» .
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في (الأم): من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون؛ من إضافة المطر إلى أنه مطر نوء كذا، فذلك كُفر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النوء وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، على معنى مطرنا في وقت كذا، فلا يكون كفرًا، وغيره من الكلام أحب إليَّ منه. انتهى.
وقال ابن قتيبة: كانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء؛ إما بصنعه على زعمهم، وإما بعلامته، فأبطل الشرع قولهم وجعله كفرًا، فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعًا في ذلك فكفره كفر تشريك، وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة فليس بشرك، لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وإرادة كفر النعمة؛ لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشكر واسطة، فيحمل الكفر فيه على المعنيين لتناول الأمرين، والله أعلم. نقل ذلك الحافظ ابن حجر في (فتح الباري).
ومن هذا الباب ما يزعمه الجغرافيون في نزول الأمطار وكثرتها وقلتها، أن ذلك راجع إلى طبائع الأماكن الأرضية والرياح، فمن اعتقد منهم أن طبائع الأرض والرياح تستقل بالإيجاد والتكوين؛ فكفره كفر تشريك، وإن زعم أن ذلك من قبيل التجربة ولم يعتقد للطبيعة شركة في الإيجاد؛ فأقل
أحواله الكراهة، ويجوز إطلاق كفر النعمة عليه، والله أعلم.
ومن الكفر الأصغر أيضا: ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما» رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما» متفق عليه.
وزاد مسلم في روايته: «إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه» .
ورواه البخاري في (الأدب المفرد) ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال للآخر: كافر، فقد كفر أحدهما؛ إن كان الذي قال له كافرًا فقد صدق، وإن لم يكن كما قال له فقد باء الذي قال له بالكفر» .
ورواه الإمام أحمد في المسند بنحوه.
وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك» هذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: «من دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه» .
ورواه البخاري بهذا اللفظ في (الأدب المفرد).
وله أيضا في الصحيح عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قذف مؤمنًا بكفر فهو كقتله» .
ومن الكفر الأصغر أيضًا: قتال المسلم؛ لما في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» .
وفيهما أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: «ويلكم -أو ويحكم- انظروا، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» .
وفيهما أيضا عن جرير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ولأحمد، والبخاري، عن ابن عباس، وأبي بكرة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك.
وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضا.
ومن الكفر الأصغر أيضا: الرغبة عن الآباء مع العلم بهم، والتبرُّؤ من النسب المعروف والانتماء إلى النسب المجهول؛ لما في الصحيحين والمسند وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر» .
ولمسلم، والبخاري في (الأدب المفرد)، عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ليس من رجل ادَّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر» .
وفي صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وروى ابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كفر بامرئ ادِّعاء نسب لا يعرفه، أو جحده وإن دقَّ» .
ورواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط والصغير بنحوه.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب (السنة) عن أبيه بإسناده، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أنه قال:«كفر بالله انتماء إلى نسب لا يعرف، وكفر بالله انتفاء من نسب وإن دق» .
ومن الكفر الأصغر أيضا: إباق العبد؛ لما في صحيح مسلم، عن منصور بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن جرير رضي الله عنه أنه سمعه يقول:«أيُّما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم» فقال منصور: قد والله رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكني أكره أن يروى عني ههنا بالبصرة.
ومن الكفر الأصغر أيضا: أن يتولى الرجل غير مواليه؛ لما رواه البخاري في تاريخه الكبير، والدارقطني في سننه، والحاكم في مستدركه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابان: «إنَّ أشد الناس عُتوا في الأرض رجل ضرب غير ضاربه، ورجل قتل غير قاتله، ورجل تولى غير أهل نعمته، فمن فعل ذلك فقد كفر بالله وبرسله، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلا» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
قال الشافعي في مسنده: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: وجد في قائم سيف النبي صلى الله عليه وسلم كتاب: «إن أعدى الناس على الله سبحانه وتعالى القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن تولى غير مواليه فقد كفر بما أنزل الله سبحانه على محمد صلى الله عليه وسلم» .
وقال الشافعي أيضا: أخبرنا ابن عيينة، عن محمد بن إسحاق قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي: ما كان في الصحيفة التي كانت في قراب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان فيها: «لعن الله القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن تولى غير ولي نعمته فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم» .
وروى أبو نعيم في الحلية، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من تولى غير ذي نعمته فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم» .
ومن الكفر الأصغر أيضًا: الطعن في النسب، والنياحة على الميت؛ لما في المسند، وصحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب، والنياحة على الميت» .
وفي مستدرك الحاكم من حديث الأوزاعي، حدثني إسماعيل بن عبيد الله، قال: حدثتني كريمة المُزَنِيَّة، قالت: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه وهو في بيت أم الدرداء- يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة من الكفر بالله؛ شق الجيب، والنياحة، والطعن في النسب» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
قال المناوي في (شرح الجامع الصغير): الطعن في الأنساب: الوقوع
في أعراض الناس بنحو القدح في نسب ثبت في ظاهر الشرع، والنياحة على الميت: هي رفع الصوت بالندب بتعديد شمائله. انتهى.
وقال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: النياحة: رفع الصوت بالندب، والندب تعديد النائحة بصوتها محاسن الميت، وقيل: هو البكاء عليه مع تعديد محاسنه. انتهى.
وقال ابن حجر الهيتمي في كتاب (الزواجر): يحرم الندب وهو تعديد محاسن الميت كواجبلاه، والنوح وهو رفع الصوت بالندب، ومثله إفراط رفعه بالبكاء وإن لم يقترن بندب ولا نَوْحٍ، وضرب نحو الخد، وشق نحو الجيب، ونشر الشعر وحلقه ونتفه، وتسويد الوجه، وإلقاء الرماد على الرأس، والدعاء بالويل والثبور، وكل شيء فيه تغيير للزي، كلبس ما لا يعتاد لبسه أصلا أو على تلك الصفة، وكترك شيء من لباسه والخروج بدونه على خلاف العادة، ثم ذكر العلة في الكل وهو أن ذلك يشعر إشعارًا ظاهرًا بالسخط وعدم الرضا بالقضاء. انتهى.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» .
وفيهما أيضًا، عن أبي بردة بن أبي موسى قال: وجع أبو موسى وجعًا غشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا، فلما أفاق قال: أنا برئ ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة» .
وفي رواية لمسلم، والنسائي، وابن ماجة، عن عبد الرحمن بن يزيد، وأبي بردة بن أبي موسى قالا: أغمي على أبي موسى فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة، قالا: ثم أفاق فقال: ألم تعلمي -وكان يحدثها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق» ؟
ورواه أبو داود، والنسائي، من حديث يزيد بن أوس قال: دخلت على أبي موسى وهو ثقيل فذهبت امرأته لتبكي
…
فذكر نحوه.
قال أبو عبيد الهروي: الصلق: الصوت الشديد، يريد رفعه في المصائب وعند الفجيعة بالموت، ويقال بالسين. انتهى، ومنه قوله تعالى:{سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19]، وأما الحالقة: فهي التي تحلق شعرها أو تنتفه عند المصيبة، والشاقة: التي تشق ثيابها، أو تخرقها عند المصيبة.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: وكل هذا حرام باتفاق العلماء. انتهى.
وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب ما يكره من النياحة على الميت، وقال عمر رضي الله عنه: دَعهُنَّ يبكين على أبي سليمان، ما لم يكن نقع أو لقلقة، والنقع: التراب على الرأس، واللقلقة: الصوت. انتهى.
وفي الصحيحين، وغيرهما عن أم عطية رضي الله عنها قالت:«أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح» .
ولأبي داود: «نهانا عن النياحة» .
وله أيضا عن امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه: «أن لا نخمش وجهًا، ولا ندعو ويلًا، ولا نشق جيبًا، وأن لا ننشر شعرًا» .
وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَا يَعْصينَكَ في مَعْرُوف} قال: «النَّوْح» رواه ابن ماجه.
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: لما نزلت {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إلى قوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} كانت منه النياحة. رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وعن معاوية رضي الله عنه أنه خطب بحمص، فذكر في خطبته «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النوح» رواه ابن ماجة.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة» رواه أبو داود في سننه، والبخاري في (التاريخ الكبير).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور» رواه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» رواه الإمام أحمد، ومسلم.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النياحة من أمر الجاهلية، وإن
النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثيابًا من قطران ودرعًا من لهب النار» رواه ابن ماجة.
وله أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الميت يعذب في قبره بما نيح عليه» .
وفيهما أيضا عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نيح عليه؛ فإنه يعذب بما نيح عليه» .
وزاد مسلم في روايته: «يوم القيامة» .
وفي المسند من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائح: وا عضداه، وا ناصراه، وا كاسياه، جُبِذ الميت وقيل له: آنت عضدها، آنت ناصرها، آنت كاسيها» .
ورواه ابن ماجة، ولفظه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالوا: وا عضده، وا كاسياه، وا ناصراه، وا جبلاه ونحو هذا، يتعتع ويقال: آنت كذلك؟ آنت كذلك؟» .
ورواه الترمذي، ولفظه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: وا جبلاه، وا سنداه، أو نحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا كنت؟» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أسيد بن أسيد، عن موسى بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت ليعذب
ببكاء الحي، فإذا قالت: وا عضداه، وا مانعاه، وا ناصراه، وا كاسياه، جُبِذ الميت فقيل: أناصرها أنت؟ أكاسيها أنت؟ أعاضدها أنت؟» قال: فقلت: سبحان الله! قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] فقال: ويحك! أحدثك عن أبي موسى، عن رسول الله، وتقول هذا؛ فأيّنا كذب؟! فوالله ما كذبت على أبي موسى، وما كذب أبو موسى على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه.
وقوله: «جبذ الميت» أي جذب بشدة.
وقال أبو موسى المديني: «يلهزانه» أي: يدفعانه ويضربانه، واللهز الضرب بجمع الكف في الصدر، ولهزه بالرمح إذا طعنه به. انتهى.
وفسر أيضًا التعتعة بأنها: الأذى الذي يقلق ويزعج.
وفي صحيح البخاري، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي: وا جبلاه، وا كذا وكذا تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلتِ شيئا إلا قيل لي: آنت كذلك؟ فلما مات لم تبك عليه.
ورواه ابن سعد، من حديث أبي عمران الجوني مرسلا، وزاد فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عاده، فأغمي عليه فقال:«اللهم إن كان أجله قد حضر فيسِّر عليه وإلا فاشفه» قال: فوجد خفة فقال: كان مَلَكٌ قد رفع مرزبة من حديد يقول: آنت كذا؟ فلو قلت: نعم، لقمعني بها.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم» .
زاد البخاري في روايته: «وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» .
وكان عمر رضي الله عنه يضرب فيه بالعصا، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتراب.
وذكر الحافظ الذهبي في كتاب (الكبائر) عن الأوزاعي، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع صوت بكاء، فدخل ومعه غيره، فمال عليهم ضربًا حتى بلغ النائحة، فضربها حتى سقط خمارها، وقال: اضرب فإنها نائحة، ولا حرمة لها؛ إنها لا تبكي لشجوكم، إنها تهريق دموعها لأخذ دراهمكم، وإنها تؤذي موتاكم في قبورهم وأحياءكم في دورهم؛ لأنها تنهى عن الصبر وقد أمر الله به، وتأمر بالجزع وقد نهى الله عنه. انتهى.
وفي المسند من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: مهلا يا عمر، ثم قال:«ابكين وإياكن ونعيق الشيطان» ثم قال: «إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان من الشيطان» .
وروى أبو نعيم في الحلية من حديث حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاح أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما هذا؟! ليس هذا مِنّا، ليس لصائح حظ، القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نُغضب الرب» .
وفي هذين الحديثين، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي قبلهما بيان الفرق بين البكاء الجائز والبكاء المحرم.
وأما تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ففيه أقوال للعلماء، وأصحها؛ أن المراد بذلك التألم من توبيخ الملائكة له بسبب النياحة عليه وما يصيبه منهم من الجبذ واللهز والتعتعة، ويدل على ذلك حديث أبي موسى، وقصة عبد الله بن رواحة، والله أعلم.
وإذا عرف أن النياحة كفر أصغر، وأنها من أمر الجاهلية، وما يلحق النائحة والمستمعة من اللعن، وما جاء من الوعيد الشديد للنائحة، وأن الميت يعذب في قبره بما نيح عليه، فليعلم أيضا أن النياحة فاشية في هذه الأزمان وما قبلها في كثير من المسلمين، وهي في هذه الأزمان على أضرُب كثيرة.
منها: رفع الصوت بالبكاء والعويل، ويصدر هذا كثيرًا من بعض السفيهات من نساء الحاضرة، وهو في نساء البوادي أكثر.
ومنها: الدعاء بالويل والثبور وما في معنى ذلك من دعوى الجاهلية، وهذا كثير جدًا في نساء البادية.
ومنها: رفع الصوت بتعديد محاسن الميت، والتأسف عليه وإظهار الجزع، وهذا أيضا كثير في نساء البادية.
ومنها: شق الجيوب، وهو كثير في نساء البادية أيضًا، وربما فعله بعض السفهاء من الرجال.
ومنها: إلقاء التراب أو الرماد على الرأس.
ومنها: لطم الخدود ونتف الشعور ونحو ذلك.
ومنها: ما يفعل في كثير من الأمصار إذا مات ملك أو رئيس كبير، نكسوا من أجل ذلك أعلامهم، وأغلقوا دكاكينهم، وامتنعوا من البيع والشراء أيامًا معلومة، يحدون فيها على ذلك الميت كما تحد النساء على أزواجهن، ويتركون كثيرا من أعمالهم المعتادة، ويغيرون كثيرا من هيئاتهم وأفعالهم.
ومنها: ما يفعل في كثير من الأمصار من الاجتماع عند أهل الميت لحضور قراءة التعزية، والأكل من طعام المأتم الذي يصنعه أهل الميت.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة.
ومن النياحة أيضا: إنشاد الأشعار، وقراءة المراثي التي تثير الأحزان على أهل المصيبة، وتهيجهم على كثرة البكاء، وتدعوهم إلى الجزع وقلة الصبر.
وقد روى ابن ماجة في سننه، والحاكم في مستدركه، عن عبد الله بن أبي أوفي رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن المراثي» قال الحاكم: غريب صحيح، وأقره الذهبي في تلخيصه.
ومن أقبح النياحة وأعظمها خزيا وفضيحة نياحة الرافضة على الحسين بن علي رضي الله عنهما، يقيمونها -قبّحهم الله تعالى- في العشر الأُول من
المحرم كل عام؛ فلا يدعون شاذة ولا فاذة من أمور النياحة إلا أتوها، ولا سفهًا وسخفًا إلا فعلوه، وقبائحهم وفضائحهم ورعوناتهم التي تصدر منهم في مأتمهم الشنيع شهيرة معروفة، فلا حاجة بنا إلى تعدادها، وقد قال الله تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
وليس العجب من فعل الروافض الذين هم أضل سبيلا من الأنعام، وإنما العجب من بعض الولاة الذين ينتسبون إلى السنة ثم يخالفونها، ويرتكبون ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من أكل السحت؛ وهو ما يأخذونه من الروافض عوضًا عن تمكينهم من إقامة شعارهم الشنيع ومأتمهم القبيح، ويمنعون البيع والشراء في الأسواق وجميع الأعمال المعتادة من أجل الروافض، معاونة لهم على إشهار مأتمهم الملعون فاعله والمستمع إليه كما تقدم في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة» .
وإذا كان الراضي بالمعصية شريكًا لفاعلها في الإثم، فلا شك أن من يُمكِّن الروافض من إقامة مأتمهم ويعينهم على إقامته أولى وأحرى أن يكون شريكهم في الوزر والعار، والله أعلم.
ومن الكفر الأصغر أيضا: تصديق السحرة والكهان والعرَّافين، وإتيان المرأة الحائض، وإتيان المرأة في دبرها؛ لما رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، والبخاري في (التاريخ الكبير)، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضًا، أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم» .
وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا هدبة، حدثنا همام، قال: سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها؟ فقال قتادة: حدثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«هي اللوطية الصغرى» قال قتادة: وحدثني عقبة بن وساج، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: وهل يفعل ذلك إلا كافر.
وفي معنى إتيان المرأة في دبرها إتيان الذكر، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافًا، أو كاهنًا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» رواه الأمام أحمد، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما جميعًا ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم» رواه البزار
بإسناد جيد.
وله أيضا بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» .
ورواه أبو نعيم في الحلية، من حديث عمرو بن قيس الملائي، عن أبي إسحاق -يعني السبيعي- قال: حدثنا هبيرة بن يريم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنًا، أو ساحرًا فصدقه بما يقول، فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم» ثم قال أبو نعيم: رواه الثوري، عن أبي إسحاق مثله، ورواه علقمة، وهمام بن الحارث، عن عبد الله موقوفًا.
وروى أبو نعيم أيضا، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: دخلت المسجد وأمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل فذكر الحديث، وفيه: «إن الله تعالى قال: ليس مني من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له» .
وفي المسند، وصحيح مسلم، عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» .
وفي المسند، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والنسائي، عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، إن منا رجال يأتون الكهان؟ قال:«فلا تأتهم» .
وتقدم حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يلج الدرجات من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفر طائرًا» أي: متطيرًا. رواه ابن مردويه، وأبو نعيم، والبغوي.
قال الجوهري: العراف: الكاهن والطبيب.
وقال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله في (المغني): العراف: الذي يحدس ويتخرص.
وقال ابن الأثير: العراف: المنجم والحازي الذي يدَّعي علم الغيب، وقد استأثر الله به.
وقال ابن منظور في (لسان العرب): يقال للحازي عراف، وللقناقن عراف، وللطبيب عراف؛ لمعرفة كل منهم بعلمه، والعراف الكاهن، وفي الحديث:«من أتى عرافًا، أو كاهنًا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» أراد بالعراف: المنجم والحازي الذي يدعي علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه. انتهى.
وأما الكاهن، فقال الخطابي رحمه الله تعالى: الكاهن: هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن، وكان في العرب كهنة يدَّعون أنهم يعرفون كثيرًا من الأمور، فمنهم من كان يزعم أن له رِئيًا من الجن، وتابعة تلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه. وكان منهم من يسمى عرافًا وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على موقعها؛ كالشيء يسرق فيعرف المظنون به السرقة، وتتهم المرأة بالزنا فيعرف من صاحبها، ونحو ذلك من الأمور،
ومنهم من كان يسمى المنجم كاهنًا، فالحديث يشتمل على النهي عن إتيان هؤلاء كلهم، والرجوع إلى قولهم، وتصديقهم على ما يدَّعونه من هذه الأمور. انتهى.
وقال ابن الأثير أيضا: الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدَّعي معرفة الأسرار، وقد كان في العرب كهنة؛ كشق، وسطيح، وغيرهما، فمنهم من كان يزعم أن له تابعًا من الجن ورئيا يلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم العراف؛ كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوها، والحديث الذي فيه:«من أتى كاهنًا» قد يشتمل على إتيان الكاهن والعراف والمنجم.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم؛ كالحازي الذي يدعي علم الغيب، ويدعي الكشف. انتهى.
وقال ابن منظور في (لسان العرب): كهن له، وتكهن: قضى له بالغيب، وكذا قال صاحب (القاموس)، قال ابن منظور: ويقال كهن لهم إذا قال لهم قول الكهنة.
ونقل مرتضى الحسيني في (تاج العروس) عن (التوشيح) أن الكهانة ادعاء علم الغيب، قال: ومثله في (ضوء النبراس) و (أفعال ابن القطاع)
و (الإرشاد). انتهى.
إذا عرف تفسير الكاهن والعراف، وما جاء من الوعيد الشديد في تصديقهما وتصديق السحرة، فليعلم أيضًا أن التكهن فاشٍ في هذه الأزمان، ويسميه بعضهم التنبؤ؛ يعني معرفة المغيبات والحوادث المستقبلة؛ كمجيء الأمطار، وهبوب الرياح، وصفاء الجو وكدره، مما يذيعه أعداء الله وينشرونه كثيرًا.
ومن ذلك دعوى معرفة الجنين في بطن أمه أَذَكر هو أم أنثى، ومن ذلك دعوى معرفة موت أحد أو حياته، أو ما يعرض له في حياته من خير أو شر.
ومن ذلك دعوى معرفة الماء في بطن الأرض، واختلاف مجاريه تحت طبقاتها، وبعد ما بينه وبين سطح الأرض، وألوان الصخور والأتربة التي بينه وبين سطح الأرض، فكل هذا من العرافة والتكهن، هذا إذا كانت دعوى معرفة الماء وما في باطن الأرض بمجرد الحدس والتخرص كما يفعله بعض الجهال الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وأما إذا كانت بالآلات المعدة لذلك فليس من هذا الباب، والله أعلم.
ويسمى من يدعي معرفة الماء في بطن الأرض: القنقن والقناقن.
قال ابن منظور في (لسان العرب): القنقن والقناقن -بالضم- البصير بالماء تحت الأرض والجمع القناقن؛ بالفتح.
قال ابن بري: القنقن والقناقن؛ المهندس الذي يعرف الماء تحت الأرض، قال: وأصلها بالفارسية، وهو معرب مشتق من الحفر، من قولهم
بالفارسية: كِنْ كن أي: احفر احفر، وسُئل ابن عباس رضي الله عنهما لِم تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: لأنه كان قناقنًا يعرف مواضع الماء تحت الأرض، وقيل: القناقن الذي يسمع فيعرف مقدار الماء في البئر قريبًا أو بعيدًا. انتهى.
وقد تقدم قوله: إنه يقال للقناقن عراف.
وذكر في مادة (حزا) عن ابن شميل أنه قال: الحازي أقل علما من الطارق، والطارق يكاد أن يكون كاهنًا، والحازي يقول بظن وخوف، والعائف العالم بالأمور، ولا يستعاف إلا من علم وجرب وعرف، والعراف الذي يشم الأرض فيعرف مواقع المياه، ويعرف بأي بلد هو. انتهى.
والمقصود هنا أنه لا يجوز إتيان القناقن الذين يدَّعون معرفة الماء في بطن الأرض؛ لدخولهم في مسمى العرافين والكهان، كما تقدم عن أئمة اللغة؛ ولأن إخبارهم بالماء إنما هو حدس وتخرص وتهجم على ما استأثر الله به من الغيب، ومن أتى القناقن فصدقهم فهو متعرض للوعيد الشديد الذي تقدم ذكره في الأحاديث التي ذكرناها قريبًا، والله أعلم.
ومن ذلك أيضا دعوى معرفة السارق والعائن والساحر، ونحو ذلك من الأمور المغيبة، كمن يخبر اللديغ بلون الحية التي لدغته وطولها وفي أي موضع هي، فكل من أتى أحدًا من هؤلاء الطواغيت الذين يدَّعون معرفة
الأمور المغيبة والكوائن المستقبلة فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [الجن: 26 - 27]، وما أكثر الواقعين في هذه الكفريات التي ذكرنا، نسأل الله العفو والعافية والعصمة، إنه جواد كريم.
وبعض هذه الكفريات قد يلتحق بالكفر الأكبر الذي ينقل عن الملة؛ إذ هي بحسب حال فاعلها واعتقاده، والله اعلم.
ومن أخبث الكهانة في هذه الأزمان ما يسمونه التنويم المغناطيسي
(1)
وهو شائع عند أمم الكفر والضلال.
وفي بعض الأقطار التي ينتسب أهلها إلى الإسلام، إذا سُرق من أحدهم شيء، أو ضل عنه شيء من أهله أو ماله أتى إلى الكاهن المسمى عندهم بالمنوم، فأخبره بقصته على الجلية، فيدعو المنوم بصبي دون البلوغ قد أعده لعمل كهانته، فيجلس كل منهما على كرسي مقابل الآخر، ويجلس المسروق منه ونحوه عندهما، فإذا جلسوا جعل المنوم يحد النظر إلى
(1)
قال الوالد رحمه الله تعالى تعليقًا: وقد أطال محمد فريد وجدي في كتابه (دائرة المعارف) الكلام على النوم المغناطيسي، فذكره في الجزء الرابع من صفحة 365 إلى صفحة 400، وذكره أيضا وأطال عليه في الجزء العاشر من صفحة 410 إلى صفحة 420، وذكر أيضا تحضير الأرواح في مادة (اسبرتزم) في الجزء الأول من صفحة 245 إلى صفحة 252، وكل ذلك جهل وضلال وتلاعب من الشياطين ببني آدم.
الصبي، ولا يصرف بصره عنه حتى يلتبس به الشيطان، فيأخذه منه كهيئة النوم، فإذا تمكن منه الشيطان أخبره باسم السارق، وموضع السرقة، وصور له صورة السارق، وموضع السرقة والضالة ونحوهما، وتكلم بذلك على لسانه حينما يسأله المنوم عن ذلك، فإن التبس أمر المسروق والضال ونحوهما على الشيطان أول مرة عاد المنوم إلى تنويم الصبي ثانية وثالثة وأكثر حتى يتم مقصوده، وهذه الكهانة تشبه كهانة أهل الجاهلية من بعض الوجوه؛ لأن مبنى كل منهما على استخدام الشياطين، والتقرب إليهم بما يحبونه من الكفر والفسوق والعصيان، فمن أتى أحدا من الطواغيت المنومين فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
فصل
ومن المنكرات الفاشية في زماننا بسبب غربة الإسلام السحر.
وهو في اللغة عبارة عما دقَّ، ولطف مدركه، وخفي سببه.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في (المغني): السحر؛ عقد ورقى، وكلام يتكلم به أو يكتبه، أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة؛ فمنه ما يقتل، وما يمرض، وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، وما يبغض أحدهما إلى الآخر، أو يحبب بين اثنين، قال: ولولا أن السحر له حقيقة لما أمر الله تعالى بالاستعاذة منه، قال: وقد اشتهر بين الناس وجود عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها، وحل عقده فيقدر عليها بعد عجزه عنها، حتى صار متواترًا لا يمكن جحده، ورُوي من أخبار السحرة ما لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه. انتهى ملخصًا.
وقال الراغب الأصفهاني: السحر يقال على معانٍ:
الأول: الخداع، وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعبذ بصرف الأبصار عما يفعله لخفة يد، وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع، وعلى ذلك قوله:{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]، {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ} [طه: 66]، وبهذا النظر سموا موسى عليه السلام ساحرًا فقالوا: يا أيها الساحر.
والثاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه؛ كقوله:
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222]، وعلى ذلك قوله:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102].
والثالث: ما يذهب إليه الأغتام
(1)
، وهو اسم لفعل يزعمون أنه من قوَّته يغير الصور والطبائع، فيجعل الإنسان حمارًا، ولا حقيقة لذلك عند المحصلين. انتهى.
وقال القرطبي: السحر؛ حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك، كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون:{وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالا وعصيًا، ثم قال: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب؛ كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكر أن الجماد ينقلب حيوانًا أو عكسه بسحر الساحر ونحو ذلك. انتهى.
وقال الهروي: معنى السحر؛ قلب الشيء في عين الإنسان، وليس بقلب الأعيان. انتهى.
وقد ذم الله تبارك وتعالى السحر والساحر، وأخبر أنه من المفسدين في
(1)
الأغتام: العجم، والغتمة؛ عجمة في المنطق، ورجل أغتم، وغتمي؛ لا يفصح شيئا. [يُنظر: لسان العرب مادة غتم].
الأرض، وحكم عليه بالخسران في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى:{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، وقال تعالى:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس: 77]، وقال تعالى:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يسعد حيث كان. ذكره البغوي في تفسيره، وقال تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] أي من حظ ولا نصيب، {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي: لبئس ما باعوا به أنفسهم {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
وروى عبد الرزاق، عن صفوان بن سليم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من تعلم شيئا من السحر قليلًا كان أو كثيرًا كان آخر عهده من الله» وهذا مرسل.
وتقدم حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له» الحديث رواه البزار بإسناد جيد.
وتقدم أيضًا حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل» فذكر الحديث وفيه: «ليس مني من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له» رواه أبو نعيم في الحلية.
وتقدم أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه» رواه النسائي.
وتقدم أيضا حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعند ابن حبان قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال: شيء يصنعه النساء؛ يتحببن به إلى أزواجهن.
وعند الحاكم قال: التولة ما يهيج النساء.
وفي رواية: هو الذي يهيج الرجال.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في (المغني): تعلم السحر وتعليمه حرام، لا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: وكذلك هو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام كما قال تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].
قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: وي
كفر الساحر
بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، ثم استدل لذلك بقول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا
…
} إلى قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [سورة البقرة: 102] أي لا تتعلمه فتكفر بذلك.
وقال الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله تعالى في
كتابه (الإشراف على مذاهب الأشراف): اختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله:
فقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: يكفر بذلك.
ومن أصحاب أبي حنيفة مَن قال: إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومَن تعلمه معتقدًا جوازه أو أنه ينفعه كفر، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر؛ مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها، فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته فهو كافر. انتهى.
قلت: وما قاله بعض أصحاب أبي حنيفة من التفصيل مردود عليهم؛ لأن الله تعالى أخبر أن معلم السحر كافر ومتعلمه كافر، وأطلق ولم يقيد، قال تعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} إلى قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ، ففي أول الآية دليل على كفر معلم السحر، وفي آخرها دليل على كفر متعلمه، وليس فيها ما يدل على استثناء حالة دون حالة، والله أعلم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} وذلك أنهما علما الخير والشر، والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر.
واستدلت طائفة أخرى من السلف على تكفير الساحر بقوله تعالى:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103]، ووجه الدلالة منها ظاهر، وهو أن تعلم السحر وتعليمه ينافي الإيمان والتقوى، فيكون الساحر كافرًا، والله أعلم.
ورُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال: الكاهن ساحر والساحر كافر. ذكره الذهبي في كتاب (الكبائر).
ورُوي في ذلك حديث مرفوع، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الهدي): روينا من حديث أبي علي الحسن بن الحسين بن دوما، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما يرفعه «كفر بالله العظيم عشرة من هذه الأمة؛ القاتل والساحر
…
» وذكر تمام الحديث.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: ترى خلقًا كثيرًا من الضُلاَّل يدخلون في السحر ويظنونه حرامًا فقط، وما يشعرون أنه الكفر، فيدخلون في تعليم السيمياء وعملها وهي محض السحر، وفي عقد الرجل عن زوجته وهو سحر، وفي محبة الرجل للمرأة وبغضها له، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة أكثرها شرك وضلال. انتهى.
قلت: السيمياء: تشتمل على أنواع من السحر، منها النواميس والمخاريق، والتدخينات والتعافين، والمراقيد والإخفاءات، والطلسمات والنيرنجات وغير ذلك، وذكر بعضهم أنها تبلغ ثلاثين بابًا، وكلها من السحر.
فأما النواميس فمعناها عندهم: إظهار العجائب والغرائب؛ كالطيران في الهواء، والمشي على الماء، وقطع المسافة الطويلة في وقت يسير، والكلام على ما في الخواطر، ونحو ذلك مما تُعمله لهم الشياطين.
وأما المخاريق: فمعناها التخييلات والإيهامات بما لا حقيقة له.
وأما التدخينات: فيعملونها للمخرقة على الناس، ولجمع الحيات، ولغير ذلك من السحر.
وأما التعافين: فهي أشياء يدفنها الساحر حتى تتعفن، فيتمكن حينئذ من عمل السحر بها.
وأما المراقيد: فهي أشياء يعملها السحرة للتنويم.
وأما الإخفاءات: فهي أن يعمل الساحر أعمالًا يسحر بها الأبصار فلا تراه.
وأما الطلسمات: فهي ضرب من التنجيم، ومعناها عندهم استنزال الروحانيات العلوية المنسوبة للكواكب.
وأما النيرنجات: فهي الصرف والعطف؛ أعني عمل ما يحبب أو يبغض، وكذلك عمل ما يضر بالقلب أو البدن ونحو ذلك، فكل هذه من أعمال الشياطين، يعملونها لمن أطاعهم في معصية الله وأرضاهم بسخط الله.
والكلام في حد الساحر وتوبته مبسوط بأدلته في كتب الأحكام فلا حاجة إلى ذكره ههنا، وإنما المقصود التحذير من تعلم السحر وتعليمه، وإتيان السحرة ونحوهم من الكهان والعرافين والمنجمين وتصديقهم فيما قالوه؛ لأن ذلك كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
ونذكر ههنا أنواع السحر التي تعمل كثيرًا في هذه الأزمان؛ لتجتنب، ويُنكَر على فاعليها ومن يأتي إليهم ويصدقهم.
فمن ذلك ما يسمى عندنا بالتقمير، وهو أن يسحر أعين الناظرين ثم
يخيل إليهم أشياء من العجائب والغرائب، مثل أن يريهم أنه يقطع بعض أعضائه أو أعضاء غيره ثم يردها إلى حالتها الأولى، ويريهم أنه يجرح نفسه جروحًا موحية يسيل منها الدم الكثير ثم تبرأ في الحال ولا يبقى لها أثر، ويريهم أنه يقطع رأس غيره ثم يرده في موضعه، ويريهم أنه يمشي على الماء ويدخل النار ويبتلع الجمر، ويدخل ويخرج من المنافذ الضيقة جدا وفي بطون الحيوانات، ويغرز العصا الدقيقة في الأرض ويرقى فوقها، وربما نكس نفسه عليها فكان رأسه مما يلي العصا ورجلاه من فوق، ويريهم الإنسان في صورة الحيوان، والحيوان في صورة الإنسان، والجماد في صورة المتحرك والمتحرك في صورة الساكن، ويريهم الشيء الكبير جدًا بغاية الصغر، والصغير جدًا بغاية الكبر، إلى غير ذلك من الإيهامات التي لا حقيقة لها في نفس الأمر، وإنما هي مخرقة وتخييل على العيون لا غير، وهذا من أخبث أنواع السحر، وهو سحر سحرة فرعون، قال الله تعالى:{فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، وقال تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66].
وروى البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه، عن أبي عثمان النهدي قال: كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنسانًا وأبان رأسه فعجبنًا، فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله.
ورواه أبو بكر الخلال، عن عبد الله ابن الإمام أحمد، عن أبيه، عن يحيى بن سعيد، عن أبي إسحاق، عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل
يلعب، فجاء جندب مشتملًا على سيفه فقتله، قال: أراه كان ساحرًا.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى بسنده إلى الأسود، أن الوليد بن عقبة كان بالعراق يلعب بين يديه ساحر، فكان يضرب رأس الرجل، ثم يصيح به فيقوم صارخًا، فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله، يحي الموتى! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان من الغد اشتمل على سيفه، فذهب يلعب ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنقه وقال: إن كان صادقًا فليحي نفسه، فأمر به الوليد دينارًا -صاحب السجن- فسجنه.
وروي أبو الفرج الأصفهاني بإسناده أن ساحرًا كان عند الوليد بن عقبة، فجعل يدخل في جوف بقرة ويخرج، فرآه جندب رضي الله عنه فاشتمل على سيفه، فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب: أتأتون السحر وأنتم تبصرون؟! ثم ضرب وسط البقرة فقطعها وقطع الساحر معها، فانذعر الناس، فحبسه الوليد وكتب بذلك إلى عثمان رضي الله عنه، وكان على السجن رجل نصراني، فلما رأى جندبًا يقوم الليل ويصبح صائمًا قال النصراني: والله إن قومًا هذا شرهم لقوم صدق، فوكل بالسجن رجلًا ودخل الكوفة، فسأل عن أفضل أهلها؟ فقالوا: الأشعث بن قيس، فاستضافه فرآه ينام الليل ويصبح فيدعو بغدائه، فخرج من عنده وسأل: أي أهل الكوفة أفضل؟ فقالوا: جرير بن عبد الله، فوجده ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه، فاستقبل القبلة فقال: ربي رب جندب، وديني دين جندب، وأسلم.
ومما يشبه هذا النوع من السحر في الصورة الظاهرة ما أحدثه شياطين الإنس في هذه الأزمان المتأخرة؛ وهي الآلة الخبيثة المعروفة بالسينما؛
لأن مبناها على التخييلات التي لا حقيقة لها في نفس الأمر، وقد قال الله تعالى عن سحرة فرعون:{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، فأخبر سبحانه وتعالى أنهم سحروا أعين الناس؛ حتى خيلوا إليهم أن الحبال والعصي تسعى باختيارها وليست كذلك في نفس الأمر، وهكذا السينما إنما هي تخييلات إلى الناظرين بما ليس له حقيقة في نفس الأمر، وقال تعالى:{فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف: 116]، وهكذا أهل السينما يضعون فيها من التخييلات أشياء كثيرة تفزع الناظرين إليها وتسترهبهم، فمن ذلك أنهم يمثلون فيها ساحة القتال حين يلتقي الجمعان ويتقابل الصفان، فيتبارز الشجعان، ويتصاول الأقران، ويصيح بعضهم ببعض ثم يختلطون، فيتضاربون بالسيوف، ويتطاعنون بالرماح وأنواع الأسلحة، ويجندل بعضهم بعضًا مما بين قتيل وما بين جريح متضمخ بدمائه يئن مما به، ويمثلون فيها أيضا من التخييلات المكذوبة ما يدهش الناظرين؛ كالرجل يقتلع النخلة العظيمة فيحملها على عاتقه، وكالرجل يحمل الصخرة العظيمة التي لا يطيق حملها الجماعات من الناس، إلى غير ذلك من المخرقة والتمويه والشعوذة الهائلة التي لم يصل إليها سحر سحرة فرعون ولا غيرهم، ومن ذلك أنهم يمثلون فيها السحاب والبرق والرعد والصواعق ونزول المطر من السماء، وغير ذلك من الأشياء التي تعجز عنها القدرة البشرية.
وبالجملة فينبغي عد السينما من أعظم فنون السحر التخييلي؛ لأن جميع ما يأتي به أهل السحر التخييلي يمكن الإتيان به فيها وزيادة، ولا يستريب
في تحريم اتخاذها والحضور عندها إلا جاهل غبي لا علم له بمدارك الأحكام، فأما من نور الله قلبه بنور العلم والإيمان فإنه لا يشك في تحريم اتخاذها والحضور عندها؛ لأنها من السحر، ولعلل أخرى يأتي بيانها في ذكر الملاهي إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: إن السينما صناعة معروفة، ترسم فيها الصور، وأنواع المرئيات، ويسجل فيها الكلام وأنواع الأصوات، ويدار جميع ذلك بالآلات التي تبرز المرئيات للناظرين والأصوات للسامعين فليست من قبيل السحر.
قيل: قد قدمنا أن السحر عبارة عما لطف مدركه وخفي سببه، ومعلوم أن مدارك السينما من ألطف المدارك، وأن الآلات التي تديرها خفية جدًا بحيث إن الحاضرين عندها إنما يرون الصور وأنواع المرئيات تمر عليهم ويسمعون الكلام وأنواع الأصوات تطرق سماعهم ولا يرون شيئا يدير ذلك ويأتي بما فيها ويذهب به، ولا ريب أن هذا من ألطف السحر، وقد عد بعض المفسرين في فنون السحر أشياء دون السينما بكثير.
قال الرازي: النوع الخامس من السحر: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية؛ كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصوروها ضاحكة وباكية -إلى أن قال-: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل، قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: يعني ما قاله بعض المفسرين أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقًا؛ فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها. انتهى.
وهذا النوع الذي ذكره الرازي في فنون السحر، وأقره الحافظ ابن كثير على ذلك، يعد كلا شيء بالنسبة إلى السينما، ولولا أن الناس قد عرفوا السينما حق المعرفة واعتادوا رؤيتها لكان رهبهم مما يرون فيها عظيمًا، ولكان شأنها عندهم فوق جميع فنون السحر، فالواجب على ولاة أمور المسلمين منع السفهاء من اتخاذها والحضور عندها، ومنع من في ولاياتهم من أهل الذمة من إظهارها.
ومن السحر الفاشي في هذه الأزمان أيضا: الصرف والعطف.
فالصرف: إيقاع العداوة والبغضاء بين المتحابين، وعقد الرجل عن امرأته، فلا يقدر على وطئها، وحبس الرجل عن التزوج بغير زوجته، والتفريق بين المرء وزوجه أو تبغيض أحدهما إلى الآخر ونحو ذلك.
وقد روي أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: يا أم المؤمنين، ما على المرأة إذا عقلت بعيرها؟ فقالت عائشة رضي الله عنها ولم تفهم مرادها: ليس عليها شيء، فقالت: إني عقلت زوجي عن النساء، فقالت عائشة رضي الله عنها: أخرجوا عني هذه الساحرة.
وأما العطف: فهو التولة وما في معناها، وبعض أهل هذه الأزمان يسمى ذلك صرفًا أيضًا، وهذا النوع من السحر يكون بعقد يعقدها الساحر وينفث فيها، ويكون بالرقى الشركية، ويكون بأدوية توضع في طعام المسحور أو
شرابه أو يبخر بها أو تذر عليه، ويكون بغير ذلك مما تعمله الشياطين للسحرة، وكثيرًا ما يؤثر هذا السحر في العقول بالنقص والتغيير، وفي القلوب بالحب والبغض، وفي الأبدان بالسقم والألم، وربما آل بالمسحور إلى الهلاك، وقد قال الله تعالى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، ومن هذا الباب سحر لبيد بن الأعصم اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وكان السحر قد أثر في بدنه الشريف؛ حتى مرض منه أيامًا بأبي هو وأمي ونفسي صلوات الله وسلامه عليه، وأما قلبه وعقله فلم يصل إليهما السحر بل حماهما الله تعالى وصانهما، وما كان الله تعالى ليسلط السحرة والشياطين على قلب رسوله ومقر وحيه وتنزيله، هذا لا يكون أبدًا، وأما بدنه فهو عرضة للأسقام والآلام كسائر البشر، وذلك لا يحط من قدره شيئًا بل هو مما يزيده أجرًا وثوابًا يوم القيامة.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنهما قالت: ما رأيت أحدًا أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيهما أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا شديدًا! قال:«أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم» قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: «أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها» .
وفي سنن ابن ماجة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخلت على
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك! قال:«إِنّا كذلك يضعف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر» قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال:«الأنبياء» قلت: يا رسول الله، ثم من؟ قال:«ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلي بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء» .
ورواه البخاري في (الأدب المفرد) بنحوه.
ورواه الحاكم في مستدركه بنحوه، وعنده قال: يا رسول الله، من أشد الناس بلاء؟ قال:«الأنبياء» قال: ثم من؟ قال: «العلماء» قال: ثم من؟ قال: «الصالحون، كان أحدهم يبتلى بالفقر؛ حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ويبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أشد فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه.
وروى الإمام أحمد، والدارمي، وأهل السنن إلا أبا داود، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال:«الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضًا ابن حبان، والحاكم وقال: على شرط الشيخين، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض، مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته، وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طُرُوُّهُ عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها ولا فضل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما كان. انتهى.
ومن السحر الفاشي في هذه الأزمان أيضا: النشرة المحرمة؛ وهي حل السحر بسحر مثله، ومنه صب الرصاص المذاب في إناء فيه ماء على رأس المسحور ليزول عنه السحر بزعم بعضهم، أو لترتسم صورة الساحر في الرصاص كما يزعمه آخرون، وكل هذا من أفعال الشياطين.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود بإسناد جيد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة، فقال:«هو من عمل الشيطان» .
وروى أبو نعيم في الحلية، من حديث شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن النشرة، فقال: ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم «إنها من عمل الشيطان» .
قال الخطابي رحمه الله تعالى: النشرة: ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يظن به مس الجن، وقيل: سمي نشرة لأنه ينشر بها عنه، أي يحل عنه ما خامره من الداء، ثم روى بإسناده عن الحسن أنه قال: النشرة من السحر.
وذكر ابن الجوزي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر، قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: لا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور، والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة، فهذا جائز.
وقال أيضًا: ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويته النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عدته وسلاحه فأيهما غلب الآخر قهره وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من حب الله معمورًا بذكره، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان، وفي الحديث:«لم يتعوذ المتعوذون بمثلهما» وكذلك قراءة آية الكرسي، فإنها مطردة للشيطان.
قلت: وكذلك فاتحة الكتاب، فإنها من أنجع الدواء، وقد رقى بها بعض الصحابة رضي الله عنهم لديغًا، فقام في الحال كأنما نشط من عقال، ولما أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال:«وما يدريه أنها رقية؟» .
وفي سنن ابن ماجة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، عن أبيه أبي ليلي قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه أعرابي فقال: إن لي أخًا وجعًا، قال:«وما وجع أخيك؟» قال: به لمم، قال:«اذهب فأتني به» قال: فذهب فجاء به فأجلسه بين يديه، فسمعته عوَّذه بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول البقرة، وآيتين من وسطها، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، وآية الكرسي، وثلاث آيات من خاتمتها، وآية من آل عمران أحسبه قال:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، وآية من الأعراف {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} ، وآية من المؤمنين {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ، وآية من الجن {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} ، وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر الحشر، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، فقام الأعرابي قد برأ ليس به بأس. فهذه الرقية من أنفع العلاج لمن أصيب بسحر أو جنون أو عين أو حُمّه أو غير ذلك من الأمراض.
وروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور، والآية التي في سورة يونس {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} إلى قوله:{وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ، وقوله:{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إلى آخر الآيات الأربع، وقوله: {إِنَّمَا
صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}.
وهذه الرقى الجليلة يكون تأثيرها بحسب إيمان الراقي وتوجهه إلى الله تعالى وتعلق قلبه به، فكلما كان إيمانه أقوى، وتوجهه إلى الله أعظم كان أسرع لإجابة دعوته، وتيسير طلبته، وتأثير رقيته بإذن الله تعالى وحوله وقوته.
وحيث إن الدين قد ضعف جانبه في هذه الأزمان وعاد غريبًا كما بدأ؛ صار الأكثرون لا يعبأون بالرقي القرآنية والأدعية النبوية، ولا يرونها تفيد شيئًا، وصاروا يعظمون السحرة والكهان والعرافين ويصدقونهم بالباطل، فإذا أصيب أحدهم بسحر أو غلبت عليه الأوهام والظنون أن به سحرًا بادر إلى إتيان السحرة والكهان والعرافين لعلهم أن يحلوا عنه السحر ولو بسحر مثله، أو يرقوه ولو بالرقى الشركية، أو يخبروه بموضع السحر ليخرجه، أو بمن سحره ليطالبه بحل سحره، وكذلك يفعل كثير من الناس إذا أصيب أحدهم بعين أو مس من الجن أو ظن أن به إصابة العين أو الجن، فإذا ذكر لهم أحد من الكهان أو العرافين ومن يتهم باستخدام الشياطين بادروا إلى إتيانهم لعلهم أن يرقوه، أو يخبروه بالعائن ونحوه، وهذا من مكر الشيطان وتلاعبه بهم، وقد تقدم قريبًا ذكر الأحاديث الواردة في ذم من أتى ساحرًا أو كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول.
وروى الإمام أحمد، والطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يدخلون الجنة؛ مدمن الخمر، وقاطع الرحم، مصدق بالسحر
…
» الحديث.
وروى الإمام أحمد أيضًا، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة صاحب خمس؛ مدم خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم، ولا كاهن، ولا منان» .
وما أكثر من يأتيهم ويصدقهم بالباطل، ولا يبالي بالذم والوعيد على ذلك، فالله المستعان.
ومن السحر أيضا: التنجيم.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: التنجيم: هو الاستدلال بالأحوال الفلكية وحركات النجوم على الحوادث.
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان، كأخبارهم بأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، وما كان في معانيها من الأمور، يزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب في مجاريها وباجتماعها واقترانها، ويدعون لها تأثيرا في السلفيات، وأنها تتصرف على أحكامها وتجري على قضايا موجباتها، وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاطٍ لعلم استأثر الله سبحانه به، لا يعلم الغيب أحد سواه. انتهى.
وقد روى أبو نعيم في الحلية، عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى أنه قال: كذبوا والله، ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يتبعون الكهنة، ويتخذون النجوم علة، ثم قرأ {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222].
وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: قال قتادة: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} خلق هذه النجوم لثلاث؛ جعلها زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدي بها، فمن تأول بغير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): وصله عبد بن حميد، من طريق شيبان عنه به، وزاد في آخره: وإن ناسًا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة، من أعرس بنجم كذا كان كذا، ومن سافر بنجم كذا كان كذا، ولعمري ما من النجوم نجم إلا ويولد به الطويل والقصير، والأحمر والأبيض، والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم، وهذه الدابة، وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب. انتهى.
ورواه ابن أبي حاتم بنحوه، وزاد في آخره: وقضى الله أنه {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} .
ورواه الخطيب في كتاب (النجوم) وزاد في آخره: ولو أن أحدًا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء.
وقد أورده الحافظ ابن كثير في تفسيره من رواية ابن أبي حاتم، ثم قال الحافظ: هو كلام جليل متين صحيح. انتهى.
وقال الداودي: قول قتادة في النجوم حسن إلا قوله: أخطأ وأضاع نصيبه؛ فإنه قصر في ذلك، بل قائل ذلك كافر.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: صناعة التنجيم والاستدلال بها على الحوادث محرم بإجماع المسلمين، وأخذ الأجرة على ذلك سحت، ويمنعون من الجلوس في الحوانيت والطرقات، ويمنع الناس أن يكرموهم، والقيام في منعهم عن ذلك من أفضل الجهاد في سبيل الله تعالى. انتهى.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد» .
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتبس بابًا من علم النجوم لغير ما ذكر الله فقد اقتبس شعبة من السحر، والمنجم كاهن، والكاهن ساحر، والساحر كافر» رواه رزين.
وروى عبد بن حميد، عن رجاء بن حيوة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة» .
وروى ابن عساكر عن أبي محجن الثقفي مرفوعًا نحوه.
وروى أبو يعلي، وابن علي، والخطيب في كتاب (النجوم)، عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا:«أخاف على أمتي من بعدي خصلتين؛ تكذيبا بالقدر، وتصديقًا بالنجوم» .
