المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما - فتح الباري بشرح البخاري - ط السلفية - جـ ١

[ابن حجر العسقلاني]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

أما بعد فإنه لما قلت النسخ المطبوعة من فتح الباري في المكاتب التجارية وعز على القارئ تحصيله، رغب إليَّ جم غفير من القراء أن أتوسط في طبعه مرة أخرى على نفقة الراغبين في طبعه ليسهل تناوله، ويعم النفع به.

وذلك لما لهذا الكتاب الجليل من المنزلة الرفيعة بين أهل العلم، لما اشتمل عليه من إيضاح ما أشكل في الجامع الصحيح، وتخريج ما فيه من الأحاديث والآثار المعلقة، وبيان كثير من مسائل الإجماع والخلاف المتعلقة بأحاديث الكتاب، والتنبيه على كثير من أوهام بعض شراح الجامع الصحيح وغيرهم، وغير ذلك من الفوائد الكثيرة، والفرائد النادرة التي اشتمل عليه هذا الشرح العظيم. فبادرت إلى تحقيق هذه الرغبة والمساهمة في إبراز هذا الكتاب العظيم الشأن إلى متناول أيدي القراء، وأعلنت ذلك في بعض الصحف المحلية وساهم في ذلك جم غفير من العلماء والقراء وغيرهم.

ولما كانت الطبعات السابقة غير خالية من الأخطاء، رأيت من المصلحة العامة أن أجتهد في المقابلة والتصحيح لهذا الكتاب على ما أمكن من النسخ المعتمدة، وأن أعلق على بعض المواضع التي تمس الحاجة إلى التعليق عليها، حتى تكون إن شاء الله هذه الطبعة أكثر إتقانا وأكمل فائدة من الطبعات السابقة. وأخبرت فضيلة الشيخ أخينا محب الدين الخطيب بهذا العزم وطلبت منه أن يكون طبع هذا الكتاب في مطبعته المطبعة السلفية، فحبذ الفكرة ولبى الطلب ووعد بالاجتهاد في إبراز هذا الكتاب بالمظهر اللائق به، وشجع على مقابلته وتصحيحه قبل الطبع، فقبلت مشورته، واجتهدت في التماس نسخة خطية للمقابلة وتصحيح عليه مع الطبعة الأميرة المطبوعة ببولاق سنة 1300 هـ لكونها أصح الطبعات السابقة.

وبعد السؤال والتنقيب عن نسخ خطية أخبرني الشيخ عبد الرحمن بن محمد آل الشيخ بأن في مكتبة أبيه شيخنا الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله قطعة كبيرة خطية من فتح الباري، فاستعرتها من فضيلته، فتفضل بذلك ضاعف الله ولأبيه المثوبة، فألفيت القطعة المذكورة في مجلدين ضخمين: أحدهما يبتدئ من أول الكتاب وينتهي إلى كتاب الزكاة، والثاني يبتدئ من الأضاحي وينتهي إلى أثناء شرح باب الصراط جسر جهنم وليس في المجلدين المذكورين تاريخ واضح لوقت كتابتهما ولكن ذُكر في المجلد الأول ما نصه: بلغ مقابلة على حسب الطاقة في يوم الجمعة في شهر ذي الحجة سنة 1234 هـ كتبه عبد الله بن أحمد. وذُكر في أول المجلد المذكور ما نصه: وقف الإمام فيصل بن تركي. والناظر عليه الشيخ عبد الرحمن بن حسن، بشهادة الشيخين علي بن حسين ومحمد بن مقرن، وكتبه عبد الله بن جبر سنة 1250 هـ انتهى

ص: 3

وقد بذلتُ كثيرا من الوسع في مقابلة المجلد الأول من الفتح على طبعة الأميرية، وبعد المقابلة على النسختين المذكورتين اتضح أن الطبعة الأميرية قليلة الأخطاء وأما النسخة الخطية فغير سليمة من الأخطاء ولكننا انتفعنا بها كثيرا في تصحيح الأخطاء الواقعة في الكتاب

ولما كان أمر التصحيح عظيما ويحتاج إلى مجهود كبير استعنا في ذلك بنخبة طيبة متبرعة من طلبة العلم في المقابلة والتصحيح ومراجعة المراجع من كتب الحديث والرجال واللغة وغيرها عند الحاجة إليها، وبذلت الوسع في ذلك حرصا على تمام الفائدة للقراء، وإبراز هذا الكتاب على خير ما يرام. وحيث اتفقت النسختان الخطية والأميرية اعتمدنا ما فيهما، ما لم يتضح من المراجع المعتمدة أن الذي في النسخ خلاف الصواب، فإن اتضح ذلك اعتمدنا ما ظهر أنه الصواب، وذلك قليل جدا. ومتى اختلفت النسختان اعتمدنا ما دلت المراجع المعتمدة على أنه الصواب، وحيث اشتبه الصواب في ذلك أوضحنا ما في النسخة الخطية في الهامش وأشرنا إليها بحرفين «ن. خ» . ومتى اشتبه شيء مما اتفقت عليه النسخ ولم يكن في المراجع المعتمدة مما يدل عليها أبقيناه بحاله وكتبنا في الحاشية ما نرجو أنه الصواب بلفظ كذا في النسخ ولعله كذا.

وقد وجدنا للشارح رحمه الله أخطاء لا يحسن السكوت عليها، فكتبنا عليها تعليقا يتضمن تنبيه القارئ على الصواب وتحذير من الخطأ

وبعد الفراغ من مقابلة الجزء الأول وتصحيحه والتعليق عليه يسر الله نسخة خطية كاملة في بعض مكاتب جيزان، وإلى حين التاريخ لم تصل وسنقابل عليها مع النسختين المذكورتين بقية الكتاب إن شاء الله تعالى. وإذا يسر الله أصولا خطية أخرى فيما بعد فسنستفيد منها إن شاء الله في إخراج هذه الطبعة كما يليق بهذا الكتاب النفيس

والله سبحانه المسؤول أن يجعل عملنا هذا موافقا للصواب، وأن يضاعف لنا ولمن ساعدنا عليه جزيل الثواب، وأن يعين على إتمامه على خير ما يرام إنه جواد كريم. وهو أكرم مسؤول

وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم

حرر في 21 من شعبان سنة 1379 هـ

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام بالهدى، ونكت في قلوب أهل الطغيان فلا تعي الحكمة أبداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً أحداً، فرداً صمداً.

وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ما أكرمه عبداً وسيداً، وأعظمه أصلاً ومحتداً، وأطهره مضجعاً ومولداً، وأبهره صدراً ومورداً.

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه غيوث الندى، وليوث العدا، صلاة وسلاماً دائمين من اليوم إلى أن يبعث الناس غدا.

أما بعد فقد آن الشروع فيما قصدت له من شرح الجامع الصحيح، على ما وعدت به في أول المقدمة

(1)

، وكنت عزمت على أن أسوق حديث الباب بلفظه قبل شرحه، ثم رأيت ذلك مما يطول به الكتاب جداً

(2)

فسلكت الآن فيه طريقاً وسطى أرجوا نفعها، كافلة بما اطلعت عليه من ذلك، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

وربما أعدت شيئاً مما تقدم في المقدمة

(1)

لمعنى يقتضيه، إما لبعد العهد به أو لغير ذلك، ولكن اعتمادي غالباً على الحوالة عليها، وسميته:

فتح الباري، بشرح البخاري

وقد رأيت أن أبدأ الشرح بأسانيدي إلى الأصل بالسماع أو بالإجازة، وأن أسوقها على نمط مخترع، فإني سمعت بعض الفضلاء يقول: الأسانيد أنساب الكتب، فأحببت أن أسوق هذه الأسانيد مساق الأنساب فأقول وبالله التوفيق:

اتصلت لنا رواية البخاري عنه من طريق أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري، وكانت وفاته في سنة عشرين وثلثمائة، وكان سماعه للصحيح مرتين: مرة بفربر سنة ثمان وأربعين، ومرة ببخارى سنة اثنتين وخمسين ومائتين.

ومن طريق إبراهيم بن معقل بن الحجاج النسفي، وكان من الحفاظ وله تصانيف، وكانت وفاته سنة أربع وتسعين ومائتين، وكان فاته من الجامع أوراق رواها بالإجازة عن البخاري، نبه على ذلك أبو علي الجياني في تقييد المهمل.

ومن طريق حماد بن شاكر النسوي، وأظنه مات في حدود التسعين، وله فيه فوت أيضاً.

ومن رواية أبي طلحة منصور بن محمد بن علي قرينة بقاف ونون بوزن يسيرة البزدوي بفتح الموحدة وسكون الزاي، وكانت وفاته سنة تسع وعشرين وثلثمائة، وهو آخر من حدث عن البخاري بصحيحه، كما جزم به ابن ماكولا وغيره.

وقد عاش بعده ممن سمع من البخاري القاضي الحسين بن إسماعيل المحاملي ببغداد، ولكن لم يكن عنده الجامع الصحيح، وإنما سمع منه مجالس أملاها ببغداد في آخر قدمة قدمها البخاري، وقد غلط من روى الصحيح من طريق المحاملي المذكور غلطاً فاحشاً.

فصل: فأما رواية الفربري، فاتصلت إلينا عنه من طريق الحافظ أبي علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن، و الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي، و أبي نصر أحمد بن محمد الأخسيكتي، والفقيه أبي زيد محمد بن أحمد المروزي، و أبي علي محمد بن عمر بن شبويه، و أبي أحمد بن محمد الجرجاني، و أبي محمد عبد الله بن أحمد السرخسي، و أبي الهيثم محمد بن مكي الكشميهني، و أبي علي إسماعيل بن محمد بن أحمد بن حاجب الكشاني، وهو آخر من حدث

(1)

يعني كتابه (هدي الساري، بفتح الباري)

(2)

ونحن قد حققنا ذلك في هذه الطبعة، فسقنا حديث الباب بلفظه قبل شرحه ليكون ذلك أعون على فهم الشرح والإلمام بمراميه، وأشرنا بالأرقام إلى أطراف كل حديث، وهي أجزاؤه المتفرقة في مواضع أخرى من صحيح البخاري

ص: 5

بالصحيح عن الفربري.

فأما رواية ابن السكن، فرواها عنه عبد الله بن محمد بن أسد الجهني.

وأما رواية المستملي، فرواها: الحافظ أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي و عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني.

وأما رواية الأخسيكتي، فرواها عنه: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الصفار الزاهد.

وأما رواية أبي زيد، فرواها عنه: الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، و الحافظ أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، والإمام أبو الحسن علي بن محمد القابسي.

وأما رواية أبي علي الشبوي، فرواها عنه: سعيد بن أحمد بن محمد الصيرفي العيار، و عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني أيضاً.

وأما رواية أبي أحمد الجرجاني، فرواها عنه: أبو نعيم و القابسي أيضاً.

وأما رواية السرخسي: فرواها عنه: أبو ذر أيضاً، و ابو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي.

وأما رواية الكشميهني، فرواها عنه: أبو ذر أيضاً، و أبو سهل محمد بن أحمد الحفصي، و كريمة بنت أحمد المروزية.

وأما راوية الكشاني، فرواها عنه: ابو العباس جعفر بن محمد المستغفري.

فصل

فأما رواية الجهني، عن ابن السكن، فأخبرنا بها أبو علي محمد بن أحمد بن علي بن عبد العزيز مشافهة، عن يحيى بن محمد بن سعد وآخرين، عن جعفر بن علي الهمداني، عن عبد الله بن عبد الرحمن الديباجي، عن عبد الله بن محمد بن محمد بن علي الباهلي قال: حدثنا الحافظ أبو علي الحسين بن محمد الجياني في كتاب تقييد المهمل له قال: أخبرني ب صحيح البخاري القاضي أبو عمر أحمد بن محمد بن يحيى بن الحذاء بقراءتي عليه وأبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر الحافظ إجازة قالا: حدثنا أبو محمد الجهني وكان ثقة ضابطاً بسنده.

وأما رواية أبي ذر، عن شيوخه الثلاثة، فقرئ على ابي محمد عبد الله بن محمد، بن محمد بن سليمان المكي بها وأنا أسمع وأجاز لي ما فاتني منه قال: أنبأنا إمام المقام، أبو أحمد إبراهيم بن محمد بن أبي بكر الطبري، أنبأنا أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي حرمي المكي سماعاً عليه بجميعه سوى من قوله: باب {وإلى مدين أخاهم شعيبا} إلى قوله: باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فإجازة، أنبأنا أبو الحسن علي بن حميد بن عمار الطرابلسي أبنأنا أبو مكتوم عيسى بن الحافظ أبي ذر عبد الله بن أحمد الهروي، أنبأنا أبي.

وأما رواية عبد الرحمن الهمداني، عن شيخه، فأخبرنا بها أبو حيان محمد بن جيان ابن العلامة أبي حيان إذناً مشافهة عن جده أبي حيان، عن أبي علي بن أبي الأحوص، عن أبي القاسم بن بقي

(1)

، عن شريح بن علي

(2)

بن أحمد بن سعيد عن عبد الرحمن.

وأما رواية إسماعيل، فبهذا السند إلى أبي حيان، أنبأنا أبو جعفر أحمد بن يوسف الطحالي، و يوسف بن إبراهيم بن أبي ريحانة المالقي إجازة منهما كلاهما، عن القاضي أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الأنصاري بن الهيثم

(3)

، أنبأنا القاضي أبو سليمان داود بن الحسن

(4)

الخالدي عنه، وأما رواية أبي نعيم، عن شيخه فأخبرنا بها علي بن محمد بن محمد الدمشقي مشافهة عن سلمان

(5)

بن حمزة بن أبي عمر عن محمد بن عبد الهادي المقدسي، عن الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر الدملي

(6)

، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد أنبأنا أبو نعيم.

وأما رواية الأصيلي و القابسي، فبالإسناد الماضي إلى أبي علي الجياني، أنبأنا أبو شاكر عبد الواحد بن محمد بن وهب

(7)

وغيره، عن الأصيلي و حاتم بن محمد الطرابلسي، عن القابسي.

وبالإسناد الماضي إلى جعفر بن علي كتب إلى الحافظ أبي القاسم خلف بن بشكوال، أنبأنا عبد الرحمن بن محمد بن غياث، عن حاتم.

وأما رواية سعيد العيار، فأخبرنا بها محمد بن علي بن محمد الدمشقي مشافهة، عن محمد بن يوسف بن الهتان

(8)

، عن العلامة تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، أنبأنا منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الرازي، أنبأنا محمد بن إسماعيل الفارسي سماعاً، وجد أبي محمد بن الفضل مشافهة، أنبأنا سعيد.

وأما رواية الداودي، فهي أعلى الروايات لنا من حيث العدد، أخبرنا بها المشايخ: أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الكريم بن عبد الوهاب الحموي، و أبو علي محمد بن محمد بن علي الجيزي، و أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن علي بن عبد الوهاب بن عبد المؤمن التعلي

(9)

، و أبو الحسن علي بن

(1)

ن. خ: ابن تقي

(2)

ن. خ: شريح بن محمد بن علي الخ

(3)

ن. خ: بن اليتيم

(4)

ن. خ: داود بن محمد بن الحسن الخ

(5)

ن. خ: سليمان

(6)

ن. خ: المدني

(7)

ن. خ: بن موهب

(8)

ن. خ: بن المهتار

(9)

ن. خ: البعلي

ص: 6

محمد بن محمد الجوزي، قال الأولان: أخبرنا أبو العباس أحمد بن أبي طالب، بن أبي النعم نعمة بن الحسن بن علي، بن بيان الصالحي، وست الوزراء، وزيرة بنت محمد بن عمر بن أسعد بن المنجا التنوخية.

وقال أبو إسحاق: أنبأنا أحمد بن أبي طالب بن نعمة، وقال علي: قرئ على ست الوزراء وأنا أسمع، وكتب إلي سليمان بن حمزة بن أبي عمر وعيسى بن عبد الرحمن بن معالي، وأبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم، قال الخمسة: أنبأنا أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزبيدي سماعاً، وقالوا: سوى المرأة كتب إلينا أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمر القطيعي، و أبو الحسن علي بن أبي بكر روزبه القلانسي، زاد سليمان ومحمد بن زهير شعرانة

(1)

وثابت بن محمد الخجندني، ومحمد بن عبد الواحد المديني، قالوا: أنبأنا ابو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب الهروي عنه.

وأما رواية الحفصي، فبالإسناد الماضي إلى منصور، انبأنا أبو بكر وجيه بن طاهر، وعبد الوهاب بن شاه الشاذياخي، سماعاً وجد أبي محمد بن الفضل الصاعدي إجازة، قالوا: أنبأنا الحفصي.

وأما رواية كريمة، فأخبرنا بها: الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، سماعاً عليه لبعضه، وإجازة لسائره، أنبأنا أبو علي عبد الرحيم بن عبد الله الأنصاري، أنبأنا المعين بن علي بن يوسف الدمشقي، وإسماعيل بن عبد القوي بن عزون وعثمان بن عبد الرحمن بن رشيق سماعاً، سوى من باب المسافر إذا وجد به السير في أواخر كتاب الحج، إلى آخر كتاب الحج ومن باب ما يجوز من الشروط في المكاتب، إلى باب الشروط في الكتابة، ومن باب غزو المرأة في البحر، من كتاب الجهاد، إلى باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام منه، فإجازة منهم ومن الحافظ رشيد الدين أبي الحسين يحيى بن علي العطار لجميعه قالوا: أخبرنا ابو القاسم هبة الله بن علي بن مسعود البوصيري، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن بركات النحوي السعدي عنها.

وأما رواية المستغفري، فبالإسناد الماضي إلى أبي الحسن بن أحمد عنه.

فصل

وأما رواية إبراهيم بن معقل فبالإسناد إلى أبي علي الجياني، أنبأنا الحكم بن محمد: أنبأنا ابو الفضل عيسى بن أبي عمران الهروي سماعاً لبعضه، وإجازة لباقيه، أنبأنا أبو صالح خلف بن محمد بن إسماعيل البخاري عنه.

وأما رواية حماد بن شاكر، فأخبرنا بها أحمد بن أبي بكر بن عبد الحميد في كتابه، عن أبي الربيع بن أبي طاهر بن قدامة، عن الحسن ابن السيد العلوي، عن أبي الفضل بن ناصر الحافظ، عن أبي بكر أحمد بن علي بن خلف، عن الحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، عن أحمد بن محمد بن رميح النسوي عنه.

وأما رواية أبي طلحة البزدوي، فبالسند إلى المستغفري أنبأنا أحمد بن عبد العزيز عنه.

وقد انتهى الغرض الذي أردته، من التوصل الذي أوردته، فليقع الشروع في الشرح والإقتصار على أتقن الروايات عندنا، وهي: رواية أبي ذر عن مشايخه الثلاثة، لضبطه لها وتمييزه لاختلاف سياقها، مع التنبيه إلى ما يحتاج إليه مما يخالفها، وبالله تعالى التوفيق، وهو المسوؤل أن يعينني على السير في أقوم طريق.

(1)

ن. خ: شعوانة

ص: 7

بسم الله الرحمن الرحيم

‌1 - كِتَاب بدْءِ الْوحْيِ

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى آمِينَ.

‌1 - باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}

قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ بِغَيْرِ بَابٍ وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا، فَحَكَى عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ فِيهِ التَّنْوِينَ وَتَرْكَهُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ الْإِسْكَانُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ لِلْأَبْوَابِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ إِعْرَابٌ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَفْتَتِحِ الْكِتَابَ بِخُطْبَةٍ تُنْبِئُ عَنْ مَقْصُودِهِ مُفْتَتَحَةٍ بِالْحَمْدِ وَالشَّهَادَةِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ وَقَوْلِهِ كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخُطْبَةَ لَا يَتَحَتَّمُ فِيهَا سِيَاقٌ وَاحِدٌ يَمْتَنِعُ الْعُدُولُ عَنْهُ، بَلِ الْغَرَضُ مِنْهَا الِافْتِتَاحُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَقَدْ صَدَّرَ الْكِتَابَ بِتَرْجَمَةِ بَدْءِ الْوَحْيِ وَبِالْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى مَقْصُودِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ دَائِرٌ مَعَ النِّيَّةِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: قَصَدْتُ جَمْعَ وَحْيِ السُّنَّةِ الْمُتَلَقَّى عَنْ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ سَيَظْهَرُ حُسْنُ عَمَلِي فِيهِ مِنْ قَصْدِي، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَاكْتَفَى بِالتَّلْوِيحِ عَنِ التَّصْرِيحِ. وَقَدْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فِي مُعْظَمِ تَرَاجِمِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَا سَيَظْهَرُ بِالِاسْتِقْرَاءِ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَا عَلَى شَرْطِهِ، بَلْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَقَالٌ. سَلَّمْنَا صَلَاحِيَّتَهُمَا لِلْحُجَّةِ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِمَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ بِالنُّطْقِ وَالْكِتَابَةِ مَعًا، فَلَعَلَّهُ حَمِدَ وَتَشَهَّدَ نُطْقًا عِنْدَ وَضْعِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَكْتُبْ ذَلِكَ اقْتِصَارًا عَلَى الْبَسْمَلَةِ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَجْمَعُ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ ذِكْرُ اللَّهِ وَقَدْ حَصَلَ بِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فَطَرِيقُ التَّأَسِّي بِهِ الِافْتِتَاحُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا، لَا سِيَّمَا وَحِكَايَةُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْبَابُ الْأَوَّلُ، بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ أَحَادِيثِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا وُقُوعُ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُلُوكِ وَكُتُبِهِ فِي الْقَضَايَا مُفْتَتَحَةً بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ حَمْدَلَةٍ وَغَيْرِهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي قِصَّةِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ لَفْظَ الْحَمْدِ وَالشَّهَادَةِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْخُطَبِ دُونَ الرَّسَائِلِ وَالْوَثَائِقِ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا لَمْ يَفْتَتِحْ كِتَابَهُ بِخُطْبَةٍ أَجْرَاهُ مَجْرَى الرَّسَائِلِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ لِيَنْتَفِعُوا بِمَا فِيهِ تَعَلُّمًا وَتَعْلِيمًا.

وَقَدْ أَجَابَ مَنْ شَرَحَ هَذَا الْكِتَابَ بِأَجْوِبَةٍ أُخَرَ فِيهَا نَظَرٌ، مِنْهَا أَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الِابْتِدَاءُ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْحَمْدَلَةِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ بِالْحَمْدَلَةِ لَخَالَفَ الْعَادَةَ، أَوْ بِالتَّسْمِيَةِ لَمْ يُعَدَّ مُبْتَدِئًا بِالْحَمْدَلَةِ فَاكْتَفَى بِالتَّسْمِيَةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَكَانَ مُبْتَدِئًا بِالْحَمْدَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَعْدَ التَّسْمِيَةِ، وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ فِي حَذْفِ الْعَاطِفِ فَيَكُونُ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ افْتَتَحُوا كِتَابَةَ الْإِمَامِ الْكَبِيرِ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْحَمْدِ وَتَلَوْهَا، وَتَبِعَهُمْ جَمِيعُ مَنْ كَتَبَ الْمُصْحَفَ بَعْدَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَمَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ رَاعَى قَوْلَهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فَلَمْ يُقَدِّمْ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ شَيْئًا وَاكْتَفَى بِهَا عَنْ كَلَامِ نَفْسِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ الْحَمْدِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَقَدْ قَدَّمَ التَّرْجَمَةَ وَهِيَ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى الْآيَةِ، وَكَذَا سَاقَ السَّنَدَ قَبْلَ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّرْجَمَةَ وَالسَّنَدَ وَإِنْ كَانَا مُتَقَدِّمَيْنِ لَفْظًا لَكِنَّهُمَا مُتَأَخِّرَانِ تَقْدِيرًا فِيهِ نَظَرٌ.

ص: 8

وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِخُطْبَةٍ فِيهَا حَمْدٌ وَشَهَادَةٌ، فَحَذَفَهَا بَعْضُ مَنْ حَمَلَ عَنْهُ الْكِتَابَ.

وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا مَا رَأَى تَصَانِيفَ الْأَئِمَّةِ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَشُيُوخِ شُيُوخِهِ وَأَهْلِ عَصْرِهِ كَمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَأَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَبِي دَاوُدَ فِي السُّنَنِ إِلَى مَا لَا يُحْصَى مِمَّنْ لَمْ يُقَدِّمْ فِي ابْتِدَاءِ تَصْنِيفِهِ خُطْبَةً، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى التَّسْمِيَةِ، وَهُمُ الْأَكْثَرُ، وَالْقَلِيلُ مِنْهُمْ مَنِ افْتَتَحَ كِتَابَهُ بِخُطْبَةٍ، أَفَيُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ إِنَّ الرُّوَاةَ عَنْهُ حَذَفُوا ذَلِكَ؟ كَلَّا، بَلْ يُحْمَلُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ حَمِدُوا لَفْظًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَتَلَفَّظُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَتَبَ الْحَدِيثَ وَلَا يَكْتُبُهَا، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِسْرَاعٌ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْخُطَبِ دُونَ الْكُتُبِ كَمَا تَقَدَّمَ ; وَلِهَذَا مَنِ افْتَتَحَ كِتَابَهُ مِنْهُمْ بِخُطْبَةٍ حَمِدَ وَتَشَهَّدَ كَمَا صَنَعَ مُسْلِمٌ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَدِ اسْتَقَرَّ عَمَلُ الْأَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ عَلَى افْتِتَاحِ كُتُبِ الْعِلْمِ بِالْبَسْمَلَةِ وَكَذَا مُعْظَمُ كُتُبِ الرَّسَائِلِ، وَاخْتَلَفَ الْقُدَمَاءُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْكِتَابُ كُلُّهُ شِعْرًا فَجَاءَ عَنِ الشَّعْبِيِّ مَنْعُ ذَلِكَ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يُكْتَبَ فِي الشِّعْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ جَوَازُ ذَلِكَ وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ الْمُخْتَارُ.

قَوْلُهُ: (بَدْءُ الْوَحْيِ) قَالَ عِيَاضٌ: رُوِيَ بِالْهَمْزِ مَعَ سُكُونِ الدَّالِ مِنَ الِابْتِدَاءِ، وَبِغَيْرِ هَمْزٍ مَعَ ضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنَ الظُّهُورِ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَهُ مَضْبُوطًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِهَا كَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ، فَهَذَا يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ، وَهُوَ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَثِيرًا، كَبَدْءِ الْحَيْضِ وَبَدْءِ الْأَذَانِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ.

وَالْوَحْيُ لُغَةً: الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ، وَالْوَحْيُ أَيْضًا: الْكِتَابَةُ وَالْمَكْتُوبُ وَالْبَعْثُ وَالْإِلْهَامُ وَالْأَمْرُ وَالْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ وَالتَّصْوِيتُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ التَّفْهِيمُ، وَكُلُّ مَا دَلَّلْتَ بِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ فَهُوَ وَحْيٌ. وَشَرْعًا: الْإِعْلَامُ بِالشَّرْعِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَحْيُ وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ، أَيِ الْمُوحَى، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدِ اعْتَرَضَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فَقَالَ: لَوْ قَالَ: كَيْفَ كَانَ الْوَحْيُ، لَكَانَ أَحْسَنَ ; لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ فِيهِ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوَحْيِ، لَا لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ بَدْءِ الْوَحْيِ فَقَطْ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ بَدْءِ الْوَحْيِ حَالُهُ مَعَ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَأْنِهِ أَيَّ تَعَلُّقٍ كَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ) هُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى حَذْفِ الْبَابِ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَكَذَا عَلَى تَنْوِينِ بَابٍ. وَبِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى كَيْفَ وَإِثْبَاتِ بَابٍ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بَابُ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ كَذَا، أَوْ الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ اللَّهِ كَذَا، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ كَيْفِيَّةِ قَوْلِ اللَّهِ، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُكَيَّفُ، قَالَهُ عِيَاضٌ، وَيَجُوزُ رَفْعُ وَقَوْلُ اللَّهِ عَلَى الْقَطْعِ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الْآيَةَ) قِيلَ قَدَّمَ ذِكْرَ نُوحٍ فِيهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، أَوْ أَوَّلُ نَبِيٍّ عُوقِبَ قَوْمُهُ، فَلَا يَرِدُ كَوْنُ آدَمَ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ مُطْلَقًا، كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ. وَمُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ وَاضِحٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ صِفَةَ الْوَحْيِ إِلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم تُوَافِقُ صِفَةَ الْوَحْيِ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ أَوَّلَ أَحْوَالِ النَّبِيِّينَ فِي الْوَحْيِ بِالرُّؤْيَا، كَمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ صَاحِبِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْتَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَنَامِ حَتَّى تَهْدَأَ قُلُوبُهُمْ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْوَحْيُ بَعْدُ فِي الْيَقَظَةِ.

1 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ

[الحديث 1 - أطرافه في: 54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953]

ص: 9

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عِيسَى، مَنْسُوبٌ إِلَى حُمَيْدِ بْنِ أُسَامَةَ بَطْنٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ رَهْطِ خَدِيجَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَجْتَمِعُ مَعَهَا فِي أَسَدٍ وَيَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قُصَيٍّ. وَهُوَ إِمَامٌ كَبِيرٌ مُصَنِّفٌ، رَافَقَ الشَّافِعِيَّ فِي الطَّلَبِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَطَبَقَتِهِ وَأَخَذَ عَنْهُ الْفِقْهَ وَرَحَلَ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ، وَرَجَعَ بَعْدَ وَفَاتِهِ إِلَى مَكَّةَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ امْتَثَلَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم قَدِّمُوا قُرَيْشًا فَافْتَتَحَ كِتَابَهُ بِالرِّوَايَةِ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ لِكَوْنِهِ أَفْقَهَ قُرَشِيٍّ أَخَذَ عَنْهُ. وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ مَكِّيٌّ كَشَيْخِهِ فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ فِي أَوَّلِ تَرْجَمَةِ بَدْءِ الْوَحْيِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ كَانَ بِمَكَّةَ، وَمِنْ ثَمَّ ثَنَّى بِالرِّوَايَةِ عَنْ مَالِكٍ لِأَنَّهُ شَيْخُ أَهْلِ الْمَدِينَةَ وَهِيَ تَالِيَةٌ لِمَكَّةَ فِي نُزُولِ الْوَحْيِ وَفِي جَمِيعِ الْفَضْلِ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ قَرِينَانِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلَاهُمَا لَذَهَبَ الْعِلْمُ مِنَ الْحِجَازِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ الْهِلَالِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ، أَصْلُهُ وَمَوْلِدُهُ الْكُوفَةُ، وَقَدْ شَارَكَ مَالِكًا فِي كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ وَعَاشَ بَعْدَهُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ سَبْعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ. اسْمُ جَدِّهِ قَيْسُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ صَحَابِيٌّ، وَيَحْيَى مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَشَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدٍ التَّيْمِيُّ مِنْ أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ، وَشَيْخُ مُحَمَّدٍ، عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيُّ مِنْ كِبَارِهِمْ، فَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ. وَفِي الْمَعْرِفَةِ لِابْنِ مَنْدَهْ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ عَلْقَمَةَ صَحَابِيٌّ، فَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ فِيهِ تَابِعِيَّانِ وَصَحَابِيَّانِ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ يَكُونُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَكْثَرُ الصِّيَغِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْمُحَدِّثُونَ، وَهِيَ التَّحْدِيثُ وَالْإِخْبَارُ وَالسَّمَاعُ وَالْعَنْعَنَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي إِدْخَالِهِ حَدِيثَ الْأَعْمَالِ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ بَدْءِ الْوَحْيِ وَأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ أَصْلًا، بِحَيْثُ إِنَّ الْخَطَّابِيَّ فِي شَرْحِهِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ أَخْرَجَاهُ قَبْلَ التَّرْجَمَةِ لِاعْتِقَادِهِمَا أَنَّهُ إِنَّمَا أَوْرَدَهُ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ فَقَطْ، وَاسْتَصْوَبَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ صَنِيعَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَمْ يَقْصِدِ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِهِ سِوَى بَيَانِ حُسْنِ نِيَّتِهِ فِيهِ فِي هَذَا التَّأْلِيفِ، وَقَدْ تُكُلِّفَتْ مُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ، فَقَالَ: كُلٌّ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ. انْتَهَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَهُ مَقَامَ الْخُطْبَةِ لِلْكِتَابِ ; لِأَنَّ فِي سِيَاقِهِ أَنَّ عُمَرَ قَالَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ فِي خُطْبَةِ الْمِنْبَرِ صَلَحَ أَنْ يَكُونَ فِي خُطْبَةِ الْكُتُبِ. وَحَكَى الْمُهَلَّبُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ بِهِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا، فَنَاسَبَ إِيرَادَهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ ; لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانَتْ كَالْمُقَدِّمَةِ لَهَا لِأَنَّ بِالْهِجْرَةِ افْتُتِحَ الْإِذْنُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَعْقُبُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالْفَتْحُ انْتَهَى.

وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّنِي لَمْ أَرَ مَا ذَكَرَهُ - مِنْ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ بِهِ أَوَّلَ مَا هَاجَرَ - مَنْقُولًا. وَقَدْ وَقَعَ فِي بَابِ تَرْكِ الْحِيَلِ بِلَفْظِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ الْحَدِيثَ، فَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ، أَمَّا كَوْنُهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ قُدُومِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ أَرَ مَا يَد لُّ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ قَائِلَهُ اسْتَنَدَ إِلَى مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نَقَلُوا أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ فَضِيلَةَ الْهِجْرَةِ وَإِنَّمَا هَاجَرَ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تُسَمَّى أُمَّ قَيْسٍ، فَلِهَذَا خُصَّ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْمَرْأَةِ دُونَ سَائِرِ مَا يُنْوَى بِهِ، انْتَهَى. وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَمْ يَسْتَلْزِمِ الْبَدَاءَةَ بِذِكْرِهِ أَوَّلَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ.

وَقِصَّةُ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ رَوَاهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ - قَالَ: مَنْ هَاجَرَ يَبْتَغِي شَيْئًا فَإِنَّمَا لَهُ ذَلِكَ، هَاجَرَ رَجُلٌ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ خَطَبَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ حَتَّى يُهَاجِرَ فَهَاجَرَ فَتَزَوَّجَهَا، فَكُنَّا نُسَمِّيهِ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ حَدِيثَ الْأَعْمَالِ سِيقَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ مَا يَقْتَضِي التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ. وَأَيْضًا فَلَوْ أَرَادَ الْبُخَارِيُّ إِقَامَتَهُ مَقَامَ الْخُطْبَةِ فَقَطْ أَوْ الِابْتِدَاءَ بِهِ تَيَمُّنًا وَتَرْغِيبًا فِي الْإِخْلَاصِ لَكَانَ سَاقَهُ قَبْلَ التَّرْجَمَةِ كَمَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّجَّارِ قَالَ: التَّبْوِيبُ يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ مَعًا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}

ص: 10

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} قَالَ: وَصَّاهُمْ بِالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَتِهِ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَوْنِيِّ قَالَ: مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ بَدْءَ الْوَحْيِ كَانَ بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَطَرَ مُحَمَّدًا عَلَى التَّوْحِيدِ وَبَغَّضَ إِلَيْهِ الْأَوْثَانَ وَوَهَبَ لَهُ أَوَّلَ أَسْبَابِ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَخْلَصَ إِلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءَ فَقَبِلَ اللَّهُ عَمَلَهُ وَأَتَمَّ لَهُ النِّعْمَةَ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ مَا مُحَصِّلُهُ: قَصَدَ الْبُخَارِيُّ الْإِخْبَارَ عَنْ حَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ مَنْشَئِهِ وَأَنَّ اللَّهَ بَغَّضَ إِلَيْهِ الْأَوْثَانَ وَحَبَّبَ إِلَيْهِ خِلَالَ الْخَيْرِ وَلُزُومَ الْوِحْدَةِ فِرَارًا مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، فَلَمَّا لَزِمَ ذَلِكَ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ وَوَهَبَ لَهُ النُّبُوَّةَ كَمَا يُقَالُ: الْفَوَاتِحُ عُنْوَانُ الْخَوَاتِمِ. وَلَخَّصَهُ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي أَوَّلِ التَّرَاجِمِ: كَانَ مُقَدِّمَةُ النُّبُوَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْهِجْرَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْوَةِ فِي غَارِ حِرَاءَ فَنَاسَبَ الِافْتِتَاحَ بِحَدِيثِ الْهِجْرَةِ. وَمِنَ الْمُنَاسَبَاتِ الْبَدِيعَةِ الْوَجِيزَةِ مَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّ الْكِتَابَ لَمَّا كَانَ مَوْضُوعًا لِجَمْعِ وَحْيِ السُّنَّةِ صَدَّرَهُ بِبَدْءِ الْوَحْيِ، وَلَمَّا كَانَ الْوَحْيُ لِبَيَانِ الْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ صَدَّرَهُ بِحَدِيثِ الْأَعْمَالِ، وَمَعَ هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتِ لَا يَلِيقُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالتَّرْجَمَةِ أَصْلًا. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَقَدْ تَوَاتَرَ النَّقْلُ عَنِ الْأَئِمَّةِ فِي تَعْظِيمِ قَدْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ فِي أَخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَجْمَعَ وَأَغْنَى وَأَكْثَرَ فَائِدَةً مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ. وَاتَّفَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنْهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَحَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ عَلَى أَنَّهُ ثُلُثُ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ رُبُعُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ الْبَاقِي. وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ أَيْضًا: يَدْخُلُ فِي ثَلَاثِينَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَدْخُلُ فِي سَبْعِينَ بَابًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذَا الْعَدَدِ الْمُبَالَغَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ أَيْضًا: يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الْحَدِيثُ رَأْسَ كُلِّ بَابٍ.

وَوَجَّهَ الْبَيْهَقِيُّ كَوْنَهُ ثُلُثَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ يَقَعُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، فَالنِّيَّةُ أَحَدُ أَقْسَامِهَا الثَّلَاثَةِ وَأَرْجَحُهَا ; لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً وَغَيْرُهَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ: نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا كَانَتْ خَيْرَ الْأَمْرَيْنِ. وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِكَوْنِهِ ثُلُثَ الْعِلْمِ أَنَّهُ أَرَادَ أَحَدَ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تُرَدُّ إِلَيْهَا جَمِيعُ الْأَحْكَامِ عِنْدَهُ، وَهِيَ هَذَا وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ وَالْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ الْحَدِيثَ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ الْمَشْهُورُونَ إِلَّا الْمُوَطَّأَ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي الْمُوَطَّأِ مُغْتَرًّا بِتَخْرِيجِ الشَّيْخَيْنِ لَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: قَدْ يَكُونُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى طَرِيقَةِ بَعْضِ النَّاسِ مَرْدُودًا لِكَوْنِهِ فَرْدًا ; لِأَنَّهُ لَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ، وَلَا عَنْ عَلْقَمَةَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا اشْتُهِرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَتَفَرَّدَ بِهِ مَنْ فَوْقَهُ وَبِذَلِكَ جَزَمَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَحَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيُّ، وَأَطْلَقَ الْخَطَّابِيُّ نَفْيَ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ لَكِنْ بِقَيْدَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الصِّحَّةُ لِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ مَعْلُولَةٍ ذَكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُمَا.

ثَانِيهُمَا: السِّيَاقُ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحَّتْ فِي مُطْلَقِ النِّيَّةِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَحَدِيثِ عُبَادَةَ مَنْ غَزَا وَهُوَ لَا يَنْوِي إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَسَّرُ حَصْرُهُ، وَعُرِفَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ غَلَطُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ مُتَوَاتِرٌ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ فَيُحْتَمَلُ. نَعَمْ قَدْ تَوَاتَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: فَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ النَّقَّاشُ الْحَافِظُ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ نَفْسًا، وَسَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ فَجَاوَزَ الثَّلَاثَمِائَةِ، وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ مُذَاكَرَةً عَنِ الْحَافِظِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الْهَرَوِيِّ قَالَ: كَتَبْتُهُ مِنْ حَدِيثِ سَبْعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِ يَحْيَى.

قُلْتُ: وَأَنَا أَسْتَبْعِدُ صِحَّةَ هَذَا، فَقَدْ تَتَبَّعْتُ طُرُقَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ وَالْأَجْزَاءِ الْمَنْثُورَةِ مُنْذُ طَلَبْتُ الْحَدِيثَ إِلَى وَقْتِي هَذَا فَمَا قَدَرْتُ عَلَى تَكْمِيلِ الْمِائَةِ، وَقَدْ

ص: 11

تَتَبَّعْتُ طُرُقَ غَيْرِهِ فَزَادَتْ عَلَى مَا نُقِلَ عَمَّنْ تَقَدَّمَ، كَمَا سَيَأْتِي مِثَالٌ لِذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي غُسْلِ الْجُمُعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْمِنْبَرِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، أَيْ مِنْبَرِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى فِي تَرْكِ الْحِيَلِ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَخْطُبُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) كَذَا أُورِدَ هُنَا، وَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، أَيْ كُلُّ عَمَلٍ بِنِيَّتِهِ. وَقَالَ الخويي

(1)

كَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ تَتَنَوَّعُ كَمَا تَتَنَوَّعُ الْأَعْمَالُ كَمَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ أَوْ تَحْصِيلَ مَوْعُودِهِ أَوْ الِاتِّقَاءَ لِوَعِيدِهِ. وَوَقَعَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ بِإِفْرَادِ النِّيَّةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ وَهُوَ مُتَّحِدٌ فَنَاسَبَ إِفْرَادَهَا. بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالظَّوَاهِرِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ فَنَاسَبَ جَمْعَهَا ; وَلِأَنَّ النِّيَّةَ تَرْجِعُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَهُوَ وَاحِدٌ لِلْوَاحِدِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ. وَوَقَعَتْ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ بِلَفْظِ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ بِحَذْفِ إِنَّمَا وَجَمْعِ الْأَعْمَالِ وَالنِّيَّاتِ، وَهِيَ مَا وَقَعَ فِي كِتَابِ الشِّهَابِ لِلْقُضَاعِيِّ

(2)

ووصله فِي مُسْنَدِهِ كَذَلِكَ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَأَقَرَّهُ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِرِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ، بَلْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَكَذَا فِي الْعِتْقِ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَفِي الْهِجْرَةِ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ بِإِفْرَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا.

وَالنِّيَّةُ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي بَعْضِ اللُّغَاتِ بِتَخْفِيفِهَا. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ قَوْلُهُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ هَذَا التَّرْكِيبُ يُفِيدُ الْحَصْرَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ إِفَادَتِهِ فَقِيلَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ جَمْعٌ مُحَلًّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقَصْرِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ كُلُّ عَمَلٍ بِنِيَّةٍ فَلَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَقِيلَ لِأَنَّ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَهَلْ إِفَادَتُهَا لَهُ بِالْمَنْطُوقِ أَوْ بِالْمَفْهُومِ، أَوْ تُفِيدُ الْحَصْرَ بِالْوَضْعِ أَوِ الْعُرْفِ، أَوْ تُفِيدُهُ بِالْحَقِيقَةِ أَوْ بِالْمَجَازِ؟

وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ وَأَتْبَاعِهِ أَنَّهَا تُفِيدُهُ بِالْمَنْطُوقِ وَضْعًا حَقِيقِيًّا، بَلْ نَقَلَهُ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأُصُولِ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ إِلَّا الْيَسِيرَ كَالْآمِدِيِّ، وَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْحَصْرِ لَمَا حَسُنَ إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ فِي جَوَابِ هَلْ قَامَ عَمْرٌو، أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنَّهُ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ وَهِيَ لِلْحَصْرِ اتِّفَاقًا، وَقِيلَ: لَوْ كَانَتْ لِلْحَصْرِ لَاسْتَوَى إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ مَعَ مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، وَلَا تَرَدُّدَ فِي أَنَّ الثَّانِيَ أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْقُوَّةِ نَفْيُ الْحَصْرِ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ أَقْوَى مِنَ الْآخَرِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ كَسَوْفَ وَالسِّينِ، وَقَدْ وَقَعَ اسْتِعْمَالُ إِنَّمَا مَوْضِعَ اسْتِعْمَالِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَكَقَوْلِهِ:{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَوْلِهِ: {أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وَقَوْلِهِ: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُ الْأَعْشَى:

وَلَسْتُ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى

وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ

يَعْنِي مَا ثَبُتَتِ الْعِزَّةُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ أَكْثَرَ حَصًى. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ هِيَ بَسِيطَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ، فَرَجَّحُوا الْأَوَّلَ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الثَّانِي، وَيُجَابُ عَمَّا أُورِدَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ إِنَّ لِلْإِثْبَاتِ وَمَا لِلنَّفْيِ فَيَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعَ الْمُتَضَادَّيْنِ عَلَى صَدَدٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: أَصْلُهُمَا كَانَ لِلْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، لَكِنَّهُمَا بَعْدَ التَّرْكِيبِ لَمْ يَبْقَيَا عَلَى أَصْلِهِمَا بَلْ أَفَادَا شَيْئًا آخَرَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْكِرْمَانِيُّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِفَادَةُ هَذَا السِّيَاقِ لِلْحَصْرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ تَأْكِيدًا بَعْدَ تَأْكِيدٍ وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّمَا وَمِنَ الْجَمْعِ، فمتعقب بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إِيهَامِ الْعَكْسِ ; لِأَنَّ قَائِلَهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ الْحَصْرَ فِيهِ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ ظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ كَذَلِكَ يُفِيدُ الْحَصْرَ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اسْتُدِلَّ عَلَى إِفَادَةِ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّبَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ بِحَدِيثِ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وَعَارَضَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْحُكْمِ وَلَمْ يُخَالِفُوهُ فِي فَهْمِهِ فَكَانَ كَالِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهَا تُفِيدُ الْحَصْرَ. وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا تَرَكُوا الْمُعَارَضَةَ بِذَلِكَ تَنَزُّلًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ:

(1)

لعله: الحربي

(2)

هو القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حكمون المتوفى سنة 454

ص: 12

يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ لِوُرُودِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ فِي رَدِّ إِفَادَةِ الْحَصْرِ، بَلْ يُقَوِّيهِ وَيُشْعِرُ بِأَنَّ مُفَادَ الصِّيغَتَيْنِ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ، وَإِلَّا لَمَا اسْتَعْمَلُوا هَذِهِ مَوْضِعَ هَذِهِ.

وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا حَدِيثُ إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَمْ يُعَارِضُهُمُ الْجُمْهُورُ فِي فَهْمِ الْحَصْرِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا عَارَضَهُمْ فِي الْحُكْمِ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى كَحَدِيثِ إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا لَفْظُ لَا يُفَارِقُهُ الْمُبَالَغَةُ وَالتَّأْكِيدُ حَيْثُ وَقَعَ، وَيَصْلُحُ مَعَ ذَلِكَ لِلْحَصْرِ إِنْ دَخَلَ فِي قِصَّةٍ سَاعَدَتْ عَلَيْهِ، فَجُعِلَ وُرُودُهُ لِلْحَصْرِ مَجَازًا يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ أَصْلَ وُرُودِهَا لِلْحَصْرِ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فَإِنَّهُ سِيقَ بِاعْتِبَارِ مُنْكِرِي الْوَحْدَانِيَّةِ، وَإِلَّا فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ صِفَاتٌ أُخْرَى كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} فَإِنَّهُ سِيقَ بِاعْتِبَارِ مُنْكِرِي الرِّسَالَةِ، وَإِلَّا فَلَهُ صلى الله عليه وسلم صِفَاتٌ أُخْرَى كَالْبِشَارَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ. وَهِيَ - فِيمَا يُقَالُ - السَّبَبُ فِي قَوْلِ مَنْ مَنَعَ إِفَادَتَهَا لِلْحَصْرِ مُطْلَقًا.

(تَكْمِيلٌ): الْأَعْمَالُ تَقْتَضِي عَامِلَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: الْأَعْمَالُ الصَّادِرَةُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَعَلَى هَذَا هَلْ تَخْرُجُ أَعْمَالُ الْكُفَّارِ؟ الظَّاهِرُ الْإِخْرَاجُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْمَالِ أَعْمَالُ الْعِبَادَةِ وَهِيَ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهَا مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهَا وَلَا يَرِدُ الْعِتْقُ وَالصَّدَقَةُ لِأَنَّهُمَا بِدَلِيلٍ آخَرَ.

قَوْلُهُ: (بِالنِّيَّاتِ) الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهَا مُقَوِّمَةٌ لِلْعَمَلِ فَكَأَنَّهَا سَبَبٌ فِي إِيجَادِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِ الْعَمَلِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا تَتَخَلَّفَ عَنْ أَوَّلِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: النِّيَّةُ الْقَصْدُ، وَهِيَ عَزِيمَةُ الْقَلْبِ. وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ عَزِيمَةَ الْقَلْبِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْقَصْدِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ هِيَ رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ؟ وَالْمُرَجَّحُ أَنَّ إِيجَادَهَا ذِكْرًا فِي أَوَّلِ الْعَمَلِ رُكْنٌ، وَاسْتِصْحَابَهَا حُكْمًا بِمَعْنَى أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَافٍ شَرْعًا شَرْطٌ. وَلَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، فَقِيلَ: تُعْتَبَرُ وَقِيلَ: تُكَمَّلُ وَقِيلَ: تَصِحُّ وَقِيلَ: تَحْصُلُ وَقِيلَ: تَسْتَقِرُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَلَامُ الشَّارِعِ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الشَّرْعِ ; لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ هُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، فَكَأَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ، فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى مَا يُفِيدُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: النِّيَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ انْبِعَاثِ الْقَلْبِ نَحْوَ مَا يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ حَالًا أَوْ مَآلًا، وَالشَّرْعُ خَصَّصَهُ بِالْإِرَادَةِ الْمُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ الْفِعْلِ لِابْتِغَاءِ رِضَاءِ اللَّهِ وَامْتِثَالِ حُكْمِهِ.