إذا عرف هذا؛ فلا يخفى أن التنجيم كثير في هذه الأزمان، وكثيرًا ما ينشره أعداء الله في الإذاعات والصحف، فيصدق به الفئام من الناس
لجهلهم بتحريم ذلك، وأنه من الإيمان بالطاغوت والكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
وكثيرًا ما يتفق المنجمون على حدوث أمر مستقبل، فيفضحهم الله ويبطل قولهم، ويجعل الأمر بعكس ما زعموه، ليعلم الجاهلون بحالهم أنهم كذبة متخرصون {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 23].
وقد حدثني بعض قضاة المدينة النبوية أن المنجمين في الهند أجمعوا على أنه في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا يكون في المدينة ريح عاصف، وظلمة وصواعق، ومطر عظيم، وبرد كثير، فصدقهم الجهال بهذا الباطل وارتقبوا وقوع ذلك، فلما جاء اليوم الموعود كان الأمر فيه بعكس قول أعداء الله تعالى، فكانت الريح ساكنة لا تحرك شيئًا، وكان الجو صافيا جدًا ولم يكن غيم، ولا شيء مما زعموا وقوعه.
قلت: وكذب المنجمين بنحو هذا كثيرا جدًا، وكله من التحكم على الغيب، والتعاطي لما استأثر الله به، قال الله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26]، وقال تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} [لقمان: 34]، وما أحسن ما قيل:
إني بأحكام النجوم مكذّب
…
ولمدّعيها لائمٌ ومؤنبُ
الغيب يعلمه المهيمن وحده
…
وعن الخلائق أجمعين مغيّبُ
اللهُ يُعطي وهو يمنع قادرا
…
فمن المنجم ويحَهُ والكوكبُ
وقال الخليل بن أحمد:
أبلغا عني المنجم أني
…
كافر بالذي قضته الكواكب
عالم أن ما يكون وما كا
…
ن قضاء من المهيمن واجب
ومن السحر أيضا: العيافة والطرق والطيرة؛ لما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، عن قطن بن قبيصة، عن بيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت» .
قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض، والجبت؛ قال الحسن: إنه الشيطان.
وقال أبو داود رحمه الله تعالى: الطرق: الزجر، والعيافة: الخط، ثم روى عن عوف الأعرابي أنه قال: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض.
وقال أبو عبيد رحمه الله تعالى: العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وكان من عادة العرب كثيرًا.
وقال ابن الأثير: الطرق: الضرب بالحصى الذي يفعله النساء، وقيل: هو الخط في الرمل.
وذكر الخطابي رحمه الله تعالى عن ابن الأعرابي: أنَّ صورة الخط أنْ
يقعد الحازي، ويأمر غلامًا له بين يديه، فيخط خطوطًا على رمل أو تراب، ويكون ذلك منه في خفة وعجلة؛ كيلا يدركها العد والإحصاء، ثم يأمره فيمحوها خطين خطين وهو يقول: ابنَي عيان، أسرِعا البيان، فإن كان آخر ما يبقى منها خطين فهو آية النجاح، وإن بقي خط واحد فهو الخيبة والحرمان.
وذكر أبو السعادات ابن الأثير عن الحربي أنه قال: الخط: هو أن يخط ثلاث خطوط ثم يضرب عليهم بشعير أو نوي ويقول: يكون كذا وكذا، وهو ضرب من الكهانة. انتهى.
قلت: وأكثر من يستعمل الكهانة بالخط، والضرب بالحصى والودع ونحو ذلك في زماننا نساء البادية، وما أحسن قول لبيد بن ربيعه رضي الله عنه:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى
…
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وقال غيره:
الزجر والطير والكهان كلهم
…
مضللون ودون الغيب أقفال
وقال آخر، وهو تاج الدين الكندي ذكره عنه في دائرة المعارف:
دَعْ المنجمَ يكبو في ضلالته
…
إن ادّعى علم ما يجري به الفلك
تفرد الله بالعلم القديم فلا الـ
…
إنسان يشركه فيه ولا الملك
والفلاسفة يسمون الخط: الرمل، ولعمله وصورته عندهم شكل آخر غير ما ذكره أئمة اللغة، فهم يجعلون للخط بيوتًا كثيرة، ويزعمون أنهم يعرفون بدلالتها السعود والنحوس، وما في الأرحام والضمائر، وغير ذلك من المغيبات.
وكل ذلك سحر وكهانة ورجم بالغيب، فمن أتى أحدًا منهم وصدقه بما يقول فهو ممن آمن بالجبت والطاغوت وكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
قال عمر رضي الله عنه، والشعبي، ومجاهد: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان.
وقال محمد بن سيرين، ومكحول: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر.
وقال سعيد بن جبير، وأبو العالية: الجبت: الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت: الكاهن.
وقال الجوهري: الجبت: كلمة تقع على الصنم، والكاهن، والساحر، ونحو ذلك.
وقال القاضي: الجبت في الأصل: الفسل الذي لا خير فيه، ثم استعير لما يعبد من دون الله، وللساحر والسحر لخساستها وعدم اعتبارها.
ومن السحر أيضًا: المشي بالنميمة والإفساد بين الناس؛ لما رواه الإمام أحمد، ومسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ألا أنبئكم ما العضه، هي النميمة القالة بين الناس» .
وروى البخاري في (الأدب المفرد)، والبيهقي في سننه، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أتدرون ما العضه؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«نقل الحديث من بعض الناس إلى بعض ليفسدوا بينهم» .
قال النووي رحمه الله تعالى: العَضْه بفتح العين المهملة وإسكان الضاد المعجمة وبالهاء على وزن الوَجْه، وروي العِضَه بكسر العين وفتح الضاد
المعجمة على وزن العِدَة، وهي الكذب والبهتان، وعلى الرواية الأولى العَضْة مصدر، يقال: عضهه عضهاً؛ أي رماه بالعضه. انتهى.
قال أبو عبيد الهروي: ومنه الحديث أنه لعن العاضهة والمستعضهة، قيل: هي الساحرة والمستسحرة، وسمي السحر عضها؛ لأنه كذب وتخييل لا حقيقة له. انتهى.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ} [الحجر: 91]، قال: السحر.
وقال عكرمة: العضه: السحر بلسان قريش.
وأما القالة: فهي كثرة القول، وإيقاع الخصومة بين الناس بما يحكي للبعض عن البعض. قاله أبو السعادات ابن الأثير رحمه الله تعالى.
وإنما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم على النميمة اسم السحر لجامع بينها وبين السحر وهو الإفساد بين الناس؛ فكما أن الساحر يتوصل بسحره إلى إفساد ذات البين، فيفرق بين المرء وزوجه، ويوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين، ويثير الخصومة والشقاق بين الناس، ويبث فيهم أنواع الشر والفساد؛ فكذلك النمام يتوصل بالنميمة إلى ما ذُكر وأكثر منه، فهو من هذه الحيثية شر من الساحر وأعظم منه ضررًا.
وقد روى أبو نعيم في الحلية، عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى أنه قال: يفسد النمام في ساعة، ما لا يفسده الساحر في شهر.
وذكر ابن عبد البر عنه أنه قال: يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة.
وقال أبو الخطاب في (عيون المسائل): ومن جملة السحر المحرم السعي بين الناس بالنميمة والإفساد بينهم، وذلك شائع وعام في الناس.
قال في الفروع: لأنه يقصد أذى الناس بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة، فأشبه السحر، ولهذا يعلم بالعادة والعرف أنه يؤثر وينتج ما يعمله السحر وأكثر منه، فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين، لكن يقال: إن الساحر إنما كفر بوصف السحر، وهو أمر خاص ودليله خاص، وهذا ليس بساحر، وإنما يؤثر عمله تأثير السحر ويعطى حكمه، إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة. انتهى ملخصًا.
إذا عرف هذا، فالنميمة من الكبائر؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» . متفق عليه.
وفي رواية للبخاري: «وما يعذبان في كبير» ثم قال: «بلى» .
وفي أخرى له: «وما يعذبان في كبيرة وإنه لكبير» وذكر تمام الحديث.
وقد حكى الإجماع على تحريم النميمة كثير من الأئمة، وورد الوعيد الشديد للنمام، قال الله تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} إلى قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 10،11 - 16].
وفي الصحيحين وغيرهما عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة قتات» .
وفي رواية لمسلم: «نمام» .
قال أبو عبيد الهروي: القتات: هو النمام، يقال: قت الحديث يقته إذا زوره وهيأه وسواه، وقيل: النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم عليهم، والقتات: الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم، والقساس: الذي يسأل عن الأخبار ثم ينمها.
وقال الراغب الأصفهاني: النم: إظهار الحديث بالوشاية، والنميمة: الوشاية، وأصل النميمة الهمس والحركة الخفيفة.
وقال أبو السعادات ابن الأثير: النميمة: نقل الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد والشر. انتهى.
وما أكثر المشائين بالنميمة، المفرقين بين الأحبة، الباغين للبرآء العيب والعنت، فيجب الإنكار عليهم، والتحذير من طاعتهم والإصغاء إليهم؛ لقول الله تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10 - 11].
ومن السحر أيضا: بعض البيان؛ وهو ما يخلب القلوب ويغلب على النفوس ويصرف الشيء عن وجهه، وهو كثير جدًا في هذه الأزمان، ومنه مذموم ومنه جائز كما سيأتي بيانه في كلام الأئمة.
والدليل على أنه من السحر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرًا» رواه مالك، وأحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ورواه الإمام أحمد أيضًا، ومسلم، من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه.
ورواه الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والبخاري في (الأدب الفرد)،
والحاكم في مستدركه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ورواه الإمام أحمد أيضا، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ورواه الإمام أحمد أيضا، من حديث معن بن يزيد، أو أبي معن رضي الله عنه.
ورواه البخاري في (الأدب المفرد) والتاريخ، من حديث أبي يزيد، أو معن بن يزيد رضي الله عنه.
ورواه أبو داود أيضا، من حديث بريدة رضي الله عنه، وعنده، فقال صعصعة بن صوحان: صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق.
وقال أبو عبيد الهروي: أي منه ما يصرف قلوب السامعين وإن كان غير حق، وقيل: معناه أن من البيان ما يكتسب به من الإثم ما يكتسبه الساحر بسحره، فيكون في معرض الذم، ويجوز أن يكون في معرض المدح؛ لأنه يستمال به القلوب ويترضى به الساخط ويستنزل به الصعب.
وقال أيضًا: البيان: إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب، قيل: معناه أن الرجل يكون عليه الحق وهو أقوم بحجته من خصمه فيقلب الحق ببيانه إلى نفسه؛ لأن معنى السحر قلب الشيء في عين الإنسان وليس بقلب الأعيان، ألا ترى أن البليغ يمدح إنسانًا حتى يصرف قلوب السامعين إلى حبه، ثم يذمه حتى يصرفها إلى بغضه.
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: البيان اثنان:
أحدهما: ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان.
والآخر: ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه بالسحر إذا خلب القلب وغلب على النفس، حتى يحول الشيء عن حقيقته ويصرفه عن جهته، فيلوح للناظر في معرض غيره، وهذا إذا صرف إلى الحق يمدح، وإذا صرف إلى الباطل يذم.
قال: فعلى هذا فالذي يشبه بالسحر منه هو المذموم.
وقال أيضًا: اختلف الناس في هذا وفي تأويله.
فقال بعضهم: وجهه أنه ذم التصنع في الكلام، والتكلف لتحسينه وتزويقه ليروق السامعين قوله ويستميل به قلوبهم، فيحيل الشيء عن ظاهره، ويزيله عن موضوعه إرادة التلبيس عليهم، فيصير ذلك بمنزلة السحر الذي هو -أو نوع منه- تخييل لما لا حقيقة له، وتوهيم لما ليس له محصول، والسحر منه مذموم، وكذلك المشبه به.
وقال آخرون: بل القصد به مدح البيان، والحث على تخير الألفاظ والتأنق في الكلام.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أن رجلا طلب إليه حاجة -كان يتعذر عليه إسعافه بها- فرقق له الكلام فيها حتى استمال به قلبه، فأنجزها له ثم قال: هذا هو السحر الحلال. انتهى.
والقول الأول أولى؛ لأن السحر مذموم، فكذلك ما شابهه من البيان المزوق.
والدليل على أنه للذم ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري رحمه الله تعالى في (الأدب المفرد) بإسناد جيد، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قدم رجلان من المشرق خطيبان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاما فتكلما ثم قعدا، وقام ثابت بن قيس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم، فعجب الناس من كلامهما، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال:«يا أيها الناس قولوا قولكم، فإنما تشقيق الكلام من الشيطان» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان سحرًا» .
وقال أبو موسى المديني: تشقيق الكلام: التطلب فيه ليخرجه أحسن مخرج.
وروى الإمام أحمد أيضا، من حديث معاوية رضي الله عنه مرفوعًا:«لعن الله الذين يشققون الخطب تشقيق الشعر» .
قال المناوي في (شرح الجامع الصغير): الشعر بكسر الشين، وسكون العين؛ أي: يلوون ألسنتهم بألفاظ الخطبة يمينًا وشمالًا، ويتكلف فيها الكلام الموزون المسجع؛ حرصا على التفصح، واستعلاء على الغير تيهًا وكبرًا، يقال: تشقق في الكلام والخصومة إذا أخذ يمينا وشمالا وترك القصد وتصلف وتكلف ليخرج الكلام أحسن مخرج. انتهى.
وروى البخاري في (الأدب المفرد) من حديث أنس رضي الله عنه قال: خطب رجل عند عمر فأكثر الكلام، فقال عمر رضي الله عنه: إن كثرة الكلام في الخطب من شقاشق الشيطان.
الشقاشق: جمع شقشقة بكسر الشين، وهي ما يخرجه الجمل في فيه إذا
هاج كالرئة.
قال أبو عبيد الهروي: الشقشقة: الجلدة الحمراء التي يخرجها الجمل العربي من جوفه ينفخ فيها فتظهر من شدقه، ولا تكون إلا للعربي، شبه الفصيح المنطيق بالفحل الهادر، ولسانه بشقشقته، ونسبها إلى الشيطان لما يدخل فيه من الكذب والباطل، وكونه لا يبالي بما قال.
ومما يدل أيضا على أنه للذم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، قال: وفي الباب عن سعد رضي الله عنه.
قال أبو السعادات ابن الأثير: هو الذي يتشدق في الكلام، ويفخم به لسانه، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفًا. انتهى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلَّم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً» رواه أبو داود.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء والعِيُّ شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق» رواه الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
قال الترمذي رحمه الله تعالى: العيّ قلة الكلام، والبذاء هو الفحش في
الكلام، والبيان هو كثرة الكلام، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيتوسعون في الكلام ويتفصحون فيه من مدح الناس فيما لا يرضي الله. انتهى.
فهذا ونحوه من تكلف الفصاحة بالثرثرة، والتشدق، ومدح الناس وذمهم هو البيان المذموم، وهو الغالب على خطباء زماننا، والمتأكلين فيه بألسنتهم وأقلامهم.
وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره ويرغب فيه، ويبطل الباطل ويبينه وينفر منه فهو ممدوح مرغب فيه، وليس من السحر في شيء، وإنما السحر ما قصد به الباطل، وما اجتلبت به الأمور الدنيوية، والله أعلم.
وقد تقدم في أول الكتاب حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها» رواه الإمام أحمد، وأشار إليه الترمذي في جامعه.
وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أخبر عما سيقع في آخر الزمان، فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، وقد كثر هذا الضرب من الناس في زماننا، ودخل معهم كثير من المنتسبين إلى العلم والأدب، ولهم في تحصيل الحطام طرق شتى، فمنهم من يستعمل بلاغته وبيانه في الخطابة بين يدي الملوك والأكابر؛ فيتكلف الفصاحة وتحسين الكلام وتزويقه، ويتشدق فيه ويفخم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفًا، وأكثرهم لا يتقيد بالجائز من الكلام، بل يتعدى إلى المنهي عنه من إطراء الملوك والرؤساء ومدحهم بما ليس فيهم، وربما تعدَّى بعضهم
إلى تشريكهم بالله تعالى فيما هو من خصائص الربوبية والألوهية، وقد رأينا وسمعنا وبلغنا من ذلك الشيء الكثير.
ومنهم من يتأكل بشعره، ومنهم من يتأكل بما ينشره في الجرائد والمجلات ومقدمات الكتب؛ من مدح الملوك والأكابر، وكلما زادوه قليلاً من حطام الدنيا زاد في إطرائهم ومدحهم بما ليس فيهم.
ومنهم من ينشر الطعن والسباب في الجرائد والمجلات، لعله أن يعطى لاتقاء شره، ومنهم من يتأكل بتصنيف الكتب في مدح الملوك وإطرائهم وتمجيدهم بما ليس فيهم، لعله أن يحظى بذلك عندهم ويحصل له الجاه والمال وغير ذلك من المآرب الدنيوية بسببهم، إلى غير ذلك من طرق المآكل وتحصيل الحطام بالتشدق والبلاغة وسحر البيان، فالله المستعان.
فصل
ومن أعظم المنكرات التي فشت في المسلمين -فانثلم بذلك الإسلام وازداد غربة وضعفًا- تضييع الصلاة، والتهاون بالجُمع والجماعات، فكثير من المنتسبين إلى الإسلام عن صلاتهم ساهون، وبها متهاونون، فبعضهم يتركها بالكلية، وبعضهم يصلي بعضًا ويترك بعضًا، وبعضهم يجمع صلاة الأسبوع ونحوه ثم ينقرها جميعًا، وبعضهم يصلي الجمعة ويترك ما سواها، وكل هذا كفر كما تقدم تقرير ذلك بأدلته من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم.
وكثير من المصلين يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو إلى آخر وقتها، ولا يبالون بتأخيرها، وسواء عندهم الصلاة في أول الوقت أو في آخره أو بعده، وهذا الفعل الذميم كثير جدًا في القراء الفسقة، وفي أرباب الوظائف والأعمال الدنيوية، فترى كثيرًا منهم يثابرون على الأعمال الدنيوية ويحافظون على الأوقات المقررة لها ولو كان في ذلك تفويت الصلاة عن وقتها، أو تأخيرها إلى آخر وقتها، وإذا جاء وقت الصلاة وكانوا في عمل من أعمالهم جعلوا ذلك العمل عذرًا لهم في تأخير الصلاة وعدم حضور الجماعة، وإن لم يكونوا في عمل حضرهم حينئذ النوم والكسل وأنواع الشواغل المثبطة، وربما تمارضوا من غير مرض، حتى إذا ما جاء وقت عمل من أعمالهم الدنيوية -في أي وقت كان من ليل أو نهار- قاموا إليه بجد ونشاط ورغبة صادقة، وقطعوا كل شاغل يشغلهم عنه؛ ولو كان من
أحب الأشياء إليهم، وكذلك العاكفون على أنواع اللهو واللعب وما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ مثل الراديو والسينما والكرة والجنجفة والكيرم وغيرها من أنواع الميسر والملاهي هم من أكثر الناس تهاونًا بالصلاة، وتضييعًا للأوقات، وتخلفًا عن الجماعات، وغفلة عن ذكر الله تعالى وشكره، وهذا عين النفاق قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} ، وقال تعالى:{وَلَا يَاتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} .
وفي الموطأ، والمسند، وصحيح مسلم، والسنن إلا ابن ماجة، من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تلك صلاة المنافق؛ يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلًا» هذا لفظ مسلم، والترمذي، والنسائي.
ولفظ مالك، وأبي داود:«تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين؛ يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان، أو على قرني الشيطان، قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا» .
ورواه الإمام أحمد بنحوه.
وفي رواية لأحمد، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بصلاة المنافق؟ يدع العصر حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، أو على قرني الشيطان، قام فنقرها نقرات الديك لا
يذكر الله فيها إلا قليلًا».
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بصلاة المنافق؟ أن يؤخر العصر حتى إذا كانت الشمس كثرب البقرة صلاها» رواه الدارقطني في سننه، والحاكم في مستدركه.
قوله: «كثرب البقرة» يعني: صفراء، قد تفرق ضوأها
(1)
على وجه الأرض، والثرب: هو الشحم الرقيق الذي يغشي الكرش والأمعاء، شبه به نور الشمس إذا اصفر وصار في موضع دون موضع.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» .
وفي رواية: «ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينا لشهدها؛ يعني صلاة العشاء» هذا لفظ مسلم.
ولفظ البخاري: «والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء» .
قال أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى: «مرماة» ما بين ظلف الشاة من اللحم.
وقال أبو عبيد الهروي: «المرماة» لف الشاة، وقيل: ما بين ظلفيها،
(1)
كذا في الأصل، ولعله سبق قلم، والصواب «ضوؤها» .
وتكسر ميمه وتفتح.
وقال أيضًا: «العرق» بالسكون: العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم، يقال: عرقت العظم واعترقته وتعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك. انتهى.
وفي سنن أبي داود، والنسائي، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول لله صلى الله عليه وسلم يومًا الصبح فقال: «أشاهد فلان؟» قالوا: لا، قال:«أشاهد فلان؟» قالوا: لا، قال:«إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على الركب» .
وفي الموطأ، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«بيننا وبين المنافقين شهود العشاء والصبح، لا يستطيعونهما» أو نحو هذا.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض. رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن إلا الترمذي.
وقال أبو الدرداء: لأنا أعلم بشراركم من البيطار بالخيل، هم الذين لا يأتون الصلاة إلا دبرا، ولا يسمعون القرآن إلا هجرًا. رواه الإمام أحمد في (الزهد)، وأبو نعيم في الحلية.
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: ابن آدم، أي دينك يعز عليك إذا هانت عليك صلواتك، وإذا هانت عليك صلواتك فهي على الله أهون. رواه الإمام أحمد في (الزهد).
وقد ورد الوعيد الشديد لمن يتهاون بالصلاة ويؤخرها عن أوقاتها؛ قال
الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59 - 60].
قال ابن مسعود، والقاسم بن مخيمرة، وإبراهيم، وعمر بن عبد العزيز: إضاعتها؛ تأخيرها عن وقتها.
وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا العصر حتى تغرب الشمس.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فسر الصحابة والتابعون إضاعتها بتفويت وقتها، والتحقيق أن إضاعتها تتناول تركها، وترك وقتها، وترك واجباتها وأركانها. انتهى.
وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من ترك الصلاة عامدًا حتى يخرج وقتها عاص لله، وذكر بعضهم أنها كبيرة من الكبائر، وأجمعوا على أن على العاصي أن يتوب من ذنبه بالندم عليه، واعتقاد ترك العود إليه. انتهى.
وقد اختلف في معنى قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} :
فقيل: عذابًا.
قال الراغب الأصفهاني: سماه الغي لما كان الغي هو سببه، وذلك كتسمية الشيء بما هو سببه، قيل: معناه فسوف يلقون أثر الغي وثمرته. انتهى.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي: خسرانا، وهذا قول الضحاك.
وقال قتادة: شرًا.
وقيل: هلاكًا.
وقيل: نهر في جهنم.
وقيل: واد في جهنم. رُوي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وأبي أمامة الباهلي وعائشة وأبي عياض وشفي بن ماتع وعطاء وكعب، وهذا القول يجمع الأقوال؛ لأن دخول جهنم هو غاية العذاب الأليم، ونهاية الخسران المبين، ومنتهى الشر والهلاك، عياذًا بالله من ذلك.
قال البغوي في تفسيره: قال وهب: الغي؛ نهر في جهنم، بعيد قعره خبيث طعمه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الغي؛ واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره، أُعد للزاني المصر عليه، ولشارب الخمر المدمن عليها، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور، ولامرأة أدخلت على زوجها ولدًا.
وقال عطاء: الغي؛ واد في جهنم يسيل قيحًا ودمًا.
وقال كعب: هو واد في جهنم، أبعدها قعرًا، وأشدها حرًا، فيه بئر تسمى البهيم، كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فتسعر بها جهنم.
قلت: وذكر البخاري في (التاريخ الكبير) عن عائشة رضي الله عنها {غَيًّا} : نهر في جهنم.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: قال سفيان الثوري، وشعبة، ومحمد بن إسحاق السبيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال: واد في جهنم من قيح ودم.
قلت: وقد رواه الحاكم في مستدركه، من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله رضي الله عنه في قوله عز وجل:{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال: نهر في جهنم بعيد القعر، خبيث الطعم. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وروى ابن جرير، ومحمد بن نصر المروزي، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفًا، ثم تنتهي إلى غيٍّ وأثام» قال: قلت: ما غي وأثام؟ قال: «بئران في أسفل جهم، يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكرهما الله في كتابه {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}، وقوله في الفرقان: {وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]» .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا حديث غريب، ورفعه منكر. انتهى.
وروى محمد بن نصر، والبغوي في تفسيره، كلاهما من طريق عبد الله بن المبارك، عن هشيم بن بشير، أخبرنا زكريا بن أبي مريم الخزاعي قال: سمعت أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول: «إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا من حجر يهوي، أو قال: صخرة تهوي، عِظمها كعشر عشروات سمان» فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد: هل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة؟ قال: نعم، غي وأثام.
وقال أيوب بن بشير، عن شفي بن ماتع قال: إن في جهنم واديًا يسمى
غيا، يسيل دمًا وقيحًا، فهو لمن خلق له، قال تعالى:{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} .
وقال كعب الأحبار: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل؛ شرّابين للقهوات -يعني الخمور- ترّاكين للصلوات، لعابين بالكعبات، رقّادين عن العتمات، مفرّطين في الغدوات، ترّاكين للجماعات، ثم تلا هذه الآية {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} .
ومن الوعيد الشديد للمتهاونين بالصلاة قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} .
قال أبو السعادات ابن الأثير: السهو في الشيء تركه عن غير علم، والسهو عنه تركه مع العلم، ومنه قوله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} . انتهى.
ولهذا قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: {عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ولم يقل: في صلاتهم ساهون.
وتقرير كلامه رحمه الله تعالى: إن السهو عن الصلاة هو إضاعتها مع العلم، وذلك مما يؤاخذ به العبد؛ لقوله تعالى:{وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5].
وأما السهو في الصلاة فإنما يصدر عن غير علم وقصد، وذلك معفو عنه؛ لقوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5]، ولقوله:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} [البقرة: 286].
وثبت في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم -
«أن الله تعالى قال: نعم» ، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الله تعالى قال: قد فعلت».
وفي سنن ابن ماجة، وصحيح ابن حبان، وسنن الدارقطني، ومستدرك الحاكم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وأيضًا فالسهو عن الصلاة إنما يصدر عن نفاق، وقلة رغبة في العبادة، وأما السهو في الصلاة فإنه يصدر عن النسيان، وهو مما تتقاضاه الطباع البشرية، وقد طرأ على سيد المرسلين مرارًا -صلوات الله وسلامه عليه- وقال:«إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» الحديث، وشتان ما بين السهوين، والله أعلم.
وفي ورود الوعيد خاصًا باللذين يتكاسلون عن الصلاة المكتوبة ويتهاونون بها دون أهل الخطأ والنسيان نعمة عظيمة على المؤمنين يجب شكرها، والله الموفق.
وقد اختلف السلف في معنى السهو عن الصلاة:
فقيل: هو تركها بالكلية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم المنافقون، يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس، ويصلونها في العلانية إذا حضروا.
وقال حيوة بن شريح: أخبرني أبو صخر أنه سأل محمد بن كعب
القرظي عن قوله: {هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} قال: هو تاركها.
وقال قتادة: ساهٍ عنها لا يبالي صلى أم لم يصل.
وقال الحسن: هو الذي إن صلاها صلاها رياء، وإن فاتته لم يندم.
وقيل: هو إضاعة الوقت. قاله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وأبو العالية، ومسروق، وأبو الضحى.
قال حماد بن زيد: حدثنا عاصم عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبي: يا أبتاه، أرأيت قول الله:{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} أينا لا يسهو، أينا لا يحدث نفسه؟! قال: إنه ليس ذاك، ولكنه إضاعة الوقت.
وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي، وابن جرير، ومحمد بن نصر المروزي، والبغوي، كلهم من حديث عكرمة بن إبراهيم الأزدي، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} قال:«هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها» قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ضعف البيهقي رفعه، وصحح وقفه، وكذلك الحاكم. انتهى.
وقال أبو العالية: لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها وسجودها.
وقال مجاهد: غافلون عنها يتهاونون بها.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: كانوا يؤخرونها حتى يخرج الوقت.
قلت: وظاهر الآية العموم؛ فيدخل في ذلك من ترك الصلاة بالكلية، ومن فرط في وقتها، ومن تغافل عنها وتهاون بها، ومن لم يتمها على الوجه
المشروع.
وقد قرر ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} قال: الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها، ثم هم عنها ساهون، إما عن فعلها بالكلية، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعًا فيخرجها عن وقتها بالكلية، وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائمًا أو غالبًا، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها؛ فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكن من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها وكمل له النفاق العملي. انتهى.
وأما الويل، فقال أبو موسى المديني: هو الحزن والهلاك والمشقة من العذاب، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل.
وقال ابن كثير: الويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة.
وقال سفيان الثوري، عن زياد بن فياض: سمعت أبا عياض يقول: ويل؛ صديد في أصل جهنم.
وقال عطاء بن يسار: الويل وادٍ في جهنم، لو سُيِّرت فيه الجبال لماعت.
وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر سبعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره» .
وفي رواية بعضهم: «أربعين خريفًا» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
ومن الوعيد للمتهاونين بالصلاة ما جاء في صحيح البخاري، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم من رؤيا؟» قال: فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وأنه قال لنا ذات غداة:«إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتهدهد الحجر ههنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق -فذكر الحديث بطوله وفيه- أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة» .
وروى ابن جرير وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه حديث الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم وفيه:«ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة» .
ومن الوعيد أيضا للمتهاونين بالصلاة ما رواه الإمام أحمد، وابنه عبد الله، والطبراني، وابن حبان في صحيحه، والآجري في كتاب (الشريعة) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: «مَن حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومَن
لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة، ويأتي يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف».
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر؛ لأنهم من رؤوس الكفرة، وفيه نكتة بديعة؛ وهو أن تارك المحافظة على الصلاة إما أن يشغله ماله أو ملكه أو رياسته أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسة من وزارة أو غيرها فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف. انتهى.
وروى مالك، وأحمد، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافًا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة» .
ورواه الإمام أحمد أيضًا، وأبو داود، عن عبادة رضي الله عنه قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمس صلوات افترضهن الله عز وجل على عباده، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، فأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه» .
وروى أبو داود أيضًا، وابن ماجة عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: إني فرضت على أمتك خمس صلوات وعهدت عندي عهدًا أنه من جاء يحافظ عليهن لوقتهن أدخلته الجنة، ومن لم يحافظ عليهن فلا عهد له عندي» .
وروى الإمام مالك في (الموطأ) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
وروى أبو نعيم في الحلية، من طريق الأوزاعي قال: كتب عمر -يعني ابن عبد العزيز- إلى عماله: اجتنبوا الاشتغال عند حضرة الصلاة، فمن أضاعها فهو لما سواها من شعائر الإسلام أشد تضييعًا.
وفي الصحيحين، و (الموطأ)، والمسند، والسنن، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتر أهله وماله» .
وفي مسند الإمام الشافعي بإسناد صحيح، عن نوفل بن معاوية الديلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» .
قال البخاري رحمه الله تعالى: {يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ؛ وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً، أو أخذت له مالاً.
وذكر النووي عن مالك رحمه الله أنه قال: معناه: انتزع منه أهله وماله.
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: معنى وتر: أي نقص أو سلب فبقي وترا فردا بلا أهل ولا مال، يريد: فليكن حذره من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله. انتهى.
وتقدم كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المعنى مع الأحاديث في حكم تارك الصلاة.
وروى الترمذي، وابن أبي حاتم، والدارقطني، والحاكم في مستدركه، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من جمع بين الصلاة من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر» .
وروى ابن أبي حاتم أيضا، عن أبي قتادة العدوي قال: قرئ علينا كتاب عمر رضي الله عنه: من الكبائر جمع بين الصلاتين؛ يعني من غير عذر، والفرار من الزحف، والنهبة.
وروى أبو داود، وابن ماجة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تقبل لهم صلاة؛ الرجل يؤم القوم وهم له كارهون، والرجل لا يأتي الصلاة إلا دبارًا؛ يعني بعدما يفوته الوقت، ومن اعتبد محررًا» .
وما أكثر من لا يأتي الصلاة إلا دبارًا في زماننا، ولا سيما في صلاة الفجر، فإن كثيرًا من المتهاونين بالصلاة لا يصلونها إلا بعد ارتفاع الشمس، وهذا آية النفاق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر
…
» الحديث.
وقد تقدم في حكم تارك الصلاة ما ذكره ابن حزم، والحافظ عبد الحق الإشبيلي، عن جملة من الصحابة، وجمع من الأئمة بعدهم: أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمدًا حتى يخرج وقتها فهو كافر، ولا يبعد أن يكون
هؤلاء الذين يعتادون النوم عن صلاة الصبح حتى تطلع الشمس من المتعمدين للتأخير، فيدخلون في حكم المرتدين، والله أعلم.
وفي المسند، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي، عن جندب بن عبد الله بن سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم» هذا لفظ مسلم.
ولفظ الترمذي: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله في ذمته» .
وفي مسند الإمام أحمد، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من صلى صلاة الصبح فله ذمة الله، فلا تخفروا الله ذمته، فإنه من أخفر ذمته طلبه الله حتى يكبه على وجهه» .
وفي سنن ابن ماجة، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله في عهده، فمن قتله طلبه الله حتى يكبه في النار على وجهه» .
وله أيضا عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله عز وجل» .
ورواه الإمام أحمد في مسنده ولفظه قال: «من صلى الغداة فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله تبارك وتعالى في ذمته» .
وفي جامع الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من
صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يتبعنكم الله بشيء من ذمته» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن جندب، وابن عمر رضي الله عنهم.
فدلت هذه الأحاديث على أن من تهاون بصلاة الفجر وأخرها عن وقتها فليست له ذمة الله، وهذا يشعر بخروجه من الإسلام؛ لأن كل مسلم له ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم؛ الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» رواه البخاري.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس في النوم تفريط» وفي الحديث الآخر: «رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- النائم حتى يستيقظ» فدل هذا على أن النائم عن صلاة الصبح وغيرها لا يأثم، ولا يؤاخذ به.
قيل: ليس في هذا -بحمد الله تعالى- حجة لأهل الكسل، والتهاون بالصلاة، وبيان ذلك من وجهين:
أحدهما: أن النائم لا يخلو إما أن يكون من أهل المحافظة على الصلاة والاهتمام بها، وإيثارها على النوم وغيره من أغراض النفس وشهواتها.
وإما أن يكون من أهل السهو عنها والتهاون بها والتضييع لأوقتها.
فالقسم الأول إذا غلب أحدهم النوم عنها في بعض الأحيان ولم يكن عنده من يوقظه فهو معذور وليس في نومه تفريط، والدليل على هذا ما
جرى على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في بعض أسفارهم من النوم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يكلأ لهم الليل ويوقظهم للصلاة، فغلبه النوم، وفي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم فزع حين استيقظ وكذلك أصحابه قاموا فزعين، وقال بعضهم لبعضهم: قد فرطنا في صلاتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنه لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة» .
وهكذا حال أتباعهم المحافظين على الصلاة إذا غلب أحدهم النوم عن صلاته قام فزعًا مغتمًا حزينًا على فوات الوقت، يرى أن نومه عن الصلاة مصيبة من المصائب، وهذا بخلاف حال أهل الكسل والإضاعة والتهاون بالصلاة، فإنهم يغضبون إذا أوقظوا للصلاة في وقتها، ويشق ذلك عليهم، ويكرهونه أشد الكراهة، وربما كلح أحدهم في وجه والديه إذا أيقظاه، وواجههما بالقول السيء، فيجمع بين جرمين عظيمين؛ أحدهما: التهاون بالصلاة، وثانيهما: عقوق الوالدين، ويشتم غير والديه، ويسبهم ويزجرهم عن التعرض لإيقاظه، وقلَّ أن يقوم أحدهم إلى الصلاة إذا أُوقظ لها، بل يعود إلى مضجعه حتى تشبع نفسه الخبيثة من النوم، وهذا الضرب إذا لم يخش أحدهم من التأديب على التخلف عن الصلاة لم يقم إليها في الوقت إلا نادرًا، ولا سيما في صلاة الصبح، ومن كانت هذه حاله فلا شك أنه مفرط في حال يقظته ونومه، وكيف لا يكون مفرطًا من يُمضي أكثر ليله في أشغال دنياه، أو في أشغال دنيا غيره، أو في البطالة والقيل والقال والعكوف على الملاهي وما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإذا أقبل وقت الصلاة نام ولم يبال بها، وهذا هو التفريط بعينه، والدليل على أن هؤلاء
غير معذورين بنومهم عن الصلاة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» الحديث، فلو كان للمتهاون بالصلاة أدنى عذر لعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهم بتحريق بيوتهم عليهم.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء الآخرة، والحديث بعدها، وينهى عنه، كما في الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:«كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها» .
وقال أبو داود في سننه: باب النهي عن السمر بعد العشاء: حدثنا مسدد، أخبرنا يحيي، عن عوف قال: حدثني أبو المنهال، عن أبي برزة رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النوم قبلها، والحديث بعدها» إسناده صحيح.
وقد خرج البخاري رحمه الله تعالى بهذا الإسناد بعينه حديث أبي برزة مطولاً في باب ما يكره من السمر بعد العشاء.
وقد رواه الإمام أحمد، عن وكيع، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي المنهال، عن أبي برزة رضي الله عنه قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوم قبلها والحديث بعدها» إسناده صحيح على شرط الشيخين.
ورواه الطبراني في معجمه الصغير، من طريق سوار بن عبد الله القاضي، عن أبي المنهال، عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن
النوم قبل العشاء والحديث بعدها».
وروى الطبراني في معجمه الكبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن النوم قبل العشاء، وعن الحديث بعدها» .
وقال ابن ماجة في سننه: باب النهي عن النوم قبل صلاة العشاء، وعن الحديث بعدها، ساق فيه ثلاثة أحاديث.
أحدها: حديث أبي برزة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبلها والحديث بعدها» .
وثانيها: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل العشاء ولا سمر بعدها» .
وثالثها: من طريق محمد بن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«جدب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم السمر بعد العشاء» قال ابن ماجة: يعني زجرنا، إسناده كلهم ثقات.
وقد رواه الإمام أحمد، من طريق خالد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«جدب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم السمر بعد العشاء» قال خالد: معنى «جدب إلينا» يقول عابه وذمه.
ورواه الإمام أحمد أيضًا، عن وكيع، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدب لنا السمر بعد العشاء» .
وروى الإمام أحمد أيضا، عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سمر بعد الصلاة -يعني العشاء الآخرة- إلا لأحد رجلين: مصل أو مسافر» ورواه أبو يعلى، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، وذكر الترمذي
في جامعة تعليقًا.
وروى الحافظ ضياء الدين المقدسي في (الأحكام)، من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:«لا سمر إلا الثلاثة: مصل، أو مسافر، أو عروس» .
وذكر الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضرب الناس على ذلك ويقول: أسمرًا أول الليل ونومًا آخره؟!
قال النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: وسبب كراهة النوم قبلها أنه يعرضها لفوات وقتها باستغراق النوم، أو لفوات وقتها المختار والأفضل، ولئلا يتساهل الناس في ذلك فيناموا عن صلاتها جماعة، وسبب كراهة الحديث بعدها أنه يؤدي إلى السهر، ويخاف منه غلبة النوم عن قيام الليل أو الذكر فيه، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز أو في وقتها المختار أو الأفضل. انتهى.
وإذا تقرر أن علة النهي عن السمر بعد العشاء الآخرة كونه مظنة لترك قيام الليل، وتفويت صلاة الفجر عن وقتها، فلا ريب أن مرتكب النهي من غير عذر شرعي لا يكون معذورًا بنومه عن الصلاة؛ لأن سمره معصية، ونومه عن الصلاة تفريط ظاهر، والله أعلم.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمر هو وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما في الأمر من أمور المسلمين، وكان يتحدث مع أهله بعد العشاء الآخرة؛ فدل على أن في الأمر سعة.
قيل: التوسع في هذا مقيد بما قام الدليل على جوازه، وما عداه يبقى
على أصل العموم في النهي والكراهة؛ فمن الجائز سمر ولي الأمر مع خاصته في الأمر من أمور المسلمين لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين، وأنا معهما» رواه الإمام أحمد، والترمذي وقال: حديث حسن، قال: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وأوس بن حذيفة، وعمران بن حصين.
وفي ذلك محادثة الرجل أهله قليلاً قبل أن يرقد؛ لما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «تحدث مع أهله ساعة ثم رقد» .
ومن ذلك تقديم القِرى للضيف، ومحادثته قليلاً؛ لقصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع أضيافة؛ وهي في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما.
ومن ذلك تعلم العلوم الشرعية وتعليمها والمذاكرة فيها؛ لحديث أنس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء الآخرة وهما في الصحيحين.
ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لما روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يخرج من الليل فيطوف بالمدينة. رواه الإمام مالك، وابن إسحاق في السيرة.
قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم في السمر بعد العشاء الآخرة؛ فكره قوم منهم السمر بعد صلاة العشاء، ورخص بعضهم إذا كان في معنى العلم،
وما لابد منه من الحوائج، وأكثر الأحاديث على الرخصة؛ يعني فيما ذكر.
وقال النووي: اتفق العلماء على كراهة الحديث بعدها، إلا ما كان في خير.
وقال في رياض الصالحين: باب كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة، والمراد به الحديث الذي يكون مباحًا في غير هذا الوقت وفعله وتركه سواء، فأما الحديث المحرم أو المكروه في غير هذا الوقت فهو في هذا الوقت أشد تحريمًا وكراهة، وأما الحديث في الخير كمذاكرة العلم، وحكايات الصالحين، ومكارم الأخلاق، والحديث مع الضيف، ومع طالب حاجة ونحو ذلك، فلا كراهة فيه بل هو مستحب، وكذا الحديث لعذر وعارض لا كراهة فيه. انتهى.
إذا تقرر هذا فينبغي أن يراعى في السمر الجائز ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله هو وأصحابه رضي الله عنهم، فإنهم لم يكونوا يتخذون السمر عادة مستمرة كما يفعله أهل الغفلة والبطالة وأهل الجشع والحرص على جمع المال، وإنما كانوا يسمرون في الحين بعد الحين بقدر الحاجة اللازمة، ولم يكونوا يسمرون سمرًا طويلاً يفوت عليه بسببه شيء من قيام الليل؛ فضلاً أن يضيعوا صلاة الصبح ويؤخروها إلى أن ترتفع الشمس كما يفعله كثير من السمار في هذه الأزمان، فالله المستعان.
ومما لا ريب في تحريمه سمر كثير من الناس على الأمور المحرمة، فبعضهم على الوقيعة في المسلمين بالبهتان والغيبة، والسب والسخرية والاستهزاء، وما في معنى ذلك من انتهاك الأعراض المحرمة ظلمًا وعدوانًا.
وبعضهم على اللعب بالجنجفة والمقامرة بها، وكذلك اللعب بالكيرم ونحوه، وبعضهم على اللعب بالكرة والمقامرة بها والقمار من الميسر، وبعضهم يعكف على الراديو طول ليله أو أكثره يستمع إلى الغناء وأصوات النساء ونغماتهن، وأنواع المزامير والمعازف، أو إلى الاستهزاء بالقرآن والترجيع به كما يرجع بالغناء والرهبانية والنوح، أو إلى أنواع الخلاعة والمجون وما يدعو إلى الفسوق والعصيان وارتكاب الإثم والفجور، أو إلى الأضاحيك المهزولة والقصص والأحاديث المكذوبة، وقيل وقال وزعموا، وغير ذلك من المنكرات التي مدارها على الصد عن سبيل الله، وبعضهم يسمر الليل كله أو أكثره عند السينما ليشاهد ما فيها من التخييلات السحرية التي هي أعظم من الخمر والميسر في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، إلى غير ذلك من أنواع المحرمات التي يسمر عليها أهل الغفلة والبطالة، ويضيعون من أجلها الصلاة المكتوبة وربما تركوها بالكلية، فالله المستعان على زمان كثرت فيه الفتن، وفشت فيه المنكرات وظهرت، وضعف فيه جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واشتدت غربة الإسلام والإيمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فصل
وكما أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر؛ فكذلك تقديمها على الوقت لا يجوز؛ لأن دخول الوقت شرط من شروط الصلاة، فلا تصح الصلاة بدونه؛ لقول الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي: مفروضا في الأوقات.
قال ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم: إن للصلاة وقتًا كوقت الحج.
قال ابن كثير: وكذا روي عن مجاهد، وسالم بن عبد الله، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، والحسن، ومقاتل، والسدي، وعطية العوفي. انتهى.
وكما أنه لا يجوز الحج قبل وقته، ولا صيام رمضان قبل دخول شهره، فكذلك الصلاة المفروضة لا تجوز قبل دخول وقتها، ومن صلى قبل الوقت فلا صلاة له سوى من يجوز له الجمع بين الظهرين وبين العشاءين؛ لأن وقتي المجموعتين يصير في حقه كالوقت الواحد فيجوز له تقديم العصر مع الظهر، وتقديم العشاء مع المغرب إذا كان التقديم أرفق به، كما يجوز تأخير الظهر مع العصر، وتأخير المغرب مع العشاء إذا كان التأخير أرفق به، وأما تقديم الفجر والظهر والمغرب على أوقاتهن فلا يجوز مطلقًا لا لمعذور ولا لغير معذور، وإذا عرف هذا فكثير من الجهال واقعون في تقديم الصلاة على وقتها؛ ولا سيما النساء، فقد ذكر لنا أن كثيرًا منهن يصلين الفجر قبل طلوع الفجر، وربما صلى بعضهن العشاء قبل غيبوبة
الشفق من غير عذر، وذكر لنا أيضًا عن كثير من الجهال -من أئمة المساجد وغيرهم- أنهم يصلون الفجر قبل طلوع الفجر، وعن بعضهم أنهم يصلون العشاء في رمضان قبل غيبوبة الشفق؛ حرصا على تعجيل الفراغ من صلاة التراويح، وكل هذا جهل وضلال يجب على كل عالم به إنكاره بحسب قدرته، وتعليم الواقعين فيه بما يجب عليهم من انتظار دخول الوقت، وأن من صلى قبل دخوله فلا صلاة له؛ لتركه شرطًا من شروط الصلاة، والله الموفق.
فصل
وكثير من المصلين ينقرون الصلاة، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها، ولا يطمئنون فيما سوى ذلك من أفعالها، وهذا عين الاستخفاف بحق الصلاة والاستهانة بشأنها، وفاعل ذلك من أسوأ الناس سرقة؛ لما روى الإمام مالك في موطئه، عن النعمان بن مرة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما ترون في الشارب والسارق والزاني؟» وذلك قبل أن ينزل فيهم، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«هن فواحش، وفيهن عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته» قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: «لا يتم ركوعها ولا سجودها» قال النعمان: وكان عمر يقول: إن وجه دينكم الصلاة، فزينوا وجه دينكم بالخشوع.
وقد رواه الإمام الشافعي في مسنده من طريق مالك مختصرًا.
وروى الإمام أحمد، والحاكم في مستدركه، عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته» قيل: وكيف يسرق من صلاته؟ قال: «لا يتم ركوعها، ولا سجودها» زاد أحمد: «ولا خشوعها» وفي رواية له: «ولا القراءة فيها» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وروى الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث أبي قتادة، وقال: صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
ولأحمد وأبي داود الطيالسي وأبي يعلى، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضًا. رواه الطبراني.
قال الطيبِي: جعل جنس السرقة نوعين: متعارفًا وغير متعارفٍ، وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا، ويستحل صاحبه، أو يَحِد فينجو من عذاب الآخرة، بخلاف هذا، فإنه سرق حق نفسه من الثواب، وأبدل له منه العقاب في العُقبى. انتهى.
ويقال أيضا: إن سارق الصلاة سارق دين، فكان أسوأ من سارق الدنيا، والصلاة عماد الدين وركنه الأعظم بعد الشهادتين، فلا ريب أن السرقة منها أسوأ وأقبح من سرقة الأموال.
ويقال أيضًا: إن السارق قد استهان بالمسروق منه، حيث أقدم على الانتقاص من حقه، والصلاة من أعظم حقوق الله تعالى، فالسرقة منها أسوأ من السرقة من حقوق الآدميين، وقد روى عبد الرزاق في جامعه، وأبو يعلى الموصلي في مسنده، والبيهقي في شعب الإيمان، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحسن الصلاة حيث يراه الناس ثم أساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه» .
وقال بعض العلماء: أكثر ما يفسد صلاة العامة تهاونهم بعلم الطمأنينة،
والعمل بها في أركان الصلاة، وأصلها سكون على عمل الركن من ركوع أو
سجود أو جلوس زمنا ما.
قلت: وقد جاء بيان الطمأنينة الواجبة في حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء -يعني مواضعه- ثم يكبر، ويحمد الله عز وجل ويثني عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول، الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائمًا ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصلة، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعدا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيكبر، فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته» رواه الشافعي، وأحمد، وأبو داود وهذا لفظه، والترمذي، والنسائي، وصححه ابن حبان، وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه الحاكم وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي رواية لأبي داود: «ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه، وربما قال: جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ثم يكبر فيستوي قاعدًا على مقعده ويقيم صلبه» فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ.
وفي رواية له: «وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك، وقال: إذا سجدت فمكن لسجودك، فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى» .
وفي رواية له: «فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك
اليسرى، ثم تشهد».
وفي رواية للشافعي، وأحمد:«فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك ومكن لركوعك، فإذا رفعت رأسك فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها، فإذا سجدت فمكن لسجودك، فإذا رفعت رأسك فاعتمد على فخذك اليسرى، ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة» .
وفي رواية: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئًا فقد انتقصت من صلاتك» .
وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته:«ارجع فصل فإنك لم تصل» ثلاث مرات، ثم علمه الصلاة، وبيّن له الطمأنينة بنحو ما في حديث رفاعة بن رافع، ففيه دليل على أن من ترك الطمأنينة فصلاته فاسدة.
وفي المسند، والسنن، عن ابن مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود»
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ورواه الدارقطني في سننه وقال: إسناده ثابت صحيح.
قال الترمذي: وفي الباب عن علي بن شيبان، وأنس، وأبي هريرة، ورفاعة الزرقي.
قلت: أما حديث أبي هريرة، وحديث رفاعة رضي الله عنهما فقد سبق ذكرهما.
وأما حديث علي بن شيبان رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما قال: خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا خلفه، فلمح بمؤخر عينيه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يا معشر المسلمين، إنه لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود» .
وأما حديث أنس رضي الله عنه فرواه الطبراني في الصغير قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في المسجد رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تقبل صلاة رجل لا يتم الركوع والسجود» .
وفي الباب أيضا عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» رواه البيهقي في سننه.
ففي هذه الأحاديث النص على فساد صلاة من لا يقيم ظهره بعد الركوع والسجود.
قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى: والعمل على هذا عند أهل العلم
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم؛ يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود.
وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» . انتهى.
وفي المسند، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده» .
وفي المسند أيضا، عن طلق بن علي الحنفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله عز وجل إلى صلاة عبد لا يقيم فيها صلبه بين ركوعها وسجودها»
وفي المسند أيضًا، عن علي بن شيبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا ينظر الله عز وجل إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده» .
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء الحديث «إن الرجل يصلي ستين سنة وما له صلاة!» قيل: وكيف ذلك؟ قال: «يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع» .
وجاء الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه بينما يحدث أصحابه إذ قطع حديثه فقالوا: ما لك يا أبا عبد الرحمن قطعت حديثك؟ قال: إني أرى عجبًا؛ أرى رجلين، أما أحدهما فلا ينظر الله إليه، وأما الآخر فلا يقبل الله صلاته، قالوا: مَن هما؟ قال: أما الذي لا ينظر الله إليه فذلك الذي
يمشي يختال في مشيته، وأما الذي لا يتقبل الله صلاته فذلك الذي يصلي ولا يتم ركوعه ولا سجوده.
وقد ورد النهي عن النقر في الصلاة والوعيد الشديد على فعله؛ ففي المسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث؛ عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب» .
وروى الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه، عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال:«نهى رسول لله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير» قال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى رزين، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النقر فقال: «ليس لنا مثل السوء، ليس منا من ينقر نقر الغراب» قال: «ونهى عن افتراش السبع» .
وروى البخاري في تاريخه، وأبو يعلى، والطبراني، وابن خزيمة في صحيحه، عن أبي عبد الله الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لا يتم ركوعه، وينقر في سجوده وهو يصلي فقال صلى الله عليه وسلم:«ترون هذا! لو مات مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين، لا يغنيان عنه شيئًا» قال أبو صالح الأشعري: فقلت لأبي عبد الله: من حدَّثك بهذا الحديث؟ قال: أمراء الأجناد؛ خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وشرحبيل
ابن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، كل هؤلاء سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري، من حديث أبي وائل، عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته قال له حذيفة: ما صليت! قال: وأحسبه قال: ولو مت متّ على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
ورواه البخاري أيضا، من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع والسجود فقال: ما صليت! ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ورواه النسائي، من حديث طلحة بن مصرف، عن زيد بن وهب، عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأي رجلا يصلي فطفف، فقال له حذيفة: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة، قال: ما صليت منذ أربعين سنة، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الرجل ليخفف ويتم ويحسن.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): قوله: «ما صليت» هو نظير قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «فإنك لم تصل» ، قال: واستدل به على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وعلى أن الإخلال بها مبطل للصلاة. انتهى.
وأما قوله: «لو متّ متَّ على غير الفطرة» وفي الرواية الأُخرى: «على غير السنة» فكلاهما المراد به هنا الدين والشريعة.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: وليس المراد به فعل المستحبات، فإن هذا لا يوجب هذا الذم والتهديد، فلا يكاد
أحد يموت على كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من المستحبات، ولأن لفظ الفطرة والسنة في كلامهم هو الدين والشريعة، وإن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ السنة يراد به ما ليس بفرض؛ إذ قد يراد بها ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه» فهي تتناول ما سنه من الواجبات، أعظم مما سنه من التطوعات. انتهى.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء الحديث «إن العبد إذا صلى فأحسن الصلاة صعدت ولها نور، فإذا انتهت إلى أبواب السماء فتحت أبواب السماء لها، وتشفع لصاحبها وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا أساء في صلاته فلم يتم ركوعها ولا سجودها ولا حدودها صعدت ولها ظلمة فتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، فإذا انتهت إلى أبواب السماء غلقت دونها، ثم لفت كما يلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها» هكذا ذكره الإمام أحمد تعليقًا.
ورواه أبو داود الطيالسي، وأبو جعفر العقيلي، والبيهقي في شعب الإيمان، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي المسند، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة مكيال، فمن وفَّى وُفِّيَ له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين» .
وروي البيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس رضي الله عنهما-
مرفوعًا: «الصلاة ميزان، فمن أوفى استوفى» .
وروى الإمام مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انصرف من صلاة العصر فلقي رجلاً لم يشهد العصر، فقال عمر رضي الله عنه: ما حبسك عن صلاة العصر؟ فذكر له الرجل عذرًا، فقال عمر رضي الله عنه: طففت، قال مالك: ويقال: لكل شيء وفاء وتطفيف.
وفي جامع الترمذي، وسنن النسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر
…
» الحديث، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وفي الباب عن تميم الداري رضي الله عنه.
وروى مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد أنه قال: بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة، فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله.
وقال الإمام أحمد في كتاب (الصلاة): جاء في الحديث «أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن صلاته، فإن تُقُبِّلت تُقُبِّل منه سائر عمله، وإن رُدت صلاته رُد سائر عمله» .
وروى الطبراني في الأوسط، والحافظ ضياء الدين المقدسي، من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا:«أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» .
قال الطيبِي: الصلاح كون الشيء على حالة استقامته وكماله، والفساد ضد ذلك؛ وذلك لأن الصلاة بمنزلة القلب من الإنسان، فإذا صلحت صلحت الأعمال كلها، وإذا فسدت فسدت. انتهى.
وقد تقدم قول أبي العالية في تفسير قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} قال: لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها وسجودها.
وتقدم أيضا تفسير الويل الذي توعد الله به الساهين عن الصلاة.
وما أكثر سُرَّاق الصلاة، والمتهاونين بشأنها، المضيعين لأوقاتها وحدودها في زماننا هذا الذي اشتدت فيه غربة الإسلام الحقيقي، وليس ذلك في الجهال والعوام فقط، بل هو كثير جدًا في القراء المفتونين الذين يتفقهون لغير الدين، ويتعلمون العلم لنيل الوظائف والشهوات والحظوظ العاجلة، فالله المستعان.
وإذا عرف ما يلحق النقارين للصلاة، والمضيعين لأوقاتها وحدودها من الوعيد الشديد، فليعلم أيضا أن الإنكار عليهم واجب على كل من رآهم؛ لأن الاستخفاف بالصلاة والاستهانة بها من أعظم المنكرات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
والمحسن في صلاته شريك المسيء في صلاته إذا لم ينهه وينصحه.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): سارق الصلاة قد وجب الإنكار عليه ممن رآه والنصيحة له، أرأيت لو أن سارقًا سرق درهمًا ألم يكن ذلك منكرًا ويجب الإنكار عليه ممن رآه؟ فسارق الصلاة أعظم سرقة من سرقة الدرهم، وجاء الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:«من رأى من يسيء في صلاته فلم ينهه شاركه في وزرها وعارها» ، وجاء الحديث عن بلال بن سعد أنه قال: الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، فإذا ظهرت ولم تغير ضرت العامة، وإنما تضر العامة لتركهم لما يجب عليهم من الإنكار والتغيير على الذي ظهرت منه الخطيئة، فلو أن عبدًا صلى حيث لا يراه الناس فضيع صلاته ولم يتم الركوع ولا السجود كان وزر ذلك عليه، وإن صلى حيث يراه الناس وضيع صلاته فلم يتم ركوعها ولا سجودها كان وزر ذلك عليه وعليهم إذا تركوا الإنكار عليه، فاتقوا الله عباد الله في أموركم عامة، وفي صلاتكم خاصة، وأحكموها في أنفسكم وانصحوا فيها إخوانكم، فإنها آخر دينكم، فتمسكوا بآخر دينكم وما وصى به ربكم خاصة من بين الطاعات التي أوصى بها عامة، وتمسكوا بما عهد إليكم نبيكم صلى الله عليه وسلم من بين عهوده إليكم فيما افترض عليكم ربكم عامة.
وجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان آخر وصيته لأمته عنه خروجه من الدنيا أنه قال: «اتقوا الله في الصلاة، وفيما ملكت أيمانكم» ، وجاء الحديث أنها آخر وصية كل نبي لأمته، وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا، وهي آخر ما يذهب من الإسلام، ليس بعد ذهابها إسلام ولا دين،
وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله، وهي عمود الإسلام إذا
سقط الفسطاط فلا ينتفع بالأطناب والأوتاد، وكذلك الصلاة إذا ذهبت فقد ذهب الإسلام، إلى أن قال رضي الله عنه: فإن رأيتم من يصلي تطوعًا ولا يقيم صلبه بين الركوع والسجود، فقد وجب عليكم أمره ونهيه ونصيحته، فإن لم تفعلوا كنتم شركاء في الإساءة والوزر والإثم والتضييع.
واعلموا أن مما جهل الناس أن يصلي أحدهم متطوعًا ولا يتم الركوع ولا السجود ولا يقيم صلبه؛ لأنه تطوع، فيظن أن ذلك يجزيه وليس يجزئه ذلك التطوع؛ لأنه من دخل في التطوع فقد صار واجبًا عليه لازمًا له يجب عليه إتمامه وإحكامه، كما أن الرجل لو أحرم بحجة تطوعًا وجب عليه قضاؤها، وإن أصاب فيها صيدًا وجبت عليه الكفارة، وكما أن الرجل لو صام يومًا تطوعًا ثم أفطر عند العصر وجب عليه قضاء ذلك اليوم، وكما أن الرجل لو تصدق بدرهم على فقير ثم أخذه منه وجب عليه رد ذلك الدرهم على الفقير، فكل تطوع دخل فيه لزمه، ووجب عليه أداؤه تامًا محكمًا؛ لأنه حين دخل فيه فقد أوجبه على نفسه، ولو لم يدخل فيه لم يكن عليه شيء، فإذا رأيتم من يصلي تطوعًا أو فريضة فأمروه بتمام ذلك وإحكامه، إن لا تفعلوا تكونوا آثمين، عصمنا الله وإياكم. انتهى.
ومما يفعله كثير من الجهال؛ أن أحدهم إذا دخل المسجد قبل الإقامة فأحرم بصلاة نافلة ثم أخذ المؤذن بعد في الإقامة، فإن كان قد ركع مضى في صلاته، وإن لم يكن ركوع بادر بقطعها، وبعضهم يقطعها بتسليمة واحدة عن يمينه وهو قائم كما يفعل في صلاة الجنازة، وبعضهم بتسليمتين عن
يمينه وعن شماله، وقطعهم للنافلة والحالة هذه خطأ وإساءة، فينبغي نهيهم عن ذلك، وأمرهم بإتمام النافلة خفيفة.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في (المغني): إن أقيمت الصلاة وهو في النافلة ولم يخش فوات الجماعة أتمها ولم يقطعها؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وإن خشي فوات الجماعة فعلى روايتين:
إحداهما: يتمها لذلك.
والثانية: يقطعها؛ لأن ما يدركه من الجماعة أعظم أجرًا، وأكثر ثوابًا مما يفوته بقطع النافلة؛ لأن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الرجل وحده سبعًا وعشرين درجة. انتهى.
فلم يذكر رحمه الله تعالى خلافًا في إتمام النافلة لمن أمن فوات الجماعة؛ وإنما الخلاف فيمن خشي فواتها، والجماعة إنما تفوت بالرفع من الركوع في الركعة الأخيرة، والمتنفل إذا أتى بالصلاة خفيفة في تمام لم يخش فوات الجماعة قطعًا، بل الغالب أنه يدرك الركعة الأولى فيحرز نافلته تامة وفريضته تامة.
وظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه إذا قطع النافلة من غير عذر وجب عليه قضاؤها؛ لأنه قد أوجبها على نفسه بالدخول فيها فلزمه القضاء، ومن ذلك هذه الصورة التي ذكرها ههنا، والله أعلم.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه مسلم، وأهل السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ورواه الإمام أحمد بلفظ: «فلا صلاة إلا التي أقيمت» .
وفي الصحيحين، عن عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً -وقد أقيمت الصلاة- يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاث به الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«آلصبح أربعًا؟ آلصبح أربعًا؟» هذا لفظ البخاري.
ورواه الإمام أحمد بنحوه.
ورواية مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح، فكلمه بشيء لا ندري ما هو، فما انصرفنا أحطنا نقول: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لي: «يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعًا!» .
ورواه الإمام أحمد، وابن ماجة بمثله.
وفي رواية لمسلم والنسائي: أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي والمؤذن يقيم فقال: «أتصلي الصبح أربعًا؟!» .
وروى أبو داود الطيالسي، وابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أصلي، وأخذ المؤذن في الإقامة، فجذبني النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«أتصلي الصبح أربعًا؟» .
فالجواب: أن ظاهر هذه الأحاديث دال على أن المنهي عنه هو إنشاء النافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة، وهذا هو الذي فهمه النووي وغيره من المحققين، وترجم له النسائي في سننه بقوله: ما يكره من الصلاة عند الإقامة.
وقال النووي في شرح مسلم: باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة، سواء السنة الراتبة كسنة الصبح والظهر وغيرها، وسواء علم أنه يدرك الركعة مع الإمام أم لا. انتهى.
ويدل لما قلناه أحاديث؛ منها حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد، ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يا فلان، بأي الصلاتين اعتددت، أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟» رواه مسلم، وأهل السنن إلا الترمذي.
ومنها ما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقيمت صلاة الصبح فقام رجل يصلي الركعتين، فجذب رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه فقال:«أتصلي الصبح أربعًا؟!» .
وفي رواية قال: أقيمت الصلاة ولم أصل الركعتين، فرآني وأنا أصليهما، فدنا وقال:«أتريد أن تصلي الصبح أربعًا؟!» فقيل لابن عباس رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال: أقيمت الصلاة، فقمت أصلي ركعتين، فجذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أتصلي الصبح أربعًا؟» قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وهذه الرواية عند الإمام أحمد والحاكم تدفع ما لعله يفهم من رواية
أولئك من أن ابن عباس رضي الله عنهما شرع في النافلة قبل شروع المؤذن في الإقامة.
ومنها: ما رواه الإمام مالك في موطئه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون، فخرج عليهم رسول الله فقال:«أصلاتان معًا، أصلاتان معًا؟!» وذلك في صلاة الصبح، في الركعتين اللتين قبل الصبح.
ومنها: ما رواه الطبراني في معجمه الصغير، عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً صلى ركعتي الغداة حين أخذ المؤذن يقيم، فغمز النبي صلى الله عليه وسلم منكبيه وقال:«ألا كان هذا قبل ذا؟!» .
فهذه الأحاديث صريحة في أن المنع إنما هو عن إنشاء النافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة، فأما الاستمرار فيما شرع فيه قبل ذلك وإتمامه مع التخفيف فمستفاد من عموم قوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} .
وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على الإنكار على من رآه يصلي بعد الإقامة، ولم يأمره بقطع ما شرع فيه، ولو كان القطع واجبًا لأمره به، فدل على أن من شرع في النافلة قبل الشروع في الإقامة أولى أن يستمر فيها ولا يقطعها، والله أعلم.
فصل
في التحذير من أشياء يفعلها كثير من الجهال والمتهاونين بشأن الصلاة،
وبيان ما ورد فيها من النهي الأكيد والوعيد الشديد.
فمن ذلك
مسابقة الإمام في الركوع والسجود والخفض والرفع،
أو موافقته في هذه الأفعال.
وما أكثر من يفعل ذلك في زماننا، وما أقل من ينكر ذلك عليهم، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): ليس لمن يسبق الإمام صلاة، بذلك جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين؛ جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أما يخشى الذين يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟!» وذلك لإساءته في صلاته؛ لأنه لا صلاة له، ولو كانت له صلاة لرجا له الثواب، ولم يخف عليه العقاب أن يحول الله رأسه رأس حمار.
قلت: وهذا الحديث الذي ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى مخرج في الصحيحين، والمسند، والسنن، وغيرها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما يخشى أحدكم -أو ألا يخشى أحدكم- إذا رفع رأسه قبل الإمام؛ أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار» هذا لفظ البخاري.
وفي رواية لمسلم: «أن يجعل الله وجهه وجه حمار» .
ورواه الطبراني، وابن حبان في صحيحه ولفظهما: «ما يُؤمّن أحدكم إذا
رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس كلب».
وعنه رضي الله عنه مرفوعًا: «الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام فإنما ناصيته بيد شيطان» رواه البزار.
ورواه الإمام مالك في موطئه، وعبد الرزاق موقوفًا، قال الحافظ ابن حجر: وهو المحفوظ.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): وجاء الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه نظر إلى من سبق الإمام، فقال: لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت، قال أحمد رحمه الله تعالى: والذي لم يصل وحده، ولم يقتد بإمامه فذلك لا صلاة له.
وجاء الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه نظر إلى من سبق الإمام فقال له: لا صليت وحدك، ولا صليت مع إمامك، ثم ضربه فأمره أن يعيد الصلاة.
قال أحمد رحمه الله تعالى: فلو كان له صلاة عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ما أوجب عليه الإعادة.
قال: ومن العجب أن الرجل يكون في منزله فيسمع الأذان، فيقوم فزعًا يتهيأ من منزله يريد الصلاة لا يريد غيرها، ثم لعله يخرج في الليلة المطيرة ويتخبط في الطين ويخوض إلى أن تبتل ثيابه، وإن كان في ليالي الصيف فليس يأمن العقارب والهوام في ظلمة الليل، ولعله مع هذا أن يكون مريضا ضعيفًا فلا يدع الخروج إلى المسجد، فيحتمل هذا كله إيثارًا للصلاة وحبًا
لها وقصدًا إليها، لم يخرجه من منزله غيرها، فإذا دخل في الصلاة مع الإمام خدعه الشيطان، فسابق الإمام في الركوع والسجود والخفض والرفع، خدعًا من الشيطان لما يريده من إحباط عمله وإبطال صلاته، فيخرج من المسجد ولا صلاة له، ومن العجب أنهم كلهم يستيقنون أنه ليس أحدًا ممن خلف الإمام ينصرف من صلاته حتى ينصرف الإمام، وكلهم ينتظرون الإمام حتى يسلم بهم، وكلهم إلا ما شاء الله يسابقونه في الركوع والسجود والرفع والخفض خدعًا من الشيطان واستخفافًا بالصلاة منهم واستهانة بها، وذلك حظهم من الإسلام.
وقد جاء في الحديث: «لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة» فكل مستخف بالصلاة مستهين بها، فهو مستخف بالإسلام مستهين به، وإنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم في الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة، فاعرف نفسك يا عبد الله، واحذر أن تلقى الله ولا قدر للإسلام عندك، فإنّ قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الصلاة عمود الإسلام» ألست تعلم أن الفسطاط إذا سقط عموده سقط الفسطاط، لم ينتفع بالأطناب ولا بالأوتاد، وإذا قام عمود الفسطاط انتفع بالأطناب والأوتاد، فكذلك الصلاة من الإسلام.
فانظروا رحمكم الله، واعقلوا وأحكموا الصلاة، واتقوا الله فيها، وتعاونوا عليها، وتناصحوا فيها بالتعليم من بعضكم لبعض، والتذكر من بعضكم لبعض من الغفلة والنسيان، فإن الله عز وجل قد أمركم أن تعاونوا
على البر والتقوى، والصلاة من أفضل البر، وقد جاء في الحديث «أن كل مصل راع ومسؤول عن رعيته» ، وقد قيل: إن الإمام راع لمن يصلي بهم؛ فما أولى الإمام بالنصيحة لمن يصلي خلفه، وأن ينهاهم عن المسابقة في الركوع والسجود، وأن لا يركعوا ويسجدوا مع الإمام، بل يأمرهم بأن يكون ركوعهم وسجودهم ورفعهم وخفضهم بعده، وأن يحسن أدبهم وتعليمهم إذا كان راعيًا لهم، وكان غدًا مسؤولاً عنهم، فرحم الله رجلاً رأى أخاه يسبق الإمام فيركع أو يسجد معه، أو يصلي وحده فيسيء في صلاته، فينصحه ويأمره وينهاه ولم يسكت عنه؛ فإن نصيحته واجبة عليه لازمة له، وسكوته عنه إثم ووزر، وإن الشيطان يريد أن تسكتوا عن الكلام بما أمركم الله به، وأن تدعوا التعاون على البر والتقوى الذي أوصاكم الله به، والنصيحة التي عليكم بعضكم لبعض؛ لتكونوا مأثومين مأزورين؛ وأن يضمحل الدين ويذهب، وأن لا تحيوا سنة ولا تميتوا بدعة، فأطيعوا الله بما أمركم به من التناصح والتعاون على البر والتقوى، ولا تطيعوا الشيطان فإن الشيطان لكم عدو مبين.
وقد قال بعض أهل الجهل: ليس على من سبق الإمام ساهيًا شيء؛ تأويلاً منهم للحديث الذي جاء «ليس على من خلف الإمام سهو» وقد جاء الحديث بذلك، ولكنهم أخطأوا معناه وتأويله؛ إنما معناه: من قام ساهيًا فيما ينبغي له أن يجلس فيه، أو يجلس ساهيًا فيما له أن يقوم فيه، أو سهى فلم يَدرِ كم صلى ثلاثًا أو أربعًا، أو ترك بعض التكبيرات ساهيًا، فليس عليه سهو، وليس ذلك فيمن سبق الإمام. فلم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن
المهاجرين والأنصار لمن سبق الإمام ساهيًا أو غير ساه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار» لم يقل إلا أن يكون ساهيًا، ولم يأمره بسجدتي السهو، وقول ابن مسعود رضي الله عنهما: لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت، لم يقل إلا أن يكون ساهيًا، ولم يأمره بسجدتي السهو، وقول ابن عمر رضي الله عنهما: ما صليت وحدك ولا صليت مع الإمام، ولم يقل إلا أن يكون ساهيًا، ولم يأمره بسجدتي السهو، ولكن ضربه وأمره بالإعادة، وقول سلمان رضي الله عنه: الذي يرفع رأسه قبل الإمام ويخفض قبله ناصيته بيد الشيطان يخفضه ويرفعه، ولم يقل إلا أن يكون ساهيًا، ولم يأمره بسجدتي السهو.
وقد سها النبي صلى الله عليه وسلم، وسها عمر، وسها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمنهم من سها وترك القراءة في الركعتين الأوليين ثم قرأ في الأخريين، ومنهم من سها فقام فيما ينبغي له أن يجلس فيه وجلس فيما ينبغي أن يقوم فيه، ففي هذا كله وفيما أشبهه سجدتا السهو، بذلك جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم، وذلك هو السنة.
فأما من سبق الإمام، فإنما جاء عنهم أنه لا صلاة له؛ على ما فسرت لك من قولهم: مَن سبق الإمام فلا صلاة له، ساهيًا كان أو غير ساه، وليس للسهو هاهنا موضع يعذر فيه صاحبه، وكيف يجوز السهو هاهنا وهو إذا رأى الإمام قد هوى من قيامه بادره فيسجد قبله، أو ينظر إلى الإمام ساجدًا بعده، وهو قد رفع رأسه، أو ينظر إليه يريد أن يسجد فيبادر قبله، أو ساعة يفرغ الإمام من القراءة يبادر فيركع قبله من قبل أن يكبر الإمام فيركع، وإنما
ينبغي في هذا كله أن ينتظر حتى يركع أو يسجد أو يرفع أو يخفض وينقطع تكبيره في ذلك كله ثم يتبعه بعد فعل الإمام وبعد انقطاع تكبيره، وليس للسهو هاهنا موضع يعذر به صاحبه، ولم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم، ولا أمروه بسجدتي السهو ولكن أمروه بالإعادة، وخوّفه النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول رأسه رأس حمار؛ إنما ذلك لاستخفافه بالصلاة واستهانته بها، وصغر خطرها في قلبه.
فليحذر جاهل أن يعذر نفسه فيما لا عذر له فيه، فيحمل وزر نفسه، ووزر من يفتنه بحجة مدحوضة لم يحتج بها أحد من الأبرار، فاعتنوا عباد الله بصلاتكم؛ فإنها آخر دينكم، وليحذر امرؤ أن يظن أنه قد صلى وهو لم يصل. انتهى المقصود من كلام الإمام أحمد رضي الله عنه ملخصًا.
وفي المسند، وسنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون» .
وروى الإمام أحمد أيضا، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا، فبين لنا سنتنا وعلَّمنا صلاتنا -فذكر الحديث- وفيه:«فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا؛ فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم» وفيه: «وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا؛ فإن الإمام يسجد قبلكم، ويرفع قبلكم» الحديث.
وفي الصحيحين، والسنن إلا ابن ماجة، عن البراء بن عازب -رضي الله
عنهما- قال: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال: «سمع الله لمن حمده» لم يحن أحد ظهره حتى يضع النبي صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض.
زاد في رواية مسلم: «ثم يخر مَن وراءه سجدًا» .
وفي رواية له ولأبي داود: أنهم كانوا يصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ركع ركعوا، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال:«سمع الله لمن حمده» لم نزل قيامًا حتى نراه قد وضع وجهه في الأرض، ثم نتبعه. وفي رواية النسائي نحوه.
وفي صحيح مسلم، عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم الفجر فسمعته يقرأ: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجدًا.
وفي المسند، وصحيح مسلم، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف» .
قال النووي رحمه الله تعالى: المراد بالانصراف السلام.
وفي سنن ابن ماجة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ركعت فاركعوا، وإذا رفعت فارفعوا، وإذا سجدت فاسجدوا، ولا ألفين رجلا يسبقني إلى الركوع ولا إلى السجود» .
وله أيضًا، ولأبي داود، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبادروني بالركوع ولا بالسجود، فمهما أسبقكم به
إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت، ومهما أسبقكم به إذا سجدت تدركوني به إذا رفعت».
وفي الباب أحاديث سوى ما ذكرنا هاهنا، وفيما ذكرنا كفاية ومقنع لمن أراد الله هدايته.
وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أن مسابقة الإمام حرام باتفاق الأئمة، قال: ومن سبقه سهوًا لم تبطل صلاته ولم يعتد له بما سبق إمامه؛ فلهذا أمره الصحابة رضي الله عنهم أن يتخلف بمقدار ما سبق به الإمام، ليكون فعله بقدر فعل الإمام، فأما إذا سبقه عمدًا ففي بطلان صلاته قولان في مذهب أحمد وغيره. انتهى.
قلت: والصحيح البطلان، نص عليه أحمد رحمه الله تعالى كما تقدم في كلامه قريبًا، واستدل على ذلك بالأحاديث، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، ولم يفرق بين المتعمد والساهي، بل جعل حكمهما سواء، ولعل ذلك -والله أعلم- فيمن سها فسبق الإمام، ثم علم بالسبق واستمر على إتمام ما سبق به إمامه، ولم يرجع ليأتي به بعد الإمام ثم يتابعه فيما بقي، والله أعلم.
فصل
ومن الأفعال السيئة الالتفات في الصلاة، فينبغي التحذير منه، والإنكار على من فعله؛ لما رواه الترمذي في جامعة، والطبراني في المعجم الصغير، عن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني، إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لابد ففي التطوع، لا في فريضة» قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى الإمام أحمد، والبخاري، وأهل السنن إلا ابن ماجة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» .
وروى الإمام أحمد أيضًا، وأبو داود، والنسائي، والحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن يحيى بن زكريا عليهما السلام قال لبني إسرائيل: وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه قبل عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والطبراني، والحاكم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاري-: الحارث الأشعري له
صحبه، وله غير هذا الحديث.
وقال الحاكم: قد أخرج الشيخان برواة هذا الحديث عن آخرهم، والحديث على شرط الأئمة صحيح محفوظ، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وقال في موضع آخر: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا الحديث عظيم الشأن، ينبغي لكل مسلم حفظه وتعقله. انتهى.
وفي المسند، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال:«يا أيها الناس، إياكم والالتفات؛ فإنه لا صلاة للملتفت، فإن غُلبتم في التطوع فلا تغلبن في الفريضة» .
والالتفات المذموم هو ما كان لغير حاجة، أو كان لها وكثر، فأما إن كان يسيرًا لحاجة فهو معفو عنه، وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق، وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وفي معنى الالتفات المذموم نظر المصلي إلى ما يلهيه، كالنظر إلى السقوف والحيطان وما فيهما من نقوش وكتابة وغيرها، وكالنظر إلى ثيابه أو ما بين يديه من آدميين أو حيوانات، أو غير ذلك مما يلهيه ويشغل قلبه عن الحضور في الصلاة، وكذلك التفكر في الأمور الدنيوية وغير ذلك مما يلهي القلب ويصده عن الخشوع والحضور الذي هو روح الصلاة ومقصودها، والاسترسال مع الوساوس والأفكار إنما يكون من التفات القلب، كما أن ما ذكر قبله جامع بين التفات الوجه والقلب، وكل ذلك من اختلاس الشيطان، والله أعلم.
فصل
ومن الأفعال السيئة رفع البصر إلى السماء في الصلاة، وقد حكى ابن بطال وغيره الإجماع على كراهته، ووردت السنة بالزجر عنه، والوعيد الشديد على فعله؛ كما في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم» فاشتد قوله في ذلك حتى قال: «لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» رواه الإمام أحمد، والبخاري، وأهل السنن إلا الترمذي.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء أن تلتمع - يعني في الصلاة -» رواه ابن ماجة.
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حدثه أنه سمع رسول الله يقول: «إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يرفع بصره إلى السماء أن يلتمع بصره» رواه النسائي.
وهذا الوعيد الشديد يقتضي تحريم رفع البصر إلى السماء في الصلاة،
وقد صرح بذلك الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) قال: وأفرط ابن حزم فقال يبطل الصلاة. انتهى.
إذا علم هذا فكثير من الجهال واقعون في هذا المنكر الذميم، وكثير من الناس يراهم يفعلون ويسكت عنهم، ويظن أن السكوت يسعه وليس كذلك؛ لأن المحسن في صلاته شريك المسيء في صلاته إذا لم ينهه وينصحه، فكل من رآهم وجب عليه نصيحتهم والإنكار عليهم بحسب الاستطاعة، فإن لم يفعل فهو شريكهم كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: من رأى من يسيء في صلاته فلم ينهه شاركه في وزرها وعارها. ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة).
فصل
ومن ذلك العبث باللحية والشارب والأنف، وكثرة مسح الحصى وتسوية الأرض، وكثرة تعديل الثياب، وفرقعة الأصابع وتشبيكها، والتثاؤب والتمطي، وتغميض العينين، وتغطية الفم، وكثرة مسح الجبهة قبل السلام؛ فكل هذه الأفعال تنقص الصلاة، وكثير من الجهال واقعون فيها، وقد جاءت السنة بذم بعض ذلك والنهي عن بعضه، والذم يقتضي النهي، كما أن النهي يقتضي الذم على المخالفة.
فمما ورد في هذا الباب من الأحاديث ما رواه الحكيم الترمذي في (النوادر) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: «لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه» في إسناده سليمان بن عمرو أبو داود النخعي الكوفي، قال البخاري رحمه الله تعالى: معروف بالكذب، سمعت قتيبة يقول. وقال في تاريخه الصغير: رماه قتيبة وإسحاق بالكذب. وقال النسائي: متروك. وقال ابن عدي: أجمعوا على أنه يضع الحديث. وقال الزين العراقي: متفق على ضعفه. ومن هذه الأقوال يعلم أن إسناد الحديث ساقط، وأما متنه فمعناه مستقيم وليس فيه نكارة، ولهذا يستشهد به الفقهاء في هذا الموضع.
ويدل لصحة معناه ما في الصحيحين وغيرهما، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب» .
فأخبر صلوات الله وسلامه عليه أن الجسد كله تبع للقلب في الصلاح أو الفساد، ومن ذلك حال العبد إذا دخل في الصلاة، إن أقبل عليها وخشع قلبه خشعت جميع الجوارح تبعًا له، وإن سها القلب ولها عمَّا هو فيه انبعثت الجوارح على أنواع العبث مما ذكرنا وما لم نذكره، فمنشأ العبث في الصلاة من غفلة القلب وعدم خشوعه، والله أعلم.
ومن الأحاديث في هذا الباب أيضا ما رواه مسلم في صحيحه، وأهل السنن إلا النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مس الحصى فقد لغا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ومنها ما في الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، عن معيقيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال:«إن كنت فاعلاً فواحدة» .
وفي رواية لمسلم قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسح في المسجد -يعني الحصى- قال: «إن كنت لابد فاعلاً فواحدة» .
وفي أخرى له أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسح في الصلاة، فقال:«واحدة» .
وفي رواية أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمسح وأنت تصلي، فإن كنت لابد فاعلاً فواحدة تسوية الحصى» .
ومنها ما في المسند، والسنن، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة تواجهه» قال الترمذي: حديث حسن.
وفي رواية لأحمد: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل شيء، حتى سألته عن مس الحصى، فقال:«واحدة، أو دع» .
وعنه رضي الله عنه أنه قال: «مسح الحصى مسحة واحدة، وتركها خير من حمر النعم» رواه مالك في موطئه.
ومنها ما رواه الإمام أحمد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصباء؟ فقال: «واحدة، ولأن تمسك عنها خير من مائة ناقة كلها سود الحدق» .
ومنها ما في سنن النسائي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه رأى رجلاً يحرك الحصى بيده وهو في الصلاة، فلما انصرف قال له عبد الله: لا تحرك الحصى وأنت في الصلاة، فإن ذلك من الشيطان، ولكن اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع، قال: وكيف كان يصنع؟ قال: فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام في القبلة، ورمي ببصره إليها أو نحوها، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع.
ومنها ما في الصحيحين، ومسندي الإمامين الشافعي وأحمد، والسنن الأربع، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعرًا ولا ثوبًا» .
وفي رواية لمسلم والنسائي: «ونهى أن يكف الشعر والثياب» ورواه الشافعي في مسنده بنحوه.
وفي رواية للبخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرنا أن نسجد على سبعة
أعظم، ولا نكف ثوبًا ولا شعرًا».
ومنها ما في سنن ابن ماجة، عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تفقع أصابعك وأنت في الصلاة» .
قال أبو عبيد الهروي: التفقيع هو فرقعة الأصابع وغمز مفاصلها حتى تصوت.
ومنها ما رواه الإمام أحمد، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه» .
ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والترمذي، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة» .
ومنها ما رواه ابن ماجة، عن كعب بن عجرة أيضا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شبك أصابعه في الصلاة ففرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.
ومنها ما رواه الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«التثاؤب في الصلاة
من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقد كره قوم من أهل العلم التثاؤب في الصلاة؛ قال إبراهيم: إني لأرد التثاؤب بالتنحنح. انتهى.
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على
فيه ولا يعوي، فإن الشيطان يضحك منه» رواه ابن ماجة.
ومنها ما رواه الدارقطني في الأفراد، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:«نهى أن يتمطى الرجل في الصلاة، أو عند النساء إلا عند امرأته أو جواريه» .
ومنها ما رواه الطبراني، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه» قال ابن أبي حاتم هو حديث منكر.
وروي عن الإمام أحمد وسفيان أنهما قالا: هو فعل اليهود.
واختار ابن القيم رحمه الله تعالى أنه لا يكره التغميض، إذا كان في قبلة المصلي من الزخرفة والتزويق أو غيره ما يشوش قلبه، ويحول بينه وبين الخشوع، قال: والقول باستحبابه في هذه الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة. انتهى.
ومنها ما رواه أبو داود، وابن ماجة، والحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطي الرجل فاه في الصلاة» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن المُجَبّر أنه كان يرى سالم بن عبد الله إذا رأى الإنسان يغطي فاه وهو يصلي جبذ الثوب عن فيه جبذًا شديدًا حتى ينزعه عن فيه.
ومنها ما رواه ابن ماجة أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته» .
فصل
ومن الأفعال السيئة أيضًا: النطق بالنية عند تكبيرة الإحرام وتكريرها، وذلك من البدع التي شرعها الشيطان للموسوسين وزينها لهم، وأضلهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان.
ويتفرع عن هذه البدعة السخيفة ستة أمور ذميمة:
أحدها: الاستهزاء بالمعبود، وافتتاح عبادته ومناجاته بما يشبه هذيان المجانين، وفاعل هذا جدير بالمقت والبعد من الله تعالى، ولو أن رجلاً وقف بين يدي ملك من ملوك الدنيا لخدمته ومناجاته، وقال عند إرادة الشروع في العمل المرسوم له: نويت أن أعمل للملك كذا وكذا، وجعل يهذي بين يدي الملك بنحو ما يهذي به الموسوسون عند افتتاح الصلاة ويكرر ذلك، ويتهوع باسم الملك كما يتهوع الموسوسون بتكبيرة الإحرام لعد الملك ذلك استهزاء به، واستخفافًا بحرمته وحقه، وأهون ما يفعل مع الهاذي بين يديه أن يمقته أشد المقت، ويطرده عن حضرته.
والله تبارك وتعالى له المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، الذي يستحق كمال التعظيم والخضوع والخشوع والإخبات بين يديه وإظهار الذل له والافتقار إليه في جميع الأحوال، والتأدب التام في خدمته ومناجاته، أفلا يستحي الموسوسون من مقابلتهم ملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى بما لا يرضى بمثله ملك من ملوك الدنيا، بل لا يرضى به أحد
من عقلاء بني آدم.
الأمر الثاني: تعليم الله تعالى بما هو عالم به، لا تخفى عليه منه خافية.
وقد أنكر الله تعالى مثل هذا على الأعراب بقوله: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16]، وأساس الدين وروحه النية كما في الحديث الصحيح:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ومحل النية القلب ولا تعلق لها باللسان أصلا، فإذا قال الموسوس: نويت أن أصلي صلاة كذا وكذا لله تعالى، فإنه يعلم الله تعالى بنيته وعمله، والله تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة، مطلع على أعمال العباد كلها خفيها وجليها، فأي حاجة به تبارك وتعالى إلى أن يعلمه الموسوسون بنياتهم وأعمالهم وهو سبحانه وتعالى أعلم بذلك منهم، كما قال تعالى:{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69]، وقال تعالى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
الأمر الثالث: التشويش على من حولهم من المصلين، حتى إن بعض الناس تلتبس عليه القراءة بسبب [جهر]
(1)
من حوله من الموسوسين بالنية.
وقد روى مالك في الموطأ، عن أبي حازم التمار، عن البياضي أن رسول
(1)
ليست في الأصل، والسياق يقتضيها.
الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون، وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال:«إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن» .
وروى أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال:«ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة» أو قال: «في الصلاة» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد صحيحان. انتهى.
وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف، وخطب الناس فقال:«أما إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنه يناجي ربه، فليعلم أحدكم ما يناجي ربه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة في الصلاة» إسناده جيد.
وإذا كان المصلي منفردًا ومثله التالي للقرآن في غير صلاة منهيًا عن الجهر الذي يحصل منه تشويش على من حوله من المصلين والتالين، فنهي المبتدع عن الجهر بنيته أولى لأمرين:
أحدهما: أن التأذي بالوسوسة أعظم من التأذي بالقراءة.
الثاني: إن الجهر بالنية بدعة، والبدع يجب تغييرها والإنكار على
أهلها، والله أعلم.
الأمر الرابع: مشابهة المجانين، فإن كلا من المجنون والموسوس بالنية يهذي بما يستقبحه كل عاقل.
الأمر الخامس: تعذيب الموسوس نفسه بما لم يأمره الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد رأيت بعض الحجاج في المسجد الحرام يعالجون في إخراج النية أعظم شدة ومشقة، وتنتفخ أوداج بعضهم ويحمر وجهه، مما يصيبه من الكرب في إخراج النية، كأنه يستخرجها من أقصى جوفه، ثم يتهوع بتكبيرة الإحرام كما يتهوع الذي يتقيأ، وهذا من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان في أعناق الموسوسين، وأهل السنة في عافية منها، ولله والحمد والمنة.
الأمر السادس: فوات الفضيلة على الموسوسين، وهم في ذلك درجات؛ فبعضهم تفوته تكبيرة الإحرام مع الإمام، وبعضهم تفوته قراءة الفاتحة، وبعضهم يتمادى به الوسواس ويردده الشيطان في تصحيح النية حتى تفوته الركعة، وربما فاته ركعتان أو ثلاث، وربما فاتته الصلاة كلها مع الجماعة، وربما صلى وحده صلوات كثيرة، كلما صلى صلاة جاءه الشيطان فقال: إنك لم تصحح النية فأعد صلاتك، فلا يزال في طاعة الشيطان متلددًا حيرانًا يدخل في الصلاة ثم يقطعها، أو يتمها ثم يعيدها، وهذا من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان في أعناق الموسوسين.
وإذا علم حاصل من اتبع البدعة ولم تسعه السنة فليعلم أيضا أن النية الواجبة في العبادات كلها محلها القلب باتفاق أئمة المسلمين، حكى ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه.
قال في جواب له: الجهر بلفظ النية ليس مشروعًا عند أحد من علماء المسلمين، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أحد من خلفائه وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، ومن ادعى أن ذلك دين الله وأنه واجب فإنه يجب تعريفه الشريعة واستتابته من هذا القول، فإن أصر على ذلك قتل، بل النية الواجبة للعبادات كالوضوء والغسل والصلاة والزكاة والصيام والكفارة وغير ذلك محلها القلب باتفاق أئمة المسلمين، والنية هي القصد والإرادة، والقصد والإرادة محلهما القلب دون اللسان باتفاق العقلاء، فلو نوى بقلبه صحت نيته عند الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين من الأولين والآخرين، وليس في ذلك خلاف عند من يقتدي به ويفتي بقوله، ولكن بعض المتأخرين -من أتباع الأئمة- زعم أن اللفظ بالنية واجب ولم يقل إن الجهر بها واجب، ومع أن هذا القول خطأ صريح، مخالف لإجماع المسلمين؛ ولما عُلم بالاضطرار من دين الإسلام عند من يعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه، وكيف كان يصلي الصحابة والتابعون، فإن كل من يعلم ذلك يعلم أنهم لم يكونوا يتلفظون بالنية، ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولا علّمه لأحد من الصحابة، بل قد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه قال للأعرابي:«إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» .
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليليها التسليم» .
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين» .
وقد ثبت بالنقل المتواتر وإجماع علماء المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يفتتحون الصلاة بالتكبير، ولم ينقل مسلم لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه تلفظ قبل التكبير بلفظ النية لا جهرًا ولا سرًا، ولا أنه أمر بذلك، ومن المعلوم أن الهمم والدواعي متوفرة على نقل ذلك لو كان، وأنه يمتنع من أهل التواتر عادة وشرعًا كتمان نقل ذلك، فإذا لم ينقله أحد عُلم قطعًا أنه لم يكن.
وأيضا فإن التلفظ بالنية فاسد في العقل، فإن قول القائل: أنوي أن أفعل كذا وكذا بمنزلة قوله: أنوي أكل هذا الطعام لأشبع، وأنوي ألبس هذا الثوب لأستتر، وأمثال ذلك من النيات الموجودة في القلب التي يستقبح النطق بها.
وبالجملة فلا بد من النية في القلب بلا نزاع، وأما التلفظ بها سرًا فهل يكره أو يستحب؟ فيه نزاع بين المتأخرين، وأما الجهر بها فهو مكروه منهي عنه غير مشروع باتفاق المسلمين. وكذلك تكريرها أشد وأشد، وسواء في ذلك الإمام والمأموم والمنفرد، فكل هؤلاء لا يشرع لأحد منهم أن يجهر بلفظ النية ولا يكررها باتفاق المسلمين، بل ينهون عن ذلك.
انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى ملخصًا.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: علم الفاعل بما يفعله وقصده له هو النية، والعاقل المختار لا يفعل فعلاً إلا مسبوقًا بتصوره وإرادته، وذلك حقيقة النية، فليست النية أمرًا خارجًا عن تصور الفاعل وقصده لما يريد أن يفعله، وبهذا يعلم غلط من ظن أن للتلفظ مدخلاً في تحصيل النية، فإن القائل إذا قال: نويت صلاة الظهر، أو نويت رفع الحدث، إما أن يكون مخبرًا أو منشئًا، فإن كان مخبرًا فإما أن يكون إخباره لنفسه أو لغيره، وكلاهما عبث لا فائدة فيه؛ لأن الإخبار إنما يفيد إذا تضمن تعريف المخبَر ما لم يكن عارفًا به، وهذا محال في إخباره لنفسه، وإن كان إخبارًا لغيره بالنية فهو عبث محض، وهو غير مشروع ولا مفيد، وهو بمثابة إخباره له بسائر أفعاله من صومه وصلاته وحجة وزكاته، بل بمنزلة إخباره له عن إيمانه وحبه وبغضه، بل قد تكون في هذا الإخبار فائدة، وأما إخبار المأمومين أو الإمام أو غيرهما بالنية فعبث محض، ولا يصح أن يكون ذلك إنشاء، فإن اللفظ لا ينشئ وجود النية، وإنما إنشاؤها إحضار حقيقتها في القلب لا إنشاء اللفظ الدال عليها، فعلم بهذا أن التلفظ بها عبث محض، فتأمل هذه النكتة البديعة. انتهى.
فصل
ومن الأفعال السيئة أيضًا تعويج الصفوف، وترك الفرج فيها، وذلك مما ينقص الصلاة؛ لما في الصحيحين، وسنن أبي داود، وابن ماجة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» ، ولفظ البخاري:«من إقامة الصلاة» .
وفي المسند عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من تمام الصلاة إقامة الصف» .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة» .
وفيهما أيضا عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لتسونّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» .
وفي رواية لمسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أنَّا قد عقلنا عنه، ثم خرج يومًا فقام حتى كاد يكبر فرأى رجلا باديًا صدره من الصف فقال:«عباد الله، لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح، قال: وفي الباب عن جابر بن سمرة، والبراء، وجابر بن عبد الله، وأنس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم.
وفي رواية لأحمد وأبي داود قال: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه. صححه ابن خزيمة.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه نحو ذلك.
وفي رواية لأبي داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «يسوي صفوفنا إذا قمنا للصلاة، فإذا استوينا كبر» .
وروى الإمام مالك في موطئه، عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأمر بتسوية الصفوف، فإذا جاءوه فأخبروه أن قد استوت كبر.
وروى أيضا عن أبي سهيل نافع بن مالك الأصبحي، عن أبيه قال: كنت مع عثمان بن عفان، فقامت الصلاة وأنا أكلمه في أن يفرض لي، فلم أزل أكلمه وهو يسوي الحصباء بنعليه، حتى جاءه رجال قد كان وكلهم بتسوية الصفوف فأخبروه أن الصفوف قد استوت، فقال لي: استو في الصف، ثم كبر.
وروى أيضا عن أبي النضر مولي عمر بن عبيد الله، عن مالك بن أبي عامر -وهو جد الإمام مالك- أن عثمان رضي الله عنه كان لا يكبر حتى يأتيه رجال قد وكلهم بتسوية الصفوف، فيخبرونه أن قد استوت، فيكبر.
ورواه الشافعي في مسنده عن مالك.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء عن عمر أنه كان يقوم مقام الإمام، لا يكبر حتى يأتيه رجل قد وكله بإقامة الصفوف، فيخبره أنهم قد استووا فيكبر.
وجاء عن عمر بن عبد العزيز مثل ذلك.
وروي أن بلالاً كان يسوي الصفوف، ويضرب عراقيبهم بالدرة، حتى يستووا.
قال بعض العلماء: قد يشبه أن يكون هذا من بلال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إقامته قبل أن يدخل في الصلاة.
وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه: روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يوكل رجلاً بإقامة الصفوف، ولا يكبر حتى يخبر أن الصفوف قد استوت.
وروي عن علي وعثمان أنهما كان يتعاهدان ذلك ويقولان: استووا، وكان علي يقول: تقدم يا فلان، تأخر يا فلان.
وقال ابن حزم: صح عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب قدم أبي عثمان النهدي لإقامة الصف، وصح عن سويد بن غفلة قال: كان بلال يسوي مناكبنا، ويضرب أقدامنا في الصلاة. انتهى.
وهذا الذي ذكره سويد في فعل بلال كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك؛ لأن سويدًا لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم، فلعل بلالاً كان يفعل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، والله أعلم.
وفي المسند وسنن أبي داود، عن محمد بن مسلم بن السائب -صاحب المقصورة- قال: صليت إلى جنب أنس بن مالك يومًا فقال: هل تدري لم صنع هذا العود؟ فقلت: لا والله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع عليه يده فيقول: «استووا واعدلوا صفوفكم» .
وفي رواية لأبي داود قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة أخذ
بيمينه ثم التفت فقال: «اعتدلوا سووا صفوفكم» ثم أخذه بيساره فقال: «اعتدلوا سووا صفوفكم» .
وفي سنن النسائي، عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:«استووا، استووا، استووا، فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي» .
وفي المسند، وصحيح مسلم، وسنن النسائي، وابن ماجة، عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، لِيَلِنِي منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» .
وفي المسند، وسنن أبي داود، والترمذي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لِيَلِنِي منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وإياكم وهيشات الأسواق» قال الترمذي: حديث حسن غريب.
وقد رواه مسلم في صحيحه، وليس عنده «ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم» .
قال الخطابي: «هيشات الأسواق» ما يكون فيها من الجلبة وارتفاع الأصوات، وما يحدث فيها من الفتن، وأصله من الهوش وهو الاختلاط، يقال: تهاوش القوم إذا اختلطوا، ودخل بعضهم في بعض، وبينهم تهاوش أي اختلاط واختلاف. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر:
المراد بتسوية الصفوف:
اعتدال القائمين بها
على سمت واحد، أو يراد بها: سد الخلل الذي في الصف. انتهى.