وَالنِّيَّةُ فِي ال حَدِيثِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِيَحْسُنَ تَطْبِيقُهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَتَقْسِيمُهُ أَحْوَالَ الْمُهَاجِرِ، فَإِنَّهُ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ، وَالْحَدِيثُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الذَّوَاتَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا عَمَلَ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ ذَاتِ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، بَلِ الْمُرَادُ نَفْيُ أَحْكَامِهَا كَالصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ، لَكِنَّ الْحَمْلَ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِنَفْيِ الشَّيْءِ نَفْسِهِ ; وَلِأَنَّ اللَّفْظَ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الذَّاتِ بِالتَّصْرِيحِ وَعَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ بِالتَّبَعِ، فَلَمَّا مَنَعَ الدَّلِيلُ نَفْيَ الذَّاتِ بَقِيَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ مُسْتَمِرَّةً. وَقَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْأَحْسَنُ تَقْدِيرُ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتْبَعُ النِّيَّةَ، لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى آخِرِهِ. وَعَلَى هَذَا يُقَدَّرُ الْمَحْذُوفُ كَوْنًا مُطْلَقًا مِنِ اسْمِ فَاعِلٍ أَوْ فِعْلٍ. ثُمَّ لَفْظُ الْعَمَلِ يَتَنَاوَلُ فِعْلَ الْجَوَارِحِ حَتَّى اللِّسَانِ فَتَدْخُلُ الْأَقْوَالُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَأَخْرَجَ بَعْضُهُمُ الْأَقْوَالَ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَا تَرَدُّدَ عِنْدِي فِي أَنَّ الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُهَا. وَأَمَّا التُّرُوكُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِعْلَ كَفٍّ لَكِنْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الْعَمَلِ. وَقَدْ تُعُقِّبَ عَلَى مَنْ يُسَمِّي الْقَوْلَ عَمَلًا لِكَوْنِهِ عَمَلَ اللِّسَانِ، بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا فَقَالَ قَوْلًا لَا يَحْنَثَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَرْجِعَ الْيَمِينِ إِلَى الْعُرْفِ، وَالْقَوْلُ لَا يُسَمَّى عَمَلًا فِي الْعُرْفِ وَلِهَذَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ حَقِيقَةً وَيَدْخُلُ مَجَازًا، وَكَذَا الْفِعْلُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} بَعْدَ قَوْلِهِ:{زُخْرُفَ الْقَوْلِ} وَأَمَّا عَمَلُ الْقَلْبِ كَالنِّيَّةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْحَدِيثُ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّسَلْسُلَ، وَالْمَعْرِفَةَ، وَفِي تَنَاوُلِهَا نَظَرٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَصْدُ الْمَنَوِيِّ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْمَرْءُ مَا يَعْرِفُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ. وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَعْرِفَةِ مُطْلَقَ الشُّعُورِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ النَّظَرَ فِي الدَّلِيلِ فَلَا ; لِأَنَّ كُلَّ ذِي عَقْلٍ يَشْعُرُ مَثَلًا بِأَنَّ لَهُ مَنْ يُدَبِّرُهُ، فَإِذَا أَخَذَ فِي النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لِيَتَحَقَّقَهُ لَمْ

ص: 13

تَكُنِ النِّيَّةُ حِينَئِذٍ مُحَالًا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِينَ اشْتَرَطُوا النِّيَّةَ قَدَّرُوا صِحَّةَ الْأَعْمَالِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوهَا قَدَّرُوا كَمَالَ الْأَعْمَالِ، وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الصِّحَّةَ أَكْثَرُ لُزُومًا لِلْحَقِيقَةِ مِنَ الْكَمَالِ فَالْحَمْلُ عَلَيْهَا أَوْلَى. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِيهَامٌ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ لَا يَرَى بِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا فِي الْوَسَائِلِ، وَأَمَّا الْمَقَاصِدُ فَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لَهَا، وَمِنْ ثَمَّ خَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِهَا لِلْوُضُوءِ، وَخَالَفَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي التَّيَمُّمِ أَيْضًا. نَعَمْ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ فِي اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِأَوَّلِ الْعَمَلِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَبْسُوطَاتِ الْفِقْهِ.

(تَكْمِيلٌ): الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي النِّيَّاتِ مُعَاقِبَةٌ لِلضَّمِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: الْأَعْمَالُ بِنِيَّاتِهَا، وَعَلَى هَذَا فَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ نِيَّةِ الْعَمَلِ مِنْ كَوْنِهِ مَثَلًا صَلَاةً أَوْ غَيْرَهَا، وَمِنْ كَوْنِهَا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، ظُهْرًا مَثَلًا أَوْ عَصْرًا، مَقْصُورَةً أَوْ غَيْرَ مَقْصُورَةٍ وَهَلْ يُحْتَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى تَعْيِينِ الْعَدَدِ؟ فِيهِ بَحْثٌ. وَالرَّاجِحُ الِاكْتِفَاءُ بِتَعْيِينِ الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ، كَالْمُسَافِرِ مَثَلًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ إِلَّا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ، لَكِنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْقَصْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ تَحْقِيقٌ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ، فَجَنَحَ إِلَى أَنَّهَا مُؤَكَّدَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ تُفِيدُ غَيْرَ مَا أَفَادَتْهُ الْأُولَى ; لِأَنَّ الْأُولَى نَبَّهَتْ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ يَتْبَعُ النِّيَّةَ وَيُصَاحِبُهَا، فَيَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ، وَالثَّانِيَةُ أَفَادَتْ أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَحْصُلُ لَهُ إِلَّا مَا نَوَاهُ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ مَنْ نَوَى شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ - يَعْنِي إِذَا عَمِلَهُ بِشَرَائِطِهِ - أَوْ حَالَ دُونَ عَمَلِهِ لَهُ مَا يُعْذَرُ شَرْعًا بِعَدَمِ عَمَلِهِ وَكُلُّ مَا لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ. وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ مَا لَمْ يَنْوِهِ أَيْ لَا خُصُوصًا وَلَا عُمُومًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا مَخْصُوصًا لَكِنْ كَانَتْ هُنَاكَ نِيَّةٌ عَامَّةٌ تَشْمَلُهُ فَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَنْظَارُ الْعُلَمَاءِ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ مَا لَا يُحْصَى. وَقَدْ يَحْصُلُ غَيْرُ الْمَنْوِيِّ لِمُدْرَكٍ آخَرَ كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى الْفَرْضَ أَوِ الرَّاتِبَةَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا ; لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالتَّحِيَّةِ شَغْلُ الْبُقْعَةِ وَقَدْ حَصَلَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَنِ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ غُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى الرَّاجِحِ ; لِأَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى التَّعَبُّدِ لَا إِلَى مَحْضِ التَّنْظِيفِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ اشْتِرَاطَ تَعْيِينِ الْمَنْوِيِّ كَمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَائِتَةٌ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يَنْوِيَ الْفَائِتَةَ فَقَطْ حَتَّى يُعَيِّنَهَا ظُهْرًا مَثَلًا أَوْ عَصْرًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّهُ مَا إِذَا لَمْ تَنْحَصِرِ الْفَائِتَةُ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي أَمَالِيهِ: أَفَادَتْ أَنَّ الْأَعْمَالَ الْخَارِجَةَ عَنِ الْعِبَادَةِ لَا تُفِيدُ الثَّوَابَ إِلَّا إِذَا نَوَى بِهَا فَاعِلُهَا الْقُرْبَةَ، كَالْأَكْلِ إِذَا نَوَى بِهِ الْقُوَّةَ عَلَى الطَّاعَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَفَادَتْ أَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَدْخُلُ فِي النِّيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ، فَلَا يَرِدُ مِثْلُ نِيَّةِ الْوَلِيِّ عَنِ الصَّبِيِّ وَنَظَائِرِهِ فَإِنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْجُمْلَةُ الْأُولَى لِبَيَانِ مَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالثَّانِيَةُ لِبَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا. وَأَفَادَ أَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ بِنَفْسِهَا، وَأَمَّا مَا يَتَمَيَّزُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ بِصُورَتِهِ إِلَى مَا وُضِعَ لَهُ كَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ وَالتِّلَاوَةِ لِأَنَّهَا لَا تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الْوَضْعِ، أَمَّا مَا حَدَثَ فِيهِ عُرْفٌ كَالتَّسْبِيحِ لِلتَّعَجُّبِ فَلَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ قُصِدَ بِالذِّكْرِ الْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْغَزَّالِيُّ: حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِالذِّكْرِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ تُحَصِّلُ الثَّوَابَ ; لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِالْغِيبَةِ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنَ السُّكُوتِ مُطْلَقًا، أَيِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّفَكُّرِ. قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمَلِ الْقَلْبِ، انْتَهَى.

وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ؟: أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ.

وَأَوْرَدَ عَلَى إِطْلَاقِ الْغَزَّالِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَرْءَ يُثَابُ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِ الْحَرَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ. وَخُصَّ مِنْ عُمُومِ الْحَدِيثِ مَا يُقْصَدُ حُصُولُهُ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ تَخُصُّهُ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَنْ مَاتَ زَوْجُهَا فَلَمْ يَبْلُغْهَا الْخَبَرُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَحْتَجِ الْمَتْرُوكُ إِلَى نِيَّةٍ. وَنَازَعَ الْكِرْمَانِيُّ فِي إِطْلَاقِ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ كَوْنَ الْمَتْرُوكِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ بِأَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ وَهُوَ كَفُّ النَّفْسِ، وَبِأَنَّ الْتُّرُوكَ إِذَا أُرِيدَ بِهَا تَحْصِيلُ الثَّوَابِ بِامْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ

ص: 14

قَصْدِ التَّرْكِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ التَّرْكُ فِعْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمِنْ حَقِّ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى الْمَانِعِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الثَّانِي فَلَا يُطَابِقُ الْمَوْرِدَ ; لِأَنَّ الْمَبْحُوثَ فِيهِ هَلْ تَلْزَمُ النِّيَّةُ فِي التُّرُوكِ بِحَيْثُ يَقَعُ الْعِقَابُ بِتَرْكِهَا؟ وَالَّذِي أَوْرَدَهُ هَلْ يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِدُونِهَا؟ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ ظَاهِرٌ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّرْكَ الْمُجَرَّدَ لَا ثَوَابَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِالْكَفِّ الَّذِي هُوَ فِعْلُ النَّفْسِ، فَمَنْ لَمْ تَخْطُرِ الْمَعْصِيَةُ بِبَالِهِ أَصْلًا لَيْسَ كَمَنْ خَطَرَتْ فَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَرَجَعَ الْحَالُ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ هُوَ الْعَمَلُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ، لَا التَّرْكُ الْمُجَرَّدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ يُفِيدُ الْقَصْرَ فَفِي قَوْلِهِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى نَوْعَانِ مِنَ الْحَصْرِ: قَصْرُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ إِذِ الْمُرَادُ: إِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَاهُ، وَالتَّقْدِيمُ الْمَذْكُورُ.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا) كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ بِحَذْفِ أَحَدِ وَجْهَيِ التَّقْسِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي رِوَايَتِنَا وَجَمِيعِ نُسَخِ أَصْحَابِنَا مَخْرُومًا قَدْ ذَهَبَ شَطْرُهُ، وَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ هَذَا الْإِغْفَالُ، وَمِنْ جِهَةِ مَنْ عَرَضَ مِنْ رُوَاتِهِ؟ فَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ مُسْتَوْفًى، وَقَدْ رَوَاهُ لَنَا الْأَثْبَاتُ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ تَامًّا، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ كَلَامَ الْخَطَّابِيِّ مُخْتَصَرًا وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مَخْرُومًا أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ أَنَّ فِي السَّنَدِ انْقِطَاعًا فَقَالَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَلْقَ الْحُمَيْدِيَّ، وَهُوَ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْ إِطْلَاقِهِ مَعَ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ وَتَكْرَارُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَجَزَمَ كُلُّ مَنْ تَرْجَمَهُ بِأَنَّ الْحُمَيْدِيَّ مِنْ شُيُوخِهِ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي مَشْيَخَتِهِ: لَا عُذْرَ لِلْبُخَارِيِّ فِي إِسْقَاطِهِ لِأَنَّ الْحُمَيْدِيَّ شَيْخُهُ فِيهِ قَدْ رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ عَلَى التَّمَامِ. قَالَ: وَذَكَرَ قَوْمٌ أَنَّهُ لَعَلَّهُ اسْتَمْلَاهُ مِنْ حِفْظِ الْحُمَيْدِيِّ فَحَدَّثَهُ هَكَذَا فَحَدَّثَ عَنْهُ كَمَا سَمِعَ أَوْ حَدَّثَهُ بِهِ تَامًّا فَسَقَطَ مِنْ حِفْظِ الْبُخَارِيِّ. قَالَ: وَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا عِنْدَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَحْوَالِ الْقَوْمِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ: الْإِسْقَاطُ فِيهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ فَوُجُودُهُ فِي رِوَايَةِ شَيْخِهِ وَشَيْخِ شَيْخِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى.

وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ مُوسَى، وَأَبِي إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ تَامًّا، وَهُوَ فِي مُصَنَّفِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ وَمُسْتَخْرَجَيْ أَبِي نُعَيْمٍ

(1)

وَصَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ، فَإِنْ كَانَ الْإِسْقَاطُ مِنْ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ فَقَدْ يُقَالُ: لِمَ اخْتَارَ الِابْتِدَاءَ بِهَذَا السِّيَاقِ النَّاقِصِ؟ وَالْجَوَابُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ اخْتَارَ الْحُمَيْدِيَّ لِكَوْنِهِ أَجَلَّ مَشَايِخِهِ الْمَكِّيِّينَ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْقَاطُ مِنْهُ فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَافِظُ فِي أَجْوِبَةٍ لَهُ عَلَى الْبُخَارِيِّ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا يُجَابُ بِهِ هُنَا أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَ لِكِتَابِهِ صَدْرًا يَسْتَفْتِحُ بِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنِ اسْتِفْتَاحِ كُتُبِهِمْ بِالْخُطَبِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعَانِي مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ التَّأْلِيفِ، فَكَأَنَّهُ ابْتَدَأَ كِتَابَهُ بِنِيَّةٍ رَدَّ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ، فَإِنْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ الدُّنْيَا أَوْ عَرَضَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهَا فَسَيَجْزِيهِ بِنِيَّتِهِ. وَنَكَبَ عَنْ أَحَدِ وَجْهَيِ التَّقْسِيمِ مُجَانَبَةً لِلتَّزْكِيَةِ الَّتِي لَا يُنَاسِبُ ذِكْرُهَا فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَحْذُوفَةَ تُشْعِرُ بِالْقُرْبَةِ الْمَحْضَةِ، وَالْجُمْلَةَ الْمُبْقَاةَ تَحْتَمِلُ التَّرَدُّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا قَصَدَهُ يُحَصِّلُ الْقُرْبَةَ أَوْ لَا، فَلَمَّا كَانَ الْمُصَنِّفُ كَالْمُخْبِرِ عَنْ حَالِ نَفْسِهِ فِي تَصْنِيفِهِ هَذَا بِعِبَارَةِ هَذَا الْحَدِيثِ حَذَفَ الْجُمْلَةَ الْمُشْعِرَةَ بِالْقُرْبَةِ الْمَحْضَةِ فِرَارًا مِنَ التَّزْكِيَةِ، وَبَقِيتِ الْجُمْلَةُ الْمُتَرَدِّدَةُ الْمُحْتَمِلَةُ تَفْوِيضًا لِلْأَمْرِ إِلَى رَبِّهِ الْمُطَّلِعِ عَلَى سَرِيرَتِهِ الْمُجَازِي لَهُ بِمُقْتَضَى نِيَّتِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ عَادَةُ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يُضَمِّنُوا الْخُطَبَ اصْطِلَاحَهُمْ فِي مَذَاهِبِهِمْ وَاخْتِيَارَاتِهِمْ، وَكَانَ مِنْ رَأْيِ الْمُصَنِّفِ جَوَازُ اخْتِصَارِ الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى وَالتَّدْقِيقُ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَإِيثَارُ الْأَغْمَضِ عَلَى الْأَجْلَى وَتَرْجِيحُ الْإِسْنَادِ الْوَارِدِ بِالصِّيَغِ الْمُصَرِّحَةِ بِالسَّمَاعِ عَلَى غَيْرِهِ، اسْتَعْمَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِعِبَارَةِ هَذَا الْحَدِيثِ مَتْنًا وَإِسْنَادًا. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ تَأَخُّرُ قَوْلِهِ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ قَوْلِهِ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ

(1)

على الصحيحين

ص: 15

تَكُونَ رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ وَقَعَتْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْمَحْذُوفَةُ هِيَ الْأَخِيرَةَ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ فَهُوَ مُصَيَّرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى جَوَازِ الِاخْتِصَارِ فِي الْحَدِيثِ وَلَوْ مِنْ أَثْنَائِهِ. وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: إِنْ كَانَ الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَامًّا لِمَ خَرَمَهُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّ الْخَرْمَ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ؟ قُلْتُ: لَا جَزْمَ بِالْخَرْمِ ; لِأَنَّ الْمَقَامَاتِ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَعَلَّهُ - فِي مَقَامِ بَيَانِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالنِّيَّةِ وَاعْتِقَادِ الْقَلْبِ - سَمِعَ الْحَدِيثَ تَامًّا، وَفِي مَقَامِ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْأَعْمَالِ إِنَّمَا يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ سَمِعَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي رُوِيَ. ثُمَّ الْخَرْمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ لَا مِنْهُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ مِنْهُ فَخَرْمُهُ ثَمَّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَتِمُّ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَانَ الْمُنَاسِبَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدِ الْخَرْمِ الشِّقَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَقْصُودِهِ، وَهُوَ أَنَّ النِّيَّةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ نَظَرَ إِلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ الْكَثِيرُ بَيْنَ النَّاسِ، انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا سِيَّمَا كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ إِيرَادَ الْحَدِيثِ تَامًّا تَارَةً وَغَيْرَ تَامٍّ تَارَةً إِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ رَوَى مَا سَمِعَهُ فَلَا خَرْمَ مِنْ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ الْبُخَارِيَّ يَذْكُرُهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُنَاسِبُ كُلًّا مِنْهَا بِحَسَبِ الْبَابِ الَّذِي يَضَعُهُ تَرْجَمَةً لَهُ، انْتَهَى.

وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ مِنِ ابْتِدَائِهِ إِلَى انْتِهَائِهِ فَسَاقَهُ فِي مَوْضِعٍ تَامًّا وَفِي مَوْضِعٍ مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِهِ، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْجَامِعِ الصَّحِيحِ، فَلَا يَرْتَابُ مَنْ يَكُونُ الْحَدِيثُ صِنَاعَتَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِهِ ; لِأَنَّهُ عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ صَنِيعِهِ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ فِي موضوعين عَلَى وَجْهَيْنِ، بَلْ إِنْ كَانَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَدٍ عَلَى شَرْطِهِ ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي بِالسَّنَدِ الثَّانِي وَهَكَذَا مَا بَعْدَهُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ يُعَلِّقُهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ تَارَةً بِالْجَزْمِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا وَتَارَةً بِغَيْرِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ، وَمَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا سَنَدٌ وَاحِدٌ يَتَصَرَّفُ فِي مَتْنِهِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِهِ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مَذْكُورٌ بِتَمَامِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ إِلَّا نَادِرًا، فَقَدْ عَنِيَ بَعْضُ مَنْ لَقِيتُهُ بِتَتَبُّعِ ذَلِكَ فَحَصَّلَ مِنْهُ نَحْوَ عِشْرِينَ مَوْضِعًا.

قَوْلُهُ: (هِجْرَتُهُ) الْهِجْرَةُ: التَّرْكُ، وَالْهِجْرَةُ إِلَى الشَّيْءِ: الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَفِي الشَّرْعِ: تَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ الِانْتِقَالُ مِنْ دَارِ الْخَوْفِ إِلَى دَارِ الْأَمْنِ كَمَا فِي هِجْرَتَيِ الْحَبَشَةِ وَابْتِدَاءِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، الثَّانِي الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِيمَانِ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ وَهَاجَرَ إِلَيْهِ مَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ إِذْ ذَاكَ تَخْتَصُّ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ فَانْقَطَعَ الِاخْتِصَاص، وَبَقِيَ عُمُومُ الِانْتِقَالِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَاقِيًا.

فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ تَغَايُرُ بشرط وَالْجَزَاءِ فَلَا يُقَالُ مَثَلًا: مَنْ أَطَاعَ أَطَاعَ وَإِنَّمَا يُقَالُ مَثَلًا: مَنْ أَطَاعَ نَجَا، وَقَدْ وَقَعَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُتَّحِدَيْنِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّغَايُرَ يَقَعُ تَارَةً بِاللَّفْظِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَتَارَةً بِالْمَعْنَى وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} وَهُوَ مُؤَوَّلٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْهُودِ الْمُسْتَقِرِّ فِي النَّفْسِ، كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ أنت. أَيِ: الصَّدِيقُ الْخَالِصُ، وَقَوْلُهُمْ: هُمْ هُمْ. أَيِ: الَّذِينَ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُمْ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي

أَوْ هُوَ مُؤَوَّلٌ عَلَى إِقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ لِاشْتِهَارِ السَّبَبِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: قَدْ يُقْصَدُ بِالْخَبَرِ الْفَرْدِ بَيَانُ الشُّهْرَةِ وَعَدَمِ التَّغَيُّرِ فَيَتَّحِدُ بِالْمُبْتَدَأِ لَفْظًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

خَلِيلِي خَلِيلِي دُونَ رَيْبٍ وَرُبَّمَا

أَلَانَ امْرُؤٌ قَوْلًا فَظُنَّ خَلِيلًا

وَقَدْ يُفْعَلُ مِثْلُ هَذَا بِجَوَابِ الشَّرْطِ كَقَوْلِكَ: مَنْ قَصَدَنِي فَقَدْ قَصَدَنِي. أَيْ: فَقَدْ قَصَدَ مَنْ عُرِفَ بِإِنْجَاحِ قَاصِدِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذَا اتَّحَدَ لَفْظُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ عُلِمَ مِنْهُمَا الْمُبَالَغَةُ إِمَّا فِي التَّعْظِيمِ وَإِمَّا فِي التَّحْقِيرِ.

قَوْلُهُ: (إِلَى دُنْيَا) بِضَمِّ الدَّالِ، وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ كَسْرَهَا، وَهِيَ فُعْلَى مِنَ الدُّنُوِّ أَيِ: الْقُرْبِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَبْقِهَا لِلْأُخْرَى. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ دُنْيَا لِدُنُوِّهَا إِلَى الزَّوَالِ. وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَتِهَا فَقِيلَ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْهَوَاءِ وَالْجَوِّ، وَقِيلَ: كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، وَالْأُولَى أَوْلَى. لَكِنْ يُزَادُ فِيهِ مِمَّا قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مَجَازًا. ثُمَّ إِنَّ لَفْظَهَا

ص: 16

مَقْصُورٌ غَيْرُ مُنَوَّنٍ، وَحُكِيَ تَنْوِينُهَا، وَعَزَاهُ ابْنُ دِحْيَةَ إِلَى رِوَايَةِ أَبِي الْهَيْثَمِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَضَعَّفَهَا، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مُغَاوِرٍ أَنَّ أَبَا ذر الْهَرَوِيِّ فِي آخِرِ أَمْرِهِ كَانَ يَحْذِفُ كَثِيرًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْهَيْثَمِ حَيْثُ يَنْفَرِدُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْهَيْثَمِ مَوَاضِعَ كَثِيرَةً أَصْوَبَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، كَمَا سَيَأْتِي مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعِهِ. وَقَالَ التَّيْمِيُّ فِي شَرْحِهِ: قَوْلُهُ دُنْيَا هُوَ تَأْنِيثُ الْأَدْنَى لَيْسَ بِمَصْرُوفٍ، لِاجْتِمَاعِ الْوَصْفِيَّةِ وَلُزُومِ حَرْفِ التَّأْنِيثِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ لُزُومَ التَّأْنِيثِ لِلْأَلِفِ الْمَقْصُورَةِ كَافٍ فِي عَدَمِ الصَّرْفِ.

وَأَمَّا الْوَصْفِيَّةُ فَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: اسْتِعْمَالُ دُنْيَا مُنَكَّرًا فِيهِ إِشْكَالٌ ; لِأَنَّهَا فِعْلُ التَّفْضِيلِ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُسْتَعْمَلَ بِاللَّامِ كَالْكُبْرَى وَالْحُسْنَى، قَالَ: إِلَّا أَنَّهَا خُلِعَتْ عَنْهَا الْوَصْفِيَّةُ أَوْ أُجْرِيَتْ مَجْرَى مَا لَمْ يَكُنْ وَصْفًا قَطُّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَإِنْ دَعَوْتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ

يَوْمًا سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ إِلَى يَتَعَلَّقُ بِالْهِجْرَةِ إِنْ كَانَ لَفْظُ كَانَتْ تَامَّةً، أَوْ هُوَ خَبَرٌ لِكَانَتْ إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً. ثُمَّ أَوْرَدَ مَا مُحَصَّلُهُ: أَنَّ لَفْظَ كَانَ إِنْ كَانَ لِلْأَمْرِ الْمَاضِي فَلَا يُعْلَمُ مَا الْحُكْمُ بَعْدَ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ كَانَ الْوُجُودُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ، أَوْ يُقَاسُ الْمُسْتَقْبَلُ عَلَى الْمَاضِي، أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حُكْمَ الْمُكَلَّفِينَ سَوَاءٌ.

قَوْلُهُ: (يُصِيبُهَا) أَيْ يُحَصِّلُهَا ; لِأَنَّ تَحْصِيلَهَا كَإِصَابَةِ الْغَرَضِ بِالسَّهْمِ بِجَامِعِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ.

قَوْلُهُ: (أَوِ امْرَأَةٍ) قِيلَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ لَفْظَ دُنْيَا نَكِرَةٌ وَهِيَ لَا تَعُمُّ فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا يَلْزَمُ دُخُولُ الْمَرْأَةِ فِيهَا. وَتُعُقِّبَ بِكَوْنِهَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ، وَنُكْتَةُ الِاهْتِمَامِ الزِّيَادَةُ فِي التَّحْذِيرِ ; لِأَنَّ الِافْتِتَانَ بِهَا أَشَدُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَمَّنْ حَكَى أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ قِصَّةُ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ وَلَمْ نَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ دِحْيَةَ أَنَّ اسْمَهَا قَيْلَةُ، بِقَافٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ ابْنِ سِرَاجٍ أَنَّ السَّبَبَ فِي تَخْصِيصِ الْمَرْأَةِ بِالذِّكْرِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا لَا يُزَوِّجُونَ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ، وَيُرَاعُونَ الْكَفَاءَةَ فِي النَّسَبِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَوَّى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مُنَاكَحَتِهِمْ فَهَاجَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَزَوَّجَ بِهَا مَنْ كَانَ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ، انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ ثَابِتٍ أَنَّ هَذَا الْمُهَاجِرَ كَانَ مَوْلًى وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ عَرَبِيَّةً، وَلَيْسَ مَا نَفَاهُ عَنِ الْعَرَبِ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلْ قَدْ زَوَّجَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ جَمَاعَةً مِنْ مَوَالِيهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَإِطْلَاقُهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ الْكَفَاءَةَ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ.

قَوْلُهُ: (فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ بِالضَّمِيرِ لِيَتَنَاوَلَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا أَبْرَزَ الضَّمِيرَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ الْمَحْذُوفَةُ لِقَصْدِ الِالْتِذَاذِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِظَمِ شَأْنِهِمَا، بِخِلَافِ الدُّنْيَا وَالْمَرْأَةِ فَإِنَّ السِّيَاقَ يُشْعِرُ بِالْحَثِّ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ مُتَعَلِّقًا بِالْهِجْرَةِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ: قَبِيحَةٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحَةٍ مَثَلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ فَهِجْرَتُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مَنْ كَانَتْ، انْتَهَى.

وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الرَّاجِحُ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْهِجْرَةَ مَذْمُومَةٌ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى تَقْدِيرِ شَيْءٍ يَقْتَضِي التَّرَدُّدَ أَوِ الْقُصُورَ عَنِ الْهِجْرَةِ الْخَالِصَةِ كَمَنْ نَوَى بِهِجْرَتِهِ مُفَارَقَةَ دَارِ الْكُفْرِ وَتَزَوُّجَ الْمَرْأَةِ مَعًا فَلَا تَكُونُ قَبِيحَةً وَلَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ، بَلْ هِيَ نَاقِصَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ خَالِصَةً، وَإِنَّمَا أَشْعَرَ السِّيَاقُ بِذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ طَلَبَ الْمَرْأَةَ بِصُورَةِ الْهِجْرَةِ الْخَالِصَةِ، فَأَمَّا مَنْ طَلَبَهَا مَضْمُومَةً إِلَى الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى قَصْدِ الْهِجْرَةِ لَكِنْ دُونَ ثَوَابِ مَنْ أَخْلَصَ، وَكَذَا مَنْ طَلَبَ التَّزْوِيجَ فَقَطْ لَا عَلَى صُورَةِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللَّهِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ الْمُبَاحِ الَّذِي قَدْ يُثَابُ فَاعِلُهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْقُرْبَةَ كَالْإِعْفَافِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ أَبِي طَلْحَةَ فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَكَانَ صَدَاقُ مَا بَيْنَهُمَا الْإِسْلَامُ، أَسْلَمَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ قَبْلَ أَبِي طَلْحَةَ فَخَطَبَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، فَإِنْ أَسْلَمْتَ تَزَوَّجْتُكَ. فَأَسْلَمَ فَتَزَوَّجَتْهُ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَغِبَ فِي الْإِسْلَامِ وَدَخَلَهُ مِنْ وَجْهِهِ وَضَمَّ إِلَى ذَلِكَ إِرَادَةَ التَّزْوِيجِ الْمُبَاحِ فَصَارَ كَمَنْ نَوَى بِصَوْمِهِ الْعِبَادَةَ وَالْحِمْيَةَ،

ص: 17

أَوْ بِطَوَافِهِ الْعِبَادَةَ وَمُلَازَمَةَ الْغَرِيمِ.

وَاخْتَارَ الْغَزَّالِيُّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَصْدُ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الْأَغْلَبَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجْرٌ، أَوِ الدِّينِيُّ أُجِرَ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَتَرَدَّدَ الْقَصْدُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَلَا أَجْرَ. وَأَمَّا إِذَا نَوَى الْعِبَادَةَ وَخَالَطَهَا شيء مِمَّا يُغَايِرُ الْإِخْلَاصَ فَقَدْ نَقَلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالِابْتِدَاءِ، فَإِنْ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ لِلَّهِ خَالِصًا لَمْ يَضُرَّهُ مَا عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ إِعْجَابٍ أَوْ غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَمَلِ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ مُنْتَفِيًا إِذَا خَلَا عَنِ النِّيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ فِعْلِ الشَّيْءِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ حكمه، وَعَلَى أَنَّ الْغَافِلَ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالْمَقْصُودِ وَالْغَافِلُ غَيْرُ قَاصِدٍ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ أَنْ لَا يُحْسَبَ لَهُ إِلَّا مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ، لَكِنْ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِانْعِطَافِهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَهَا أَيْ: أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ أَوِ الْوَقْتَ، وَذَلِكَ بِالِانْعِطَافِ الَّذِي اقْتَضَاهُ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ الثِّقَةَ إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ جَمَاعَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ غَفْلَتُهُمْ عَنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِ، خِلَافًا لِمَنْ أُعِلَّ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ عَلْقَمَةَ ذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ لَمْ يَصِحَّ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ عَنْهُ غَيْرِ عَلْقَمَةَ.

وَاسْتُدِلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ بِعَمَلٍ لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِيهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ جَمْعُ التَّقْدِيمِ فَإِنَّ الرَّاجِحَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ نِيَّةٌ، بِخِلَافِ مَا رَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَخَالَفَهُمْ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقَالَ: الْجَمْعُ لَيْسَ بِعَمَلٍ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ الصَّلَاةُ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَمَعَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَلَمْ يَذْكُرَ ذَلِكَ لِلْمَأْمُومِينَ الَّذِينَ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَأَعْلَمَهُمْ بِهِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَى سَبَبٍ وَيَجْمَعُ مُتَعَدِّدَهُ جِنْسٌ أَنَّ نِيَّةَ الْجِنْسِ تَكْفِي، كَمَنْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَةٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ كَوْنَهَا عَنْ ظِهَارٍ أَوْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِنِيَّاتِهَا، وَالْعَمَلُ هُنَا الْقِيَامُ بِالَّذِي يَخْرَجُ عَنِ الْكَفَّارَةِ اللَّازِمَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُحْوِجٍ إِلَى تَعْيِينِ سَبَبٍ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ - وَشَكَّ فِي سَبَبِهَا - أَجْزَأَهُ إِخْرَاجُهَا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ. وَفِيهِ زِيَادَةُ النَّصِّ عَلَى السَّبَبِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ فِي قِصَّةِ الْمُهَاجِرِ لِتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ، فَذِكْرُ الدُّنْيَا مع الْقِصَّةِ زِيَادَةٌ فِي التَّحْذِيرِ وَالتَّنْفِيرِ. وَقَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فِيهِ إِطْلَاقُ الْعَامِّ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ خَاصًّا، فَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ كَثِيرٍ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ حَيْثُ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ فَدَخَلَ فِيهِ الْعِبَادَاتُ وَالْأَحْكَامُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

2 -

باب

2 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.

[الحديث 2 - أطرافه في: 3215]

الحديث الثاني من أحاديث بدء الوحي:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ التِّنِّيسِيُّ، كَانَ نَزَلَ تِنِّيسَ مِنْ عَمَلِ مِصْرَ، وَأَصْلُهُ دِمَشْقِيٌّ، وَهُوَ مِنْ أَتْقَنِ النَّاسِ فِي الْمُوَطَّأِ، كَذَا وَصَفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ.

قَوْلُهُ: (أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ) هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أَيْ: فِي الِاحْتِرَامِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِهِنَّ لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ لِلتَّغْلِيبِ، وَإِلَّا فَلَا مَان عَ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهَا: أُمُّ الْمُؤْمِنَاتِ، عَلَى الرَّاجِحِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ) هُوَ الْمَخْزُومِيُّ، أَخُو أَبِي جَهْلٍ شَقِيقُهُ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ،

ص: 18

وَاسْتُشْهِدَ فِي فُتُوحِ الشَّامِ.

قَوْلُهُ (سَأَلَ) هَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ حَضَرَتْ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ فَأَخْرَجُوهُ فِي مُسْنَدِ عَائِشَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَارِثُ أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ بَعْدُ، فَيَكُونُ مِنْ مُرْسَلِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَحْكُومٌ بِوَصْلِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَدْ جَاءَ مَا يُؤَيِّدُ الثَّانِيَ، فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ، وَعَامِرٌ فِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ وَجَدْتُ لَهُ مُتَابِعًا عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ صِفَةَ الْوَحْيِ نَفْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ حَامِلِهِ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِسْنَادُ الْإِتْيَانِ إِلَى الْوَحْيِ مَجَازٌ ; لِأَنَّ الْإِتْيَانَ حَقِيقَةٌ مِنْ وَصْفِ حَامِلِهِ. وَاعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصْلُحُ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَإِنَّمَا الْمُنَاسِبُ لكيف بَدْءِ الْوَحْيِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَأَمَّا هَذَا فَهُوَ لِكَيْفِيَّةِ إِتْيَانِ الْوَحْيِ لَا لِبَدْءِ الْوَحْيِ اهـ.

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ السُّؤَالُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ، أَوْ عَنْ كَيْفِيَّةِ ظُهُورِ الْوَحْيِ، فَيُوَافِقُ تَرْجَمَةَ الْبَابِ. قُلْتُ: سِيَاقُهُ يُشْعِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِإِتْيَانِهِ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُنَاسَبَةَ تَظْهَرُ مِنَ الْجَوَابِ ; لِأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى انْحِصَارِ صِفَةِ الْوَحْيِ أَوْ صِفَةِ حَامِلِهِ فِي الْأَمْرَيْنِ فَيَشْمَلُ حَالَةَ الِابْتِدَاءِ، وَأَيْضًا فَلَا أَثَرَ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ هُنَا وَلَوْ لَمْ تَظْهَرِ الْمُنَاسَبَةُ، فَضْلًا عَنْ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ الْبَدَاءَةَ بِالتَّحْدِيثِ عَنْ إِمَامَيِ الْحِجَازِ فَبَدَأَ بِمَكَّةَ ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَدِينَةِ. وَأَيْضًا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَتَعَلَّقَ جَمِيعُ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِبَدْءِ الْوَحْيِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ تَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ وَبِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْوَحْيَ إِلَيْهِ نَظِيرُ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ نَاسَبَ تَقْدِيمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَهُوَ صِفَةُ الْوَحْيِ وَصِفَةُ حَامِلِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْوَحْيَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ لَا تَبَايُنَ فِيهِ، فَحَسُنَ إِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ عَقِبَ حَدِيثِ الْأَعْمَالِ الَّذِي تَقَدَّمَ التَّقْدِيرُ بِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَى تَعَلُّقٍ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَحْيَانًا) جَمْعُ حِينٍ، يُطْلَقُ عَلَى كَثِيرِ الْوَقْتِ وَقَلِيلِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُجَرَّدُ الْوَقْتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَوْقَاتًا يَأْتِينِي، وَانْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَعَامِلُهُ يَأْتِينِي مُؤَخَّرٌ عَنْهُ، وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامٍ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ يَأْتِي الْمَلَكُ، أَيْ: كُلُّ ذَلِكَ حَالَتَانِ فَذَكَرَهُمَا. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِينِي عَلَى نَحْوَيْنِ: يَأْتِينِي بِهِ جِبْرِيلُ فَيُلْقِيهِ عَلَيَّ كَمَا يُلْقِي الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ، فَذَاكَ يَنْفَلِتُ مِنِّي. وَيَأْتِينِي فِي بَيْتِي مِثْلَ صَوْتِ الْجَرَسِ حَتَّى يُخَالِطَ قَلْبِي، فَذَاكَ الَّذِي لَا يَنْفَلِتُ مِنِّي. وَهَذَا مُرْسَلٌ مَعَ ثِقَةِ رِجَالِهِ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} كَمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّ الْمَلَكَ قَدْ تَمَثَّلَ رَجُلًا فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ وَلَمْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ مَا أَتَاهُ بِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ مَجِيئِهِ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ وَفِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ. وَأُورِدَ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ - وَهُوَ أَنَّ الْوَحْيَ مُنْحَصِرٌ فِي الْحَالَتَيْنِ - حَالَاتٌ أُخْرَى: إِمَّا مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ كَمَجِيئِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَالنَّفْثِ فِي الرُّوْعِ، وَالْإِلْهَامِ، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، وَالتَّكْلِيمِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَإِمَّا مِنْ صِفَةِ حَامِلِ الْوَحْيِ كَمَجِيئِهِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَرُؤْيَتِهِ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ سَدَّ الْأُفُقَ.

وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْحَصْرِ فِي الْحَالَتَيْنِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا وَحَمْلُهُمَا عَلَى الْغَالِبِ، أَوْ حَمْلُ مَا يُغَايِرُهُمَا عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ السُّؤَالِ، أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضَ لِصِفَتَيِ الْمَلَكِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِنُدُورِهِمَا، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ كَذَلِكَ إِلَّا مَرَّتَيْنِ أَوْ لَمْ يَأْتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِوَحْيٍ أَوْ أَتَاهُ بِهِ فَكَانَ عَلَى مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِهَا صِفَةَ الْوَحْيِ لَا صِفَةَ حَامِلِهِ.

وَأَمَّا فُنُونُ الْوَحْيِ فَدَوِيُّ النَّحْلِ لَا يُعَارِضُ صَلْصَلَةَ الْجَرَسِ ; لِأَنَّ سَمَاعَ الدَّوِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَاضِرِينَ - كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ - يُسْمَعُ عِنْدَهُ كَدَوِيِّ النَّحْلِ وَالصَّلْصَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَبَّهَهُ عُمَرُ بَدَوِيِّ النَّحْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّامِعِينَ، وَشَبَّهَهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم بِصَلْصَلَةِ الْجَرَسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ.

وَأَمَّا النَّفْثُ فِي الرُّوْعِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ، فَإِذَا أَتَاهُ الْمَلَكُ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ نَفَثَ حِينَئِذٍ فِي رُوْعِهِ. وَأَمَّا الْإِلْهَامُ فَلَمْ يَقَعِ السُّؤَالُ عَنْهُ ; لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ صِفَةِ الْوَحْيِ الَّذِي يَأْتِي بِحَامِلٍ، وَكَذَا التَّكْلِيمُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.

ص: 19

وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ الصَّالِحَةُ فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا تَرِدُ ; لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَمَّا يَنْفَرِدُ بِهِ عَنِ النَّاسِ ; لِأَنَّ الرُّؤْيَا قَدْ يُشْرِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ اهـ. وَالرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَإِنْ كَانَتْ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ فَهِيَ بِاعْتِبَارِ صِدْقِهَا لَا غَيْرُ، وَإِلَّا لَسَاغَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يُسَمَّى نَبِيًّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَقَعَ عَمَّا فِي الْيَقَظَةِ، أَوْ لِكَوْنِ حَالِ الْمَنَامِ لَا يَخْفَى عَلَى السَّائِلِ فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يَخْفَى عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ ظُهُورُ ذَلِكَ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ أَيْضًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا غَيْرُ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِ عَلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ نَوْعًا - فَذَكَرَهَا - وَغَالِبُهَا مِنْ صِفَاتِ حَامِلِ الْوَحْيِ، وَمَجْمُوعُهَا يَدْخُلُ فِيمَا ذُكِرَ، وَحَدِيثُ إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْقَنَاعَةِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَالصَّلْصَلَةُ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا لَامٌ سَاكِنَةٌ: فِي الْأَصْلِ صَوْتُ وُقُوعِ الْحَدِيدِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ صَوْتٍ لَهُ طَنِينٌ، وَقِيلَ: هُوَ صَوْتٌ مُتَدَارَكٌ لَا يُدْرَكُ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَالْجَرَسُ: الْجُلْجُلُ الَّذِي يُعَلَّقُ فِي رُءُوسِ الدَّوَابِّ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْجَرْسِ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهُوَ الْحِسُّ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْجَرَسُ نَاقُوسٌ صَغِيرٌ أَوْ سَطْلٌ فِي دَاخِلِهِ قِطْعَةُ نُحَاسٍ يُعَلَّقُ مَنْكُوسًا عَلَى الْبَعِيرِ، فَإِذَا تَحَرَّكَ تَحَرَّكَتِ النُّحَاسَةُ فَأَصَابَتِ السَّطْلَ فَحَصَلَتِ الصَّلْصَلَةُ اهـ.

وَهُوَ تَطْوِيلٌ لِلتَّعْرِيفِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَقَوْلُهُ: قِطْعَةُ نُحَاسٍ مُعْتَرَضٌ، لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَكَذَا الْبَعِيرُ وَكَذَا قَوْلُهُ مَنْكُوسًا ; لِأَنَّ تَعْلِيقَهُ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ هُوَ وَضْعُهُ الْمُسْتَقِيمُ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَحْمُودُ لَا يُشَبَّهُ بِالْمَذْمُومِ، إِذْ حَقِيقَةُ التَّشْبِيهِ إِلْحَاقُ نَاقِصٍ بِكَامِلٍ، وَالْمُشَبَّهُ الْوَحْيُ وَهُوَ مَحْمُودٌ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ صَوْتُ الْجَرَسِ وَهُوَ مَذْمُومٌ لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْهُ وَالتَّنْفِيرِ مِنْ مُرَافَقَةِ مَا هُوَ مُعَلَّقٌ فِيهِ وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ لَا تَصْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا، فَكَيْفَ يُشَبَّهُ مَا فَعَلَهُ الْمَلَكُ بِأَمْرٍ تَنْفِرُ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي التَّشْبِيهِ تَسَاوِي الْمُشَبَّهِ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الصِّفَاتِ كُلِّهَا، بَلْ وَلَا فِي أَخَصِّ وَصْفٍ لَهُ، بَلْ يَكْفِي اشْتِرَاكُهُمَا فِي صِفَةٍ مَا، فَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ الْجِنْسِ، فَذَكَرَ مَا أَلِفَ السَّامِعُونَ سَمَاعَهُ تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِهِمْ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّوْتَ لَهُ جِهَتَانِ: جِهَةُ قُوَّةٍ وَجِهَةُ طَنِينٍ، فَمِنْ حَيْثُ الْقُوَّةُ وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهِ، وَمِنْ حَيْثُ الطَّرَبُ وَقَعَ التَّنْفِيرُ عَنْهُ، وَعُلِّلَ بِكَوْنِهِ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْهُ وَقَعَ بَعْدَ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ وَفِيهِ نَظَرٌ. قِيلَ: وَالصَّلْصَلَةُ الْمَذْكُورَةُ صَوْتُ الْمَلَكِ بِالْوَحْيِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهُ صَوْتٌ مُتَدَارَكٌ يَسْمَعُهُ وَلَا يَتَبَيَّنُهُ أَوَّلَ مَا يَسْمَعُهُ حَتَّى يَفْهَمَهُ بَعْدُ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ صَوْتُ حَفِيفِ أَجْنِحَةِ الْمَلَكِ.

وَالْحِكْمَةُ فِي تَقَدُّمِهِ أَنْ يَقْرَعَ سَمْعَهُ الْوَحْيُ فَلَا يَبْقَى فِيهِ مَكَانٌ لِغَيْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْجَرَسُ لَا تَحْصُلُ صَلْصَلَتُهُ إِلَّا مُتَدَارِكَةً وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْآلَاتِ، وَسَيَأْتِي كَلَامُ ابْنِ بَطَّالٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا الْحَدِيثَ، عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبَأٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ) يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْوَحْيَ كُلَّهُ شَدِيدٌ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ أَشَدُّهَا، وَهُوَ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ الْفَهْمَ مِنْ كَلَامِ مِثْلِ الصَّلْصَلَةِ أَشْكَلُ مِنَ الْفَهْمِ مِنْ كَلَامِ الرَّجُلِ بِالتَّخَاطُبِ الْمَعْهُودِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْقَائِلِ وَالسَّامِعِ، وَهِيَ هُنَا إِمَّا بِاتِّصَافِ السَّامِعِ بِوَصْفِ الْقَائِلِ بِغَلَبَةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ، وَإِمَّا بِاتِّصَافِ الْقَائِلِ بِوَصْفِ السَّامِعِ وَهُوَ الْبَشَرِيَّةُ وَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ بِلَا شَكٍّ.

وَقَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْبُلْقِينِيُّ: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ الْعَظِيمَ لَهُ مُقَدِّمَاتٌ تُؤْذِنُ بِتَعْظِيمِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنَّمَا كَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ لِيَسْتَجْمِعَ قَلْبَهُ فَيَكُونُ أَوْعَى لِمَا سَمِعَ اهـ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَنْزِلُ هَكَذَا إِذَا نَزَلَتْ آيَةُ وَعِيدٍ أَوْ تَهْدِيدٍ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ فِي قِصَّةِ لَابِسِ الْجُبَّةِ الْمُتَضَمِّخِ بِالطِّيبِ فِي الْحَجِّ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ رَآهُ صلى الله عليه وسلم حَالَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيَغِطُّ، وَفَائِدَةُ هَذِهِ الشِّدَّةُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَشَقَّةِ مِنْ زِيَادَةِ الزُّلْفَى وَالدَّرَجَاتِ.

قَوْلُهُ: (فَيَفْصِمُ) بفَتْح أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: يُقْلِعُ وَيَتَجَلَّى مَا يَغْشَانِي، وَيُرْوَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي ذَرٍّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الصَّادِ

ص: 20

عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَأَصْلُ الْفَصْمِ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {لا انْفِصَامَ لَهَا} وَقِيلَ الْفَصْمُ بِالْفَاءِ الْقَطْعُ بِلَا إِبَانَةٍ وَبِالْقَافِ الْقَطْعُ بِإِبَانَةٍ، فَذَكَرَ بِالْفَصْمِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَلَكَ فَارَقَهُ لِيَعُودَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا بَقَاءُ الْعُلْقَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ) أَيِ: الْقَوْلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَفِيهِ إِسْنَادُ الْوَحْيِ إِلَى قَوْلِ الْمَلَكِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَمَّنْ قَالَ مِنَ الْكُفَّارِ {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْوَحْيَ، وَيُنْكِرُونَ مَجِيءَ الْمَلَكِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا) التَّمَثُّلُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمِثْلِ، أَيْ: يَتَصَوَّرُ. وَاللَّامُ فِي الْمَلَكِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يَتَشَكَّلُ بِشَكْلِ الْبَشَرِ.

قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الْمَلَائِكَةُ أَجْسَامٌ عُلْوِيَّةٌ لَطِيفَةٌ تَتَشَكَّلُ أَيَّ شَكْلٍ أَرَادُوا، وَزَعَمَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّهَا جَوَاهِرٌ رُوحَانِيَّةٌ، وَرَجُلًا مَنْصُوبٌ بِالْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: يَتَمَثَّلُ مِثْلَ رَجُلٍ، أَوْ بِالتَّمْيِيزِ، أَوْ بِالْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: هَيْئَةَ رَجُلٍ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: تَمَثُّلُ جِبْرِيلَ، مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَفْنَى الزَّائِدَ مِنْ خَلْقِهِ أَوْ أَزَالَهُ عَنْهُ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَيْهِ بَعْدُ. وَجَزَمَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِالْإِزَالَةِ دُونَ الْفَنَاءِ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُهَا مُوجِبًا لِمَوْتِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى الْجَسَدُ حَيًّا ; لِأَنَّ مَوْتَ الْجَسَدِ بِمُفَارَقَةِ الرُّوحِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَقْلًا بَلْ بِعَادَةٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي بَعْضِ خَلْقِهِ.

وَنَظِيرُهُ انْتِقَالُ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ إِلَى أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ: مَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَا يَنْحَصِرُ الْحَالُ فِيهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الآتي هُوَ جِبْرِيلَ بِشَكْلِهِ الْأَصْلِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ انْضَمَّ فَصَارَ عَلَى قَدْرِ هَيْئَةِ الرَّجُلِ، وَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ عَادَ إِلَى هَيْئَتِهِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ الْقُطْنُ إِذَا جُمِعَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُنْتَفِشًا، فَإِنَّهُ بِالنَّفْشِ يَحْصُلُ لَهُ صُورَةٌ كَبِيرَةٌ وَذَاتُهُ لَمْ تَتَغَيَّرَ. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ، وَالْحَقُّ أَنَّ تَمَثُّلَ الْمَلَكِ رَجُلًا لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَاتَهُ انْقَلَبَتْ رَجُلًا، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ ظَهَرَ بِتِلْكَ الصُّورَةِ تَأْنِيسًا لِمَنْ يُخَاطِبَهُ. وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّ الْقَدْرَ الزَّائِدَ لَا يَزُولُ وَلَا يَفْنَى، بَلْ يَخْفَى عَلَى الرَّائِي فَقَطْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَيُكَلِّمُنِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ فَيُعَلِّمُنِي بِالْعَيْنِ بَدَلَ الْكَافِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ رِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ بِالْكَافِ، وَكَذَا لِلدَّارَقُطْنِيِّ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَعِي مَا يَقُولُ) زَادَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُهُ عَلَيَّ. وَقَدْ وَقَعَ التَّغَايُرُ فِي الْحَالَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِي الأول: وَقَدْ وَعَيْتُ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَهُنَا فَأَعِي بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ ; لِأَنَّ الْوَعْيَ حَصَلَ فِي الْأَوَّلِ قَبْلَ الْفَصْمِ، وَفِي الثَّانِي حَصَلَ حَالَ الْمُكَالَمَةِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَوَّلِ قَدْ تَلَبَّسَ بِالصِّفَاتِ الْمَلَكِيَّةِ فَإِذَا عَادَ إِلَى حَالَتِهِ الْجِبِلِّيَّةِ كَانَ حَافِظًا لِمَا قِيلَ لَهُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي، بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّهُ عَلَى حَالَتِهِ الْمَعْهُودَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ عَائِشَةُ) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ كَمَا يَسْتَعْمِلُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ كَثِيرًا، وَحَيْثُ يُرِيدُ التَّعْلِيقُ يَأْتِي بِحَرْفِ الْعَطْفِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ عَتِيقِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ مَالِكٍ مَفْصُولًا عَنِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا فَصَلَهُمَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ وَنُكْتَةُ هَذَا الِاقْتِطَاعِ هُنَا اخْتِلَافُ التَّحَمُّلِ ; لِأَنَّهَا فِي الْأَوَّلِ أَخْبَرَتْ عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَارِثِ، وَفِي الثَّانِي أَخْبَرَتْ عَمَّا شَاهَدَتْ تَأْيِيدًا لِلْخَبَرِ الْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (لَيَتَفَصَّدُ) بِالْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَصْدِ وَهُوَ قَطْعُ الْعِرْقِ لِإِسَالَةِ الدَّمِ، شُبِّهَ جَبِينُهُ بِالْعِرْقِ الْمَفْصُودِ مُبَالَغَةً فِي كَثْرَةِ الْعَرَقِ. وَفِي قَوْلِهَا: فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، دِلَالَةٌ عَلَى كَثْرَةِ مُعَانَاةِ التَّعَبِ وَالْكَرْبِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ، وَهُوَ كَثْرَةُ الْعَرَقِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِوُجُودِ أَمْرٍ طَارِئٍ زَائِدٍ عَلَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: عَرَقًا بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، زَادَ ابْنُ أَبِي الزِّنَا، عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ: وَإِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ فَيَضْرِبُ حِزَامَهَا مِنْ ثِقَلِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ.