قلت: كلا الأمرين من تسوية الصفوف وإقامتها، وظواهر الأحاديث التي تقدمت والتي ستأتي تشمل الأمرين، وهذا هو الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ويدل على ذلك قول النعمان وأنس رضي الله عنهما: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه.
وأما ما جاء من النص على سد الخلل، مع الأمر بتسوية الصفوف كما سيأتي في حديث أبي أمامة وابن عمر رضي الله عنهم، فليس المراد بذلك المغايرة بين الأمرين، وإنما هو اهتمام ببعض أفراد تسوية الصفوف وإقامتها، والله أعلم.
وفي قوله: «لتسوون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم» دليل على وجوب تسوية الصفوف، وهو ظاهر كلام الإمام أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه، ومال إليه الحافظ ابن حجر، قال: والتفريط فيه حرام.
قال: واختلف في الوعيد المذكور؛ فقيل هو على حقيقته، والمراد بتسوية الوجه بتحويل خلقه عن وجهه
(1)
بجعله موضع القفا، أو نحو ذلك، فهو نظير ما تقدم من الوعيد فيمن رفع رأسه قبل الإمام، أن يجعل الله رأسه رأس حمار.
(1)
كذا في الأصل، وفي الفتح: والمراد تسوية الوجه بتحويل خلقه عن وضعه
…
إلخ [فتح الباري 2/ 207].
وفيه من اللطائف: وقوع الوعيد من جنس الجناية، وهي المخالفة.
ويؤيد حمله على ظاهره حديث أبي أمامة: «لتسوون الصفوف، أو لتطمسن الوجوه» أخرجه أحمد، وفي إسناده ضعف، ولهذا قال ابن الجوزي: الظاهر أنه مثل الوعيد المذكور في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} .
ومنهم من حملة على المجاز، قال النووي: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء، واختلاف القلوب، كما تقول: تغير وجه فلان على أي ظهر لي من وجهه كراهية؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن، ويؤيده رواية أبي داود وغيره بلفظ:«أو ليخالفن الله بين قلوبكم» . انتهى.
قال أبو موسى المديني في قوله: «أو ليخالفن الله بين وجوهكم» : أراد وجوه القلوب؛ كحديثه الآخر: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» أي: هواها وإرادتها. انتهى، وهذا موافق لقول النووي.
وذكر الحافظ أيضا فيه قولين ضعيفين لا حاجة إلى ذكرهما، والله أعلم.
وفي المسند، وسنن أبي داود، والنسائي، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلل الصفوف من ناحية إلى ناحية، يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول:«لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» وكان يقول: «إن الله عز وجل وملائكته يصلون على الصفوف الأول» .
ورواه الحاكم في مستدركه بنحوه.
وفي المسند، وصحيح مسلم، والسنن إلا الترمذي، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟» فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال:«يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف» .
وفي المسند أيضا، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف» .
وفي سنن أبي داود، والنسائي، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشياطين تدخل من خلال الصف، كأنها الحذف» .
قال الخطابي رحمه الله تعالى: الحذف غنم سود صغار، ويقال: إنها أكثر ما تكون باليمن.
وقال أبو السعادات ابن الأثير: هي الغنم الصغار الحجازية؛ واحدتها حذفة بالتحريك، وقيل: هي صغار جرد ليس لها آذان ولا أذناب، يجاء بها من جرش اليمن.
قلت: وقد جاء تفسير الحذف مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فروى الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الصغير، والحاكم في مستدركه، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيموا صفوفكم، لا يتخللكم كأولاد الحذف» قيل: يا رسول الله، وما أولاد الحذف؟ قال:
«سود جرد تكون بأرض اليمن» هذا لفظ أحمد.
ولفظ الطبراني قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تراصوا في الصفوف، ولا يتخللكم الشيطان كأولاد الحذف» قيل: وما أولاد الحذف؟ قال: «ضأن سود تكون بأرض اليمن» .
ولفظ الحاكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تراصوا في الصف، لا يتخللكم أولاد الحذف» قلت: يا رسول الله، ما أولاد الحذف؟ قال:«ضأن جرد سود تكون بأرض اليمن» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي المسند، وسنن أبي داود، ومستدرك الحاكم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أقيموا الصفوف، فإنما تصفون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا في أيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله تبارك وتعالى، ومن قطع صفا قطعه الله» هذا لفظ أحمد رحمه الله، وصححه ابن خزيمة، والحاكم وقال: على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى النسائي منه قوله: «من وصل صفًا
…
» إلى آخره.
وفي المسند، وسنن ابن ماجة، وصحيح ابن حبان، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته يصلون على الذين يَصِلون الصفوف، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة» .
وروى الحاكم منه قوله: «إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف» ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي المسند أيضا، وسنن أبي داود، والنسائي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر» .
وفي سنن أبي داود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار» .
وفي صحيح مسلم، والسنن إلا الترمذي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخرًا فقال:«تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله» .
وفي المسند، وصحيح مسلم، والسنن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» قال الترمذي: حسن صحيح.
وفي سنن ابن ماجة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال مقدمها، وشرها مؤخرها، وخير صفوف النساء مؤخرها، وشرها مقدمها» .
وفي الصحيحين، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، وسنن النسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء
والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه» الحديث.
وفي رواية لمسلم، وابن ماجة، عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لو تعلمون -أو يعلمون- ما في الصف المقدم لكانت قرعة» .
وفي رواية لمسلم: «ما كانت إلا قرعة» .
وفي سنن النسائي، وابن ماجة، ومستدرك الحاكم، والحلية لأبي نعيم، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يصلي على الصف الأول ثلاثًا، وعلى الثاني واحدة» هذا لفظ النسائي، ولفظ أبي نعيم نحوه، ولفظ ابن ماجة «كان يستغفر للصف المقدم ثلاثًا وللثاني مرة» قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح على شرطهما ولم يخرجا للعرباض.
وفي المسند، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول» .
ولابن ماجة أيضا، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.
وفي سنن أبي داود، وابن ماجة، وصحيح ابن حبان، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف» .
وإذا علم اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بتسوية الصفوف ورصها، وسد ما كان فيها من الفرجات، فالواجب على الأئمة أن يقتدوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم -
وبأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وأن يعتنوا بأمر المأمومين ولا يتركوهم هملاً، فإنهم مسؤولون عنهم كما جاء في الحديث الصحيح:«كلكم راع ومسؤول عن رعيته» ، وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء في الحديث: «إن كل مصل راع ومسئول عن رعيته» وقد قيل: إن الإمام راع لمن يصلي بهم، فما أولى الإمام بالنصيحة لمن يصلي خلفه، وأن يحسن أدبهم وتعليمهم إذ كان راعيًا لهم وكان غدا مسؤولاً عنهم -إلى أن قال-: وَامُر يا عبد الله الإمام ألا يكبر أول ما يقوم مقامه للصلاة حتى يلتفت يمينًا وشمالاً، فإن رأى الصف معوجًا والمناكب مختلفة أمرهم أن يسووا صفوفهم وأن يحاذوا مناكبهم، فإن رأى بين كل [رجلين]
(1)
فرجة أمرهم أن يدنو بعضهم من بعض حتى تتماس مناكبهم، واعلموا أن اعوجاج الصفوف واختلاف المناكب ينقص من الصلاة، فاحذروا ذلك -ثم ذكر أحاديث في النهي عن ذلك وتقدم ذكرها ثم قال-: فتسوية الصفوف، ودنو الرجال بعضهم من بعض من تمام الصلاة، وترك ذلك نقص في الصلاة. انتهى.
والواجب على المأمومين أن يمتثلوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم بتسوية صفوفهم ورصها، والمقاربة بينها، وسد الخلل فيها، ويبتعدوا عما نهاهم عنه من الاختلاف الذي يؤدي إلى الاختلاف بين وجوههم وقلوبهم، ويجب عليهم أن يسيروا على منهاج الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- في تعديل
(1)
ساقطة من الأصل المخطوط.
صفوفهم ورصها، بحيث كان الرجل منهم يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه، ولا يتركوا بينهم فرجات تدخل فيها الشياطين، وينبغي لهم أيضا أن يسارعوا إلى الصف الأول، وميمنة الصف ليغتنموا فضل ذلك، ولا يتأخروا مع المتأخرين فيؤخرهم الله تعالى، قال الله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
فصل
ومما يقع من كثير من الجُهَّال أن يصلي أحدهم منفردًا خلف الصف.
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من رآه يصلي فذا خلف الصف، وأمره أن يعيد الصلاة؛ قال علي بن شيبان رضي الله عنه: خرجنا حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا خلفه، قال: ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة، فرأى رجلاً فردًا يصلي خلف الصف، قال: فوقف عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى انصرف قال: «استقبل صلاتك، لا صلاة للذين خلف الصف» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة وهذا لفظه، وأشار إليه الترمذي في جامعه.
وفي رواية أحمد فقال له: «استقبل صلاتك، فإنه لا صلاة لفرد خلف الصف» .
ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته نظر إلى رجل خلف الصف وحده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هكذا صليت؟» قال: نعم، قال:«فأَعِد صلاتك، فإنه لا صلاة لفرد خلف الصف وحده» .
وفي المسند، والسنن إلا النسائي، عن وابصة بن معبد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده «فأمره أن يعيد الصلاة» .
ورواه ابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن.
وقال ابن المنذر: ثبت الحديث أحمد، وإسحاق.
وفي رواية لأحمد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل صلى خلف الصفوف وحده، فقال:«يعيد الصلاة» .
إذا عرف هذا فحكم النساء إذا كثرن كحكم الرجال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه؛ فلو وقفت امرأة خلف صف النساء فذة لم تصح صلاتها؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة لفرد خلف الصف» .
قال ابن حزم: على النساء من إقامة الصفوف إذا كثرن ما على الرجال لعموم الأمر بذلك.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: والمرأة إذا كان معها امرأة أخرى تصاففها كان من حقها أن تقف معها، وكان حكمها إن لم تقف معها حكم الرجل المنفرد عن صف الرجال؛ وهو أحد القولين في مذهب أحمد رحمه الله تعالى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما المرأة فإن السنة وقوفها فذة إذا لم يكن هناك امرأة تقف معها؛ لأنها منهية عن مصافة الرجال، فموقفها المشروع أن تكون خلف الصف فذة، فإن قيل: فلو كان معها نساء ووقفت وحدها صحت صلاتها، قيل: هذا غير مسلم، بل إذا كان صف النساء فحكم المرأة بالنسبة إليه في كونها فذة كحكم الرجل بالنسبة إلى صف الرجال. انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى أيضًا في موضع آخر: فإن قيل لو وقفت
المرأة فذة خلف صف النساء صحت صلاتها، قيل: ليس كذلك؛ بل إذا انفردت المرأة عن صف النساء لم تصح صلاتها؛ كالرجل الفذ خلف صف الرجال، ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في تعليقه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة لفرد خلف الصف» خرج من هذا ما إذا كانت وحدها خلف الرجال للحديث الصحيح بقي فيما عداه على هذا العموم. انتهى.
والمقصود ههنا التنبيه على أن صلاة الفذ خلف الصف غير مجزئة، وعليه أن يعيد الصلاة، وأن حكم المرأة إذا كان معها من يصاففها كحكم الرجل، والله أعلم.
فصل
ومما يفعله كثير من الجهال أنهم لا يفصلون بين صلاة الفريضة وصلاة النافلة بالفصل المأمور به شرعًا، بل يصل أحدهم سلام الفريضة بالإحرام بالنافلة، وقد رأيت كثيرًا من أهل الآفاق يفعلون ذلك في المسجد الحرام أيام الموسم، يقومون في مواضعهم من حين يسلمون من الفريضة فيحرمون بالنافلة من غير فصل بينها وبين الفريضة، وما رأيت أحدًا ينكر ذلك عليهم وينهاهم عن مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، عن عمر بن عطاء بن أبي الخوار، أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن يزيد -ابن أخت نمر- يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة، فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إليَّ فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصليها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرنا بذلك ألا نوصل صلاة حتى نتكلم أو نخرج» .
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: السنة أن يفصل بين الفرض والنفل في الجمعة وغيرها، وفي هذا من الحكمة التمييز بين الفرض وغير الفرض، كما يميز بين العبادة وغير العبادة. انتهى.
فصل
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): ومن الحق الواجب على المسلمين أن يقدموا خيارهم، وأهل الدين، والأفضل منهم أهل العلم بالله تعالى، الذين يخافون الله ويراقبونه، وقد جاء الحديث:«إذا أم بالقوم رجل وخلفه من هو أفضل منه لم يزالوا في سفال» ، وجاء الحديث:«أجعلوا أمر دينكم إلى فقهائكم، وأئمتكم قرائكم» ، وإنما معناه الفقهاء والقراء أهل الدين والفضل والعلم بالله تعالى، والخوف من الله تعالى، الذين يعتنون بصلاتهم وصلاة من خلفهم، ويتقون ما يلزمهم من وزر أنفسهم ووزر من خلفهم إن أساوؤا في صلاتهم، ومعنى القراء ليس على حفظ القرآن، فقد يحفظ القرآن من لا يعمل به، ولا يعبأ بدينه، ولا بإقامة حدود القرآن، وما فرض الله عز وجل عليه فيه، وقد جاء الحديث:«إن أحق الناس بهذا القرآن من كان يعمل به وإن كان لا يقرأ» ، فالإمام بالناس المقدم بين أيديهم أعلمهم بالله وأخوفهم له، وذلك واجب ولازم لهم فتزكو صلاتهم، وإن تركوا ذلك لم يزالوا في سفال وإدبار وانتقاص في دينهم، وبُعد من الله ورضوانه ومِن جنته، فرحم الله قومًا عنوا بدينهم وعنوا بصلاتهم، فقدموا خيارهم واتبعوا في ذلك سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وطلبوا بذلك القربة إلى ربهم. انتهى.
وقد روى الدارقطني في سننه بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سركم أن تزكو صلاتكم فقدموا خياركم» .
وفي سننه أيضًا بإسناد ضعيف، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا أئمتكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين الله عز وجل» .
وفي سننه أيضًا، ومستدرك الحاكم بإسناد ضعيف، عن مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم» .
إذا علم هذا فمن أسفل السفال، وأسوأ الأفعال، تقديم المفتونين بالقبور ومن فيها من الأموات، وتقديم أشباههم من المشركين الذين يجعلون لبعض المخلوقين شيئا من خصائص الربوبية والإلهية، وكذلك تقديم الجهمية الذين كفّرهم السلف وأتباع السلف إلى يومنا هذا.
وكذلك تقديم غيرهم من أهل البدع، ولا سيما من كان يظهر بدعته ويدعو إليها.
وكذلك تقديم أهل الفسق والفجور، ولا سيما من كان يجاهر بالمعاصي ولا يبالي بإظهارها، وبعض القضاة والمدرسين الجاهلين يقدمون أمثال هؤلاء الذين ذكرنا، ويصلون خلفهم طوعًا واختيارًا من غير خوف ولا قهر من سلطان، فالله المستعان.
وقد روى ابن ماجة في سننه، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تَؤمَّنَّ امرأةٌ رجلا، ولا يَؤم أعرابي مهاجرًا، ولا يؤم فاجر مؤمنًا؛ إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وسوطه» في إسناده مقال.
وروى أبو نعيم في الحلية، عن أحمد بن عبد الله بن يوسف قال: سمعت رجلاً يقول لسفيان -يعني الثوري-: رجل يكذب بالقدر، أأصلي وراءه؟ قال: لا تُقدِّموه، قال: هو إمام القرية ليس لهم إمام غيره، قال: لا تقدموه، لا تقدموه، وجعل يصيح.
وروى أبو نعيم أيضًا، عن إبراهيم بن المغيرة قال: سألت سفيان -يعني الثوري-: أأصلي خلف من يقول: الإيمان قول بلا عمل؟ قال: لا، ولا كرامة.
وروى أبو نعيم أيضا، عن بشر بن منصور قال: سمعت سفيان الثوري يقول، وسأله رجل فقال: على بابي مسجد إمامه صاحب بدعة؟ قال: لا تصل خلفه، قال: تكون الليلة المطيرة وأنا شيخ كبير؟ قال: لا تصل خلفه.
وقال محمد بن يوسف بن الطباع: سمعت رجلاً سأل أحمد بن حنبل فقال: يا أبا عبد الله: أصلي خلف من يشرب المسكر؟ قال: لا، قال: فأصلي خلف من يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: سبحان الله، أنهاك عن مسلم وتسألني عن كافر.
وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في كتاب (الورع): سألت عبد الوهاب -يعني الوراق- عمن لا يُكفِّر الجهمية، قلت: يا أبا الحسن يصلى خلفه؟ قال: لا يُصلى خلفه، هذا ضال مضل، متهم على الإسلام.
وقال سعيد بن أبي سعيد الأراطي: سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن
الصلاة خلف لمبتدعة؟ فقال: أما الجهمي فلا، وأما الرافضة الذين يردون الحديث فلا.
وقال في رواية أبي الحارث: لا يُصلي خلف مرجئ ولا رافضي ولا فاسق، إلا أن يخافهم فيصلي ثم يعيد.
وقال أبو داود: قلت أيام كان يصلي الجُمع الجهمية، قلت له -يعني أحمد بن حنبل-: الجمعة؟ قال: أنا أعيد، ومتى ما صليتَ خلف أحد ممن يقول: القرآن مخلوق فأعد، قلت: وتعرفه؟ قال: نعم.
قال أبو داود: قلت لأحمد: أصلي خلف المرجئ؟ قال: إذا كان داعيًا فلا يُصلى خلفه.
وقال حرب بن إسماعيل الكرماني: قلت لأحمد: أيُصلى خلف رجل يُقدِّم عليًا على أبي بكر وعمر؟ قال: لا يصلى خلف هذا.
وقال إسحاق بن إبراهيم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن الذي يشتم معاوية نصلي خلفه؟ قال: لا، ولا كرامة.
وقال أبو داود: سمعت أحمد رحمه الله تعالى وقيل له: إذا كان الإمام يسكر؟ قال: لا يُصلى خلفه البتة.
وقال أيضا: سمعت أحمد وسأله رجل قال: صليت خلف رجل ثم علمت أنه يسكر أعيد؟ قال: نعم أعد، قال: أيتهما صلاتي؟ قال: التي صليتَ وحدك.
وقال أيضًا: سمعت رجلا سأل أحمد قال: رأيت رجلا يسكر، أنا أصلي
خلفه؟ قال: لا، قال: أصلي وحدي؟ قال: أين أنت؟! في البادية المساجد كثيرة، قال: أنا في حانوتي، قال: تخطاه إلى غيره من المساجد.
وقال علي بن الموفق: سئل أحمد بن حنبل عن الصلاة خلف من يشرب النبيذ الذي يُلقى فيه الذاذي والأكشوث ولوز مُر؟ فقال أحمد: لا يُصلى خلف من يشرب هذا، ولا خلف من يجلس إلى من يشرب هذا.
قلت: ومثله من يشرب الدخان الخبيث المسمي بالتتن؛ لأنه قد اجتمع فيه علتان من علل التحريم؛ الخبث والإسكار، فلا يُصلى خلف من يشربه، ولا خلف من يجالس شاربيه، ويماشيهم وينبسط إليهم.
قال في القاموس: الذاذي: نبت له عنقود طويل، والأكشوث: نبت يتعلق بالأغصان ولا عرق له في الأرض.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: لا يجوز أن يولى الإمامة بالناس من يأكل الحشيشة، أو يفعل شيئا من المنكرات المحرمة مع إمكان تولية من هو خير منه.
وقال أيضًا: لا تصح خلف أهل الأهواء والبدع والفسقة، مع القدرة على الصلاة خلف غيرهم.
وقال في موضع آخر: ليس للناس أن يولوا عليهم الفساق.
وذكر رحمه الله تعالى أن الأئمة متفقون على كراهة الصلاة خلف الفاسق، لكن اختلفوا في صحتها.
فقيل: لا تصح؛ كقول مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما.
وقيل: بل تصح؛ كقول أبي حنيفة، والشافعي، والرواية الأخرى عنهما، ولم يتنازعوا أنه لا ينبغي توليته. انتهى.
إذا تقرر هذا فأصل الفسق في اللغة الخروج؛ يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها.
والمراد به في الشرع: الخروج عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو السعادات ابن الأثير: أصل الفسوق الخروج عن الاستقامة، والجور، وبه سمي العاصي فاسقًا.
وقال في القاموس: الفسق -بالكسر- الترك لأمر الله تعالى، والعصيان، والخروج عن طريق الحق أو الفجور كالفسوق.
وقال الراغب الأصفهاني: فسق فلان خرج عن حجر الشرع، وهو أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، لكن تُعورف فيما كان كثيرًا، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة. انتهى.
ومن المصائب المؤلمة أن كثيرًا من قراء زماننا والمنتسبين منهم إلى العلم قد خرجوا عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتجاسروا على إظهار أنواع الفسوق والعصيان بلا خجل منهم ولا استحياء كما تقدم وصفهم في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه بأنهم «ليست لهم زعة» ؛ فبعضهم يحلق لحيته ويتشبه بالمجوس وطوائف الإفرنج في زماننا، وبعضهم ينتفها
نتفًا، وذلك مثل الحلق أو أقبح.
وكثير منهم يصفقون بأيديهم في المحافل، تشبها بمشركي قريش وبطوائف الإفرنج وغيرهم من أمم الكفر والضلال في زماننا، وتشبهًا بالنساء أيضًا، وكثير منهم يشربون الدخان الخبيث المسمى بالتتن، ويدمون شربه وهو من المسكرات، وكثير منهم يتحلون بالساعات في أيديهم تشبهًا بالنساء في لبسهن الأساور، وكثير منهم يشترون المصورات ويقتنون الصور وينصبونها في مجالسهم، وكثير منهم يلعبون بالكرة والجنجفة ويأخذون القمار على الغلبة في ذلك، وهو من الميسر، وكثير منهم يتخذون آلات اللهو كالراديو والفونغراف، ويستمعون إلى الغناء والمزامير وأنواع الألحان وآلات اللهو والطرب، وأصوات النساء الأجنبيات ونغماتهن بالألحان المطربة التي تدعو إلى الفجور وارتكاب الفواحش، وبعضهم يدعو نساءه ليستمعن إلى ما ذُكر أو يجعل لهن آلة خاصة كلما اشتقن إلى سماع الغناء وآلات اللهو فتحنها، وبعضهم يحضر عند السينما الخبيثة، وربما حضر هو ونساؤه لمشاهدة ما فيها من السحر والخلاعة والمجون، وربما ترك بعضهم الصلاة المكتوبة أو أخرها عن وقتها إيثارًا لحضور السينما، أو للعكوف على الراديو، ويقدِّم ذلك على ذكر الله تعالى وعبادته، وبعضهم ينصب في مجلسه من الساعات التي فيها الموسيقي المطربة، وكثير منهم يعاشرون النساء الأجنبيات، ويخلون بهن، ويتلذذون بالنظر إليهن وإلى سماع أصواتهن، ومن فعل هذا لم يستبعد منه أن يفعل معهن ما هو أعظم من ذلك من المحرمات، وكثير منهم يعاشرون المردان
والأنذال والسفل الساقطين، وكثير منهم ينكرون على من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر
…
إلى غير ذلك مما يجاهرون به من أنواع الفسوق والعصيان.
ومع هذا فمن هؤلاء من يتقدم إلى الإمامة في الصلاة، ولا يبالي بما هو مُصرّ عليه من المعاصي، ولا باللعن والوعيد الشديد ل
من أَمَّ قومًا وهم له كارهون،
ولا بِردِّ صلاته عليه كما في جامع الترمذي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة؛ رجل أم قومًا وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الفلاح ثم لم يجب» قال الترمذي: وفي الباب عن ابن عباس، وطلحة، وعبد الله ابن عمرو، وأبي أمامة رضي الله عنهم، ثم قال الترمذي: حدثنا هناد، أخبرنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن عمرو بن الحارث بن المصطلق رضي الله عنه قال: كان يقال: أشد الناس عذابًا اثنان؛ امرأة عصت زوجها، وإمام قوم وهم له كارهون. قال جرير: قال منصور: فسألنا عن الإمام، فقيل لنا: إنما عني بهذا الأئمة الظلمة، فأما من أقام السنة فإنما الإثم على من كرهه.
قلت: والأحاديث التي علقها الترمذي قد رُويت كلها موصولة، فأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فرواه الحاكم في مستدركه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لعنهم الله؛ من تقدم قومًا وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب» .
وفي سنن ابن ماجة، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرًا؛ رجل أَمَّ قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأَخَوَان متصارمان» .
وأما حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، فرواه الطبراني عنه أنه صلى بقوم، فلما انصرف قال: إني نسيت أن أستأمركم قبل أن أتقدم، أرضيتم بصلاتي؟ قالوا: نعم، ومن يكره ذلك؟! قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما رجل أم قومًا وهم له كارهون لم تجاوز صلاته أذنيه» .
وأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فرواه أبو داود وابن ماجة في سننيهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة؛ من تقدم قومًا وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارًا؛ والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته، ورجل اعتبد محرره» .
وأما حديث أبي أمامة رضي الله عنه، فرواه الترمذي في جامعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم؛ العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
قلت: وفي الباب أيضا عن جنادة بن أبي أمية رضي الله عنه مرفوعًا: «من أَمَّ قومًا وهم له كارهون فإن صلاته لا تجاوز ترقوته» رواه الطبراني.
وفي سنن أبي داود، وصحيح ابن حبان، عن أبي سهلة السائب بن خلاد -من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا أَمَّ قومًا، فبصق في القبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ:«لا يصلي لكم» ، فأراد بعد ذلك
أن يصلي لهم، فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«نعم» ، وحسبت أنه قال:«إنك آذيت الله ورسوله» .
وروى الطبراني في الكبير، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي بالناس الظهر، فتفل في القبلة وهو يصلي بالناس، فلما كان صلاة العصر أرسل إلى آخر، فأشفق الرجل الأول، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنزل فيَّ شيء؟ قال:«لا، ولكنك تَفَلْتَ بين يديك وأنت تؤم الناس، فآذيت الله والملائكة» .
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا كان المرء يُعزل لأجل إساءته في الصلاة، وبصاقه في القبلة، فكيف بالمُصرِّ على أكل الحشيشة، لا سيما إن كان مستحلاً للمسكر منها كما عليه طائفة من الناس، فإن مثل هذا ينبغي أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ إذ السكر منها حرام بالإجماع، واستحلال ذلك كفر بلا نزاع. انتهى.
قلت: وكذا يقال فيمن يستحل السكر، من أي نوع كان من المسكرات كالكلولونيا، والاسبرتو، والدخان المنتن الخبيث المسمى بالتتن، وغير ذلك من أنواع الخمور المسكرة، وسواءً كان المسكر مأكولاً، أو مشروبًا، أو مشمومًا، فكل ما وجد فيه الإسكار فهو حرام بالنص والإجماع، ومن استحله كفر، والله أعلم.
وإذا عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم بادر الذي بصق في القبلة بعزله عن الإمامة ولم يعذره بالجهل؛ فالواجب على المسلمين أن يتبعوا نبيهم صلى الله عليه وسلم في أفعاله،
ويمتثلوا جميع أقواله، قال الله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، فإذا تقدم في الإمامة مستور الحال، ثم ظهر أنه يفعل شيئًا من المنكرات التي تقدح في عدالته مما ذكرنا قريبا ومما لم نذكره فالواجب المبادرة بعزله، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في عزله الذي بصق في القبلة، وامتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم:«ليؤذن لكم خياركم، وليؤمكم قراؤكم» رواه أبو داود، وابن ماجة، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: هم الفقهاء والقراء، أهل الدين والفضل والعلم بالله تعالى والخوف من الله تعالى، الذين يعتنون بصلاتهم وصلاة من خلفهم، ويتقون ما يلزمهم من وزر أنفسهم ووزر من خلفهم إن أساؤوا في صلاتهم
…
إلى آخر كلامه، وتقدم في أول الفصل.
وأما القراء الذين يقيمون حروف القرآن، ويضيعون حدوده، فليسوا بأهل للإمامة والولايات الدينية، وما أكثرهم في هذه الأزمان، لا كثرهم الله، وما أشبهم بالذين قال الله تعالى فيهم:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} ، وتولية هؤلاء وأشباههم في الولايات الدينية خيانة قبيحة؛ لما في مستدرك الحاكم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استعمل رجلاً من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان ورسوله وخان المؤمنين» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فالواجب على المسلمين أن يولوا في الإمامة وغيرها من الولايات
الدينية من كان عدلاً مرضيًا، ولا يجوز لهم أن يولوا الفُسَّاق والجُهَّال، ولا يُقروا أحدًا منهم مع القدرة على عزله، ولا يُصلُّوا خلف فاسق مع القدرة على الصلاة خلف غيره.
وكذلك ينبغي للناس أن لا يصلوا خلف من يأخذ كراء على إمامته، ولا سيما إن كان يشارط على ذلك.
قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن إمام قال لقوم: أصلي بكم رمضان بكذا وكذا درهمًا؟ قال: أسأل الله العافية، من يصلي خلف هذا؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص رضي الله عنه:«واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وقال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
فكل من الإمامة والأذان لا تجوز أخذ الأجرة عليه، ولا ينبغي أن يولى فيهما من طلب الأجرة عليهما، وإن أُعطي رزقًا من بيت المال بدون طلب منه ومشارطة وبغير إشراف نفس فلا بأس من أن يأخذه، والله أعلم.
وقد روى أبو نعيم في الحلية، من حديث علي الطنافسي، حدثنا عبد الرحمن بن مصعب قال: كان رجل ضرير يجالس سفيان الثوري، فإذا كان شهر رمضان يخرج إلى السواد، فيصلي بالناس، فيُكسى ويُعطى، فقال سفيان: إذا كان يوم القيامة أثيب أهل القرآن من قراءتهم ويقال لمثل هذا قد تعجلت ثوابك في الدنيا، فقال: يا أبا عبد الله، تقول لي هذا وأنا
جليسك! قال: أخاف أن يقال لي يوم القيامة: كان هذا جليسك، أفلا نصحته؟
قلت: لعل هذا الضرير إنما كان يخرج إلى السواد يصلي بأهله من أجل ما يحصل منهم من الكسوة والعطية، وهذا من طلب الدنيا بعمل الآخرة؛ فلهذا قال له سفيان رحمه الله تعالى ما قال.
وما أكثر السالكين على منهج هذا الضرير من أهل زماننا من ضريرين وأصحاء، فالله المستعان.
وقد تقدم في حديثي ابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما: «إن من أشراط الساعة التماس الدنيا بعمل الآخرة» وقد وقع الأمر طبق ما جاء فيهما، فصارت أعمال الآخرة طرقًا ووسائل لتحصيل حطام الدنيا وملاذها، ومن ذلك أخذ الأجرة على الإمامة والأذان، وتعلم العلم وتعليمه، وغير ذلك من أعمال الآخرة، والله المستعان.
فصل
ومن أسوأ الأفعال وكبائر الإثم التخلف عن الجمعة والجماعة من غير عذر، وقد فشا هذا المنكر الذميم في زماننا وظهر، وكثر في القراء والمنتسبين إلى العلم من معلمين ومتعلمين، فضلاً عن الجهال والغوغاء ونحوهم من العوام والسوقة.
وهذا مصداق ما تقدم ذكره في حديث معاذ بن جبل، وحديث أنس، وحديث حذيفة رضي الله عنهم:«أنه يكون في آخر الزمان قراء فسقة» ، ولهذا كثير منهم يعكفون على الراديو لاستماع ما يذاع فيه من الهذيانات وأنواع المجنون والمحرمات، ويؤْثِرون الحضور عنده على حضور الصلوات في الجماعات، وربما أخَّر أحدهم الصلاة عن وقتها إيثارًا للعكوف على الراديو أو على الجرائد والمجلات وما شابهها من الكتب العصرية التي قل خيرها وكثر شرها وعظم ضررها على الدين، وربما ترك أحدهم الصلاة بالكلية، وبعضهم إذا نُهي عن تخلفه عن الصلاة في جماعة غضب من ذلك واشمأز واستكبر عن قبول النصيحة، وأخذ يعذر نفسه بما ليس بعذر، ويجادل من نهاه عن المنكر ويقع في عرضه بالسب والتنقص وأنواع الأذى، فيجمع بين أنواع كبائر الإثم، وقد وقع هذا كثيرًا من الذين مَثَلهم {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} ؛ وما ذاك إلا لاستهانتهم بالصلاة، وقلة رغبتهم في الباقيات الصالحات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فأما الأعمال الدنيوية والوظائف التي فيها تحصيل الحطام والحظوظ العاجلة فإنهم يثابرون عليها، ويحافظون على الأوقات المقررة لها، ويقطعون كل شاغل يشغلهم عنها ولو كان من أحب الأشياء إليهم، وإذا حضر وقتها سارعوا إليها في أوله بجد ونشاط ورغبة صادقة خوفًا من العزل وخشية أن يقتطع عليهم من الراتب شيء ولو كان درهمًا أو بعض درهم، وكذلك أرباب الوظائف والأعمال الدنيوية من غير المنتسبين إلى العلم ترى كثيرًا منهم يثابرون على الوظائف والأعمال الدنيوية، ويحافظون على الأوقات المقررة لها، ويسارعون إليها في أول وقتها خوفًا من العزل بسبب التأخر، وإذا جاء وقت الصلاة وهم في عمل من أعمالهم جعلوا ذلك العمل عذرًا لهم عن حضور الجماعة، وإن لم يكونوا في عمل فإنه يحضرهم النوم والكسل وأنواع الشواغل المثبطة عن حضور الجماعة.
وكذلك غيرهم من المشتغلين بالأعمال الدنيوية من غير من أشرنا إليهم، فكثير منهم لا يبالون بالصلاة، ولا بحضور الجمعة والجماعة.
وكذلك العاكفون على أنواع اللهو واللعب وما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ مثل الراديو والسينما والفونغراف والكرة والجنجفة والكيرم، وغير ذلك من أنواع المسير والملاهي، هم من أكثر الناس تهاونًا بالصلاة، وتخلفًا عن الجمعة والجماعة، وقد رأينا من هذه الأجناس الرديئة كثيرًا، فالله المستعان.
وقد جعل الله تبارك وتعالى الصلاة علامة فارقة بين المؤمنين والمنافقين، فمن اهتم بها وحافظ على أدائها تامة في أوقاتها وفي جماعة فذلك دليل
على إيمانه، ومن تهاون بها فلم يتمها، أو ضيع أوقاتها أو تخلف عن
الجماعة من غير عذر فذلك دليل على نفاقه، قال الله تعالى في وصف المؤمنين:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4]، وقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 9 - 11]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92]، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان؛ قال الله تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.
وفي رواية للترمذي: «إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد
…
» والباقي نحوه.
وأما المنافقون فقد قال الله تعالى في وصفهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} ، وقال تعالى:{وَلَا يَاتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} ، وقال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم المنافقون، يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس، ويصلونها في العلانية إذا حضروا، وقال تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} .
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: عطلوا المساجد، ولزموا الضيعات.
وقال كعب الأحبار: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل: شرابين للقهوات -يعني الخمور- تراكين للصلوات، لعابين بالكعبات، رقادين عن العتمات، مفرطين في الغدوات، تراكين للجماعات، ثم تلا هذه الآية {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} .
وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا» .
قال النووي رحمه الله تعالى: فيه الحث البليغ على حضورهما.
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): دل هذا على أن الصلاة كلها
ثقيلة على المنافقين، ومنه قوله تعالى:{وَلَا يَاتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما؛ لقوة الداعي إلى تركهما؛ لأن العشاء وقت السكون والراحة، والصبح وقت لذة النوم. انتهى.
وفي المسند، وسنن أبي داود، والنسائي، وصحيح الحاكم، عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا الصبح فقال: «أشاهد فلان؟» قالوا: لا، قال:«أشاهد فلان؟» قالوا: لا، قال:«إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على الركب» قال الحاكم: قد حكم أئمة الحديث؛ يحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومحمد بن يحيي الذهلي وغيرهم لهذا الحديث بالصحة، وصححه الحاكم أيضا، وأقره الذهبي في تلخيصه.
وفي سنن ابن ماجة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في صلاة العشاء وصلاة الفجر لأتوهما ولو حبوًا» .
وروى الطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وفي الصحيحين، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، وسنن النسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما لو حبوًا» .
وروى مالك في الموطأ أيضًا، عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«بيننا وبين المنافقين شهود العشاء والصبح، لا يستطيعونهما» أو نحو هذا.
ورواه الشافعي في مسنده، عن مالك، عن عبد الرحمن بن حرملة، ولم يذكر فيه سعيد بن المسيب، وما في الموطأ هو المعتمد.
وروى البزار، والطبراني، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا إذا تخلف منا إنسان في صلاة العشاء والصبح في جماعة أسأنا به الظن أن يكون قد نافق. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه.
وروى الإمام أحمد، والطبراني، عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق من سمع منادي الله تعالى ينادي بالصلاة ويدعو إلى الفلاح فلا يجيبه» .
وفي سنن ابن ماجة، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق» .
وفي صحيح مسلم، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله؛ يعني ابن مسعود رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقه أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة، وقال: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهُدَى وإن من سنن الهُدَى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه.
وفي رواية قال عبد الله رضي الله عنه: من سرَّه أن يلقى الله غدا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهُدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهَادى بين الرجُلَين حتى يُقام في الصف.
ورواه الإمام أحمد، وأهل السنن إلا الترمذي.
وفي رواية أبي داود والنسائي: وما منكم من أحد إلا وله مسجد في بيته، ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم. هذا لفظ أبي داود، ولفظ النسائي: لضللتم.
ورواه الإمام أحمد أيضا بنحو رواية النسائي.
وروي أبو نعيم في الحلية، من طريق محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: صلوا الصلوات في المسجد، فإنها من الهدى وسُنة محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث رد على جهلة المعلمين والمتعلمين الذين يتهاونون بالصلاة في المساجد ويصلون في المدارس والبيوت من غير خوف ولا مرض.
وفيه أيضا رد لقول من قال من الفقهاء: إن له فعل الجماعة في بيته من غير عذر، وإن إقامتها في الربط والمدارس ونحوها مثل إقامتها في المساجد، فإن هذا قول ضعيف، ترده الأحاديث الصحيحة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي إيرادها قريبًا إن شاء الله تعالى.
وقول ابن مسعود رضي الله عنه: ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم؛ يعني بالسُنَّة هاهنا طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان عليها، وشريعته التي شرعها لأمته، وهي التي يثاب فاعلها ويعاقب تاركها من غير عذر، وليس المراد بها السنة التي من شاء فعلها ومن شاء تركها ولا حرج عليه، فإن تركها لا يكون ضلالاً ولا من علامات النفاق؛ كترك صلاة الضحى وقيام الليل وصيام الاثنين والخميس ونحو ذلك من السنن التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، والله أعلم.
قال الطيبِي في قوله: لضللتم: هذا يدل على أن المراد بالسُنَّة العزيمة. انتهى.
وقد رُوي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه نحو قول ابن مسعود رضي الله عنه، فروى الحافظ أبو نعيم في الحلية، عن أبي بحرية واسمه عبد الله بن قيس الكندي، قال: دخلت مسجد حمص فسمعت معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: من سره أن
يأتي الله عز وجل آمنًا، فليأت هذه الصلوات الخمس حيث ينادي بهن، فإنهن من سنن الهدى، ومما سنه لكم نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: إن لي مصلى في بيتي فأصلي فيه؛ فإنكم إن فعلتم ذلك تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم.
وقد تضافرت الأدلة من القرآن والسنة على مشروعية الصلاة مع الجماعة في مساجد المسلمين، لا في الربط والمدارس والبيوت ونحوها كما سيأتي إيرادها قريبًا إن شاء الله تعالى، واختلف فيمن صلى في بيته جماعة من غير عذر؛ هل تصح صلاته أم لا؟ وفي ذلك قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد.
قال أبو البركات ابن تيمية في شرحه: فإن خالف وصلاها في بيته جماعة لا تصح من غير عذر، بناء على ما اختاره ابن عقيل في تركه الجماعة حيث ارتكب النهي، ويعضده قوله:«لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» قال: والمذهب الصحة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«صلاة الرجل في جماعة تضاعف على صلاته في بيته أو في سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا» ويُحمل قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» على نفي الكمال جمعًا بينهما.
قال: والرواية الأولى اختيار أصحابنا، وأن حضور المساجد لا يجب، وهي عندي بعيدة جدًا إن حملت على ظاهرها، فإن الصلاة في المسجد من أكبر شعائر الدين وعلاماته، وفي تركها بالكلية أو في المساجد محو آثار الصلاة، بحيث تفضي إلى فتور همم أكثر الخلق عن أصل فعلها، ولهذا قال
عبد الله بن مسعود: لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته،
لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. قال: وإنما معنى هذه الرواية -والله أعلم- أن فعلها في البيت جائز لآحاد الناس إذا كانت تقام في المساجد، فيكون فعلها في المسجد فرض كفاية على هذه الرواية، وعلى الأخرى فرض عين.
قال: ويدل على ذلك جواز الجمع بين الصلاتين للأمطار، ولو كان الواجب فعل الجماعة فقط دون الفعل في المسجد لما جاز الجمع لذلك؛ لأن أكثر الناس قادرون على الجماعة في البيوت، فإن الإنسان غالبًا لا يخلو أن تكون عنده زوجة أو ولد أو غلام أو صديق أو نحوهم، فيمكنه الصلاة جماعة فلا يجوز ترك الشرط -وهو الوقت- من أجل السنة، فلما جاز الجمع علم أن الجماعة في المساجد فرض إما على الكفاية وإما على الأعيان.
هكذا ساق ابن القيم رحمه الله تعالى كلام أبي البركات في كتاب (الصلاة)، ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر، وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار، ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ أهل مكة موته خطبهم سهيل بن عمرو، وكان عتاب بن أسيد عامله على مكة قد توارى خوفًا من أهل مكة، فأخرجه سهيل وثبت أهل مكة على الإسلام، فخطبهم بعد ذلك عتاب وقال: يا أهل مكة، والله لا يبلغني أن
أحدًا منكم تخلف عن الصلاة في المسجد في الجماعة إلا ضربت عنقه. وشكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصنيع، وزاده رفعة في أعينهم، فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
وهذا الذي قاله هو الصواب الذي ندين الله به، وعليه يدل ظاهر الكتاب ونصوص الأحاديث وأقوال الصحابة رضي الله عنهم.
أما الكتاب فقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 36 - 37].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل تسبيح في القرآن هو الصلاة.
وقال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: قال أهل التفسير: أراد به الصلوات المفروضات، فالتي تؤدى بالغداة صلاة الصبح، والتي تؤدى بالآصال الظهر والعصر والعشائين؛ لأن اسم الأصيل يجمعهما. انتهى.
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29]، وقال تعالى:{وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40]، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، وقال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ فِيهِ} [التوبة: 18]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآية [الجمعة: 9 - 10].
وأما الأحاديث فكثيرة؛ منها ما في صحيح مسلم وسنن النسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم رجلٌ أعمى فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسَأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولَّى دعاه فقال:«هل تسمع النداء بالصلاة؟» فقال: نعم، قال:«فأجب» .
ومنها ما في المسند، وسنن أبي داود، وابن ماجة، وصحيح الحاكم، عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رجل ضرير، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال:«هل تسمع النداء؟» قال: نعم، قال:«لا أجد لك رخصة» .
ولأبي داود، والنسائي، والحاكم، عنه رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، قال:«هل تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟» قال: نعم، قال:«فحيَّ هلا» زاد النسائي: ولم يرخص له. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالي في تلخيصه.
و «حي هلا» كلمة حث واستعجال. قاله الخطابي، والهروي،
وغيرهما من أئمة اللغة، ومعناها: أقبِل مسرعًا ولا تتأخر عن إجابة الداعي الذي يدعوك إلى الصلاة والفلاح.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء الحديث عن عبد الله بن أم مكتوم أنه قال: يا رسول الله، إني شيخ ضرير البصر، شاسع الدار، بيني وبين المسجد نخل وواد، فهل من رخصة إن صليت في منزلي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أتسمع النداء؟» قال: نعم، قال:«أجب» .
ورواه في المسند بنحوه، قال رحمه الله تعالى: ولم يرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ضرير البصر، شاسع الدار، بينه وبين المسجد نخل وواد، فأنكِروا على المتخلفين عن الصلاة، فإن ذنوبهم في تخلفهم عظيمة، وأنتم شركاؤهم في عظم تلك الذنوب إن تركتم نصيحتهم والإنكار عليهم وأنتم تقدرون على ذلك. انتهى.
ومنها ما في المسند، عن عتبان بن مالك رضي الله عنه أنه كان رجلاً محجوب البصر، وأنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم التخلف عن الصلاة؟ قال:«هل تسمع النداء؟» قال: نعم، قال: فلم يرخص له.
ومنها ما في سنن الدارقطني، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أسمع النداء ولعلي لا أجد قائدًا؟ قال:«فإذا سمعت النداء فأجب داعي الله عز وجل» .
ومنها ما رواه أبو نعيم في الحلية، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا سمعتم النداء فقوموا فإنها عزمة من الله» .
ومنها ما في صحيح مسلم، عن أبي الشعثاء المحاربي قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة رضي الله عنه فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية قال: سمعت أبا هريرة ورأى رجلاً يجتاز المسجد خارجًا بعد الأذان فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
ورواه الإمام أحمد، وأهل السنن بنحوه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن عثمان رضي الله عنه.
قلت: وهو ما رواه ابن ماجة في سننه عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق» .
قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى: وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، ألا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه. انتهى.
ومنها ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» .
ورواه رزين وزاد: «وإن ذئب الإنسان الشيطان، إذا خلا به أكله» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه، قال السائب -وهو ابن حبيش الكلاعي-: يعني بالجماعة؛ الصلاة في جماعة.
ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضًا، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد» .
وقد ورد التغليظ في التخلف عن الجمعة والجماعة من غير عذر، والوعيد الشديد على ذلك.
فمما جاء في الجمعة بخصوصها ما في صحيح مسلم عن الحكم بن ميناء، أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهم حدثاه أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره:«لينتهين أقوام عن ودعهم الجُمُعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونُن من الغافلين» .
ورواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجة، من حديث الحكم، عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
ومنها ما رواه الشافعي في مسنده، عن عبيدة بن سفيان الحضرمي قال: سمعت عمرو بن أمية رضي الله عنه يقول: «لا يترك رجل مسلم الجمعة ثلاثًا تهاونًا بها لا يشهدها إلا كتب من الغافلين» وهذا له حكم الرفع.
ومنها ما رواه الشافعي أيضا، وأحمد، وأهل السنن، عن أبي الجعد
الضمري -وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك ثلاث جمع تهاونًا بها طبع الله على قلبه» قال الترمذي: حديث حسن. وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان: «من ترك الجمعة ثلاثًا من غير عذر فهو منافق» قال المنذري: وفي رواية ذكرها رزين: «فقد برئ من الله» .
ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضًا، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الجمعة ثلاثًا من غير ضرورة طبع الله على قلبه» .
ورواه البيهقي وزاد: «وجعل قلبه قلب منافق» قال الحافظ ابن الذهبي في تلخيصه: صحيح.
ومنها ما رواه ابن ماجه أيضًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلاء فيرتفع، ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها، حتى يطبع على قلبه» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه.
قال أبو عبيد الهروي: الصبة: الجماعة من الناس.
وقال أبو السعادات ابن الأثير: والصبة من الغنم الجماعة منها، تشبيهًا
بجماعة الناس، وقد اختلف في عددها، فقيل: ما بين العشرين إلى الأربعين، وقيل: نحو الخمسين، وقيل: ما بين الستين إلى السبعين، والصبة من الإبل نحو خمس أو ست. انتهى.
ومنها ما رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه» .
ومنها ما في الموطأ، عن صفوان بن سليم -قال مالك: لا أدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا- أنه قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه» .
ومنها ما رواه الطبراني، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما مرفوعًا:«من ترك ثلاث جمعات من غير عذر كتب من المنافقين» .
ومنها ما رواه الدارقطني، والبيهقي، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد» .
وروى أبو نعيم في الحلية، من حديث شعبة ومسعر قالا: حدثنا أبو السفر، حدثنا ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا أن تكون امرأة أو عبدًا أو صبيًا أو مسافرًا، ومن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد» .
وروي الطبراني في الأوسط، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليسع إلى الجمعة، ومن استغنى عنها بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد» .
ومنها ما في سنن ابن ماجة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أنه قال في خطبته: «اعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا من عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها أو جحودا لها فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه» الحديث.
ومنها ما في المسند، وصحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة:«لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» .
فهذا ما يتعلق بالمتخلفين عن الجمعة، وكفى به وعيدًا زاجرًا لمن يعقل، وتذكرة نافعة لمن يخشى.
وأما ما جاء من الوعيد للمتخلفين عن حضور الجماعة في المساجد فكثير، ويدخل في ذلك من تخلف عن الجمعة أيضًا.
فمن ذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} .
قال إبراهيم التيمي: يعني إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة.
وقال سعيد بن المسيب: كانوا يسمعون حيّ على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون، وهم أصحاء سالمون.
وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين تخلفوا عن الجماعة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي سنان، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى:{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} قال: الصلاة في الجماعة.
وقد رواه أبو نعيم في الحلية من طريق عبد الله بن عثمان، عن أبيه، عن شعبة فذكره.
وقد تقدم كلام ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه الآية في حكم تارك الصلاة.
ومن ذلك: ما في الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وسنني أبي داود وابن ماجة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» .
وفي رواية البخاري: «لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلاً يؤم الناس، ثم آخذ شعلاً من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد» .
وفي رواية في الصحيحين، والموطأ، ومسند الشافعي، وسنن النسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لقد هممت أن
آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء» هذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ناسًا في بعض الصلوات فقال: «لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها، فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها، يعني صلاة العشاء» .