(تَنْبِيهٌ): حَكَى الْعَسْكَرِيُّ فِي التَّصْحِيفِ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ قَرَأَ: لَيَتَقَصَّدُ بِالْقَافِ، ثُمَّ قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: إِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَقَصَّدَ الشَّيْءُ، إِذَا تَكَسَّرَ وَتَقَطَّعَ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا التَّصْحِيفِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْمُؤْتَمِنُ السَّاجِيُّ بِالْفَاءِ، قَالَ: فَأَصَرَّ عَلَى الْقَافِ، وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ طَاهِرٍ، عَنِ

ص: 21

ابْنِ نَاصِرٍ أَنَّهُ رَدَّ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ لَمَّا قَرَأَهَا بِالْقَافِ، قَالَ: فَكَابَرَنِي. قُلْتُ: وَلَعَلَّ ابْنَ طَاهِرٍ وَجَّهَهَا بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعَسْكَرِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ - غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ - أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ لِطَلَبِ الطُّمَأْنِينَةِ لَا يَقْدَحُ فِي الْيَقِينِ، وَجَوَازُ السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ إِذَا كَانَ ذَا أَقْسَامٍ يَذْكُرُ الْمُجِيبُ فِي أَوَّلِ جَوَابِهِ مَا يَقْتَضِي التَّفْصِيلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

3 -

باب

3 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ، اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.

[الحديث 3 - أطرافه في: 6982، 4957، 4956، 4955، 4953، 3392]

الحديث الثالث:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) هُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ نسبه إِلَى جَدِّهِ لِشُهْرَتِهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ حُفَّاظِ الْمِصْرِيِّينَ، وَأَثْبَتُ النَّاسِ فِي اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ الْفَهْمِيِّ فَقِيهِ الْمِصْرِيِّينَ. وَعُقَيْلٌ بِالضَّمِّ عَلَى التَّصْغِيرِ، وَهُوَ مِنْ أَثْبَتِ الرُّوَاةِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ الْفَقِيهُ، نُسِبَ إِلَى جَدِّ جَدِّهِ لِشُهْرَتِهِ، الزُّهْرِيُّ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ الْأَعْلَى زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، وَهُوَ مِنْ رَهْطِ آمِنَةَ أُمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، اتَّفَقُوا عَلَى إِتْقَانِهِ وَإِمَامَتِهِ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْوَحْيِ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً، أَيْ:

ص: 22

مِنْ أَقْسَامِ الْوَحْيِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً وَرَجَّحَهُ الْقَزَّازُ

(1)

وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَيُونُسَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ الصَّادِقَةُ وَهِيَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ضِغْثٌ، وَبُدِئَ بِذَلِكَ لِيَكُونَ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِلْيَقَظَةِ، ثُمَّ مَهَّدَ لَهُ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا رُؤْيَةَ الضَّوْءِ وَسَمَاعَ الصَّوْتِ وَسَلَامَ الْحَجَرِ.

قَوْلُهُ: (فِي النَّوْمِ) لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ، أَوْ لِيُخْرِجَ رُؤْيَا الْعَيْنِ فِي الْيَقَظَةِ لِجَوَازِ إِطْلَاقِهَا مَجَازًا.

قَوْلُهُ: (مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) بِنَصْبِ مِثْلَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُشْبِهَةً ضِيَاءَ الصُّبْحِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ: جَاءَتْ مَجِيئًا مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. وَالْمُرَادُ بِفَلَقِ الصُّبْحِ ضِيَاؤُهُ. وَخُصَّ بِالتَّشْبِيهِ لِظُهُورِهِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (حُبِّبَ) لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْبَاعِثِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَاعِثِ الْبَشَرِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الْإِلْهَامِ. وَالْخَلَاءُ بِالْمَدِّ الْخَلْوَةُ، وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْخَلْوَةَ فَرَاغُ الْقَلْبِ لِمَا يَتَوَجَّهُ لَهُ. وَحِرَاءُ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ أَوَّلِهِ كَذَا فِي الرِّوَايَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ وَقَدْ حُكِيَ أَيْضًا، وَحُكِيَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ جَوَازًا لَا رِوَايَةً. هُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِمَكَّةَ. وَالْغَارُ نَقْبٌ فِي الْجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانُ.

قَوْلُهُ: (فَيَتَحَنَّثُ) هِيَ بِمَعْنَى يَتَحَنَّفُ، أَيْ: يَتَّبِعُ الحنيفية وَهِيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْفَاءُ تُبْدَلُ ثَاءً فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ يَتَحَنَّفُ بِالْفَاءِ، أَوِ التَّحَنُّثُ: إِلْقَاءُ الْحِنْثِ وَهُوَ الْإِثْمُ، كَمَا قِيلَ: يَتَأَثَّمُ وَيَتَحَرَّجُ وَنَحْوُهُمَا.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ التَّعَبُّدُ) هَذَا مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ، وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الزُّهْرِيِّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الطِّيبِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهُ، نَعَمْ فِي رِوَايَةِ الْمُؤَلِّفِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْهُ فِي التَّفْسِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِدْرَاجِ.

قَوْلُهُ: (اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: يَتَحَنَّثُ، وَإِبْهَامُ الْعَدَدِ لِاخْتِلَافِهِ، كَذَا قِيلَ. وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُدَدِ الَّتِي يَتَخَلَّلُهَا مَجِيئُهُ إِلَى أَهْلِهِ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الْخَلْوَةِ قَدْ عُرِفَتْ مُدَّتُهَا وَهِيَ شَهْرٌ، وَذَلِكَ الشَّهْرُ كَانَ رَمَضَانَ، رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.

وَاللَّيَالِي مَنْصُوبَةٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَذَوَاتُ مَنْصُوبَةٌ أَيْضًا وَعَلَامَةُ النَّصْبِ فِيهِ كَسْرُ التَّاءِ. وَيَنْزِعُ بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: يَرْجِعُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَرَوَاهُ الْمُؤَلِّفُ بِلَفْظِهِ فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (لِمِثْلِهَا) أَيِ: اللَّيَالِي. وَالتَّزَوُّدُ اسْتِصْحَابُ الزَّادِ. وَيَتَزَوَّدُ مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَحَنَّثُ.

وَخَدِيجَةُ هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، تَأْتِي أَخْبَارُهَا فِي مَنَاقِبِهَا.

قَوْلُهُ: (حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ) أَيِ: الْأَمْرُ الْحَقُّ، وَفِي التَّفْسِيرِ: حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ - بِكَسْرِ الْجِيمِ - أَيْ بَغَتَهُ. وَإِنْ ثَبَتَ مِنْ مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فِي الْمَنَامِ أَوَّلًا قَبْلَ الْيَقَظَةِ، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ الْمَلَكِ فِي الْيَقَظَةِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنَامِ. وَسُمِّيَ حَقًّا لِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلُ شَأْنِهِ يَرَى فِي الْمَنَامِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا رَأَى جِبْرِيلَ بِأَجْيَادٍ، صَرَخَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، فَنَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَفَعَ بَصَرَهُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أُفُقِ السَّمَاءِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، جِبْرِيلُ، فَهَرَبَ فَدَخَلَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ فَنَادَاهُ فَهَرَبَ، ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إِقْرَائِهِ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وَرَأَى حِينَئِذٍ جِبْرِيلَ لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ يَاقُوتٍ يَخْتَطِفَانِ الْبَصَرَ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا لَمْ أَرَهُ - يَعْنِي جِبْرِيلَ - عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ، وَبَيَّنَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْأُولَى كَانَتْ عِنْدَ سُؤَالِهِ إِيَّاهُ أَنْ يُرِيَهُ صُورَتَهُ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَالثَّانِيَةَ عِنْدَ الْمِعْرَاجِ.

وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَرَ مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَمَرَّةً فِي أَجْيَادَ، وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَةَ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْمَرَّةُ غَيْرَ الْمَرَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَضُمَّهَا إِلَيْهِمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ رَآهُ فِيهَا عَلَى تَمَامِ صُورَتِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَوَقَعَ فِي السِّيرَةِ الَّتِي جَمَعَهَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فَرَوَاهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ وَلَدِهِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حِرَاءَ وَأَقْرَأَهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبَقِيَ مُتَرَدِّدًا، فَأَتَاهُ مِنْ أَمَامِهِ فِي صُورَتِهِ فَرَأَى أَمْرًا عَظِيمًا.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَهُ) هَذِهِ الْفَاءُ

(1)

هو محمد بن جعفر القيرواني أبو عبد الله التميمي صاحب (الجامع في اللغة) توفي سنة 412 (عن بغية الوعات)

ص: 23

تُسَمَّى التَّفْسِيرِيَّةَ وَلَيْسَتِ التَّعْقِيبِيَّةَ ; لِأَنَّ مَجِيءَ الْمَلَكِ لَيْسَ بَعْدَ مَجِيءِ الْوَحْيِ حَتَّى تُعَقَّبَ بِهِ، بَلْ هُوَ نَفْسُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَفْسِيرِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، بَلِ التَّفْسِيرُ عَيْنُ الْمُفَسَّرِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ، وَغَيْرُهُ مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ.

قَوْلُهُ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) ثَلَاثًا، مَا نَافِيَةٌ، إِذْ لَوْ كَانَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً لَمْ يَصْلُحْ دُخُولُ الْبَاءِ، وَإِنْ حُكِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ جَوَازُهُ فَهُوَ شَاذٌّ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: مَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا قِيلَ لَهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أَيْ: لَا تَقْرَؤُهُ بِقُوَّتِكَ وَلَا بِمَعْرِفَتِكَ، لَكِنْ بِحَوْلِ رَبِّكَ وَإِعَانَتِهِ، فَهُوَ يُعَلِّمُكَ، كَمَا خَلَقَكَ وَكَمَا نَزَعَ عَنْكَ عَلَقَ الدَّمِ وَغَمْزَ الشَّيْطَانِ فِي الصِّغَرِ، وَعَلَّمَ أُمَّتَكَ حَتَّى صَارَتْ تَكْتُبُ بِالْقَلَمِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أُمِّيَّةً، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ - وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ - يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ. وَرَدَّهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفِيدُ التَّقْوِيَةَ وَالتَّأْكِيدَ، وَالتَّقْدِيرُ: لَسْتُ بِقَارِئٍ الْبَتَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ كَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا؟ أَجَابَ أَبُو شَامَةَ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ أَوَّلًا مَا أَنَا بِقَارِئٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَثَانِيًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِالنَّفْيِ الْمَحْضِ، وَثَالِثًا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ فِي مَغَازِيهِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ أَقْرَأُ؟ وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عند ابْنِ إِسْحَاقَ: مَاذَا أَقْرَأُ؟ وَفِي مُرْسَلِ الزُّهْرِيِّ فِي دَلَائِلِ الْبَيْهَقِيِّ: كَيْفَ أَقْرَأُ؟ وكُلُّ ذَلِكَ يُؤَيِّدُ أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَغَطَّنِي) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ كَأَنَّهُ أَرَادَ ضَمَّنِي وَعَصَرَنِي، وَالْغَطُّ: حَبْسُ النَّفَسِ، وَمِنْهُ غَطَّهُ فِي الْمَاءِ، أَوْ أَرَادَ غَمَّنِي وَمِنْهُ الْخَنْقُ. وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: فَأَخَذَ بِحَلْقِي.

قَوْلُهُ: (حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ) رُوِيَ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ، أَيْ: بَلَغَ الْغَطُّ مِنِّي غَايَةَ وُسْعِي. وَرُوِيَ بِالضَّمِّ وَالرَّفْعِ أَيْ بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ مَبْلَغَهُ. وَقَوْلُهُ: أَرْسَلَنِي أَيْ: أَطْلَقَنِي، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَهْدَ هُنَا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (فَرَجَعَ بِهَا) أَيْ: بِالْآيَاتِ أَوْ بِالْقِصَّةِ.

قَوْلُهُ: (فَزَمَّلُوهُ) أَيْ: لَفُّوهُ. وَالرَّوْعُ بِالْفَتْحِ: الْفَزَعُ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) دَلَّ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ: يَرْجُفُ فُؤَادُهُ عَلَى انْفِعَالٍ حَصَلَ لَهُ مِنْ مَجِيءِ الْمَلَكِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: زَمِّلُونِي. وَالْخَشْيَةُ الْمَذْكُورَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا:

أَوَّلُهَا: الْجُنُونُ وَأَنْ يَكُونَ مَا رَآهُ مِنْ جِنْسِ الْكَهَانَةِ، جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي عِدَّةِ طُرُقٍ، وَأَبْطَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَحُقَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ، لَكِنْ حَمَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ قَبْلَ حُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَهُ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُ مَلَكٌ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

ثَانِيهَا: الْهَاجِسُ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ وَهَذَا اسْتَقَرَّ وَحَصَلَتْ بَيْنَهُمَا الْمُرَاجَعَةُ.

ثَالِثُهَا: الْمَوْتُ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ.

رَابِعُهَا: الْمَرَضُ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ.

خَامِسُهَا: دَوَامُ الْمَرَضِ.

سَادِسُهَا: الْعَجْزُ عَنْ حَمْلِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ.

سَابِعُهَا: الْعَجْزُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْمَلَكِ مِنَ الرُّعْبِ.

ثَامِنُهَا: عَدَمُ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ.

تَاسِعُهَا: أَنْ يَقْتُلُوهُ.

عَاشِرُهَا: مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ.

حَادِيَ عَشَرِهَا: تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاهُ.

ثَانِيَ عَشَرِهَا: تَعْيِيرُهُمْ إِيَّاهُ.

وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ وَأَسْلَمُهَا مِنَ الِارْتِيَابِ الثَّالِثُ وَاللَّذَانِ بَعْدَهُ، وَمَا عَدَاهَا فَهُوَ مُعْتَرَضٌ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلَّا) مَعْنَاهَا النَّفْيُ وَالْإِبْعَادُ، وَيَحْزُنْكَ، بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ الْمَضْمُومَةِ وَالنُّونِ مِنَ الْحُزْنِ. وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ الْمَكْسُورَةِ ثُمَّ الْيَاءِ السَّاكِنَةِ مِنَ الْخِزْيِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّتْ عَلَى مَا أَقْسَمَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ أَبَدًا بِأَمْرٍ اسْتِقْرَائِيٍّ وَصَفَتْهُ بِأُصُولِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ; لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِمَّا إِلَى الْأَقَارِبِ أَوْ إِلَى الْأَجَانِبِ، وَإِمَّا بِالْبَدَنِ أَوْ بِالْمَالِ، وَإِمَّا عَلَى مَنْ يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ أَوْ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ فِيمَا وَصَفَتْهُ بِهِ. وَالْكَلُّ بِفَتْحِ الْكَافِ: هُوَ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} وَقَوْلُهَا: وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَتُكْسِبُ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَعَلَيْهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الصَّوَابُ الْمُعْدِمُ بِلَا وَاوٍ أَيِ: الْفَقِيرُ ; لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَكْسِبُ. قُلْتُ: وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْمُعْدِمِ الْمَعْدُومَ لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَا تَصَرُّفَ لَهُ، وَالْكَسْبُ هُوَ الِاسْتِفَادَةُ. فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: إِذَا رَغِبَ غَيْرُكَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مَالًا مَوْجُودًا رَغِبْتَ أَنْتَ أَنْ تَسْتَفِيدَ رَجُلًا عَاجِزًا فَتُعَاوِنَهُ. وَقَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدَّلَائِلِ: قَوْلُهُ: يَكْسِبُ،

ص: 24

مَعْنَاهُ: مَا يَعْدَمُهُ غَيْرُهُ وَيَعْجِزُ عَنْهُ يُصِيبُهُ هُوَ وَيَكْسِبُهُ.

قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَمْدَحُ إِنْسَانًا: كَانَ أَكْسَبَهُمْ لِمَعْدُومٍ، وَأَعْطَاهُمْ لِمَحْرُومٍ وَأُنْشِدَ فِي وَصْفِ ذِئْبٍ:

كسوب كذا

(1)

المعدوم من كسب واحد، أَيْ: مِمَّا يَكْسِبُهُ وَحْدَهُ، انْتَهَى. وَلِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَتَكْسِبُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ.

قُلْتُ: قَدْ وَجَّهْنَا الْأُولَى، وَهَذِهِ الرَّاجِحَةُ، وَمَعْنَاهَا: تُعْطِي النَّاسَ مَا لَا يَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِكَ، فَحَذَفَ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ، وَيُقَالُ: كَسَبْتَ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتَهُ بِمَعْنًى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تَكْسِبُ الْمَالَ الْمَعْدُومَ وَتُصِيبُ مِنْهُ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرُكَ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ، لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْبَعْثَةِ مَحْظُوظًا فِي التِّجَارَةِ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا الْمَعْنَى إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ مَعَ إِفَادَتِهِ لِلْمَالِ يَجُودُ بِهِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْمَكْرُمَاتِ.

وَقَوْلُهَا: وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ هِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِأَفْرَادِ مَا تَقَدَّمَ وَلِمَا لَمْ يَتَقَدَّمْ وَفِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَهِيَ مِنْ أَشْرَفِ الْخِصَالِ. وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: وَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْفَوَائِدِ اسْتِحْبَابُ تَأْنِيسِ مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ بِذِكْرِ تَيْسِيرِهِ عَلَيْهِ وَتَهْوِينِهِ لَدَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُطْلِعَ عَلَيْهِ مَنْ يَثِقُ بِنَصِيحَتِهِ وَصِحَّةِ رَأْيِهِ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَتْ بِهِ)، أَيْ: مَضَتْ مَعَهُ، فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَوَرَقَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَقَوْلُهُ: ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ هُوَ بِنَصْبِ ابْنِ وَيُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ وَرَقَةَ أَوْ صِفَةٌ أَوْ بَيَانٌ، وَلَا يَجُوزُ جَرُّهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ صِفَةً لِعَبْدِ الْعُزَّى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا كَتْبُهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ عَلَمَيْنِ.

قَوْلُهُ: (تَنَصَّرَ)، أَيْ: صَارَ نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ هُوَ وَزَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ لَمَّا كَرِهَا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ إِلَى الشَّامِ وَغَيْرِهَا يَسْأَلُونَ عَنِ الدِّينِ، فَأَمَّا وَرَقَةُ فَأَعْجَبَهُ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ فَتَنَصَّرَ، وَكَانَ لَقِيَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الرُّهْبَانِ عَلَى دِينِ عِيسَى وَلَمْ يُبَدِّلْ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ بِشَأْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْبِشَارَةِ بِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَفْسَدَهُ أَهْلُ التَّبْدِيلِ وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو فَسَيَأْتِي خَبَرُهُ فِي الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ)، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَمَعْمَرٍ: وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَلِمُسْلِمٍ: فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ. وَالْجَمِيعُ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ وَرَقَةَ تَعَلَّمَ اللِّسَانَ الْعِبْرَانِيَّ وَالْكِتَابَةَ الْعِبْرَانِيَّةَ فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ كَمَا كَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْكِتَابَيْنِ وَاللِّسَانَيْنِ. وَوَقَعَ لِبَعْضِ الشُّرَّاحِ هُنَا خَبْطٌ فَلَا يُعْرَّجُ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا وَصَفَتْهُ بِكِتَابَةِ الْإِنْجِيلِ دُونَ حِفْظِهِ لِأَنَّ حِفْظَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَكُنْ مُتَيَسِّرًا كَتَيَسُّرِ حِفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ، فَلِهَذَا جَاءَ فِي صِفَتِهَا أَنَاجِيلُهَا صُدُورُهَا. قَوْلُهَا يَا ابْنَ عَمِّ هَذَا النِّدَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ: يَا عَمُّ وَهُوَ وَهْمٌ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لِجَوَازِ إِرَادَةِ التَّوْقِيرِ لَكِنَّ الْقِصَّةَ لَمْ تَتَعَدَّدْ وَمَخْرَجُهَا مُتَّحِدٌ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، فَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى فِي الْعِبْرَانِيِّ وَالْعَرَبِيِّ ; لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي فِي وَصْفِ وَرَقَةَ وَاخْتَلَفَتِ الْمَخَارِجُ فَأَمْكَنَ التَّعْدَادُ، وَهَذَا الْحُكْمُ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ مَا أَشْبَهَهُ.

وَقَالَتْ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. لِأَنَّ وَالِدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَوَرَقَةُ فِي عِدَدِ النَّسَبِ إِلَى قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الَّذِي يَجْتَمِعَانِ فِيهِ سَوَاءً، فَكَانَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فِي دَرَجَةِ إِخْوَتِهِ. أَوْ قَالَتْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيرِ لِسِنِّهِ. وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَاجَةِ يُقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْ يُعْرَفُ بِقَدْرِهِ مِمَّنْ يَكُونُ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْئُولِ، وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِ خَدِيجَةَ لِوَرَقَةَ: اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، أَرَادَتْ بِذَلِكَ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِسَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّعْلِيمِ

(2)

.

قَوْلُهُ: (مَاذَا تَرَى؟) فِيهِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: فَأَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ ابْنَ عَمِّهَا فَأَخْبَرَتْهُ بِالَّذِي رَأَى.

قَوْلُهُ: (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى). وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنْزَلَ اللَّهُ، وَفِي التَّفْسِيرِ: أُنْزِلَ، عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِلَى الْمَلَكِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي خَبَرِهِ، وَنَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَرِيبِ لِقُرْبِ ذِكْرِهِ.

(1)

ن. خ: لذا.

(2)

ن خ: في التعظيم.

ص: 25

وَالنَّامُوسُ: صَاحِبُ السِّرِّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمُؤَلِّفُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَزَعَمَ ابْنُ ظَفَرٍ أَنَّ النَّامُوسَ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ، وَالْجَاسُوسَ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ. وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ أَحَدُ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّامُوسِ هُنَا جِبْرِيلُ عليه السلام. وَقَوْلُهُ: عَلَى مُوسَى، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى عِيسَى مَعَ كَوْنِهِ نَصْرَانِيًّا ; لِأَنَّ كِتَابَ مُوسَى عليه السلام مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، بِخِلَافِ عِيسَى. وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. أَوْ لِأَنَّ مُوسَى بُعِثَ بِالنِّقْمَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ، بِخِلَافِ عِيسَى. كَذَلِكَ وَقَعَتِ النِّقْمَةُ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِفِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَمَنْ مَعَهُ بِبَدْرٍ.

أَوْ قَالَهُ تَحْقِيقًا لِلرِّسَالَةِ ; لِأَنَّ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَى مُوسَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، بِخِلَافِ عِيسَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ، وَأَمَّا مَا تَمَحَّلَ لَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَنَّ وَرَقَةَ كَانَ عَلَى اعْتِقَادِ النَّصَارَى فِي عَدَمِ نُبُوَّةِ عِيسَى وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ أَحَدُ الْأَقَانِيمِ فَهُوَ مُحَالٌ لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ وَرَقَةَ وَأَشْبَاهِهِ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّبْدِيلِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَمَّنْ بَدَّلَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ وَرَقَةَ قَالَ: نَامُوسُ عِيسَى. وَالْأَصَحُّ مَا تَقَدَّمَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ ضَعِيفٌ. نَعَمْ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ إِلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلًا أَتَتِ ابْنَ عَمِّهَا وَرَقَةَ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِنِي إِنَّهُ لَيَأْتِيهِ نَامُوسُ عِيسَى الَّذِي لَا يُعَلِّمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَبْنَاءَهُمْ. فَعَلَى هَذَا فَكَانَ وَرَقَةُ يَقُولُ: تَارَةً نَامُوسُ عِيسَى، وَتَارَةً: نَامُوسُ مُوسَى، فَعِنْدَ إِخْبَارِ خَدِيجَةَ لَهُ بِالْقِصَّةِ قَالَ لَهَا: نَامُوسُ عِيسَى، بِحَسَبِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَعِنْدَ إِخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ قَالَ لَهُ: نَامُوسُ مُوسَى، لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَكُلٌّ صَحِيحٍ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمُقَدَّرَةِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: التَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَنِي جُعِلْتُ فِيهَا جَذَعًا. وَقِيلَ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ إِذَا جَعَلْتَ فِيهَا خَبَرَ لَيْتَ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ وَضَمِيرُ فِيهَا يَعُودُ عَلَى أَيَّامِ الدَّعْوَةِ. وَالْجَذَعُ - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ - هُوَ الصَّغِيرُ مِنَ الْبَهَائِمِ، كَأَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ظُهُورِ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ شَابًّا لِيَكُونَ أَمْكَنَ لِنَصْرِهِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ سِرُّ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ كَانَ كَبِيرًا أَعْمَى.

قَوْلُهُ: (إِذْ يُخْرِجُكَ) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ اسْتِعْمَال إِذْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَإِذَا، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَغَفَلَ عَنْهُ أَكْثَرُ النُّحَاةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ النُّحَاةَ لَمْ يُغْفِلُوهُ بَلْ مَنَعُوا وُرُودَهُ، وَأَوَّلُوا مَا ظَاهِرُهُ ذَلِكَ وَقَالُوا فِي مِثْلِ هَذَا: اسْتَعْمَلَ الصِّيغَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ فَأَنْزَلُوهُ مَنْزِلَتَهُ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ هُنَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي التَّعْبِيرِ: حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ مَا ادَّعَاهُ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ ارْتِكَابُ مَجَازٍ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ فِيهِ ارْتِكَابُ مَجَازٍ، وَمَجَازُهُمْ أَوْلَى، لِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ إِيقَاعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِي صُورَةِ الْمُضِيِّ تَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ أَوِ اسْتِحْضَارًا لِلصُّورَةِ الْآتِيَةِ فِي هَذِهِ دُونَ تِلْكَ مَعَ وُجُودِهِ فِي أَفْصَحِ الْكَلَامِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِمَنْعِ الْوُرُودِ وُرُودًا مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ لَا عَلَى تَأْوِيلِ الِاسْتِقْبَالِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمُسْتَحِيلِ إِذَا كَانَ فِي فِعْلِ خَيْرٍ ; لِأَنَّ وَرَقَةَ تَمَنَّى أَنْ يَعُودَ شَابًّا، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً. وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ التَّمَنِّيَ لَيْسَ مَقْصُودًا عَلَى بَابِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهُ عَلَى صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ، وَالتَّنْوِيهُ بِقُوَّةِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا يَجِيءُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا جَمْعُ مُخْرِجٍ، فَهُمْ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَمُخْرِجِيَّ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَاسْتَبْعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْرِجُوهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ، لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَقَدَّمَ مِنْ خَدِيجَةَ وَصْفُهَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ الدُّغُنَّةِ بِمِثْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا عُودِيَ) وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّفْسِيرِ: إِلَّا أُوذِيَ، فَذَكَرَ وَرَقَةُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ مَجِيئُهُ لَهُمْ بِالِانْتِقَالِ عَنْ مَأْلُوفِهِمْ ; وَلِأَنَّهُ عَلِمَ مِنَ الْكُتُبِ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِذَلِكَ مُنَابَذَتُهُمْ وَمُعَانَدَتُهُمْ فَتَنْشَأُ الْعَدَاوَةُ مِنْ ثَمَّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُجِيبَ يُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى مَا يُجِيبُ بِهِ إِذَا اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ.

قَوْلُهُ: (إِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) إِنْ شَرْطِيَّةٌ وَالَّذِي بَعْدَهَا

ص: 26

مَجْزُومٌ. زَادَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّفْسِيرِ: حَيًّا، وَلِابْنِ إِسْحَاقَ: إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، يَعْنِي يَوْمَ الْإِخْرَاجِ.

قَوْلُهُ: (مُؤَزَّرًا) بِهَمْزَةٍ أَيْ: قَوِيًّا مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَزْرِ وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَأَنْكَرَ الْقَزَّازُ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مُؤَزَّرًا مِنَ الْأَزْرِ. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِزَارِ، أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى تَشْمِيرِهِ فِي نُصْرَتِهِ، قَالَ الْأَخْطَلُ:

قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ

الْبَيْتَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ لَمْ يَلْبَثْ. وَأَصْلُ النُّشُوبِ التَّعَلُّقُ، أَيْ: لَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ حَتَّى مَاتَ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا فِي السِّيرَةِ لِابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ وَرَقَةَ كَانَ يَمُرُّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى زَمَنِ الدَّعْوَةِ، وَإِلَى أَنْ دَخَلَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ. فَإِنْ تَمَسَّكْنَا بِالتَّرْجِيحِ فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ، وَإِنْ لَحَظْنَا الْجَمْعَ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَفَتَرَ الْوَحْيُ. لَيْسَتْ لِلتَّرْتِيبِ، فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَحْفَظْ لِوَرَقَةَ ذِكْرًا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فَجَعَلَ هَذِهِ الْقِصَّةَ انْتِهَاءَ أَمْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ لَا إِلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ.

وَفُتُورُ الْوَحْيِ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَخُّرِهِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ لِيَذْهَبَ مَا كَانَ صلى الله عليه وسلم وَجَدَهُ مِنَ الرَّوْعِ، وَلِيَحْصُلَ لَهُ التَّشَوُّفُ إِلَى الْعَوْدِ، فَقَدْ رَوَى الْمُؤَلِّفُ فِي التَّعْبِيرِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

(فَائِدَةٌ): وَقَعَ فِي تَارِيخِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مُدَّةَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ مُدَّةَ الرُّؤْيَا كَانَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَعَلَى هَذَا فَابْتِدَاءُ النُّبُوَّةِ بِالرُّؤْيَا وَقَعَ مِنْ شَهْرِ مَوْلِدِهِ وَهُوَ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ بَعْدَ إِكْمَالِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَابْتِدَاءُ وَحْيِ الْيَقَظَةِ وَقَعَ فِي رَمَضَانَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِفَتْرَةِ الْوَحْيِ الْمُقَدَّرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَهِيَ مَا بَيْنَ نُزُولِ {اقْرَأْ} وَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} عَدَمَ مَجِيءِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ، بَلْ تَأَخُّرُ نُزُولِ الْقُرْآنَ فَقَطْ. ثُمَّ رَاجَعْتُ الْمَنْقُولَ عَنِ الشَّعْبِيِّ مِنْ تَارِيخِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ قُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ عِشْرِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا عَنْ دَاوُدَ بِلَفْظِ: بُعِثَ لِأَرْبَعِينَ، وَوُكِّلَ بِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ وُكِّلَ بِهِ جِبْرِيلُ. فَعَلَى هَذَا فَيَحْسُنُ - بِهَذَا الْمُرْسَلِ إِنْ ثَبَتَ - الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي قَدْرِ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، فَقَدْ قِيلَ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: عَشْرٌ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِقَدْرِ مُدَّةِ الْفَتْرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ حَكَى ابْنُ التِّينِ هَذِهِ الْقِصَّةَ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ مِيكَائِيلُ بَدَلَ إِسْرَافِيلَ، وَأَنْكَرَ الْوَاقِدِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمُرْسَلَةَ وَقَالَ: لَمْ يُقْرَنْ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا جِبْرِيلُ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، فَإِنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي إِلَّا إِنْ صَحِبَ النَّافِيَ دَلِيلُ نَفْيِهِ فَيُقَدَّمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخَذَ السُّهَيْلِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فَجَمَعَ بِهَا الْمُخْتَلِفَ فِي مُكْثِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْمُسْنَدَةِ أَنَّ مُدَّةَ الْفَتْرَةِ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُدَّةَ الرُّؤْيَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَمَنْ قَالَ مَكَثَ عَشْرَ سِنِينَ حَذَفَ مُدَّةَ الرُّؤْيَا وَالْفَتْرَةَ، وَمَنْ قَالَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَضَافَهُمَا. وَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِمُرْسَلِ الشَّعْبِيِّ لَا يَثْبُتُ، وَقَدْ عَارَضَهُ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُدَّةَ الْفَتْرَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَتْ أَيَّامًا، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

4 -

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} إِلَى قَوْلِهِ {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ. تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ: بَوَادِرُهُ.

[الحديث 4 - أطرافه في: 6214، 4954، 4926، 4925، 4924، 4923، 4922، 3238]

ص: 27

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ) إِنَّمَا أَتَى بِحَرْفِ الْعَطْفِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا، وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بِكَذَا، وَأَبُو سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا مُعَلَّقًا وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ التَّعْلِيقِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلَّا ثُبُوتُ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى تَقَدُّمِ شَيْءٍ عَطَفْتَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ فَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ ثُمَّ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ - أَيْ: بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ - وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بِخَبَرٍ آخَرَ وَهُوَ كَذَا، وَدَلَّ قَوْلُهُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَقَوْلُهُ الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ عَلَى تَأَخُّرِ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ عَنِ اقْرَأْ، وَلَمَّا خَلَتْ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْآتِيَةُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ أَشْكَلَ الْأَمْرُ، فَجَزَمَ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أَوَّلُ مَا نَزَلَ، وَرِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ هَذِهِ الصَّحِيحَةُ تَرْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ، وَسِيَاقُ بَسْطِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ اقْرَأْ.

قَوْلُهُ: (فَرُعِبْتُ مِنْهُ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ: بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ، أَيْ: فَزِعْتُ، دَلَّ عَلَى بَقِيَّةٍ بَقِيَتْ مَعَهُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ زَالَتْ بِالتَّدْرِيجِ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ زَمِّلُونِي مَرَّةً وَاحِدَةً، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّفْسِيرِ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، فَنَزَلَتْ:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} أَيْ: حَذِّرْ مِنَ الْعَذَابِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكَ، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أَيْ: عَظِّمْ {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيْ: مِنَ النَّجَاسَةِ، وَقِيلَ: الثِّيَابُ النَّفْسُ، وَتَطْهِيرُهَا اجْتِنَابُ النَّقَائِصِ، وَالرُّجْزُ هُنَا الْأَوْثَانُ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي التَّفْسِيرِ، وَالرُّجْزُ فِي اللُّغَةِ: الْعَذَابُ، وَسَمَّى الْأَوْثَانَ هُنَا رُجْزًا ; لِأَنَّهَا سَبَبُهُ.

قَوْلُهُ: (فَحَمِيَ الْوَحْيُ) أَيْ جَاءَ كَثِيرًا، وَفِيهِ مُطَابَقَةٌ لِتَعْبِيرِهِ عَنْ تَأَخُّرِهِ بِالْفُتُورِ، إِذْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى انْقِطَاعٍ كُلِّيٍّ فَيُوصَفُ بِالضِّدِّ وَهُوَ الْبَرَدُ.

قَوْلُهُ: (وَتَتَابَعَ) تَأْكِيدُ مَعْنَوِيٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِحَمِيَ: قَوِيَ، وَتَتَابَعَ: تَكَاثَرَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ

(1)

وأبي الْوَقْتِ وَتَوَاتَرَ، وَالتَّوَاتُرُ مَجِيءُ الشَّيْءِ يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلٍ.

(تَنْبِيهٌ): خَرَّجَ الْمُصَنِّفُ بِالْإِسْنَادِ فِي التَّارِيخِ حَدِيثَ الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ عَنْ جَابِرٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ هُنَا فَزَادَ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ تَتَابَعَ: قَالَ عُرْوَةُ - يَعْنِي بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ - وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأَيْتُ لِخَدِيجَةَ بَيْتًا مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: يَعْنِي قَصَبَ اللُّؤْلُؤِ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي مَنَاقِبِ خَدِيجَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ) الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَمُتَابَعَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ هَذِهِ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي قِصَّةِ مُوسَى. وَفِيهِ مِنَ اللَّطَائِفِ قَوْلُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (وَأَبُو صَالِحٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ مِنَ الْمُعَلَّقَاتِ، وَعَلَّقَ عَنِ اللَّيْثِ جُمْلَةً كَثِيرَةً مِنْ أَفْرَادِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ. وَرِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَخْرَجَهَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ مَقْرُونًا بِيَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ - كَالدِّمْيَاطِيِّ - أَنَّهُ أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ الْحَرَّانِيُّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَنْ أَسْنَدَهُ عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ وَقَدْ وُجِدَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ كَاتِبِ اللَّيْثِ.

قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ) بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ الْأُولَى مُثَقَّلَةٌ، وَحَدِيثُهُ فِي الزُّهْرِيَّاتِ لِلذُّهْلِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يُونُسُ) يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ الْأَيْلِيَّ، وَمَعْمَرٌ هُوَ ابْنُ رَاشِدٍ. (بَوَادِرُهُ) يَعْنِي أَنَّ يُونُسَ، وَمَعْمَرًا رَوَيَا هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَوَافَقَا عُقَيْلًا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا بَدَلَ قَوْلِهِ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ: تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، وَالْبَوَادِرُ جَمْعُ بَادِرَةٌ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عِنْدَ فَزَعِ الْإِنْسَانِ، فَالرِّوَايَتَانِ مُسْتَوِيَتَانِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا دَالٌّ عَلَى الْفَزَعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَمَعْمَرٍ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِرِوَايَةِ عُقَيْلٍ غَيْرَ هَذَا فِي أَثْنَاءِ السِّيَاقِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(1)

قوله: "وقد وقع في روايةالكشميهني"أي ورواها أبو ذر عنه، كما يعلم ذلك من شرح القسطلاني اهـ مصححه

ص: 28

4 -

باب

5 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَرَأَهُ.

[الحديث 5 - أطرافه في: 7524، 5044، 4929، 4928، 4927]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ أَبُو سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيُّ، وَكَانَ مِنْ حُفَّاظِ الْمِصْرِيِّينَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) هُوَ الْوَضَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيُّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ، كَانَ كِتَابُهُ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ. وَمُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ لَا يُعْرَفُ اسْمُ أَبِيهِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى بَعْضِهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (كَانَ مِمَّا يُعَالِجُ) الْمُعَالَجَةُ: مُحَاوَلَةُ الشَّيْءِ بِمَشَقَّةٍ، أَيْ: كَانَ الْعِلَاجُ نَاشِئًا مِنْ تَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ، أَيْ: مَبْدَأُ الْعِلَاجِ مِنْهُ، أَوْ مَا مَوْصُولَةٌ وَأُطْلِقَتْ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ مَجَازًا، هَكَذَا قَرَّرَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الشِّدَّةَ حَاصِلَةٌ لَهُ قَبْلَ التَّحَرُّكِ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ ثَابِتٌ السَّرَقُسْطِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ: كَانَ كَثِيرًا مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَوُرُودُهُمَا فِي هَذَا كَثِيرٌ وَمِنْهُ حَدِيثُ الرُّؤْيَا: كَانَ مِمَّا يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا؟ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً

على وَجْهِهِ يُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ رِوَايَةَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ وَلَفْظُهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ فَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ. فَأَتَى بِهَذَا اللَّفْظُ مُجَرَّدًا عَنْ تَقَدُّمِ الْعِلَاجِ الَّذِي قَدَّرَهُ الْكِرْمَانِيُّ، فَظَهَرَ مَا قَالَ ثَابِتٌ، وَوَجْهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ إنَّ مِنْ إِذَا وَقَعَ بَعْدَهَا مَا كَانَتْ بِمَعْنَى رُبَّمَا، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَفِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ مَوَاضِعُ مِنْ هَذَا مِنْهَا قَوْلُهُ: اعْلَمْ أَنَّهُمْ مِمَّا يَحْذِفُونَ كَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا نُحِبُّ أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ الْحَدِيثَ، وَمِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ مِمَّا يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بِالْفَاءِ، وَفَائِدَةُ هَذَا زِيَادَةُ الْبَيَانِ فِي الْوَصْفِ عَلَى الْقَوْلِ، وَعَبَّرَ فِي الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ كَانَ يُحَرِّكُهُمَا وَفِي الثَّانِي بِرَأَيْتُ ; لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ; لِأَنَّ سُورَةَ الْقِيَامَةِ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَاتِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْبُخَارِيُّ فِي إِيرَادِهِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَلَمْ يَكُنِ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ ذَاكَ وُلِدَ ; لِأَنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ

(1)

لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ بَعْدُ، أَوْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ شَاهَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ بِسَنَدِهِ. وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَرَأَى ذَلِكَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَا نِزَاعٍ.

قَوْلُهُ: (فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ) وَقَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ تَحْرِيكَ الشَّفَتَيْنِ، بِالْكَلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي لَا يَنْطِقُ

(1)

ن. خ: أو أقل

ص: 29

بِهَا إِلَّا اللِّسَانُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَحْرِيكُ اللِّسَانِ، أَوِ اكْتَفَى بِالشَّفَتَيْنِ وَحَذَفَ اللِّسَانَ لِوُضُوحِهِ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النُّطْقِ إِذِ الْأَصْلُ حَرَكَةُ الْفَمِ، وَكُلٌّ مِنَ الْحَرَكَتَيْنِ نَاشِئٌ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ مَضَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ: يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ إِذَا لُقِّنَ الْقُرْآنَ نَازَعَ جِبْرِيلَ الْقِرَاءَةَ وَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى يُتِمَّهَا مُسَارَعَةً إِلَى الْحِفْظِ لِئَلَّا يَنْفَلِتَ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: يُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ، وَلِلنَّسَائِيِّ: يَعْجَلْ بِقِرَاءَتِهِ لِيَحْفَظَهُ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: يَتَلَقَّى أَوَّلَهُ، وَيُحَرِّكْ بِهِ شَفَتَيْهِ خَشْيَةَ أَنْ يَنْسَى أَوَّلَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ آخِرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: عَجَّلَ يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ حُبِّهِ إِيَّاهُ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادٌ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُ وَالشِّدَّةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ، فَأُمِرَ بِأَنْ يُنْصِتَ حَتَّى يُقْضَى إِلَيْهِ وَحْيُهُ، وَوُعِدَ بِأَنَّهُ آمِنٌ مِنْ تَفَلُّتِهِ مِنْهُ بِالنِّسْيَانِ أَوْ غَيْرِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أَيْ: بِالْقِرَاءَةِ.

قَوْلُهُ: (جَمَعَهُ لَكَ صَدْرُكَ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ

(1)

وفيه إِسْنَادُ الْجَمْعِ إِلَى الصَّدْرِ بِالْمَجَازِ، كَقَوْلِهِ: أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ، أَيْ: أَنْبَتَ اللَّهُ فِي الرَّبِيعِ الْبَقْلَ، وَاللَّامُ فِي لَكَ لِلتَّبْيِينِ أَوْ لِلتَّعْلِيلِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْحَمَوِيِّ: جَمَعَهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ، وَهُوَ تَوْضِيحٌ لِلْأَوَّلِ، وَهَذَا مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ (فَاتَّبِعْ) أَيْ: فَاسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ، وَفِي تَفْسِيرِ (بَيَانِهِ) أَيْ: عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَيَانِ بَيَانُ مُجْمَلَاتِهِ وَتَوْضِيحُ مُشْكِلَاتِهِ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْأُصُولِ، وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَخَّرْتُهُ إِلَى كِتَابِ التَّفْسِيرِ فَهُوَ مَوْضِعُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5 -

باب

6 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، ح. وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.

[الحديث 6 - أطرافه في: 4997، 3554، 3220، 1902]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ نَحْوَهُ) أَيْ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ حَدَّثَ بِهِ عَبْدَانَ، عَنْ يُونُسَ وَحْدَهُ، وَحَدَّثَ بِهِ بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يُونُسَ، وَمَعْمَرٍ مَعًا، أَمَّا بِاللَّفْظِ فَعَنْ يُونُسَ وَأَمَّا بِالْمَعْنَى فَعَنْ مَعْمَرٍ.

قَوْلُهُ (عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (أَجْوَدَ النَّاسِ) بِنَصْبِ أَجْوَدَ ; لِأَنَّهَا خَبَرُ كَانَ، وَقَدَّمَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى مَا بَعْدَهَا - وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ - عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِرَاسِ مِنْ مَفْهُومِ مَا بَعْدَهَا. وَمَعْنَى أَجْوَدِ النَّاسِ: أَكْثَرَ النَّاسِ جُودًا، وَالْجُودُ: الْكَرَمُ، وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، الْحَدِيثَ. وَلَهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: أَنَا أَجْوَدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَجْوَدُهُمْ بَعْدِي رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَنَشَرَ عِلْمَهُ، وَرَجُلٌ جَادَ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ، وَسَيَأْتِي فِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ، الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ) هُوَ بِرَفْعِ أَجْوَدَ هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَأَجْوَدُ اسْمُ كَانَ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ نَحْوُ: أَخْطَبُ مَا يَكُونُ الْأَمِيرُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ. أَوْ هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ مَا يَكُونُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَخَبَرُهُ فِي رَمَضَانَ، وَالتَّقْدِيرُ

(1)

غير رواية اليونينية

ص: 30

أَجْوَدُ أَكْوَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْبُخَارِيُّ فِي تَبْوِيبِهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِذْ قَالَ: بَابُ أَجْوَدَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: أَجْوَدَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهَا اسْمَهَا، وَأُجِيبَ بِجَعْلِ اسْمِ كَانَ ضَمِيرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَجْوَدَ خَبَرَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُدَّةَ كَوْنِهِ فِي رَمَضَانَ أَجْوَدَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الرَّفْعُ أَشْهَرُ، وَالنَّصْبُ جَائِزٌ. وَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ مَالِكٍ عَنْهُ فَخَرَّجَ الرَّفْعَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَالنَّصْبَ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ لِلرَّفْعِ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ، تَوَارَدَ مع ابْنِ مَالِكٍ مِنْهَا فِي وَجْهَيْنِ وَزَادَ ثَلَاثَةً وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى النَّصْبِ. قُلْتُ: وَيُرَجِّحُ الرَّفْعَ وُرُودُهُ بِدُونِ كَانَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي الصَّوْمِ.

قَوْلُهُ: (فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ) قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ مُدَارَسَةَ الْقُرْآنِ تُجَدِّدُ لَهُ الْعَهْدَ بِمَزِيدِ غِنَى النَّفْسِ، وَالْغِنَى سَبَبُ الْجُودِ. وَالْجُودُ فِي الشَّرْعِ إِعْطَاءُ مَا يَنْبَغِي لِمَنْ يَنْبَغِي، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّدَقَةِ. وَأَيْضًا فَرَمَضَانُ مَوْسِمُ الْخَيْرَاتِ ; لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِيهِ زَائِدَةٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْثِرُ مُتَابَعَةَ سُنَّةِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ. فَبِمَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَقْتِ وَالْمَنْزُولِ بِهِ وَالنَّازِلِ وَالْمُذَاكَرَةِ حَصَلَ الْمَزِيدُ فِي الْجُودِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَاللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ وَزِيدَتْ عَلَى الْمُبْتَدَأِ تَأْكِيدًا، أَوْ هِيَ جَوَابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ. وَالْمُرْسَلَةُ أَيِ: الْمُطْلَقَةُ يَعْنِي أَنَّهُ فِي الْإِسْرَاعِ بِالْجُودِ أَسْرَعُ مِنَ الرِّيحِ، وَعَبَّرَ بِالْمُرْسَلَةِ إِشَارَةً إِلَى دَوَامِ هُبُوبِهَا بِالرَّحْمَةِ، وَإِلَى عُمُومِ النَّفْعِ بِجُودِهِ كَمَا تَعُمُّ الرِّيحُ الْمُرْسَلَةُ جَمِيعَ مَا تَهُبُّ عَلَيْهِ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، وَثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَقَالَ لَا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ: مِنْهَا الْحَثُّ عَلَى الْجُودِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمِنْهَا الزِّيَادَةُ فِي رَمَضَانَ وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِأَهْلِ الصَّلَاحِ. وَفِيهِ زِيَارَةُ الصُّلَحَاءِ وَأَهْلِ الْخَيْرِ، وَتَكْرَارُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَزُورُ لَا يَكْرَهُهُ، وَاسْتِحْبَابُ الْإِكْثَارِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي رَمَضَانَ وَكَوْنُهَا أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَذْكَارِ، إِذْ لَوْ كَانَ الذِّكْرُ أَفْضَلَ أَوْ مُسَاوِيًا لَفَعَلَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ تَجْوِيدُ الْحِفْظِ، قُلْنَا: الْحِفْظُ كَانَ حَاصِلًا، وَالزِّيَادَةُ فِيهِ تَحْصُلُ بِبَعْضِ الْمَجَالِسِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ رَمَضَانُ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ.

قُلْتُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ; لِأَنَّ نُزُولَهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً كَانَ فِي رَمَضَانَ كَمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَانَ جِبْرِيلُ يَتَعَاهَدُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَيُعَارِضُهُ بِمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ عَارَضَهُ بِهِ مَرَّتَيْنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ فَاطِمَةَ رضي الله عنها. وَبِهَذَا يُجَابُ مَنْ سَأَلَ عَنْ مُنَاسَبَةِ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

6 -

باب

7 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تِجَارًا بالشام فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ. قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ:

ص: 31

لَا. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا.

قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ.

فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ.

ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ:

بسم الله الرحمن الرحيم

مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ أسلم يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ

ص: 32

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ.

وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشام يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ؟ قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مدائن مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا. فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ؟ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ.

وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

[الحديث 7 - أطرافه في: 7541، 7196، 6260، 5980، 4553، 3174، 2987، 2941، 2804، 2681، 51]

قَوْلُهُ: (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، وَهُوَ هُوَ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ: هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ دِينَارٌ الْحِمْصِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَثْبَاتِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ) هُوَ صَخْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.

قَوْلُهُ: (هِرَقْلُ) هُوَ مَلِكُ الرُّومِ، وَهِرَقْلُ: اسْمُهُ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ، وَلَقَبُهُ قَيْصَرُ، كَمَا يُلَقَّبُ مَلِكُ الْفُرْسِ: كِسْرَى وَنَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (فِي رَكْبٍ) جَمْعُ رَاكِبٍ كَصَحْبٍ وَصَاحِبٍ، وَهُمْ أُولُو الْإِبِلِ، الْعَشْرَةِ فَمَا فَوْقَهَا. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ حَالَ كَوْنِهِ فِي جُمْلَةِ الرَّكْبِ، وَذَاكَ لِأَنَّهُ كَانَ كَبِيرَهُمْ فَلِهَذَا خَصَّهُ، وَكَانَ عَدَدُ الرَّكْبِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ. وَلِابْنِ السَّكَنِ: نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ، وَسَمَّى مِنْهُمُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ مُرْسَلٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ مُسْلِمًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَجَعَ حِينَئِذٍ إِلَى قَيْصَرَ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُسْلِمًا. وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُهُ أَيْضًا فِي أَثَرٍ آخَرَ فِي كِتَابِ السِّيَرِ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، وَكِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرَى، وَقَيْصَرَ. . الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَلَمَّا قَرَأَ قَيْصَرُ الْكِتَابَ قَالَ: هَذَا كِتَابٌ لَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِهِ. وَدَعَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَكَانَا تَاجِرَيْنِ هُنَاكَ، فَسَأَلَ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (وَكَانُوا تُجَّارًا) بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، أَوْ كَسْرِهَا وَالتَّخْفِيفِ

ص: 33

جَمْعُ تَاجِرٍ.

قَوْلُهُ: (فِي الْمُدَّةِ) يَعْنِي مُدَّةَ الصُّلْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُا فِي الْمَغَازِي، وَكَانَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَكَانَتْ مُدَّتُهَا عَشْرَ سِنِينَ كَمَا فِي السِّيرَةِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ: كَانَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْبُيُوعِ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. لَكِنَّهُمْ نَقَضُوا، فَغَزَاهُمْ سَنَةَ ثَمَانٍ وَفَتَحَ مَكَّةَ. وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مَعَهُ.

قَوْلُهُ (فَأَتَوْهُ) تَقْدِيرُهُ: أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فِي طَلَبِ إِتْيَانِ الرَّكْبِ فَجَاءَ الرَّسُولُ يَطْلُبُ إِتْيَانَهُمْ فَأَتَوْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} أَيْ: فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي الْجِهَادِ أَنَّ الرَّسُولَ وَجَدَهُمْ بِبَعْضِ الشَّامِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ تَعْيِينُ الْمَوْضِعِ وَهُوَ غَزَّةُ. قَالَ: وَكَانَتْ وَجْهَ مَتْجَرِهِمْ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: كُنَّا قَوْمًا تُجَّارًا، وَكَانَتِ الْحَرْبُ قَدْ حَصَبَتْنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ خَرَجْتُ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ مَعَ رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ بِمَكَّةَ امْرَأَةً وَلَا رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ حَمَّلَنِي بِضَاعَةً. فَذَكَرَهُ. وَفِيهِ: فَقَالَ هِرَقْلُ لِصَاحِبِ شُرْطَتِهِ: قَلِّبِ الشَّامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ حَتَّى تَأْتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ قَوْمِ هَذَا أَسْأَلُهُ عَنْ شَأْنِهِ. فَوَاللَّهِ إِنِّي وَأَصْحَابِي بِغَزَّةَ، إِذْ هَجَمَ عَلَيْنَا فَسَاقَنَا جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (بِإِيلِيَاءَ) بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ أَخِيرَةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ لَامٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ يَاءٌ أَخِيرَةٌ ثُمَّ أَلِفٌ مَهْمُوزَةٌ، وَحَكَى الْبَكْرِيُّ فِيهَا الْقَصْرَ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: إِلْيَا، بِحَذْفِ الْيَاءِ الْأُولَى وَسُكُونِ اللَّامِ حَكَاهُ الْبَكْرِيُّ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ مِثْلَهُ لَكِنْ بِتَقْدِيمِ الْيَاءِ عَلَى اللَّامِ وَاسْتَغْرَبَهُ، قِيلَ: مَعْنَاهُ بَيْتُ اللَّهِ. وَفِي الْجِهَادِ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ أَنَّ هِرَقْلَ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِلَّهِ. زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ تُبْسَطُ لَهُ الْبُسُطَ وَتُوضَعُ عَلَيْهَا الرَّيَاحِينُ فَيَمْشِي عَلَيْهَا، وَنَحْوَهُ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَاضِدَةٍ مُلَخَّصُهَا أَنَّ كِسْرَى أَغْزَى جَيْشَهُ بِلَادَ هِرَقْلَ، فَخَرَّبُوا كَثِيرًا مِنْ بِلَادِهِ، ثُمَّ اسْتَبْطَأَ كِسْرَى أَمِيرَهُ فَأَرَادَ قَتْلَهُ وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ، فَاطَّلَعَ أَمِيرُهُ عَلَى ذَلِكَ فَبَاطَنَ هِرَقْلَ وَاصْطَلَحَ مَعَهُ عَلَى كِسْرَى وَانْهَزَمَ عَنْهُ بِجُنُودِ فَارِسَ، فَمَشَى هِرَقْلُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ. وَاسْمُ الْأَمِيرِ الْمَذْكُورِ شَهْرَ بَرَازَ وَاسْمُ الْغَيْرِ الَّذِي أَرَادَ كِسْرَى تَأْمِيرَهُ فَرْحَانُ

(1)

.

قَوْلُهُ: (فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ) أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي مَجْلِسِهِ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ: فَأَدْخَلَنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ.

قَوْلُهُ: (وَحَوْلَهُ) بِالنَّصْبِ ; لِأَنَّهُ ظَرْفُ مَكَانٍ.

قَوْلُهُ: (عُظَمَاءُ) جَمْعُ عَظِيمٍ. وَلِابْنِ السَّكَنِ: فَأَدْخَلَنَا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ بَطَارِقَتُهُ وَالْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَانُ وَالرُّومُ مِنْ وَلَدِ عِيصَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليهما السلام عَلَى الصَّحِيحِ، وَدَخَلَ فِيهِمْ طَوَائِفُ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ تَنُّوخَ وَبَهْرَاءَ وَسُلَيْحٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ غَسَّانَ كَانُوا سُكَّانًا بِالشَّامِ، فَلَمَّا أَجْلَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا دَخَلُوا بِلَادَ الرُّومِ فَاسْتَوْطَنُوهَا فَاخْتَلَطَتْ أَنْسَابُهُمْ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا تَرْجُمَانَهُ) وَلِلْمُسْتَمْلِي: بِالتَّرْجُمَانِ، مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِحْضَارِهِمْ، فَلَمَّا حَضَرُوا اسْتَدْنَاهُمْ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ دَعَاهُمْ ثُمَّ دَعَاهُمْ فَيَنْزِلُ عَلَى هَذَا، وَلَمْ يَقَعْ تَكْرَارُ ذَلِكَ إِلَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَالتَّرْجُمَانُ بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَيَجُوزُ ضَمُّ التَّاءِ اتباعًا، وَيَجُوزُ فَتْحُ الْجِيمِ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِالرَّابِعَةِ وَهِيَ ضَمُّ أَوَّلِهِ وَفَتْحُ الْجِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ بِتَرْجُمَانِهِ يَعْنِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَحْضَرَهُ صُحْبَتَهُ، وَالتَّرْجُمَانُ الْمُعَبِّرُ عَنْ لُغَةٍ بِلُغَةٍ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ وَقِيلَ: عَرَبِيٌّ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا) أَيْ: قَالَ التَّرْجُمَانُ عَلَى لِسَانِ هِرَقْلَ.

قَوْلُهُ: (بِهَذَا الرَّجُلِ) زَادَ ابْنُ السَّكَنِ: الَّذِي خَرَجَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ: فَقَالُوا هَذَا أَقْرَبُنَا بِهِ نَسَبًا، هُوَ ابْنُ عَمِّهِ أَخِي أَبِيهِ. وَإِنَّمَا كَانَ أَبُو سُفْيَانَ أَقْرَبَ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجِهَادِ بِقَوْلِهِ: قَالَ مَا قَرَابَتُكَ مِنْهُ؟ قُلْتُ: هُوَ ابْنُ عَمِّي. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّكْبِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي اهـ.

وَعَبْدُ مَنَافٍ الْأَبُ الرَّابِعُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا لِأَبِي سُفْيَانَ، وَأَطْلَقَ

(1)

الذي في تاريخ الطبري (1: 1002 طبع ليدن و 2: 140 طبع الحسينية بالقاهرة): فرهان، وتدعى مرتبته شهر براز

ص: 34

عَلَيْهِ ابْنَ عَمٍّ لِأَنَّهُ نَزَّلَ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْزِلَةَ جَدِّهِ، فَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ابْنُ عَمِّ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَعَلَى هَذَا فَفِيمَا أُطْلِقَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ تَجَوُّزٌ، وَإِنَّمَا خَصَّ هِرَقْلُ الْأَقْرَبَ لِأَنَّهُ أَحْرَى بِالِاطِّلَاعِ عَلَى أُمُورِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ; وَلِأَنَّ الْأَبْعَدَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَقْدَحَ فِي نَسَبِهِ بِخِلَافِ الْأَقْرَبَ، وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي سُؤَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ وَقَوْلُهُ: بِهَذَا الرَّجُلِ، ضَمَّنَ أَقْرَبَ مَعْنَى أَوْصَلَ فَعَدَّاهُ بِالْبَاءِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِي يَزْعُمُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ يَدَّعِي. وَزَعَمَ: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ بِمَعْنَى قَالَ، وَحَكَاهُ أَيْضًا ثَعْلَبٌ وَجَمَاعَةٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّةِ ضِمَامٍ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ. قُلْتُ: وَهُوَ كَثِيرٌ وَيَأْتِي مَوْضِعُ الشَّكِّ غَالِبًا.

قَوْلُهُ: (فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ) أَيْ: لِئَلَّا يَسْتَحْيُوا أَنْ يُوَاجِهُوهُ بِالتَّكْذِيبِ إِنْ كَذَبَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْوَاقِدِيُّ. وَقَوْلُهُ إِنْ كَذَبَنِي بِتَخْفِيفِ الذَّالِ أَيْ: إِنْ نَقَلَ إِلَيَّ الْكَذِبَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ) أَيْ: أَبُو سُفْيَانَ. وَسَقَطَ لَفْظُ قَالَ مِنْ رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَبِي الْوَقْتِ فَأَشْكَلَ ظَاهِرُهُ، وَبِإِثْبَاتِهَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ.

قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا) أَيْ: يَنْقُلُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ عَلَيْهِ. وَلِلْأَصِيلِيِّ عَنْهُ أَيْ: عَنِ الْإِخْبَارِ بِحَالِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ الْكَذِبَ إِمَّا بِالْأَخْذِ عَنِ الشَّرْعِ السَّابِقِ، أَوْ بِالْعُرْفِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَأْثِرُوا، دُونَ قَوْلِهِ: يُكَذِّبُوا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَاثِقًا مِنْهُمْ بِعَدَمِ التَّكْذِيبِ أَنْ لَوْ كَذَبَ لِاشْتِرَاكِهِمْ مَعَهُ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اسْتِحْيَاءً وَأَنَفَةً مِنْ أَنْ يَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَرْجِعُوا فَيَصِيرُ عِنْدَ سَامِعِي ذَلِكَ كَذَّابًا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ وَلَفْظُهُ: فَوَاللَّهِ لَوْ قَدْ كَذَبْتُ مَا رَدُّوا عَلَيَّ وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً سَيِّدًا أَتَكَرَّمُ عَنِ الْكَذِبِ، وَعَلِمْتُ أَنَّ أَيْسَرَ مَا فِي ذَلِكَ إِنْ أَنَا كَذَبْتُهُ أَنْ يَحْفَظُوا ذَلِكَ عَنِّي ثُمَّ يَتَحَدَّثُوا بِهِ، فَلَمْ أَكْذِبْهُ. وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْ رَجُلٍ قَطُّ كَانَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ الْأَقْلَفِ، يَعْنِي هِرَقْلَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ أَوَّلَ) هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَرِ، وَبِهِ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الِاسْمِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟) أَيْ: مَا حَالُ نَسَبِهِ فِيكُمْ، أَهُوَ مِنْ أَشْرَافِكُمْ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. فَالتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ، وَأَشْكَلَ هَذَا عَلَى بَعْضِ الشَّارِحِينَ، وَهَذَا وَجْهُهُ.

قَوْلُهُ: (فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ بَدَلَ قَبْلَهُ مِثْلُهُ فَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ أَيْ: مِنْ قَوْمِكُمْ يَعْنِي قُرَيْشًا أَوِ الْعَرَبَ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَعُمُّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْمُخَاطَبِينَ فَقَطْ. وَكَذَا قَوْلُهُ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ وَقَوْلُهُ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ وَاسْتَعْمَلَ قَطُّ بِغَيْرِ أَدَاةِ النَّفْيِ وَهُوَ نَادِرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ صَلَّيْنَا أَكْثَرَ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنَهُ رَكْعَتَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ النَّفْيَ مُضَمَّنٌ فِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَطُّ.

قَوْلُهُ: (فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ؟) وَلِكَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ بِزِيَادَةِ مِنْ الْجَارَّةِ، وَلِابْنِ عَسَاكِرَ بِفَتْحِ مِنْ وَمَلَكَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالْجَارَّةُ أَرْجَحُ لِسُقُوطِهَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْمَعْنَى فِي الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ.

قَوْلُهُ: (فَأَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ)

(1)

فِيهِ إِسْقَاطُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَقَدْ ثَبَتَ لِلْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ وَلَفْظُهُ: أَيَتْبَعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ؟ وَالْمُرَادُ بِالْأَشْرَافِ هُنَا أَهْلُ النَّخْوَةِ وَالتَّكَبُّرِ مِنْهُمْ، لَا كُلُّ شَرِيفٍ، حَتَّى لَا يَرِدَ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَأَمْثَالِهِمَا مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلَ هَذَا السُّؤَالِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: تَبِعَهُ مِنَّا الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، فَأَمَّا ذَوُو الْأَنْسَابِ وَالشَّرَفِ فَمَا تَبِعَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ.

قَوْلُهُ: (سُخْطَةً) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ، وَأَخْرَجَ بِهَذَا مَنِ ارْتَدَّ مُكْرَهًا، أَوْ لَا لِسَخَطٍ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ لِرَغْبَةٍ فِي غَيْرِهِ كَحَظٍّ نَفْسَانِيٍّ، كَمَا وَقَعَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ.

قَوْلُهُ: (هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ؟) أَيْ: عَلَى النَّاسِ وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى السُّؤَالِ عَنِ التُّهْمَةِ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ نَفْسِ الْكَذِبِ تَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى صِدْقِهِ ; لِأَنَّ التُّهْمَةَ إِذَا انْتَفَتِ انْتَفَى سَبَبُهَا، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْغَدْرِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا) أَيْ: أَنْتَقِصُهُ بِهِ، عَلَى أَنَّ التَّنْقِيصَ هُنَا أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَقْطَعْ بِعَدَمِ غَدْرِهِ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِمَّنْ يُجَوِّزُ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ

(1)

هذه الرواية غير رواية اليونينية اهـ مصححه

ص: 35

بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ مَغِيبًا - لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ - أَمِنَ أَبُو سُفْيَانَ أَنْ يُنْسَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْكَذِبِ، وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ بِالتَّرَدُّدِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُعَرِّجْ هِرَقْلُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْهُ. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قَالَ فَوَاللَّهِ مَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا مِنِّي. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا: خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى الشَّامِ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ - فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ هِرَقْلُ: إِنِّي لَا أُرِيدُ شَتْمَهُ، وَلَكِنْ كَيْفَ نَسَبُهُ - إِلَى أَنْ قَالَ - فَهَلْ يَغْدِرُ إِذَا عَاهَدَ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ يَغْدِرَ فِي هُدْنَتِهِ هَذِهِ. فَقَالَ: وَمَا يَخَافُ مِنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي أَمَدُّوا حُلَفَاءَهُمْ عَلَى حُلَفَائِهِ. قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ بَدَأْتُمْ فَأَنْتُمْ أَغْدَرُ.

قَوْلُهُ: (سِجَالٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، أَيْ: نُوَبٌ، وَالسَّجْلُ: الدَّلْوُ، وَالْحَرْبُ اسْمُ جِنْسٍ، وَلِهَذَا جُعِلَ خَبَرُهُ اسْمَ جَمْعٍ. وَيَنَالُ أَيْ: يُصِيبُ، فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ الْمُحَارِبِينَ بِالْمُسْتَقِيَينِ: يَسْتَقِي هَذَا دَلْوًا وَهَذَا دَلْوًا. وَأَشَارَ أَبُو سُفْيَانَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَغَزْوَةِ أُحُدٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بَلْ نَطَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ الثَّقَفِيِّ لَمَّا كَانَ يُحَدِّثُ وَفْدَ ثَقِيفٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عُرْوَةَ: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: غُلِبْنَا مَرَّةً يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَا غَائِبٌ، ثُمَّ غَزَوْتُهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ بِبَقْرِ الْبُطُونِ وَجَدْعِ الْآذَانِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى يَوْمِ أُحُدٍ.

قَوْلُهُ: (بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ)؟ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَأْمُرَ قَوْمَهُ.

قَوْلُهُ: (يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ) فِيهِ أَنَّ لِلْأَمْرِ صِيغَةً مَعْرُوفَةً ; لِأَنَّهُ أَتَى بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ، فِي جَوَابِ مَا يَأْمُرُكُمْ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَكَذَلِكَ الرَّاوِي عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، بَلْ هُوَ مِنْ أَفْصَحِهِمْ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ مُقِرًّا لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الْوَاوُ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ وَحْدَهُ.

قَوْلُهُ: (وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ) هِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِتَرْكِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْآبَاءَ تَنْبِيهًا عَلَى عُذْرِهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ ; لِأَنَّ الْآبَاءَ قُدْوَةٌ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالنَّصَارَى.

قَوْلُهُ: (وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ) وَلِلْمُصَنِّفِ فِي رِوَايَةٍ الصَّدَقَةِ بَدَلَ الصِّدْقِ، وَرَجَّحَهَا شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَيُقَوِّيهَا رِوَايَةُ الْمُؤَلِّفِ فِي التَّفْسِيرِ الزَّكَاةَ وَاقْتِرَانُ الصَّلَاةِ بِالزَّكَاةِ مُعْتَادٌ فِي الشَّرْعِ، وَيُرَجِّحُهَا أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ الْكَذِبَ فَذِكْرُ مَا لَمْ يَأْلَفُوهُ أَوْلَى.

قُلْتُ: وَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ مُمْتَنِعًا كَمَا فِي أَمْرِهِمْ بِوَفَاءِ الْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَقَدْ كَانَا مِنْ مَأْلُوفِ عُقَلَائِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَا عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي الْجِهَادِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شَيْخِهِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالسَّرَخْسِيِّ، قَالَ: بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالصَّدَقَةِ وَفِي قَوْلِهِ: يَأْمُرُنَا، بَعْدَ قَوْلِهِ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالِفِهِمَا، إِذْ مُخَالِفُ الْأَوَّلِ كَافِرٌ، وَالثَّانِي مِمَّنْ قَبِلَ الْأَوَّلُ عَاصٍ.

قَوْلُهُ: (فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا) الظَّاهِرُ أَنَّ إِخْبَارَ هِرَقْلَ بِذَلِكَ بِالْجَزْمِ كَانَ عَنِ الْعِلْمِ الْمُقَرَّرِ عِنْدَهُ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ.

قَوْلُهُ: (لَقُلْتُ رَجُلٌ تَأَسَّى بِقَوْلٍ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ يَتَأَسَّى بِتَقْدِيمِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ هِرَقْلُ فَقُلْتُ إِلَّا فِي هَذَا وَفِي قَوْلِهِ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ مَقَامُ فِكْرٍ وَنَظَرٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْئِلَةِ فَإِنَّهَا مَقَامُ نَقْلٍ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ) هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ ضُعَفَاؤُهُمْ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُتَسَامَحُ بِهِ لِاتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَقَوْلُ هِرَقْلَ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ مَعْنَاهُ أَنَّ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ فِي الْغَالِبِ أَهْلُ الِاسْتِكَانَةِ لَا أَهْلُ الِاسْتِكْبَارِ الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الشِّقَاقِ بَغْيًا وَحَسَدًا كَأَبِي جَهْلٍ وَأَشْيَاعِهِ، إِلَى أَنْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْقَذَ بَعْدَ حِينٍ مَنْ أَرَادَ سَعَادَتَهُ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ) أَيْ: أَمْرُ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّهُ يُظْهِرُ نُورًا، ثُمَّ لَا يَزَالُ فِي زِيَادَةٍ حَتَّى يَتِمَّ بِالْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِهَا، وَلِهَذَا نَزَلَتْ فِي آخِرِ سِنِيِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وَمِنْهُ {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} وَكَذَا جَرَى لِأَتْبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَمْ يَزَالُوا فِي زِيَادَةٍ حَتَّى كَمُلَ بِهِمْ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَتَمَامِ نِعْمَتِهِ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

قَوْلُهُ: (حِينَ يُخَالِطُ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ). كَذَا رُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْقُلُوبُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، أَيْ: يُخَالِطُ الْإِيمَانُ انْشِرَاحَ الصُّدُورِ، وَرُوِيَ بَشَاشَةٌ الْقُلُوبَ بِالضَّمِّ، وَالْقُلُوبَ

ص: 36

مَفْعُولٌ، أَيْ: يُخَالِطُ بَشَاشَةَ الْإِيمَانِ وَهُوَ شَرْحُهُ الْقُلُوبَ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا. زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْإِيمَانِ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَزَادَ ابْنُ السَّكَنِ فِي رِوَايَتِهِ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ يَزْدَادُ بِهِ عُجْبًا وَفَرَحًا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَكَذَلِكَ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ لَا تَدْخُلُ قَلْبًا فَتَخْرُجُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ) لِأَنَّهَا لَا تَطْلُبُ حَظَّ الدُّنْيَا الَّذِي لَا يُبَالِي طَالِبُهُ بِالْغَدْرِ، بِخِلَافِ مَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ. وَلَمْ يُعَرِّجْ هِرَقْلُ عَلَى الدَّسِيسَةِ الَّتِي دَسَّهَا أَبُو سُفْيَانَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَسَقَطَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِيرَادُ تَقْرِيرِ السُّؤَالِ الْعَاشِرِ وَالَّذِي بَعْدَهُ وَجَوَابِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْجَمِيعُ فِي رِوَايَةِ الْمُؤَلِّفِ الَّتِي فِي الْجِهَادِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ ثَمَّ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(فَائِدَةٌ): قَالَ الْمَازِنِيُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هِرَقْلُ لَيْسَتْ قَاطِعَةً عَلَى النُّبُوَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ عَلَامَاتٌ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ بِعَيْنِهِ ; لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ. وَمَا أَوْرَدَهُ احْتِمَالًا جَزَمَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ ; وَهُوَ ظَاهِرٌ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ) ذَكَرَ ذَلِكَ بِالِاقْتِضَاءِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ أَبِي سُفْيَانَ ذِكْرُ الْأَمْرِ بَلْ صِيغَتُهُ. وَقَوْلُهُ وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ لِأَنَّ مَقُولَهُمُ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.

قَوْلُهُ: (أَخْلُصُ) بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: أَصِلُ، يُقَالُ: خَلُصَ إِلَى كَذَا، أَيْ: وَصَلَ.

قَوْلُهُ: (لَتَجَشَّمْتُ) بِالْجِيمِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: تَكَلَّفْتُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْقَتْلِ إِنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَفَادَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ كَمَا فِي قِصَّةِ ضُغَاطِرَ الَّذِي أَظْهَرَ لَهُمْ إِسْلَامَهُ فَقَتَلُوهُ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ دِحْيَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مُخْتَصَرًا، فَقَالَ قَيْصَرُ: أَعْرِفُ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ، إِنْ فَعَلْتُ ذَهَبَ مُلْكِي وَقَتَلَنِي الرُّومُ. وَفِي مُرْسَلِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ: وَيْحَكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَكِنِّي أَخَافُ الرُّومَ عَلَى نَفْسِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّبَعْتُهُ. لَكِنْ لَوْ تَفَطَّنَ هِرَقْلُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَحَمَلَ الْجَزَاءَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَسَلِمَ لَوْ أَسْلَمَ مِنْ كُلِّ مَا يَخَافُهُ. وَلَكِنَّ التَّوْفِيقَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالْخِدْمَةِ. زَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ هُوَ لَمَشَيْتُ إِلَيْهِ حَتَّى أُقَبِّلَ رَأْسَهُ وَأَغْسِلَ قَدَمَيْهِ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَقِيَ عِنْدَهُ بَعْضُ شَكٍّ. وَزَادَ فِيهَا وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَبْهَتَهُ تَتَحَادَرُ عَرَقًا مِنْ كَرْبِ الصَّحِيفَةِ يَعْنِي لَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ كِتَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي اقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ مِنْهُ - إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ سَالِمًا - لَا وِلَايَةً وَلَا مَنْصِبًا، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مَا تَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْبَرَكَةُ.

وَقَوْلُهُ وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ أَيْ: بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَكَنَّى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اسْتِقْرَارِهِ. أَوْ أَرَادَ الشَّامَ كُلَّهُ لِأَنَّ دَارَ مَمْلَكَتِهِ كَانَتْ حِمْصَ. وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ هِرَقْلَ آثَرَ مُلْكَهُ عَلَى الْإِيمَانِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الضَّلَالِ أَنَّهُ حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِدُونِ السَّنَتَيْنِ، فَفِي مَغَازِي ابْنِ إِسْحَاقَ: وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا نَزَلُوا مَعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ أَنَّ هِرَقْلَ نَزَلَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَكَى كَيْفِيَّةَ الْوَقْعَةِ. وَكَذَا رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا مِنْ تَبُوكَ يَدْعُوهُ، وَأَنَّهُ قَارَبَ الْإِجَابَةَ، وَلَمْ يُجِبْ. فَدَلَّ ظَاهِرُ ذَلِكَ عَلَى اسْتِمْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُضْمِرُ الْإِيمَانَ وَيَفْعَلُ هَذِهِ الْمَعَاصِيَ مُرَاعَاةً لِمُلْكِهِ وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَقْتُلَهُ قَوْمُهُ، إِلَّا أَنَّ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ تَبُوكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي مُسْلِمٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَذَبَ، بَلْ هُوَ عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ. وَفِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ مُرْسَلِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ نَحْوُهُ، وَلَفْظُهُ فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، لَيْسَ بِمُسْلِمٍ. فَعَلَى هَذَا إِطْلَاقُ صَاحِبِ الِاسْتِيعَابِ أَنَّهُ آمَنَ - أَيْ: أَظْهَرَ التَّصْدِيقَ - لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ وَيَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ، بَلْ شَحَّ بِمُلْكِهِ وَآثَرَ الْفَانِيَةَ عَلَى الْبَاقِيَةِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَعَا) أَيْ: مَنْ وَكَّلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا عُدِّيَ إِلَى الْكِتَابِ بِالْبَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (دِحْيَةُ) بِكَسْرِ الدَّالِ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا لُغَتَانِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ

ص: 37

الرَّئِيسُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَهُوَ ابْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَسْلَمَ قَدِيمًا، وَبَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ سَنَةِ سِتٍّ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ بِكِتَابِهِ إِلَى هِرَقْلَ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَى هِرَقْلَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ، قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَوَقَعَ فِي تَارِيخِ خَلِيفَةَ أَنَّ إِرْسَالَ الْكِتَابِ إِلَى هِرَقْلَ كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ، بَلْ هَذَا غَلَطٌ لِتَصْرِيحِ أَبِي سُفْيَانَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ، وَالْهُدْنَةُ كَانَتْ فِي آخِرِ سَنَةِ سِتٍّ اتِّفَاقًا، وَمَاتَ دِحْيَةُ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.

وَبُصْرَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالْقَصْرُ مَدِينَةٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَدِمَشْقَ، وَقِيلَ: هِيَ حَوْرَانُ، وَعَظِيمُهَا هُوَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيُّ. وَفِي الصَّحَابَةِ لِابْنِ السَّكَنِ أَنَّهُ أُرْسِلَ بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ مَعَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَكَانَ عَدِيٌّ إِذْ ذَاكَ نَصْرَانِيًّا، فَوَصَلَ بِهِ هُوَ وَدِحْيَةُ مَعًا، وَكَانَتْ وَفَاةُ الْحَارِثِ الْمَذْكُورِ عَامَ الْفَتْحِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ مُحَمَّدٍ) فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَبْدَأَ الْكِتَابَ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، بَلْ حَكَى فِيهِ النَّحَّاسُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ. وَالْحَقُّ إِثْبَاتُ الْخِلَافِ. وَفِيهِ أَنَّ مِنْ الَّتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ تَأْتِي مِنْ غَيْرِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَذَا قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هُنَا أَيْضًا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ ذَلِكَ، لَكِنْ بِارْتِكَابِ مَجَازٍ. زَادَ فِي حَدِيثِ دِحْيَةَ: وَعِنْدَهُ ابْنُ أَخٍ لَهُ أَحْمَرُ أَزْرَقُ سَبْطُ الرَّأْسِ. وَفِيهِ: لَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ سَخِرَ فَقَالَ: لَا تَقْرَأْهُ، إِنَّهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ. فَقَالَ قَيْصَرُ: لَتَقْرَأَنَّهُ. فَقَرَأَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ هُوَ نَاوَلَ الْكِتَابَ لِقَيْصَرَ، وَلَفْظُهُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابِهِ إِلَى قَيْصَرَ فَأَعْطَيْتُهُ الْكِتَابَ.

قَوْلُهُ (عَظِيمِ الرُّومِ) فِيهِ عُدُولٌ عَنْ ذِكْرِهِ بِالْمُلْكِ أَوِ الْإِمْرَةِ ; لِأَنَّهُ مَعْزُولٌ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُخْلِهِ مِنْ إِكْرَامٍ لِمَصْلَحَةِ التَّأَلُّفِ. وَفِي حَدِيثِ دِحْيَةَ أَنَّ ابْنَ أَخِي قَيْصَرَ أَنْكَرَ أَيْضًا كَوْنَهُ لَمْ يَقُلْ مَلِكُ الرُّومِ.

قَوْلُهُ: (سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الِاسْتِئْذَانِ السَّلَامُ بِالتَّعْرِيفِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي قِصَّةِ مُوسَى وهَارُونَ مَعَ فِرْعَوْنَ. وَظَاهِرُ السِّيَاقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَا بِهِ أَنْ يَقُولَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُبْدَأُ الْكَافِرُ بِالسَّلَامِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّحِيَّةَ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ سَلِمَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَنْ أَسْلَمَ. وَلِهَذَا جَاءَ بَعْدَهُ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. وَكَذَا جَاءَ فِي بَقِيَّةِ هَذَا الْكِتَابِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ. فَمُحَصَّلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ لَمْ يَبْدَأِ الْكَافِرَ بِالسَّلَامِ قَصْدًا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يُشْعِرُ بِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْمُرَادِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (أَمَّا بَعْدُ) فِي قَوْلِهِ أَمَّا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَتُسْتَعْمَلُ لِتَفْصِيلِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا غَالِبًا، وَقَدْ تَرِدُ مُسْتَأْنَفَةً لَا لِتَفْصِيلٍ كَالَّتِي هُنَا، وَلِلتَّفْصِيلِ وَالتَّقْرِيرِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هِيَ هُنَا لِلتَّفْصِيلِ وَتَقْدِيرُهُ: أَمَّا الِابْتِدَاءُ فَهُوَ اسْمُ اللَّهِ، وَأَمَّا الْمَكْتُوبُ فَهُوَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولُ اللَّهِ. . إِلَخْ، كَذَا قَالَ. وَلَفْظَةُ بَعْدُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ تُفْتَحَ لَوِ اسْتَمَرَّتْ عَلَى الْإِضَافَةِ، لَكِنَّهَا قُطِعَتْ عَنِ الْإِضَافَةِ فَبُنِيَتْ عَلَى الضَّمِّ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ.

قَوْلُهُ: (بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ) بِكَسْرِ الدَّالِ، مِنْ قَوْلِكَ دَعَا يَدْعُو دِعَايَةً نَحْوَ شَكَا يَشْكُو شِكَايَةً. وَلِمُسْلِمٍ بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ أَيْ: بِالْكَلِمَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَالْبَاءُ مَوْضِعُ إِلَى. وَقَوْلُهُ أَسْلِمْ تَسْلَمْ غَايَةٌ فِي الْبَلَاغِ، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْبَدِيعِ وَهُوَ الْجِنَاسُ الِاشْتِقَاقِيُّ.

قَوْلُهُ: (يُؤْتِكَ) جَوَابٌ ثَانٍ لِلْأَمْرِ. وَفِي الْجِهَادِ لِلْمُؤَلِّفِ أَسْلِمْ أَسْلِمْ يُؤْتِكَ بِتَكْرَارِ أَسْلِمْ، فَيُحْتَمَلُ التَّأْكِيدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَالثَّانِي لِلدَّوَامِ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الْآيَةَ. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} الْآيَةَ. وَإِعْطَاؤُهُ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ لِكَوْنِهِ كَانَ مُؤْمِنًا بِنَبِيِّهِ ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ لَهُ مِنْ جِهَةِ إِسْلَامِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ إِسْلَامَهُ يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِ أَتْبَاعِهِ. وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَانَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ فِي حُكْمِهِمْ فِي الْمُنَاكَحَةِ وَالذَّبَائِحِ ; لِأَنَّ هِرَقْلَ هُوَ وَقَوْمَهُ لَيْسُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ. وَقَدْ قَالَ لَهُ وَلِقَوْمِهِ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُمْ

ص: 38

حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالْإِسْرَائِيلِيِّينَ أَوْ بِمَنْ عُلِمَ أَنَّ سَلَفَهُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ تَوَلَّيْتَ) أَيْ: أَعْرَضْتَ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَحَقِيقَةُ التَّوَلِّي إِنَّمَا هُوَ بِالْوَجْهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الشَّيْءِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (الْأَرِيسِيِّينَ) هُوَ جَمْعُ أَرِيسِيٍّ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَرِيسَ بِوَزْنِ فَعِيلٍ، وَقَدْ تُقْلَبُ هَمْزَتُهُ يَاءً كَمَا جَاءَتْ بِهِ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِمَا هُنَا، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْأَرِيسُ الْأَكَّارُ، أَيِ: الْفَلَّاحُ عِنْدَ ثَعْلَبٍ، وَعِنْدَ كُرَاعٍ: الْأَرِيسُ هُوَ الْأَمِيرُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ شَامِيَّةٌ، وَأَنْكَرَ ابْنُ فَارِسٍ أَنْ تَكُونَ عَرَبِيَّةً، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ غَيْرُ ذَلِكَ لَكِنْ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ هُنَا، فَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَكَّارِينَ، زَادَ الْبَرْقَانِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: يَعْنِي الْحَرَّاثِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا فِي رِوَايَةِ الْمَدَائِنِيِّ مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلَةٍ: فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْفَلَّاحِينَ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا تَحُلْ بَيْنَ الْفَلَّاحِينَ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُرَادُ بِالْفَلَّاحِينَ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَزْرَعُ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ فَلَّاحٌ، سَوَاءٌ كَانَ يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ أَنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الضُّعَفَاءِ وَالْأَتْبَاعِ إِذَا لَمْ يُسْلِمُوا تَقْلِيدًا لَهُ ; لِأَنَّ الْأَصَاغِرَ أَتْبَاعُ الْأَكَابِرِ.

قُلْتُ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَهُوَ: فَإِنَّ عَلَيْكَ مَعَ إِثْمِكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ إِثْمُ الْأَتْبَاعِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ تَبِعُوهُ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فَلَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ إِثْمُ نَفْسِهِ أَوْلَى، وَهَذَا يُعَدُّ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لِأَنَّ وِزْرَ الْآثِمِ لَا يَتَحَمَّلُهُ غَيْرُهُ، وَلَكِنَّ الْفَاعِلَ الْمُتَسَبِّبَ وَالْمُتَلَبِّسَ بِالسَّيِّئَاتِ يَتَحَمَّلُ مِنْ جِهَتَيْنِ: جِهَةِ فِعْلِهِ وَجِهَةِ تَسَبُّبِهِ. وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُ الْأَرِيسِيِّينَ بِمَعْنًى آخَرَ، فَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يُونُسَ فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِهِ: الْأَرِيسِيُّونَ الْعَشَّارُونَ، يَعْنِي أَهْلَ الْمَكْسِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَهَذَا إِنْ صَحَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ، فَالْمَعْنَى الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِثْمِ، فَفِي الصَّحِيحِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي اعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَقُبِلَتْ.

قَوْلُهُ: (وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَخْ) هَكَذَا وَقَعَ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ فِي أَوَّلِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الْوَاوَ سَاقِطَةٌ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَعَلَى ثُبُوتِهَا فَهِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى قَوْلِهِ أَدْعُوكَ، فَالتَّقْدِيرُ: أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَقُولُ لَكَ وَلِأَتْبَاعِكَ امْتِثَالًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ أَبِي سُفْيَانَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ جَمِيعَ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ، فَاسْتَحْضَرَ مِنْهَا أَوَّلَ الْكِتَابِ فَذَكَرَهُ، وَكَذَا الْآيَةُ. وَكَأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: كَانَ فِيهِ كَذَا وَكَانَ فِيهِ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} فَالْوَاوُ مِنْ كَلَامِهِ لَا مِنْ نَفْسِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَوَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَهَا لَمَّا نَزَلَتْ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ وَفْدِ نَجْرَانَ، وَكَانَتْ قِصَّتُهُمْ سَنَةَ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِصَّةُ سُفْيَانَ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَاضِحًا فِي الْمَغَازِي، وَقِيلَ: بَلْ نَزَلَتْ سَابِقَةً فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ، وَإِلَيْهِ يُومِئُ كَلَامُ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ نُزُولَهَا مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ بَعِيدٌ.

(فَائِدَةٌ): قِيلَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْجُنُبِ لِلْآيَةِ أَوِ الْآيَتَيْنِ، وَبِإِرْسَالِ بَعْضِ الْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَكَذَا بِالسَّفَرِ بِهِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ بَطَّالٍ فَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بِالنَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ التَّارِيخِ بِذَلِكَ. وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْآنِ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ بِهِ أَيِ: الْمُصْحَفُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا الْجُنُبُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ جَازَ، عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ نَظَرًا، فَإِنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا، فَيُقَيَّدُ الْجَوَازُ عَلَى مَا إِذَا وَقَعَ احْتِيَاجٌ إِلَى ذَلِكَ كَالْإِبْلَاغِ وَالْإِنْذَارِ كَمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَمَّا الْجَوَازُ مُطْلَقًا حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ فَلَا يَتَّجِهُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ الْقَلِيلَةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ عَلَى الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: أَسْلِمْ وَالتَّرْغِيبُ بِقَوْلِهِ: تَسْلَمْ وَيُؤْتِكَ وَالزَّجْرُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّيْتَ

ص: 39

وَالتَّرْهِيبُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ عَلَيْكَ وَالدِّلَالَةُ بِقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْبَلَاغَةِ مَا لَا يَخْفَى وَكَيْفَ لَا وَهُوَ كَلَامُ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى الْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ النَّاطُورِ بَعْدُ، وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا تَعُودُ عَلَى هِرَقْلَ. وَالصَّخَبُ اللَّغَطُ، وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ فِي الْمُخَاصَمَةِ، زَادَ فِي الْجِهَادِ: فَلَا أَدْرِي مَا قَالُوا.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي) زَادَ فِي الْجِهَادِ: حِينَ خَلَوْتُ بِهِمْ.

قَوْلُهُ: (أَمِرَ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: عَظُمَ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُبْحَانَ. وَابْنُ أَبِي كَبْشَةَ أَرَادَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ أَبَا كَبْشَةَ أَحَدُ أَجْدَادِهِ، وَعَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا انْتَقَصَتْ نَسَبَتْ إِلَى جَدٍّ غَامِضٍ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ النَّسَّابَةُ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ جَدُّ وَهْبٍ جَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّهِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ وَهْبًا جَدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- اسْمُ أُمِّهِ عَاتِكَةُ بِنْتُ الْأَوْقَصِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ إِنَّ الْأَوْقَصَ يُكَنَّى أَبَا كَبْشَةَ. وَقِيلَ: هُوَ جَدُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِأُمِّهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ الْخَزْرَجِيِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ إِنَّ عَمْرَو بْنَ زَيْدٍ يُكَنَّى أَبَا كَبْشَةَ. وَلَكِنْ ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْمُجْتَبَى جَمَاعَةً مِنْ أَجْدَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَمِنْ قِبَلِ أُمِّهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُكَنَّى أَبَا كَبْشَةَ، وَقِيلَ: هُوَ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ، وَابْنُ مَاكُولَا، وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَكَانَتْ لَهُ بِنْتٌ تُسَمَّى كَبْشَةَ يُكَنَّى بِهَا، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالْخَطَّابِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ خَالَفَ قُرَيْشًا فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَعَبَدَ الشِّعْرَى فَنَسَبُوهُ إِلَيْهِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ، وَكَذَا قَالَهُ الزُّبَيْرُ، قَالَ: وَاسْمُهُ وَجْزُ بْنُ عَامِرِ بْنِ غَالِبٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُ يَخَافُهُ) هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ اسْتِئْنَافًا تَعْلِيلِيًّا لَا بِفَتْحِهَا وَلِثُبُوتِ اللَّامِ فِي لَيَخَافُهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ) هُمُ الرُّومُ، وَيُقَالُ: إِنَّ جَدَّهُمْ رُومَ بْنَ عِيصَ تَزَوَّجَ بِنْتَ مَلِكِ الْحَبَشَةِ فَجَاءَ لَوْنُ وَلَدِهِ بَيْنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ فَقِيلَ لَهُ الْأَصْفَرُ، حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي التِّيجَانِ: إِنَّمَا لُقِّبَ الْأَصْفَرَ ; لِأَنَّ جَدَّتَهُ سَارَةَ زَوْجَ إِبْرَاهِيمَ حَلَّتْهُ بِالذَّهَبِ.

قَوْلُهُ: (فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا) زَادَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ: فَمَا زِلْتُ مَرْعُوبًا مِنْ مُحَمَّدٍ حَتَّى أَسْلَمْتُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ) أَيْ: فَأَظْهَرْتُ ذَلِكَ الْيَقِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَقِينَ ارْتَفَعَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ النَّاطُورِ) هُوَ بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ حَارِسُ الْبُسْتَانِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ ابْنِ نَاطُورَا بِزِيَادَةِ أَلِفٍ فِي آخِرِهِ. فَعَلَى هَذَا هُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ.

(تَنْبِيهٌ): الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَكَانَ عَاطِفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكَانَ ابْنُ النَّاطُورِ يُحَدِّثُ فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَهِيَ مَوْصُولَةٌ إِلَى ابْنِ النَّاطُورِ لَا مُعَلَّقَةٌ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَا عِنَايَةَ لَهُ بِهَذَا الشَّأْنِ، وَكَذَلِكَ أَغْرَبَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ فَزَعَمَ أَنَّ قِصَّةَ ابْنِ النَّاطُورِ مَرْوِيَّةٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْهُ لِأَنَّهُ

(1)

لما رَآهَا لَا تَصْرِيحَ فِيهَا بِالسَّمَاعِ حَمَلَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ أَنَّ الزُّهْرِيَّ قَالَ: لَقِيتُهُ بِدِمَشْقَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَأَظُنُّهُ لَمْ يَتَحَمَّلْ عَنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ كَانَ سُقُفًّا لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى أَسْرَارِهِمْ عَالِمًا بِحَقَائِقِ أَخْبَارِهِمْ، وَكَأَنَّ الَّذِي جَزَمَ بِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا وَقَعَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَدَّمَ قِصَّةَ ابْنِ النَّاطُورِ هَذِهِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ، فَعِنْدَهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هِرَقْلَ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَجَزَمَ الْحُفَّاظُ بِمَا ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا، وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ فِيمَا وَقَعَ مِنَ الْإِدْرَاجِ أَوَّلَ الْخَبَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (صَاحِبُ إِيلِيَاءَ) أَيْ أَمِيرُهَا، هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوِ الْحَالِ، أَوْ مَرْفُوعٌ عَلَى الصِّفَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ، وَالْإِضَافَةُ الَّتِي فِيهِ تَقُومُ مَقَامَ التَّعْرِيفِ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا فِي تَقْدِيرِ

(1)

ن. خ: كأنه

ص: 40

الِانْفِصَالِ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ، وَهِرَقْلُ مَعْطُوفٌ عَلَى إِيلِيَاءَ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الصُّحْبَةَ لَهُ إِمَّا بِمَعْنَى التَّبَعِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الصَّدَاقَةِ، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ صَاحِبٍ فِي مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيٍّ وَحَقِيقِيٍّ ; لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِيلِيَاءَ أَمِيرٌ وَذَاكَ مَجَازٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى هِرَقْلَ تَابِعٌ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَإِرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَةِ مَعْنًى شَامِلٍ لَهُمَا وَهَذَا يُسَمَّى عُمُومَ الْمَجَازِ. وَقَوْلُهُ سُقُفًّا بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَافِ كَذَا فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَيُحَدِّثُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.

وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: سُقِّفَ، بِكَسْرِ الْقَافِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ مِثْلُهُ لَكِنْ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ فِي أَوَّلِهِ، وَالْأُسْقُفُّ وَالسُّقْفُ لَفْظٌ أَعْجَمِيٌّ وَمَعْنَاهُ رَئِيسُ دِينِ النَّصَارَى، وَقِيلَ عَرَبِيٌّ وَهُوَ الطَّوِيلُ فِي انْحِنَاءٍ، وَقِيلَ ذَلِكَ لِلرَّئِيسِ لِأَنَّهُ يَتَخَاشَعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَظِيرَ لَهُ فِي وَزْنِهِ إِلَّا الْأُسْرُبُّ وَهُوَ الرَّصَاصُ، لَكِنْ حَكَى ابْنُ سِيدَهْ ثَالِثًا وَهُوَ الْأُسْكُفُّ لِلصَّانِعِ، وَلَا يَرِدُ الْأُتْرُجُّ لِأَنَّهُ جَمْعٌ وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُفْرَدِ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ يَكُونُ الْخَبَرُ الْجُمْلَةَ الَّتِي هِيَ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ، فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَكَانَ، عَاطِفَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سُفْيَانَ بِطُولِهِ ثُمَّ قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ ابْنُ النَّاطُورِ يُحَدِّثُ. وَهَذَا صُورَةُ الْإِرْسَالِ.

قَوْلُهُ: (حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ) يَعْنِي فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَهِيَ عِنْدَ غَلَبَةِ جُنُودِهِ عَلَى جُنُودِ فَارِسَ وَإِخْرَاجِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الَّتِي اعْتَمَرَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ نَصْرَةُ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ فَفَرِحُوا. وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ الْقِصَّةَ مُسْتَوْفَاةً فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} وَفِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ فِي الْجِهَادِ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (خَبِيثُ النَّفْسِ) أَيْ: رَدِيءٌ النَّفْس غَيْرُ طَيِّبِهَا، أَيْ: مَهْمُومًا. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي كَسَلِ النَّفْسِ، وَفِي الصَّحِيحِ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، كَأَنَّهُ كَرِهَ اللَّفْظَ، وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ الْمُسْلِمُونَ وَأَمَّا فِي حَقِّ هِرَقْلَ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ. وَصَرَّحَ فِي رِوَايَةِ بْنِ إِسْحَاقَ بِقَوْلِهِمْ لَهُ لَقَدْ أَصْبَحْتَ مَهْمُومًا. وَالْبَطَارِقَةُ جَمْعُ بِطْرِيقٍ، بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُمْ خَوَاصُّ دَوْلَةِ الرُّومِ.

قَوْلُهُ: (حَزَّاءً) بِالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ آخِرُهُ هَمْزَةٌ مُنَوَّنَةٌ أَيْ: كَاهِنًا، يُقَالُ حَزَا بِالتَّخْفِيفِ يَحْزُو حَزْوًا أَيْ تَكَهَّنَ، وَقَوْلُهُ يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ إِنْ جَعَلْتَهَا خَبَرًا ثَانِيًا صَحَّ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ جَعَلْتَهَا تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ فَالْكَهَانَةُ تَارَةً تَسْتَنِدُ إِلَى إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ وَتَارَةً تُسْتَفَادٌ مِنْ أَحْكَامِ النُّجُومِ، وَكَانَ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَائِعًا ذَائِعًا، إِلَى أَنْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فَانْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُمْ وَأَنْكَرَ الشَّرْعُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ هِرَقْلُ مِنْ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى حِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَوْلِدَ النَّبَوِيَّ كَانَ بِقِرَانِ الْعُلْوِيَّيْنِ

(1)

بِبُرْجِ الْعَقْرَبِ، وَهُمَا يَقْتَرِنَانِ فِي كُلِّ عِشْرِينَ سَنَةً مَرَّةً إِلَّا أَنْ تَسْتَوْفِيَ الْمُثَلَّثَةُ بُرُوجَهَا فِي سِتِّينَ سَنَةً، فَكَانَ ابْتِدَاءُ الْعِشْرِينَ الْأُولَى الْمَوْلِدَ النَّبَوِيَّ فِي الْقِرَانِ الْمَذْكُورِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الْعِشْرِينَ الثَّانِيَةَ مَجِيءُ جِبْرِيلَ بِالْوَحْيِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الثَّالِثَةِ فَتْحُ خَيْبَرَ وَعُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ الَّتِي جَرَّتْ فَتْحَ مَكَّةَ وَظُهُورَ الْإِسْلَامِ، وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ رَأَى هِرَقْلُ مَا رَأَى. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا أَنَّ بُرْجَ الْعَقْرَبِ مَائِيٌّ وَهُوَ دَلِيلُ مُلْكِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى انْتِقَالِ الْمُلْكِ إِلَى الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَلَيْسُوا مُرَادًا هُنَا لِأَنَّ هَذَا لِمَنْ يُنْقَلُ إِلَيْهِ الْمُلْكُ لَا لِمَنِ انْقَضَى مُلْكُهُ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ سَاغَ لِلْبُخَارِيِّ إِيرَادُ هَذَا الْخَبَرَ الْمُشْعِرَ بِتَقْوِيَةِ أَمْرِ الْمُنَجِّمِينَ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُمْ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، بَلْ قَصَدَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْإِشَارَاتِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَاءَتْ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ كَاهِنٍ أَوْ مُنَجِّمٍ مُحِقٍّ أَوْ مُبْطِلٍ إِنْسِيٍّ أَوْ جِنِّيٍّ، وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ عَالِمٌ أَوْ يَجْنَحُ إِلَيْهِ مُحْتَجٌّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحَزَّاءَ هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الْأَعْضَاءِ وَفِي خَيَلَانِ الْوَجْهِ فَيَحْكُمُ عَلَى صَاحِبِهَا بِطَرِيقِ الْفَرَاسَةِ. وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ حَصْرُهُ فِي ذَلِكَ بَلِ

(1)

ن. خ: العلوتين

ص: 41

اللَّائِقُ بِالسِّيَاقِ فِي حَقِّ هِرَقْلَ مَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (مُلْكَ الْخِتَانِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ.

قَوْلُهُ: (قَدْ ظَهَرَ) أَيْ: غَلَبَ، يَعْنِي دَلَّهُ نَظَرُهُ فِي حُكْمِ النُّجُومِ عَلَى أَنَّ مُلْكَ الْخِتَانِ قَدْ غَلَبَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ; لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كَانَ ابْتِدَاءُ ظُهُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ صَالَحَ كُفَّارَ مَكَّةَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} إِذْ فَتْحُ مَكَّةَ كَانَ سَبَبُهُ نَقْضَ قُرَيْشٍ الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَمُقَدِّمَةُ الظُّهُورِ ظُهُورٌ.