وفي رواية للإمام أحمد: «ولو علم أحدكم أنه يجد عظمًا سمينًا أو مرماتين حسنتين إذن لشهد الصلوات» .
وفي رواية له أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار» .
وفي رواية له أيضا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لينتهين رجال ممن حول المسجد لا يشهدون العشاء الآخرة في الجميع أو لأحرقن حول بيوتهم بحزم الحطب» .
وفي رواية لأبي داود، والطبراني، عن يزيد بن يزيد بن جابر، حدثني يزيد بن الأصم قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزمًا من حطب، ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم» قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا
عوف، الجمعة عنى أو غيرها؟ قال: صُمَّتا أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها.
ورواه مسلم، والترمذي بنحوه مختصرًا، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وفي رواية للطبراني عن أبي ليلى -مولي الأنصار- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنظر فمن لم يشهد المسجد فأحرق عليه بيته» .
ومن ذلك ما رواه ابن ماجة في سننه، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقن بيوتهم» .
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد هممت أن آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم آمر بأناس لا يصلون معنا فتحرق عليهم بيوتهم» .
ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضا في مسنده، عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المسجد فرأى في القوم رقة فقال:«إني لأهم أن أجعل للناس إمامًا، ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه» فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرًا ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ قال:«أتسمع الإقامة؟» قال: نعم، قال:«فأتها» .
ورواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه بنحوه وزاد: ولم
يرخص له. وصححه وأقره الحافظ الذهبي.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): مُرُوا رحمكم الله بالصلاة في المساجد من تخلف عنها، وعاتبوهم إذا تخلفوا عنها، وأنكِروا عليهم بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، واعلموا أنه لا يسعكم السكوت عنهم؛ لأن المتخلف عن الصلاة عظيم المعصية، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى قوم في منازلهم لا يشهدون الصلاة في جماعة فأحرقها عليهم» فهددهم النبي صلى الله عليه وسلم بحرق منازلهم، فلولا أن تخلفهم عن الصلاة في المسجد معصية كبيرة عظيمة لما هددهم النبي صلى الله عليه وسلم بحرق منازلهم، وجاء الحديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وجار المسجد الذي بينه وبين المسجد أربعون دارًا، وجاء الحديث قال:«من سمع المؤذن فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر» فاتقوا الله وأمُرُوا بالصلاة في جماعة من تخلف، وإن لم تفعلوا تكونوا آثمين، ومن أوارهم غير سالمين؛ لوجوب النصيحة لإخوانكم عليكم، ولوجوب إنكار المنكر عليكم بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، وقد جاء الحديث قال:«يجيء الرجل يوم القيامة متعلقًا بجاره فيقول: يا رب، هذا خانني، فيقول: يا رب، وعزتك ما خنته في أهل ولا مال، فيقول: صدق يا رب، ولكنه رآني على معصية فلم ينهني عنها» والمتخلف عن الصلاة عظيم المعصية، فاحذر تعلقه بك غدًا، وخصومته إياك بين يدي الجبار، ولا تدع نصيحته اليوم إن شتمك
وآذاك وعاداك، فإن معاداته لك اليوم أهون من تعلقه بك غدًا وخصومته إياك بين يدي الجبار ودحضه حجتك في ذلك المقام العظيم، فاحتمل الشتمة اليوم لله وفي الله لعلك تفوز غدًا مع النبيين والتابعين لهم في الدين. انتهى ملخصًا.
و
حديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»
رواه الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فقد النبي صلى الله عليه وسلم قومًا في الصلاة فقال: «ما خلفكم عن الصلاة؟» قالوا: لحاء كان بيننا، فقال:«لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وفي رواية: «لا صلاة لمن سمع النداء ثم لم يأتِ إلا من علة» .
وفي سنن الدارقطني أيضًا، ومستدرك الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» .
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فهذا اللفظ قد قيل: إنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عبد الحق الإشبيلي أنه رواه بإسناد كلهم ثقات، وبكل حال فهو مأثور عن علي رضي الله عنه.
قلت: وسيأتي حديث علي رضي الله عنه قريبًا.
وأما
حديث «من سمع المؤذن فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر»
فقد رواه أبو داود، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والدارقطني في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع المنادي فلم يمنعه من اتِّباعه عذر» قالوا:
وما العذر؟ قال: «خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وقد رواه قاسم بن أصبغ في كتابه، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن حبيب بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر» .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وحسبك بهذا الإسناد صحة.
وفي صحيح الحاكم، عن أبي موسى رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من سمع النداء فارغًا صحيحًا فلم يجب فلا صلاة له» قال الحاكم: صحت الرواية فيه عن أبي موسى رضي الله عنه، وقال الذهبي: صحيح.
قلت: وكفى بهذين الحديثين حجة لمن قال إن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا من عذر.
وقد تقدم في الفضل الذي قبل هذا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة؛ رجل أَمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الفلاح ثم لم يجب» رواه الترمذي.
وتقدم فيه أيضا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لعنهم الله؛ من تقدم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب» رواه الحاكم في مستدركه.
فكل من هذه الأحاديث التي سقنا في هذا الفصل يدل على تعين حضور الجماعة في المسجد إلا من عذر.
وأما الآثار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم أجمعين فكثيرة، وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى جملة منها في كتاب (الصلاة).
منها ما رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «من سمع المنادي فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له» .
ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضا، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:«من سمع المنادي فلم يجب بغير عذر فلا صلاة له» .
ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضا، عن علي رضي الله عنه قال:«لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» قيل: ومن جار المسجد؟ قال: «من سمع المنادي» .
ورواه الدارقطني في سننه، ولفظه قال:«من كان جار المسجد فسمع المنادي ينادي فلم يجبه من غير عذر فلا صلاة له» .
ومنها ما رواه سعيد بن منصور، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال:«من سمع النداء فلم يأته لم تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر» .
ومنها ما رواه عبد الرزاق، عن علي رضي الله عنه قال:«من سمع النداء من جيران المسجد وهو صحيح من غير عذر فلا صلاة له» .
ومنها ما رواه وكيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لأن تمتلئ أذنا ابن آدم رصاصًا مذابًا خير له من أن يسمع المنادي ثم لا يجيبه» .
ومنها ما رواه الإمام أحمد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «من سمع المنادي فلم يجب من غير عذر لم يجد خيرًا ولم يرد به» .
ومنها ما رواه وكيع عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له» .
ومنها ما رواه عبد الرزاق، عن ليث، عن مجاهد قال: سأل رجلٌ ابن عباس رضي الله عنهما فقال: رجل يصوم النهار ويقوم الليل لا يشهد جمعة ولا جماعة؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو في النار، ثم جاء الغد فسأله عن ذلك فقال: هو في النار، قال: واختلف إليه قريبًا من شهر يسأله عن ذلك ويقول ابن عباس: هو في النار.
قلت: وقد رواه الترمذي مختصرًا كما سيأتي.
وقال المسعودي: عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ولم يأت المسجد ويصلي فلا صلاة له وقد عصى الله ورسوله» ذكر هذا الأثر ابن كثير في تفسيره.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فهذه نصوص الصحابة كما تراها صحة
وشهرة وانتشارًا، ولم يجئ عن صحابي واحد خلاف ذلك، وكل من هذه الآثار دليل مستقل في المسألة لو كان وحده، فكيف إذا تعاضدت وتضافرت! انتهى.
وقد تقدم قول ابن عمر رضي الله عنهما: كنا إذا تخلف منا إنسان في صلاة العشاء والصبح في جماعة أسأنا به الظن أن يكون قد نافق.
وتقدم أيضًا قول ابن مسعود رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض.
وقوله أيضا: ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، أو قال: لكفرتم.
وتقدم أيضًا قول معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفيه: ولا يقل إن لي مصلى في بيتي فأصلي فيه، فإنكم إن فعلتم ذلك تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم.
وتقدم أيضًا ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى من قول عتاب بن أسيد لأهل مكة، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكروا صنيعه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه فقد رجلا في الصلاة، فأتي منزله فصوت به، فخرج الرجل، قال: ما حبسك عن الصلاة؟ قال: علة يا أمير المؤمنين، ولولا أني سمعت صوتك ما خرجت، أو قال: ما استطعت أن أخرج، فقال عمر رضي الله عنه: لقد تركت دعوة من هو أوجب عليك إجابة مني؛ منادي الله إلى
الصلاة.
وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه فقد أقوامًا في الصلاة فقال: ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة فيتخلف لتخلفهم آخرون، ليحضرن المسجد أو لأبعثن إليهم من يجافي رقابهم، ثم يقول: احضروا الصلاة، احضروا الصلاة، احضروا الصلاة.
وجاء عن أبي الدرداء وعن ابن مسعود رضي الله عنهما: إن الله تبارك وتعالى سن لكل نبي سنة وسن لنبيكم، فمن سنة نبيكم هذه الصلاة الخمس في جماعة، وقد علمت أن لكل رجل منكم مسجدًا في بيته، ولو صليتم في بيوتكم لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم.
وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه: قد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له.
وقال بعض أهل العلم: هذا على التغليظ والتشديد، ولا رخصة لأحد في ترك الجماعة إلا من عذر.
قال مجاهد: وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل لا يشهد جمعة ولا جماعة، فقال: هو في النار، حدثنا بذلك هناد، أخبرنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد؛ ومعنى الحديث أن لا يشهد الجماعة والجمعة رغبة عنها واستخفافًا لحقها وتهاونًا بها. انتهى كلام الترمذي رحمه الله تعالى.
فتأمل أيها المسلم الناصح لنفسه ما ذكرنا في هذا الفصل من الآيات
والأحاديث وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، لتعلم عظم شأن الصلاة في المساجد مع الجماعة، وأن من استهان بها فقد عصى الله ورسوله، واستهان بدين الإسلام، ورغب عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وآثر طريقة غير طريقته التي كان عليها هو وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد قال الإمام أبو محمد -الحسن بن علي بن خلف البربهاري، من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار، والإنكار على أهل البدع، ومن الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله تعالى- قال في شرح السنة: من ترك صلاة الجمعة والجماعة في المسجد من غير عذر فهو مبتدع، والعذر؛ المريض الذي لا طاقة له بالخروج إلى المسجد، أو خوف من سلطان ظالم، وما سوى ذلك فلا عذر لك. انتهى.
وأما قول من قال من الفقهاء في قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وما شابهه من الأحاديث إن ذلك محمول على نفي الكمال، فقد أجاب عنه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: وأما ما يقوله بعض الناس: إن هذا لنفي الكمال، فيقال له: نعم هو لنفي الكمال، لكن لنفي كمال الواجبات أو لنفي كمال المستحبات.
فأما الأول فحق، وأما الثاني فباطل؛ لا يوجد مثل ذلك في كلام الله عز وجل ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم قط، وليس بحق، فإن الشيء إذا كملت واجباته فكيف يصح نفيه، وأيضًا فلو جاز لجاز نفي صلاة عامة الأولين والآخرين؛ لأن كمال المستحبات من أندر الأمور، وعلى هذا فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب والسنة فإنما هو لانتفاء بعض واجباته، ثم ذكر
الشيخ حديث «من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له» .
قال: ولا ريب أن هذا يقتضي أن إجابة المؤذن المنادي والصلاة في جماعة من الواجبات، لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه ويثاب على ما فعله من الصلاة، أم يقال إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها؟ هذا فيه نزاع بين العلماء. انتهى.
فاتقوا الله أيها المسلمون في جميع أموركم عامة وفي صلاتكم خاصة، وإياكم والتخلف عن الجمعة والجماعة من غير عذر؛ فإن ذلك عنوان النفاق، وسبب الختم على القلوب والطبع عليها، واللعن، وعدم قبول الصلاة، كما دلت على ذلك الأحاديث التي ذكرنا، والله الموفق.
فصل
وقد جاء في فضل المشي إلى الصلاة مع الجماعة في مساجد المسلمين آيات وأحاديث كثيرة، نذكر منها ما تيسر إن شاء الله تعالى؛ ليعلم المتخلفون في البيوت والمدارس ونحوها أنهم قد خسروا تجارة رابحة، وحُرموا خيرًا كثيرًا.
فأما الآيات فمنها قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: كل عسى في القرآن فهي واجبة.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله تعالى: وعسى من الله حق.
وقال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: وعسى من الله واجب؛ أي فأولئك هم المهتدون، والمهتدون هم المتمسكون بطاعة الله عز وجل التي تؤدي إلى الجنة. انتهى.
وكفى بهؤلاء الآيات شرفًا وفضيلة للمحافظين على أداء الصلوات
الخمس في المساجد مع الجماعة.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} [يس: 12].
وروى أبو نعيم في الحلية، من طريق الأوزاعي قال: سمعت عثمان بن أبي سودة يقول في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} قال: أولهم رواحا إلى المسجد، وأولهم خروجًا في سبيل الله.
وأما الأحاديث، فمنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن إلا الترمذي، وتقدم في أول الفصل الذي قبل هذا الفصل، وفيه:«وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة» .
زاد أحمد، والنسائي في روايتهما:«ولقد رأيتنا نقارب بين الخطا» .
الحديث الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة، وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما
لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه» رواه الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، وهذا لفظ مسلم.
ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجة مختصرًا.
ومعنى «لا ينهزه إلا الصلاة» أي لا يبعثه ولا يشخصه إلا ذلك، ومن هذا انتهاز الفرصة، وهو الانبعاث لها والمبادرة إليها. قاله الخطابي رحمه الله تعالى.
الحديث الثالث: عن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تطهر في بيته، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة» رواه مسلم.
الحديث الرابع: عن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من راح إلى مسجد الجماعة، فخطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب حسنة، ذاهبًا وراجعًا» الحديث رواه الإمام أحمد والطبراني.
الحديث الخامس: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا ينزعه إلا الصلاة، لم تزل رجله اليسرى تمحو عنه سيئة وتكتب له اليمنى حسنة حتى يدخل المسجد» رواه الطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
الحديث السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من
حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجده فرجل تكتب حسنة والأخرى تمحو سيئة» رواه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في شعب الإيمان، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
الحديث السابع: عن سعيد بن المسيب قال: حضر رجلا من الأنصار الموتُ فقال: إني محدثكم حديثًا، ما أحدثكموه إلا احتسابًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عز وجل عنه سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضًا وبقى بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك» رواه أبو داود.
الحديث الثامن: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا كتب الله له مثل أجر من حضرها، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا» رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
الحديث التاسع: عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة، فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد غفر الله له ذنوبه» رواه
مسلم والنسائي.
ورواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه.
وفي رواية لمسلم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: «من توضأ هكذا، ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة، غفر له ما خلا من ذنبه» .
الحديث العاشر: عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج من بيته متطهرًا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين» رواه أبو داود، والبغوي في تفسيره.
قوله: «إلى تسبيح الضحى» قال الخطابي رحمه الله تعالى: يريد به صلاة الضحى، وكل صلاة يتطوع بها فهي تسبيح وسبحة.
وقوله: «لا ينصبه إلا إياه» معناه: لا يتعبه ولا يزعجه إلا ذلك، وأصله من النصب وهو معاناة المشقة.
وقد روى هذا الحديث الطبراني في معجمه الكبير بلفظ: «من مشى إلى صلاة مكتوبة في الجماعة فهي كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فهي كعمرة نافلة» .
الحديث الحادي عشر: عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد فيرعى الصلاة، كتب له كاتبه أو كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد
يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي.
الحديث الثالث عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، وشبك بين أصابعه» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
الحديث الرابع عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال:«إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» رواه مالك، وأحمد، ومسلم، والنسائي، وابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه ابن ماجة في سننه مختصرًا، ولفظه قال:«كفارات الخطايا إسباغ الوضوء على المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد» .
قال الترمذي: وفي الباب عن علي، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس، وعبيدة ويقال عبيدة بن عمرو، وعائشة، وعبد الرحمن بن عائش، وأنس.
الحديث الخامس عشر، والحديث السادس عشر، والحديث السابع عشر: عن أبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وأبي أيوب -رضي الله
عنهم- عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أما حديث أبي سعيد فرواه ابن ماجة في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وأما حديث جابر فرواه ابن جرير في تفسيره.
وأما حديث أبي أيوب فرواه ابن مردويه في تفسيره.
الحديث الثامن عشر: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إسباغ الوضوء على المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلاً» رواه الحافظ أبو يعلى، والبزار، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، وأشار إليه الترمذي في جامعه، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
الحديث التاسع عشر: عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات؛ فأما المهلكات: فَشُحٌّ مطاع، وهوى مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه، وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية، وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام» رواه الطبراني وغيره.
الحديث العشرون: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة -قال: أحسبه في المنام- فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا، قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي، أو قال: في نحري، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، قال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم في الكفارات، والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه
…
الحديث» رواه الإمام أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، قال: وفي الباب عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عائش، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث الحادي والعشرون: عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم
…
فذكر نحو حديث ابن عباس رضي الله عنهما. رواه البغوي في تفسيره، عن عبد الرحمن بن عائش، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب (السنة) عن أبيه بإسناده إلى عبد الرحمن بن عائش، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثاني والعشرون: عن عبد الرحمن بن عائش، عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث ابن عباس، وفيه قال: «وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجماعات،
والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات» الحديث رواه الإمام أحمد وغيره.
الحديث الثالث والعشرون: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام» متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: «حتى يصليها مع الإمام في جماعة» .
الحديث الرابع والعشرون: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه، وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
الحديث الخامس والعشرون: عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له: أو قلتُ له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قد جمع الله لك ذلك كله» رواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجة، وهذا لفظ مسلم، وفي رواية له:«إن لك ما احتسبت» وهي رواية ابن ماجة.
الحديث السادس والعشرون: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة» متفق عليه.
الحديث السابع والعشرون: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«إن لكم بكل خطوة درجة» رواه مسلم.
وفي رواية له وللإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم» .
الحديث الثامن والعشرون: عن أنس رضي الله عنه قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة وقال:«يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم» فأقاموا. رواه البخاري وابن ماجة.
الحديث التاسع والعشرون: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آثاركم تكتب» فلم ينتقلوا. رواه الترمذي، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
الحديث الثلاثون: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يقتربوا، فنزلت {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} قال: فثبتوا. رواه ابن ماجة، وابن جرير، والطبراني.
الحديث الحادي والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح»
رواه الإمام أحمد، والشيخان.
الحديث الثاني والثلاثون: ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها.
وروى الطبراني في الكبير، عن ابن مسعود رضي الله عنه مثله مرفوعًا.
الحديث الثالث والثلاثون: عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا: «الغدو والرواح إلى المساجد من الجهاد في سبيل الله» رواه الطبراني وغيره.
الحديث الرابع والثلاثون: عنه رضي الله عنه أيضا، عن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل؛ رجل خرج غازيا في سبيل الله، فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله عز وجل» رواه أبو داود في سننه، والبخاري في (الأدب المفرد)، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
الحديث الخامس والثلاثون: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من جاهد في سبيل الله كان ضامنًا على الله، ومن جلس في بيته لا يغتاب أحدًا بسوء كان ضامنًا على الله، ومن عاد مريضًا كان ضامنًا على الله، ومن غدا إلى المسجد أو راح كان ضامنا على الله،
ومن دخل على إمام يعزره كان ضامنًا على الله» رواه الحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث رواته ثقات ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
الحديث السادس والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة في ضمان الله عز وجل؛ رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازيا في سبيل الله، ورجل خرج حاجًا» رواه أبو نعيم في الحلية من طريق محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا عبد الله بن الزبير، حدثنا سفيان، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الحديث السابع والثلاثون: عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: «ثلاث من كن فيه أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ الوضوء على المكاره، والمشي إلى المساجد في الظلم، وإطعام الجائع» رواه أبو الشيخ في كتاب (الثواب)، والأصبهاني في كتاب (الترغيب والترهيب).
الحديث الثامن والثلاثون: عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» رواه أبو داود، والترمذي وقال: هذا حديث غريب.
الحديث التاسع والثلاثون: عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن النبي بمثل حديث بريدة. رواه ابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
الحديث الأربعون: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث
بريدة وسهل رضي الله عنهما. رواه ابن ماجة، والحاكم في مستدركه وقال: إنها رواية مجهولة.
الحديث الحادي والأربعون: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد آتاه الله نورًا يوم القيامة» رواه أبو نعيم في الحلية.
الحديث الثاني والأربعون: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المشاؤون إلى المساجد في الظلم، أولئك الخواضون في رحمة الله» رواه ابن ماجة.
الحديث الثالث والأربعون: عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا أراد الله بقوم عاهة نظر إلى أهل المساجد فصرف عنهم» رواه الدارقطني في الأفراد وقال: غريب.
الحديث الرابع والأربعون: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.
الحديث الخامس والأربعون: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما عمار المساجد هم أهل الله» رواه عبد بن حميد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، والبيهقي في سننه.
الحديث السادس والأربعون: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله له من حين يخرج من بيته كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة بإسناد صحيح، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي رواية لأحمد والحاكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوضأ أحد فيحسن وضوءه ويسبغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا تبشبش الله به كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته» هذا لفظ أحمد، وفي رواية الحاكم:«كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم» .
الحديث السابع والأربعون: عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين؛ قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله» رواه الترمذي، والضياء في المختارة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
الحديث الثامن والأربعون: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «من صلى في مسجد جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله له بها عتقًا من النار» رواه ابن ماجة.
الحديث التاسع والأربعون: عن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غدا إلى صلاة الصبح غدا براية الإيمان، ومن غدا إلى
السوق غدا براية إبليس» رواه ابن ماجة.
ومن
أعظم فضائل المشي إلى المساجد
للصلاة فيها مع الجماعة أن ذلك من سنن الهدى التي شرعها الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متمسكًا بهذه السنة هو وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وقد قال الله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 36]، وقال تعالى:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، وقال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
وكفى باتِّباع طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقة أصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين- شرفًا وفضيلة لمن اقتفى أثرهم وسار على منهاجهم، مع ما وعد الله على ذلك من محبته ورضوانه والفوز بالجنة والنجاة من النار، فانظروا أيها المخالفون للسنة المثلى بتخلفكم في البيوت والمدارس من غير عذر، ماذا فاتكم من الخيرات والفضائل! مع ما ارتكبتم من معصية الله تعالى ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم بتخلفكم ومشابهتكم المنافقين الذين ذمهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ما يلحقكم على التخلف عن الصلاة في المساجد من الوعيد الشديد كما تقدم ذكره في الفصل الذي قبل هذا.
فاتقوا الله أيها المفرطون في صلاة الجماعة {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ
تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 54 - 58]
فصل
وقد تلاعب الشيطان بجَهَلة المقلدين للأئمة الأربعة مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وحسَّن لهم التفرق والاختلاف الذي نهى الله عنه وذم أهله، فصاروا في بعض الأمصار يصلي كل أهل مذهب وحدهم، ولا يصلون مع أهل المذهب الآخر، وربما اجتمع الكل في بعض المساجد الكبار فيقوم فريق منهم يصلون وحدهم والباقون من أهل المذاهب جلوس ينتظرونهم، فإذا فرغوا قام أهل المذهب الثاني يصلون وحدهم، فإذا فرغوا قام أهل المذهب الثالث يصلون وحدهم، فإذا فرغوا قام أهل المذهب الرابع يصلون وحدهم، وهذا خلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ولم يحدث هذا التفرق والاختلاف إلا بعد القرون المفضلة، وما زال جهال المقلدين متمسكين به إلى زماننا، ولكن ذلك في بعض الأمصار دون بعض، وقد كان معمولاً به في الحرمين الشريفين في الأزمان الماضية، حتى يسر الله محوه على أيدي النجديين
(1)
ولله الحمد والمنة.
ولا يخفى على طالب علم لا يتعصب للمذاهب، أن تفرق المقلدين في الصلوات الخمس من الأمور المحدثة المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مردودًا بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين، وسنن أبي داود،
(1)
إطلاق لفظ النجديين اصطلاح درج عليه كثير من العلماء -والمؤرخون منهم خاصة- على رعية الدولة السعودية بمراحلها الثلاث، نسبة إلى موطن الحكم ومنشئه.
وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
وفي المسند، والسنن، عن العرباص بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم وقال: ليس له علة، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي رواية للحاكم: «عليكم بما تعرفون من سنة نبيكم، والخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا على نواجذكم بالحق» قال الحاكم: صحيح على شرطهما جميعًا، ولا أعرف له علة، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، ولا يتخلف عن الصلاة معه إلا من بعدت دورهم وشق عليهم المجيء إلى مسجده، وكذلك كان في أسفاره يصلي بأصحابه جميعًا، ولا يتخلف عن الصلاة معه إلا من كان له عذر يمنعه عن الحضور، حتى أنه كان في حال الخوف ومصافّة العدو يصلي بأصحابه جميعًا، وهذا بخلاف ما عليه جهال المقلدين في حال الأمن، فإنهم يجتمعون في المسجد الواحد فيقيمون فيه جماعتين أو ثلاثة أو أربعا من غير عذر، فهم في واد ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان في واد آخر، وليس لجهال المقلدين مستند فيما يفعلونه إلا الجهل الصرف والتقليد الأعمى الذي كان أئمة المذاهب ينهون أصحابهم عنه.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة فرأى رجلاً معتزلاً لم يصل معهم أنكر عليه، كما في الصحيحين وغيرهما، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى بالناس، فإذا هو برجل معتزل فقال:«ما منعك أن تصلي؟» قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال:«عليك بالصعيد فإنه يكفيك» .
وفي المسند، والسنن إلا ابن ماجة، عن يزيد بن الأسود قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا، فقال:«عليَّ بهما» فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال:«ما منعكما أن تصليا معنا» ؛ فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال:«فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم.
وفي الموطأ، والمسند، وسنن النسائي، عن بسر بن محجن، عن أبيه محجن بن الأدرع الأسلمي رضي الله عنه أنه كان في مجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، ورجع ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم» قال: بلى يا رسول الله، كنت قد صليت في أهلي، فقال له:«إذا جئت المسجد وكنت قد صليت فأقيمت الصلاة فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت» .
وفي سنن أبي داود، عن يزيد بن عامر رضي الله عنه قال: جئت والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة، فانصرف علينا رسول الله
- صلى الله عليه وسلم فرأى يزيد جالسًا فقال: «ألم تُسلم يا يزيد؟» قال: بلى يا رسول الله، قد أسلمت، قال:«فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟» قال: إني كنت قد صليت في منزلي وأنا أحسب أن قد صليتم، فقال:«إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم وإن كنت قد صليت، تكن لك نافلة وهذه مكتوبة» .
وهذه الأحاديث دالة على أنه يجب الإنكار على جهلة المقلدين الذين يجتمعون في المسجد الواحد ويعتزل بعضهم بعضًا، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر المصلين في رحالهم بإعادة الصلاة مع الجماعة وأنكر عليهم الاعتزال عنهم، فلا ريب أن الإنكار على المقلدين الذين وصفنا حالهم أولى، ولارتكابهم ما أنكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع مخالفتهم لهديه وهدي أصحابه والتابعين لهم بإحسان، فالواجب على أهل العلم وولاة الأمور الذين يعمل عندهم بالتفرق بين أهل المذهب أن يبذلوا جهدهم في محو ذلك عملاً بقول الله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104 - 105].
وفي المسند، وسنن أبي داود، والنسائي، عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاتهم مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله» وهذا الحديث دال على أن التفرق في صلاة الجماعة في المسجد
الواحد خلاف ما يحبه الله ويرضاه.
وفي صحيح مسلم، وسنن النسائي، وابن ماجة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم» .
وفي سنن أبي داود، والنسائي، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما نحوه.
وإذا كان اعوجاج الصفوف من أسباب اختلاف القلوب، فما الظن باختلاف الجماعة الواحدة وتفرقهم في المسجد الواحد كل فريق منهم يصلون وحدهم، ولا يستجيزون الصلاة مع الآخرين، فهذا أحرى باختلاف القلوب وتنافرها، فالله المستعان.
فصل
ومن المنكر الفاشي في زماننا تحجر الأمكنة القريبة من الإمام في المسجد ولا سيما يوم الجمعة، فإن كثيرًا من الجهال يتسابقون فيه إلى تحجر الصف الأول بما يضعونه فيه من العصي والخرق والنعال وغير ذلك كالمفارش في بعض البلدان، وربما تحجروا في الصف الثاني والثالث وغيرهما من الصفوف، وكثير من الجُهَّال يتحجر موضعين وثلاثة وأكثر من ذلك له ولأبيه ومن يعز عليه من قريب وصديق وغيرهما، وكثير من الذين يتحجرون الأمكنة أو تُتَحجر لهم لا يأتون إلى المسجد إلا إذا قرب وقت الصلاة، وكثير منهم يتخطون رقاب الناس ويؤذونهم فيجمعون بين ثلاثة أشياء كل منها منهي عنه:
أحدها: غصب المواضع الفاضلة، ومنع السابقين قبلهم من الصلاة فيها.
الثاني: تأخير الرواح إلى الصلاة.
الثالث: إيذاء الناس بتخطي رقابهم، وقد جاءت السنة بذم من فعل ذلك؛ ففي الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة خير له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطب جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة. قال ابن عبد البر: هذا المعنى مرفوع.
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس، فقد آذيت» زاد أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم:«وآنيت» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي سنن ابن ماجة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجعل يتخطى الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اجلس، فقد آذيت وآنيت» .
قال أبو عبيد الهروي: أي آذيت الناس بتخطيك، وأخرت المجيء وأبطأت.
وروى الطبراني، عن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس إذ جاء رجل يتخطى رقاب الناس حتى جلس قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال:«ما منعك يا فلان أن تجمع معنا؟» قال: يا رسول الله، قد حرصت أن أضع نفسي بالمكان الذي ترى، قال:«قد رأيتك تتخطى رقاب الناس وتؤذيهم، من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل» .
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن أبي حاتم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يحضر الجمعة ثلاثة نفر؛ رجل حضرها يلغو وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله عز وجل إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدًا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله عز وجل يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]» .
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومسّ من طيب إن كان عندهم، ثم أتى الجمعة فلم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه، حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها» قال: ويقول أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام، ويقول: إن الحسنة بعشر مثالها. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وروي أبو داود أيضًا، والبيهقي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيب امرأته إن كان لها، ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغ عند الموعظة، كانت كفارة لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظُهرًا» .
وروى الإمام أحمد، والطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه، عن الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قُصْبَه في النار» ؛ القصب بالضم الأمعاء.
وروى الإمام أحمد أيضا، والترمذي، وابن ماجة، عن معاذ بن أنس الجُهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرًا إلى جهنم» قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد والعمل عليه عند أهل العلم، كرهوا أن يتخطى
الرجل يوم الجمعة رقاب الناس، وشددوا في ذلك، وقد تكلم بعض أهل العلم في رشدين بن سعد وضعفه من قبل حفظه. انتهى.
وجزم شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وغير واحد من علماء الحنابلة أنه يحرم تخطي رقاب الناس.
قلت: ودليل التحريم ظاهر من الأحاديث التي ذكرنا.
وقال أبو العباس في موضع آخر: ليس لأحد أن يتخطى رقاب الناس، ليدخل في الصف إذا لم يكن بين يديه فرجة لا يوم الجمعة ولا غيره؛ لأن هذا من الظلم والتعدي لحدود الله تعالى.
وحكى رحمه الله تعالى الاتفاق على النهي عن تقديم المفارش إلى المسجد.
ومثل ذلك ما يفعل في زماننا من تقديم العصي والخرق والنعال.
قال رحمه الله تعالى في جواب له: وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها قبل ذهابهم إلى المسجد فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين، بل يحرم، وهل تصح صلاته على ذلك المفروش؟ فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان، ومن صلى في بقعة في المسجد مع منع غيره أن يصلي فيها فهل هو كالصلاة في الأرض المغصوبة؟ على وجهين، وفي الصلاة في الأرض المغصوبة قولان للعلماء، وهذا مستند من كره الصلاة
في المقاصير التي يمنع الصلاة فيها عموم الناس.
والمشروع في المسجد أن الناس يُتمون الصف الأول كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا» .
والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش وتأخر هو فقد خالف الشريعة من وجهين: من وجه تأخره وهو مأمور بالتقدم، ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد ومنعه للسابقين أن يصلوا فيه وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه يتخطى الناس إذا حضروا وفي الحديث «الذي يتخطى رقاب الناس يتخذ جسرًا إلى جهنم» .
ثم إذا فرش هذا فهل لمن يسبق إلى المسجد أن يرفع ذلك ويصلي موضعه؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له؛ لأنه تصرف في ملك الغير.
والثاني: وهو الصحيح أن لغيره رفعه والصلاة مكانه؛ لأن هذا السابق يستحق الصلاة في ذلك الصف المقدم، وهو مأمور بذلك أيضا، وهو لا يتمكن من فعل المأمور به واستيفاء هذا الحق إلا برفع ذلك المفروش، وما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به، وأيضا فذلك المفروش وضعه هناك على وجه الغصب وذلك منكر، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» ، لكن
ينبغي أن يراعى في ذلك أن لا يؤول إلى منكر أعظم منه، والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وأما إذا تقدم الرجل بنفسه إلى مكان فاضل في المسجد، وصلى فيه ما تيسر ثم وضع فيه عصاه أو نعليه أو خرقة أو غير ذلك، وخرج لأكل، أو شرب، أو وضوء، أو غلبة نوم، أو قام إلى ناحية من نواحي المسجد لشمس أو ظل أو نحو ذلك، فقد قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين رحمه الله تعالى: إن هذا ما يقال فيه شيء.
وقال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في (المغني): إذا جلس في مكان ثم بدت له حاجة أو احتاج إلى وضوء فله الخروج، وإذا قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به، وحكمه في التخطي حكم من رأى بين يديه فرجة. انتهى.
قلت: والأولى اجتناب التخطي مهما أمكن؛ لأمرين:
أحدهما: رجاء أن يحوز فضل الجمعة تامًا؛ لقوله في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي تقدم «
…
ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدًا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام» ونحوه ما في حديثه الآخر، وحديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما.
الثاني: السلامة من الوعيد لمن تخطى رقاب الناس، والله أعلم.
فصل
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يدخلون المسجد في نعالهم وخفافهم، ويصلون فيها، كما في الصحيحين، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم.
ورواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، قال: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن أبي حبيبة، وعبد الله بن عمرو، وعمرو بن حريب، وشداد بن أوس، وأوس الثقفي، وأبي هريرة، وعطاء؛ رجل من بني شيبة.
وفي الصحيحين عن همام بن الحارث قال: رأيت جرير بن عبد الله رضي الله عنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى، فسئل، فقال:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا» هذا لفظ البخاري.
وفيهما أيضا عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «وضأت النبي صلى الله عليه وسلم فمسح على خفيه وصلى» هذا لفظ البخاري.
وفي سنن ابن ماجة، عن ابن أبي أوس قال: كان جدي أوس أحيانًا يصلي فيشير إليَّ وهو في الصلاة، فأعطيه نعليه، ويقول:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه» .
وله أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في النعلين والخفين» .
وقد رواه الإمام أحمد في مسنده، وفيه قصة وهي: أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أتى أبا موسى الأشعري في منزله، فحضرت الصلاة، فقال أبو موسى: تقدم يا أبا عبد الرحمن فإنك أقدم سنا وأعلم، قال: لا، بل تقدم أنت، فإنما أتيناك في منزلك ومسجدك فأنت أحق، فتقدم أبو موسى فخلع نعليه، فلما سلم، قال: ما أردت إلى خلعهما، أبالوادي المقدس أنت؟! «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الخفين والنعلين» .
وفي المسند، وسنن أبي داود، وابن ماجة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قائمًا وقاعدًا وحافيًا ومنتعلاً» .
وروي أبو نعيم في الحلية، من حديث مكحول، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيًا، ومنتعلاً، وينصرف عن يمينه، وعن شماله» .
وفي سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القومُ ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال:«ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟» قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا» وقال: «إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا فليمسحه وليصل فيهما» .
ورواه الإمام أحمد، والحاكم بنحوه، وقال الحاكم: صحيح على شرط
مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى رزين، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنعليه وفيهما قذر فأخبره جبريل فحذفهما وأتم صلاته» .
وفي صحيح الحاكم عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلع نعليه في الصلاة قط إلا مرة واحدة، خلع فخلع الناس فقال:«مالكم؟» قالوا: خلعت فخلعنا، فقال:«إن جبريل أخبرني أن فيهما قذرًا أو أذى» قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي سنن الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: الصلاة في النعلين، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نعليه، فخلعهما، فخلع الناس، فلما قضى الصلاة قال:«لم خلعتم نعالكم؟» قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال:«إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: إن فيهما دم حلمة» .
وفي سنن أبي داود، وصحيح الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي رواية لأبي داود: «إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب» .
وله أيضا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.
وروى أبو داود أيضا، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه، عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا اليهود؛ فإنهم لا
يصلون في نعالهم ولا خفافهم».
ورواه الطبراني في الكبير بلفظ: «صلوا في نعالكم، ولا تشبهوا باليهود» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي السنن إلا الترمذي، عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الفتح، ووضع نعليه عن يساره» .
وفي رواية للنسائي عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: «حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وصلى في قِبَل الكعبة، فخلع نعليه فوضعهما عن يساره
…
» وذكر تمام الحديث.
وقد رواه الحاكم في مستدركه مستشهدًا به لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور بعده، وهو ما رواه أبو داود في سننه، والحاكم من حديث يوسف بن ماهك، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره؛ فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد، وليضعهما بين رجليه» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وقد رواه أبو داود، والحاكم أيضا من حديث الأوزاعي، حدثني محمد بن الوليد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحدًا، ليجمعهما بين رجليه أو ليصل فيهما» هذا لفظ أبي داود.
ولفظ الحاكم: «إذا صلى أحدكم فليخلع نعليه بين رجليه، أو ليصل فيهما» قال الحافظ الذهبي في تلخيصه: على شرطهما؛ يعني الشيخين.
وقد رواه الحاكم أيضًا من طريق عبد الله بن وهب، أخبرني عياض بن عبد الله القرشي، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا صلى أحدكم فليلبس نعليه، أو ليخلعهما بين رجليه، ولا يؤذ بهما غيره» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وقد رواه ابن ماجة في سننه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد -وهو ضعيف- عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألزِم نعليك قدميك، فإن خلعتهما فاجعلهما بين رجليك، ولا تجعلهما عن يمينك ولا عن يمين صاحبك ولا ورائك فتؤذي من خلفك» .
ورواه الطبراني في الصغير، من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحدًا، ليخلعهما بين رجليه» في إسناده يحيى بن عبد الله البابلتي، روى له البخاري تعليقًا، وتكلم فيه ابن حبان وابن عدي.
وفي الموطأ، عن أبي سهيل نافع بن مالك الأصبحي، عن أبيه قال: كنت مع عثمان، فقامت الصلاة وأنا أكلمه في أن يفرض لي، فلم أزل أكلمه وهو يسوي الحصا بنعليه، حتى جاءه رجال قد كان وكلهم بتسوية الصفوف، فأخبروه أن قد استوت، فقال لي: استو في الصف، ثم كبَّر.
فهذا ما تيسر إيراده من الأحاديث في هذا الفصل، وقد اشتملت على فوائد كثيرة نذكر منها ما يتعلق بالمقصود ههنا:
إحداها: أن الصلاة في النعال والخفاف سُنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر بها، وفعلها هو وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ولهذا لما قيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: أيصلي الرجل في نعليه؟ قال: إي والله.
فأما الصلاة في الخفاف فلا يزال العمل بها باقيًا في كثير من البلاد الإسلامية حتى الآن، وأما الصلاة في النعال فقد عفى أثرها في هذه الأزمان حتى صارت في بعض الأماكن من قبيل البدع ومنكرات الأفعال.
الثانية: جواز دخول المساجد في النعال والخفاف خلافًا لما عليه كثير من الناس.
الثالثة: أمر من جاء إلى المسجد أن يقلب نعليه أو خفيه وينظر فيهما، فإن رأى فيهما قذرًا أو أذى مسحه بالتراب، وصلى فيهما.
الرابعة: أن مسحهما بالتراب يطهرهما ولا حاجة إلى الغسل.
الخامسة: أن من نسي أن ينظر في نعليه أو خفيه حتى فرغ من صلاته فصلاته صحيحة، ولو كان فيهما نجاسة.
السادسة: أن من علم بنجاسة نعليه وهو في الصلاة فعليه أن يخلعهما، فإن لم يفعل بطلت صلاته لملابسته للنجاسة عالمًا مختارًا.
السابعة: نهي المصلي أن يؤذي أحدًا بنعليه إذا خلعهما.
الثامنة: نهيه أن يضعهما عن يمينه أو عن يمين غيره.
التاسعة: إرشاده إلى وضعها بين رجليه، أو عن يساره إن كان إمامًا، وكذلك المأموم والمنفرد، إذا لم يكن عن يسارهما أحد.
ويفهم من فحوى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه لا يجوز للمصلي أن يضع نعليه قِبَل وجهه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بوضعهما بين الرجلين أو عن اليسار إذا كان خاليًا، فدل على أنه لا يجوز وضعهما قِبَل الوجه.
وأيضا فإن جهة الإمام في حال الصلاة أشرف من جهة اليمين فما نزهت عنه جهة اليمين فجهة الإمام أولى بالتنزيه عنه، ويدل على ذلك ما في الصحيحين وغيرهما، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَل وجهه، فإن الله قِبَل وجهه إذا صلى» .
وفي الصحيحين وغيرهما، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا يبزقن بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدميه» .
وفي رواية للبخاري: «إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قِبَل قِبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدميه» .
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكًا، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه
فيدفنها» هذا لفظ البخاري.
وفي صحيح مسلم، وسنن أبي داود، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى» .
وفي سنن أبي داود أيضا، وصحيح الحاكم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه والمَلَك عن يمينه، فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه، وليبصق تحت قدمه اليسرى أو عن يساره» هذا لفظ الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أن جهة قبلة المصلي أشرف من جهة يمينه، وأنه يجب تنزيههما عن البصاق، فدل ذلك على أنه ينبغي تنزيه جهة القبلة عن وضع النعلين فيهما كجهة اليمين، بل هي أولى بالتنزيه والاحترام، والله أعلم.
وقد جاء في هذا حديث مرفوع، فروى الطبراني في الصغير بإسناد فيه ضعف، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خلع أحدكم نعليه في الصلاة فلا يجعلهما بين يديه فيأتم بهما، ولا من خلفه فيأتم
(1)
بهما أخوه المسلم، ولكن ليجعلهما بين رجليه».
وقد خفي الأمر بوضع النعلين بين الرجلين في الصلاة أو عن اليسار إذا
(1)
هكذا في الأصل بالمثناة في الموضعين، وكذا هو في المطبوع من المعجم الصغير (2/ 13)، وفي المطبوع من الروض الداني إلى المعجم الصغير للطبراني (2/ 70) بالمثلثة «فيأثم» .
كان خاليًا على كثير من المنتسبين إلى العلم في زماننا هذا فضلا عن العامة، وقلَّ أن يُرى أحد يعمل في هذا بمقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بل قد صار عمل الخاصة والعامة على خلافه، فتراهم يضعون النعال أمامهم وعن أيمانهم وعن أيمان الغير، ولا يرون بذلك بأسًا، والحامل لهم على هذا جهلهم بالسنة، فالواجب على من علم بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره أن يُعلِّم الجاهلين به، فقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: «ويل للعالم من الجاهل حيث لا يعلمه» .
والواجب على الجاهل أن يقابل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالرضا والتسليم.
وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: «ويل للعالم من الجاهل، وويل للجاهل من العالم» وإنما يكون الويل للعالم إذا ترك تعليم الجاهل كما هو مصرح به في الحديث الذي ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى، والويل للجاهل إذا أمره العالم بمعروف فلم يأتمر أو نهاه عن منكر فلم ينته، والله أعلم.
العاشرة: من فوائد الأحاديث المتقدمة أن العمل اليسير في الصلاة معفو عنه.
الحادية عشرة: أن الأمة أُسوتها نبيُّها صلى الله عليه وسلم في الأحكام ما لم يرد دليل على الاختصاص، ولهذا لما خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه بادر الصحابة رضي الله عنهم فخلعوا نعالهم تأسيًا به.
الثانية عشرة: أن ترك الصلاة في النعال والخفاف من فعل اليهود.
الثالثة عشرة: الأمر بمخالفتهم والنهي عن التشبه بهم.
الرابعة عشرة: الرد على الموسوسين الذين لا يصلون في النعال والخفاف، ولا يدخلون المساجد فيها إما بالكلية كما في بعض الأماكن وإما إلى موضع الصلاة كما في أماكن أخرى، وهذا من الغلو والتعمق، والرغبة عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب، فحمد الله ثم قال:«ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» هذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا فترخص فيه، فبلغ ذلك ناسًا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه، فبلغه ذلك فقام خطيبًا فقال:«ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه؟ فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية» .
وفي لفظ له: قالت: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر، فتنزه عنه ناس من الناس، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب حتى بان الغضب في وجهه ثم قال:«ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه؟ فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية» .
وفي الصحيحين أيضا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رغب عن سُنتي فليس مِنِّي» .
ومن غلو الموسوسين وتعمقهم أنهم يمنعون غيرهم من دخول المساجد في النعال والخفاف، وينكرون ذلك عليهم أشد الإنكار، ولا سيما في المسجد الحرام والمسجد النبوي، فإن العامة لا يمكِّنون أحدا من الدخول فيهما بنعليه ولا خفيه إلا أن يكونا في يده، ولو رأوا أحدًا يدخل فيهما بنعليه أو خفيه لاستعظموا ذلك واشتد إنكارهم على فاعله، وربما عدوه مبتدعًا أو مرتكبًا لكبيرة من الكبائر، وإنما يحملهم على هذا جهلهم بالسنة، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين- من التيسر وترك التعسير، كما في صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» .
وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا أبا داود، عن أنس بن مالك رضي الله عنه نحوه.
ولابن ماجة أيضا عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه نحو ذلك.
وفي المسند، وسنن أبي داود، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت فتى شابًا عزبًا، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك.
ورواه البخاري في صحيحه مختصرًا معلقًا بصيغة الجزم.
وفي صحيح البخاري أيضًا، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا الترمذي،
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله. الحديث.
وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد، ومعه بلال، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ في المسجد» الحديث. وهذا لفظ البخاري.
ولفظ أحمد ومسلم: «حتى أناخ بفناء الكعبة» .
وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر» .
وعن جابر بن عبد الله، وعائشة، وأبي الطفيل، وصفية بنت شيبة، وابن عباس رضي الله عنهم نحو ذلك.
فأما حديث جابر رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فرواه مسلم، والنسائي.
وأما حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه فرواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجة.
وأما حديث صفية بنت شيبة رضي الله عنها فرواه أبو داود، وابن ماجة.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فرواه الإمام أحمد، وأبو داود وفيه:«فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين» .
وفي الصحيحين، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا الترمذي، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني اشتكي، فقال:«طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور.
وفي رواية للبخاري والنسائي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا أقيمت الصلاة فطوفي على بعيرك من وراء الناس» .
ففي هذه الأحاديث بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التيسير على أمته.
فمن ذلك أنه ترك الأعرابي الجاهل يتم بوله في المسجد، ونهى أصحابه أن يزرموه بأن يقطعوا عليه بوله، وأمرهم أن يصبوا على بوله ذنوبًا من ماء، ثم دعا الأعرابي فعلمه برفق وقال له:«إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه.
وعند ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال الأعرابي بعد أن فقه: فقام إليَّ بأبي وأمي فلم يؤنب ولم يسب فقال: «إن هذا المسجد لا يبال فيه، وإنما بني لذكر الله وللصلاة
…
» الحديث، وهذا بعكس ما يفعله كثير من الجهال في هذه الأزمان مع متبعي السنة، فإنهم إذا رأوا أحدًا منهم يدخل المسجد في نعليه كان أهون ما يفعلون معه أن يعنفوه ويوبخوه على فعله، ولا يردهم عنه كونه ينظر في نعليه قبل أن يدخل المسجد ويمسح ما فيهما من الأذى والقذر، وهذا في الحقيقة إنكار للسنة، ورد على النبي صلى الله عليه وسلم كما
هو معلوم من الأحاديث التي تقدمت في أول الفصل، والله أعلم.
ومن ذلك أن الكلاب كانت تبول وتقبل وتدبر في المسجد النبوي في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين- يعبأون بذلك، وهذا أعظم مما ينكره الجهال من المشي في المساجد بالنعال والخفاف.
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أدخل بعيره في المسجد الحرام الذي هو أشرف المساجد وأفضلها على الإطلاق، وأعظمها حرمة عند الله تعالى، وأولاها بالتطهير والتنزيه من جميع الأقذار، وطاف صلى الله عليه وسلم راكبًا عليه، وأناخه في المسجد بفناء الكعبة، وأمر أم سلمة رضي الله عنها أن تطوف على بعيرها، وأقرَّ الأعرابي على إدخاله بعيره في المسجد النبوي وعقله إياه فيه، وهذا أعظم مما ينكره الجهال من المشي بالنعال والخفاف في المسجدين الشريفين وغيرهما من المساجد؛ لأن ما يخشى من تلويث المسجد بما يعلق بالنعال والخفاف من الأذى والقذر يخشى أكثر منه في أخفاف البعير؛ فإن الإنسان يحترز غالبًا من وطء الأقذار بخلاف البعير، وأيضًا فإن الإنسان مأمور إذا أتى المسجد أن ينظر في نعليه ويمسح ما يراه فيهما من الأذى والقذر، وبذلك يطهران ويزول عنهما ما يخشى من تلويث المسجد، وأيضا فإن البعير لا يؤمن أن يلوث المسجد برجيعه وبوله، وهما وإن كانا طاهرين فتنزيه المسجد منهما أولى، ولما كان الشارع المبعوث بالتيسير والحنيفية السمحة لم يعبأ بشيء مما يحتمل وقوعه من البعير، ولم يُنقل عنه أنه نظر في أخفاف بعيره لما أراد أن يدخله المسجد الحرام، ولا أمر أم سلمة
والأعرابي بشيء من ذلك، دل هذا على أن في الأمر سعة، ولكن الجهال الموسوسين قد أبوا ذلك، وضيقوا على الناس، حتى منعوهم من دخول المسجدين بالنعال والخفاف فضلا عما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به وأقره، فالله المستعان
(1)
.