قَوْلُهُ: (مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ، وَإِطْلَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ كُلِّهِمْ فِيهِ تَجَوُّزٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا: مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ، فَإِنَّ مُرَادَهُ بِهِ الْعَرَبُ خَاصَّةً، وَالْحَصْرُ فِي قَوْلِهِمْ إِلَّا الْيَهُودَ هُوَ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِمْ ; لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا بِإِيلِيَاءَ وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ كَثِيرِينَ تَحْتَ الذِّلَّةِ مَعَ الرُّومِ، بِخِلَافِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ تَحْتَ طَاعَةِ مَلِكِ الرُّومِ كَآلِ غَسَّانَ لَكِنَّهُمْ كَانُوا مُلُوكًا بِرَأْسِهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يُهِمَّنَّكَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مِنْ أَهَمَّ: أَثَارَ الْهَمَّ. وَقَوْلُهُ شَأْنُهُمْ أَيْ: أَمْرُهُمْ. وَمَدَائِنُ جَمْعُ مَدِينَةٍ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَنْ جَعَلَهُ فَعِيلَةً مِنْ قَوْلِكَ: مَدَنَ بِالْمَكَانِ أَيْ: أَقَامَ بِهِ، هَمَزَهُ كَقَبَائِلَ، وَمَنْ جَعَلَهُ مُفْعِلَةً مِنْ قَوْلِكَ: دَيَنَ أَيْ: مُلِكَ، لَمْ يَهْمِزْ كَمَعَايِشَ. انْتَهَى، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعَايِشَ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ رَوَى خَارِجَةُ، عَنْ نَافِعٍ الْقَارِئ الْهَمْزَ فِي مَعَايِشَ، وَقَالَ الْقَزَّازُ: مَنْ هَمَزَهَا تَوَهَّمَهَا مِنْ فَعِيلَةٍ لِشَبَهِهَا بِهَا فِي اللَّفْظِ، انْتَهَى.

قَوْلُهُ: (فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ) أَيْ: فِي هَذِهِ الْمَشُورَةِ.

قَوْلُهُ: (أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ) لَمْ يَذْكُرْ مَنْ أَحْضَرَهُ. وَمَلِكُ غَسَّانَ هُوَ صَاحِبُ بُصْرَى الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، وَأَشَرْنَا إِلَى أَنَّ ابْنَ السَّكَنِ رَوَى أَنَّهُ أَرْسَلَ مِنْ عِنْدِهِ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْكُورَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فَسَّرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ: خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَقَدِ اتَّبَعَهُ نَاسٌ، وَخَالَفَهُ نَاسٌ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مَلَاحِمُ فِي مَوَاطِنَ، فَتَرَكتهُمْ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَبَيَّنَ مَا أُجْمِلَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَائِلِ مَا ظَهَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَفِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ قَالَ: جَرِّدُوهُ، فَإِذَا هُوَ مُخْتَتِنٌ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي رَأَيْتُهُ، أَعْطِهِ ثَوْبَهُ.

قَوْلُهُ: (هُمْ يَخْتَتِنُونَ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ هُمْ مُخْتَتِنُونَ بِالْمِيمِ وَالْأَوَّلُ أَفْيَدُ وَأَشْمَلُ.

قَوْلُهُ: (هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ بِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُونِ، وَلِلْقَابِسِيِّ بِالْفَتْحِ ثُمَّ الْكَسْرِ، وَلِأُبَيٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ: يَمْلِكُ، فِعْلٌ مُضَارِعٌ، قَالَ الْقَاضِي: أَظُنُّهَا ضَمَّةَ الْمِيمِ اتَّصَلَتْ بِهَا فَتَصَحَّفَتْ، وَوَجَّهَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي أَمَالِيهِ بِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَيْ هَذَا الْمَذْكُورُ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَمْلِكُ نَعْتًا، أَيْ هَذَا رَجُلٌ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةَ. وَقَالَ شَيْخُنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْمَوْصُولَ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، أَيْ هَذَا الَّذِي يَمْلِكُ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقٌ. عَلَى أَنَّ الْكُوفِيِّينَ يُجَوِّزُونَ اسْتِعْمَالَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِمَعْنَى الِاسْمِ الْمَوْصُولِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: الَّذِي يَمْلِكُ، مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ، قُلْتُ: لَكِنَّ اتِّفَاقَ الرُّوَاةِ عَلَى حَذْفِ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ دَالٌّ عَلَى مَا قَالَ الْقَاضِي فَيَكُونُ شَاذًّا. عَلَى أَنَّنِي رَأَيْتُ فِي أَصْلٍ مُعْتَمَدٍ وَعَلَيْهِ عَلَامَةُ السَّرَخْسِيِّ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَتَوْجِيهُهَا أَقْرَبُ مِنْ تَوْجِيهِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَظَرِهِ فِي حُكْمِ النُّجُومِ، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِظَهَرَ، أَيْ: هَذَا الْحُكْمُ ظَهَرَ بِمُلْكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي تَخْتَتِنُ.

قَوْلُهُ: (بِرُومِيَةَ) بِالتَّخْفِيفِ، وَهِيَ مَدِينَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِلرُّومِ. وَحِمْصَ مَجْرُورٌ بِالْفَتْحَةِ مُنِعَ صَرْفُهُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ صَرْفُهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَرِمْ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَانِهِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَمْ يَصِلْ إِلَى حِمْصَ وَزَيَّفُوهُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ) وَفِي حَدِيثِ دِحْيَةَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَالَ: فَلَمَّا خَرَجُوا أَدْخَلَنِي عَلَيْهِ وَأَرْسَلَ إِلَيَّ الْأُسْقُفَّ وَهُوَ صَاحِبُ أَمْرِهِمْ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ، وَبَشَّرَنَا بِهِ عِيسَى، أَمَّا أَنَا فَمُصَدِّقُهُ وَمُتَّبِعُهُ. فَقَالَ لَهُ قَيْصَرُ: أَمَّا أَنَا إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ذَهَبَ مُلْكِي، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ لِيَ الْأُسْقُفُّ: خُذْ هَذَا الْكِتَابَ وَاذْهَبْ إِلَى صَاحِبِكِ فَاقْرَأْ عليه السلام وَأَخْبِرْهُ أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنِّي قَدْ آمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُهُ، وَأَنَّهُمْ قَدْ أَنْكَرُوا عَلَيَّ ذَلِكَ.

ص: 42

ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ دِحْيَةَ إِلَى ضُغَاطِرَ الرُّومِيَّ وَقَالَ: إِنَّهُ فِي الرُّومِ أَجْوَزُ قَوْلًا مِنِّي، وَإِنَّ ضُغَاطِرَ الْمَذْكُورَ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَأَلْقَى ثِيَابَهُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَلَبِسَ ثِيَابًا بِيضًا وَخَرَجَ عَلَى الرُّومِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَقَامُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ. قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ دِحْيَةُ إِلَى هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: قَدْ قُلْتُ لَكَ إِنَّا نَخَافُهُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا، فَضُغَاطِرُ كَانَ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِنِّي.

قُلْتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ صَاحِبَ رُومِيَّةَ الَّذِي أُبْهِمَ هُنَا، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا قِيلَ إِنَّ دِحْيَةَ لَمْ يَقْدَمْ عَلَى هِرَقْلَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَكْتُوبِ فِي سَنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَإِنَّمَا قَدِمَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوبِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَالرَّاجِحُ أَنَّ دِحْيَةَ قَدِمَ عَلَى هِرَقْلَ أَيْضًا فِي الْأُولَى، فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ وَقَعَتْ لِكُلٍّ مِنَ الْأُسْقُفِّ وَمِنْ ضُغَاطِرَ قِصَّةٌ قُتِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِسَبَبِهَا، أَوْ وَقَعَتْ لِضُغَاطِرَ قِصَّتَانِ إِحْدَاهُمَا الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ النَّاطُورِ وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ أَسْلَمَ وَلَا أَنَّهُ قُتِلَ، وَالثَّانِيَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّ فِيهَا قِصَّتَهُ مَعَ دِحْيَةَ وَأَنَّهُ أَسْلَمَ وَقُتِلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ) لِأَنَّهَا كَانَتْ دَارَ مُلْكِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَانَتْ فِي زَمَانِهِمْ أَعْظَمُ مِنْ دِمَشْقَ. وَكَانَ فَتْحُهَا عَلَى يَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَشْرِ سِنِينَ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ نَبِيٌّ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هِرَقْلَ وَصَاحِبَهُ أَقَرَّا بِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّ هِرَقْلَ كَمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ صَاحِبِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَذِنَ) هِيَ بِالْقَصْرِ مِنَ الْإِذْنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَغَيْرِهِ بِالْمَدِّ وَمَعْنَاهُ: أَعْلَمَ. وَالدَّسْكَرَةُ بِسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ: الْقَصْرُ الَّذِي حَوْلَهُ بُيُوتٌ، وَكَأَنَّهُ دَخَلَ الْقَصْرَ ثُمَّ أَغْلَقَهُ وَفَتَحَ أَبْوَابَ الْبُيُوتِ الَّتِي حَوْلَهُ وَأَذِنَ لِلرُّومِ فِي دُخُولِهَا ثُمَّ أَغْلَقَهَا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَخَاطَبَهُمْ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَثِبُوا بِهِ كَمَا وَثَبُوا بِضُغَاطِرَ.

قَوْلُهُ: (وَالرَّشَدِ) بِفَتْحَتَيْنِ (وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ) لِأَنَّهُمْ إِنْ تَمَادَوْا عَلَى الْكُفْرِ كَانَ سَبَبًا لِذَهَابِ مُلْكِهِمْ، كَمَا عَرِفَ هُوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ.

قَوْلُهُ: (فَتُبَايِعُوا) بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِمُثَنَّاتَيْنِ وَمُوَحَّدَةٍ، وَلِلْأَصِيلِيِّ فَنُبَايِعُ بِنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ (لِهَذَا النَّبِيِّ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْبَاقِينَ بِحَذْفِ اللَّامِ.

قَوْلُهُ: (فَحَاصُوا) بِمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ: نَفَرُوا، وَشَبَّهَهُمْ بِالْوُحُوشِ لِأَنَّ نَفْرَتَهَا أَشَدُّ مِنْ نَفْرَةِ الْبَهَائِمِ الْإِنْسِيَّةِ، وَشَبَّهَهُمْ بِالْحُمْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْوُحُوشِ لِمُنَاسَبَةِ الْجَهْلِ وَعَدَمِ الْفِطْنَةِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ.

قَوْلُهُ: (وَأِيسَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ وَيَئِسَ بِيَائَيْنِ تَحْتَانِيَّتَيْنِ وَهُمَا بِمَعْنَى قَنَطَ وَالْأَوَّلُ مَقْلُوبٌ مِنَ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْإِيمَانِ) أَيْ: مِنْ إِيمَانِهِمْ لِمَا أَظْهَرُوهُ، وَمِنْ إِيمَانِهِ لِأَنَّهُ شَحَّ بِمُلْكِهِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُطِيعُوهُ فَيَسْتَمِرَّ مُلْكُهُ وَيَسْلَمَ وَيَسْلَمُوا بِإِسْلَامِهِمْ، فَمَا أِيسَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِالشَّرْطِ الَّذِي أَرَادَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَفِرَّ عَنْهُمْ وَيَتْرُكَ مُلْكَهُ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (آنِفًا) أَيْ: قَرِيبًا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ.

قَوْلُهُ: (فَقَدْ رَأَيْتُ) زَادَ فِي التَّفْسِيرِ: فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمُ الَّذِي أَحْبَبْتُ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ) أَيْ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِدُعَائِهِ إِلَى الْإِيمَانِ خَاصَّةً ; لِأَنَّهُ انْقَضَى أَمْرُهُ حِينَئِذٍ وَمَاتَ، أَوْ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْآخِرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي عِلْمِهِ، وَهَذَا أَوْجَهُ ; لِأَنَّ هِرَقْلَ وَقَعَتْ لَهُ قِصَصٌ أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ، مِنْهَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ تَجْهِيزِهِ الْجُيُوشَ إِلَى مُؤْتَةَ وَمِنْ تَجْهِيزِهِ الْجُيُوشَ أَيْضًا إِلَى تَبُوكَ، وَمُكَاتَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ ثَانِيًا، وَإِرْسَالِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَهَبٍ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا قَبْلُ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ التَّنُوخِيِّ رَسُولِ هِرَقْلَ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ فَبَعَثَ دِحْيَةَ إِلَى هِرَقْلَ فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَابُ دَعَا قِسِّيسِي الرُّومِ وَبَطَارِقَتَهَا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ فَتَحَيَّرُوا حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ خَرَجَ مِنْ بُرْنُسِهِ، فَقَالَ: اسْكُتُوا، فَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ تَمَسُّكَكُمْ بِدِينِكُمْ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ بَشَّارٍ

(1)

عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُدَمَاءِ الشَّامِ أَنَّ هِرَقْلَ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ عَرَضَ عَلَى الرُّومِ أُمُورًا: إِمَّا الْإِسْلَامَ

(1)

ن. خ: خالد بن يسار

ص: 43

وَإِمَّا الْجِزْيَةَ، وَإِمَّا أَنْ يُصَالِحَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَبْقَى لَهُمْ مَا دُونَ الدَّرْبِ، فَأَبَوْا، وَأَنَّهُ انْطَلَقَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الدَّرْبِ اسْتَقْبَلَ أَرْضَ الشَّامِ ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكِ أَرْضَ سُورِيَّةَ - يَعْنِي الشَّامَ - تَسْلِيمَ الْمُوَدِّعِ، ثُمَّ رَكَضَ حَتَّى دَخَلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ.

وَاخْتَلَفَ الْإِخْبَارِيُّونَ هَلْ هُوَ الَّذِي حَارَبَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ أَوِ ابْنُهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ هُوَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): لَمَّا كَانَ أَمْرُ هِرَقْلَ فِي الْإِيمَانِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مُسْتَبْهَمًا ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ تَصْرِيحِهِ بِالْإِيمَانِ لِلْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَمَرَّ عَلَى الشَّكِّ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا، وَقَالَ الرَّاوِي فِي آخِرِ الْقِصَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ، خَتَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْبَابَ الَّذِي اسْتَفْتَحَهُ بِحَدِيثِ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ كَأَنَّهُ قَالَ إِنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ انْتَفَعَ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ. فَظَهَرَتْ مُنَاسَبَةُ إِيرَادِ قِصَّةِ ابْنِ النَّاطُورِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ لِمُنَاسَبَتِهَا حَدِيثَ الْأَعْمَالِ الْمُصَدَّرِ الْبَابُ بِهِ. وَيُؤْخَذُ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ آخِرِ لَفْظٍ فِي الْقِصَّةِ بَرَاعَةُ الِاخْتِتَامِ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ بِبَدْءِ الْوَحْيِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ كَيْفِيَّةَ حَالِ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الِابْتِدَاءِ ; وَلِأَنَّ الْآيَةَ الْمَكْتُوبَةَ إِلَى هِرَقْلَ لِلدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ مُلْتَئِمَةٌ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي فِي التَّرْجَمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الْآيَةَ، فَبَانَ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ كُلِّهِمْ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الْآيَةَ.

(تَكْمِيلٌ): ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ هِرَقْلَ وَضَعَ الْكِتَابَ فِي قَصَبَةٍ مِنْ ذَهَبٍ تَعْظِيمًا لَهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَتَوَارَثُونَهُ حَتَّى كَانَ عِنْدَ مَلِكِ الْفِرِنْجِ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى طُلَيْطِلَةَ، ثُمَّ كَانَ عِنْدَ سَبْطِهِ، فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ سَعْدٍ

(1)

أَحَدَ قُوَّادِ الْمُسْلِمِينَ اجْتَمَعَ بِذَلِكَ الْمَلِكِ فَأَخْرَجَ لَهُ الْكِتَابَ، فَلَمَّا رَآهُ اسْتَعْبَرَ وَسَأَلَ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ تَقْبِيلِهِ، فَامْتَنَعَ.

قُلْتُ: وَأَنْبَأَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْقَاضِي نُورِ الدِّينِ بْنِ الصَّائِغِ الدِّمَشْقِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَيْفُ الدِّينِ فُلَيْحٌ الْمَنْصُورِيُّ قَالَ: أَرْسَلَنِي الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ إِلَى مَلِكِ الْغَرْبِ بِهَدِيَّةٍ، فَأَرْسَلَنِي مَلِكُ الْغَرْبِ إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ فِي شَفَاعَةٍ فَقَبِلَهَا، وَعَرَضَ عَلَيَّ الْإِقَامَةَ عِنْدَهُ فَامْتَنَعْتُ، فَقَالَ لِي: لَأُتْحِفَنَّكَ بِتُحْفَةٍ سَنِيَّةٍ، فَأَخْرَجَ لِي صُنْدُوقًا مُصَفَّحًا بِذَهَبٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مِقْلَمَةَ ذَهَبٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا قَدْ زَالَتْ أَكْثَرُ حُرُوفِهِ وَقَدِ الْتَصَقَتْ عَلَيْهِ خِرْقَةُ حَرِيرٍ فَقَالَ: هَذَا كِتَابُ نَبِيِّكُمْ إِلَى جَدِّي قَيْصَرَ، مَا زِلْنَا نَتَوَارَثُهُ إِلَى الْآنَ، وَأَوْصَانَا آبَاؤُنَا أَنَّهُ مَا دَامَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَنَا لَا يَزَالُ الْمُلْكُ فِينَا، فَنَحْنُ نَحْفَظُهُ غَايَةَ الْحِفْظِ وَنُعَظِّمُهُ وَنَكْتُم هُ عَنِ النَّصَارَى لِيَدُومَ الْمُلْكُ فِينَا، انْتَهَى.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ آنِفًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى التَّنُوخِيِّ رَسُولِ هِرَقْلَ الْإِسْلَامَ فَامْتَنَعَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَخَا تَنُوخَ إِنِّي كَتَبْتُ إِلَى مَلِكِكُمْ بِصَحِيفَةٍ فَأَمْسَكَهَا، فَلَنْ يَزَالَ النَّاسُ يَجِدُونَ مِنْهُ بَأْسًا مَا دَامَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ مُرْسَلِ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرَى، وَقَيْصَرَ، فَأَمَّا كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ مَزَّقَهُ، وَأَمَّا قَيْصَرُ فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ طَوَاهُ ثُمَّ رَفَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُمَزَّقُونَ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَسَتَكُونُ لَهُمْ بَقِيَّةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَهُ جَوَابُ كِسْرَى قَالَ: مَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ. وَلَمَّا جَاءَهُ جَوَابُ هِرَقْلَ قَالَ: ثَبَّتَ اللَّهُ مُلْكَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَيُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَنْ يَرْوِيَ الْبُخَارِيُّ عَنِ الثَّلَاثَةِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَنْ يَرْوِيَ عَنْهُمْ بِطَرِيقٍ آخَرَ. كَمَا أَنَّ الزُّهْرِيَّ يَحْتَمِلُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَرْوِيَ لَهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنْ يَرْوِيَ لَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ. هَذَا مَا يَحْتَمِلُ اللَّفْظَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ الِاتِّحَادَ. قُلْتُ:

(1)

ن. خ: عبد الملك بن سعيد

ص: 44

هَذَا الظَّاهِرُ كَافٍ لِمَنْ شَمَّ أَدْنَى رَائِحَةٍ مِنْ عِلْمِ الْإِسْنَادِ.

وَالِاحْتِمَالَاتُ الْعَقْلِيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذَا الْفَنِّ، وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَأَشَدُّ بُعْدًا ; لِأَنَّ أَبَا الْيَمَانِ لَمْ يَلْحَقْ صَالِحَ بْنَ كَيْسَانَ وَلَا سَمِعَ مِنْ يُونُسَ، وَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالنَّقْلِ الْمَحْضِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا عَدَاهُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ لَاطَّلَعَ عَلَى كَيْفِيَّةِ رِوَايَةِ الثَّلَاثَةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِخُصُوصِهِ فَاسْتَرَاحَ مِنْ هَذَا التَّرَدُّدِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي تعليق التَّعْلِيقِ وَأُشِيرُ هُنَا إِلَيْهِ إِشَارَةً مُفْهِمَةً: فَرِوَايَةُ صَالِحٍ وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ أَخْرَجَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ بِتَمَامِهَا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الزَّوَائِدِ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَبْلُ ; وَلَكِنَّهُ انْتَهَى حَدِيثُهُ عِنْدَ قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ زَادَ هُنَا: وَأَنَا كَارِهٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ ابْنِ النَّاطُورِ.

وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِدُونِهَا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ، وَرِوَايَةُ يُونُسَ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَخْرَجَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْجِهَادِ مُخْتَصَرَةً مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، وَفِي الِاسْتِئْذَانِ مُخْتَصَرَةً أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ كِلَاهُمَا عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدِهِ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ، وَقَدْ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ ابْنِ النَّاطُورِ، وَرِوَايَةُ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَلِكَ سَاقَهَا الْمُؤَلِّفُ بِتَمَامِهَا فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِ فَوَائِدَ زَائِدَةٍ فِيمَا مَضَى أَيْضًا، وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ قِصَّةِ ابْنِ النَّاطُورِ قِطْعَةً مُخْتَصَرَةً عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلَةً. فَقَدْ ظَهَرَ لَكَ أَنَّ أَبَا الْيَمَانِ مَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ الزُّهْرِيَّ إِنَّمَا رَوَاهُ لِأَصْحَابِهِ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ أَحَادِيثَ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ عَنْ غَيْرِ أَبِي الْيَمَانِ، وَلَوِ احْتَمَلَ أَنْ يَرْوِيَهُ لَهُمْ أَوْ لِبَعْضِهِمْ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ لَكَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا قَدْ يُفْضِي إِلَى الِاضْطِرَابِ الْمُوجِبِ لِلضَّعْفِ، فَلَاحَ فَسَادُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى الْمُوَفِّقُ وَالْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌2 - كِتَاب الْإِيمَانِ

‌1 - بَاب قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ.

وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} ، {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} ، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} ، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} ، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وَقَوْلُهُ:{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنْ الْإِيمَانِ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا فَمَنْ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ الْإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وَقَالَ مُعَاذُ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {شَرَعَ

ص: 45

لَكُمْ} أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} سَبِيلًا وَسُنَّةً.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابُ الْإِيمَانِ) هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا كِتَابُ الْإِيمَانِ. وَكِتَابُ: مَصْدَرٌ، يُقَالُ: كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابَةً وَكِتَابًا، وَمَادَّةُ كَتَبَ دَالَّةٌ عَلَى الْجَمْعِ وَالضَّمِّ، وَمِنْهَا الْكَتِيبَةُ وَالْكِتَابَةُ، اسْتَعْمَلُوا ذَلِكَ فِيمَا يَجْمَعُ أَشْيَاءَ مِنَ الْأَبْوَابِ وَالْفُصُولِ الْجَامِعَةِ لِلْمَسَائِلِ، وَالضَّمُّ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَكْتُوبِ مِنَ الْحُرُوفِ حَقِيقَةٌ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعَانِي الْمُرَادَةِ مِنْهَا مَجَازٌ، وَالْبَابُ مَوْضُوعُهُ الْمَدْخَلُ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعَانِي مَجَازٌ، وَالْإِيمَانُ لُغَةً التَّصْدِيقُ، وَشَرْعًا تَصْدِيقُ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ: هَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ مَزِيدُ أَمْرٍ مِنْ جِهَةِ إِبْدَاءِ هَذَا التَّصْدِيقِ بِاللِّسَانِ الْمُعَبِّرِ عَمَّا فِي الْقَلْبِ إِذِ التَّصْدِيقُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ؟ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ بِمَا صَدَّقَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ كَفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْتَهَيَاتِ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْإِيمَانُ فِيمَا قِيلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَمْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِتَبَايُنِ مَدْلُولِي الْأَمْنِ وَالتَّصْدِيقِ، إِلَّا إِنْ لُوحِظَ فِيهِ مَعْنًى مَجَازِيٌّ فَيُقَالُ: أَمِنَهُ إِذَا صَدَّقَهُ، أَيْ: أَمِنَهُ التَّكْذِيبَ.

وَلَمْ يَسْتَفْتِحِ الْمُصَنِّفُ بَدْءَ الْوَحْيِ بِكِتَابٍ ; لِأَنَّ الْمُقَدِّمَةَ لَا تُسْتَفْتَحُ بِمَا يُسْتَفْتَحُ بِهِ غَيْرُهَا ; لِأَنَّهَا تَنْطَوِي عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَهَا، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي تَقْدِيمِ الْبَسْمَلَةِ عَلَى كِتَابٍ أَوْ تَأْخِيرِهَا وَلِكُلٍّ وَجْهٌ، الْأَوَّلُ ظَاهِرٌ، وَوَجْهُ الثَّانِي وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ جَعَلَ التَّرْجَمَةَ قَائِمَةً مَقَامَ تَسْمِيَةِ السُّورَةِ، وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ كَالْآيَاتِ مُسْتَفْتَحَةٌ بِالْبَسْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ)، سَقَطَ لَفْظُ بَابُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَقَدْ وُصِلَ الْحَدِيثُ بَعْدُ تَامًّا، وَاقْتِصَارُهُ عَلَى طَرَفِهِ فِيهِ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ بَعْضِهِ وَالْمُرَادُ بَابُ هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ) أَيِ: الْإِيمَانُ (قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَهُوَ اللَّفْظُ الْوَارِدُ عَنِ السَّلَفِ الَّذِينَ أَطْلَقُوا ذَلِكَ، وَوَهِمَ ابْنُ التِّينِ فَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ، إِلَى آخِرِهِ، مَرْفُوعٌ لَمَّا رَآهُ مَعْطُوفًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَرَدَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَالْكَلَامُ هُنَا فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَوْنُهُ قَوْلًا وَعَمَلًا، وَالثَّانِي كَوْنُهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. فَأَمَّا الْقَوْلُ فَالْمُرَادُ بِهِ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، لِيَدْخُلَ الِاعْتِقَادُ وَالْعِبَادَاتُ. وَمُرَادُ مَنْ أَدْخَلَ ذَلِكَ فِي تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ وَمَنْ نَفَاهُ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَالسَّلَفُ قَالُوا: هُوَ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ. وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ الْأَعْمَالَ شَرْطٌ فِي كَمَالِهِ. وَمِنْ هُنَا نَشَأَ ثَمَّ الْقَوْلُ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ كَمَا سَيَأْتِي.

وَالْمُرْجِئَةُ قَالُوا: هُوَ اعْتِقَادٌ وَنُطْقٌ فَقَطْ. وَالْكَرَّامِيَّةُ قَالُوا: هُوَ نُطْقٌ فَقَطْ. وَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا: هُوَ الْعَمَلُ وَالنُّطْقُ وَالِاعْتِقَادُ. وَالْفَارِقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَعْمَالَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ وَالسَّلَفُ جَعَلُوهَا شَرْطًا فِي كَمَالِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ كَمَا قُلْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا عِنْدَنَا فَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ فَقَطْ، فَمَنْ أَقَرَّ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِكُفْرٍ إِلَّا إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ كَالْفِسْقِ فَمَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِيمَانَ فَبِالنَّظَرِ إِلَى إِقْرَارِهِ، وَمَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانَ فَبِالنَّظَرِ إِلَى كَمَالِهِ، وَمَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ فَبِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلَ الْكَافِرِ، وَمَنْ نَفَاهُ عَنْهُ فَبِالنَّظَرِ إِلَى حَقِيقَتِهِ.

وَأَثْبَتَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْوَاسِطَةَ فَقَالُوا: الْفَاسِقُ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي فَذَهَبَ السَّلَفُ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَالُوا مَتَى قبل ذَلِكَ كَانَ شَكًّا. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: وَالْأَظْهَرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِكَثْرَةِ النَّظَرِ وَوُضُوحِ الْأَدِلَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ إِيمَانُ الصِّدِّيقِ أَقْوَى مِنْ إِيمَانِ غَيْرِهِ بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيهِ الشُّبْهَةُ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ يَتَفَاضَلُ، حَتَّى إِنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ الْإِيمَانُ أَعْظَمَ يَقِينًا وَإِخْلَاصًا وَتَوَكُّلًا مِنْهُ فِي بَعْضِهَا، وَكَذَلِكَ فِي التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ بِحَسَبِ ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ وَكَثْرَتِهَا. وَقَدْ نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ

ص: 46

فِي كِتَابِهِ تَعْظِيمُ ق دْرِ الصَّلَاةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَمَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ صَرَّحَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَمَعْمَرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي عَصْرِهِمْ. وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْه، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَرَوَى بِسَنَدِهِ الصَّحِيحِ عَنِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: لَقِيتُ أَكْثَرَ مِنَ أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْأَمْصَارِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يَخْتَلِفُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ.

وَأَطْنَبَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَاللَّالِكَائِيُّ فِي نَقْلِ ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكُلِّ مَنْ يَدُورُ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَحَكَاهُ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، وَوَكِيعٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ الشَّافِعِيِّ مِنَ الْحِلْيَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الرَّبِيعِ وَزَادَ: يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ. ثُمَّ تَلَا {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} الْآيَةَ. ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ يَسْتَدِلُّ لِذَلِكَ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ مُصَرِّحَةٍ بِالزِّيَادَةِ، وَبِثُبُوتِهَا يَثْبُتُ الْمُقَابِلُ، فَإِنَّ كُلَّ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ قَابِلٌ لِلنُّقْصَانِ ضَرُورَةً.

قَوْلُهُ: وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ، هُوَ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَلَفْظُهُ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ. وَلَفْظُ أَبِي أُمَامَةَ: مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَزَادَ أَحْمَدُ فِيهِ: وَنَصَحَ لِلَّهِ وَزَادَ فِي أُخْرَى: وَيُعْمِلُ لِسَانَهُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَلَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ بِلَفْظِ لَا يَجِدُ الْعَبْدُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلَّهِ وَيُبْغِضَ لِلَّهِ وَلَفْظُ الْبَزَّارِ رَفَعَهُ: أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ: آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ; لِأَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ يَتَفَاوَتَانِ.

قَوْلُهُ: (وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ) أَيِ ابْنِ عُمَيْرَةَ الْكِنْدِيِّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مِنْ أَوْلَادِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ عَامِلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْجَزِيرَةِ فَلِذَلِكَ كَتَبَ إِلَيْهِ، وَالتَّعْلِيقُ الْمَذْكُورُ وَصَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُمَا مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ. . . إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ) كَذَا ثَبَتَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ بِاللَّامِ، وَفَرَائِضَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ إِنَّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ: فَإِنَّ الْإِيمَانَ فَرَائِضُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمُ إِنَّ وَفَرَائِضُ خَبَرُهَا، وَبِالْأَوَّلِ جَاءَ الْمَوْصُولُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَرَائِضَ) أَيْ: أَعْمَالًا مَفْرُوضَةً، (وَشَرَائِعَ) أَيْ: عَقَائِدَ دِينِيَّةً، (وَحُدُودًا) أَيْ: مَنْهِيَّاتٍ مَمْنُوعَةً، (وَسُنَنًا) أَيْ: مَنْدُوبَاتٍ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا) أَيْ: أُبَيِّنُ تَفَارِيعَهَا لَا أُصُولَهَا ; لِأَنَّ أُصُولَهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُمْ جُمْلَةً، عَلَى تَجْوِيزِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إِذِ الْحَاجَةُ هُنَا لَمْ تَتَحَقَّقْ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْأَثَرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ حَيْثُ قَالَ: استكمل ولم يستكمل. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَهَذَا عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَدْ يُمْنَعُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِيمَانَ غَيْرَ الْفَرَائِضِ. قُلْتُ: لَكِنَّ آخِرَ كَلَامِهِ يُشْعِرُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا أَيِ الْفَرَائِضَ وَمَا مَعَهَا فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ. وَبِهَذَا تَتَّفِقُ الرِّوَايَتَانِ. فَالْمُرَادُ أَنَّهَا مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ أَطْلَقَ عَلَى مُكَمِّلَاتِ الْإِيمَانِ إِيمَانًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أَشَارَ إِلَى تَفْسِيرِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا لِهَذِهِ الْآيَةِ، فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ الصَّحِيحِ إِلَى سَعِيدٍ قَالَ: قَوْلُهُ {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أَيْ: يَزْدَادَ يَقِينِي. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لِأَزْدَادَ إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِي، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مَعَ أَنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم قَدْ أُمِرَ بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ - كَانَ كَأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ. وَإِنَّمَا فَصَلَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ

ص: 47

الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ يُؤْخَذُ مِنْ تِلْكَ بِالنَّصِّ وَمِنْ هَذِهِ بِالْإِشَارَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُعَاذٌ) هُوَ ابْنُ جَبَلٍ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْأَصِيلِيُّ، وَالتَّعْلِيقُ الْمَذْكُورُ وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو بَكْرٍ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ لِي مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنْ إِخْوَانِهِ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً، فَيَجْلِسَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ تَعَالَى وَيَحْمَدَانِهِ. وَعُرِفَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْأَسْوَدَ أَبْهَمَ نَفْسَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُعَاذٌ قَالَ ذَلِكَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ ظَاهِرَةٌ ; لِأَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ لِكَوْنِهِ كَانَ مُؤْمِنًا وَأَيُّ مُؤْمِنٍ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى إِرَادَةِ أَنَّهُ يَزْدَادُ إِيمَانًا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا تَعَلُّقَ فِيهِ لِلزِّيَادَةِ ; لِأَنَّ مُعَاذًا إِنَّمَا أَرَادَ تَجْدِيدَ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْعَبْدَ يُؤْمِنُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ فَرْضًا، ثُمَّ يَكُونُ أَبَدًا مُجَدِّدًا كُلَّمَا نَظَرَ أَوْ فَكَّرَ، وَمَا نَفَاهُ أَوَّلًا أَثْبَتَهُ آخِرًا ; لِأَنَّ تَجْدِيدَ الْإِيمَانِ إِيمَانٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّهُ) هَذَا التَّعْلِيقُ طَرَفٌ مِنْ أَثَرٍ وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَبَقِيَّتُهُ: وَالصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا، وَلَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ. وَجَرَى الْمُصَنِّفُ عَلَى عَادَتِهِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى مَا يَدُلُّ بِالْإِشَارَةِ، وَحَذْفِ مَا يَدُلُّ بِالصَّرَاحَةِ، إِذْ لَفْظُ النِّصْفِ صَرِيحٌ فِي التَّجْزِئَةِ. وَفِي الْإِيمَانِ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ زِدْنَا إِيمَانًا وَيَقِينًا وَفِقْهًا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهَذَا أَصْرَحُ فِي الْمَقْصُودِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ لِمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ.

(تَنْبِيهٌ): تَعَلَّقَ بِهَذَا الْأَثَرِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْيَقِينَ هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ، فَإِذَا أَيْقَنَ الْقَلْبُ انْبَعَثَتِ الْجَوَارِحُ كُلُّهَا لِلِقَاءِ اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، حَتَّى قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَوْ أَنَّ الْيَقِينَ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَنْبَغِي لَطَارَ اشْتِيَاقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَهَرَبًا مِنَ النَّارِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِلَخْ) الْمُرَادُ بِالتَّقْوَى وِقَايَةُ النَّفْسِ عَنِ الشِّرْكِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَالْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَصِحُّ اسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ. وَقَوْلُهُ حَاكَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْكَافِ الْخَفِيفَةِ أَيْ: تَرَدَّدَ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ بَلَغَ كُنْهَ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتَهُ، وَبَعْضَهُمْ لَمْ يَبْلُغْ. وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ مَرْفُوعًا، وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ وَابِصَةَ، وَحَسَّنَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ، وَلَيْسَ فِيهَا شيء عَلَى شَرْطِ الْمُصَنِّفِ، فَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ أَرَهُ إِلَى الْآنَ مَوْصُولًا.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ التَّقْوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: تَمَامُ التَّقْوَى أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ حَتَّى تَتْرُكَ مَا تَرَى أَنَّهُ حَلَالٌ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) وَصَلَ هَذَا التَّعْلِيقَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ شَرْعُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْبُلْقِينِيُّ: وَقَعَ فِي أَصْلِ الصَّحِيحِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ فِي أَثَرِ مُجَاهِدٍ هَذَا تَصْحِيفٌ قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لِبَيَانِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَهُ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {شَرَعَ لَكُمْ} أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا. وَالصَّوَابُ أَوْصَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَأَنْبِيَاءَهُ. كَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ. وَبِهِ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ، وَكَيْفَ يُفْرِدُ مُجَاهِدٌ الضَّمِيرَ لِنُوحٍ وَحْدَهُ مَعَ أَنَّ فِي السِّيَاقِ ذِكْرَ جَمَاعَةٍ، انْتَهَى.

وَلَا مَانِعَ مِنَ الْإِفْرَادِ فِي التَّفْسِيرِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ بِالْجَمْعِ عَلَى إِرَادَةِ الْمُخَاطَبِ وَالْبَاقُونَ تَبَعٌ، وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ لَا يَمْتَنِعُ ; لِأَنَّ نُوحًا أُفْرِدَ فِي الْآيَةِ فَلَمْ يَتَعَيَّنِ التَّصْحِيفُ، وَغَايَةُ مَا ذُكِرَ مِنْ مَجِيءِ التَّفَاسِيرِ بِخِلَافِ لَفْظِهِ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ بِالْمَعْنَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {دِينُ الْقَيِّمَةِ} قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَحَجَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. أَخْرَجَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) وَصَلَ هَذَا التَّعْلِيقَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَالْمِنْهَاجُ السَّبِيلُ: أَيِ: الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، وَالشِّرْعَةُ

ص: 48

وَالشَّرِيعَةُ بِمَعْنًى، وَقَدْ شَرَعَ أَيْ: سَنَّ، فَعَلَى هَذَا فِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ غَيْرُ مُرَتَّبٍ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالَّذِي قَبْلَهُ عَلَى الِاتِّحَادِ، أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَهَذَا فِي الْفُرُوعِ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُهُ النَّسْخُ.

‌2 - باب دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ

8 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ.

[الحديث 8 - طرفه في: 4515]

قَوْلُهُ: {دُعَاؤُكُمْ} إِيمَانُكُمْ) قَالَ النَّوَوِيُّ: يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ هُنَا بَابٌ، وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ وَصَوَابُهُ بِحَذْفِهِ، وَلَا يَصِحُّ إِدْخَالُ بَابِ هُنَا إِذْ لَا تَعَلُّقَ لَهُ هُنَا. قُلْتُ: ثَبَتَ بَابٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَّصِلَةِ، مِنْهَا رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ، لَكِنْ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنَّهُ وَقَفَ عَلَى نُسْخَةٍ مَسْمُوعَةٍ عَلَى الْفَرَبْرِيِّ بِحَذْفِهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ:{دُعَاؤُكُمْ} إِيمَانُكُمْ. مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَفَهُ عَلَى مَا قَبْلِهِ كَعَادَتِهِ فِي حَذْفِ أَدَاةِ الْعَطْفِ حَيْثُ يُنْقَلُ التَّفْسِيرُ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} قَالَ يَقُولُ: لَوْلَا إِيمَانُكُمْ. أَخْبَرَ اللَّهُ الْكُفَّارَ أَنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِهِمْ، وَلَوْلَا إِيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَعْبَأْ بِهِمْ أَيْضًا. وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ لِلْمُصَنِّفِ أَنَّ الدُّعَاءَ عَمَلٌ وَقَدْ أَطْلَقَهُ عَلَى الْإِيمَانِ فَيَصِحُّ إِطْلَاقُ أَنَّ الْإِيمَانَ عَمَلٌ، وَهَذَا عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الدُّعَاءُ هنا مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ دُعَاءُ الرُّسُلِ الْخَلْقَ إِلَى الْإِيمَانِ، فَالْمَعْنَى لَيْسَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ عُذْرٌ إِلَّا أَنْ يَدْعُوَكُمُ الرَّسُولُ فَيُؤْمِنُ مَنْ آمَنَ وَيَكْفُرُ مَنْ كَفَرَ، {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} أَنْتُمْ {فَسَوْفَ يَكُونُ} الْعَذَابُ لَازِمًا لَكُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَى الدُّعَاءِ هُنَا الطَّاعَةُ.

وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.

قَوْلُهُ: (حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) هُوَ قُرَشِيٌّ مَكِّيٌّ مِنْ ذُرِّيَّةِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيِّ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ هُوَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ ثِقَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي طَبَقَتِهِ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ، نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِشِدَّةِ الْتِبَاسِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ بِشُيُوخِهِمَا، وَلَمْ يُرْوَ الضَّعِيفُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ يُحَدِّثُ طَاوُسًا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَلَا تَغْزُو؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

(فَائِدَةٌ): اسْمُ الرَّجُلِ السَّائِلِ حَكِيمٌ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَلَى خَمْسٍ) أَيْ: دَعَائِمَ. وَصَرَّحَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَلَى خَمْسَةٍ أَيْ: أَرْكَانٍ. فَإِنْ قِيلَ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشَّهَادَةِ إِذْ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا فَكَيْفَ يُضَمُّ مَبْنِيٌّ إِلَى مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ فِي مُسَمًّى وَاحِدٍ؟ أُجِيبَ بِجَوَازِ ابْتِنَاءِ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ يَنْبَنِي عَلَى الْأَمْرَيْنِ أَمْرٌ آخَرُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَبْنِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ، أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَجْمُوعَ غَيْرٌ مِنْ حَيْثُ الِانْفِرَادِ، عَيْنٌ مِنْ حَيْثُ الْجَمْعِ. وَمِثَالُهُ الْبَيْتُ مِنِ الشِّعْرِ

يُجْعَلُ عَلَى خَمْسَةِ أَعْمِدَةٍ

أَحَدُهَا أَوْسَطُ وَالْبَقِيَّةُ أَرْكَانٌ

فَمَا دَامَ الْأَوْسَطُ قَائِمًا فَمُسَمَّى الْبَيْتِ مَوْجُودٌ وَلَوْ سَقَطَ مَهْمَا سَقَطَ مِنَ الْأَرْكَانِ، فَإِذَا سَقَطَ الْأَوْسَطُ سَقَطَ مُسَمَّى الْبَيْتِ، فَالْبَيْتُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَجْمُوعِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى أَفْرَادِهِ أَشْيَاءُ. وَأَيْضًا فَبِالنَّظَرِ إِلَى أُسِّهِ وَأَرْكَانِهِ، الْأُسُّ أَصْلٌ، وَالْأَرْكَانُ تَبَعٌ وَتَكْمِلَةٌ.

(تَنْبِيهَاتٌ): أَحَدُهَا: لَمْ يُذْكَرِ الْجِهَادَ ; لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَلَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ،

ص: 49

وَلِهَذَا جَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ جَوَابَ السَّائِلِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي آخِرِهِ: وَإِنَّ الْجِهَادَ مِنَ الْعَمَلِ الْحَسَنِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ بَطَّالٍ فَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَرْضِ الْجِهَادِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلْ هُوَ خَطَأٌ ; لِأَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ كَانَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَبَدْرٌ كَانَتْ فِي رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِيهَا فُرِضَ الصِّيَامُ وَالزَّكَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْحَجُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ.

ثَانِيهَا: قَوْلُهُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا بَعْدَهَا مَخْفُوضٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ خَمْسٍ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ، وَالتَّقْدِيرُ مِنْهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ أَحَدُهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ سُؤَالُ جِبْرِيلَ عليه السلام؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، فَيَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُعْتَقَدَاتِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مَا مُحَصَّلُهُ: هُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِبَعْضِهِ كَمَا تَقُولُ: قَرَأْتُ الْحَمْدَ وَتُرِيدُ جَمِيعَ الْفَاتِحَةِ، وَكَذَا تَقُولُ مَثَلًا: شَهِدْتُ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ وَتُرِيدُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا أَوْ مُطْلَقُ الْإِتْيَانِ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ إِخْرَاجُ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

رَابِعُهَا: اشْتَرَطَ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ تَقَدُّمَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ عَلَى الرِّسَالَةِ، وَلَمْ يُتَابَعْ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا دُقِّقَ فِيهِ بَانَ وَجْهُهُ، وَيَزْدَادُ اتِّجَاهًا إِذَا فَرَّقَهُمَا، فَلْيُتَأَمَّلْ.

خَامِسُهَا: يُسْتَفَادُ مِنْهُ تَخْصِيصُ عُمُومِ مَفْهُومِ السُّنَّةِ بِخُصُوصِ مَنْطُوقِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ عُمُومَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي صِحَّةَ إِسْلَامِ مَنْ بَاشَرَ مَا ذُكِرَ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ، وَهَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ.

سَادِسُهَا: وَقَعَ هُنَا تَقْدِيمُ الْحَجِّ عَلَى الصَّوْمِ، وَعَلَيْهِ بَنَى الْبُخَارِيُّ تَرْتِيبَهُ، لَكِنْ وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِتَقْدِيمِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَجِّ، قَالَ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَالْحَجُّ وَصِيَامُ رَمَضَانَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا، صِيَامُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ، هَكَذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.، انْتَهَى. فَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّ رِوَايَةَ حَنْظَلَةَ الَّتِي فِي الْبُخَارِيِّ مَرْوِيَّةٌ بِالْمَعْنَى، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ رَدَّ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الرَّجُلِ لِتَعَدُّدِ الْمَجْلِسِ، أَوْ حَضَرَ ذَلِكَ ثُمَّ نَسِيَهُ. وَيَبْعُدُ مَا جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَنَسِيَ أَحَدَهُمَا عِنْدَ رَدِّهِ عَلَى الرَّجُلِ، وَوَجْهُ بُعْدِهِ أَنَّ تَطَرُّقَ النِّسْيَانِ إِلَى الرَّاوِي عَنِ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى الصَّحَابِيِّ، كَيْفَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَنْظَلَةَ بِتَقْدِيمِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَجِّ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ - مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَنْظَلَةَ - أَنَّهُ جَعَلَ صَوْمَ رَمَضَانَ قَبْلُ، فَتَنْوِيعُهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ بِالْمَعْنَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ بِتَقْدِيمِ الصِّيَامِ عَلَى الزَّكَاةِ، أَفَيُقَالُ إِنَّ الصَّحَابِيَّ سَمِعَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؟ هَذَا مُسْتَبْعَدٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَائِدَةٌ): اسْمُ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ يَزِيدُ بْنُ بِشْرٍ السَّكْسَكِيُّ، ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

‌3 - بَاب أُمُورِ الْإِيمَانِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} - {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} الْآيَةَ

قَوْلُهُ: (بَابُ أُمُورِ الْإِيمَانِ)، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَمْرُ الْإِيمَانِ بِالْإِفْرَادِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ وَالْأُمُورُ الَّتِي لِلْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بِالْخَفْضِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمُنَاسَبَتُهَا لِحَدِيثِ

ص: 50

الْبَابِ تَظْهَرُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْإِيمَانِ، فَتَلَا عَلَيْهِ {لَيْسَ الْبِرَّ} إِلَى آخِرِهَا، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يَسُقْهُ الْمُؤَلِّفُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْآيَةَ حَصَرَتِ التَّقْوَى عَلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَالْمُرَادُ الْمُتَّقُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ. فَإِذَا فَعَلُوا وَتَرَكُوا فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ. وَالْجَامِعُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ الْأَعْمَالَ مَعَ انْضِمَامِهَا إِلَى التَّصْدِيقِ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْبِرِّ كَمَا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْمَتْنِ ذِكْرُ التَّصْدِيقِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي أَصْلِ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَالْمُصَنِّفُ يُكْثِرُ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَتْنُ الَّذِي يَذْكُرُ أَصْلَهُ وَلَمْ يَسُقْهُ تَامًّا.

قَوْلُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ذَكَرَهُ بِلَا أَدَاةِ عَطْفٍ، وَالْحَذْفُ جَائِزٌ، وَالتَّقْدِيرُ وَقَوْلُ اللَّهِ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وَثَبَتَ الْمَحْذُوفُ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ الْمُتَّقُونَ، أَيِ: الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِقَوْلِهِ {قَدْ أَفْلَحَ} إِلَى آخِرِهَا. وَكَأَنَّ الْمُؤَلِّفَ أَشَارَ إِلَى إِمْكَانِ عَدِّ الشُّعَبِ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَشِبْهِهِمَا، وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ عَدَّ كُلَّ طَاعَةٍ عَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَكُلُّ طَاعَةٍ عَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْإِيمَانِ، وَحَذَفَ الْمُكَرَّرَ فَبَلَغَتْ سَبْعًا وَسَبْعِينَ

(1)

.

9 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هَذَا أَوَّلُ حَدِيثٍ وَقَعَ ذِكْرُهُ فِيهِ. وَمَجْمُوعُ مَا أَخْرَجَهُ لَهُ الْبُخَارِيُّ مِنَ الْمُتُونِ الْمُسْتَقِلَّةِ أَرْبَعُمِائَةُ حَدِيثٍ وَسِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا عَلَى التَّحْرِيرِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُخْتَلَفْ فِي اسْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مِثْلَ مَا اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عِشْرِينَ قَوْلًا. قُلْتُ: وَسَرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّلْقِيحِ مِنْهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَبْلُغُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ قَوْلًا. قُلْتُ: وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي تَرْجَمَتِهِ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فَلَمْ تَبْلُغْ ذَلِكَ ; وَلَكِنَّ كَلَامَ الشَّيْخِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اسْمِهِ وَفِي اسْمِ أَبِيهِ مَعًا.

قَوْلُهُ: (بِضْعٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَحُكِيَ الْفَتْحُ لُغَةً، وَهُوَ عَدَدٌ مُبْهَمٌ مُقَيَّدٌ بِمَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْقَزَّازُ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: إِلَى الْعَشْرِ. وَقِيلَ: مِنْ وَاحِدٍ إِلَى تِسْعَةٍ. وَقِيلَ: مِنِ اثْنَيْنِ إِلَى عَشَرَةٍ. وَقِيلَ مِنْ أَرْبَعَةٍ إِلَى تِسْعَةٍ. وَعَنِ الْخَلِيلِ: الْبِضْعُ السَّبْعُ. وَيُرَجِّحُ مَا قَالَهُ الْقَزَّازُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مَرْفُوعًا، وَنَقَلَ الصَّغَانِيُّ فِي الْعُبَابِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَبِمَا دُونَ الْعِشْرِينَ، فَإِذَا جَاوَزَ الْعِشْرِينَ امْتَنَعَ. قَالَ: وَأَجَازَهُ أَبُو زَيْدٍ فَقَالَ: يُقَالُ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا وَبِضْعٌ وَعِشْرُونَ امْرَأَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ خَاصٌّ بِالْعَشَرَاتِ إِلَى التِّسْعِينَ، وَلَا يُقَالُ: بِضْعٌ وَمِائَةٌ وَلَا بِضْعٌ وَأَلْفٌ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِضْعَةٌ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ.

قَوْلُهُ: (وَسِتُّونَ) لَمْ تَخْتَلِفِ الطُّرُقُ عَنْ أَبِي عَامِرٍ شَيْخِ شَيْخِ الْمُؤَلِّفِ فِي ذَلِكَ، وَتَابَعَهُ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ - بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ - عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ فَقَالَ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، وَكَذَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَرَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ

(1)

في النسخ المطبوعة"تسعا وتسعين"؛ وما هنا عن نسخة الرياض المخطوطة

ص: 51

مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالُوا: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقٍ سِتٌّ وَسَبْعُونَ أَوْ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ، وَرَجَّحَ الْبَيْهَقِيُّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ ; لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَشُكَّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْهُ فَتَرَدَّدَ أَيْضًا لَكِنْ يُرَجَّحُ بِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ وَمَا عَدَاهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ فَمَعْلُولَةٌ، وَعَلَى صِحَّتِهَا لَا تُخَالِفُ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ، وَتَرْجِيحُ رِوَايَةِ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ لِكَوْنِهَا زِيَادَةَ ثِقَةٍ - كَمَا ذَكَرَهُ الْحَلِيمِيُّ ثُمَّ عِيَاضٌ - لَا يَسْتَقِيمُ، إِذِ الَّذِي زَادَهَا لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْجَزْمِ بِهَا، لَا سِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ الْمَخْرَجِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ شُفُوفَ نَظَرِ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْأَقَلَّ لِكَوْنِهِ الْمُتَيَقَّنَ.

قَوْلُهُ: (شُعْبَةٌ) بِالضَّمِّ أَيْ قِطْعَةٌ، وَالْمُرَادُ الْخُصْلَةُ أَوِ الْجُزْءُ.

قَوْلُهُ: (وَالْحَيَاءُ) هُوَ بِالْمَدِّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُعَابُ بِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُجَرَّدِ تَرْكِ الشَّيْءِ بِسَبَبٍ، وَالتَّرْكُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ. وَفِي الشَّرْعِ: خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى اجْتِنَابِ الْقَبِيحِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الْحَقِّ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَيَاءُ مِنَ الْغَرَائِزِ فَكَيْفَ جُعِلَ شُعْبَةً مِنَ الْإِيمَانِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَرِيزَةً وَقَدْ يَكُونُ تَخَلُّقًا، وَلَكِنَّ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ يَحْتَاجُ إِلَى اكْتِسَابٍ وَعِلْمٍ وَنِيَّةٍ، فَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ لِهَذَا، وَلِكَوْنِهِ بَاعِثًا عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَحَاجِزًا عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا يُقَالُ: رُبَّ حَيَاءٍ يَمْنَعُ عَنْ قَوْلِ الْحَقِّ أَوْ فِعْلِ الْخَيْرِ ; لِأَنَّ ذَاكَ لَيْسَ شَرْعِيًّا، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ هُنَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَالدَّاعِي إِلَى بَاقِي الشُّعَبِ، إِذِ الْحَيُّ يَخَافُ فَضِيحَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيَأْتَمِرُ وَيَنْزَجِرُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْحَيَاءِ فِي بَابِ الْحَيَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَحَدَ عَشَرَ بَابًا.

(فَائِدَةٌ): قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: تَكَلَّفَ جَمَاعَةٌ حَصْرَ هَذِهِ الشُّعَبِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَفِي الْحُكْمِ بِكَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادَ صُعُوبَةً، وَلَا يَقْدَحُ عَدَمُ مَعْرِفَةِ حَصْرِ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ فِي الْإِيمَانِ. اهـ.

وَلَمْ يَتَّفِقْ مَنْ عَدَّ الشُّعَبَ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، وَأَقْرَبُهَا إِلَى الصَّوَابِ طَرِيقَةُ ابْنِ حِبَّانَ، لَكِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى بَيَانِهَا مِنْ كَلَامِهِ، وَقَدْ لَخَّصْتُ مِمَّا أَوْرَدُوهُ مَا أَذْكُرُهُ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الشُّعَبَ تَتَفَرَّعُ عَنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَأَعْمَالِ اللِّسَانِ، وَأَعْمَالِ الْبَدَنِ. فَأَعْمَالُ الْقَلْبِ فِيهِ الْمُعْتَقَدَاتُ وَالنِّيَّاتُ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَصْلَةً: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَاعْتِقَادُ حُدُوثِ مَا دُونَهُ. وَالْإِيمَانِ بِمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْقَبْرِ، وَالْبَعْثِ، وَالنُّشُورِ، وَالْحِسَابِ، وَالْمِيزَانِ، وَالصِّرَاطِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَمَحَبَّةِ اللَّهِ. وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ فِيهِ وَمَحَبَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاعْتِقَادِ تَعْظِيمِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَاتِّبَاعُ سُنَّتِهِ، وَالْإِخْلَاصُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ، وَالتَّوْبَةُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالشُّكْرُ، وَالْوَفَاءُ، وَالصَّبْرُ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّحْمَةُ، وَالتَّوَاضُعُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَوْقِيرُ الْكَبِيرِ وَرَحْمَةُ الصَّغِيرِ، وَتَرْكُ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ، وَتَرْكُ الْحَسَدِ، وَتَرْكُ الْحِقْدِ، وَتَرْكُ الْغَضَبِ.

وَأَعْمَالُ اللِّسَانِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعِ خِصَالٍ: التَّلَفُّظِ بِالتَّوْحِيدِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ، وَتَعْلِيمِهِ، وَالدُّعَاءِ، وَالذِّكْرِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الِاسْتِغْفَارُ، وَاجْتِنَابُ اللَّغْوِ.

وَأَعْمَالُ الْبَدَنِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ خُصْلَةٍ، مِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِالْأَعْيَانِ، وَهِيَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةٍ: التَّطْهِيرُ حِسًّا وَحُكْمًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ اجْتِنَابُ النَّجَاسَاتِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَالصَّلَاةُ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَالزَّكَاةُ كَذَلِكَ، وَفَكُّ الرِّقَابِ، وَالْجُودُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِكْرَامُ الضَّيْفِ، وَالصِّيَامُ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَالْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ كَذَلِكَ، وَالطَّوَافُ، وَالِاعْتِكَافُ، وَالْتِمَاسُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَالْفِرَارُ بِالدِّينِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ، وَالْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ، وَالتَّحَرِّي فِي الْإِيمَانِ، وَأَدَاءُ الْكَفَّارَاتِ. وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ الِاتِّبَاعِ، وَهِيَ سِتُّ خِصَالٍ: التَّعَفُّفُ بِالنِّكَاحِ، وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِ الْعِيَالِ ; وَبِرُّ

ص: 52

الْوَالِدَيْنِ، وَفِيهِ اجْتِنَابُ الْعُقُوقِ، وَتَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَطَاعَةُ السَّادَةِ، أَوِ الرِّفْقُ بِالْعَبِيدِ.

وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَامَّةِ، وَهِيَ سَبْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً: الْقِيَامُ بِالْإِمْرَةِ مَعَ الْعَدْلِ، وَمُتَابَعَةُ الْجَمَاعَةِ، وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ قِتَالُ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ، وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَى الْبِرِّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادُ، وَمِنْهُ الْمُرَابَطَةُ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَمِنْهُ أَدَاءُ الْخُمُسِ، وَالْقَرْضُ مَعَ وَفَائِهِ، وَإِكْرَامُ الْجَارِ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ، وَفِيهِ جَمْعُ الْمَالِ مِنْ حِلِّهِ، وَإِنْفَاقُ الْمَالِ فِي حَقِّهِ، وَمِنْهُ تَرْكُ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَكَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ، وَاجْتِنَابُ اللَّهْوِ وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، فَهَذِهِ تِسْعٌ وَسِتُّونَ خَصْلَةً، وَيُمْكِنُ عَدُّهَا تِسْعًا وَسَبْعِينَ خَصْلَةً بِاعْتِبَارِ إِفْرَادِ مَا ضُمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ مِمَّا ذُكِرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَائِدَةٌ): فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنَ الزِّيَادَةِ أَعْلَاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَرَاتِبَهَا مُتَفَاوِتَةٌ.

(تَنْبِيهٌ): فِي الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ، وَهِيَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ; لِأَنَّهُمَا تَابِعِيَّانِ، فَإِنْ وُجِدَتْ رِوَايَةُ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ صَارَ مِنَ الْمُدَبَّجِ. وَرِجَالُهُ مِنْ سُلَيْمَانَ إِلَى مُنْتَهَاهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ دَخَلَهَا الْبَاقُونَ.

‌4 - بَاب الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ

10 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، وَإِسْمَاعِيلَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 10 - طرفه في: 6484]

قَوْلُهُ: (بَابُ) سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَكَذَا أَكْثَرُ الْأَبْوَابِ. وَهُوَ مُنَوَّنٌ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْإِضَافَةُ إِلَى جُمْلَةِ الْحَدِيثِ، لَكِنْ لَمْ تَأْتِ بِهِ الرِّوَايَةُ.

قَوْلُهُ: (الْمُسْلِمُ) اسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْحَدِيثِ تَرْجَمَةً مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (أَبِي إِيَاسٍ) اسْمُهُ نَاهِيَةُ بِالنُّونِ وَبَيْنَ الْهَاءَيْنِ يَاءٌ أَخِيرَةٌ. وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ.

قَوْلُهُ: (أَبِي السَّفَرِ) اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ يَحْمَدَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِسْمَاعِيلُ مَجْرُورٌ بِالْفَتْحَةِ عَطْفًا عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ كِلَاهُمَا عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ الْعَاصِ صَحَابِيٌّ ابْنُ صَحَابِيٍّ.

قَوْلُهُ: (الْمُسْلِمُ) قِيلَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْكَمَالِ نَحْوَ زَيْدٌ الرَّجُلُ أَيِ: الْكَامِلُ فِي الرُّجُولِيَّةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذَا خَاصَّةً كَانَ كَامِلًا. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مُرَاعَاةُ بَاقِي الْأَرْكَانِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ مَنْ جَمَعَ إِلَى أَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَدَاءَ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، انْتَهَى. وَإِثْبَاتُ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مَعْنَى إِثْبَاتِ الْكَمَالِ لَهُ مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ عَلَامَةَ الْمُسْلِمِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى إِسْلَامِهِ وَهِيَ سَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، كَمَا ذُكِرَ مِثْلُهُ فِي عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْإِشَارَةَ إِلَى الْحَثِّ عَلَى حُسْنِ مُعَامَلَةِ الْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ لِأَنَّهُ إِذَا أَحْسَنَ مُعَامَلَةَ إِخْوَانِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُحْسِنَ مُعَامَلَةَ رَبِّهِ، مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى.

(تَنْبِيهٌ): ذِكْرُ الْمُسْلِمِينَ هُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ; لِأَنَّ مُحَافَظَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى كَفِّ الْأَذَى عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَشَدُّ تَأْكِيدًا ; وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ بِصَدَدِ أَنْ يُقَاتِلُوا وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُحِبُّ الْكَفَّ عَنْهُ. وَالْإِتْيَانُ بِجَمْعِ التَّذْكِيرِ لِلتَّغْلِيبِ،

ص: 53

فَإِنَّ الْمُسْلِمَاتِ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ. وَخَصَّ اللِّسَانَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْمُعَبِّرُ عَمَّا فِي النَّفْسِ، وَهَكَذَا الْيَدُ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَفْعَالِ بِهَا، وَالْحَدِيثُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللِّسَانِ دُونَ الْيَدِ ; لِأَنَّ اللِّسَانَ يُمْكِنُهُ الْقَوْلُ فِي الْمَاضِينَ وَالْمَوْجُودِينَ وَالْحَادِثِينَ بَعْدُ، بِخِلَافِ الْيَدِ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ تُشَارِكَ اللِّسَانَ فِي ذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ، وَإِنَّ أَثَرَهَا فِي ذَلِكَ لَعَظِيمٌ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا تَعَاطِي الضَّرْبَ بِالْيَدِ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُسْتَحِقِّ لِذَلِكَ. وَفِي التَّعْبِيرِ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَوْلِ نُكْتَةٌ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَخْرَجَ لِسَانَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَفِي ذِكْرِ الْيَدِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْجَوَارِحِ نُكْتَةٌ، فَيَدْخُلُ فِيهَا الْيَدُ الْمَعْنَوِيَّةُ كَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

(فَائِدَةٌ): فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ تَجْنِيسُ الِاشْتِقَاقِ، وَهُوَ كَثِيرٌ.

قَوْلُهُ: (وَالْمُهَاجِرُ) هُوَ مَعْنَى الْهَاجِرِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْمُفَاعِلِ يَقْتَضِي وُقُوعَ فِعْلٍ مِنِ اثْنَيْنِ ; لَكِنَّهُ هُنَا لِلْوَاحِدِ كَالْمُسَافِرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ لِأَنَّ مِنْ لَازِمِ كَوْنِهِ هَاجِرًا وَطَنَهُ مَثَلًا أَنَّهُ مَهْجُورٌ مِنْ وَطَنِهِ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ، وَبَاطِنَةٌ. فَالْبَاطِنَةُ تَرْكُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَالشَّيْطَانُ، وَالظَّاهِرَةُ الْفِرَارُ بِالدِّينِ مِنَ الْفِتَنِ. وَكَأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا عَلَى مُجَرَّدِ التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَمْتَثِلُوا أَوَامِرَ الشَّرْعِ وَنَوَاهِيَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قِيلَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ، بَلْ حَقِيقَةُ الْهِجْرَةِ تَحْصُلُ لِمَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَاشْتَمَلَتْ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ عَلَى جَوَامِعَ مِنْ مَعَانِي الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ.

(تَنْبِيهٌ): هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ، بِخِلَافِ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ. عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ مَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ صَحِيحًا الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ وَكَأَنَّهُ اخْتَصَرَهُ هُنَا لِتَضَمُّنِهِ لِمَعْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ) هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ، عَنْ عَامِرٍ وَهُوَ الشَّعْبِيِّ الْمَذْكُورِ فِي الْإِسْنَادِ الْمَوْصُولِ. وَأَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانُ سَمَاعِهِ لَهُ مِنَ الصَّحَابِيِّ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ رِوَايَةُ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ لَهُ عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، حَكَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ، فَعَلَى هَذَا لَعَلَّ الشَّعْبِيَّ بَلَغَهُ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ لَقِيَهُ فَسَمِعَهُ مِنْهُ. وَنَبَّهَ بِالتَّعْلِيقِ الْآخَرِ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ الَّذِي أُهْمِلَ فِي رِوَايَتِهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الَّذِي بُيِّنَ فِي رِوَايَةِ رَفِيقِهِ، وَالتَّعْلِيقُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَصَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظُهُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: وَرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ إِلَّا أَصْلَ الْحَدِيثِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الْمُسْلِمُونَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَوْصُولِ، فَهُمُ النَّاسُ حَقِيقَةً عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُحْمَلُ عَلَى الْكَامِلِ، وَلَا كَمَالَ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ. وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ عَلَى إِرَادَةِ شَرْطٍ وَهُوَ إِلَّا بِحَقٍّ، مَعَ أَنَّ إِرَادَةَ هَذَا الشَّرْطِ مُتَعَيِّنَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِمَا قَدَّمْتُهُ مِنِ اسْتِثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

‌5 - بَاب أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ

11 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.

ص: 54

قَوْلُهُ: (بَابٌ) هُوَ مُنَوَّنٌ، وَفِيهِ مَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ) هُوَ بُرَيْدٌ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ مُصَغَّرا، وَشَيْخُهُ جَدُّهُ وَافَقَهُ فِي كُنْيَتِهِ لَا فِي اسْمِهِ، وَأَبُو مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِإِسْنَادِهِ هَذَا بِلَفْظِ قُلْنَا، وَرَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغَسَّانِيِّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى هَذَا بِلَفْظِ قُلْتُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ السَّائِلَ أَبُو مُوسَى، وَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ صَرَّحَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَرَادَ نَفْسَهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِذِ الرَّاضِي بِالسُّؤَالِ فِي حُكْمِ السَّائِلِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: أَرَادَ أَنَّهُ وَإِيَّاهُمْ. وَقَدْ سَأَلَ هَذَا السُّؤَالَ أَيْضًا أَبُو ذَرٍّ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَعُمَيْرُ بْنُ قَتَادَةَ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَيُّ الْإِسْلَامِ) إِنْ قِيلَ الْإِسْلَامُ مُفْرَدٌ، وَشَرْطُ أَيِّ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى مُتَعَدِّدٍ. أُجِيبَ بِأَنَّ فِيهِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: أَيُّ ذَوِي الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؟ وَالْجَامِعُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْمُسْلِمِ حَاصِلَةٌ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ هُنَا: أَيُّ خِصَالِ الْإِسْلَامِ. وَإِنَّمَا قُلْتُ إِنَّهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ سُؤَالٌ آخَرُ بِأَنْ يُقَالَ: سُئِلَ عَنِ الْخِصَالِ فَأَجَابَ بِصَاحِبِ الْخَصْلَةِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ؟ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ يَتَأَتَّى نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} الْآيَةَ، وَالتَّقْدِيرُ: بِأَيِّ ذَوِي الْإِسْلَامِ يَقَعُ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ خِصَالِ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِسْلَامِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ حَصَلَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَبُولِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَتَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ لِمَا قَبْلَهُمَا مِنْ تَعْدَادِ أُمُورِ الْإِيمَانِ، إِذِ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ عِنْدَهُ مُتَرَادِفَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَرَّدَ أَفْعَلَ هُنَا عَنِ الْعَمَلِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَذْفَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ جَائِزٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ.

(تَنْبِيهٌ): هَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ. وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ اسْمُ جَدِّهِ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأُمَوِيُّ، وَنَسَبَهُ الْمُصَنِّفُ قُرَشِيًّا بِالنِّسْبَةِ الْأَعَمِّيَّةِ. يُكَنَّى أَبَا أَيُّوبَ. وَفِي طَبَقَتِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَحَدِيثُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَكْثَرُ مِنْ حَدِيثِ الْأُمَوِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ يَرْوِي عَنْهُ يُسَمَّى سَعِيدًا فَافْتَرَقَا. وَفِي الْكِتَابِ مِمَّنْ يُقَالُ لَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ اثْنَانِ أَيْضًا، لَكِنْ مِنْ طَبَقَةٍ فَوْقَ طَبَقَةِ هَذَيْنِ، وَهُمَا: يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ السَّابِقُ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَالِ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التَّيْمِيُّ أَبُو حَيَّانَ، وَيَمْتَازُ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ بِالْكُنْيَةِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

‌6 - بَاب إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنْ الْإِسْلَامِ

12 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ.

[الحديث 12 - طرفاه في: 6236، 28]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) هُوَ مُنَوَّنٌ، وَفِيهِ مَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْإِسْلَامِ) لِلْأَصِيلِيِّ مِنَ الْإِيمَانِ أَيْ: مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ. وَلَمَّا اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ بِحَدِيثِ الشُّعَبِ تَتَبَّعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الصَّحِيحَةِ مِنْ بَيَانِهَا، فَأَوْرَدَهُ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا، وَتَرْجَمَ هُنَا بِقَوْلِهِ إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلَمْ يَقُلْ: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ. كَمَا

ص: 55

فِي الَّذِي قَبْلَهُ إِشْعَارًا بِاخْتِلَافِ الْمَقَامَيْنِ وَتَعَدُّدِ السُّؤَالَيْنِ كَمَا سَنُقَرِّرُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ) هُوَ الْحَرَّانِيُّ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَصَحَّفَ مَنْ ضَمَّهَا.

قَوْلُهُ: (اللَّيْثُ) هُوَ ابْنُ سَعْدٍ فَقِيهُ أَهْلِ مِصْرَ، عَنْ يَزِيدَ هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ الْفَقِيهُ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) لَمْ أَعْرِفِ اسْمَهُ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَبُو ذَرٍّ، وَفِي ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ هَانِئُ بْنُ يَزِيدَ وَالِدُ شُرَيْحٍ. سَأَلَ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ فَأُجِيبَ بِنَحْوِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ) فِيهِ مَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ مِنَ السُّؤَالِ، وَالتَّقْدِيرِ: أَيُّ خِصَالِ الْإِسْلَامِ؟ وَإِنَّمَا لَمْ أَخْتَرْ تَقْدِيرَ خِصَالٍ فِي الْأَوَّلِ فِرَارًا مِنْ كَثْرَةِ الْحَذْفِ، وَأَيْضًا فَتَنْوِيعُ التَّقْدِيرِ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ مَنْ سَأَلَ فَقَالَ: السُّؤَالَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالْجَوَابُ مُخْتَلِفٌ. فَيُقَالُ لَهُ: إِذَا لَاحَظْتَ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ بَانَ الْفَرْقُ. وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، إِذِ الْإِطْعَامُ مُسْتَلْزِمٌ لِسَلَامَةِ الْيَدِ وَالسَّلَامُ لِسَلَامَةِ اللِّسَانِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ فِي الْغَالِبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ السُّؤَالِ عَنِ الْأَفْضَلِيَّةِ، إِنْ لُوحِظَ بَيْنَ لَفْظِ أَفْضَلَ وَلَفْظِ خَيْرٍ فَرْقٌ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْفَضْلُ بِمَعْنَى كَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِلَّةِ، وَالْخَيْرُ بِمَعْنَى النَّفْعِ فِي مُقَابَلَةِ الشَّرِّ، فَالْأَوَّلُ مِنَ الْكَمِّيَّةِ وَالثَّانِي مِنَ الْكَيْفِيَّةِ فَافْتَرَقَا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْفَرْقَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا اخْتَصَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِتِلْكَ الْمَقُولَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُعْقَلُ تَأَتِّيهِ فِي الْأُخْرَى فَلَا.

وَكَأَنَّهُ بُنِيَ عَلَى أَنَّ لَفْظَ خَيْرٍ اسْمٌ لَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ اتِّحَادِ السُّؤَالَيْنِ جَوَابٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ السَّائِلِينَ أَوِ السَّامِعِينَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ تَحْذِيرُ مَنْ خُشِيَ مِنْهُ الْإِيذَاءُ بِيَدٍ أَوْ لِسَانٍ فَأُرْشِدَ إِلَى الْكَفِّ، وَفِي الثَّانِي تَرْغِيبُ مَنْ رُجِيَ فِيهِ النَّفْعُ الْعَامُّ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ فَأُرْشِدَ إِلَى ذَلِكَ، وَخَصَّ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ، وَلِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَثَّ عَلَيْهِمَا أَوَّلَ مَا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مُصَحَّحًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.

قَوْلُهُ: (تُطْعِمُ) هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، أَيْ: أَنْ تُطْعِمَ، وَمِثْلُهُ تَسْمَعَ بِالْمُعَيْدِيِّ. وَذَكَرَ الْإِطْعَامَ لِيَدْخُلَ فِيهِ الضِّيَافَةُ وَغَيْرُهَا.

قَوْلُهُ: (وَتَقْرَأُ) بِلَفْظِ مُضَارِعِ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى تَقُولُ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: تَقُولُ اقْرَأْ عليه السلام، وَلَا تَقُولُ أَقْرِئْهُ السَّلَامَ، فَإِذَا كَانَ مَكْتُوبًا قُلْتُ أَقْرِئْهُ السَّلَامَ، أَيِ: اجْعَلْهُ يَقْرَؤُهُ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) أَيْ: لَا تَخُصَّ بِهِ أَحَدًا تَكَبُّرًا أَوْ تَصَنُّعًا، بَلْ تَعْظِيمًا لِشِعَارِ الْإِسْلَامِ وَمُرَاعَاةً لِأُخُوَّةِ الْمُسْلِمِ. فَإِنْ قِيلَ: اللَّفْظُ عَامٌّ فَيَدْخُلُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ خُصَّ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى أَوْ أَنَّ النَّهْيَ مُتَأَخِّرٌ وَكَانَ هَذَا عَامًّا لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ، وَأَمَّا مَنْ شَكَّ فِيهِ فَالْأَصْلُ الْبَقَاءُ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يَثْبُتَ الْخُصُوصُ.

(تَنْبِيهَانِ): الْأَوَّلُ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَظِيرَ هَذَا السُّؤَالِ، لَكِنْ جَعَلَ الْجَوَابَ كَالَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، فَادَّعَى ابْنُ مَنْدَهْ فِيهِ الِاضْطِرَابَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمَا حَدِيثَانِ اتَّحَدَ إِسْنَادُهُمَا، وَافَقَ أَحَدُهُمَا حَدِيثَ أَبِي مُوسَى. وَلِثَانِيهِمَا شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ كَمَا تَقَدَّمَ.

الثَّانِي: هَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَالَّذِي قَبْلَهُ كَمَا ذَكَرْنَا كُوفِيُّونَ، وَالَّذِي بَعْدَهُ مِنْ طَرِيقَيْهِ بَصْرِيُّونَ، فَوَقَعَ لَهُ التَّسَلْسُلُ فِي الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوَلَاءِ. وَهُوَ مِنَ اللَّطَائِفِ.

‌7 - بَاب مِنْ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ

13 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 56

وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ مِنَ الْإِيمَانِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَدَّمَ لَفْظَ الْإِيمَانِ بِخِلَافِ أَخَوَاتِهِ حَيْثُ قَالَ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الْإِيمَانِ إِمَّا لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ أَوْ لِلْحَصْرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: الْمَحَبَّةُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ الْإِيمَانِ. قُلْتُ: وَهُوَ تَوْجِيهٌ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الَّذِي بَعْدَهُ أَلْيَقُ بِالِاهْتِمَامِ وَالْحَصْرِ مَعًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: بَابُ حُبِّ الرَّسُولِ مِنَ الْإِيمَانِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّنْوِيعَ فِي الْعِبَارَةِ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ اهْتَمَّ بِذِكْرِ حُبِّ الرَّسُولِ فَقَدَّمَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ) هُوَ ابْنُ ذَكْوَانَ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شُعْبَةَ. فَالتَّقْدِيرُ: عَنْ شُعْبَةَ، وَحُسَيْنٍ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْمَعْهُمَا ; لِأَنَّ شَيْخَهُ أَفْرَدَهُمَا، فَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مَعْطُوفًا اخْتِصَارًا، وَلِأَنَّ شُعْبَةَ قَالَ: عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ حُسَيْنُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ. وَأَغْرَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَزَعَمَ أَنَّ طَرِيقُ حُسَيْنٍ مُعَلَّقَةٌ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْمُصَنِّفِ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ. وَأَبْدَى الْكِرْمَانِيُّ كَعَادَتِهِ بِحَسَبِ التَّجْوِيزِ الْعَقْلِيِّ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيقًا أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى قَتَادَةَ، فَيَكُونُ شُعْبَةُ رَوَاهُ عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ قَتَادَةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفِرُ عَنْهُ مَنْ مَارَسَ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْإِسْنَادِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

(تَنْبِيهٌ): الْمَتْنُ الْمُسَاقُ هُنَا لَفْظُ شُعْبَةَ، وَأَمَّا لَفْظُ حُسَيْنٍ مِنْ رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهُوَ: لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ وَلِجَارِهِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ رَوْحٍ، عَنْ حُسَيْنٍ: حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ، فَبَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْأُخُوَّةِ، وَعَيَّنَ جِهَةَ الْحُبِّ. وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِهِ: عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَأَمَّا طَرِيقُ شُعْبَةَ فَصَرَّحَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا بِسَمَاعِ قَتَادَةَ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، فَانْتَفَتْ تُهْمَةُ تَدْلِيسِهِ.

قَوْلُهُ: (لَا يُؤْمِنُ) أَيْ: مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ، وَلِلْمُسْتَمْلِي أَحَدُكُمْ وَلِلْأَصِيلِيِّ أَحَدٌ وَلِابْنِ عَسَاكِرَ عَبْدٌ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْيِ كَمَالُ الْإِيمَانِ، وَنَفْيُ اسْمِ الشَّيْءِ - عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْكَمَالِ عَنْهُ - مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْخَصْلَةُ مُؤْمِنًا كَامِلًا وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِبَقِيَّةِ الْأَرْكَانِ، أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْمُبَالَغَةِ، أَوْ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مُلَاحَظَةُ بَقِيَّةَ صِفَاتِ الْمُسْلِمِ.

وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ بِالْمُرَادِ، وَلَفْظُهُ لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَمَعْنَى الْحَقِيقَةِ هُنَا الْكَمَالُ، ضَرُورَةً أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَكُونُ كَافِرًا، وَبِهَذَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَنَّهُ يَتَفَاوَتُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي التَّوَاضُعِ عَلَى مَا سَنُقَرِّرُهُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُحِبَّ) بِالنَّصْبِ، لِأَنَّ حَتَّى جَارَّةٌ وَأَنْ بَعْدَهَا مُضْمَرَةٌ، وَلَا يَجُوزُ الرَّفْعُ فَتَكُونُ حَتَّى عَاطِفَةً فَلَا يَصِحُّ الْمَعْنَى، إِذْ عَدَمُ الْإِيمَانِ لَيْسَ سَبَبًا لِلْمَحَبَّةِ.

قَوْلُهُ: (مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) أَيْ: مِنَ الْخَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَكَذَا عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَهَ أَيْضًا، وَالْخَيْرُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ تَعُمُّ الطَّاعَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ وَالْأُخْرَوِيَّةَ، وَتُخْرِجُ الْمَنْهِيَّاتِ لِأَنَّ اسْمَ الْخَيْرِ لَا يَتَنَاوَلُهَا. وَالْمَحَبَّةُ إِرَادَةُ مَا يَعْتَقِدُهُ خَيْرًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَحَبَّةُ الْمَيْلُ إِلَى مَا يُوَافِقُ الْمُحِبَّ، وَقَدْ تَكُونُ بِحَوَاسِّهِ كَحُسْنِ الصُّورَةِ، أَوْ بِفِعْلِهِ إِمَّا لِذَاتِهِ كَالْفَضْلِ وَالْكَمَالِ، وَإِمَّا لِإِحْسَانِهِ كَجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ. انْتَهَى مُلَخَّصَاً. وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْمَيْلِ الِاخْتِيَارِيِّ دُونَ الطَّبِيعِيِّ وَالْقَسْرِيِّ، وَالْمُرَادُ أَيْضًا أَنْ يُحِبَّ أَنْ يَحْصُلَ

ص: 57

لِأَخِيهِ نَظِيرُ مَا يَحْصُلُ لَهُ، لَا عَيْنَهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَحْصُلَ لِأَخِيهِ مَا حَصَلَ لَهُ لَا مَعَ سَلْبِهِ عَنْهُ وَلَا مَعَ بَقَائِهِ بِعَيْنِهِ لَهُ، إِذْ قِيَامُ الْجَوْهَرِ أَوِ الْعَرَضِ بِمَحَلَّيْنِ مُحَالٌ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ بْنُ سِرَاجٍ: ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ طَلَبُ الْمُسَاوَاةِ، وَحَقِيقَتُهُ تَسْتَلْزِمُ التَّفْضِيلَ ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا أَحَبَّ لِأَخِيهِ مِثْلَهُ فَقَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْمَفْضُولِينَ. قُلْتُ: أَقَرَّ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا، وَفِيهِ نَظَرٌ. إِذِ الْمُرَادُ الزَّجْرُ عَنْ هَذِهِ الْإِرَادَةِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُعِ. فَلَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُسَاوَاةِ.

وَيُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِتَرْكِ الْحَسَدِ وَالْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْغِشِّ، وَكُلُّهَا خِصَالٌ مَذْمُومَةٌ.

(فَائِدَةٌ): قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَمِنَ الْإِيمَانِ أَيْضًا أَنْ يُبْغِضَ لِأَخِيهِ مَا يُبْغِضُ لِنَفْسِهِ مِنَ الشَّرِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِأَنَّ حُبَّ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِبُغْضِ نَقِيضِهِ، فَتَرَكَ التَّنْصِيصَ عَلَيْهِ اكْتِفَاءً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌8 - بَاب حُبُّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْإِيمَانِ

14 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ حُبِّ الرَّسُولِ) اللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ وَإِنْ كَانَتْ مَحَبَّةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنَ الْإِيمَانِ ; لَكِنَّ الْأَحَبِّيَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (شُعَيْبٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ الْحِمْصِيُّ، وَاسْمُ أَبِي حَمْزَةَ دِينَارٌ. وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَخْرِيجِ حَدِيثِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَبِي الزِّنَادِ. وَوَقَعَ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، لِلدَّارَقُطْنِيِّ إِدْخَالُ رَجُلٍ - وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - بَيْنَ الْأَعْرَجِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ. فَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِدُونِهَا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَمِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ. وَرَوَى ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، هَذَا الْحَدِيثَ مُصَرَّحًا فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيعِ الْإِسْنَادِ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ شُعَيْبٍ.

قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُهِمِّ تَوْكِيدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْتَحْلِفٌ.

قَوْلُهُ: (لَا يُؤْمِنُ) أَيْ: إِيمَانًا كَامِلًا.

قَوْلُهُ: (أَحَبُّ) هُوَ أَفْعَلُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ مَعَ كَثْرَتِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَفَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ بِقَوْلِهِ: إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ الْفَصْلُ بِأَجْنَبِيٍّ.

قَوْلُهُ: (مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ) قَدَّمَ الْوَالِدَ لِلْأَكْثَرِيَّةِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَهُ وَالِدٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ تَقْدِيمُ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ، وَذَلِكَ لِمَزِيدِ الشَّفَقَةِ. وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ.

15 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ح. وَحَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الدَّوْرَقِيُّ. وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا لَا يَقُولُ بِهِ الْمُصَنِّفُ كَمَا

ص: 58

يَأْتِي فِي الْعِلْمِ. وَقَدْ وقَعَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا آدَمُ) عَطَفَ الْإِسْنَادَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يَسُوقَ الْمَتْنَ فَأَوْهَمَ اسْتِوَاءَهُمَا، فَإِنَّ لَفْظَ قَتَادَةَ مِثْلُ لَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنْ زَادَ فِيهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلَفْظُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ يَعْقُوبَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ بَدَلَ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَفْظُهُ لَا يُؤْمِنُ الرَّجُلُ وَهُوَ أَشْمَلُ مِنْ جِهَةٍ، وَأَحَدُكُمْ أَشْمَلُ مِنْ جِهَةٍ، وَأَشْمَلُ مِنْهُمَا رِوَايَةُ الْأَصِيلِيِّ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ.

فَإِنْ قِيلَ: فَسِيَاقُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُغَايِرٌ لِسِيَاقِ قَتَادَةَ، وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يُوهِمُ اتِّحَادَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ يَصْنَعُ مِثْلَ هَذَا نَظَرًا إِلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ لَا إِلَى خُصُوصِ أَلْفَاظِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى سِيَاقِ قَتَادَةَ لِمُوَافَقَتِهِ لِسِيَاقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرِوَايَةُ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ مَأْمُونٌ فِيهَا مِنْ تَدْلِيسِ قَتَادَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَسْمَعُ مِنْهُ إِلَّا مَا سَمِعَهُ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَذِكْرُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ أَدْخَلُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمَا أَعَزُّ عَلَى الْعَاقِلِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، بَلْ رُبَّمَا يَكُونَانِ أَعَزَّ مِنْ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرِ النَّفْسَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَلْ تَدْخُلُ الْأُمُّ فِي لَفْظِ الْوَالِدِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ لَهُ الْوَلَدُ فَيَعُمُّ، أَوْ يُقَالُ اكْتُفِيَ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا كَمَا يُكْتَفَى عَنْ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِالْآخَرِ وَيَكُونُ مَا ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالْمُرَادُ الْأَعِزَّةُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَعِزَّتِهِ، وَذِكْرُ النَّاسِ بَعْدَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَقُدِّمَ الْوَالِدُ عَلَى الْوَلَدِ فِي رِوَايَةِ لِتَقَدُّمِهِ بِالزَّمَانِ وَالْإِجْلَالِ، وَقُدِّمَ الْوَلَدُ فِي أُخْرَى لِمَزِيدِ الشَّفَقَةِ، وَهَلْ تَدْخُلُ النَّفْسُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؟ الظَّاهِرُ دُخُولُهُ. وَقِيلَ إِضَافَةُ الْمَحَبَّةِ إِلَيْهِ تَقْتَضِي خُرُوجَهُ مِنْهُمْ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَدْ وَقَعَ التَّنْصِيصُ بِذِكْرِ النَّفْسِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ كَمَا سَيَأْتِي.

وَالْمُرَادُ بِالْمَحَبَّةِ هُنَا حُبُّ الِاخْتِيَارِ لَا حُبُّ الطَّبْعِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى قَضِيَّةِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَالْمُطْمَئِنَّةِ، فَإِنَّ مَنْ رَجَّحَ جَانِبَ الْمُطْمَئِنَّةِ كَانَ حُبُّهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَاجِحًا، وَمَنْ رَجَّحَ جَانِبَ الْأَمَّارَةِ كَانَ حُكْمُهُ بِالْعَكْسِ. وَفِي كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّهُ حَمَلَ الْمَحَبَّةَ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ. وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُرَادًا هُنَا ; لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْأَعْظَمِيَّةِ لَيْسَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَحَبَّةِ، إِذْ قَدْ يَجِدُ الْإِنْسَانُ إِعْظَامَ شَيْءٍ مَعَ خُلُوِّهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ. قَالَ: فَعَلَى هَذَا مَنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ الْمَيْلَ لَمْ يَكْمُلْ إِيمَانُهُ، وَإِلَى هَذَا يُومِئُ قَوْلُ عُمَرَ الَّذِي رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ: لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّكَ الْآنَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ، انْتَهَى.

فَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ لَيْسَتْ بِاعْتِقَادِ الْأَعْظَمِيَّةِ فَقَطْ، فَإِنَّهَا كَانَتْ حَاصِلَةً لِعُمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ قَطْعًا. وَمِنْ عَلَامَةِ الْحُبِّ الْمَذْكُورِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ لَوْ خُيِّرَ بَيْنَ فَقْدِ غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ أَوْ فَقْدِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَوْ كَانَتْ مُمْكِنَةً، فَإِنْ كَانَ فَقْدُهَا أَنْ لَوْ كَانَتْ مُمْكِنَةً أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ فَقْدِ شَيْءٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ فَقَدِ اتَّصَفَ بِالْأَحَبِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَنْ لَا فَلَا. وَلَيْسَ ذَلِكَ مَحْصُورًا فِي الْوُجُودِ وَالْفَقْدِ، بَلْ يَأْتِي مِثْلُهُ فِي نُصْرَةِ سُنَّتِهِ وَالذَّبِّ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَقَمْعِ مُخَالِفِيهَا. وَيَدْخُلُ فِيهِ بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى فَضِيلَةِ التَّفَكُّرِ، فَإِنَّ الْأَحَبِّيَّةَ الْمَذْكُورَةَ تُعْرَفُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَحْبُوبَ الْإِنْسَانِ إِمَّا نَفْسُهُ وَإِمَّا غَيْرُهَا. أَمَّا نَفْسُهُ فَهُوَ أَنْ يُرِيدَ دَوَامَ بَقَائِهَا سَالِمَةً مِنَ الْآفَاتِ، هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْمَطْلُوبِ. وَأَمَّا غَيْرُهَا فَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ فِيهِ فَإِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ تَحْصِيلِ نَفْعٍ مَا عَلَى وُجُوهِهِ الْمُخْتَلِفَةِ حَالًا وَمَآلًا.

فَإِذَا تَأَمَّلَ النَّفْعَ الْحَاصِلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ إِمَّا بِالْمُبَاشَرَةِ وَإِمَّا بِالسَّبَبِ عَلِمَ أَنَّهُ

ص: 59

سَبَبُ بَقَاءِ نَفْسِهِ الْبَقَاءَ الْأَبَدِيَّ فِي النَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ، وَعَلِمَ أَنَّ نَفْعَهُ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعَاتِ، فَاسْتَحَقَّ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حَظُّهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ أَوْفَرَ مِنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ النَّفْعَ الَّذِي يُثِيرُ الْمَحَبَّةَ حَاصِلٌ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ وَالْغَفْلَةِ عَنْهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ حَظَّ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَتَمُّ ; لِأَنَّ هَذَا ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَهُمْ بِهَا أَعْلَمُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِيمَانًا صَحِيحًا لَا يَخْلُو عَنْ وِجْدَانِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ الرَّاجِحَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ بِالْحَظِّ الْأَوْفَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا بِالْحَظِّ الْأَدْنَى، كَمَنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي الشَّهَوَاتِ مَحْجُوبًا فِي الْغَفَلَاتِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، لَكِنَّ الْكَثِيرَ مِنْهُمْ إِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَتِهِ، بِحَيْثُ يُؤْثِرُهَا عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ وَوَالِدِهِ، وَيَبْذُلُ نَفْسَهُ فِي الْأُمُورِ الْخَطِيرَةِ، وَيَجِدُ مَخْبَرَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وِجْدَانًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ. وَقَدْ شُوهِدَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَنْ يُؤْثِرُ زِيَارَةَ قَبْرِهِ وَرُؤْيَةَ مَوَاضِعَ آثَارِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، لِمَا وَقَرَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ مَحَبَّتِهِ. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ سَرِيعُ الزَّوَالِ بِتَوَالِي الْغَفَلَاتِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

‌9 - باب حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ

16 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ.

[الحديث 16 - أطرافه في: 6941، 6041، 21]

قَوْلُهُ: (بَابُ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ) مَقْصَودُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْحَلَاوَةَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ مِنَ الْإِيمَانِ أَرْدَفَهُ بِمَا يُوجِدُ حَلَاوَةَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) هُوَ أَبُو مُوسَى الْعَنَزِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ بَعْدَهَا زَايٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، هُوَ ابْنُ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَبِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثٌ) هُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ الْخَبَرُ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّ التَّنْوِينَ عِوَضُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَالتَّقْدِيرُ ثَلَاثُ خِصَالٍ، وَيُحْتَمَلُ فِي إِعْرَابِهِ غَيْرُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (كُنَّ) أَيْ: حَصَلْنَ، فَهِيَ تَامَّةٌ. وَفِي قَوْلِهِ: حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ، شَبَّهَ رَغْبَةَ الْمُؤْمِنَ فِي الْإِيمَانِ بِشَيْءٍ حُلْوٍ وَأَثْبَتَ لَهُ لَازِمَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ، وَفِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى قِصَّةِ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ الصَّفْرَاوِيَّ يَجِدُ طَعْمَ الْعَسَلِ مُرًّا، وَالصَّحِيحُ يَذُوقُ حَلَاوَتَهُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَكُلَّمَا نَقَصَتِ الصِّحَّةُ شَيْئًا مَا نَقَصَ ذَوْقُهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مِنْ أَوْضَحِ مَا يُقَوِّي اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْحَلَاوَةِ لِأَنَّ اللَّهَ شَبَّهَ الْإِيمَانَ بِالشَّجَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مثلا {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} فَالْكَلِمَةُ هِيَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ، وَالشَّجَرَةُ أَصْلُ الْإِيمَانِ، وَأَغْصَانُهَا اتِّبَاعُ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ، وَوَرَقُهَا مَا يَهْتَمُّ بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْخَيْرِ، وَثَمَرُهَا عَمَلُ الطَّاعَاتِ، وَحَلَاوَةُ الثَّمَرِ جَنْيُ الثَّمَرَةِ، وَغَايَةُ كَمَالِهِ تَنَاهِي نُضْجِ الثَّمَرَةِ وَبِهِ تَظْهَرُ حَلَاوَتُهَا.

قَوْلُهُ: (أَحَبَّ إِلَيْهِ) مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ خَبَرُ يَكُونَ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْحُبِّ هُنَا الْحُبُّ الْعَقْلِيُّ الَّذِي هُوَ إِيثَارُ مَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ السَّلِيمُ رُجْحَانَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ هَوَى النَّفْسِ، كَالْمَرِيضِ يَعَافُ الدَّوَاءَ بِطَبْعِهِ فَيَنْفِرُ عَنْهُ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى عَقْلِهِ فَيَهْوَى تَنَاوُلَهُ، فَإِذَا تَأَمَّلَ الْمَرْءُ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى إِلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحٌ عَاجِلٌ أَوْ خَلَاصٌ آجِلٌ، وَالْعَقْلُ يَقْتَضِي رُجْحَانَ

ص: 60

جَانِبَ ذَلِكَ، تَمَرَّنَ عَلَى الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ هَوَاهُ تَبَعًا لَهُ، وَيَلْتَذُّ بِذَلِكَ الْتِذَاذًا عَقْلِيًّا، إِذِ الِالْتِذَاذُ الْعَقْلِيُّ إِدْرَاكُ مَا هُوَ كَمَالُ وَخَيْرٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ. وَعَبَّرَ الشَّارِعُ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْحَلَاوَةِ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ اللَّذَائِذِ الْمَحْسُوسَةِ. قَالَ: وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةِ عُنْوَانًا لِكَمَالِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا تَأَمَّلَ أَنَّ الْمُنْعِمَ بِالذَّاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْ لَا مَانِحَ وَلَا مَانِعَ فِي الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ، وَأَنَّ مَا عَدَاهُ وَسَائِطُ، وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لَهُ مُرَادَ رَبِّهِ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَتَوَجَّهَ بِكُلِّيَّتِهِ نَحْوَهُ: فَلَا يُحِبُّ إِلَّا مَا يُحِبُّ، وَلَا يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ إِلَّا مِنْ أَجْلِهِ. وَأَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّ جُمْلَةَ مَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ حَقٌّ يَقِينًا. وَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ الْمَوْعُودُ كَالْوَاقِعِ، فَيَحْسَبُ أَنَّ مَجَالِسَ الذِّكْرِ رِيَاضٌ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الْكُفْرِ إِلْقَاءٌ فِي النَّارِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَشَاهِدُ الْحَدِيثِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} - إِلَى أَنْ قَالَ - {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ثُمَّ هَدَّدَ عَلَى ذَلِكَ وَتَوَعَّدَ بِقَوْلِهِ: {فَتَرَبَّصُوا}

(فَائِدَةٌ): فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ وَالتَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ، فَالْأَوَّلُ مِنَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرُ مِنَ الثَّانِي. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَحَبَّةُ اللَّهِ عَلَى قِسْمَيْنِ فَرْضٌ وَنَدْبٌ، فَالْفَرْضُ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ مَعَاصِيهِ وَالرِّضَا بِمَا يُقَدِّرُهُ، فَمَنْ وَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ مِنْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ فَلِتَقْصِيرِهِ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ حَيْثُ قَدَّمَ هَوَى نَفْسِهِ وَالتَّقْصِيرُ تَارَةً يَكُونُ مَعَ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، فَيُورِثُ الْغَفْلَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّوَسُّعِ فِي الرَّجَاءِ فَيُقْدِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ تَسْتَمِرُّ الْغَفْلَةُ فَيَقَعُ. وَهَذَا الثَّانِي يُسْرِعُ إِلَى الْإِقْلَاعِ مَعَ النَّدَمِ. وَإِلَى الثَّانِي يُشِيرُ حَدِيثُ: لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَالنَّدْبُ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى النَّوَافِلِ وَيَتَجَنَّبَ الْوُقُوعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَالْمُتَّصِفُ عُمُومًا بِذَلِكَ نَادِرٌ. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ عَلَى قِسْمَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُزَادُ أَنْ لَا يَتَلَقَّى شَيْئًا مِنَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ إِلَّا مِنْ مِشْكَاتِهِ، وَلَا يَسْلُكُ إِلَّا طَرِيقَتَهُ، وَيَرْضَى بِمَا شَرَعَهُ، حَتَّى لَا يَجِدَ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا قَضَاهُ، وَيَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِهِ فِي الْجُودِ وَالْإِيثَارِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ وَغَيْرِهَا، فَمَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ، أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ. وَمَعْنَى حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ اسْتِلْذَاذُ الطَّاعَاتِ، وَتَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ فِي الدِّينِ، وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى أَعْرَاضِ الدُّنْيَا، وَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَحْصُلُ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مُخَالَفَتِهِ، وَكَذَلِكَ الرَّسُولُ. وَإِنَّمَا قَالَ مِمَّا سِوَاهُمَا وَلَمْ يَقُلْ مِمَّنْ لِيَعُمَّ مَنْ يَعْقِلَ وَمَنْ لَا يَعْقِلَ. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَذِهِ التَّثْنِيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِلَّذِي خَطَبَ فَقَالَ: وَمَنْ يَعْصِهِمَا بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا ; لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْخُطَبِ الْإِيضَاحُ، وَأَمَّا هُنَا فَالْمُرَادُ الْإِيجَازُ فِي اللَّفْظِ لِيُحْفَظَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا وَرَدَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ أَيْضًا الْإِيجَازُ فَلَا نَقْضٌ. وَثَمَّ أَجْوِبَةٌ أُخْرَى، مِنْهَا: دَعْوَى التَّرْجِيحِ، فَيَكُونُ حَيِّزُ الْمَنْعِ أَوْلَى لِأَنَّهُ عَامٌّ. وَالْآخَرُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّةَ ; وَلِأَنَّهُ نَاقِلٌ وَالْآخُرُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ ; وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ وَالْآخَرُ فِعْلٌ. وَرُدَّ بِأَنَّ احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ فِي الْقَوْلِ أَيْضًا حَاصِلٌ بِكُلِّ قَوْلٍ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ أَصْلًا، وَمِنْهَا دَعْوَى أَنَّهُ مِنَ الْخَصَائِصِ، فَيَمْتَنِعُ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ لِأَنَّ غَيْرَهُ إِذَا جَمَعَ أَوْهَمَ إِطْلَاقُهُ التَّسْوِيَةَ، بِخِلَافِهِ هُوَ فَإِنَّ مَنْصِبَهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ إِيهَامُ ذَلِكَ. وَإِلَى هَذَا مَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ.

وَمِنْهَا دَعْوَى التَّفْرِقَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ كَلَامَهُ صلى الله عليه وسلم هُنَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَحْسُنُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ فِيهَا مَقَامَ الْمُضْمَرِ، وَكَلَامُ الَّذِي خَطَبَ جُمْلَتَانِ لَا يُكْرَهُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ فِيهِمَا مَقَامَ الْمُضْمَرِ. وَتُعُقِّبَ هَذَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يُكْرَهُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ فِيهِمَا مَقَامَ الْمُضْمَرِ أَنْ يُكْرَهَ إِقَامَةُ الْمُضْمَرِ فِيهَا مَقَامَ الظَّاهِرِ، فَمَا وَجْهُ الرَّدِّ عَلَى الْخَطِيبِ مَعَ أَنَّهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَيُجَابُ بِأَنَّ قِصَّةَ الْخَطِيبِ - كَمَا قُلْنَا - لَيْسَ فِيهَا صِيغَةُ عُمُومٍ، بَلْ هِيَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ،

ص: 61

فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ تَوَهُّمُ التَّسْوِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ مَحَاسِنِ الْأَجْوِبَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ وَقِصَّةِ الْخَطِيبِ أَنَّ تَثْنِيَةَ الضَّمِيرِ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْمَحَبَّتَيْنِ، لَا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّهَا وَحْدَهَا لَاغِيَةٌ إِذَا لَمْ تَرْتَبِطْ بِالْأُخْرَى. فَمَنْ يَدَّعِي حُبَّ اللَّهِ مَثَلًا وَلَا يُحِبُّ رَسُولَهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فَأَوْقَعَ مُتَابَعَتَهُ مُكْتَنِفَةً بَيْنَ قُطْرَيْ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعِبَادِ.