وفي الصحيحين، وسنن أبي داود، وابن ماجة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
وفي رواية لأحمد، ومسلم، والبخاري تعليقًا مجزومًا به:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» .
ورواه الدارقطني في سننه، والحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بلفظ:«من فعل أمرًا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: المراد بأمره ههنا: دينه وشرعه. انتهى.
والرد هنا: بمعنى المردود، من إطلاق المصدر على اسم المفعول.
قال النووي وغيره: معناه فهو باطل غير معتد به. انتهى.
ومن تأمل الأحاديث التي ذكرنا في أول الفصل علم أن إنكار دخول المساجد في النعال والخفاف وإنكار الصلاة فيها إنما هو جهل صرف، وأمر محدث، ليس عليه أمر الشارع، فيكون مردودًا، والله أعلم.
(1)
هذا الكلام منه رحمه الله يوم أن كان المسجد عامته بالحصباء لا فُرُش ولا غيرها مما يستقذر الناس وطأه بالخفاف والنعال، وأما آخر الأمر فلقد رأيناه رحمه الله يخلع نعله عند باب المسجد الحرام عند إرادة دخوله مما يدل على أنه يرى التفريق بين الأمرين، والله أعلم.
فصل
ومن المذموم شرعًا زخرفة المساجد والمباهاة فيها، وقد فشا ذلك في هذه الأزمان، وسيأتي الكلام عليه وسياق ما ورد في ذلك من الأحاديث في فصول التحذير من التشبه باليهود والنصارى والمشركين إن شاء الله تعالى، وبه الثقة
(1)
.
(1)
هذا مما أحال عليه رحمه الله ولم يبلغه قلمه فيما وجد من هذا الكتاب المبارك، وله مؤلف خاص بعنوان (الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين).
فصل
وقد أحدث الجهال في الأذان محدثات زينها لهم الشيطان اللعين.
فمنها: المبالغة في التطريب به في بعض الأماكن، حتى يصير شبيهًا بالغناء والأصوات الموسيقية.
ومنها:
الانتفاض حال التأذين
في أماكن أخرى، بحيث يكون المؤذن كالمحموم، أو المصاب بالبرد الشديد.
ومنها: تمطيطه والتنطع في إخراجه حتى يتولد من الحرف حرف آخر أو حرفان أو ثلاثة أو أكثر من شدة التمطيط، وفي هذه الأفعال المبتدعة من الاستهزاء بذكر الله تعالى، والاستخفاف بشأن الأذان ما لا يخفى على من في قلبه حياة، وتسمية أهلها بالمستهزئين بذكر الله تعالى أولى من تسميتهم بالمؤذنين، فالواجب على المسلمين تغيير هذه المنكرات بحسب القدرة، والواجب على ولاة الأمور أن يفعلوا مع المطربين بالأذان ونحوهم من المبتدعين فيه مثل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع سلفهم في هذه البدعة، وما فعله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أيضا؛ ففي سنن الدارقطني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الأذان سمح سهل؛ فإن كان أذانك سهلاً سمحًا وإلا فلا تؤذن» .
وذكر البخاري في صحيحه تعليقًا مجزومًا به، ووصله ابن أبي شيبة: أن مؤذنًا أذَّن فطرّب في أذانه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أذِّن أذانًا سمحًا،
وإلا فاعتزلنا.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على المطرب في الأذان فالإنكار على الذين يجعلونه شبيهًا بالغناء والأصوات الموسيقية أولى وأحرى، وكذلك الذين يمططونه، ويتنطعون فيه، وينتفضون معه، فكل هؤلاء أولى بأن ينكر عليهم؛ لأنهم أعظم استخفافًا بالأذان ممن يطرب به.
ويجب أيضا تغيير ما زادته الرافضة في الأذان من الجُمل التي ما أنزل الله بها من سلطان، إنما هي من تزيين الشيطان وكيده؛ كقولهم: أشهد أن عليًا ولي الله، وكقولهم: حي على خير العمل.
والله المسؤول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
فصل
ومن الاستهزاء بذكر الله تعالى ما يفعل في المسجد الحرام يوم العيد، من التجاوب بالتكبير بين أهل المنارات وأهل المقامات بأصوات عالية ملحنة، يخرجونها مخرجًا واحدًا على نحو ما يفعله أهل الغناء المحرم، وقد رأيت بعض الحاضرين يطربون لهذه الأصوات كما يطرب المفتونون بالغناء للغناء، وفعلهم هذا من البدع التي يجب إنكارها، وقد أنكر ابن مسعود وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما ما هو دون ذلك، وعده ابن مسعود رضي الله عنه من البدع؛ فروى الطبراني في الكبير، عن عمرو بن سلمة قال: كنا قعودا على باب ابن مسعود رضي الله عنه بين المغرب والعشاء، فأتى أبو موسى رضي الله عنه فقال: اخرج إلينا أبا عبد الرحمن، فخرج ابن مسعود رضي الله عنه فقال: أبا موسى، ما جاء بك هذه الساعة؟ قال: لا والله، إلا إني رأيت أمرا ذعرني وإنه لخير ولقد ذعرني وإنه لخير؛ قوم جلوس في المسجد ورجل يقول: سبحوا كذا وكذا، احمدوا كذا وكذا، قال: فانطلق عبد الله وانطلقنا معه
(1)
حتى أتاهم فقال: ما أسرع ما ضللتم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء، وأزواجه شواب، وثيابه وآنيته لم تغير، أحصوا سيئاتكم فأنا أضمن على الله أن يحصي حسناتكم.
وروى الدارمي، عن عمرو بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قبل صلاة الغداة فإذا
(1)
في الأصل (معهم) ولعله سبق قلم، والتصحيح من معجم الطبراني الكبير (9/ 136).
خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أَخَرَجَ إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمرًا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرًا، قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك، أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم! أو مفتتحي باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه!
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في (زوائد الزهد)، والطبراني، وأبو الفرج بن الجوزي واللفظ له، عن أبي البختري قال: أخبر رجل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن قومًا ما يجلسون في المسجد بعد المغرب، فيهم رجل
يقول كبروا الله كذا وكذا، وسبحوا الله كذا وكذا، واحمدوا الله كذا وكذا، قال عبد الله: فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فاتِنِي فأَخبِرنِي بمجلسهم، فأتاهم فجلس، فلما سمع ما يقولون قام فأتى ابن مسعود فجاء -وكان رجلاً حديدًا- فقال: أنا عبد الله بن مسعود، والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماء، أو لقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علمًا! عليكم بالطريق فالزموه، ولئن أخذتم يمينًا وشمالاً لتضلن ضلالا بعيدًا.
وفي رواية الطبراني: فأمرهم أن يتفرقوا.
وروى محمد بن وضاح، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حُدِّث أن ناسًا يسبحون بالحصى في المسجد، فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم كومة من حصى، فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد وهو يقول: لقد أحدثتم بدعة ظلماء، أو قد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علمًا!
إذا علم هذا، فصنيع المتجاوبين بالتكبير يوم العيد مما لا ريب أنه من المنكرات، وأنه أعظم مما أنكره ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما، وأولى بأن ينكر على فاعليه، ويمنعوا منه، وبيان ذلك من وجهين:
أحدهما: ما في فعل المتجاوبين بالتكبير من التطريب به، واجتماع الجماعة على إخراجه بأصوات عالية متطابقة، كأنها من تطابقها صوت واحد على نحو ما يفعله المغنون، وهذا المسلك مما ينبغي تنزيه ذكر الله وإجلاله عنه.
الثاني: التشويش على من في المسجد الحرام من التالين للقرآن والذاكرين الله تعالى بالتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح وغير ذلك من
أنواع الذكر والدعاء، فتلتبس القراءة على القاري والذكر على الذاكر والدعاء على الداعي، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهر بالقرآن إذا حصل من الجهر به تشويش على الغير، كما في الموطأ، عن أبي حازم التمار، عن البياضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال:«إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن» .
وروى أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال:«ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة -أو قال- في الصلاة» .
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان. انتهى.
وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف، وخطب الناس فقال:«أما إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنه يناجي ربه، فليعلم أحدكم ما يناجي ربه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة في الصلاة» إسناده جيد.
وإذا كان المصلي منفردًا، ومثله التالي للقرآن في غير صلاة منهيًا عن الجهر الذي يحصل منه تشويش على من حوله من المصلين والتالين فنهي
المتجاوبين بالتكبير أولى؛ لأن صنيعهم فيه من المحدثات، مع ما في ذلك من التشويش على التالين والذاكرين والداعين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه الشيخان، وأبو داود، وابن ماجة، من حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي رواية لأحمد، ومسلم، والبخاري تعليقًا مجزومًا به:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(1)
.
(1)
وله رحمه الله رسالة مستقلة في هذا الموضوع سماها: إنكار التكبير الجماعي وغيره.
فصل
ومن أعظم أسباب اغتراب الإسلام تهاون الأكثرين بالزكاة المفروضة؛ إيتاءً، وتفريقًا، وأخذًا.
فأما الإيتاء فالناس فيه على طرائق شتى:
منهم من يترك الزكاة بالكلية ولعلهم الأكثرون من المنتسبين إلى الإسلام.
ومنهم من يخرج الزكاة عن بعض ماله ويترك بعضه فلا يزكيه.
ومنهم من يخرجها عن الأموال الظاهرة ويتركها عن الخفية.
وكثير من أهل الزروع والثمار لا يخرجون الزكاة إلا بقدر المخروص عندهم، ولا يخرجونها عما زاد عليه، وبعضهم يخرج الزكاة من رديء ما عنده، وبعض الناس تكون عنده الأعناب الكثيرة وغيرها من أنواع الحبوب والثمار التي تكال وتدخر فلا يخرج منها الزكاة.
ومن التجار من يخرجها عما عنده من الذهب والفضة ولا يخرجها عن عروض التجارة.
ومنهم من لا يعتني بإحصاء ماله، بأن يعد المعدودات ويقوم غيرها من العروض بقيمتها وقت إخراج الزكاة ليخرج الزكاة كاملة عن الجميع، وإنما يخرج عنها بالحدس والتخمين، ونحو ذلك مما لا تبرأ به الذمة.
وبعض الناس تكون تجارته في الرقيق أو في المواشي أو في العقارات كالأراضي والبيوت والدكاكين وغيرها، أو في السيارات وغيرها من المتحركات، فإذا جاء وقت الزكاة أهملها ولم يسلك بهذه الأشياء سبيل عروض التجارة؛ بأن يقومها بقيمتها حينئذ، ليخرج الزكاة عنها كاملة
موفرة؛ وإنما يخرج عنها بالحدس والتخمين، وبعضهم يترك الزكاة عنها بالكلية ولا يعبأ بها.
فكل هؤلاء الذين ذكرنا متهاونون بالزكاة، مفرطون في ركن عظيم من أركان الإسلام، وأقل الناس من يخرج الزكاة من أصناف ماله كاملة موفرة طيبة بها نفسه، وقد تقدم الكلام في حكم تارك الزكاة عمدًا، وذكرت هناك أن طائفة من السلف ذهبوا إلى تكفيره، وذكرت دليل قولهم من الكتاب والسنة واتفاق الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعي الزكاة، والحكم عليهم بالردة، وذكرت أيضًا ما رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب (السنة) بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ما تارك الزكاة بمسلم.
وروى عبد الله أيضًا بإسناد صحيح عنه أنه قال: من أقام الصلاة ولم يؤد الزكاة فلا صلاة له.
وروى أيضا بإسناد صحيح عنه أنه قال: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له.
وروى أسد بن موسى، عن الضحاك قال: لا ترفع الصلاة إلا بالزكاة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها:
إحداها: قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [التغابن: 12]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.
الثانية: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه.
الثالثة: قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
وذكر هذا الأثر الحافظ الذهبي في كتاب (الكبائر).
وعنه رضي الله عنه أنه قال: صلاتنا وزكاتنا أُختَان.
وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا ابن ماجة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن الله عز وجل قرن الزكاة في كتابه مع الصلاة، فمن ترك الزكاة فلا صلاة له. ذكره الآجري في كتابه (الشريعة).
وقد جاء في هذا حديث مرفوع رواه أبو نعيم في الحلية، من طريق محمد بن أسلم الطواسي، حدثنا إبراهيم بن سليمان، حدثنا عبد الحكم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يقبل الله صلاة رجل لا يؤدي الزكاة حتى يجمعهما؛ فإن الله تعالى قد جمعهما، فلا تفرقوا بينهما» .
قلت: وقد تتبعت الآيات التي قُرنت فيها الصلاة والزكاة فوجدت ذلك في سبعة وعشرين موضعًا، وذكرت الزكاة وحدها في مواضع كثيرة، وهذا مما يدل على شرفها وعظم شأنها عند الله تعالى، ولهذا كانت أعظم أركان الإسلام ومبانيه بعد الشهادتين والصلاة.
ومن فضائلها: أن الله تعالى جعلها طُهرة وزكاة لأهل الأموال كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].
قال البغوي رحمه الله تعالى: تطهرهم بها من ذنوبهم، وتزكيهم بها أي ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين، وقيل: تنمي أموالهم. انتهى.
قلت: ولا منافاة بين القولين، وكلا المعنيين موجود في الزكاة، فإن فيها تطهير للمزكين وتنمية لأموالهم، والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد، والحاكم، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضره، فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تخرج الزكاة من مالك، فإنها طُهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين» الحديث. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
ومن فضائلها أيضًا: أن الله تعالى جعل أداءها آية من آيات الإيمان والإحسان، وسببا من أسباب الهداية والفلاح، والرحمة والمغفرة والرضوان، والفوز بالجنة والنجاة من النار، قال الله تعالى:{الم * تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 1 - 5]، وقال تعالى: {طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 1 - 3]، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، وقد تقدم قريبًا قول ابن إسحاق البغوي: إن عسى من الله حق، وقول البغوي وابن كثير: إن عسى من الله واجبة.
قال البغوي: أي فأولئك هم المهتدون، والمهتدون هم المتمسكون بطاعة الله عز وجل التي تؤدي إلى الجنة. انتهى.
وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11]، وقال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 3]، وقال تعالى:{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277]، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا
تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 36 - 38]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 12]، وقال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]، وقال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، وقال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 71 - 72]، وقال تعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56]، وقال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، فعلق إخوتهم للمؤمنين بإيتاء الزكاة، فدل على أن من لم يؤدها فليس بمؤمن.
وقد روى أبو داود في سننه، والطبراني في معجمه الصغير، عن عبد الله بن
معاوية الغاضري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان؛ من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام؛ ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله عز وجل لم يسألكم خيرها، ولم يأمركم بشرها وزكى نفسه» فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: «أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان» هذا لفظ الطبراني.
وروى أبو جعفر ابن جرير وأبو بكر الآجري، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة؛ من حافظ على الصلوات الخمس؛ على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها، وكأنه يقول: وأيم والله لا يفعل ذلك إلا مؤمن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وأدى الأمانة» قال أبو الدرداء: وما أداء الأمانة؟ قال: «الغسل من الجنابة، فإن الله عز وجل لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها» .
ورواه الطبراني في الصغير، وأبو نعيم في الحلية بنحوه.
وهذا الحديث في سنن أبي داود، من رواية أبي سعيد ابن الأعرابي عنه، وفيه اختصار يسير عما هنا.
وفي المسند، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة نور، والصدقة برهان
…
» الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه النسائي وابن ماجة بلفظ: «الصلاة نور والزكاة برهان» .
قال الراغب الأصفهاني: البرهان: أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبدًا لا محالة.
وقال أبو السعادات ابن الأثير: البرهان: الحجة والدليل، أي أنها حجة لطالب الأجر من أجل أنها فرض يجازي الله به وعليه، وقيل: هي دليل على صحة إيمان صاحبها لطيب نفسه بإخراجها، وذلك لعلاقة ما بين النفس والمال. انتهى.
وعلى القول الأخير اقتصر النووي في شرح الأربعين، قال: وسميت صدقة لأنها دليل على صدق إيمانه؛ وذلك أن المنافق قد يصلي ولا تسهل عليه الصدقة غالبًا، ونقل نحو هذا في شرح مسلم، ثم قال: فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه، والله أعلم. انتهى.
وروى ابن ماجة، والبزار، والحاكم في مستدركه، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راضٍ» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي أيوب رضي الله عنه أن أعرابيًا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها، ثم قال: يا رسول الله، أو يا محمد، أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار، قال: فكفّ النبي صلى الله عليه وسلم ثم نظر في أصحابه ثم قال: «لقد وفق، أو لقد هدي» قال: كيف؟ قال: فأعاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم
الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم، دع الناقة» هذا لفظ مسلم.
وفيهما أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال:«تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا، ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» .
وروى الإمام أحمد، وأهل السنن إلا أبا داود، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا نبي الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال:«لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه؛ تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الطبراني وغيره، من حديث المغيرة بن عبد الله اليشكري، أن أباه حدثه قال: انطلقت إلى الكوفة فدخلت المسجد، فإذا رجل من قيس يقال له ابن المنتفق وهو يقول: وُصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبته، فلقيته بعرفات، فزاحمت عليه حتى خلصت إليه، فأخذت بخطام راحلته، فما غير عليّ، قال: شيئين أسألك عنهما؛ ما ينجيني من النار، وما يدخلني الجنة؟ قال: فنظر إلى السماء ثم أقبل عليَّ بوجهه الكريم فقال: «لإن كنت أوجزت
المسألة، لقد أعظمت وطولت فاعقل عليَّ، اعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأد الزكاة المفروضة، وصم رمضان».
وفي الصحيحين، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خمس صلوات في اليوم والليلة» فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام رمضان» قال: هل عليَّ غيره؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفلح إن صدق» ، وفي رواية:«أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق» .
وروى الإمام أحمد، والبخاري تعليقًا، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال:«صدق» قال: فمن خلق السماء؟ قال: «الله» قال: فمن خلق الأرض؟ قال: «الله» قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: «الله» قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: «نعم»
قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال: «صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، قال:«صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال:«صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال:«صدق» قال: ثم ولى، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لئن صدق ليدخلن الجنة» .
وقد رواه الإمام أحمد، والبخاري، وأهل السنن إلا الترمذي، من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس رضي الله عنه بنحوه، ورواية أبي داود مختصرة.
وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه أيضا.
وكذا لأحمد، والحاكم، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفي آخره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة» .
ورواه أبو داود مختصرًا، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى البخاري في تاريخه، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، والدارقطني في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: «اتقوا الله ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» قال الترمذي: هذا حديث حسن
صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولا نعرف له علة ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه.
وروى أبو نعيم في الحلية من حديث يزيد بن مرثد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ما عصمة هذا الأمر، وعراه، ووثائقه؟» قال: فعقد بيمينه فقال: «أخلصوا عبادة ربكم، وأقيموا خمسكم، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيتكم، تدخلوا جنة ربكم» .
وروى الطبراني في الأوسط والصغير، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله من أمته: «اكفلوا لي ست خصال أكفل لكم الجنة؛ الصلاة والزكاة والأمانة والفرج والبطن واللسان» قال المنذري: إسناده لا بأس به، وقال الهيثمي: فيه حماد الطائي لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
وفي سنن النسائي، عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له أبواب الجنة، فقيل له: ادخل بسلام» .
ورواه البخاري في تاريخه، وابن جرير في تفسيره، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي المسند، وسنن النسائي، عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم: «من عَبَدَ الله لا يشرك به شيئًا، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، واجتنب الكبائر فله الجنة، أو دخل الجنة» .
ورواه الحاكم في المستدرك بنحوه، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولا أعراف له علة، ولم يخرجاه.
وفي سنن النسائي أيضا، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، ومات لا يشرك بالله شيئًا، كان حقًا على الله أن يغفر له، هاجر أو مات في مولده» الحديث.
وروى ابن أبي حاتم، والحاكم في مستدركه، عن عبيد بن عمير، عن أبيه رضي الله عنه أنه حدثه -وكانت له صحبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع:«ألا إن أولياء الله المصلون، من يقيم الصلوات الخمس التي كتب الله عليه، ويصوم رمضان، ويحتسب صومه يرى أنه عليه حق، ويعطي زكاة ماله يحتسبها، ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها» ثم إن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ فقال:«تسع؛ الشرك بالله، وقتل نفس المؤمن بغير حق، وفرار يوم الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا» ثم قال: «لا يموت رجل لم يعمل هذه الكبائر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبوابها مصاريع من ذهب» .
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وقد روى أبو داود، والنسائي في سننيهما طرفًا منه في ذكر الكبائر فقط.
وكل ما جاء في القرآن والسنة من مدح الإنفاق والصدقة، ووعد المنفقين والمتصدقين بجزيل الأجر والثواب، فعمومه يشمل الواجب والمندوب، والله أعلم.
ومن فضائل الزكاة أيضا أنها تطهر المال، وتطيبه وتذهب شره، كما في صحيح البخاري، وسنن ابن ماجة، عن خالد بن أسلم قال: خرجت مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فلحقه أعرابي، فقال له قول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قال ابن عمر رضي الله عنهما: مَن كنزها، فلم يؤد زكاتها، فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهورًا للأموال.
زاد في رواية ابن ماجة: ثم التفت فقال: ما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبًا، أعلم عدده وأزكيه وأعمل فيه بطاعة الله عز وجل.
وفي سنن أبي داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر رضي الله عنه: أنا أفرج عنكم، فانطلق، فقال: يا نبي الله، إنه كبر على أصحابك هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم» .
قال: فكبر عمر رضي الله عنه. الحديث.
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وروى ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
ومن فضائل الزكاة أيضا: أن في أدائها براءة من الشح الذي هو أشد البخل، وقد قال الله تعالى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي، والطبراني وغيرهما، عن خالد بن زيد بن حارثة الأنصاري رضي الله عنه مرفوعًا:«برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة» .
وروى الطبراني أيضا في معجمه الصغير، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاث من كن فيه فقد برئ من الشح؛ من أدى زكاة ماله طيبة بها نفسه، وقرى الضيف، وأعطى في النوائب» .
ومن فضائلها أيضا: أنها حصن للمال، وحرز له من التلف والآفات، وهذا أمر معروف عند الناس؛ حتى إن العامة يقولون في المال إذا وقع في مظان الهلكة وسلم منها: هذا مال مزكى، ويقولون مثل هذه الكلمة أيضا في الشيء يضيع أو يسرق ثم يجده صاحبه.
وقد روى الطبراني، وأبو نعيم في الحلية بإسناد ضعيف، عن ابن مسعود
- رضي الله عنه مرفوعًا: «حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدوا للبلاء الدعاء» .
وروى أبو داود في مراسيله، عن الحسن مرسلاً نحوه.
وروى الطبراني أيضا بإسناد فيه ضعف عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة» .
وله أيضا من حديث عبادة نحوه وزاد: «فحرزوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وادفعوا طوارق البلايا بالدعاء، فإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، ما نزل يكشفه وما لم ينزل يحبسه» .
ومن فضائل الزكاة أيضًا: أنها سبب لنماء المال وكثرته، قال الله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]: إن المعنى تنمي أموالهم.
قال النووي في شرح مسلم: الزكاة في اللغة النماء والتطهير، فالمال ينمي بها من حيث لا يُرى، وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمي أجرها عند الله تعالى، وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها، وقيل: لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه. انتهى.
وقال الراغب الأصفهاني: سُمِّيت بذلك لما يكون فيها من رجاء البركة، أو لتزكية النفس أي تنميتها بالخيرات والبركات، أو لهما جميعًا، فإن الخيرين موجودان فيها. انتهى.
وأيضا فإن إيتاء الزكاة على الوجه المأمور به من أعظم الشكر على نعمة المال، وقد وعد الله الشاكرين بالمزيد، وأقسم على ذلك فقال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
ومن فضائل الزكاة أيضا: أنها من الخصال التي اهتم بها النبي صلى الله عليه وسلم عند موته، وأوصى بها أمته -إن صح الحديث بذلك- فروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، والبخاري في (الأدب المفرد) عن علي رضي الله عنه قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضل أمته من بعده، قال: فخشيت أن تفوتني نفسه، قال: قلت: إني أحفظ وأعي، قال:«أُوصِي بالصلاة، والزكاة، وما ملكت أيمانكم» .
فهذا ما يسره الله تعالى من بيان فضائل الزكاة، وحيث كانت بهذه المثابة فينبغي لكل مسلم أن يبادر إلى إخراجها إذا جاء وقتها ولا يؤخرها، ويخرجها من أوسط ما عنده من الأموال كاملة موفرة طيبة بها نفسه، ولا يتبعها منا ولا أذى، ولا يريد بها رياء ولا سمعة، ولا يبتغي بها محمدة الناس وثنائهم عليه، بل يخرجها إيمانًا واحتسابًا يريد بها وجه الله تعالى ويرجو برها وذخرها في الدار الآخرة، ومن أخرجها على هذا الوجه فعسى أن يحوز فوائدها الدنيوية والأخروية، ولو لم يكن للأغنياء فيها من الفوائد إلا أن أموالهم تحفظ بسببها وتنمو وتكثر، لكان ينبغي لهم أن يبادروا إلى إخراجها لأجل هذه الفائدة، والله الموفق.
فصل
وقد ورد الوعيد الشديد لمانع الزكاة والتصريح بلعنه، قال الله تعالى:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7]، وقد تقدم الكلام على معنى الويل مستوفى عند ذكر الوعيد للمتهاونين بالصلاة فليراجع.
وقال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35].
وفي المسند، وصحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوي بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» قيل: يا رسول الله، فالإبل؟ قال: «ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلاً واحدًا، تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم
كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله إما إلى لجنة وإما إلى النار» قيل: يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال: «ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئا، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقدار خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار
…
» وذكر تمام الحديث.
ورواه أبو داود في سننه بنحو مما ذكر ههنا.
ورواه البخاري، والنسائي مختصرًا، وزاد النسائي قال:«ويكون كنز أحدهم يوم القيامة شجاعًا أقرع، يفر منه صاحبه ويطلبه: أنا كنزك، فلا يزال حتى يلقمه أصبعه» .
ورواه ابن ماجة من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«تأتي الإبل التي لم يعط الحق منها تطأ صاحبها بأخفافها، وتأتي البقر والغنم تطأ صاحبها بأظلافها وتنطحه بقرونها، ويأتي الكنز شجاعًا أقرع فيلقى صاحبه يوم القيامة فيفر منه صاحبه مرتين ثم يستقبله، فيقر فيقول: ما لي ولك؟ فيقول: أنا كنزك أنا كنزك، فيتقيه بيده فيلقمها» .
قوله: «شجاعًا» : هو بضم الشين؛ الحية الذكر، و «الأقرع» الذي قد تمعط جلد رأسه؛ لكثرة سمه وطول عمره. قاله أبو عبيد الهروي وغيره من أئمة اللغة.
وقال القرطبي: الأقرع من الحيات الذي ابيض رأسه من السم، ومن الناس الذي لا شعر برأسه.
قال النووي: وقيل: الشجاع الذي يواثب الراجل والفارس ويقوم على ذَنَبِه، وربما بلغ رأس الفارس، ويكون في الصحاري.
وفي صحيح مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تستن عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جمَّاء ولا منكسر قرنها، ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فرّ منه، فيناديه: خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني، فإذا رأى أن لابد منه سلك يده في فيه، فيقضمها قضم الفحل» .
وقال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول: قال رجل: يا رسول الله، ما حق الإبل؟ قال:«حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها ومنيحتها، وحمل عليها في سبيل الله» .
ثم رواه مسلم، والنسائي من وجه آخر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي
حقها إلا أُقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جمّاء ولا مكسورة القرن» قلنا: يا رسول الله، وما حقها؟ قال:«إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله، ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعًا أقرع، يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه، ويقال: هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنه لابد منه أدخل يده في فيه، فجعل يقضمها كما يقضم الفحل» .
وفي الصحيحين، والمسند، والسنن إلا أبا داود، عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتى يُقضى بين الناس» .
وروى الحافظ أبو يعلى، وابن جرير، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك بعده كنزًا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يتبعه، فيقول: من أنت ويلك؟! فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يتبع سائر جسده» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في تلخيصه: على شرطهما؛ يعني الشيخين.
وفي مستدرك الحاكم أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يكون كنز أحدهم يوم القيامة شجاعًا أقرع ذا زبيبتين يتبع صاحبه وهو يتعوذ منه، فلا يزال يتبعه وهو يفر منه حتى يلقمه إصبعيه» قال
الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
قوله: «له زبيبتان» ؛ قال الجوهري وغيره: هما الزَّبَدتان في الشدقين.
وقيل: هما النكتتان السوداوان فوق عيني الحية.
وقال غيره: هما نقطتان تكتنفان فاها.
وقيل: هما في حلقها بمنزلة زنمتي العنز.
وقيل: لحمتان على رأسها مثل القرنين.
وقيل: نابان يخرجان من فيها.
وفي صحيح البخاري، وسنن النسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله ما لا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعًا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه -يعني بشدقيه- يقول: أنا مالك، أنا كنزك» ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى آخر الآية. وقد رواه مالك في موطئه، والشافعي في مسنده، من طريق مالك مختصرًا موقوفًا.
ورواه الإمام أحمد في مسنده، ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من كان له مال فلم يؤد حقه جعل يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يتبعه حتى يضع يده في فيه، فلا يزال يقضمها حتى يقضى بين العباد» .
وفي المسند، وسنن النسائي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله عز وجل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان، ثم يلزمه يطوقه يقول: أنا كنزك، أنا كنزك» .
وروى الشافعي، وأحمد، وأهل السنن إلا أبا داود، عن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، حتى يطوق عنقه» ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية. هذا لفظ ابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضًا ابن خزيمة والحاكم.
وفي الصحيحين، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال:«بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل» قال: فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا. وذكر تمام الحديث، وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية له، عن الأحنف بن قيس قال: كنت في نفر من قريش فمر أبو ذر وهو يقول: «بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم» قال: ثم تنحى فقعد، قال: قلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر، قال: فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تقول قبيل؟ قال: ما قلت إلا شيئا قد سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه.
وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: والله الذي لا إله غيره لا يكوى عبد بكنز، فيمس دينار دينارًا، ولا درهم درهمًا، ولكن يوسع جلده
فيوضع كل دينار ودرهم على حدته.
إذا عرف هذا، فللكنز معنيان؛ لغوي، وشرعي.
فأما معناه في اللغة، فقال الإمام أبو جعفر ابن جرير رحمه الله تعالى: الكنز كل شيء مجموع بعضه على بعض، سواء كان في بطن الأرض أم على ظهرها.
قال النووي رحمه الله تعالى: وزاد صاحب العين وغيره: وكان مخزونًا.
قلت: وكذا قال الراغب الأصفهاني: الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه، وأصله من كنزت التمر في الوعاء. انتهى.
واقتصر الجوهري وغيره من أئمة اللغة على تعريف الكنز بأنه المال المدفون.
والصحيح ما قاله غيرهم؛ لأن الله تعالى أطلق اسم الكنز على المدفون وعلى غير المدفون؛ قال تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} [الكهف: 82] فهذا في المدفون، وقال تعالى:{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [هود: 12]، وفي الآية الأخرى:{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} [الفرقان: 8] فهذا في غير المدفون، وقال تعالى فيما جمع بعضه على بعض:{وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76].
وأما معناه في الشرع، فقال الإمام مالك في موطئه: عن عبد الله بن دينار قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو يسأل عن الكنز، ما هو؟
فقال: هو المال الذي لا تؤدي منه الزكاة.
ورواه الإمام الشافعي في مسنده من طريق مالك.
وروى الشافعي أيضا، عن ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: كل مال تؤدي زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا، وكل مال لا تؤدي زكاته فهو كنز وإن لم يكن مدفونًا.
وقال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب ما أدى زكاته فليس بكنز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس فيما دون خمس أواق صدقة» ثم ذكر ما رواه الزهري رضي الله عنه عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال أعرابي: أخبرني عن قوله الله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، قال ابن عمر رضي الله عنهما: من كنزها فلم يؤد زكاتها، فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرًا للأموال.
ورواه ابن ماجة في سننه وزاد: ثم التفت فقال: ما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبًا أعلم عدده وأزكيه وأعمل فيه بطاعة الله عز وجل.
وروى البيهقي، من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا وموقوفًا:«كل ما أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز، وكل ما لا تؤدي زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا على وجه الأرض» .
قال البيهقي رحمه الله تعالى عن المرفوع: ليس بمحفوظ، والمشهور وقفه.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: وقد روي هذا عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة رضي الله عنهم موقوفًا، ومرفوعًا.
قلت: أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فروى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: ما أدى زكاته فليس بكنز.
وأما حديث جابر وأبي هريرة رضي الله عنهما فسيأتي ذكرهما قريبا إن شاء الله تعالى.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا في الأرض، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض.
ويشهد لهذه الآثار ما تقدم قريبا في حديث جابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن مسعود رضي الله عنهم أن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع يطوقه، ويقول: أنا مالك، أنا كنزك.
وفي سنن أبي داود، والدارقطني، ومستدرك الحاكم، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب فقلت: يا رسول الله، أكنز هو؟ فقال:«ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز» قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
قال أبو السعادات ابن الأثير: الكنز في الأصل المال المدفون تحت الأرض، فإذا أخرج منه الواجب عليه لم يبق كنزًا وإن كان مكنوزًا، وهو حكم شرعي تجوز فيه عن الأصل.
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: والاسم الشرعي قاض على الاسم اللغوي، ولا أعلم مخالفًا في أن الكنز ما لم تؤد زكاته إلا شيئاً روي عن علي، وأبي ذر، والضحاك، وذهب إليه قومٌ من أهل الزهد، قالوا: إن في
المال حقوقًا سوى الزكاة.
ثم استدل ابن عبد البر وغيره لقول الجمهور بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك» رواه الترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه الحاكم، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
قال الترمذي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه ذكر الزكاة فقال رجل: هل علي غيرها؟ فقال: «لا، إلا أن تطوع» .
قلت: والأحاديث التي تقدمت قريبًا عن جابر، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن مسعود رضي الله عنهم تدل بظاهرها لقول الجمهور، وحديث أم سلمة رضي الله عنها الذي تقدم قريبًا نص صريح الدلالة لقولهم، ونحوه ما تقدم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] كبُر ذلك على المسلمين، فقال عمر رضي الله عنه: أنا أفرج عنكم، فانطلق، فقال: يا نبي الله، إنه كبر على أصحابك هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم
…
» الحديث. رواه أبو داود، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم، والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي مستدرك الحاكم أيضًا، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
ومن الوعيد أيضا على منع الزكاة: ما رواه الترمذي في جامعة، عن ابن
عباس رضي الله عنهما قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه، أو يجب عليه فيه زكاة فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل: يا ابن عباس اتق الله، فإنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: سأتلو عليك بذلك قرآنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} إلى قوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 - 11] قال: فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتي درهم فصاعدًا، قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والبعير.
ورواه الترمذي أيضا مرفوعًا، وذكر أن الموقوف أصح.
ومن الوعيد الشديد أيضا على منع الزكاة: ما رواه الطبراني في الصغير، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مانع الزكاة يوم القيامة في النار» .
وروى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«عرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، وعفيف متعفف ذو عيال، وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله في ماله، وفقير فخور» .
وفي المسند وسنن النسائي، من حديث الحارث، عن علي رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن مانع الصدقة» .
ورواه الترمذي في جامعة معلقًا موقوفًا فقال: وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لعن مانع الصدقة» .
وروى الإمام أحمد، والنسائي، وأبو يعلى، والطبراني، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:«آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهداه إذا علموا ذلك، والواشمة، والموشومة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيًا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
قوله: «ولاوي الصدقة» يعني المماطل بها والممتنع من أدائها.
وكما أن منع الزكاة من موجبات اللعن والعذاب الأليم في الآخرة، فكذلك هو من أعظم الأسباب لتلف المال وحبس القطر من السماء، كما في الحديث الذي رواه الطبراني، عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا:«ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة» .
وروى الشافعي في مسنده، والبخاري في التاريخ الكبير، وابن عدي، والبيهقي في سننه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما خالطت صدقة مالا قط إلا أهلكته» .
ورواه الحميدي وزاد: قال: «يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيُهلك الحرامُ الحلالَ» .
وفي سنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، والحلية لأبي نعيم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن؛ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وقد روى الطبراني في الكبير طرفًا منه، وهو قوله:«ولم يمنع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا» .
وروى الطبراني أيضا، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«خمس بخمس» قالوا: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال:«ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال والميزان إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» قال المنذري: سنده قريب من الحسن وله شواهد.
وفي مستدرك الحاكم، من حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقض قوم العهد قط إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلط الله عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
فصل
وأما تفريق الزكاة، فالأغنياء فيه على طرائف شتى:
منهم من يدفع زكاته أو بعضها إلى أقاربه الذين لا حظ لهم في الزكاة؛ إما لغناهم أو لكونهم أقوياء على التكسب، وهذا الدفع لا تبرأ به ذمة الغني من الزكاة.
ومثل هذا من يقي ماله بالزكاة، فيستخدم بها، ويكافئ من له عليه معروف، ويصل أصدقاءه الذين ليسوا من أهل الزكاة ونحو ذلك.
وبعض الأغنياء يحابي بها أقاربه المحتاجين، ويترك من هو أشد حاجة منهم من الفقراء والمساكين، وهذا فيه نوع اعتداء في تفريق الزكاة، وهو أخف مما قبله.
وبعد الولاة يعطي الفقراء قسمًا يسيرًا من الزكاة ويفرق أكثرها على مقتضى نظره في غير الأصناف الثمانية.
وبعض المؤتمنين على تفريق الزكاة يعطون من ليس من أهلها، ولا سيما من يخافون من لسانه، وهذا وما أشبهه من الاعتداء في الزكاة، والتهاون بشأنها، وتبديل الحكم الشرعي فيها.
وقد روى الإمام أحمد، وأهل السنن إلا النسائي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«المعتدي في الصدقة كمانعها» قال الترمذي: حديث غريب، قال: وفي الباب عن ابن عمر، وأم سلمة، وأبي هريرة رضي الله عنهم.
قلت: وفيه أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي
- صلى الله عليه وسلم: «المعتدي في الصدقة كمانعها» رواه البخاري في تاريخه.
قال الترمذي: وقوله: «المعتدي في الصدقة كمانعها» يقول: على المعتدي من الإثم كما على المانع إذا منع. انتهى.
وروى الإمام أحمد أيضًا، والحاكم في مستدركه، عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إذا أديت الزكاة إلى رسولك، فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نعم، إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها، فلك أجرها وإثمها على من بدلها» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
إذا علم هذا، فأقل الأغنياء في زماننا من يفرق زكاة ماله على الوجه المشروع، ويتوخى بها الأحوج فالأحوج من الفقراء والمساكين، ولو أن الأغنياء في هذه الأزمان أخرجوا زكاة أموالهم كاملة، وفرقوها على الوجه المشروع، لأوشك أن يستغني كل فقير؛ لأن الأموال قد كثرت جدًا، وفاضت فيضانًا لا حد له.
فصل
وأما التهاون بالأخذ من الزكاة فكثير من أهل الجشع والهلع ممن لا تحل لهم الزكاة، يزاحمون الفقراء في الأخذ من أوساخ الناس، ولا يرون بذلك بأسًا، وهذا في الحقيقة دناءة وعدم مروءة، وبعضهم إذا لم يعط من الزكاة شيئًا أو أعطي منها قليلاً غضب من ذلك، وجدَّ واجتهد في الطلب والاستكثار مما لا يحل له، فإن عجز ولم يحصل له مراده، فغايته الحقد على الذين يفرقون الزكاة، وإكثار التشكي والتظلم منهم، والوقيعة في أعراضهم بغير حق، فيجمع بين ثلاثة أنوع من الظلم:
أحدها: طلب ما لا يحل له.
الثاني: مزاحمة الفقراء في حقوقهم.
الثالث: إيذاء الناس بالسب والغيبة.
وقد روى البخاري في التاريخ الكبير، عن عطاء بن زهير، عن أبيه قال: لقيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقلت: أخبرني عن الصدقة، قال: شر مال، مال العميان والعرجان والكسحان واليتامى وكل منقطع به، قلت: إن للعاملين عليها فيها حقًا؟ قال: بقدر عمالتهم، قلت: والمجاهدين؟ قال: قوم قد أحل لهم، إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي.
وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا
تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» قال الحاكم: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وروى الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم في مستدركه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، إلا أنه قال في رواية الدارقطني:«لذي مرة قوي» .
وفي رواية لأحمد، وأبي داود، والحاكم مثله، وقال الترمذي: حديث حسن.
وروى الدارقطني أيضًا، عن جابر رضي الله عنه قال: جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة، فركبه الناس، فقال:«إنها لا تصلح لغني، ولا لصحيح سوي، ولا لعامل قوي» .
قال الجوهري، والهروي، وغيرهما من أهل اللغة:«المرة» القوة والشدة.
قال الجوهري: ورجل مرير أي قوي.
وقال الراغب الأصفهاني: أمررت الحبل إذا فتلته، ومنه فلان ذو مرة كأنه محكم الفتل.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي: «المرة» القوة، وأصلها من شدة فتل الحبل، يقال: أمررت الحبل إذا أحكمت فتله، فمعنى المرة في الحديث شدة الخلق وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكل والتعب.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا تحل الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب. انتهى.
وأما السوي: فهو الصحيح الأعضاء، فمتى كان المرء صحيح الأعضاء قويا على التكسب فلا حظ له في الصدقة، إلا أن يكون من الخمسة الذين
يأتي ذكرهم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
وروى الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلّب فيهما البصر، فرآهما جلدين فقال:«إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب» .
وروى أبو داود، والدارقطني، عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقة حتى حكم فيها هو، فجزّأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك» .
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والدارقطني، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة؛ لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها، فأهدى منها لغني» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
إذا عرف هذا، فهؤلاء الذين لا مروءة لهم، ولا يأنفون من التزيي بزي الفقراء، ومزاحمتهم في أوساخ الناس، إذا أخذ أحدهم شيئا من الزكاة كان سببا لهلاك ماله كما تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما خالطت صدقة مالا قط إلا أهلكته» وفسر ذلك
الإمام أحمد رحمه الله تعالى بأن يأخذ الرجل الزكاة وهو غني عنها، فيضعها مع ماله فتهلكه.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال:«يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارَك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى» .
ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، وألحفت عليه فقال:«ما أنكر مسألتك يا حكيم، إنما هذا المال خضرة حلوة، وإنما هو أوساخ أيد الناس، ويد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد السائل، ويد السائل أسفل الأيدي» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل -أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة» .
وفي رواية لمسلم: «فمن يأخذ مالا بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع» .
وروى مالك، والشيخان أيضا، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله،
وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر».
ولأحمد، والنسائي، والدارقطني عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» .
ورواه أبو داود مختصرا.
وفي المسند، والسنن، وسنن الدارقطني، ومستدرك الحاكم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خموش أو خدوش أو كدوح في وجهه» فقيل: يا رسول الله، وما الغنى؟ قال:«خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب» هذا لفظ أبي داود، والحاكم، وقال الترمذي: حديث حسن.
وفي المسند، وسنن أبي داود، عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم» قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال:«ما يغديه أو يعشيه» هذا لفظ أحمد، وفي بعض ألفاظ أبي داود:«أن يكون له شبع يوم وليلة» .
وفي المسند أيضًا، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة، فمن شاء فليستبق على وجهه» .
وفي المسند أيضا، وصحيح مسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تبارك وتعالى وليس في وجهه مزعة لحم» .
وفي رواية لمسلم: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم» .
وفي المسند أيضًا، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والنسائي، والدارقطني، عن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن المسألة لا تحل لأحد إلا لأحد ثلاثة؛ رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادًا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا» .
والأحاديث في ذم السؤال كثيرة جدًا، وفيما ذكرت ههنا كفاية إن شاء الله تعالى، وعموماتها تشمل من سأل من الزكاة المفروضة، ومن سأل من صدقات التطوع، ومن سأل سوى ذلك من أموال الناس إلا أن يكون من الثلاثة الذين تحل لهم المسألة، وكذلك الفقير والضعيف الذي لا يقدر على التكسب إذا سألا من الصدقة، لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:«لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب» .
ومما ينبغي التنبيه عليه ههنا أن كثيرًا من الناس إذا تحمل حمالة لم يقتصر في السؤال على قدر ما تحمله ثم يمسك، بل لا يزال يسأل الناس ليحصل له فضل عما تحمله، فربما حصل لبعضهم ضعف ما تحمله أو أضعافه، وهذا الفضل سحت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فما سواهن من المسألة
سحت يأكلها صاحبها سحتًا»، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والمقصود مما ذكرنا في الزكاة خمسة أمور:
أحدها: إرشاد الأغنياء إلى فضائل الزكاة، وإعلامهم بما هو مرتب على أدائها من نماء المال ونزول البركة فيه، وما وعد الله على ذلك من جزيل المثوبة في الآخرة.
الثاني: تحذيرهم مما هو مرتب على منعها من العقوبات العاجلة والآجلة.
الثالث: تحذيرهم أيضًا وتحذير غيرهم من المؤتمنين على تفريق الزكاة من الاعتداء في تفريقها، فيصير عليهم من الإثم مثل ما على مانعها.
الرابع: حثهم على العدل في تفريقها، وإعلامهم بما في ذلك من الفضل وما يرجى عليه من جزيل الأجر، كما في جامع الترمذي، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته» قال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملاً موفرًا طيبة به
نفسه، حتى يدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين».
الخامس: تحذير من ليس من أهل الزكاة من الأخذ منها فإن ذلك لا يحل، فإن ضم إلى ذلك السؤال منها كما يفعله كثير من الناس فذلك أسوأ، وأسوأ منه وأقبح أن يلح في السؤال، ويكثر التشكي، ويظهر الفاقة، ويجحد ما أنعم الله به عليه من الغنى أو القوة على التكسب، كما يفعله كثيرون أيضا، وفاعل هذا متعرض للمقت والعقوبة قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 36 - 37]، وقال تعالى:{أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]، وقال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصل
ومن أسباب اغتراب الإسلام أيضًا الاستخفاف بصيام شهر رمضان في كثير من الأقطار التي ينتسب أهلها إلى الإسلام.
ففي بعض البلدان تقام أسواق الأكل والشرب في نهار رمضان علانية، وينتابها الفئام من المنتسبين إلى الإسلام فيأكلون ويشربون جهارًا، وليس ثَمَّ من ينكر ذلك عليهم، وليس معهم من الإيمان ما يكفهم عن انتهاك حرمات الله وتعدي حدوده، وليس ثَمَّ وازع سلطاني يأخذ على أيديهم، ويأطرهم على الحق أطرًا، ويؤدبهم على المعاصي، وإنما هم متروكون هملاً كالأنعام السائمة، يأكلون ويشربون ما شاءوا من المحرمات، ويرتكبون ما شاءوا من الفواحش والقاذورات، وسواء عندهم في ذلك شهر رمضان وغيره من الشهور، وهذا من نتائج قبولهم للحرية الإفرنجية، وابتعادهم عن الشريعة المحمدية، فالله المستعان.
وبعض البلدان التي قد غلبت فيها الحرية الإفرنجية يستتر أهلها بهذه الأفعال في نهار شهر رمضان بعض الاستتار، لكن مواضع الأكل والشرب والفواحش معروفة عند الكبير منهم والصغير، فمن أراد شيئًا من ذلك ذهب إلى موضعه فأصاب حاجته، ولا صاد له عن ذلك ولا راد.
وبعد المباشرين للأعمال التي ربما حصل منها بعض التعب والمشقة يفطرون في رمضان من غير ضرورة تبيح لهم الفطر.
وبعض الناس يترك الصيام طاعة لبعض الأطباء الكفرة من يهودي أو
نصراني أو غيرهما؛ فإذا قال له عدو الله: إن الصيام يؤدي إلى نقص صحتك، فلا تصم عشرة أعوام أو أقل أو أكثر، بادر إلى قبول قوله، وقابل أمره بالتسليم والتقديم على أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلم المسكين أن عدو الله لا يألوه خبالاً وإركاسًا في الفتن، وإفسادًا لدينه مهما أمكنه، ولو طمع عدو الله أن المسكين يجيبه إلى الكفر بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لأمره بذلك، قال الله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89].
فاحذروا أيها المسلمون غوائل أعداء الله ومكائدهم، واجتنبوا حبائلهم ومصائدهم، ولا يغرنكم منهم الابتسام ولين الكلام وإظهار الشفقة والنصيحة، فإن ذلك منهم في الغالب مكر وخديعة، واعتبروا بما فعله شيخهم ومقدمهم إبليس لعنه الله من المكر والخديعة لأبوي البشر آدم وزوجه، فإن في ذلك أعظم عبرة وعظة، والسعيد من وعظ بغيره، قال الله تعالى:{وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 19 - 22]، ثم حذر تبارك وتعالى بني آدم من فتنة الشيطان وقبيله، وذكَّرهم بصنيع الخبيث مع أبويهم؛ ليعتبروا بذلك، ويأخذوا حذرهم من عدو الله وذريته وأوليائه من الكفار والمنافقين، فقال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
فينبغي للمسلم أن يحذر غاية الحذر من مكائد الشيطان وحزبه، ويجعل قصة شيخهم وإمامهم على باله كل وقت، ولا يسترسل مع أعداء الله، ولا يطمئن إلى قولهم، ولا يثق بنصحهم، ولا سيما إذا تضمن الأمر بترك واجب أو فعل محرم، فإنه يكون مثل نصح إبليس للأبوين سواء بسواء، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]، والآيات في التحذير من طاعة أعداء الله كثيرة جدًا، وفيما ذكرنا ههنا كفاية لمن أراد الله هدايته {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17].