وَأَمَّا أَمْرُ الْخَطِيبِ بِالْإِفْرَادِ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِصْيَانَيْنِ مُسْتَقِلٌّ بِاسْتِلْزَامِ الْغَوَايَةِ، إِذِ الْعَطْفُ فِي تَقْدِيرِ التَّكْرِيرِ، وَالْأَصْلُ اسْتِقْلَالُ كُلٍّ مِنَ الْمَعْطُوفَيْنِ فِي الْحُكْمِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فَأَعَادَ أَطِيعُوا فِي الرَّسُولِ وَلَمْ يُعِدْهُ فِي أُولِي الْأَمْرِ لِأَنَّهُمْ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُمْ فِي الطَّاعَةِ كَاسْتِقْلَالِ الرَّسُولِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ، وَالطِّيبِيِّ. وَمِنْهَا أَجْوِبَةٌ أُخْرَى فِيهَا تَكَلُّمٌ: مِنْهَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ) قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: حَقِيقَةُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ أَنْ لَا يَزِيدَ بِالْبِرِّ وَلَا يَنْقُصَ بِالْجَفَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ) زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى شَيْخِ الْمُصَنِّفِ: بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَكَذَا هُوَ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى لِلْمُصَنِّفِ، وَالْإِنْقَاذُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْعِصْمَةِ مِنْهُ ابْتِدَاءٌ بِأَنْ يُولَدَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيَسْتَمِرَّ، أَوْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ يَعُودُ عَلَى مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ، بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّ الْعَوْدَةَ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أدَّى الْعَوْدَ بِفِي وَلَمْ يُعَدِّهِ بِإِلَى؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ ضَمَّنَهُ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: يَسْتَقِرُّ فِيهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا}

(تَنْبِيهٌ): هَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ. وَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى فَضْلِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَتُرِكَ الْبَتَّةَ إِلَى أَنْ قُتِلَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَدَبِ فِي فَضْلِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ، وَلَفْظُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ لَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ ; لِأَنَّهُ سَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُنَا جُعِلَ الْوُقُوعُ فِي نَارِ الدُّنْيَا أَوْلَى مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي أَنْقَذَهُ اللَّهُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ من نَارِ الْأُخْرَى، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَصَرَّحَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ بِسَمَاعِ قَتَادَةَ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَزَادَ فِي الْخَصْلَةِ الثَّانِيَةِ ذِكْرَ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَلَفْظُهُ: وَأَنْ يُحِبَّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضَ فِي اللَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ فِي تَرْجَمَتِهِ: وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌10 - بَاب عَلَامَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ

17 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ.

[الحديث 17 - طرفه في: 3784]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) هُوَ مُنَوَّنٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّهُ: لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ عَقَّبَهُ بِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ حُبَّ الْأَنْصَارِ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مَحَبَّةَ مَنْ يُحِبُّهُمْ مِنْ حَيْثُ هَذَا الْوَصْفُ - وَهُوَ النُّصْرَةُ - إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهُمْ وَإِنْ دَخَلُوا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ لَكِنَّ التَّنْصِيصَ بِالتَّخْصِيصِ دَلِيلُ الْعِنَايَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ.

ص: 62

قَوْلُهُ: (جَبْرٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ ابْنُ عَتِيكٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهَذَا الرَّاوِي مِمَّنْ وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (آيَةُ الْإِيمَانِ) هُوَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَهَاءِ تَأْنِيثٍ، وَالْإِيمَانُ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ، هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي ضَبْطِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ وَالْمَسَانِيدِ. وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ كَمَا تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ، وَوَقَعَ فِي إِعْرَابِ الْحَدِيثِ لِأَبِي الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيِّ: إِنَّهُ الْإِيمَانُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ وَهَاءٍ، وَالْإِيمَانُ مَرْفُوعٌ، وَأَعْرَبَهُ فَقَالَ: إِنَّ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْإِيمَانُ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنَّ الشَّأْنَ الْإِيمَانُ حُبُّ الْأَنْصَارِ. وَهَذَا تَصْحِيفٌ مِنْهُ. ثُمَّ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الْإِيمَانِ فِي حُبِّ الْأَنْصَارِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: وَاللَّفْظُ الْمَشْهُورُ أَيْضًا يَقْتَضِي الْحَصْرَ، وَكَذَا مَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَلَامَةَ كَالْخَاصَّةِ تَطَّرِدُ وَلَا تَنْعَكِسُ، فَإِنْ أُخِذَ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ فَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ لَا عِبْرَةَ بِهِ. سَلَّمْنَا الْحَصْرَ لَكِنَّهُ لَيْسَ حَقِيقِيًّا بَلِ ادِّعَائِيًّا لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ هُوَ حَقِيقِيٌّ لَكِنَّهُ خَاصٌّ بِمَنْ أَبْغَضَهُمْ مِنْ حَيْثُ النُّصْرَةُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ غَايَتَهُ أَنْ لَا يَقَعَ حُبُّ الْأَنْصَارِ إِلَّا لِمُؤْمِنٍ. وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلْ فِيهِ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ لَا يُحِبُّهُمْ.

فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى الشِّقِّ الثَّانِي هَلْ يَكُونُ مَنْ أَبْغَضَهُمْ مُنَافِقًا وَإِنْ صَدَقَ وَأَقَرَّ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهِ ; لَكِنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى تَقْيِيدِ الْبُغْضِ بِالْجِهَةِ، فَمَنْ أَبْغَضَهُمْ مِنْ جِهَةِ هَذِهِ الصِّفَةِ - وَهِيَ كَوْنُهُمْ نَصَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَثَّرَ ذَلِكَ فِي تَصْدِيقِهِ فَيَصِحُّ أَنَّهُ مُنَافِقٌ. وَيُقَرِّبُ هَذَا الْحَمْلَ زِيَادَةُ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: مَنْ أَحَبَّ الْأَنْصَارَ فَبُحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَ الْأَنْصَارَ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا الْحُبِّ كَمَا سَبَقَ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارِ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِهِ: حُبُّ الْأَنْصَارِ إِيمَانٌ وَبُغْضُهُمْ نِفَاقٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّفْظَ خَرَجَ عَلَى مَعْنَى التَّحْذِيرِ فَلَا يُرَادُ ظَاهِرُهُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُقَابِلِ الْإِيمَانَ بِالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ، بَلْ قَابَلَهُ بِالنِّفَاقِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ التَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ إِنَّمَا خُوطِبَ بِهِ مَنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ، أَمَّا مَنْ يُظْهِرُ الْكُفْرَ فَلَا ; لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (الْأَنْصَارُ) هُوَ جَمْعُ نَاصِرٍ كَأَصْحَابٍ وَصَاحِبٍ، أَوْ جَمْعُ نَصِيرٍ كَأَشْرَافٍ وَشَرِيفٍ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، أَيْ: أَنْصَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُرَادُ: الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يُعْرَفُونَ بِبَنِي قَيْلَةَ، بِقَافٍ مَفْتُوحَةٍ وَيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ، وَهِيَ الْأُمُّ الَّتِي تَجْمَعُ الْقَبِيلَتَيْنِ، فَسَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ فَصَارَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَيْهِمْ، وَأُطْلِقَ أَيْضًا عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ. وَخُصُّوا بِهَذِهِ الْمَنْقَبَةِ الْعُظْمَى لِمَا فَازُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ مِنْ إِيوَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِمْ وَمُوَاسَاتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَإِيثَارِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ صَنِيعُهُمْ لِذَلِكَ مُوجِبًا لِمُعَادَاتِهِمْ جَمِيعَ الْفِرَقِ الْمَوْجُودِينَ مِنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ، وَالْعَدَاوَةُ تَجُرُّ الْبُغْضَ، ثُمَّ كَانَ مَا اخْتَصُّوا بِهِ مِمَّا ذُكِرَ مُوجِبًا لِلْحَسَدِ، وَالْحَسَدُ يَجُرُّ الْبُغْضَ، فَلِهَذَا جَاءَ التَّحْذِيرُ مِنْ بُغْضِهِمْ وَالتَّرْغِيبُ فِي حُبِّهِمْ حَتَّى جُعِلَ ذَلِكَ آيَةَ الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقِ، تَنْوِيهًا بِعَظِيمِ فَضْلِهِمْ، وَتَنْبِيهًا عَلَى كَرِيمِ فِعْلِهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي الْفَضْلِ الْمَذْكُورِ كُلٌّ بِقِسْطِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ، وَهَذَا جَارٍ بِاطِّرَادٍ فِي أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ، لِتَحَقُّقِ مُشْتَرَكِ الْإِكْرَامِ، لِمَا لَهُمْ مِنْ حُسْنِ الْغَنَاءِ فِي الدِّينِ.

قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ: وَأَمَّا الْحُرُوبُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَهُمْ فَإِنْ وَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ بُغْضٌ لِبَعْضٍ فَذَاكَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ، بَلِ الْأَمْرُ الطَّارِئُ الَّذِي اقْتَضَى الْمُخَالَفَةَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْكُمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالنِّفَاقِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَالُهُمْ فِي ذَاكَ حَالَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ: لِلْمُصِيبِ أَجْرَانِ، وَلِلْمُخْطِئِ أَجْرٌ وَاحِدٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 63

11 -

باب

18 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك.

[الحديث 18 - أطرافه في: 7468، 7213، 7199، 7055، 6873، 6801، 6784، 4894، 3999، 3893، 3892]

قوله: (باب) كذا في روايتنا بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصيلي أصلا، فحديثه عنده من جملة الترجمة التي قبله، وعلى روايتنا فهو متعلق بها أيضا؛ لأن الباب إذا لم تذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله مع تعلقه به، كصنيع مصنفي الفقهاء. ووجه التعلق أنه لما ذكر الأنصار في الحديث الأول أشار في هذا إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن أول ذلك كان ليلة العقبة لما توافقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عند عقبة منى في الموسم، كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى في السيرة النبوية من هذا الكتاب. وقد أخرج المصنف حديث هذا الباب في مواضع أخر: في باب من شهد بدرا، لقوله فيه: كان شهد بدرا؛ وفي باب وفود الأنصار، لقوله فيه: وهو أحد النقباء وأورده هنا لتعلقه بما قبله كما بيناه. ثم إن في متنه ما يتعلق بمباحث الإيمان من وجهين آخرين: أحدهما: أن اجتناب المناهي من الإيمان كامتثال الأوامر، وثانيهما: أنه تضمن الرد على من يقول: إن مرتكب الكبيرة كافر أو مخلد في النار، كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.

قَوْلُهُ: (عَائِذُ اللَّهِ) هُوَ اسْمُ عَلَمٍ، أَيْ: ذُو عِيَاذَةٍ بِاللَّهِ، وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْخَوْلَانِيُّ صَحَابِيٌّ، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ لِأَنَّ لَهُ رُؤْيَةً، وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَامَ حُنَيْنٍ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ شَامِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا) يَعْنِي: حَضَرَ الْوَقْعَةَ الْمَشْهُورَةَ الْكَائِنَةَ بِالْمَكَانِ الْمَعْرُوفِ بِبَدْرٍ، وَهِيَ أَوَّلُ وَقْعَةٍ قَاتَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا الْمُشْرِكِينَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي الْمَغَازِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلَ ذَلِكَ أَبُو إِدْرِيسَ، فَيَكُونُ مُتَّصِلًا إِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عُبَادَةَ، أَوِ الزُّهْرِيِّ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا. وَكَذَا قَوْلُهُ: وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) سَقَطَ قَبْلَهَا مِنْ أَصْلِ الرِّوَايَةِ لَفْظُ قَالَ وَهُوَ خَبَرُ أَنَّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكَانَ وَمَا بَعْدَهَا مُعْتَرِضٌ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِحَذْفِ قَالَ خَطَأً، لَكِنْ حَيْثُ يَتَكَرَّرُ فِي مِثْلِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنَ النُّطْقِ بِهَا، وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِإِسْنَادِهِ هَذَا فِي بَابِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَلَعَلَّهَا سَقَطَتْ هُنَا مِمَّنْ بَعْدَهُ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ عُبَادَةَ حَدَّثَهُ.

قَوْلُهُ: (وَحَوْلَهُ) بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْعِصَابَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَقَدْ جُمِعَتْ عَلَى عَصَائِبَ وَعُصَبٍ.

قَوْلُهُ: (بَايِعُونِي) زَادَ فِي بَابِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ تَعَالَوْا بَايِعُونِي، وَالْمُبَايَعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُعَاهَدَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمُعَاوَضَةِ الْمَالِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}

قَوْلُهُ: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ وَغَيْرُهُ: خُصَّ الْقَتْلُ بِالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ وَقَطِيعَةُ رَحِمٍ. فَالْعِنَايَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ آكَدُ وَلِأَنَّهُ كَانَ شَائِعًا فِيهِمْ، وَهُوَ وَأْدُ الْبَنَاتِ وَقَتْلُ الْبَنِينَ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ، أَوْ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ

ص: 64

لِأَنَّهُمْ بِصَدَدِ أَنْ لَا يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ) الْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ الذي يَبْهَتُ سَامِعَهُ، وَخَصَّ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ بِالِافْتِرَاءِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْأَفْعَالِ تَقَعُ بِهِمَا، إِذْ كَانَتْ هِيَ الْعَوَامِلَ وَالْحَوَامِلَ لِلْمُبَاشَرَةِ وَالسَّعْيِ، وَكَذَا يُسَمُّونَ الصَّنَائِعَ الْأَيَادِيَ. وَقَدْ يُعَاقَبُ الرَّجُلُ بِجِنَايَةٍ قَوْلِيَّةٍ فَيُقَالُ: هَذَا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لَا تَبْهَتُوا النَّاسَ كِفَاحًا وَبَعْضُكُمْ يُشَاهِدُ بَعْضًا، كَمَا يُقَالُ: قُلْتُ كَذَا بَيْنَ يَدَيْ فُلَانٍ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِذِكْرِ الْأَرْجُلِ.

وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَيْدِي، وَذَكَرَ الْأَرْجُلَ تَأْكِيدًا، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ ذِكْرَ الْأَرْجُلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضِيًا فَلَيْسَ بِمَانِعٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ الْقَلْبَ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُتَرْجِمُ اللِّسَانُ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ نُسِبَ إِلَيْهِ الِافْتِرَاءُ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَرْمُوا أَحَدًا بِكَذِبٍ تُزَوِّرُونَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ ثُمَّ تَبْهَتُونَ صَاحِبَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبَى جَمْرَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أَيْ: فِي الْحَالِ، وَقَوْلُهُ وَأَرْجُلِكُمْ أَيْ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ ; لِأَنَّ السَّعْيَ مِنْ أَفْعَالِ الْأَرْجُلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَصْلُ هَذَا كَانَ فِي بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَكَنَّى بِذَلِكَ - كَمَا قَالَ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ - عَنْ نِسْبَةِ الْمَرْأَةِ الْوَلَدَ الَّذِي تَزْنِي بِهِ أَوْ تَلْتَقِطُهُ إِلَى زَوْجِهَا. ثُمَّ لَمَّا اسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظَ فِي بَيْعَةِ الرِّجَالِ احْتِيجَ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ أَوَّلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَعْصُوا) لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي بَابِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ وَلَا تَعْصُونِي وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلْآيَةِ، وَالْمَعْرُوفُ مَا عُرِفَ مِنَ الشَّارِعِ حُسْنُهُ نَهْيًا وَأَمْرًا.

قَوْلُهُ: (فِي مَعْرُوفٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا تَعْصُونِي وَلَا أَحَدَ أُولِي الْأَمْرِ عَلَيْكُمْ فِي الْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالْمَعْرُوفِ مُتَعَلِّقًا بِشَيْءٍ بَعْدَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الْمَخْلُوقِ إِنَّمَا تَجِبُ فِيمَا كَانَ غَيْرَ مَعْصِيَةِ لِلَّهِ، فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِالتَّوَقِّي فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ) أَيْ: ثَبَتَ عَلَى الْعَهْدِ. وَوَفَى بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا بِمَعْنًى.

قَوْلُهُ: فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، أَطْلَقَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ ذَكَرَ الْمُبَايَعَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِوُجُودِ الْعِوَضَيْنِ أَثْبَتَ ذِكْرَ الْأَجْرِ فِي مَوْضِعِ أَحَدِهِمَا. وَأَفْصَحَ فِي رِوَايَةٍ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عِبَادَةٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِتَعْيِينِ الْعِوَضِ، فَقَالَ الْجَنَّةَ، وَعَبَّرَ هُنَا بِلَفْظِ عَلَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَالْوَاجِبَاتِ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ لِلْأَدِلَّةِ الْقَائِمَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي تَفْسِيرِ حَقِّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ تَقْرِيرُ هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَأْمُورَاتِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُهْمِلْهَا، بَلْ ذَكَرَهَا عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَعْصُوا إِذِ الْعِصْيَانُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ أَنَّ الْكَفَّ أَيْسَرُ مِنْ إِنْشَاءِ الْفِعْلِ ; لِأَنَّ اجْتِنَابَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى اجْتِلَابِ الْمَصَالِحِ، وَالتَّخَلِّيَ عَنِ الرَّذَائِلِ قَبْلَ التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ) زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ) أَيِ: الْعِقَابُ، (كَفَّارَةٌ)، زَادَ أَحْمَدُ: لَهُ، وَكَذَا هُوَ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي بَابِ الْمَشِيئَةِ مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَزَادَ وَطَهُورٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: عُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فَالْمُرْتَدُّ إِذَا قُتِلَ عَلَى ارْتِدَادِهِ لَا يَكُونُ الْقَتْلُ لَهُ كَفَّارَةً. قُلْتُ: وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا ذُكِرَ بَعْدَ الشِّرْكِ، بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَدْخُلُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى إِخْرَاجِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا إِذِ الْقَتْلُ عَلَى الشِّرْكِ لَا يُسَمَّى حَدًّا. لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ لِتَرَتُّبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَخِطَابُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّحْذِيرَ مِنَ الْإِشْرَاكِ. وَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِّ عُرْفِيٌّ حَادِثٌ، فَالصَّوَابُ مَا قَالَ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشِّرْكِ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ وَهُوَ الرِّيَاءُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ شَيْئًا أَيْ: شِرْكًا أَيًّا مَا كَانَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عُرْفَ الشَّارِعِ إِذَا أَطْلَقَ الشِّرْكَ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَا يُقَابِلَ التَّوْحِيدَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ حَيْثُ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا ذَلِكَ. وَيُجَابُ بِأَنَّ طَلَبَ الْجَمْعِ يَقْتَضِي ارْتِكَابَ الْمَجَازِ، فَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ

ص: 65

وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا.

وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ عَقِبَ الْإِصَابَةِ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالرِّيَاءِ لَا عُقُوبَةَ فِيهِ، فَوَضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ الشِّرْكُ وَأَنَّهُ مَخْصُوصٌ.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا، لَكِنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ أَصَحُّ إِسْنَادًا. وَيُمْكِنُ - يَعْنِي عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا - أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَدَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. قُلْتُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ، وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ يُوسُفَ رَوَاهُ عَنْ مَعْمَرٍ فَأَرْسَلَهُ.

قُلْتُ: وَقَدْ وَصَلَهُ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا فَقَوِيَتْ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ، وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَالْجَمْعُ - الَّذِي جَمَعَ بِهِ الْقَاضِي - حَسَنٌ ; لَكِنَّ الْقَاضِيَ وَمَنْ تَبِعَهُ جَازِمُونَ بِأَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ هَذَا كَانَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لَمَّا بَايَعَ الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْعَةَ الْأُولَى بِمِنًى، وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبْعِ سِنِينَ عَامَ خَيْبَرَ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَدِيثُهُ مُتَقَدِّمًا؟ وَقَالُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ كَانَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدِيمًا وَلَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَةٌ كَمَا سَمِعَهُ عُبَادَةُ، وَفِي هَذَا تَعَسُّفٌ. وَيُبْطِلُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ، وَأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ إِذْ ذَاكَ.

وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَالْمُبَايَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ تَقَعْ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى أَنْ يَرْحَلَ إِلَيْهِمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ - فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وَغَيْرِهِ - مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ أَيْضًا قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. . . الْحَدِيثَ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمُرَادِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ أَنَّهُ جَرَتْ لَهُ قِصَّةٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّكَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ وَلَا نَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ فَنَمْنَعَهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا، وَلَنَا الْجَنَّةُ. فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي بَايَعْنَاهُ عَلَيْهَا. فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ.

وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى، وَأَلْفَاظٌ قَرِيبَةٌ مِنْ هَذِهِ. وَقَدْ وَضَحَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبَيْعَةِ الْأُولَى.

ثُمَّ صَدَرَتْ مُبَايَعَاتٌ أُخْرَى سَتُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مِنْهَا هَذِهِ الْبَيْعَةُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْفَوَاحِشِ الْمَذْكُورَةِ. وَالَّذِي يُقَوِّي أَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمُمْتَحِنَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَأَخِّرٌ بَعْدَ قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَايَعَهُمْ قَرَأَ الْآيَةَ كُلَّهَا، وَعِنْدَهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُمْتَحِنَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ: قَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: فَتَلَا عَلَيْنَا آيَةَ النِّسَاءِ، قَالَ: أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَلَا تُبَايِعُونَنِي عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ: أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا الْحَدِيثَ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ.

فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَةَ إِنَّمَا صَدَرَتْ بَعْدَ نُزُولِ

ص: 66

الْآيَةِ، بَلْ بَعْدَ صُدُورِ الْبَيْعَةِ، بَلْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ بَعْدَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمُدَّةٍ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَقَدْ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: إِذَا صَحَّ الْإِسْنَادُ إِلَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَهُوَ كَأَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، اهـ.

وَإِذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَحَدَ مَنْ حَضَرَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَلَا مِمَّنْ حَضَرَ بَيْعَتَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ إِسْلَامُهُ قُرْبَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَضَحَ تَغَايُرُ الْبَيْعَتَيْنِ - بَيْعَةُ الْأَنْصَارِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَهِيَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَيْعَةٌ أُخْرَى وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَشَهِدَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ - وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِثْلِ مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ إِسْلَامُ جَرِيرٍ مُتَأَخِّرًا عَنْ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الصَّوَابِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الِالْتِبَاسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حَضَرَ الْبَيْعَتَيْنِ مَعًا، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ مِنْ أَجَلِّ مَا يُتَمَدَّحُ بِهِ، فَكَانَ يَذْكُرُهَا إِذَا حَدَّثَ تَنْوِيهًا بِسَابِقِيَّتِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ الَّتِي صَدَرَتْ عَلَى مِثْلِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ عَقِبَ ذَلِكَ تَوَهَّمَ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ أَنَّ الْبَيْعَةَ الْأُولَى وَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ.

وَنَظِيرُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ - قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْعَةَ الْحَرْبِ وَكَانَ عُبَادَةُ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَايَعُوا فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَعَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي اتِّحَادِ الْبَيْعَتَيْنِ ; وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ بَيْعَةَ الْحَرْبِ بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لِأَنَّ الْحَرْبَ إِنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَرَدُّهَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ رِوَايَتُهُ عَلَى ثَلَاثِ بَيْعَاتٍ: بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يفْرَضَ الْحَرْبُ فِي رِوَايَةِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالثَّانِيَةُ بَيْعَةُ الْحَرْبِ وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى عَدَمِ الْفِرَارِ، وَالثَّالِثَةُ بَيْعَةُ النِّسَاءِ أَيْ: الَّتِي وَقَعَتْ عَلَى نَظِيرِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ. وَالرَّاجِحُ أَنَّ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ

(1)

وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ التَّصْرِيحِ فِي رِوَايَةُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ أَنَّ بَيْعَةَ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ كَانَتْ عَلَى مِثْلِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَاتَّفَقَ وُقُوعُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إِلَى النِّسَاءِ لِضَبْطِهَا بِالْقُرْآنِ.

وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ: إِنِّي مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; وَقَالَ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا الْحَدِيثَ. فَظَاهِرُ هَذَا اتِّحَادُ الْبَيْعَتَيْنِ ; وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مَا قَرَّرْتُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنِّي مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا - أَيْ: لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ - عَلَى الْإِيوَاءِ وَالنَّصْرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: بَايَعْنَاهُ إِلَخْ أَيْ: فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْإِتْيَانِ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فِي قَوْلِهِ وَقَالَ بَايَعْنَاهُ. وَعَلَيْكَ بِرَدِّ مَا أَتَى مِنَ الرِّوَايَاتِ مُوهِمًا بِأَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَةَ كَانَتْ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي نَهَجْتْ إِلَيْهِ فَيَرْتَفِعُ بِذَلِكَ الْإِشْكَالُ، وَلَا يَبْقَى بَيْنَ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُبَادَةَ تَعَارُضٌ، وَلَا وَجْهَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلتَّوَقُّفِ فِي كَوْنِ الْحُدُودِ كَفَّارَةً.

وَاعْلَمْ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِرِوَايَةِ هَذَا الْمَعْنَى، بَلْ رَوَى ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَفِيهِ: مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ الْعُقُوبَةَ عَلَى عَبْدِهِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبَى تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ بِإِسْنَادٍ

(1)

مراده أن التصريح بأن البيعة الأولى ليلة العقبة كانت على بيعة النساء وهم من بعض الرواة، وأن البيعة التي وقعت على مثل بيعة النساء كانت بعد ذلك فتنبه والله أعلم

ص: 67

حَسَنٍ وَلَفْظُهُ: مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا أُقِيمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الذَّنْبُ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو

(1)

مَرْفُوعًا: مَا عُوقِبَ رَجُلٌ عَلَى ذَنْبٍ إِلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ كَفَّارَةً لِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ. وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّنِي لَمْ أَرَ مَنْ أَزَالَ اللَّبْسَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ، وَاللَّهُ الْهَادِي.

قَوْلُهُ: (فَعُوقِبَ بِهِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ بِهِ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ وَالْجَلْدَ أَوِ الرَّجْمَ فِي الزِّنَا. قَالَ: وَأَمَّا قَتْلُ الْوَلَدِ فَلَيْسَ لَهُ عُقُوبَةٌ مَعْلُومَةٌ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ قَتْلَ النَّفْسِ فَكَنَّى عَنْهُ، قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَعُوقِبَ بِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَحُكِيَ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَتْلَ الْقَاتِلِ إِنَّمَا هُوَ رَادِعٌ لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالطَّلَبُ لِلْمَقْتُولِ قَائِمٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ حَقٌّ. قُلْتُ: بَلْ وَصَلَ إِلَيْهِ حَقٌّ أَيُّ حَقٍّ، فَإِنَّ الْمَقْتُولَ ظُلْمًا تُكَفَّرُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِالْقَتْلِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ: إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا جَاءَ الْقَتْلُ مَحَا كُلَّ شَيْءٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَلَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ نَحْوُهُ، وَلِلْبَزَّارِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: لَا يَمُرُّ الْقَتْلُ بِذَنْبٍ إِلَّا مَحَاهُ فَلَوْلَا الْقَتْلُ مَا كُفِّرَتْ ذُنُوبُهُ، وَأَيُّ حَقٍّ يَصِلُ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ وَلَوْ كَانَ حَدُّ الْقَتْلِ إِنَّمَا شُرِعَ لِلرَّدْعِ فَقَطْ لَمْ يُشْرَعِ الْعَفْوُ عَنِ الْقَاتِلِ، وَهَلْ تَدْخُلُ فِي الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمَصَائِبُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنَ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَغَيْرِهَا؟ فِيهِ نَظَرٌ.

وَيَدُلُّ لِلْمَنْعِ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ لَا تُنَافِي السَّتْرَ، وَلَكِنْ بَيَّنَتِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ أَنَّ الْمَصَائِبَ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهَا تُكَفِّرُ مَا لَا حَدَّ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ كَفَّارَةٌ لِلذَّنْبِ وَلَوْ لَمْ يَتُبِ الْمَحْدُودُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ بَعْضُ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَوَافَقَهُمُ ابْنُ حَزْمٍ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْبَغَوِيُّ وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِاسْتِثْنَاءِ مَنْ تَابَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ فِي عُقُوبَةِ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ قُيِّدَتْ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ إِلَى اللَّهِ) قَالَ الْمَازِنِيُّ

(2)

: فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ، وَرَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ تَعْذِيبَ الْفَاسِقِ إِذَا مَاتَ بِلَا تَوْبَةٍ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَلَمْ يَقُلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعَذِّبَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَفِّ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالنَّارِ عَلَى أَحَدٍ أَوْ بِالْجَنَّةِ لِأَحَدٍ إِلَّا مَنْ وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ بِعَيْنِهِ. قُلْتُ: أَمَّا الشِّقُّ الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ. وَأَمَّا الثَّانِي فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ إِنَّمَا تُسْتَفَادُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ.

قَوْلُهُ: (إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ) يَشْمَلُ مَنْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ، وَقَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَابَ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ مُؤَاخَذَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لَهُ هَلْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ أَوْ لَا. وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ وَمَا لَا يَجِبُ، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ أَتَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَتُوبَ سِرًّا وَيَكْفِيَهُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: بَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ وَيَعْتَرِفَ بِهِ وَيَسْأَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ كَمَا وَقَعَ لِمَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ. وَفَصَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِنَ بِتَوْبَتِهِ وَإِلَّا فَلَا.

(تَنْبِيهٌ): زَادَ فِي رِوَايَةِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا يَنْتَهِبُ وَهُوَ مِمَّا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَنَّ الْبَيْعَةَ مُتَأَخِّرَةٌ ; لِأَنَّ الْجِهَادَ عِنْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ، وَالْمُرَادُ بِالِانْتِهَابِ مَا يَقَعُ بَعْدَ الْقِتَالِ فِي الْغَنَائِمِ. وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا: وَلَا يَعْصِي بِالْجَنَّةِ، إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ وَلَا يَقْضِي بِقَافٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ النَّاسِ فِي تَخْرِيجِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ نَهَاكُمْ

(1)

في مخطوطة الرياض: ابن عمر.

(2)

في هامش طبعة بولاق: وفي نسخة المازري

ص: 68

عَنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَيُبْطِلُهُ أَنَّ عُبَادَةَ رضي الله عنه وَلِيَ قَضَاءَ فِلَسْطِينَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ بِالْجَنَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِيَقْضِي، أَيْ: لَا يَقْضِي بِالْجَنَّةِ لِأَحَدٍ مُعَيَّنٍ. قُلْتُ: لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُهُ: إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِلَا جَوَابٍ، وَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ دَعْوَى التَّصْحِيفِ فِيهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ بِالْعَيْنِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى، بْنِ هَارُونَ كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الدِّيَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، لَكِنْ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْقَافِ وَالضَّادِ أَيْضًا وَهُوَ تَصْحِيفٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَقَوْلُهُ بِالْجَنَّةِ إِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهِ بَايَعْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌12 - بَاب مِنْ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنْ الْفِتَنِ

19 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ.

[الحديث 19 - أطرافه في: 7088، 6495، 3600، 3300]

قَوْلُهُ: (بَابُ مِنَ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ) عَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنِ التَّرْجَمَةِ بِالْإِيمَانِ - مَعَ كَوْنِهِ تَرْجَمَ لِأَبْوَابِ الْإِيمَانِ - مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ مُتَرَادِفَيْنِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} صَحَّ إِطْلَاقُ الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) هُوَ الْقَعْنَبِيُّ أَحَدُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ قَعْنَبَ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ مُدَّةً.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، فَسَقَطَ الْحَارِثُ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَاسْمُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَمْرُو بْنُ زَيْدِ بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ الْمَازِنِيُّ، هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَشَهِدَ ابْنُهُ الْحَارِثُ أُحُدًا، وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) اسْمُهُ سَعْدٌ عَلَى الصَّحِيحِ - وَقِيلَ سِنَانُ - ابْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، اسْتُشْهِدَ أَبُوهُ بِأُحُدٍ، وَكَانَ هُوَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ. نَعَمْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي الْجِهَادِ - وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ. وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْفِتَنِ. وَهِيَ زِيَادَةٌ مِنْ حَافِظٍ فَيُقَيَّدُ بِهَا الْمُطْلَقُ. وَلَهَا شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمِنْ حَدِيثِ أُمِّ مَالِكٍ الْبَهْزِيَّةِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ سُكْنَى الْبَوَادِي وَالسِّيَاحَةِ وَالْعُزْلَةِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.

قَوْلُهُ: (يُوشِكُ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: يَقْرَبُ.

قَوْلُهُ: (خَيْرَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَرِ، وَغَنَمِ الِاسْمُ، وَلِلْأَصِيلِيِّ بِرَفْعِ خَيْرُ وَنَصْبِ غَنَمًا عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ ويُقَدَّرُ فِي يَكُونُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، لَكِنْ لَمْ تَجِئْ بِهِ الرِّوَايَةُ.

قَوْلُهُ: (يَتَّبِعُ) بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا، وَشَعَفِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ شَعَفَةٍ، كَأَكَمٍ وَأَكَمَةٍ، وَهِيَ رُؤوسُ الْجِبَالِ.

قَوْلُهُ: (وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى شَعَفِ، أَيْ: بُطُونَ الْأَوْدِيَةِ، وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا مَظَانُّ الْمَرْعَى.

قَوْلُهُ: (يَفِرُّ بِدِينِهِ) أَيْ: بِسَبَبِ دِينِهِ. وَمِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، قَالَ الشَّيْخُ النَّوَوِيُّ: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ عَدُّ الْفِرَارِ دِينًا، وَإِنَّمَا هُوَ صِيَانَةٌ لِلدِّينِ. قَالَ: فَلَعَلَّهُ لَمَّا رَآهُ صِيَانَةً لِلدِّينِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الدِّينِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ أُرِيدَ بِمِنْ كَوْنُهَا جِنْسِيَّةً أَوْ تَبْعِيضِيَّةً فَالنَّظَرُ مُتَّجَهٌ، وَإِنْ أُرِيدَ كَوْنُهَا ابْتِدَائِيَّةً

ص: 69

أَيِ: الْفِرَارُ مِنَ الْفِتْنَةِ مَنْشَؤُهُ الدِّينُ فَلَا يَتَّجِهُ النَّظَرُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَهُوَ أَلْيَقُ الْمَوَاضِعِ بِهِ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يُسْتَوْفَى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌13 - بَاب قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}

20 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هُوَ مُضَافٌ بِلَا تَرَدُّدٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَا أَعْلَمُكُمْ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ لَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ أَعْرَفُكُمْ وَكَأَنَّهُ مَذْكُورٌ بِالْمَعْنَى حَمْلًا عَلَى تَرَادُفِهِمَا هُنَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ هُنَا وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُصَنِّفِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ) بِفَتْحِ أَنَّ وَالتَّقْدِيرُ: بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ. وَوَرَدَ بِكَسْرِهَا وَتَوْجِيهِهِ ظَاهِرٌ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ خِلَافُ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) مُرَادُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِانْضِمَامِ الِاعْتِقَادِ إِلَيْهِ، وَالِاعْتِقَادُ فِعْلُ الْقَلْبِ. وَقَوْلُهُ:{بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أَيْ: بِمَا اسْتَقَرَّ فِيهَا، وَالْآيَةُ وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْأَيْمَانِ بِالْفَتْحِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْإِيمَانِ بِالْكَسْرِ وَاضِحٌ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى، إِذْ مَدَارُ الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا عَلَى عَمَلِ الْقَلْبِ.

وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّحَ بِتَفْسِيرِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَإِنَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَ: هُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا كَافِرٌ، قَالَ: لَا يُؤَاخِذُهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَعْقِدَ بِهِ قَلْبُهُ، فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، وَظَهَرَ وَجْهُ دُخُولِهِمَا فِي مَبَاحِثِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْكَرَامِيَّةِ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ فَقَطْ، وَدَلِيلًا عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِاللَّهِ دَرَجَاتٌ، وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ. وَالْعِلْمُ بِاللَّهِ يَتَنَاوَلُ مَا بِصِفَاتِهِ وَمَا بِأَحْكَامِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ حَقًّا.

(فَائِدَةٌ): قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ وَاجِبٍ

(1)

فَقِيلَ: الْمَعْرِفَةُ، وَقِيلَ النَّظَرُ، وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: لَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ خِطَابًا وَمَقْصُودًا الْمَعْرِفَةُ، وَأَوَّلُ وَاجِبٍ اشْتِغَالًا وَأَدَاءً الْقَصْدُ إِلَى النَّظَرِ. وَفِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ نَظَرٌ كَبِيرٌ وَمُنَازَعَةٌ طَوِيلَةٌ، حَتَّى نَقَلَ جَمَاعَةٌ الْإِجْمَاعَ فِي نَقِيضِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِإِطْبَاقِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامَ مِمَّنْ دَخَلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَنْقِيبٍ، وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَذُبُّونَ عَنْ دِينِهِمْ وَيُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ، فَرُجُوعُهُمْ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى ظُهُورِ الْحَقِّ لَهُمْ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْمَذْكُورَةَ يُكْتَفَى فِيهَا بِأَدْنَى نَظَرٍ، بِخِلَافِ مَا قَرَّرُوهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ

(1)

الصواب ماذكره المحققون من اهل العلم أن اول واجب هو شهادة أن لا إله إلا الله علما وعملا، وهي أول شيء دعا اليه الرسل، وسيدهم وإمامهم: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أول شيء دعا إليه أن قال لقومه: قولوا لاإله إلا الله تعلموا. ولما بعث معاذا إلى اليمن قال له: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لاإله إلا الله. ولأن التوحيد شرط لصحة جميع العبادات، كما يدل عليه قوله تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

ص: 70

النَّاسَ عَلَيْهَا} وَحَدِيثُ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، ظَاهِرَانِ فِي دَفْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَصْلِهَا، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذَا فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ نَقَلَ الْقُدْوَةُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيِّ - وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْأَشَاعِرَةِ - أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْمُعْتَزِلَةِ بَقِيَتْ فِي الْمَذْهَبِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ أَنَّ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ يُؤَاخَذُ بِهَا إِنِ اسْتَقَرَّتْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لِذَلِكَ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ أَوْ تَعْمَلْ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَكْمِلَةٌ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ) هُوَ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: هُوَ بِتَشْدِيدِهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ نَفْسِهِ وَهُوَ أَخْبَرَ بِأَبِيهِ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ مَشَايِخَ بَلَدِهِ. وَقَدْ صَنَّفَ الْمُنْذِرِيُّ جُزْءًا فِي تَرْجِيحِ التَّشْدِيدِ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ خِلَافُهُ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْكُوفِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: حَدَّثَنَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا أَمَرَهُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَعَلَيْهِ شَرْحُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ، وَكَذَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ وَلَفْظُهُ كَانَ إِذَا أَمَرَ النَّاسَ بِالشَّيْءِ قَالُوا: وَالْمَعْنَى كَانَ إِذَا أَمَرَهُمْ بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ دُونَ مَا يَشُقُّ خَشْيَةَ أَنْ يَعْجِزُوا عَنِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَعَمِلَ هُوَ بِنَظِيرِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنَ التَّخْفِيفِ، طَلَبُوا مِنْهُ التَّكْلِيفَ بِمَا يَشُقَّ، لِاعْتِقَادِهِمِ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْعَمَلِ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ دُونَهُ، فَيَقُولُونَ: لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ فَيَغْضَبُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حُصُولَ الدَّرَجَاتِ لَا يُوجِبُ التَّقْصِيرَ فِي الْعَمَلِ، بَلْ يُوجِبُ الِازْدِيَادَ شُكْرًا لِلْمُنْعِمِ الْوَهَّابِ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا. وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ لِيُدَاوِمُوا عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ، وَعَلَى مُقْتَضَى مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ تَكْرِيرِ أَمَرَهُمْ يَكُونُ الْمَعْنَى: كَانَ إِذَا أَمَرَهُمْ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ أَمَرَهُمْ بِمَا يُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُمُ الثَّانِيَةُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَالُوا: جَوَابُ ثَانٍ.

قَوْلُهُ: (كَهَيْئَتِكَ) أَيْ: لَيْسَ حَالُنَا كَحَالِكَ. وَعَبَّرَ بِالْهَيْئَةِ تَأْكِيدًا، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ، الْأُولَى: أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ تُرَقِّي صَاحِبَهَا إِلَى الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّةِ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَمَحْوِ الْخَطِيئَاتِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمُ اسْتِدْلَالَهُمْ وَلَا تَعْلِيلَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، بَلْ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْعِبَادَةِ وَثَمَرَاتِهَا كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُ إِلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا، اسْتِبْقَاءً لِلنِّعْمَةِ، وَاسْتِزَادَةً لَهَا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا. الثَّالِثَةُ: الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّ الشَّارِعُ مِنْ عَزِيمَةٍ وَرُخْصَةٍ، وَاعْتِقَادُ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَرْفَقِ الْمُوَافِقِ لِلشَّرْعِ أَوْلَى مِنَ الْأَشَقِّ الْمُخَالِفِ لَهُ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْأَوْلَى فِي الْعِبَادَةِ الْقَصْدُ وَالْمُلَازَمَةُ، لَا الْمُبَالَغَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى التَّرْكِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمُنْبَتُّ - أَيِ الْمُجِدُّ فِي السَّيْرِ - لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى. الْخَامِسَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى شِدَّةِ رَغْبَةِ الصَّحَابَةِ فِي الْعِبَادَةِ وَطَلَبِهِمُ الِازْدِيَادَ مِنَ الْخَيْرِ. السَّادِسَةُ: مَشْرُوعِيَّةُ الْغَضَبِ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَالْإِنْكَارِ عَلَى الْحَاذِقِ الْمُتَأَهِّلِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى إِذَا قَصَّرَ فِي الْفَهْمِ، تَحْرِيضًا لَهُ عَلَى التَّيَقُّظِ. السَّابِعَةُ: جَوَازُ تَحَدُّثِ الْمَرْءِ بِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلٍ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ لِذَلِكَ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنَ الْمُبَاهَاةِ وَالتَّعَاظُمِ.

الثَّامِنَةُ: بَيَانُ أَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُتْبَةَ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ لِأَنَّهُ مُنْحَصِرٌ فِي الْحِكْمَتَيْنِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْأُولَى بِقَوْلِهِ أَعْلَمُكُمْ وَإِلَى الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ أَتْقَاكُمْ وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ وَأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ لَأَنَا بِزِيَادَةِ

ص: 71

لَامِ التَّأْكِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَاللَّهِ إِنَّ أَبَرَّكُمْ وَأَتْقَاكُمْ أَنَا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ إِقَامَةُ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ مَقَامَ الْمُتَّصِلِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَ أَكْثَرِ النُّحَاةِ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ وَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ:

وَإِنَّمَا يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي،

بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَمَا يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ إِلَّا أَنَا. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَالَّذِي وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، يَشْهَدُ لِلْجَوَازِ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ، وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، لَا أَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْ هِشَامٍ فَرْدٌ مُطْلَقٌ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يُوَاجَهْ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ، وَذَكَرْتُ فِيهِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ تَعْيِينُ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

‌14 - بَاب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنْ الْإِيمَانِ

21 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ كَرِهَ) يَجُوزُ فِيهِ التَّنْوِينُ وَالْإِضَافَةُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ مَنْ مُبْتَدَأٌ وَمِنَ الْإِيمَانِ خَبَرُهُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ، وَمُطَابَقَةُ التَّرْجَمَةِ لَهُ ظَاهِرَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ وَإِسْنَادُهُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَجَرَى الْمُصَنِّفُ عَلَى عَادَتِهِ فِي التَّبْوِيبِ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمَتْنِ مَعَ أَنَّهُ غَايَرَ الْإِسْنَادَ هُنَا إِلَى أَنَسٍ. وَمَنْ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مَوْصُولَةٌ بِخِلَافِ الَّتِي بَعْدَ ثَلَاثٍ فَإِنَّهَا شَرْطِيَّةٌ.

‌15 - بَاب تَفَاضُلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ

22 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدْ اسْوَدُّوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا، أَوْ الْحَيَاةِ شَكَّ مَالِكٌ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً،

قَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو: الْحَيَاةِ، وَقَالَ: خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ.

[الحديث 22 - أطرافه في: 7439، 7438، 6574، 6560، 4919، 4581،]

قَوْلُهُ: (بَابُ تَفَاضُلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ) فِي: ظَرْفِيَّةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً، أَيِ التَّفَاضُلُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَحِيُّ الْمَدَنِيُّ ابْنُ أُخْتِ مَالِكٍ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ غَرِيبٌ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ: (يُدْخِلُ) لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ وَغَيْرِهِ يُدْخِلُ اللَّهُ وَزَادَ مِنْ طَرِيقِ مَعْنٍ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ وَكَذَا لَهُ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ.

قَوْلُهُ: (مِثْقَالُ حَبَّةٍ) بِفَتْحِ الْحَاءِ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَا

ص: 72

أَقَلَّ مِنْهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ مَثَلٌ لِيَكُونَ عِيَارًا فِي الْمَعْرِفَةِ لَا فِي الْوَزْنِ ; لِأَنَّ مَا يُشْكِلُ فِي الْمَعْقُولُ يُرَدُّ إِلَى الْمَحْسُوسِ لِيُفْهَمَ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْوَزْنُ لِلصُّحُفِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَيَقَعُ وَزْنُهَا عَلَى قَدْرِ أُجُورِ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ أَنْ تُجَسَّدَ الْأَعْرَاضُ فَتُوزَنُ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ بِالشَّرْعِ لَا دَخْلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِحَبَّةِ الْخَرْدَلِ هُنَا مَا زَادَ مِنَ الْأَعْمَالِ عَلَى أَصْلِ التَّوْحِيدِ، لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَخْرِجُوا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَمِلَ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً. وَمَحَلُّ بَسْطِ هَذَا يَقَعُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.

قَوْلُهُ: (فِي نَهَرِ الْحَيَاءِ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالْمَدِّ، وَلِكَرِيمَةَ وَغَيْرِهَا بِالْقَصْرِ، وَبِهِ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ وَعَلَيْهِ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ مَا بِهِ تَحْصُلُ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَا بِالْقَصْرِ هُوَ الْمَطَرُ، وَبِهِ تَحْصُلُ حَيَاةُ النَّبَاتُ، فَهُوَ أَلْيَقُ بِمَعْنَى الْحَيَاةِ مِنَ الْحَيَاءِ الْمَمْدُودِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَجَلِ.

قَوْلُهُ: (الْحِبَّةُ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ: الْحِبَّةُ جَمْعُ بُزورِ النَّبَاتِ وَاحِدَتُهَا حَبَّةٌ بِالْفَتْحِ، وَأَمَّا الْحِبُّ فَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ، وَاحِدَتُهَا حَبَّةٌ بِالْفَتْحِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا فِي الْجَمْعِ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي الْمُنْتَهَى: الْحِبَّةُ بِالْكَسْرِ بُزورُ الصَّحْرَاءِ مِمَّا لَيْسَ بِقُوتٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ وُهَيْبٌ) أَيِ: ابْنُ خَالِدٍ (حَدَّثَنَا عَمْرٌو) أَيِ: ابْنُ يَحْيَى الْمَازِنِيُّ الْمَذْكُورُ.

قَوْلُهُ: (الْحَيَاةِ) بِالْخَفْضِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ وُهَيْبًا وَافَقَ مَالِكًا فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بِسَنَدِهِ، وَجَزَمَ بِقَوْلِهِ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ وَلَمْ يَشُكَّ كَمَا شَكَّ مَالِكٌ.

(فَائِدَةٌ): أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ فَأَبْهَمَ الشَّاكَّ، وَقَدْ يُفَسَّرُ هُنَا

(1)

.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ) هُوَ عَلَى الْحِكَايَةِ أَيْضًا، أَيْ: وَقَالَ وُهَيْبٌ فِي رِوَايَتِهِ: مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ، فَخَالَفَ مَالِكًا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَقَدْ سَاقَ الْمُؤَلِّفُ حَدِيثَ وُهَيْبٍ هَذَا فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ وُهَيْبٍ، وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ مِنْ سِيَاقِ مَالِكٍ ; لَكِنَّهُ قَالَ: مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ كَرِوَايَةِ مَالِكٍ، فَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِهَذَا، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ وُهَيْبٍ، فَقَالَ: مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ كَمَا عَلَّقَهُ الْمُصَنِّفُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مُرَادُهُ لَا لَفْظُ مُوسَى. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ هَذَا، لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَوَجْهُ مُطَابَقَةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرٌ، وَأَرَادَ بِإِيرَادِهِ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ ضَرَرِ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ، وَعَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْمَعَاصِيَ مُوجِبَةٌ لِلْخُلُودِ.

23 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ. قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الدِّينَ.

[الحديث 23 - أطرافه في: 7009، 7008، 3691]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ أَبُو ثَابِتٍ الْمَدَنِيُّ وَأَبُوهُ بِالتَّصْغِيرِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحٍ) هُوَ ابْنِ كَيْسَانَ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ) هُوَ ابْنُ حُنَيْفٍ كَمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَأَبُو أُمَامَةَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ سَمَاعٌ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ لِشَرَفِ الرُّؤْيَةِ، وَمِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ يَكُونُ فِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ أَوْ

(1)

كذا. ولعله: وقد فسر هنا.

ص: 73

تَابِعِيَّانِ وَصَحَابِيَّانِ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَالْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ يَأْتِي فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ، وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ مِنْ جِهَةِ تَأْوِيلِ الْقُمُصِ بِالدِّينِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي لُبْسِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ) أَصْلُ بَيْنَا بَيْنَ ثُمَّ أُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ بَيْنَا بِدُونِ إِذَا وَبِدُونِ إِذْ، وَهُوَ فَصِيحٌ عِنْدَ الْأَصْمَعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةً. وَقَوْلُهُ الثُّدِيَّ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ جَمْعُ ثَدْيٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ وَالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ عِنْدَ مُعْظَمِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَحُكِيَ أَنَّهُ مُؤَنَّثٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُطْلَقُ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَقِيلَ يَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّهُ، وَلَعَلَّ قَائِلَ هَذَا يَدَّعِي أَنَّهُ أُطْلِقَ فِي الْحَدِيثِ مَجَازًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌16 - بَاب الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ

24 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ.

[الحديث 24 - طرفه في: 6118]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) هُوَ مُنَوَّنٌ، وَوَجْهُ كَوْنِ الْحَيَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ تَقَدَّمَ مَعَ بَقِيَّةِ مَبَاحِثِهِ فِي بَابِ أُمُورِ الْإِيمَانِ، وَفَائِدَةُ إِعَادَتِهِ هُنَا أَنَّهُ ذُكِرَ هُنَاكَ بِالتَّبَعِيَّةِ وَهُنَا بِالْقَصْدِ مَعَ فَائِدَةِ مُغَايَرَةِ الطَّرِيقِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ التِّنِّيسِيُّ نَزِيلُ دِمَشْقَ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ سِوَاهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا) وَلِلْأَصِيلِيِّ حَدَّثَنَا مَالِكٌ، وَلِكَرِيمَةَ ابْنِ أَنَسٍ، وَالْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّأِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.