وبالجملة فكل من أفطر في رمضان متعمدًا من غير عذر شرعي يبيح له الفطر، فهو في الحقيقة مستهين بأمر ربه، ومستخف بدين الإسلام، ولو كان عنده للإسلام قدر لحافظ على القيام بأركانه مهما أمكنه، وقد روى الإمام أحمد، والبخاري تعليقًا، وأهل السنن، وابن خزيمة في صحيحه، والدارقطني، والبيهقي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفطر يومًا من رمضان في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر» .
قال البخاري رحمه الله تعالى: وبه قال ابن مسعود رضي الله عنه.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): أثر ابن مسعود رضي الله عنه وصله
البيهقي، ورويناه عاليًا في جزء هلال الحفار، من طريق منصور، عن واصل، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري قال: حدثت أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: من أفطر يومًا من رمضان من غير علة لم يجزه صيام الدهر حتى يلقي الله، فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
ووصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة من وجه آخر، عن واصل، عن المغيرة، عن فلان بن الحارث، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ووصله الطبراني والبيهقي أيضا من وجه آخر، عن عرفجة قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من أفطر يومًا في رمضان متعمدًا من غير علة، ثم قضى طول الدهر لم يقبل منه.
وبهذا الإسناد عن علي رضي الله عنه مثله.
وذكر ابن حزم من طريق ابن المبارك بإسناد له فيه انقطاع أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما أوصاه به: من صام شهر رمضان في غيره لم يقبل منه لو صام الدهر أجمع. انتهى ما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى.
وقد تقدم ذكر الأحاديث، وأقوال العلماء، في تكفير من ترك صيام رمضان عمدًا من غير عذر عقب الكلام في كفر تارك الصلاة، فليراجع.
ونذكر ههنا قصة عجيبة فيها عظة لمن أراد الله هدايته {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186].
حدثنا بعض الثقات عن رجل كان من جيراننا مدة وهو ممن يقبل خبره، قال: ركبنا بحر فارس للغياصة فيه ابتغاء الدر، فلما دخل شهر رمضان
صام من في السفينة معنا إلا واحدًا ماجنا أبى أن يصوم؛ وكنا ننهاه عن انتهاك حرمة رمضان ونخوفه من العقوبة، فيسخر منا ويستهزئ بنا، فلما كان يوم عيد الفطر صدنا سمكًا كثيرًا، وجعلنا نشوي منه ونأكل، فنشب في حلق ذلك الماجن عظم فمات، فذهبنا به إلى الساحل لندفنه هناك، فلما وضعناه في اللحد ذهبنا نطلب أحجارًا لننصبها على اللحد، فوجدنا حجرًا كبيرًا، فلما قلبناه خرج من تحته ثعبان عظيم، فأردنا قتله فأعجزنا هربا، وسعى بين أيدينا قاصدًا نحو القبر حتى دخل مع الميت في لحده، فاجتهدنا أن نقتله أو نخرجه من عنده فلم نستطع، فسوينا عليه التراب والثعبان معه، قال: وما زلت وجلاً خائفا مما رأيت من عقوبة ذلك الماجن.
قلت: وفي هذه القصة عبرة لمن اعتبر، فليحذر المخالفون لأوامر الله، والمرتكبون لنواهيه، من حلول النقمات والمثلات بهم، ولا يغتروا بحلم الله عنهم، وإمهاله لهم، فقد قال تعالى:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99]، وقال تعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44 - 45]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فصل
ومن أعظم أسباب غربة الإسلام تشييد البناء على القبور، ومضاهاة كثير منها بمواضع الحج، بحيث تكسى جدران الضريح كما تكسى الكعبة، ويجعل حوله بلاط يطاف فيه كما يطاف حول الكعبة، وينتابه الفئام من الجهلة الطغام الذين هم أضل سبيلاً من الأنعام، يأتون إليه مشاة وركبانا مما قرب منه ومما بعد عنه مسافة أيام وشهور، فيطوفون بالضريح كما يطوف المسلمون بالبيت العتيق، ويستلمون أركانه ويقبلون حيطانه مضاهاة لتقبيل المسلمين الحجر الأسود واستلامهم إياه مع الركن اليماني، ويضجون في طوافهم حول الضريح بدعاء صاحب القبر كما يضج المسلمون حول البيت العتيق بدعاء رب البيت تبارك وتعالى، ويقربون القرابين لصاحب الضريح ويحلقون الرؤوس عنده، مضاهاة لما يفعله الحاج بمنى، إلى غير ذلك مما يفعلونه حول القبور يضاهئون به أفعال الحاج إلى البيت الحرام، ويحادون به الله ورسوله، وكثير منهم يرون أن زيارتهم للوثن وحجهم إليه يماثل الحج إلى بيت الله الحرام، وبعضهم يفضل زيارة الوثن على الحج، وبعض غلاتهم يزعم أنها أفضل من سبع حجج، وبعضهم يزعم أنها أفضل من سبعين حجة، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
والآفة كل الآفة من طواغيتهم، وقادتهم الذين يضلونهم بغير علم، ويصنفون لهم الكتب في مناسك حج القبور، والترغيب في زيارتها، والحج إليها واتخاذها أوثانًا تعبد من دون الله، فيزيدون جهالهم الطغام شرًا
إلى شرهم وهلاكًا إلى هلاكهم، وقد قال الله تعالى في أشباههم وسلفهم من المشركين الأولين:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21].
وأعظم هذه الأوثان التي أشرنا إليها فتنة مشهد البدوي بمصر، ومشهد علي، ومشهد الحسين، ومشهد الشيخ عبد القادر الجيلاني بالعراق، فهذه المشاهد التي بعضها مكذوب ينتابها من الزوار والحجاج أكثر مما ينتاب بيت الله الحرام، وربما قصد الواحد منها أكثر من الحاج.
وفي كثير من الأقطار التي ينتسب أهلها إلى الإسلام أوثان كثيرة سوى ما ذكرنا، يقصدها من الزوار والحجاج فئام من أشباه الأنعام، وهم مع هذا ينتسبون إلى الإسلام {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 18 - 21]، وأي محادة لله ورسوله أعظم من الشرك بالله، وابتداع دين لم يأذن به الله، يريد بذلك أعداء الله ورسوله مضاهاة ما شرعه الله للحنفاء من حج البيت العتيق، وما في ضمن ذلك من أنواع العبادات التي أمر الله بها ورضيها لعباده، وقد قال الله تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]،
فأما المسلمون فكثير من جهالهم يتهاونون بالحج، ويتثاقلون عن أداء الفريضة مع استطاعتهم السبيل إلى البيت، وبعضهم يموت وهو لم يحج، وقد قدمنا الكلام في حكم تارك الحج متعمدًا عقب الكلام في حكم تارك الصلاة، وذكرنا هناك قول من قال بتكفيره، وما روي في ذلك من الأحاديث وأقوال الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أكابر العلماء فليراجع، وليراجع أيضا ما رواه الترمذي في جامعه، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا وموقوفًا أنه قال:«من كان له مال يبلغه حج بيت الله أو تجب فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت» الحديث، وقد تقدم قريبًا في ذكر عقوبة مانع الزكاة.
وقد جاء الأمر بالتعجل بالحج من قبل أن تعوق العوائق بين المرء وبينه؛ ففي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، ومستدرك الحاكم، وسنن البيهقي، عن أبي صفوان الجمال قال: سمعت أبن عباس رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد الحج فليتعجل» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الإمام أحمد أيضًا، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» .
ورواه الإمام أحمد أيضًا، وابن ماجة، والبيهقي في سننه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة» .
وفي رواية لأحمد مثله، إلا أنه قال:«وتضل الراحلة» .
وروى الدارقطني والبيهقي في سننيهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«حجوا قبل أن لا تحجوا» قالوا: وما شأن الحج يا رسول الله؟ قال: «تقعد أعرابها على أذناب أوديتها، فلا يصل إلى الحج أحد» .
وروى الحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه، عن الحارث بن سويد قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: «حجوا قبل أن لا تحجوا، فكأني أنظر إلى حبشي أصمع أفدع بيده معول يهدمها حجرًا حجرًا» فقلت له: شيء تقوله برأيك أو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ولكني سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم. في إسناده مقال، ولكن له شاهد في الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» .
وفي صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كأني به أسود أفحج يقلعها حجرًا حجرًا» .
وفي المسند أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها
حليتها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله».
وفي مستدرك الحاكم عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وفي صحيح الحاكم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استمتعوا من هذا البيت، فإنه قد هدم مرتين، ويرفع الثالثة» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
ومما ينبغي تنبيه الجهال عليه: ما يفعله كثير منهم، من الدفع من عرفات قبل غروب الشمس ثم لا يعودون إليها، وهذا خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حكي عن مالك أنه قال: من دفع قبل الغروب فلا حج له، والجمهور من العلماء على أن حجه صحيح، وعليه دم.
ومما ينبغي تنبيه الجهال عليه أيضا: ما يفعله كثير منهم، من النزول في بطن عرنة، والوقوف فيه إلى غروب الشمس، ظنًا منهم أنه من عرفات وليس هو من عرفات ولا من الحرم، وإنما هو برزخ بين المشعرين الحلال والحرام، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: بينه وبين الموقف نحو ميل.
قلت: لعله يريد بالموقف هنا موقف النبي صلى الله عليه وسلم عند الصخرات، وجبل
إلال الذي تسميه العامة جبل الرحمة.
فأما أول موضع الوقوف فهو من حين يخرج الإنسان من بطن عرنة ذاهبًا نحو جبل إلال، وهناك ميلان طويلان قد جعلا علمين لتمييز موضع الوقوف من بطن عرنة، فما كان شرقًا عنهما فهو من موضع الوقوف، وما كان غربًا عنهما فهو من بطن عرنة غربًا بالعلمين الفاصلين بين المزدلفة وبطن عرنة.
وفي بطن عرنة المسجد الذي يصلي فيه الإمام الظهر والعصر يوم عرفة، ويسمى مسجد إبراهيم، قال بعضهم: نسبة إلى إبراهيم خليل الرحمن، وقال بعضهم: نسبة إلى إبراهيم الإمام أخي السفاح والمنصور، وهذا القول الأخير أقرب.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وإنما بني في أول دولة بني العباس. انتهى.
ولا يجزئ الوقوف في المسجد ولا ما حوله، وما يُسامت ذلك شمالاً وجنوبًا مما هو خارج عن حدود عرفات
(1)
.
وقال النووي رحمه الله تعالى: عرنة بضم العين وفتح الراء، وبعدها نون، وليست من أرض عرفات عند الشافعي والعلماء كافة، إلا مالكًا فقال: هي من عرفات. انتهى.
(1)
مراده رحمه الله المسجد القديم، أما المسجد الحديث فجزؤه الشرقي من الموقف وقد وضعت أعلام في المسجد تدل على ذلك، فليتنبه.
وقال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في (المغني): ليس وادي عرنة من الموقف، ولا يجزئه الوقوف فيه.
قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من وقف به لا يجزئه، وحكي عن مالك أنه يهريق دمًا وحجة تام، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عرنة» رواه ابن ماجة. ولأنه لم يقف بعرفة فلم يجزئه كما لو وقف بالمزدلفة. انتهى.
ومما ينبغي التنبيه عليه أيضًا: ما عظمت به البلوى في زماننا من اغتصاب أكثر منى بالبناء والتحجر، وإبعاد كثير من الحجاج عنها، واضطرارهم إلى النزول في وادي محسر وما وراءه من ناحية مزدلفة، بحيث يفوت عليهم ما يجب عليهم من المبيت بمنى ليالي منى
(1)
، وسيأتي الكلام على حكم البناء في منى في فصل التحذير من الظلم إن شاء الله تعالى
(2)
.
ومما ينبغي التنبيه عليه أيضاً: أن كثيراً من جهال المسلمين وغيرهم من المنتسبين إلى الإسلام يرون أن من تمام الحج
زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
- قبل الحج أو بعده، ويتعلقون في ذلك بأحاديث واهية لا تقوم بشيء منها حجة، ويعدلون عن النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن اتخاذ قبره عيدًا يعتاد المجيء إليه والاجتماع عنده وتشد إليه الرحال؛ كما في سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» صححه النووي.
(1)
وقد أزيل أكثر ذلك بحمد الله في الآونة الأخيرة.
(2)
هذا مما أشار إليه رحمه الله، ولم يبلغه قلمه فيما وجد من الكتاب، فالله المستعان.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: هذا حديث حسن، ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به، قال يحيى بن معين: هو ثقة، وحسبك بابن معين موثقًا، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ، هو لين تعرف وتنكر، قال الشيخ: ومثل هذا يخاف أن يغلط أحيانًا، فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: إسناده حسن، ورواته كلهم ثقات مشاهير.
وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي: هو حديث جيد الإسناد، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة. انتهى.
ومن شواهده التي ذكرها شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وغيره، ما رواه سعيد بن منصور في سننه، حدثنا حبان بن علي، حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا بيتي عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» .
وقال سعيد أيضا: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم عليه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا بيتي عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ
فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: ورواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) ولم يذكر هذه الزيادة وهي قوله: ما أنتم ومن بالأندلس سواء.
قلت: ورواه عبد الرزاق في مصنفه، عن الثوري، عن ابن عجلان، عن سهيل، عن الحسن بن الحسن بن علي، قال: رأى قومًا عند القبر فنهاهم، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» .
قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى: فهذا فيه أنه أمره أن يسلم عند دخول المسجد، وهو السلام المشروع الذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجماعة من السلف كانوا يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد وهذا مشروع في كل مسجد.
وقال الشيخ في موضع آخر: هذان المرسلان، من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لاسيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسنده غير هذين، فكيف وقد تقدم مسندًا! انتهى.
وروى ابن أبي شيبة، والبخاري في التاريخ الكبير، وأبو يعلى الموصلي في مسنده، عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي، عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا
بيوتكم قبورًا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم».
ورواه الحافظ محمد بن عبد الواحد المقدسي في كتابه (المختارة) -وهو ما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين- قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو قريب من تصحيح الترمذي، وأبي حاتم البستي ونحوهم، فإن الغلط في هذا قليل ليس هو مثل تصحيح الحاكم.
قال الشيخ: فهذا علي بن الحسين زين العابدين، وهو من أجلِّ التابعين علمًا ودينا حتى قال الزهري: ما رأيت هاشميًا مثله، وهو يذكر هذا الحديث بإسناده ولفظه:«لا تتخذوا بيتي عيدًا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند بيته، كما لا مزية للصلاة عليه عند بيته، بل قد نهى عن تخصيص بيته بهذا وهذا.
وقال الشيخ في موضع آخر: انظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط. انتهى.
وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى» هذا لفظ البخاري.
وفي رواية لمسلم: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد؛ مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء» .
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): قوله: «لا تشد الرحال» بضم
أوله بلفظ النفي والمراد النهي عن السفر إلى غيرها، قال الطيبِي: هو أبلغ من صريح النهي؛ كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع؛ لاختصاصها بما اختصت به، وكنَّى بشَدِّ الرحال عن السفر لأنه لازمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور، ويدل عليه قوله في بعض طرقه:«إنما يسافر» . انتهى.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي» هذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» .
وروى ابن ماجة في سننه، من حديث أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو رواية البخاري.
وروي الطبراني في الصغير، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» .
وفي الموطأ، وسنن النسائي وغيرها، عن بصرة بن أبي بصرة رضي الله عنه أنه قال لأبي هريرة رضي الله عنه، وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» .
ورواه البخاري في التاريخ الكبير بنحوه.
وفي المسند وغيره، عن قزعة قال: أتيت ابن عمر رضي الله عنهما فقلت: إني أريد الطور، فقال: لا، إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور، فلا تأته.
فتحصل من ألفاظ هذه الأحاديث ثلاث صيغ: النفي، والنهي، والحصر، وكل واحدة من هذه الصيغ تفيد أنه لا يجوز السفر إلى زيارة شيء من القبور ولا المساجد والأماكن المعظمة، سوى المساجد الثلاثة، وباجتماع هذه الصيغ الثلاث يزداد المنع شدة، والله أعلم.
وقد أبى الجاهلون والغالون في القبور إلا أن يرتكبوا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بشدهم الرحال إلى قبره، واتخاذهم بيته عيدًا، يعتادون المجيء إليه والاجتماع عنده، ويختلط الرجال بالنساء، ويضجون بالأصوات المرتفعة، ويسيئون الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، فنهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن الجهر لرسوله صلى الله عليه وسلم بالقول كما يجهر بعضهم لبعض، وأخبرهم أن ذلك من أسباب حبوط الأعمال الصالحة، لأنه خلاف ما أمر الله به من توقيره واحترامه وحسن الأدب معه، ثم أثنى تبارك وتعالى على الذين يوقرون رسوله صلى الله عليه وسلم ويحترمونه ويستعملون أحسن الآداب معه، ووعدهم على ذلك المغفرة
والأجر العظيم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ، وكما أنه لا يجوز الضجيج ورفع الأصوات عند النبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته، فكذلك لا يجوز شيء من ذلك حول قبره؛ لأن حرمته ميتًا كحرمته حيًا بأبي هو وأمي ونفسي صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
وقد روى البخاري في صحيحه، عن السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وروي النسائي بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت؟!
فدل هذا الحديث والذي قبله على أن رفع الأصوات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنكرات التي يجب تغييرها.
وجاء في حديث ضعيف أن ذلك عام في جميع المساجد، فروى ابن ماجة في سننه، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجُمع» .
وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا؛ فلبعضه شواهد في الصحيحين وغيرهما تُقويه.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) في الكلام على حديث عمر رضي الله عنه قوله: «لو كنتما» يدل على أنه كان تقدم نهيه عن ذلك، وفيه المعذرة لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفي مثله، قوله «لأوجعتكما» زاد الإسماعيلي «جلدًا» ، ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن عمر رضي الله عنه لا يتوعدهما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي. انتهى.
وإذا كان هذا قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه لرجلين رفعا أصواتهما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال في جهال أهل هذه الأزمان وغوغائهم، الذين يفعلون هذا المنكر كثيرًا في غالب الأوقات، ويضمون معه منكرات أخر.
منها: إساءة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة الضجيج حول قبره ورفع الأصوات عنده.
ومنها: اختلاط الرجال بالنساء، وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن اجتماع الرجال والنساء لبدعة. رواه الخلال بإسناده.
واختلاط الرجال بالنساء مما يثير الشهوة، ويدعو إلى الفتنة والشر والفساد، وقد ذكر لنا أن بعض السفهاء هناك يغامزون النساء، وربما مس بعضهم فروج بعضهن؛ ليعلموا من تلين معهم فتجيبهم إلى الفاحشة ممن تأبى ذلك.
وربما وقع من بعضهم ما هو أعظم من ذلك وأطم، وهو الشرك الأكبر
ووسائله، وقد حدثني بعض أصحابنا من قضاة المدينة النبوية أن خُدَّام المسجد النبوي إذا كان ليلة الجمعة أخرجوا ما يلقيه الغوغاء داخل الشباك الذي حول الحجرة من أواني الطيب والكتب الكثيرة، قال: وقد عرض عليَّ بعض الكتب التي تلقى هناك فإذا هي مشتملة على الشرك الأكبر، فبعضهم يسأل المغفرة والرحمة من النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يسأل منه أن يهب له الأولاد، وبعضهم يطلب منه تيسير النكاح إذا تعسر عليه، إلى غير ذلك من الأمور التي يفزعون فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينسون الرب الواحد الأحد الفرد الصمد المالك المتصرف في خلقه بما يشاء، وله الحكمة التامة، والحجة البالغة، لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وقد قال تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، وقال تعالى:{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى، وقد عكس المشركون هذا الأمر فزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يملك لهم الضر والرشد، والإعطاء والمنع، وهذا عين المحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأمور الشركية التي تفعل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وعند غيره من قبور الصالحين أو من يظن صلاحه، هي من ثمرات الغلو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته؛ كما في المسند، وسنن النسائي، وابن ماجة، ومستدرك الحاكم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يا أيها الناس، إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» هذا لفظ ابن ماجة، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
ومن ذلك: التشويش على من حولهم في المسجد من المصلين، والتالين للقرآن.
وقد روى مالك في الموطأ، عن أبي حازم التمار، عن البياضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون، وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال:«إن المصلي يناجي ربه، فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن» .
وروى أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال:«ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، أو قال في الصلاة» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان. انتهى.
وإذا كان المصلي منفردا، ومثله التالي للقرآن في غير صلاة منهيًا عن الجهر الذي يحصل منه تشويش على من حوله من المصلين والتالين للقرآن، فنهي أهل هذه الاجتماعات المحدثة والضجيج المنكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحول قبره يكون بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم.
ومن ذلك: اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا ومخالفة نهيه عن ذلك، وقد قال الله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
ومن ذلك: زيارة النساء للقبر الشريف، وقبري أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وذلك لا يجوز لهن؛ لما في المسند، والسنن، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان، والحاكم.
وروى الإمام أحمد أيضًا، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن ابن عباس، وحسان بن ثابت رضي الله عنهم.
قلت: أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فهو ما تقدم آنفًا، وأما حديث حسان بن ثابت رضي الله عنه فقد رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الرحمن بن حسان، عن أبيه رضي الله عنه قال:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور» قال في الزوائد: إسناد حديث حسان بن ثابت صحيح، ورجاله ثقات. انتهى.
وهذه الأحاديث دالة على أن زيارة القبور حرام على النساء مطلقًا، سواء في ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر غيره، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ينافي هذه الأحاديث أو يخصصها، فوجب منع النساء من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومن زيارة غيره من سائر القبور، والله أعلم.
إلى غير ذلك من المنكرات التي تكون في كثير من تلك الاجتماعات المحدثة، والله المسؤول أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين لإنكار المنكرات، والأخذ علي أيدي السفهاء، والسير فيهم
بسيرة الخليفة الراشد العادل الذي وضع الله الحق على لسانه وقلبه؛ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فكفى به قدوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وقد روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والبخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر» قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وللترمذي، والحاكم أيضًا، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي المسند، والسنن، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم وقال: ليس له علة، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي رواية للحاكم: «عليكم بما تعرفون من سنة نبيكم والخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا على نواجذكم بالحق» قال الحاكم: صحيح على شرطهما جميعا ولا أعرف له علة، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
قال الخطابي رحمه الله تعالى في قوله: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين» : فيه دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولا وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى. انتهى.
وهذه الاجتماعات عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من محدثات الأمور التي لم تكن في صدر الإسلام، فلا ريب أنها داخلة فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، والله أعلم.
وكذلك شد الرحال لأجل القبر هو من محدثات الأمور التي لم تكن في صدر الإسلام، وقد اتفق الأئمة على عدم جوازه، لأنه سفر معصية.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يأتي المدينة لزيارة قبور أهل البقيع أو الشهداء أو غيرهم لم يوف بنذره، ومالك والأكثرون قالوا: لا يجوز أن يوفي بنذره فإنه معصية، ولو نذر السفر إلى نفس المسجد للصلاة فيه لم يحرم عليه الوفاء بالإجماع، بل يستحب الوفاء، وقيل: يجب، على قولين للشافعي، والوجوب مذهب مالك، وأحمد، ونفي الوجوب مذهب أبي حنيفة، فظهر أن أقوال أئمة المسلمين موافقة لما دلت عليه السنة من الفرق بين السفر إلى المدينة لأجل مسجد الرسول والصلاة فيه، والسفر إليها لغير مسجده؛ كالسفر لأجل مسجد قباء، أو لزيارة القبور التي فيها قبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبور من فيها من السابقين الأولين وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين. انتهى.
ونقل أيضا ما ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه (المبسوط) أنه رُوي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن كان أراد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأته، وليصل فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» . انتهى.
فالواجب على المسلمين عامة، وعلى علمائهم وولاة أمورهم خاصة،
إنكار هذه المنكرات التي تفعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند قبره، والإنكار على من يشد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من القبور والمساجد والأماكن المعظمة سوى المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى، وإنكار غير ذلك من المنكرات الظاهرة في جميع البلاد الإسلامية.
وكل أحد ينكر على حسب قدرته؛ كما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي رواية للنسائي: «من رأى منكرًا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان» .
وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» .
فصل
ومن أعظم أسباب اغتراب الإسلام ترك الجهاد في سبيل الله عز وجل، والاعتياض عن ذلك بالهوان، والتذلل لأعداء الله تعالى من الكفار والمنافقين، ومصادقتهم والإلقاء إليهم بالمودة.
وبسبب النكول عن الجهاد في سبيل الله عز وجل، وكثرة المخالفات لأوامر الله وارتكاب نواهيه، وتخاذل المسلمين وتفرق كلمتهم استولى أعداء الله على أكثر الممالك الإسلامية، بعضها أخذوه بالقوة، وبعضها أخذوه بالمكر والحيلة، حتى صار كثير من المسلمين تحت حكم أعداء الله تعالى، يستذلونهم كما يستذل أهل الذمة في صدر الإسلام، ويحكون فيهم بحكم الطاغوت من قوانينهم وسياساتهم الخاطئة الفاجرة، ويحملونهم على التحاكم إليها، وقد جاء في بعض الآثار: يقول الله تعالى: «إذا عصاني من يعرفني، سلطت عليه من لا يعرفني» .
وقد تقدم في أول الكتاب حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن» فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال:«حب الدنيا وكراهية الموت» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والبيهقي في دلائل النبوة.
وتقدم أيضا في أوله حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم» رواه الإمام أحمد، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان.
ورواه أبو داود بلفظ: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» .
وهذا الحديث وحديث ثوبان فيهما علم من أعلام النبوة؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أخبر عما سيقع في آخر الزمان، فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، فقد تداعت أمم الكفر والضلال على المسلمين من كل جانب، ونزع الله من صدورهم المهابة من المسلمين، وقذف في قلوب المسلمين الوهن والخور، وسلط عليهم الذل والخوف من الأعداء جزاء على نكولهم عن الجهاد في سبيل الله وحبهم الدنيا وكراهيتهم الموت في سبيل الله عز وجل، مع ما عليه أكثرهم من مخالفة أوامر الله وارتكاب نواهيه.
ولن يستعيد المسلمون عزَّهم التالد، ومجدهم الشامخ حتى يراجعوا دينهم؛ فيطيعوا الله ورسوله باتباع الأوامر واجتناب النواهي، ويجاهدوا في سبيل الله، ويبذلوا مهجهم وأموالهم في قتال أعداء الله، حتى لا
تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ولهم في الجهاد إحدى الحسنيين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة؛ كما سيأتي بيان ذلك في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وما ضم إليه من الأحاديث، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَالَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]، وقال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وقال تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73 - التحريم: 9]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، وقال تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} [التوبة: 38 - 39]، ثم قال الله:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]، وقال الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، والآيات في الأمر بالجهاد والحث عليه وبيان فضائله، وما وعد الله المجاهدين في سبيله من النصر وجزيل الثواب والأجر كثيرة جدًا لا يتسع هذا الموضع لذكرها.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «توكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالمًا مع أجر أو غنيمة» هذا لفظ البخاري.
وفي جامع الترمذي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يقول الله-: «المجاهد في سبيلي هو علي ضمان، إن قبضته أورثته الجنة، وإن رجعته رجعته بأجر وغنيمة» قال الترمذي: هذا حديث غريب صحيح من هذا الوجه.
وفي سنن النسائي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه قال: «أيما عبد من عبادي خرج مجاهدًا في سبيل الله ابتغاء مرضاتي
ضمن له أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته غفرت له ورحمته».
وفي سنن ابن ماجة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«المجاهد في سبيل الله مضمون على الله، إما أن يكفته إلى مغفرته ورحمته، وإما أن يرجعه بأجر وغنيمة، ومثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الذي لا يفتر حتى يرجع» .
وفي الموطأ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع» .
وروى أبو داود في سننه، والبخاري في (الأدب المفرد)، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل؛ رجل خرج غازيا في سبيل الله فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة
…
» الحديث. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي جامع الترمذي، ومستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟! اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي السنن إلا أبا داود، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«من قاتل في سبيل الله عز وجل من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة» قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وصححه أيضًا الحاكم وقال: على شرط مسلم.
وفي الصحيحين، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» .
وفي صحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف» .
وفي المسند أيضًا، عن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه، أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم، فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟ فقال عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وبرة بين أنملتيه فقال:«إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا؛ فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله، القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم، ينجي الله به من الهم والغم» .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا حديث حسن عظيم.
قلت: وقد رواه الحاكم في مستدركه مختصرًا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم» .
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض» .
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي سنن النسائي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضًا.
وفي صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، عن أبي عبس عبد الرحمن بن جبر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار» هذا لفظ البخاري.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» .
وفيهما أيضًا، عن أبي هريرة وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ولفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري: «لغدوة أو روحة في سبيل
الله خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب».
وروى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وروى الإمام أحمد أيضًا، وابنه عبد الله، والترمذي، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن غريب.
وروى الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم» .
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وروي ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق» .
وروى أبو داود أيضًا، وابن ماجة، عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من لم يغز ويجهز غازيًا، أو يخلف غازيًا في أهله بخير، أصابه الله عز وجل بقارعة قبل يوم القيامة» .
وفي جامع السنن، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لقي الله وليس له أثر في سبيل الله، لقي الله وفيه ثلمة» .
وفي المسند، والسنن إلا أبا داود، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه البخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
والأحاديث في فضل الجهاد والحث عليه، وبيان ما وعد الله المجاهدين في سبيله من جزيل الأجر والثواب كثيرة جدًا، لا يتسع لذكرها هذا الموضع، وفيما ذكرنا ههنا كفاية إن شاء الله تعالى.
وكما أن في الجهاد إحدى الحسنيين فكذلك في تركه الهم والغم؛ كما يدل على ذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقد تقدم قريبًا.
وفي تركه أيضًا الذل والتهلكة؛ كما تقدم بيان ذلك في حديث ثوبان وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
وفي السنن إلا ابن ماجة، عن أسلم أبي عمران التجيبِي قال: كنا بمدينة الروم؛ فأخرجوا إلينا صفًا عظيمًا من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! يُلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس، إنكم لتُأوِّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد
أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فكانت التهلكة: الإقامة على الأموال وإصلاحها وتَرْكنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض [الروم]
(1)
. هذا لفظ الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
ومع ما عليه المسلمون في زماننا من ترك الجهاد في سبيل الله، ورضى كثير منهم بالذل والهوان والتهلكة، فقد قام فيهم كثير من المنتسبين إلى العلم يرغبونهم في مصادقة أعداء الله، ويثبطونهم عن الجهاد في سبيل الله، ويستدلون على ذلك بالمتشابه والمنسوخ؛ كما أخبر الله عنهم بقوله:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، وآخرون من الجبناء يفتّون في أعضاد المسلمين، ويرهبونهم من شدة بأس أعداء الله وكثرة عَدَدهم وقوة عُدَدهم وكثرتها، ونسوا قول الله تعالى:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال: 10]، وقوله تعالى:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، ونسوا أيضًا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معهم من المسلمين قهروا المرتدين من أحياء العرب وهم أضعاف
(1)
ساقطة من الأصل، والتصحيح من سنن الترمذي [5/ 212].
أضعافهم، وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها في مدة يسيرة، وظهروا على الفرس والروم والقبط وأنواع السودان والترك والصقالبة وغيرهم من أعداء الله تعالى مع كثرة عدد أعداء الله تعالى وقوة عددهم، وقلة عدد المسلمين وضعف عددهم، وغاب عنهم أيضًا ما وعد الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في آخر الزمان من قتل اليهود وأمم الكفر والضلال، والظهور عليهم ولا سيما يوم الملحمة الكبرى، ويومئذ لا ينفع أعداء الله كثرتهم ولا تغني عنهم قوتهم وعددهم شيئا.
فليبشر المسلمون بالنصر والظفر على الأعداء والتمكين في الأرض إذا هم أطاعوا الله ورسوله؛ بامتثال المأمورات واجتناب المحظورات، وساروا على منهاج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاد المرتدين وغيرهم من أصناف الكفار والمنافقين، مع الغلظة عليهم ومصارمتهم وإظهار البغض والعداوة لهم، قال الله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} الأنبياء: 105 - 106].
فصل
وقد رأيت لبعض المنتسبين إلى العلم في زماننا مقالاً زعم فيه أن ابتداء المشركين بالقتال على الإسلام غير مشروع، وإنما يشرع القتال دفاعًا عن الإسلام إذا اعتدى المشركون على المسلمين، أو حالوا بينهم وبين الدعوة إلى الإسلام، فحينئذ يحاربون، لا ليسلموا بل ليتركوا عدوانهم، ويكفوا عن وضع العراقيل في طريق الدعاة، فأما إذا لم يحصل منهم اعتداء، ولا وضع عراقيل في طريق الدعاة، فأساس العلاقة بينهم وبين المسلمين المسالمة والمتاركة.
زعم أيضا أن الإسلام لا يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله لمجرد أنه لا يدين به، كما لا يجيز مطلقا أن يتخذ المسلمون القوة من سبل الدعوة إلى دينهم، هذا حاصل مقاله.
وقد أطال الكلام في تقرير هذا الرأي الخاطئ، واستدل له بقول الله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وبقوله تعالى {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90]، وبقوله تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، وبقوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، ثم قال: وهذا الرأي هو المعقول المقبول، وهو الرأي الذي تتفق معه نظرة علماء القانون الدولي في الأساس الذي تبني الدولة عليه علاقاتها بعضها
ببعض
…
إلى آخر كلامه المصادم للآيات المحكمات، ونصوص الأحاديث الصحيحة، وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وكفى بالوصول إلى هذه الغاية السيئة جهلاً وخذلانًا لصاحب المقال وأشباهه من المثبطين عن الجهاد في سبيل الله، المائلين إلى آراء أعداء الله وقوانينهم المخالفة لدين الله وما شرعه لعباده المؤمنين.
وأنا أذكر بعون لله وتأييده من نصوص القرآن، والأحاديث الصحيحة، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ما يبطل قول صاحب المقال، ويكشف شبهته ويسفه رأيه.
أما نصوص القرآن فكثيرة جدًا منها: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].
قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: قال الحسين بن الفضل: هذه الآية نَسَخَت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: هذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم: إنها نَسَخَت كل عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد المشركين وكل عقد وكل مدة.
وقال العوفي، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم،
ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد، إن لم يدخلوا في الإسلام، ونقض ما كان سمى لهم من العهد والميثاق، وأذهب الشرط الأول. انتهى.
فقد أباح الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة دماء المشركين، وأمر المسلمين أن يقتلوهم حيث وجدوهم من الأرض، ويأخذوهم أسرى، ويقصدوهم بالحصار في بلادهم، ويضيقوا عليهم بوضع الأرصاد لهم في طريقهم ومسالكهم حتى يسلموا، أو يستسلموا للقتل أو الأسر، وهذا يبطل ما زعمه صاحب المقال من أن الإسلام لا يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله لمجرد أنه لا يدين به، ويبطل أيضا قوله: إن الإسلام لا يجيز مطلقًا أن يتخذ المسلمون القوة من سبل الدعوة إلى دينهم، فإن ما أمر به في هذه الآية لا يمكن المسلمين فعله إلا بالقوة.
ودلت الآية على أن
العلة في قتال الكفار
هي ما هم عليه من الشرك بالله تعالى، والإعراض عن دين الإسلام، فيجب قتالهم ما دامت العلة موجودة فيهم، فإذا زالت العلة وجب الكف عنهم، ولهذا قال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ، وهذا يبطل قول صاحب المقال: إنهم إنما يُقَاتلوا لترك العدوان لا ليسلموا.
ودلت الآية أيضا على أنهم يُبدءون بالقتال، من أجل ما هم عليه من الشرك، وإن لم يحصل منهم اعتداء على المسلمين، ولا وضع عراقيل في
طريق الدعاء إلى الإسلام، وهذا يبطل قول صاحب المقال: إنهم إنما يقاتلون دفاعًا عن الإسلام، إذا اعتدوا على المسلمين، أو وضعوا العراقيل في طريق الدعوة.
وهذه الآية الكريمة كافية في إبطال ما قرره هذا المثبط الذي أشرنا إليه، وما كان يدعوا إليه هو وأشباهه من مسالمة الكفار ومتاركتهم.
الآية الثانية: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
الآية الثالثة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123].
الآية الرابعة: قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73، التحريم: 9].
الآية الخامسة: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
فدلت هذه الآية الكريمة على أن العلة في قتال أهل الكتاب هي ما هم عليه من الكفر بالله واليوم الآخر، وتحليل ما حرم الله ورسوله، والإعراض عن الإسلام الذي هو دين الحق، ولو كان الاعتداء ووضع العراقيل علة للقتال لذكر ذلك ولم يهمله؛ قال الله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
ودلت الآية أيضا على مشروعية ابتداء أهل الكتاب بالقتال على الإسلام وإن لم يحصل منهم اعتداء على المسلمين، ولا وضع عراقيل في طريق الدعاة إلى الإسلام، ويدل على ذلك أيضًا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما نزلت عليه هذه الآية تجهّز يريد قتال الروم بالشام وأوعب المسلمون معه، فسار بهم حتى بلغ تبوك فأقام بها قريبا من عشرين يوما، ثم رجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس، ثم غزاهم المسلمون بعد ذلك في ديارهم وبدأوهم بالقتال لما أبوا قبول الدعوة الإسلامية أو بذل الجزية حتى أثخنوهم قتلاً وأسرًا وتشريدًا، كما هو معروف في كتب المغازي والسير، والله أعلم.
وهؤلاء الآيات الخمس كلها من سورة براءة، وهي من آخر ما نزل من القرآن، ولم ينسخ منهن شيء.
ومن الآيات المحكمات أيضا: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَاسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16]، وهذه الآية الكريمة مما نزل بعد صلح الحديبية، ولم ينسخها شيء، وقد قال تعالى فيها:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} فأوجب ابتداءهم بالقتال واستمراره معهم ما داموا على الشرك، فدل على أنه هو علة القتال، ولو كانت العلة اعتدائهم ووضعهم العراقيل في طريق الدعاة -كما قال هذا المثبط وأمثاله- لكان ينبغي الكف عنهم إذا زالت هذه العلة، وهذا خلاف نص القرآن.
ومن الآيات المحكمات أيضا: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} : يعني لا يكون شرك.
وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، ذكره عنهم الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره.
وقال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: {وَقَاتِلُوهُمْ} يعني المشركين {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي شرك؛ يعني: قاتلوهم حتى يسلموا، فلا يقبل من الوثني إلا الإسلام، فإن أبى قُتل {وَيَكُونَ الدِّينُ} أي الطاعة والعبادة {لله} وحده فلا يعبد شيء دونه. انتهى.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} : أي يخلص التوحيد لله.
وقال الحسن وقتادة: أن يقال: لا إله إلا الله.
وقال محمد بن إسحاق: ويكون التوحيد خالصًا لله، ليس فيه شرك، ويخلع ما دونه من الأنداد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لا يكون مع دينكم كفر.
وهذه الآية كقوله تعالى في سورة براءة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، كقوله تعالى:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وقد زعم صاحب المقال
الذين أشرنا إليه أن معنى قوله تعالى: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} : أي حتى لا تحول القوة بين الإسلام وقلوب الناس، ويصبح الدين لله لا يتدخل في شأنه أحد من الناس ليرغم أحدًا آخر على قبول رأي معين، هذا تفسير صاحب المقال للآية، وهو تفسير جديد لم يسبقه إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، وهو كما قال: مما يتفق مع نظرة علماء القانون الدولي من طواغيت الإفرنج وغيرهم من أعداء الله تعالى، ولعل ميله إليهم، وإعجابه بآرائهم وقوانينهم هو الذي حداه على التخبيط في تفسير هذه الآية وغيرها بمجرد رأيه، وإطراح ما قال ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من أئمة السلف.
ولا يبعد أن يكون صاحب المقال وأشباهه ممن عناهم الله تعالى بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، ومغزاه في تفسير هذه الآية ظاهر؛ وهو الدعوة إلى إبطال الجهاد الذي أوجبه الله على عباده المؤمنين وجعله سنامًا لدين الإسلام.
ومن الآيات المحكمات أيضا: قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} الآية [محمد: 4].
قال البغوي رحمه الله تعالى: معنى الآية: أثخنوا المشركين بالقتل والأسر؛ حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام، ويكون الدين كله لله، فلا يكون بعده جهاد ولا قتال، وذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام. انتهى.
وهذه الآية تبطل ما زعمه صاحب المقال من أن الإسلام لا يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله لمجرد أنه لا يدين به، وما زعمه أيضًا من أن الإسلام لا يجيز مطلقا أن يتخذ المسلمون القوة من سبل الدعوة إلى دينهم، وقد أبانت هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث كذبه على الإسلام، وقوله على الله بغير علم، ولولا اتخاذ المسلمين للقوة لما استطاعوا قتل أعداء الله، وإثخانهم، وأخذهم أسرى.
ودلت الآية على مشروعية ابتداء الكفار بالقتال، إذا كانوا ممن بلغتهم الدعوة الإسلامية فلم يقبلوها.
ودلت أيضًا بظاهرها على أنه لا فرق بين الكفار المعتدين وغير المعتدين؛ لأن العلة الموجبة لقتالهم هو ما هم عليه من الكفر بالله تعالى، وذلك مما يستوي فيه المعتدون وغيرهم.
وقد قيل في قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} : إن ذلك منسوخ بآية السيف، وقيل: ليس بمنسوخ، فأما ضرب رقاب المشركين وإثخانهم، وأخذهم أسرى فهذا من المحكم الموافق لآية السيف، والله أعلم.
والآيات في الرد على صاحب المقال كثيرة ليس هذا موضع استقصائها، وفيما ذكرنا ههنا كفاية لمن وفقه الله تعالى وأراد هدايته، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
فصل
وأما الأحاديث في إبطال ما ادعاه فكثيرة أيضًا.
منها: ما في الصحيحين وغيرهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» .
وفي المسند، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي المسند، وسنن ابن ماجة أيضا، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضًا، ورواية ابن ماجة في كلا الحديثين مختصرة.
وفي سنن النسائي، ومستدرك الحاكم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر، كيف تقاتل العرب؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة» قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وفي الصحيحين، والمسند، والسنن إلا ابن ماجة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من
العرب، قال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله» ؟! قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يوؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه للقتال فعرفت أنه الحق.
وفي الصحيحين، والمسند، والسنن الأربع، عن أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله» .
زاد أحمد والنسائي في رواية لهما: فلما كانت الردة قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: أتقاتلهم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا؟ فقال: والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة، ولأقاتلن من فرق بينهما، وقاتلنا معه فرأينا ذلك رشدًا.
وفي رواية لأحمد نحوه وفيه: فلما قام أبو بكر، وارتد من ارتد، أراد أبو بكر قتالهم، قال عمر: كيف تقاتل هؤلاء القوم وهم يصلون؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن قومًا ارتدوا عن الزكاة، والله لو منعوني عناقًا مما فرض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم، قال عمر: فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر لقتالهم عرفت أنه الحق.
وفي صحيح مسلم، وسنن ابن ماجة، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم -
نحو حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي سنن النسائي، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضًا.
وللنسائي أيضًا، وابن ماجة، عن أوس بن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضًا.
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» .
وفي صحيحه أيضا، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» .
وفي رواية له: «من وحد الله» والباقي مثله.
ورواه الإمام أحمد في مسنده بمثل الرواية الأخيرة.
وفي صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا ابن ماجة، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها؛ لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» .
فهذه أحاديث متواترة عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين،
وهي من أوضح البراهين على أن ابتداء المشركين بالقتال مشروع، وأن دماءهم وأموالهم حلال للمسلمين ما داموا على الشرك، وظاهرها أنه لا فرق في ذلك بين الكفار المعتدين وغير المعتدين، ومن وقف منهم في طريق الدعاة إلى الإسلام ومن لم يقف في طريقهم، فكلهم يُقَاتلون ابتداء لما هم عليه من الشرك بالله تعالى حتى يتركوا الشرك ويدخلوا في دين الإسلام ويلتزموا بحقوقه.
وفي الباب أيضا أحاديث كثيرة تدل على ما دلت عليه هذه الأحاديث التي ذكرنا وفيها زيادة أحكام، فنذكر منها ههنا ما تيسر إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.
فمنها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم» وروى البخاري بعضه تعليقًا، وأخرج أبو داود منه قوله:«من تشبه بقوم فهو منهم» .
ومنها: ما في صحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا النسائي، عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصيته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلّوا، ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم
إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» وذكر تمام الحديث. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي الباب عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه.
قلت: وحديث النعمان هذا ساق مسلم، وأبو داود، وابن ماجة إسناده عقب حديث بريدة، وأحال الراوي بالمتن على حديث بريدة، فعند مسلم قال: نحوه، وعند أبي داود وابن ماجة قال: مثله.
ومنها: ما في مسند الإمام أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا باسم الله؛ تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع» .
ومنها: ما في المسند أيضا، وسنن ابن ماجة، عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فقال: «سيروا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا» .
ومنها: ما في مستدرك الحاكم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يتجهز لسرية بعثه عليها، وأمر بلالاً أن يدفع إليه اللواء، فحمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: خذ ابن عوف فاغزوا جميعا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، فهذا عهد الله وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
ومنها: ما في سنن أبي داود، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» .
ومنها: ما رواه الطبراني في معجمه الصغير، عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية قال: «بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوالدان» .
ومنها: ما رواه الطبراني في الصغير أيضا، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية قال: «اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا» .
ومنها: ما في جامع الترمذي، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
وقد تقدم في بيان فضل الجهاد بأطول من هذا.
ومنها: ما في السنن إلا أبا داود، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«من قاتل في سبيل الله عز وجل من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة» قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وصححه أيضا الحاكم وقال: على شرط مسلم.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، من حديث عبادة الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«جاهدوا الناس في الله، القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم» .
ومنها: ما في صحيح البخاري، عن جبير بن حية الثقفي قال: بعث عمر رضي الله عنه الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين، فذكر الحديث وفيه أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال لترجمان جيش كسرى:«أمرنا نبينا، رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قُتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم» .
ومنها: ما في المسند، وجامع الترمذي واللفظ له، عن أبي البختري، أن جيشًا من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسي رضي الله عنه حاصروا قصرًا من قصور فارس، فقالوا: يا أبا عبد الله، ألا تنهد إليهم؟ قال: دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فأتاهم سلمان رضي الله عنه فقال: إنما أنا رجل منكم فارسي، ترون العرب يطيعوني، فإن أسلمتم فلكم مثل الذي
لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه وأعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، قال: ورطن إليهم بالفارسية وأنتم غير محمودين، وإن أبيتم نابذناكم على سواء، قالوا: ما نحن بالذي يعطي الجزية، ولكننا نقاتلكم، فقالوا: يا أبا عبد الله، ألا تنهد إليهم؟ قال: لا، قال: فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا ثم قال: انهدوا إليهم، قال: فنهدنا إليهم ففتحنا ذلك القصر. قال الترمذي: حديث حسن.
ومنها: ما في الصحيحين، ومسندي الإمامين الشافعي وأحمد، وسنن أبي داود، عن أبن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإسلام؛ وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارّون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم؛ وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث. حدثني به عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وكان في ذلك الجيش.
ومنها: ما في صحيح البخاري، ومسندي الإمامين الشافعي وأحمد، عن أنس رضي الله عنه قال:«كان رسول الله إذا غزا قومًا لم يغر حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك وإن لم يسمع أذاناً أغار بعد ما يصبح» .
وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، ولفظ مسلم:«كان يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار» وذكر تمام الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ومنها: ما رواه الشافعي، وأحمد أيضًا، وأبو داود، والترمذي، عن عصام المزني رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فقال: «إذا رأيتم مسجدا أو
سمعتم مؤذنًا فلا تقتلوا أحدًا» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
ومنها: ما رواه أبو داود أيضا، وابن ماجة، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه، فغزونا ناسا من المشركين، فبيّتناهم فقتلناهم، قال سلمة: فقتلت بيدي تلك الليلة سبعة أهل أبيات من المشركين.
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على نقيض ما قرره صاحب المقال وأشباهه من المعجبين بآراء أعداء الله تعالى وقوانينهم، وقد اشتملت هذه الأحاديث التي ذكرنا ههنا على فوائد كثيرة نذكر منها ما نحن بصدده:
فمنها: مشروعية ابتداء المشركين بالقتال، إذا كانوا ممن بلغتهم دعوة الإسلام فلم يقبلوها، وهذا يرد قول صاحب المقال أنه لا يجوز قتالهم ابتداء، وإنما يقاتلون دفاعًا عن الإسلام إذا اعتدوا على المسلمين، أو وقفوا في طريق الدعاة.
ومنها: تعليل قتال المشركين وأهل الكتاب بما هم عليه من الكفر بالله وتعالى، فيقاتلون على الإسلام حتى يدخلوا فيه، أو يبذلوا الجزية إذا كانوا ممن تقبل منهم الجزية، والنصوص على ذلك واضحة في كثير من هذه الأحاديث، وهذا يرد قول صاحب المقال أنهم إنما يقاتلون لترك العدوان، لا ليسلموا.
ومنها: أنه لا فرق بين من اعتدى منهم على المسلمين، ومن لم يعتد، ومن وقف منهم في طريق الدعاة إلى الإسلام، ومن لم يقف، فكلهم
يقاتلون ابتداءً من أجل الشرك، ولو كان التفريق بينهم معتبرًا لَبَيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهمله.
ومنها: أن قتال الكفار على الإسلام من ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، بخلاف مسالمتهم ومتاركتهم من غير جزية تؤخذ منهم، فإن ذلك من سياسات أعداء الله، ونظرات علماء قوانينهم الدولية وقد قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} الآية، ويستثنى من ذلك ما إذا عقد المسلمون بينهم وبين الكفار هدنة على ترك القتال مدة معلومة، فإن ذلك جائز للحاجة والمصلحة للمسلمين، ويجب الوفاء به ما لم ينقضه العدو.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي في (المغنى): ولا تجوز المهادنة مطلقًا من غير تقدير مدة، لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية. انتهى، وكذا قال غيره من أكابر العلماء، والله أعلم.
ومنها: جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من الكفار في حال غرتهم وغفلتهم، وجواز تبييتهم في الليل.
ومنها: جواز قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، ففيه رد على صاحب المقال الذي أشرنا إليه، حيث زعم أن الإسلام لا يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله لمجرد أنه لا يدين به، ولعل صاحب المقال أخذ هذا القول من نظرات علماء القانون الدولي وما تقتضيه الحرية الإفرنجية ثم نسبه إلى الإسلام، والإسلام بريء من هذا القول المفترى عليه كما تدل على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة مما ذكرنا ومما لم نذكره.
ويكفي في رد هذا القول ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بني المصطلق، وما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع غيرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك، وفي الصحيحين، والمسند، والسنن، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» .
وفي المسند، وسنن النسائي، وابن ماجة، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا فيقتل بها» .
وفي المسند، وسنن أبي داود، والنسائي، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل دم امرئ مسلم إلا رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر بعد إسلامه، أو النفس بالنفس» .
وفي صحيح البخاري، ومسندي الإمامين الشافعي وأحمد، والسنن، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من بدل دينه فاقتلوه» .
وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى رضي الله عنه إلى اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما قدم عليه ألقى له وسادة وقال له: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًا فأسلم ثم تهود، قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله.
وفي المسند، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اقتلوا شيوخ المشركين، واستبقوا شرخهم» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال: والشرخ؛ الغلمان الذين لم ينبتوا.
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: سألت أبي عن تفسير هذا الحديث «اقتلوا شيوخ المشركين» قال: يقول: الشيخ لا يكاد أن يسلم، والشاب أي يسلم كأنه أقرب إلى الإسلام من الشيخ، قال: والشرخ الشباب.
وفي الصحيحين، ومسندي الإمامين الشافعي وأحمد، والسنن إلا النسائي، عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم؟ قال:«هم منهم» ، زاد أبو داود: قال الزهري: ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
وقال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن عمه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والولدان.
وفي مسند الإمام أحمد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة يوم فتح مكة مقتولة فقال: «ما كانت هذه تقاتل» ، ثم نهى عن قتل النساء والصبيان.
وفي الموطأ، عن يحيى بن سعيد، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال ليزيد بن أبي سفيان: إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وستجد قومًا فحصوا عن أوساط
رؤوسهم من الشعر فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيًا، ولا كبيرًا هرمًا
…
وذكر تمام الحديث.
فهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها مما تقدم ذكرها، ومما لم نذكره، تدل على أن الإسلام يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله، إذا لم يدن بالإسلام، ولم يبذل الجزية، إذا كان من أهل الكتاب ونحوهم ممن تؤخذ منهم الجزية، إلا ما استثني فيها من النساء والصبيان والشيوخ الفانين وأصحاب الصوامع؛ فهؤلاء لا يجوز قتل أحد منهم إلا أن يباشر القتال أو يعين عليه ولو بالرأي، فيقتل كما قتل دريد بن الصمة.
وقد روى أبو داود في سننه، من حديث صخر بن العيلة الهذلي الأحمسي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن القوم إذا أسلموا فقد أحرزوا دماءهم وأموالهم» .
ورواه الإمام أحمد في مسنده بمعناه، وفيه دليل على إهدار دماء المشركين، وحل أموالهم للمسلمين ما داموا على الشرك، والله أعلم.
وقد قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} ، وقال تعالى:{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَاخُذُونَهَا} الآية، وقال تعالى:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق على صحته: «أحل الله لنا الغنائم» ، وقال أيضا في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما المتفق على صحته:«أحلت لي الغنائم» ، ورتب صلوات الله وسلامه عليه في الأحاديث المتقدمة عصمة
دماء المشركين وأموالهم بالدخول في الإسلام، وعصمة دماء أهل الكتاب وأموالهم بذلك أو ببذل الجزية، ومع هذا كله يقول صاحب المقال إن الإسلام لا يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله لمجرد أنه لا يدين به، وهذا منه جرأة عظيمة على الله تبارك وتعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وتكذيب منه لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة، فالله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ومن فوائد الأحاديث المتقدمة أيضا: وجوب
اتخاذ القوة؛ لتأييد الدعوة الإسلامية
وقتال من خالفها، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله» ، فإن الأمر بالقتال يتضمن الأمر باتخاذ القوة لذلك؛ لأن القتال بدون القوة غير ممكن، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويدل عليه أيضا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله من بعث الجيوش والسرايا لقتال من لم يدخل في الإسلام، وما فعله مع بني المصطلق وغيرهم من المشركين وأهل الكتاب؛ من الإغارة عليهم ومهاجمتهم بما معه من القوة، وما فعله أصحابه رضي الله عنهم من بعث الجيوش والقوات لقتال المرتدين وغيرهم من أمم الكفر والضلال، وهذا يبطل ما زعمه صاحب المقال من أن الإسلام لا يجيز مطلقًا أن يتخذ المسلمون القوة من سبل الدعوة إلى دينهم.
ومن فوائدها أيضا: وجوب التثبت في أمر الكفار إذا أظهروا شعائر الإسلام؛ بأن سمع عندهم أذان أو رُؤي عندهم مسجد، فلا يغار عليهم والحالة هذه، ولا يقتل منهم أحد، بل يجب الكف عنهم حتى تتضح حقيقية
أمرهم.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: إظهار شعائر الإسلام في القتال وعند شن الغارة يحقن به الدم، وليس كذلك حال السلامة والطمأنينة التي يتسع فيها معرفة الأمور على حقائقها واستيفاء الشروط اللازمة فيها. انتهى.
وظاهر حديث أنس، وحديث عصام المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخص بالإغارة المعتدين من الكفار، والواقفين منهم في طريق الدعاة إلى الإسلام دون غيرهم، بل كان يغير ويأمر بالإغارة على من بلغتهم الدعوة الإسلامية فلم يقبلوها، سواء كانوا معتدين أو غير معتدين، وسواء كانوا من الواقفين في طريق الدعاة إلى الإسلام أو لم يكونوا منهم، والله أعلم.
فصل
وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على قتال المرتدين، من سائر أحياء العرب، فساروا إليهم في ديارهم، وبدأوهم بالقتال حتى فرغوا منهم، ثم ساروا بأمر الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى قتال فارس والروم، فدعوهم إلى الإسلام، وقاتلوهم عليه، واستمر الأمر كذلك في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما وأرضاهما- حتى دوخوا كثيرًا من أمم الكفر والضلال في مشارق الأرض ومغاربها، وأثخنوهم قتلاً وأسرًا، وسبوا من ذراريهم وغنموا من أموالهم ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وضربوا الجزية على من صالحهم من تلك الأمم، وظهر بذلك مصداق قوله تعالى:{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَاسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} ، ثم كان الأمر كذلك في دولة بني أمية وصدر من دولة بني العباس، فكثرت الفتوحات، واتسعت الممالك الإسلامية، حتى بلغت من ناحية المشرق إلى أطرف الصين، وبلغت من ناحية المغرب إلى البحر المحيط، وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان رضي الله عنه:«إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها» رواه مسلم، وأهل السنن إلا النسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي المسند، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ولا يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يومنا هذا أنه طعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من
غزواتهم، وبدئهم الكفار بالقتال على الإسلام، واتخاذهم القوة لذلك، واستحلالهم لدماء أعداء الله وأموالهم.
وكذلك لا يعرف عن أحد من التابعين وتابعيهم بإحسان، أنه طعن على بني أمية وبني العباس في شيء من هذه الأمور الشرعية، حتى جاء صاحب المقال وأشباهه من المعجبين بآراء أعداء الله تعالى وقوانينهم الدولية، فأصدروا المقالات التي ظاهرها الطعن على الجميع، تقليدًا منهم لأعداء الله تعالى، وتقربًا إليهم بما يوافق أهواءهم، بل ظاهرها الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعله مع المشركين وأهل الكتاب، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يقاتلهم على الإسلام، ويهاجمهم إذا لم يقبلوا دعوته، ويغير عليهم في حال غرتهم، وكل ذلك على زعم صاحب المقال لا يجوز له، وكان صلى الله عليه وسلم يستحل دماءهم وأموالهم، وذلك على زعم صاحب المقال لا يجوز له.
وكان صلى الله عليه وسلم يعد لأعداء الله تعالى ما استطاع من القوة، ويجاهد بها من أبى منهم قبول الدعوة، وذلك على زعم صاحب المقال لا يجوز له.
وكان صلى الله عليه وسلم يقاتل المعرضين عن الإسلام سواء كانوا من المعتدين أو غير المعتدين، وعلى زعم صاحب المقال أن قتال غير المعتدين لا يجوز له.
فانظروا أيها المسلمون إلى جريرة التقليد لأعداء الله تعالى، والاغترار بآرائهم الفاسدة وقوانينهم الباطلة، كيف أوقعا هذا المسكين في هذه الأوحال التي تناقض دين الإسلام، وتقتضي المروق منه بالكلية، وقد قال
الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112].
فالحذر الحذر أيها المسلمون من الاغترار بزخارف أعداء الله تعالى وأباطيلهم، فإنهم لا يألون المسلمين خبالاً وإضلالاً، قال الله تعالى:{وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2]، ثم إن صاحب المقال لم يكتف بما ظاهره الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وعلى من بعدهم من المسلمين الذين جاهدوا الكفار على الإسلام، وبدأوهم بالقتال، واستحلوا دماءهم وأموالهم لما أعرضوا عن قبول الدعوة، بل تجاوز ذلك إلى ما يفهم منه تسفيه آرائهم في قتال الذين لم يعتدوا عليهم ولم يقفوا في طريق الدعاة وإن كانوا ممن بلغتهم الدعوة الإسلامية فلم يقبلوها، ولم يبذلوا الجزية، وهذا من صاحب المقال أقبح وأبشع وأفظع مما قبله، وعنده وعند أشباهه أن الرأي المعقول المقبول هو ما يتفق مع نظرة علماء القانون الدولي، من مسالمة أعداء الله ومتاركتهم ما لم يعتدوا على المسلمين أو يقفوا في طريق الدعاة إلى الإسلام، ومفهوم هذه العبارة لا يخفى على طال علم، فالله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقد تقدم قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها؛ فعلل قتاله للمرتدين
بمنعهم للزكاة التي هي من آكد حقوق الإسلام، وقد وافقه عمر رضي الله عنه وأرضاه وجميع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، وقال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قاتلنا معه فرأينا ذلك رشدًا، ولو كانت العلة ما يقوله صاحب المقال وأشباهه لكان ينبغي لأبي بكر رضي الله عنه أن يقول: نقاتلهم على اعتدائهم علينا ووقوفهم في طريق الدعاة إلى الإسلام.
وتقدم أيضًا قول أبي بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما: ستجد قومًا فحصوا عن أوساط رؤوسهم من الشعر فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. رواه مالك في الموطأ، وهؤلاء هم الشمامسة من النصارى، والعلة في قتلهم هي مخالفتهم للإسلام وهديه الذي هو خير الهدي، ولو كان الأمر كما يقوله صاحب المقال وأشباهه لعلل الصديق رضي الله عنه وأرضاه بذلك.
وتقدم أيضا ما رواه البخاري في صحيحه، عن جبير بن حية الثقفي قال: بعث عمر رضي الله عنه الناس في أفناء الأمصار، يقاتلون المشركين -فذكر الحديث- وفيه أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال لترجمان جيش كسرى:«أمرنا نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قُتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم» ، ففي هذا الحديث بيان العلة التي لأجلها بعث عمر رضي الله عنه الجيوش إلى الأمصار يقاتلون الناس؛ وهي ما هم عليه من الشرك بالله تعالى واتخاذ الآلهة من دونه، ولو كان الأمر كما يقوله صاحب المقال لقال جبير: يقاتلون من اعتدى على
المسلمين، ولقال المغيرة: أمرنا أن نقاتلكم حتى تنتهوا عن اعتدائكم على المسلمين، وقد صرح المغيرة رضي الله عنه أن قتالهم للمشركين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم صادر عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بذلك.
وتقدم أيضًا ما فعله سلمان الفارسي رضي الله عنه لما حاصروا قصرًا من قصور فارس؛ فإنه دعاهم إلى الإسلام، ثم إلى بذل الجزية، فلما لم يقبلوا قاتلهم بمن معه حتى فتحوا القصر، ولو كان الأمر كما يقول صاحب المقال لقال لهم سلمان رضي الله عنه: ندعوكم إلى المسالمة، وترك العدوان علينا، وأن تكفوا عن وضع العراقيل في طريق الدعاة.
وروى مالك في الموطأ بلاغًا أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كتب إلى عامل من عماله: إنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية يقول لهم: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا» ، فقل ذلك لجيوشك وسراياك إن شاء الله، والسلام عليك.
فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أمر جيوشه بقتال المشركين، وعلل قتالهم بما علل به رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفرهم بالله تعالى، ولم يعلل بما علل به صاحب المقال وأشباهه من المتحذلقين.
والمقصود هاهنا أن قتال المشركين، واستباحة دمائهم وأموالهم من أجل شركهم بالله تعالى أمر مجمع عليه، وصادر عن أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على من له أدنى علم وفهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم،
ومعرفة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين في جهاد المشركين وأهل الكتاب، ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر معاند للحق، يتعامى عنه لما عنده من الميل إلى الحرية الإفرنجية والتعظيم لأعداء الله تعالى والإعجاب بآرائهم وقوانينهم الدولية، فلذلك يروم كثير منهم التوفيق بينها وبين الأحكام الشرعية، وما أكثر هذا الضرب الرديء في زماننا لا كثرهم الله.
وقد وردت أحاديث كثيرة أخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمغازي المسلمين من بعده وفتوحاتهم، وهي من الأدلة على مشروعية ابتداء المشركين وأهل الكتاب بالقتال على الإسلام، وإن لم يتقدم منهم اعتداء على المسلمين ولا وقوف في طريق الدعاة.
فمن ذلك: ما رواه أبو داود في سننه، عن أبي أيوب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ستفتح عليكم الأمصار، وستكون جنود مجندة» الحديث.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» هذا لفظ أحمد ومسلم.
ولفظ الترمذي: «ألا إن الله سيفتح لكم الأرض وستكفون المؤنة، فلا يعجزن أحدكم أن يلهو بأسهمه» .
ومنها: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعة، والحاكم
في مستدركه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم، فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر» وذكر تمام الحديث، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
ومنها: ما رواه مسلم، وأهل السنن إلا النسائي، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض» الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي المسند، من حديث شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
قال النووي: قال العلماء: المراد بالكنزين الذهب والفضة، والمراد كنز كسرى وقيصر ملكي العراق والشام.
ومنها: ما في الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفس محمد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله» .
وفيهما أيضًا، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
ولمسلم عنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لتفتحن عصابة من المسلمين، أو من المؤمنين كنز آل كسرى الذي في الأبيض» .
وروى الإمام أحمد، والبخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه، عن
عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتفتحن لكم الشام، ثم لتقسمن كنوز فارس والروم
…
» الحديث. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
ومن المعلوم أن المسلمين هم الذين ساروا إلى الفرس والروم في ديارهم، وإلى غيرهم من أمم الكفر والضلال في مشارق الأرض ومغاربها، فدعوهم إلى الإسلام، وقاتلوا من أبى منهم الدخول فيه أو بذل الجزية، وسبوا ذراريهم، وغنموا أموالهم وأنفقوها في سبيل الله كما أخبرهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف عن أحد من تلك الأمم التي ظهر عليها المسلمون أنهم ساروا قبل ذلك إلى البلاد العربية يريدون قتال المسلمين والتضييق عليهم ومنعهم من بعث الدعاة إلى الإسلام، حتى يكون قتال المسلمين إياهم دفاعا كما زعمه صاحب المقال، وإنما الأمر كان بالعكس؛ فالمسلمون هم الذي ساروا إلى أعداء الله تعالى في ديارهم، وقاتلوهم على الإسلام، وضيقوا عليهم المسالك، فقاتلهم المشركون دفاعًا عن أنفسهم وأموالهم، فما نفعهم ذلك شيئًا، وكانت العاقبة بالنصر والتمكين لأولياء الله وحزبه، كما وعدهم بذلك نبيهم الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجة، والبخاري في تاريخه، عن نافع بن عتبة بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقاتلون جزيرة العرب فيفتحها الله لكم، ثم تقاتلون فارس فيفتحها الله لكم، ثم تقاتلون الروم فيفتحها الله لكم، ثم تقاتلون الدجال فيفتحه الله لكم» .
وقد رواه ابن جرير، وابن عبد البر من طريقه، والحاكم في مستدركه، من حديث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يظهر المسلمون على جزيرة العرب، ويظهر المسلمون على فارس، ويظهر المسلمون على الروم، ويظهر المسلمون على الأعور الدجال» .
وفي قوله: «تقاتلون جزيرة العرب، ثم تقاتلون فارس، ثم تقاتلون الروم» إشارة إلى أن المسلمين هم الذين يبدءون هذه الأمم بالقتال على الإسلام، وقد وقع الأمر طبق ما في هذا الحديث، وسيقع ما أخبر به من قتال الدجال والظهور عليه، قال الله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
ومنها: ما رواه النسائي في سننه، عن أبي سكينة -رجل من المحررين- عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر -فذكر الحديث في ضرب النبي صلى الله عليه وسلم إياها ثلاث مرات حتى ذهبت وفيه- قال سلمان رضي الله عنه: يا رسول الله، رأيتك حين ضربتَ، ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا سلمان رأيت ذلك؟!» فقال: إي والذي بعثك بالحق يا رسول الله، قال:«فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني» ، قال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله، أدع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم، ويخرب بأيدينا بلادهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، «ثم ضربت الضربة الثانية فرفعت لي
مدائن قيصر وما حولها، حتى رأيتها بعيني»، قالوا: يا رسول الله، ادع الله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ويخرب بأيدينا بلادهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، «ثم ضربت الضربة الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:«دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» .
وقد روى أبو داود في سننه طرفا منه وهو قوله: «دعوا الحبشة
…
» إلى آخره.
ومنها: ما رواه أبو داود وابن ماجة في سننيهما، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: «إنها ستفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتًا يقال لها الحمامات
…
» الحديث.
ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه، عن أم حرام رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا» قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله، أنا فيهم؟ قال:«أنت فيهم» ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: «لا» .
ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا» .
والباقي بنحوه.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الهند، فإن أدركتها أنفق نفسي ومالي، فإن أقتل كنت من أفضل الشهداء، وإن أرجع فأنا أبو هريرة المحرر.
وفي رواية لأحمد قال: حدثني خليلي الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه يكون في هذه الأمة بعث إلى السند والهند
…
» وذكر بقيته بنحوه وزاد: «قد أعتقني من النار» وهذه الزيادة تبين معنى قوله المحرر.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، والطبراني وغيرهم، عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار، عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام» .
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن جرير، وأبو بكر الآجري، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام- أنه يقاتل الناس على الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام.
وهذا الحديث يدل على أن مشروعية ابتداء المشركين بالقتال لا تزال باقية ما بقي المسلمون، وعلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان يسير على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال أصناف المشركين حتى لا يبقى إلا الإسلام، وعلى أنه يتخذ القوة لقتال أعداء الله تعالى؛ لأن اتخاذ القوة من اللوازم الضرورية للقتال، وعلى أنه لا يخص بالقتال المعتدين من
الكفار دون غيرهم، بل يقاتلهم جميعًا، وعلى أن مسالمة الكفار ومتاركتهم ليست من أمور الإسلام، وما كان من ذلك في أول الإسلام فإنه منسوخ بآية السيف وغيرها من آيات براءة، ويستثنى من ذلك عقد الهدنة على مدة معلومة كما تقدم تقريره قريبا، والله أعلم.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، وأبو نعيم في الحلية، عن عبد الله بن السعدي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، متى تنقطع الهجرة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار» .
ومنها: ما رواه الإمام أحمد أيضا، والنسائي، والبخاري في تاريخه، عن سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال:«كذبوا، الآن جاء القتال، ولا تزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله» وذكر تمام الحديث. وهذا لفظ النسائي.
وقوله: «أذال الناس الخيل» معناه: أنهم سيَّبوها كما تدل على ذلك رواية الإمام أحمد.
وقال أبو السعادات ابن الأثير: الإذالة: الإهانة والابتذال.
ومنها: ما في صحيح مسلم، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة» .
ومنها: ما في صحيحه أيضا، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة
…
» الحديث.
ومنها: ما في صحيحه أيضًا، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» .
ومنها: ما في سنن أبي داود، ومستدرك الحاكم، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
ومنها: ما في سنن أبي داود أيضًا، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل» .
ومنها: ما رواه أبو نعيم في الحلية، من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الجهاد ماض إلى يوم القيامة، لا ينقض ذلك جور جائر ولا عدل عادل» .
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أن قتال الكفار على الإسلام
مشروع إلى قرب قيام الساعة.
وفيها الرد على صاحب المقال وأشباهه، من المثبطين الذين يُرغِّبون المسلمين في مسالمة أعداء الله تعالى ومتاركتهم أبدًا، موافقة لما تقتضيه الحرية الإفرنجية، التي قد فشت في أكثر الأقطار الإسلامية، وعظم شرها وضررها على الشريعة المحمدية، فالله المستعان.
وأما قول صاحب المقال: إن الإسلام لا يجيز مطلقا أن يتخذ المسلمون القوة من سبل الدعوة إلى دينهم، فهو كذب منه على الإسلام، يرده قول الله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، ويرده أيضًا آية السيف وغيرها من الآيات التي أمر الله فيها بقتال المشركين وأهل الكتاب، فإن كل آية منها تقتضي الأمر باتخاذ القوة للقتال؛ لأن القتال لا يُستَطَاع بدون القوة، فالأمر بها ضمنًا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما هو مقرر عند الأصوليين، والله أعلم.
ويرده أيضًا ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن إلا النسائي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» .
ويرده أيضا ما تقدم قريبا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك
له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي
…
» الحديث رواه الإمام أحمد وغيره.
ويرده أيضاً ما رواه ابن ماجة في سننه، والأثرم واللفظ له، عن عليِّ رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوكأ على قوس له عربية إذ رأى رجلاً معه قوس فارسية فقال: «ألقها فهي ملعونة، ولكن عليكم بالقسي العربية، وبرماح القنا، فبها يؤيد الله الدين، وبها يمكن لكم في الأرض» .
وروى الطبراني، من حديث عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ويرده أيضا ما في الصحيحين، والمسند، والسنن إلا ابن ماجة، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، ينفق على أهله منها نفقة سنته، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.
ويرده أيضا ما رواه النسائي في سننه، عن الحسن بن مسلم قال: اختلفوا في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سهم الرسول، وسهم ذي القربى، فقال قائل: سهم الرسول صلى الله عليه وسلم للخليفة من بعده، وقال قائل: سهم ذي القربى لقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال قائل: سهم ذي القربى لقرابة الخليفة، فاجتمع رأيهم على أن جعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكانا في ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ويرده أيضًا ما رواه البخاري في التفسير من صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه -
موقوفًا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام.
ورواه في الجهاد من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» .
وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل» .
ورواه ابن حبان في صحيحه ثم قال: والقصد في هذا الخبر السبي الذين يسبيهم المسلمون من دار الشرك مُكتّفين في السلاسل يقادون بها إلى دور الإسلام حتى يسلموا فيدخلوا الجنة. انتهى.
وقد قرر هذا المعنى أيضاً ابن الجوزي أحسن تقرير فقال: معناه أنهم أُسروا وقُيدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعًا فدخلوا الجنة، فكان الإكراه على الأسر والتقييد هو السبب الأول، وكأنه أطلق على الإكراه التسلسل، ولما كان هو السبب في دخول الجنة أقام المسبب مقام السبب. انتهى.
وفي المسند، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «عجبت من قوم يُقادون في السلاسل إلى الجنة» .
وفي المسند أيضًا، عن سهل بن سهل الساعدي رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالخندق فأخذ الكِرْزين فحفر به، فصادف حجرًا فضحك، قيل:
ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ضحكت من ناس يؤتى بهم من قبل المشرق في النكول يساقون إلى الجنة» .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون من بعده، وأمراء المسلمين من بعدهم يعدون ما استطاعوا من القوة لقتال أعداء الله، وإرهاب القريب والبعيد منهم بذلك؛ امتثالاً لما أمرهم الله به في قوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية، وكانوا يجعلون القوة ردءا للدعوة إلى الإسلام، فكل قوم بلغتهم الدعوة الإسلامية فلم يقبلوها ولم يبذلوا الجزية إن كانوا ممن تؤخذ منهم الجزية فإنهم يهاجمونهم بما أعدوا لهم من القوة حتى يضطروهم إلى القتل أو الأسر أو الهرب، وهذا معلوم من سيرتهم مع أعداء الله تعالى، ولا ينكره إلا جاهل أو مكابر معاند، وقد جعل الله لهم في اتخاذ القوة خيرًا كثيرا ونصرهم وظفرهم، وفتح لهم مشارق الأرض ومغاربها، ومكن لهم في الأرض، وأظهرهم على الأمم الكثيرة من أعداء الإسلام، ومنحهم أكتافهم، وملكهم رقابهم، يقتلون فريقًا منهم ويأسرون فريقًا آخر، حتى اتسعت رقعة الإسلام ودخل فيه من تلك الأمم ما لا يحصيه إلا الله تعالى.
وكثير منهم إنما دخلوا في الإسلام بسبب القوة التي غلبتهم على أنفسهم، وأوقعتهم أسارى في أيدي المسلمين، فصار ذلك سببا لمعرفتهم الإسلام، ورغبتهم الدخول فيه باختيار منهم، وظهر بذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم:«عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل» .
وليس العجب من صاحب المقال في تعاميه عن هذه الأمور الجلية،
ومعارضته لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ومكابرته في إنكار ما هو معلوم بالضرورة، وإنما العجب من الذين يثقون به وبأشباهه، ويأتمنونهم على التعليم وغيره، فالله المستعان.
فصل
وقد زعم صاحب المقال أن شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيمية قدس الله روحه يوافقه على الرأي الذي شذ به هو وأشباهه عن جماعة المسلمين؛ قال في آخر مقاله: وهذا الرأي الأخير أعني القائل بأن الحرب للدفاع عن الدعوة ضد المعتدين عليها هو الرأي المعقول المقبول، فليس مما يشرف الدعوة الإسلامية أو أية دعوة أخرى أن تتخذ القوة وسيلة لنشرها، وإرغام الناس على قبولها، وهو الرأي الذي تتفق معه نظرة علماء القانون الدولي في الأساس الذي تبني الدول عليه علاقاتها بعضها ببعض، وهو الرأي الذي يرى ابن تيمية فيه أنه هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار. هذا كلام صاحب المقال.
ويفهم من فحواه أنه يحوم حول الاعتراض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين- في اتخاذهم القوة لجهاد الكفار على الإسلام، ولا سيما في قوله: فليس مما يشرف الدعوة
…
إلى آخر العبارة، فإنه يكاد أن يكون صريحًا في الاعتراض؛ ولهذا سوى بين اتخاذهم القوة لإعلاء كلمة الله تعالى وبين اتخاذ غيرهم القوة لإعلاء باطلهم وكلمتهم؛ فالكل في ظاهر كلامه على حد سواء، وهذا ينبئ عن خبث طوية وعقيدة سيئة، وقد تقدم له غير ذلك مما نبهت عليه في أول الفصل.
وأما ما نسبه إلى شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فالظاهر والله أعلم أنه مكذوب على الشيخ، وليس صاحب المقال هو الذي
كذب عليه؛ ولكنه اغتر برسالة منسوبة إلى الشيخ يظهر لمن تأملها من ذوي العلم والفهم أنها ليست من تصانيفه لمناقضتها لما قرره في كثير من كتبه، وقد حدثنا بعض المشايخ أن شيخه العلامة المحقق سليمان بن سحمان قدس الله روحه وقف على تلك الرسالة فرد عليها ردًا جيدًا، أكثره من كلام شيخ الإسلام وتقريراته، ونكتفي في رد ما ذكره صاحب المقام هنا بكلام للشيخ قدس الله روحه في أجوبة له ثلاثة:
قال في إحداها:
كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين؛ وإن تكلمت بالشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة، وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها؛ مثل أن يظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته، أو التكذيب بأسماء الله وصفاته، أو التكذيب بقدره وقضائه، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي
توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور، قال الله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين لله.
وقال في الجواب الثاني:
اتفق علماء المسلمين على أن الطائفة الممتنعة إذا امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها؛ فإذا تكلموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة أو الزكاة أو صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق، أو عن الحكم بينهم بالكتاب والسنة، أو عن تحريم الفواحش أو الخمر أو نكاح ذوات المحارم، أو عن استحلال النفوس والأموال بغير حق، أو الربا أو الميسر أو الجهاد للكفار، أو عن ضربهم الجزية على أهل الكتاب ونحو ذلك من شرائع الإسلام؛ فإنهم يقاتلون عليها حتى يكون الدين كله لله.
وقال في الجواب الثالث:
أيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر أو الزنا أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء. انتهى.
فانظر إلى توافق كلام الشيخ قدس الله روحه في هذه الأجوبة الثلاثة، وتصديق بعضه بعضًا، وانظر إلى تصريحه بوجوب جهاد الكفار إلى أن يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإنه صريح في وجوب قتال الطلب دفعًا لمفسدة الكفر، وصريح أيضًا في رد ما ذكره صاحب المقال عنه أنه لا يرى الحرب إلا للدفاع عن الدعوة ضد المعتدين عليها.
وتأمل ما ذكره من الاتفاق على وجوب قتال الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، ومنها جهاد الكفار على الإسلام وضرب الجزية على أهل الكتاب.
وتأمل أيضا قوله: فإذا كان بعض الدين لله، وبعضه لغير الله، وجب القتال حتى يكون الدين كله لله.
وتأمل أيضًا ما صرح به من تكفير الجاحد لوجوب شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، ومنها جهاد الكفار على الإسلام، وضرب الجزية على أهل الكتاب، فكل جملة من هذه الجمل ترد ما نسب إليه من القول بأنه لا يرى الحرب إلا للدفاع عن الدعوة ضد المعتدين عليها.
وكلام الشيخ قد الله روحه في وجوب جهاد الكفار على الإسلام كثير في مواضع من كتبه، وفيما ذكرنا ههنا كفاية إن شاء الله تعالى.
وتأمل قوله في الجواب الأول: إن الطائفة الممتنعة إذا أظهرت التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين فإنها تقاتل على ذلك، وكذلك إذا أظهرت الطعن في السابقين الأولين من
المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
ثم تأمل سيرة المسلمين مع الكفار على عهد الخلفاء الراشدين؛ فإنهم كانوا يقاتلونهم على الإسلام، لا فرق عندهم بين المعتدين منهم وغير المعتدين، وكانوا يبدءونهم بالقتال إذا لم يقبلوا الدعوة الإسلامية، أو يبذلوا الجزية إن كانوا من أهل الكتاب ونحوهم، وكانوا يتخذون القوة لقتال أعداء الله، وكانوا يستحلون دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم، وكانوا لا يسالمون أحدًا منهم ويتاركونه إلا بجزية يبذلها لهم، أو في هدنة لمصلحة المسلمين.
وكل هذه الأمور المعروفة عنهم ينكر صاحب المقال جوازها، والظاهر من كلامه أنه يكذب بها، فكلامه دائر بين التكذيب بسيرة المسلمين مع أعداء الله، وبين الطعن عليهم فيما يفعلونه مما زعم أن الإسلام لا يجيزه، فعلى ما قرره شيخ الإسلام قدس الله روحه في الجواب الأول ينبغي استتابة صاحب المقال؛ وتأديبه بما يليق بجرمه، وأنه لو كان في جماعة ممتنعة يرون رأيه وجب قتالهم حتى يتوبوا عن رأيهم الفاسد الذي شذوا به عن جماعة المسلمين وعارضوا به نصوص القرآن والسنة، والله المسؤول أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويقيم لدينه حماة يجاهدون المبطلين بالحجة والبرهان، ويجالدون المعاندين بالسيف والسنان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
فصل
وأما استدلال صحاب المقال على رأيه بالآيات الأربع المذكورات مع كلامه في أول الفصل الذي قبل هذا الفصل، فهو استدلال غريب لا نعلم أن أحدًا من أئمة التفسير سبقه إليه؛ لا من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من أئمة العلم والهدى من بعدهم، إذ ليس أحد منهم يرى مسالمة الكفار ومتاركتهم بدون جزية يبذلونها للمسلمين إن كانوا من أهل الجزية، أو مهادنة يعقدها المسلمون بينهم وبين أعداء الله، وإنما يرى ذلك صاحب المقال وأشباهه من المتأثرين بالحرية الإفرنجية والقوانين الدولية، الحائمين حول إبطال الجهاد في سبيل الله بالكلية، فلذلك يحملون الآيات على غير محاملها وما يراد بها، ويتأولونها على غير تأويلها المأثور عن علماء التفسير من أكابر السلف وأئمة الخلف، وليس لصاحب المقال في الآيات المذكورات ما يتعلق به.
أما على قول من قال بنسخهن، ونسخ ما أشبههن بآية السيف التي في سورة براءة فظاهر، وقد تقدم ما نقله البغوي عن الحسين بن الفضل في ذلك، وما نقله ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما، والضحاك بن مزاحم.
وأما على قول من لم ير النسخ فإحكام هذه الآيات معروفة عند علماء السنة سلفًا وخلفًا، وليس فيها ما يوافق رأي صاحب المقال وأشباهه.
فأما الآية الأولى وهي قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] فقد ذكر ابن كثير وغيره فيها قولين عن العلماء:
أحدهما: أنها محمولة على أهل الكتاب، ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل، إذا بذلوا الجزية.
قال البغوي: قال قتادة وعطاء: نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام، فلما أسلموا طوعًا وكرهًا أنزل الله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية، فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام. انتهى.
والقول الثاني: أنها منسوخة بآية السيف.
قال البغوي رحمه الله تعالى: وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه.
وأما آية النساء وهي قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} إلى قوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90] ففيها قولان أيضًا:
أحدهما: أن المسلمين إذا عقدوا بينهم وبين قوم من الكفار مهادنة، أو عقدوا لقوم من أهل الكتاب ذمة، فإن حكم من يلجأ إليهم من غيرهم كحكمهم.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا قول السدي، وابن زيد، وابن جرير.
والقول الثاني أنها منسوخة؛ قال ابن كثير: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نسخها قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] الآية.
وأما آية الأنفال وهي قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}
[الأنفال: 61] ففيها أيضًا قولان:
أحدهما: أنها دالة على مشروعية المصالحة والمهادنة مع المشركين إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين.
اختار هذا القول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو ظاهر اختيار البخاري رحمه الله تعالى، قال في آخر كتاب الخمس من صحيحه: باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره وإثم من لم يف بالعهد.
وقوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} قال الحافظ ابن حجر: معنى الشرط في الآية أن الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الأحظ للإسلام المصالحة، أما إذا كان الإسلام ظاهرًا على الكفر ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا. انتهى.
والقول الثاني: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة، والحسن، وقتادة، ذكره عنهم الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، وذكره البغوي عن الحسن وقتادة.
وأما آية الممتحنة وهي قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، فإنها دالة على جواز البر والإحسان إلى ضعفة المعاهدين؛ كالنساء والصبيان ونحوهم ممن ليس من أهل الشوكة والقتال، ولا سيما إذا كان الضعفة من الأقارب كما يرشد إلى ذلك سبب نزول الآية الكريمة،
وقد استدل بها البخاري رحمه الله تعالى على جواز الهدية للمشركين.
وقال أيضًا: باب صلة الوالد المشرك، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا هشام بن عروة، أخبرني أبي، أخبرتني أسماء ابنة أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: أصلها؟ قال: «نعم» . قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى فيها {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} .
وقال الشافعي في مسنده: أخبرنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: أتتني أمي راغبة في عهد قريش، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصلها؟ قال: «نعم» .
وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم، من حديث أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، قدمت علي أمي وهي راغبة، أَفَأَصِل أمي؟ قال:«نعم، صِلي أمك» .
ورواه أبو داود في سننه، من حديث عيسى بن يونس، عن هشام بنحوه، وترجم عليه بقوله: باب الصدقة على أهل الذمة. وهذا من قوة فقهه ودقة فهمه رحمه الله تعالى، يعني أنه إذا جاز بر المعاهدين والصدقة عليهم فبر أهل الذمة والصدقة عليهم جائز كذلك وأولى.
وقد رواه الإمام أحمد في مسنده، عن أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بنحو رواية
الصحيحين.
وروى الإمام أحمد أيضًا، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وغيرهم، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بهدايا ضباب وقرظ وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى آخر الآية، «فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها» .
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وزاد ابن أبي حاتم: إنها قدمت في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قيل: إن الآية منسوخة.
قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ.
وقال قتادة: نسخ بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وقريب من هذا قول الحسن: إنها خاصة بحلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بينه وبينه عهد.
فهذه أقوال المفسرين في الآيات الأربع، ليس فيها ما يوافق رأي صاحب المقال وأشباهه فيما شذوا به عن المسلمين وأرادوا به التوفيق بين الأحكام الشرعية في الجهاد وبين آراء أعداء الله وقوانينهم.
والمقصود ههنا التحذير من هذا المقال وغيره من مقالات المتهوكين
وآرائهم وتخرصاتهم؛ فإن كثيرًا منها مأخوذ من آراء الإفرنج، وأمثالهم من أمم الكفر والضلال، وما تقتضيه قوانينهم وحريتهم ومدنيتهم.
وقد روى مسلم في مقدمة صحيحه، والبخاري في التاريخ الكبير، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم» .
وفي رواية لمسلم: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم» ولا يبعد أن يكون صاحب المقال ممن أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح، والله أعلم.
فصل
ونذكر ههنا مسألتين مهمتين من المسائل المتعقلة بالجهاد، ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين للعمل بهما، وأن يعيذهم من اتِّباع شياطين الإنس والجن الداعين إلى التهاون بهما.
إحداهما:
الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
وألحق جماعة من العلماء بدار الكفر دار البغاة ودار البدع المضلة كالرفض والاعتزال.
وألحق آخرون بذلك أيضًا دار المعاصي إذا لم يقدر على تغييرها.
قال البغوي رحمه الله تعالى: يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث تتهيأ له العبادة، قال: وقال سعيد بن جبير: إذا عمل في الأرض بالمعاصي فاخرجوا منها، فإن أرض الله واسعة.
قلت: وقد رواه أبو نعيم في الحلية بإسناده عنه.
وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يهلك الناس هذا الحي من قريش» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «لو أن الناس اعتزلوهم» .
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): يؤخذ من هذا الحديث استحباب هجران البلدة التي يقع فيها إظهار المعصية، فإنها سبب وقوع الفتن التي ينشأ عنها عموم الهلاك.
قال ابن وهب، عن مالك: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارًا، وقد صنع ذلك جماعة من السلف. انتهى.
وفي المسند، وسنن أبي داود، والكنى للبخاري، عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» .
وفي المسند أيضًا، وسنن النسائي، وصحيح ابن حبان، والحلية لأبي نعيم، عن عبد الله بن السعدي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، متى تنقطع الهجرة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار» .
قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في كتاب (المغني): الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار؛ فهذا تجب عليه الهجرة لقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب؛ ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه لقول
الله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 98]، ولا توصف باستحباب لأنها غير مقدور عليها.
والثالث: من تستحب له، ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامته في دار الكفر، فتستحب له ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة. انتهى.
قال في (الفروع): وذكر ابن الجوزي أنها تجب عليه -يعني على هذا الضرب الأخير- قال: وأطلق ذلك. انتهى.
قلت: وهذا الذي ذكره ابن الجوزي جيد قوي، يدل عليه ظاهر القرآن والأحاديث الآتية.
أما القرآن فإن الله تعالى لم يعذر عن الهجرة إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ولو كان للقوي القادر على إظهار دينه في دار الكفر عذر لعذره الله تعالى كما عذر المستضعفين، وقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فقطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، فدل على أنه لا عذر إلا للمستضعفين الذين نص عليهم في سورة النساء.
وأما الأحاديث: فالأول ما رواه أبو داود في سننه، عن سمرة بن جندب
- رضي الله عنه قال: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» .
ورواه الترمذي في جامعه معلقًا بصيغة الجزم فقال: وروى سمرة بن جندب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تساكنوا المشركين، ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم» .
ورواه الحاكم في مستدركه موصولا من حديث الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا» قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ورمز الحافظ الذهبي في تلخيصه إلى أنه على شرط الشيخين.
وظاهر هذا الحديث العموم لكل من جامع المشركين وساكنهم اختيارًا منه لذلك لا اضطرارًا وعجزًا.
الحديث الثاني: عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال:«لا ترآءى ناراهما» رواه أبو داود، والترمذي بهذا اللفظ.
ورواه الطبراني في الكبير، والبيهقي في سننه بلفظ:«من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة» .
قال الفضل بن زياد: سمعت أحمد رحمه الله تعالى يُسأل عن معنى «لا ترآءى ناراهما» فقال: لا تنزل من المشركين في موضع إذا أوقدتَ رأوا فيه
نارك، وإذا أوقدوا رأيت فيه نارهم، ولكن تباعد عنهم.
قلت: وفي هذين الحديثين وعيد شديد لمن جامع المشركين وساكنهم اختيارًا، فليحذر المسلمون المقيمون بين الوثنيين، والمرتدين، والنصارى، والمجوس وغيرهم من أعداء الله تعالى أن يلحقهم هذا الوعيد الشديد، وكذلك ليحذروا أن يلحقهم الوعيد الشديد المذكور في سورة النساء.
الحديث الثالث: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تستضيئوا بنار المشركين» رواه الإمام أحمد، والبخاري في تاريخه، والنسائي، وأبو يعلى.
قال بعض العلماء: معناه: لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم، بل تباعدوا منهم وهاجروا من بلادهم.
وقال أبو السعادات ابن الأثير: معناه لا تستشيروهم ولا تأخذوا بآرائهم، جعل الضوء مثلاً للرأي عند الحيرة.
قلت: وهذا القول مروي عن الحسن البصري.
وعنه أيضا أنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعان بالمشركين على شيء.
والظاهر أن النهي شامل للأمرين كليهما، فلا يجوز للمسلم مساكنة المشركين اختيارًا، ولا مشاورتهم وأخذ آرائهم، والقول الأول أظهر، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تراءى نارهما» ، وقوله في حديث الزهري:«وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب» والله أعلم.
الحديث الرابع: عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله من مشرك بعد ما يسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين» رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
الحديث الخامس: عن يزيد بن الشخير قال: بينا أنا مع مطرف بالمربد، إذ دخل رجل معه قطعة أدم قال: كتب لي هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل أحد منكم يقرأ؟ قال: قلت: أنا أقرأ، فإذا فيها:«من محمد النبي صلى الله عليه وسلم لبني زهير بن أقيش أنهم إن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وفارقوا المشركين، وأقروا بالخُمس في غنائمهم وسهم النبي وصفيه؛ أنهم آمنوا بأمان الله ورسوله» رواه الإمام أحمد، والنسائي.
الحديث السادس: عن جرير رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فراق المشركين» رواه النسائي.
وفي رواية له قال جرير: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع فقلت: يا رسول الله، أبسط يدك حتى أبايعك، واشترط علي فأنت أعلم، قال:«أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين» .
الحديث السابع: عن أبي اليسر كعب بن عمرو رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس فقلت: يا رسول الله، أبسط يدك حتى أبايعك، واشترط علي فأنت أعلم بالشرط، قال:«أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلم، وتفارق المشرك» رواه الحاكم
في مستدركه.
الحديث الثامن: عن الزهري مرسلاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال:«تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب» رواه ابن جرير.
فليتأمل المسلمون الساكنون مع أعداء الله تعالى هذا الأحاديث، وليعطوها حقها من العمل، فقد قال الله تعالى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17 - 18].
فصل
المسألة الثانية: منع المشركين واليهود والنصارى من السكنى في جزيرة العرب، وإخراج من كان منهم ساكنًا فيها؛ عملاً بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته من إجلائهم عنها، مؤكدا عزمه على ذلك بالقسم كما في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أخبرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع إلا مسلمًا» .
ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي رواية لأحمد، والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لئن عشت -إن شاء الله- لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» .
زاد أحمد: «حتى لا أترك فيها إلا مسلمًا» .
ولما عاجلت المنية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فعل ما عزم عليه أوصى أمته أن تفعل ذلك بعد موته؛ كما في الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث:«أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» ونسيت الثالثة.
وفي المسند أيضًا، عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» .
ورواه البخاري في التاريخ الكبير مختصرًا.
وفي المسند أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» .
وفي الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نقركم بها على ذلك ما شئنا» فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه إلى تيماء وأريحاء.
وروى أبو داود في سننه، عن مالك أنه قال: عمر أجلى أهل نجران ولم يجلوا من تيماء لأنها ليست من بلاد العرب، فأما الوادي -يعني وادي القرى- فإني أرى إنما لم يجل من فيها من اليهود أنهم لم يروها من أرض العرب.
وروى أبو داود أيضًا، عن مالك أنه قال: قد أجلى عمر يهود نجران وفدك.
وروى أبو داود أيضا، عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: جزيرة العرب ما بين الوادي -يعني وادي القرى- إلى أقصى اليمين إلى تخوم العراق إلى البحر.
وقال الأصمعي: هي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام.
وقال أبو عبيدة، وأبو عبيد، والجوهري وغيرهم: جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى الأشعري رضي الله عنه إلى أقصى اليمن في الطول، وفي العرض ما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة.
قال الخليل: إنما قيل لها جزيرة؛ لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها، ونسبت على العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها.
وقال الأزهري: سميت جزيرة؛ لأن بحر فارس وبحر السودان أحاطا بجانبيها، وأحاط بالجانب الشمالي دجلة والفرات.
وقال البخاري في صحيحه: قال يعقوب بن محمد: سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب، فقال: مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): وأخرجه يعقوب بن شبَّة، عن أحمد بن المعدل، عن يعقوب بن محمد، عن مالك بن أنس مثله. انتهى.
وحكى غيره عن مالك أنه قال: جزيرة العرب هي الحجاز، واليمن، واليمامة، وما لم يبلغه ملك فارس والروم.
وحكى الشيخ أبو محمد المقدسي في (المغني) عن أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: جزيرة العرب المدينة وما والاها.
قال الشيخ: يعني أن الممنوع من سكنى الكفار المدينة وما والاها، وهي مكة، واليمامة، وخيبر، والينبع، وفدك، ومخاليفها،، وما والاها، وهذا قول الشافعي.
وقال النووي في شرح مسلم: أخذ بحديث «أخرجوا المشركين من
جزيرة العرب» مالك، والشافعي، وغيرهما من العلماء، فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب، وقالوا: لا يجوز تمكينهم من سكناها، ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب، وهو الحجاز، وهو عنده مكة، والمدينة، واليمامة وأعمالها، دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب، بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه.
قال العلماء: ولا يُمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز، ولا يُمكّنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام.
قال الشافعي وموافقوه: إلا مكة وحرمها، فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال، فإن دخل في خفية وجب إخراجه، فإن مات ودفن فيه نبش وأخرج ما لم يتغير، هذا مذهب الشافعي وجماهير الفقهاء.
وجوز أبو حنيفة دخولهم الحرم.
وحجة الجماهير قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] والله أعلم. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى.
وما ذكره عن الشافعي من تخصيص الحكم ببعض جزيرة العرب مردود بعمومات الأحاديث الصحيحة التي تقدمت في أول الفصل، والله أعلم.
وهذه المسائل التي ذكرها النووي في شرح مسلم قد ذكرها الشيخ أبو محمد المقدسي مستوفاة بأدلتها وتعاليلها في كتاب الجزية من (المغني)، وذكر أيضا ما يتعلق بها من المسائل مما لم يذكره النووي، وكذا ذكرها غيره من أصحابنا وغيرهم من العلماء، فمن أراد الوقوف على ذلك فهو سهل يسير بحمد الله تعالى.
وإذا عرف ما ذكرنا ههنا من الأحاديث، وكلام الأئمة، فالواجب على ولاة أمور المسلمين تنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين من جزيرة العرب، فلا يتركون فيها وثنيًا، ولا يهوديًا، ولا نصرانيا، ولا مجوسيًا، ولا غيرهم من أعداء الله تعالى، وليحذر ولاة أمور المسلمين من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتهاون به، فقد قال الله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، ولا يجوز لهم أن يمكنوا المسافرين من أعداء الله تعالى للتجارة أو غيرها من الإقامة في موضع واحد من جزيرة العرب أكثر من ثلاثة أيام، اللهم إلا أن يكون بالمسلمين حاجة ضرورية إلى أحد منهم لمباشرة عمل يعجز عنه المسلمون فيُمكّن المباشرون له من الإقامة بقدر الحاجة ثم يخرجون.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية، إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر، قال الشيخ: وفي هذه المسألة نزاع. انتهى.
والله المسؤول أن يوفق ولاة أمور المسلمين، ورعاياهم للعمل بكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يوفق الولاة للسير على منهاج الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، إن ربي لسميع الدعاء قريب مجيب.
فصل
ومن أعظم أسباب اغتراب الإسلام ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أكثر الأقطار الإسلامية، وضعف جانبه في البلاد التي فيها أمر ونهي، فأما الأقطار التي قد غلبت فيها
…
…
هذا آخر ما وجد بخط الوالد رحمه الله من هذا الكتاب المبارك.
وقد تمَّ مقابلة وتصحيحًا على أصله، مع مراعاة ما أشار إليه رحمه الله تعالى من الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير.
وكان الفراغ من ذلك آخر ساعة من يوم الجمعة المبارك، لثلاث خلت من شهر رجب المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة بعد الألف من هجرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، بمكة المكرمة، قبالة الكعبة زادها الله تشريفًا.
وكتب/
عبد الكريم بن حمود بن عبد الله التويجري