قَوْلُهُ: (مَرَّ عَلَى رَجُلٍ) لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ مَرَّ بِرَجُلٍ وَمَرَّ بِمَعْنَى اجْتَازَ يُعَدَّى بِعَلَى وَبِالْبَاءِ، وَلَمْ أَعْرِفِ اسْمَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ الْوَاعِظِ وَأَخِيهِ. وَقَوْلُهُ يَعِظُ أَيْ يَنْصَحُ أَوْ يُخَوِّفُ أَوْ يُذَكِّرُ، كَذَا شَرَحُوهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُشْرَحَ بِمَا جَاءَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَلَفْظُهُ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحِي، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَعَ لَهُ الْعِتَابَ وَالْوَعْظَ فَذَكَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ، لَكِنَّ الْمَخْرَجُ مُتَّحِدٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرَّاوِي بِحَسَبِ مَا اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ، وَفِي سَبَبِيَّةٌ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ كَثِيرَ الْحَيَاءِ فَكَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنِ اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ، فَعَاتَبَهُ أَخُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَعْهُ أَيِ: اتْرُكْهُ عَلَى هَذَا الْخُلُقِ السُّنِّيِّ، ثُمَّ زَادَهُ فِي ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِحُكْمِهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَإِذَا كَانَ الْحَيَاءُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ جَرَّ لَهُ ذَلِكَ تَحْصِيلَ أَجْرِ ذَلِكَ الْحَقِّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ لَهُ مُسْتَحِقًّا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَيَاءَ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي كَمَا يَمْنَعُ الْإِيمَانَ، فَسُمِّيَ إِيمَانًا كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ مَا قَامَ مَقَامَهُ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ إِطْلَاقَ كَوْنِهِ مِنَ الْإِيمَانِ مَجَازٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّاهِيَ مَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَيَاءَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِيمَانِ، فَلِهَذَا وَقَعَ التَّأْكِيدُ، وَقَدْ يَكُونُ التَّأْكِيدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَضِيَّةَ فِي نَفْسِهَا مِمَّا يُهْتَمُّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنْكَرٌ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْحَيَاءُ انْقِبَاضُ النَّفْسِ عَنِ الْقَبِيحِ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِ لِيَرْتَدِعَ عَنِ ارْتِكَابِ كُلِّ مَا يَشْتَهِي فَلَا يَكُونُ كَالْبَهِيمَةِ. وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ جُبْنٍ وَعِفَّةٍ فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُسْتَحِي فَاسِقًا، وَقَلَّمَا يَكُونُ الشُّجَاعُ مُسْتَحِيًا، وَقَدْ يَكُونُ لِمُطْلَقِ الِانْقِبَاضِ كَمَا فِي بَعْضِ الصِّبْيَانِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ انْقِبَاضُ النَّفْسِ خَشْيَةَ ارْتِكَابِ مَا يُكْرَهُ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ

ص: 74

شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا، وَمُقَابِلُ الْأَوَّلِ فَاسِقٌ وَالثَّانِي مَجْنُونٌ وَالثَّالِثِ أَبْلَهُ. قَالَ: وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ، أَيْ: أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: حَقِيقَةُ الْحَيَاءِ خَوْفُ الذَّمِّ بِنِسْبَةِ الشَّرِّ إِلَيْهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ كَانَ فِي مُحَرَّمٍ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَكْرُوهٍ فَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مُبَاحٍ فَهُوَ الْعُرْفِيُّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ. وَيَجْمَعُ كُلَّ ذَلِكَ أَنَّ الْمُبَاحَ إِنَّمَا هُوَ مَا يَقَعُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: رَأَيْتُ الْمَعَاصِيَ مَذَلَّةً، فَتَرَكْتُهَا مُرُوءَةً، فَصَارَتْ دِيَانَةً. وَقَدْ يَتَوَلَّدُ الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ التَّقَلُّبِ فِي نِعَمِهِ فَيَسْتَحِيي الْعَاقِلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: خَفِ اللَّهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ. وَاسْتَحي مِنْهُ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌17 - بَاب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}

25 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) هُوَ مُنَوَّنٌ فِي الرِّوَايَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا بَابٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا} ، وَتَجُوزُ الْإِضَافَةِ أَيْ: بَابُ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ. وَإِنَّمَا جُعِلَ الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ الرُّجُوعُ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَفَسَّرَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَبَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى ; لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ فِي الْآيَةِ وَالْعِصْمَةَ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِأَبْوَابِ الْإِيمَانِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الرَّدُّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْأَعْمَالِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) زَادَ ابْنُ عَسَاكِرَ الْمُسْنَدِيُّ وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ كَمَا مَضَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ، هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (الْحَرَمِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ حَرَمِيٌّ، وَهُوَ اسْمٌ بِلَفْظِ النَّسَبِ تُثْبَتُ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَتُحْذَفُ، مِثْلُ مَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْآتِي بَعْدُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَبُو رَوْحٍ كُنْيَتُهُ، وَاسْمُهُ ثَابِتٌ وَالْحَرَمِيُّ نِسْبَتُهُ، كَذَا قَالَ. وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي جَعْلِهِ اسْمَهُ نِسْبَتَهُ، وَالثَّانِي فِي جَعْلِهِ اسْمَ جَدِّهِ اسْمَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ وَاسْمُ أَبِي حَفْصَةَ نَابِتٌ

(1)

، وَكَأَنَّهُ رَأَى فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ وَاسْمُهُ نَابِتٌ فَظَنَّ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى حَرَمِيٍّ لِأَنَّهُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى أَبِي حَفْصَةَ لِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وُرُودُهُ فِي هَذَا السَّنَدِ الْحَرَمِيُّ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَلَيْسَ هُوَ مَنْسُوبًا إِلَى الْحَرَمِ بِحَالٍ لِأَنَّهُ بَصْرِيُّ الْأَصْلِ وَالْمَوْلِدِ وَالْمَنْشَأِ وَالْمَسْكَنِ وَالْوَفَاةِ. وَلَمْ يَضْبِطْ نَابِتًا كَعَادَتِهِ وَكَأَنَّهُ ظَنَّهُ بِالْمُثَلَّثَةِ كَالْجَادَّةِ

(2)

وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَوَّلَهُ نُونٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ: يَعْنِي ابْنَ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ، وَهُوَ كَثِيرٌ لَكِنَّ رِوَايَةَ الشَّخْصِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَقَلُّ، وَوَاقِدٌ هُنَا رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّ أَبِيهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبُ الْإِسْنَادِ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدٍ، قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ عَنْ شُعْبَةَ عَزِيزٌ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ عَنْهُ حَرَمِيٌّ هَذَا وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ، وَهُوَ عَزِيزٌ عَنْ حَرَمِيٍّ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ الْمُسْنَدِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، وَمِنْ جِهَةِ إِبْرَاهِيمَ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ غَرِيبٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ

(1)

هو بالنون، وهواسم جد حرمى، وقد بين الحافظ هنا أنه بالنون. وانظر تهذيب التهذيب 232:2.

(2)

كذا

ص: 75

تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، شَيْخُ مُسْلِمٍ، فَاتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ مَعَ غَرَابَتِهِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَلَى سَعَتِهِ. وَقَدِ اسْتَبْعَدَ قَوْمٌ صِحَّتَهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَوْ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ لَمَا تَرَكَ أَبَاهُ يُنَازِعُ أَبَا بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ لَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُقِرُّ عُمَرَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَنْتَقِلُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا النَّصِّ إِلَى الْقِيَاسِ، إِذْ قَالَ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ; لِأَنَّهَا قَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ اسْتَحْضَرَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحْضِرًا لَهُ فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ حَضَرَ الْمُنَاظَرَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ لَهُمَا بَعْدُ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِالْقِيَاسِ فَقَطْ، بَلْ أَخَذَهُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالزَّكَاةُ حَقُّ الْإِسْلَامِ. وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. بَلْ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا بِزِيَادَةِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.

وَفِي الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تَخْفَى عَلَى بَعْضِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا آحَادُهُمْ، وَلِهَذَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَى الْآرَاءِ وَلَوْ قَوِيَتْ مَعَ وُجُودِ سُنَّةٍ تُخَالِفُهَا، وَلَا يُقَالُ كَيْفَ خَفِيَ ذَا عَلَى فُلَانٍ؟ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (أُمِرْتُ) أَيْ: أَمَرَنِي اللَّهُ ; لِأَنَّهُ لَا آمِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا اللَّهُ، وَقِيَاسُهُ فِي الصَّحَابِيِّ إِذَا قَالَ أُمِرْتُ، فَالْمَعْنَى أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَمَرَنِي صَحَابِيٌّ آخَرُ لِأَنَّهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ لَا يَحْتَجُّونَ بِأَمْرِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ، وَإِذَا قَالَهُ التَّابِعِيُّ احْتُمِلَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنِ اشْتَهَرَ بِطَاعَةِ رَئِيسٍ إِذَا قَالَ ذَلِكَ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْآمِرَ لَهُ هُوَ ذَلِكَ الرَّئِيسُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ أُقَاتِلَ) أَيْ: بِأَنْ أُقَاتِلَ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مِنْ أَنْ كَثِيرٌ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَشْهَدُوا) جُعِلَتْ غَايَةُ الْمُقَاتَلَةِ وُجُودَ مَا ذُكِرَ، فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَنْ شَهِدَ وَأَقَامَ وَآتَى عُصِمَ دَمُهُ وَلَوْ جَحَدَ بَاقِيَ الْأَحْكَامِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ تَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ بِمَا جَاءَ بِهِ، مَعَ أَنَّ نَصَّ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَكْتَفِ بِهِ وَنَصَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِعِظَمِهِمَا وَالِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِمَا ; لِأَنَّهُمَا أُمَّا الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) أَيْ: يُدَاوِمُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا بِشُرُوطِهَا، مِنْ قَامَتِ السُّوقُ إِذَا نَفَقَتْ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ إِذَا اشْتَدَّ الْقِتَالُ. أَوِ الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الْأَدَاءُ - تَعْبِيرًا عَنِ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ - إِذِ الْقِيَامُ بَعْضُ أَرْكَانِهَا. وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضُ مِنْهَا، لَا جِنْسُهَا، فَلَا تَدْخُلْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ مَثَلًا وَإِنْ صَدَقَ اسْمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا. وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا يُقْتَلُ. ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ. وَسُئِلَ الْكِرْمَانِيُّ هُنَا عَنْ حُكْمِ تَارِكِ الزَّكَاةِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْغَايَةِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ فِي الْمُقَاتَلَةِ، أَمَّا فِي الْقَتْلِ فَلَا. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ يُمْكِنُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ قَهْرًا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنِ انْتَهَى إِلَى نَصْبِ الْقِتَالِ لِيَمْنَعَ الزَّكَاةِ قُوتِلَ، وَبِهَذِهِ الصُّورَةِ قَاتَلَ الصِّدِّيقُ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَتَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ صَبْرًا. وَعَلَى هَذَا فَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ نَظَرٌ ; لِلْفَرْقِ بَيْنَ صِيغَةِ أُقَاتِلُ وَأَقْتُلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ أَطْنَبَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ إِبَاحَةِ الْمُقَاتَلَةِ إِبَاحَةُ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ مُفَاعَلَةٌ تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الْقِتَالِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا كَذَلِكَ الْقَتْلُ. وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْقِتَالُ مِنَ الْقَتْلِ بِسَبِيلٍ، قَدْ يَحِلُّ قِتَالُ الرَّجُلِ وَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ) فِيهِ التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ عَمَّا بَعْضُهُ قَوْلٌ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَإِمَّا عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ، إِذِ الْقَوْلُ فِعْلُ اللِّسَانِ.

قَوْلُهُ: (عَصَمُوا) أَيْ: مَنَعُوا، وَأَصْلُ الْعِصْمَةِ

ص: 76

مِنَ الْعِصَامِ وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ فَمُ الْقِرْبَةِ لِيَمْنَعَ سَيَلَانَ الْمَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) أَيْ: فِي أَمْرِ سَرَائِرِهِمْ، وَلَفْظَةُ عَلَى مُشْعِرَةٌ بِالْإِيجَابِ، وَظَاهِرُهَا غَيْرُ مُرَادٍ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى اللَّامِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ، أَيْ: هُوَ كَالْوَاجِبِ عَلَى اللَّهِ فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْحُكْمِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ، وَالِاكْتِفَاءُ فِي قَبُولِ الْإِيمَانِ بِالِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ تَعَلُّمَ الْأَدِلَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَرْكُ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُقِرِّينَ بِالتَّوْحِيدِ الْمُلْتَزِمِينَ لِلشَّرَائِعِ، وَقَبُولُ تَوْبَةِ الْكَافِرِ مِنْ كُفْرِهِ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ كُفْرٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ. فَإِنْ قِيلَ: مُقْتَضَى الْحَدِيثِ قِتَالُ كُلِّ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّوْحِيدِ، فَكَيْفَ تُرِكَ قِتَالُ مُؤَدِّي الْجِزْيَةِ وَالْمُعَاهَدِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: دَعْوَى النَّسْخِ بِأَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ حُصُولُ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا تَخَلَّفَ الْبَعْضُ لِدَلِيلٍ لَمْ يَقْدَحْ فِي الْعُمُومِ.

ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: أُقَاتِلَ النَّاسَ أَيِ: الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا تَمَّ هَذَا فِي أَهْلِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَتِمَّ فِي الْمُعَاهَدِينَ وَلَا فِيمَنْ مَنَعَ الْجِزْيَةَ، أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ فِي تَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ رَفْعُهَا لَا تَأْخِيرُهَا مُدَّةً كَمَا فِي الْهُدْنَةِ، وَمُقَاتَلَةُ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ بِدَلِيلِ الْآيَةِ.

رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا التَّعْبِيرَ عَنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِذْعَانَ الْمُخَالِفِينَ، فَيَحْصُلُ فِي بَعْضٍ بِالْقَتْلِ، وَفِي بَعْضٍ بِالْجِزْيَةِ، وَفِي بَعْضٍ بِالْمُعَاهَدَةِ.

خَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقِتَالِ هُوَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، مِنْ جِزْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. سَادِسُهَا: أَنْ يُقَالَ الْغَرَضُ مِنْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ اضْطِرَارُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يَلْتَزِمُوا مَا يُؤَدِّيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا أَحْسَنُ، وَيَأْتِي فِيهِ مَا فِي الثَّالِثِ، وَهُوَ آخِرُ الْأَجْوِبَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌18 - بَاب مَنْ قَالَ إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}

26 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ.

[الحديث 26 - طرفه في: 1519]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَالَ) هُوَ مُضَافٌ حَتْمًا.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ) مُطَابَقَةُ الْآيَاتِ وَالْحَدِيثِ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَالٌّ بِمُفْرَدِهِ عَلَى بَعْضِ الدَّعْوَى، فَقَوْلُهُ:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} عَامٌّ فِي الْأَعْمَالِ، وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا:{تَعْمَلُونَ} مَعْنَاهُ تُؤْمِنُونَ، فَيَكُونُ خَاصًّا. وَقَوْلُهُ:{عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} خَاصٌّ بِعَمَلِ اللِّسَانِ عَلَى مَا نَقَلَ الْمُؤَلِّفُ. وَقَوْلُهُ: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} عَامٌّ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ فِي جَوَابِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ وَالنُّطْقَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَالْحَجَّ لَيْسَا مِنَ الْإِيمَانِ لِمَا تَقْتَضِيهِ ثُمَّ من الْمُغَايَرَةِ وَالتَّرْتِيبِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ هُنَا التَّصْدِيقُ، هَذِهِ حَقِيقَتُهُ، وَالْإِيمَانُ كَمَا تَقَدَّمَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ لِأَنَّهَا مِنْ مُكَمِّلَاتِهِ.

قَوْلُهُ: {أُورِثْتُمُوهَا}

ص: 77

أَيْ: صُيِّرَتْ لَكُمْ إِرْثًا. وَأَطْلَقَ الْإِرْثَ مَجَازًا عَنِ الْإِعْطَاءِ لِتَحَقُّقِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ {بِمَا} إِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِعَمَلِكُمْ، وَإِمَّا مَوْصُولَةٌ، أَيْ: بِالَّذِي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَوْ لِلْمُقَابَلَةِ

(1)

. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَحَدِيثِ: لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي الْحَدِيثِ دُخُولُهَا بِالْعَمَلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْقَبُولِ، وَالْمُثْبَتَ فِي الْآيَةِ دُخُولُهَا بِالْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، وَالْقَبُولُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، فَلَمْ يَحْصُلِ الدُّخُولُ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ إِيرَادِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

(تَنْبِيهٌ): اخْتَلَفَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ لَفْظَ مِنْ مُرَادٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقِيلَ وَقَعَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ فَأُجِيبَ كُلُّ سَائِلٍ بِالْحَالِ اللَّائِقِ بِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْحَلِيمِيِّ وَنَقَلَهُ عَنِ الْقَفَّالِ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ عِدَّةٌ) أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَوَيْنَا حَدِيثَهُ مَرْفُوعًا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَمِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ رَوَيْنَا حَدِيثَهُ فِي التَّفْسِيرِ لِلطَّبَرِيِّ، وَالدُّعَاءِ لِلطَّبَرَانِيِّ. وَمِنْهُمْ مُجَاهِدٌ رَوَيْنَاهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ} إِلَخْ) قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ عَنْ أَعْمَالِهِمْ كُلِّهَا، أَيِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّكْلِيفُ، وَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالتَّوْحِيدِ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ. قُلْتُ: لِتَخْصِيصِهِمْ وَجْهٌ مِنْ جِهَةِ التَّعْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: {أَجْمَعِينَ} بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكُفَّارِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، فَإِنَّ الْكَافِرَ مُخَاطَبٌ بِالتَّوْحِيدِ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ بَاقِي الْأَعْمَالِ فَفِيهَا الْخِلَافُ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ عَنِ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ يَقُولُ: إِنَّمَا يُسْأَلُونَ عَنِ التَّوْحِيدِ فَقَطْ، فَالسُّؤَالُ عَنِ التَّوْحِيدِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَهَذَا هُوَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْحَمْلِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ) أَيِ: اللَّهُ عز وجل {لِمِثْلِ هَذَا} أَيِ: الْفَوْزِ الْعَظِيمِ، {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَأَوَّلَهَا بِمَا تَأَوَّلَ بِهِ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، أَيْ: فَلْيُؤْمِنِ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يُحْمَلُ الْعَمَلُ عَلَى عُمُومِهِ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ لَا بُدَّ أَنْ يَقْبَلَ

(2)

، وَمَنْ قَبِلَ فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَعْمَلَ، وَمَنْ عَمِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَ، فَإِذَا وَصَلَ قَالَ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ. (تَنْبِيهٌ): يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي رَأَى قَرِينَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ انْقَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ:{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وَالَّذِي بَعْدَهُ ابْتِدَاءٌ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل أَوْ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ، لَا حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِ. وَالِاحْتِمَالَاتُ الثَّلَاثَةُ مَذْكُورَةٌ فِي التَّفْسِيرِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِبْهَامِ الْمُصَنِّفِ الْقَائِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ الْيَرْبُوعِيُّ الْكُوفِيُّ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (سُئِلَ) أَبْهَمَ السَّائِلَ، وَهُوَ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، وَحَدِيثُهُ فِي الْعِتْقِ

(3)

.

قَوْلُهُ: (قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ) وَقع فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بن أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ثُمَّ جِهَادٌ فَوَاخَى بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فِي التَّنْكِيرِ، بِخِلَافِ مَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْإِيمَانُ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْحَجِّ، وَالْجِهَادُ قَدْ يَتَكَرَّرُ، فَالتَّنْوِينُ لِلْإِفْرَادِ الشَّخْصِيِّ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْكَمَالِ. إِذِ الْجِهَادُ لَوْ أَتَى بِهِ مَرَّةً مَعَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّكْرَارِ لَمَا كَانَ أَفْضَلَ. وَتُعُقِّبَ عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّنْكِيرَ مِنْ جُمْلَةِ وُجُوهِهِ التَّعْظِيمُ، وَهُوَ يُعْطِي الْكَمَالَ. وَبِأَنَّ التَّعْرِيفَ مِنْ جُمْلَةِ وُجُوهِهِ الْعَهْدُ، وَهُوَ يُعْطِي الْإِفْرَادَ الشَّخْصِيِّ، فَلَا يُسَلَّمُ الْفَرْقُ. قُلْتُ: وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا أَنَّ التَّنْكِيرَ وَالتَّعْرِيفَ فِيهِ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ ; لِأَنَّ مَخْرَجَهُ وَاحِدٌ، فَالْإِطَالَةُ فِي طَلَبِ الْفَرْقِ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ طَائِلَةٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ) أَيْ مَقْبُولٌ، وَمِنْهُ بَرَّ حَجُّكُ، وَقِيلَ الْمَبْرُورُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ إِثْمٌ، وَقِيلَ الَّذِي

(1)

الصواب أن الباء هنا للسببية، بخلاف الباء في حديث "لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله" فإنها للعوض والمقابلة

(2)

أي لابد أن يقبل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لايتم إيمانه الا بذلك.

(3)

برقم 2518

ص: 78

لَا رِيَاءَ فِيهِ.

(فَائِدَةٌ): قَالَ النَّوَوِيُّ: ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجِهَادَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ وَذَكَرَ الْعِتْقَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ الْبِرِّ ثُمَّ الْجِهَادِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ذَكَرَ السَّلَامَةَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: اخْتِلَافُ الْأَجْوِبَةِ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَاحْتِيَاجِ الْمُخَاطَبِينَ، وَذَكَرَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ السَّائِلُ وَالسَّامِعُونَ وَتَرَكَ مَا عَلِمُوهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لَفْظَةَ مِنْ مُرَادَةٌ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ أَعْقَلُ النَّاسِ وَالْمُرَادُ مِنْ أَعْقَلِهِمْ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ خَيْرَ النَّاسِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَدَّمَ الْجِهَادَ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ عَلَى الْحَجِّ وَهُوَ رُكْنٌ؟ فَالْجَوَابُ: إنَّ نَفْعَ الْحَجِّ قَاصِرٌ غَالِبًا، وَنَفْعَ الْجِهَادِ مُتَعَدٍّ غَالِبًا، أَوْ كَانَ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ - وَوُقُوعُهُ فَرْضَ عَيْنٍ إِذْ ذَاكَ مُتَكَرِّرٌ - فَكَانَ أَهَمَّ مِنْهُ فَقُدِّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌19 - بَاب إِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ أَوْ الْخَوْفِ مِنْ الْقَتْلِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}

27 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنا عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى رَهْطًا - وَسَعْدٌ جَالِسٌ - فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا. فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا. ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: يَا سَعْدُ، إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ. وَرَوَاهُ يُونُسُ، وَصَالِحٌ، وَمَعْمَرٌ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

[الحديث 27 - طرفه في: 1478]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ) حَذَفَ جَوَابَ قَوْلِهِ إِذَا لِلْعِلْمِ بِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ كَذَلِكَ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ.

وَمُحَصَّلُ مَا ذَكَرَهُ وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهُوَ الَّذِي يُرَادِفُ الْإِيمَانَ وَيَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ وَهُوَ مُجَرَّدُ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ، فَالْحَقِيقَةُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا هِيَ الشَّرْعِيَّةُ، وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُسْلِمَ يُطْلَقَ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بَاطِنُهُ، فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ تَصْدُقْ عَلَيْهِ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَأَمَّا اللُّغَوِيَّةُ فَحَاصِلَةٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعْدٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ، وَهُوَ وَالِدُ عَامِرٍ الرَّاوِي عَنْهُ، كَمَا وَقَعَ فِي الزَّكَاةِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ فِيهَا: عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ وَاسْمُ أَبِي وَقَّاصٍ مَالِكٌ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ نَسَبِهِ فِي مَنَاقِبِ سَعْدٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَعْطَى رَهْطًا) الرَّهْطُ عَدَدٌ مِنَ الرِّجَالِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، قَالَ الْقَزَّازُ: وَرُبَّمَا جَاوَزُوا ذَلِكَ قَلِيلًا، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَرَهْطُ الرَّجُلِ بَنُو أَبِيهِ الْأَدْنَى، وَقِيلَ قَبِيلَتُهُ. وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّهُ جَاءَهُ رَهْطٌ فَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ فَتَرَكَ رَجُلًا مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَسَعْدٌ جَالِسٌ) فِيهِ تَجْرِيدٌ، وَقَوْلُهُ: أَعْجَبَهُمْ إِلَيَّ فِيهِ الْتِفَاتٌ،

ص: 79

وَلَفْظُهُ فِي الزَّكَاةِ أَعْطَى رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فَسَاقَهُ بِلَا تَجْرِيدٍ وَلَا الْتِفَاتٍ، وَزَادَ فِيهِ فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَارَرْتُهُ.

وَغَفَلَ بَعْضُهُمْ فَعَزَا هَذِهِ الزِّيَادَةَ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَطْ، وَالرَّجُلُ الْمَتْرُوكُ اسْمُهُ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ الضَّمْرِيُّ، سَمَّاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (مَالَكٌ عَنْ فُلَانٍ) يَعْنِي أَيُّ سَبَبٍ لِعُدُولِكَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ؟ وَلَفْظُ فُلَانٍ كِنَايَةٌ عَنِ اسْمٍ أُبْهِمَ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ.

قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ) فِيهِ الْقَسَمُ فِي الْإِخْبَارِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ.

قَوْلُهُ: (لَأُرَاهُ) وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ هُنَا وَفِي الزَّكَاةِ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ رحمه الله: بَلْ هُوَ بِفَتْحِهَا أَيْ أَعْلَمُهُ، وَلَا يَجُوزُ ضَمُّهَا فَيَصِيرُ بِمَعْنَى أَظُنُّهُ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، اهـ. وَلَا دَلَالَةَ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى تَعَيُّنِ الْفَتْحِ لِجَوَازِ إِطْلَاقِ الْعِلْمِ عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الْعِلْمِ أَنْ لَا تَكُونَ مُقَدِّمَاتُهُ ظَنِّيَّةً فَيَكُونَ نَظَرِيًّا لَا يَقِينِيًّا وَهُوَ الْمُمْكِنُ هُنَا، وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: الرِّوَايَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ جَوَازَ الْحَلِفِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا نَهَاهُ عَنِ الْحَلِفِ، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى ; لِأَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى وِجْدَانِ الظَّنِّ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يُقْسِمْ عَلَى الْأَمْرِ الْمَظْنُونِ كَمَا ظُنَّ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا) هُوَ بِإِسْكَانِ الْوَاوِ لَا بِفَتْحِهَا، فَقِيلَ هِيَ لِلتَّنْوِيعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ لِلتَّشْرِيكِ، وَأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهُمَا مَعًا لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، وَيَرُدُّ هَذَا رِوَايَةَ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فِي مُعْجَمِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَا تَقُلْ مُؤْمِنٌ بَلْ مُسْلِمٌ فَوَضَحَ أَنَّهَا لِلْإِضْرَابِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارَ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ إِطْلَاقَ الْمُسْلِمِ عَلَى مَنْ لَمْ يُخْتَبَرْ حَالُهُ الْخِبْرَةَ الْبَاطِنَةَ أَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِ الْمُؤْمِنِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَعْلُومٌ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، قَالَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ مُلَخَّصًا. وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْحَدِيثُ دَالًّا عَلَى مَا عُقِدَ لَهُ الْبَابُ، وَلَا يَكُونَ لِرَدِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَعْدٍ فَائِدَةٌ. وَهُوَ تَعَقُّبٌ مَرْدُودٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالتَّرْجَمَةِ قَبْلُ، وَمُحَصَّلُ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوسِعُ الْعَطَاءَ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ تَأَلُّفًا، فَلَمَّا أَعْطَى الرَّهْطَ وَهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ وَتَرَكَ جُعَيْلًا وَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ سَأَلُوهُ، خَاطَبَهُ سَعْدٌ فِي أَمْرِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ جُعَيْلًا أَحَقُّ مِنْهُمْ لِمَا اخْتَبَرَهُ مِنْهُ دُونَهُمْ، وَلِهَذَا رَاجَعَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، فَأَرْشَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِعْلَامُهُ بِالْحِكْمَةِ فِي إِعْطَاءِ أُولَئِكَ وَحِرْمَانِ جُعَيْلٍ مَعَ كَوْنِهِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّنْ أَعْطَى ; لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ إِعْطَاءَ الْمُؤَلَّفِ لَمْ يُؤْمَنِ ارْتِدَادُهُ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

ثَانِيهُمَا: إِرْشَادُهُ إِلَى التَّوَقُّفِ عَنِ الثَّنَاءِ بِالْأَمْرِ الْبَاطِنِ دُونَ الثَّنَاءِ بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ، فَوَضَحَ بِهَذَا فَائِدَةُ رَدِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَعْدٍ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مَحْضَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ أَحَدُ الْجَوَابَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمَشُورَةِ بِالْأَوْلَى، وَالْآخَرُ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِذَارِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ سَعْدٍ، لِجُعَيْلٍ بِالْإِيمَانِ، وَلَوْ شَهِدَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ لَقُبِلَ مِنْهُ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَ سَعْدٍ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ لَهُ وَالتَّوَسُّلِ فِي الطَّلَبِ لِأَجْلِهِ، فَلِهَذَا نُوقِشَ فِي لَفْظِهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَمَا اسْتَلْزَمَتِ الْمَشُورَةُ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ الْأَوْلَى رَدَّ شَهَادَتِهِ، بَلِ السِّيَاقُ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّهُ قَبِلَ قَوْلِهِ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ. وَرَوَيْنَا فِي مُسْنَدِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: كَيْفَ تَرَى جُعَيْلًا؟ قَالَ قُلْتُ: كَشَكْلِهِ مِنَ النَّاسِ، يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ: فَكَيْفَ تَرَى فُلَانًا؟ قَالَ: قُلْتُ: سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ النَّاسِ. قَالَ: فَجُعَيْلٌ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ فُلَانٍ. قَالَ: قُلْتُ: فَفُلَانٌ هَكَذَا وَأَنْتَ تَصْنَعُ بِهِ مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: إِنَّهُ رَأْسُ قَوْمِهِ، فَأَنَا أَتَأَلَّفُهُمْ بِهِ. فَهَذِهِ مَنْزِلَةُ جُعَيْلٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَرَى، فَظَهَرَتْ بِهَذَا الْحِكْمَةُ فِي حِرْمَانِهِ وَإِعْطَاءِ غَيْرِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ حَقِيقَتَيِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَتَرْكِ الْقَطْعِ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ لِمَنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْعُ الْقَطْعِ بِالْجَنَّةِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا صَرِيحًا وَإِنْ تَعَرَّضَ لَهُ بَعْضُ

ص: 80

الشَّارِحِينَ. نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ النَّصُّ، وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ فِي اكْتِفَائِهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِنُطْقِ اللِّسَانِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَصَرُّفِ الْإِمَامِ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ وَتَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ وَإِنْ خَفِيَ وَجْهُ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الرَّعِيَّةِ. وَفِيهِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ فِيمَا يَعْتَقِدُ الشَّافِعُ جَوَازَهُ، وَتَنْبِيهُ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ عَلَى مَا يَظُنُّ أَنَّهُ ذَهِلَ عَنْهُ، وَمُرَاجَعَةُ الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ فِي الْأَمْرِ إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى مَفْسَدَةٍ، وَأَنَّ الْإِسْرَارَ بِالنَّصِيحَةِ أَوْلَى مِنَ الْإِعْلَانِ كَمَا سَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَسَارَرْتُهُ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ إِذَا جَرَّ الْإِعْلَانُ إِلَى مَفْسَدَةٍ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أُشِيرَ عَلَيْهِ بِمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُشِيرُ مَصْلَحَةً لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، بَلْ يُبَيَّنُ لَهُ وَجْهُ الصَّوَابِ. وَفِيهِ الِاعْتِذَارُ إِلَى الشَّافِعِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تَرْكِ إِجَابَتِهِ، وَأَنْ لَا عَيْبَ عَلَى الشَّافِعِ إِذَا رُدَّتْ شَفَاعَتُهُ لِذَلِكَ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَرْكِ الْإِلْحَاحِ فِي السُّؤَالِ كَمَا اسْتَنْبَطَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْهُ فِي الزَّكَاةِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ) حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ: أَيَّ عَطَاءٍ كَانَ.

قَوْلُهُ: (أَعْجَبُ إِلَيَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَحَبُّ وَكَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ وَمَا أُعْطِيهِ إِلَّا مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ إِلَخْ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ إِنِّي أُعْطِي رِجَالًا، وَأَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُمْ لَا أُعْطِيهِ شَيْئًا، مَخَافَةَ أَنْ يُكَبُّوا فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَكُبَّهُ) هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْكَافِ يُقَالُ: أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا أَطْرَقَ، وَكَبَّهُ غَيْرُهُ إِذَا قَلَبَهُ، وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاس لِأَنَّ الْفِعْلَ اللَّازِمَ يَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وَهَذَا زِيدَتْ عَلَيْهِ الْهَمْزَةُ فَقُصِرَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، فَقَالَ: يُقَالُ أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أَحَدٍ، فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ قُلْتُ: كَبَّهُ وَكَبَبْتُهُ. وَجَاءَ نَظِيرُ هَذَا فِي أَحْرُفٍ يَسِيرَةٍ مِنْهَا: أَنْسَلَ رِيشُ الطَّائِرِ وَنَسْلْتُهُ، وَأَنْزَفَتِ الْبِئْرُ وَنَزَفْتُهَا، وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمُتَعَدِّي كَبَّهُ وَأَكَبَّهُ مَعًا.

(تَنْبِيهٌ): لَيْسَ فِيهِ إِعَادَةُ السُّؤَالِ ثَانِيًا وَلَا الْجَوَابُ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَرِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ جَمِيعًا عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدٍ آخَرَ قَالَ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَنَقَلَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ خَطَأٌ مِنْ رَاوِيهِ وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْهُمَا.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ يُونُسُ) يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ الْأَيْلِيَّ، وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ الزُّهْرِيِّ الْمُلَقَّبِ رُسْتَهْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَقَبْلَ الْهَاءِ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقُ مَفْتُوحَةٌ، وَلَفْظُهُ قَرِيبٌ مِنْ سِيَاقِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، لَيْسَ فِيهِ إِعَادَةُ السُّؤَالِ ثَانِيًا وَلَا الْجَوَابُ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَصَالِحٌ) يَعْنِي ابْنَ كَيْسَانَ، وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. وَفِيهِ مِنِ اللَّطَائِفِ رِوَايَةُ ثَلَاثَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَهُمْ صَالِحٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَامِرٌ.

قَوْلُهُ: (وَمَعْمَرٌ) يَعْنِي ابْنَ رَاشِدٍ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْحُمَيْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ أَعَادَ السُّؤَالَ ثَلَاثًا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَوَقَعَ فِي إِسْنَادِهِ وَهْمٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ شَيْخِهِ ; لِأَنَّ مُعْظَمَ الرِّوَايَاتِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَانِيدِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِزِيَادَةِ مَعْمَرٍ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا حَدَّثَ بِهِ ابْنُ أَبِي عُمَرَ شَيْخُ مُسْلِمٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَزَعَمَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْوَهْمَ مِنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ الْوَهْمُ صَدَرَ مِنْهُ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ مُسْلِمًا، لَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنِ الْوَهْمُ فِي جِهَتِهِ، وَحَمَلَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ حَدَّثَ بِهِ مَرَّةً بِإِسْقَاطِ مَعْمَرٍ وَمَرَّةً بِإِثْبَاتِهِ، وَفِيهِ بُعْدٌ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ قَدْ تَضَافَرَتْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِإِثْبَاتِ مَعْمَرٍ، وَلَمْ يُوجَدْ بِإِسْقَاطِهِ إِلَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْمَوْجُودُ فِي مُسْنَدِ شَيْخِهِ بِلَا إِسْقَاطٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي كِتَابِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ، وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يُخَالِفُهُ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الزُّهْرِيِّ أَنَّ الْمَرْءَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ

ص: 81

وَيُسَمَّى مُسْلِمًا إِذَا تَلَفَّظَ بِالْكَلِمَةِ - أَيْ: كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ - وَأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا إِلَّا بِالْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ يَشْمَلُ عَمَلَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فَهُوَ الشَّرْعِيُّ الْكَامِلُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} قَوْلُهُ: (وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) يَعْنِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورِينَ رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ كَمَا رَوَاهُ شُعَيْبٌ عَنْهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ مَوْصُولٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَسَاقَ فِيهِ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ رِوَايَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ عَلَى الْوِلَاءِ هُوَ وَعَمُّهُ وَعَامِرٌ وَأَبُوهُ.

‌20 - بَاب إِفْشَاءُ السَّلَامِ مِنْ الْإِسْلَامِ،

وَقَالَ عَمَّارٌ: ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ: الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ، وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ.

28 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) هُوَ مُنَوَّنٌ. وَقَوْلُهُ: (السَّلَامُ مِنَ الْإِسْلَامِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: إِفْشَاءَ السَّلَامِ وَالْمُرَادُ بِإِفْشَائِهِ نَشْرُهُ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلْمَرْفُوعِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ. وَبَيَانُ كَوْنِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِطْعَامِ الطَّعَامِ مَعَ بَقِيَّةَ فَوَائِدِهِ. وَغَايَرَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ شَيْخَيْهِ اللَّذَيْنِ حَدَّثَاهُ عَنِ اللَّيْثِ مُرَاعَاةً لِلْإِتْيَانِ بِالْفَائِدَةِ الْإِسْنَادِيَّةِ وَهِيَ تَكْثِيرُ الطُّرُقِ حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَةِ الْمَتْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُعِيدُ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ فِي مَوْضِعَيْنِ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْمَعَ الْحُكْمَيْنِ فِي تَرْجَمَةٍ وَاحِدَةٍ وَيُخَرِّجَ الْحَدِيثَ عَنْ شَيْخَيْهِ مَعًا، أَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ شَيْخَيْهِ أَوْرَدَهُ فِي مَعْرِضِ غَيْرِ الْمَعْرِضِ الْآخَرِ، وَهَذَا لَيْسَ بِطَائِلٍ ; لِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ثُبُوتِ وُجُودِ تَصْنِيفٍ مُبَوَّبٍ لِكُلٍّ مِنْ شَيْخَيْهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ; وَلِأَنَّ مَنِ اعْتَنَى بِتَرْجَمَةِ كُلٍّ مِنْ قُتَيْبَةَ، وَعَمْرِو بْنِ خَالِدٍ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصْنِيفًا عَلَى الْأَبْوَابِ ; وَلِأَنَّهُ لَزِمَ مِنْهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ يُقَلِّدُ فِي التَّرَاجِمِ، وَالْمَعْرُوفُ الشَّائِعُ عَنْهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَنْبِطُ الْأَحْكَامَ فِي الْأَحَادِيثِ وَيُتَرْجِمُ لَهَا وَيَتَفَنَّنُ فِي ذَلِكَ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ; وَلِأَنَّهُ يَبْقَى السُّؤَالُ بِحَالِهِ إِذْ لَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا الْمُصَنِّفُ، وَلَوْ كَانَ سَمِعَهُمَا مُفْتَرِقَيْنِ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يَقْصِدُ تَعْدِيدَ شُعَبِ الْإِيمَانِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَخَصَّ كُلَّ شُعْبَةٍ بِبَابٍ تَنْوِيهًا بِذِكْرِهَا، وَقَصْدُ التَّنْوِيهِ يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْكِيدِ فَلِذَلِكَ غَايَرَ بَيْنَ التَّرْجَمَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَمَّارٌ) هُوَ ابْنُ يَاسِرٍ، أَحَدُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَأَثَرُهُ هَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرُهُمَا، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ عَمَّارٍ، وَلَفْظُ شُعْبَةَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَهُوَ بِالْمَعْنَى، وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي جَامِعِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وَكَذَا حَدَّثَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، وَحَدَّثَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِأُخْرَةٍ فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَذَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ، كِلَاهُمَا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ، وَكَذَا رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ كَعْبٍ الْوَاسِطِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي مُعْجَمِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ الصَّنْعَانِيِّ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مَرْفُوعًا.

ص: 82

وَاسْتَغْرَبَهُ الْبَزَّارُ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: هُوَ خَطَأٌ.

قُلْتُ: وَهُوَ مَعْلُولٌ مِنْ حَيْثُ صِنَاعَةُ الْإِسْنَادِ ; لِأَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ تَغَيَّرَ بِأَخِرَةٍ، وَسَمَاعُ هَؤُلَاءِ مِنْهُ فِي حَالِ تَغَيُّرِهِ، إِلَّا أَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمَّارٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخْرَى بَيَّنْتُهَا فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثٌ) أَيْ: ثَلَاثُ خِصَالٍ، وَإِعْرَابُهُ نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَالْعَالَمُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا جَمِيعُ النَّاسِ، وَالْإِقْتَارُ الْقِلَّةُ، وَقِيلَ الِافْتِقَارُ، وَعَلَى الثَّانِي فَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْإِقْتَارِ بِمَعْنَى مَعَ، أَوْ بِمَعْنَى عِنْدَ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ بْنُ سِرَاجٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا كَانَ مَنْ جَمَعَ الثَّلَاثِ مُسْتَكْمِلًا لِلْإِيمَانِ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا اتَّصَفَ بِالْإِنْصَافِ لَمْ يَتْرُكْ لِمَوْلَاهُ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ إِلَّا أَدَّاهُ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا نَهَاهُ عَنْهُ إِلَّا اجْتَنَبَهُ، وَهَذَا يَجْمَعُ أَرْكَانَ الْإِيمَانِ. وَبَذْلُ السَّلَامِ يَتَضَمَّنُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالتَّوَاضُعَ وَعَدَمَ الِاحْتِقَارِ، وَيَحْصُلُ بِهِ التَّآلُفُ وَالتَّحَابُبُ، وَالْإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ يَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْكَرَمِ لِأَنَّهُ إِذَا أَنْفَقَ مِنَ الِاحْتِيَاجِ كَانَ مَعَ التَّوَسُّعِ أَكْثَرَ إِنْفَاقًا، وَالنَّفَقَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْعِيَالِ وَاجِبَةً وَمَنْدُوبَةً، أَوْ عَلَى الضَّيْفِ وَالزَّائِرِ، وَكَوْنُهُ مِنَ الْإِقْتَارِ يَسْتَلْزِمُ الْوُثُوقَ بِاللَّهِ وَالزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَقِصَرَ الْأَمَلِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مُهِمَّاتِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُقَوِّي أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا ; لِأَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌21 - بَاب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ،

فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

29 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ. قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ.

[الحديث 29 - أطرافه في: 5197، 3202، 1052، 748، 431]

قَوْلُهُ: (بَابُ كُفْرَانِ الْعَشِيرِ، وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِهِ: مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الطَّاعَاتِ كَمَا تُسَمَّى إِيمَانًا كَذَلِكَ الْمَعَاصِي تُسَمَّى كُفْرًا، لَكِنْ حَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا الْكُفْرُ لَا يُرَادُ الْكُفْرُ الْمُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ. قَالَ: وَخَصَّ كُفْرَانَ الْعَشِيرِ مِنْ بَيْنَ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ لِدَقِيقَةٍ بَدِيعَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا. فَقَرَنَ حَقَّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ بِحَقِّ اللَّهِ، فَإِذَا كَفَرَتِ الْمَرْأَةُ حَقَّ زَوْجِهَا - وَقَدْ بَلَغَ مِنْ حَقِّهِ عَلَيْهَا هَذِهِ الْغَايَةَ - كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَهَاوُنِهَا بِحَقِّ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا الْكُفْرُ لَكِنَّهُ كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِأُمُورِ الْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْكُفْرِ ضِدَّ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ فَأَشَارَ إِلَى أَثَرٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: فِيهِ أَبُو سَعِيدٍ أَيْ: يَدْخُلُ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَيْ: مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ طَرِيقًا غَيْرَ الطَّرِيقِ الْمُسَاقَةِ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ، وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ: تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ.

فَقُلْنَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، الْحَدِيثَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا: لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْمَذْكُورُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَجْرَى

ص: 83

عَلَى مَأْلُوفِ الْمُصَنِّفِ، وَيُعَضِّدُهُ إِيرَادُهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَالْعَشِيرُ الزَّوْجُ، قِيلَ لَهُ عَشِيرٌ بِمَعْنَى مُعَاشِرٍ مِثْلُ أَكِيلٍ بِمَعْنَى مُؤَاكِلٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي ب ابِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ تَامًّا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ ثَمَّ.

وَنُنَبِّهُ هُنَا عَلَى فَائِدَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْبُخَارِيَّ يَذْهَبُ إِلَى جَوَازِ تَقْطِيعِ الْحَدِيثِ، إِذَا كَانَ مَا يَفْصِلُهُ مِنْهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ وَلَا بِمَا بَعْدَهُ تَعَلُّقًا يُفْضِي إِلَى فَسَادِ الْمَعْنَى، فَصَنِيعُهُ كَذَلِكَ يُوهِمُ مَنْ لَا يَحْفَظُ الْحَدِيثَ أَنَّ الْمُخْتَصَرَ غَيْرُ التَّامِّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الْمُخْتَصَرِ مِنْ أَثْنَاءِ التَّامِّ كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هُنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم أُرِيتُ النَّارَ إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ مِنْهُ، وَأَوَّلُ التَّامِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ قِصَّةَ صَلَاةِ الْخُسُوفِ ثُمَّ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهَا الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ هُنَا، فَمَنْ أَرَادَ عَدَّ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْكِتَابُ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَدِيثَانِ أَوْ أَكْثَرُ لِاخْتِلَافِ الِابْتِدَاءِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ مَنْ حَكَى أَنَّ عِدَّتَهُ بِغَيْرِ تَكْرَارٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ أَوْ نَحْوُهَا كَابْنِ الصَّلَاحِ وَالشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ وَمَنْ بَعْدَهُمَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ عِدَّتُهُ عَلَى التَّحْرِيرِ أَلْفَا حَدِيثٍ وَخَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا كَمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي الْمُقَدِّمَةِ.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: تَقَرَّرَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يُعِيدُ الْحَدِيثَ إِلَّا لِفَائِدَةٍ، لَكِنْ تَارَةً تَكُونُ فِي الْمَتْنِ، وَتَارَةً فِي الْإِسْنَادِ، وَتَارَةً فِيهِمَا. وَحَيْثُ تَكُونُ فِي الْمَتْنِ خَاصَّةً لَا يُعِيدُهُ بِصُورَتِهِ بَلْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، فَإِنْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ أَوْرَدَ لِكُلِّ بَابٍ طَرِيقًا، وَإِنْ قَلَّتِ اخْتَصَرَ الْمَتْنَ أَوِ الْإِسْنَادَ.

وَقَدْ صَنَعَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ هُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ - وَهُوَ الْقَعْنَبِيُّ - مُخْتَصَرًا مُقْتَصَرًا عَلَى مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْكُفْرَ يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ أَوْرَدَهُ فِي الصَّلَاةِ فِي بَابِ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ نَارٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُغَايِرِ اقْتَصَرَ عَلَى مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ فَقَطْ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَسَاقَهُ تَامًّا، ثُمَّ أَوْرَدَهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ فِي ذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَنْ شَيْخٍ غَيْرِ الْقَعْنَبِيِّ مُقْتَصَرًا عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ عَنْ شَيْخٍ غَيْرِهِمَا عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا. وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُحْمَلُ جَمِيعُ تَصَرُّفِهِ، فَلَا يُوجَدُ فِي كِتَابِهِ حَدِيثٌ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ فَصَاعِدًا إِلَّا نَادِرًا وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ حَيْثُ ذَكَرَهُ تَامًّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌22 - بَاب الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلَّا بِالشِّرْكِ

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}

30 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ، عَنْ الْمَعْرُورِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ

[الحديث 30 - طرفاه في: 6050، 2545]

بَاب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فَسَمَّاهُمْ الْمُؤْمِنِينَ

31 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، وَيُونُسُ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ الْأَحْنَفِ

ص: 84

ابْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ: ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ:"إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ. "

[الحديث 31 - طرفاه في: 7083، 6875]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) هُوَ مُنَوَّنٌ. وَقَوْلُهُ الْمَعَاصِي مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ خَبَرُهُ، وَالْجَاهِلِيَّةُ مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ يُطْلَقُ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَيْ: فِي حَالِ جَاهِلِيَّتِهِ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا يُكَفَّرُ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ، وَقَوْلُهُ:(إِلَّا بِالشِّرْكِ) أَيْ: إِنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ تُؤْخَذُ مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فَهِيَ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالشِّرْكُ أَكْبَرُ الْمَعَاصِي وَلِهَذَا اسْتَثْنَاهُ. وَمُحَصَّلُ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا الْكُفْرُ مَجَازًا عَلَى إِرَادَةِ كُفْرِ النِّعْمَةِ لَا كُفْرِ الْجَحْدِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ، وَنَصُّ الْقُرْآنِ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَصَيَّرَ مَا دُونَ الشِّرْكِ تَحْتَ إِمْكَانِ الْمَغْفِرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالشِّرْكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكُفْرُ ; لِأَنَّ مَنْ جَحَدَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَثَلًا كَانَ كَافِرًا وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَالْمَغْفِرَةُ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ بِلَا خِلَافٍ.

وَقَدْ يَرِدُ الشِّرْكُ وَيُرَادُ بِهِ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنَ الْكُفْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يُكَفِّرُ بِالذُّنُوبِ كَالْخَوَارِجِ، وَيَقُولُ: إِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ، وَالْآيَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} مَنْ مَاتَ عَلَى كُلِّ ذَنْبٍ سِوَى الشِّرْكِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِي اسْتِدْلَالِهِ بِقَوْلِ أَبِي ذَرٍّ عَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّعْيِيرَ لَيْسَ كَبِيرَةً، وَهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ بِالصَّغَائِرِ. قُلْتُ: اسْتِدْلَالُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَةِ ظَاهِرٌ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ بَطَّالٍ، وَأَمَّا قِصَّةُ أَبِي ذَرٍّ فَإِنَّمَا ذُكِرَتْ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَنَّ مَنْ بَقِيَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْجَاهِلِيَّةِ سِوَى الشِّرْكِ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الصَّغَائِرِ أَمِ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ وَاضِحٌ. وَاسْتَدَلَّ الْمُؤَلِّفُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لَا يَكْفُرُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْقَى عَلَيْهِ اسْمَ الْمُؤْمِنَ، فَقَالَ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ. وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَسَمَّاهُمَا مُسْلِمَيْنِ مَعَ التَّوَعُّدِ بِالنَّارِ، وَالْمُرَادُ هُنَا إِذَا كَانَتِ الْمُقَاتَلَةُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ سَائِغٍ.

وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ: فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، أَيْ: خَصْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، مَعَ أَنَّ مَنْزِلَةَ أَبِي ذَرٍّ مِنَ الْإِيمَانِ فِي الذُّرْوَةِ الْعَالِيَةِ، وَإِنَّمَا وَبَّخَهُ بِذَلِكَ - عَلَى عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ - تَحْذِيرًا لَهُ عَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعُذْرِ، لَكِنْ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِهِ يُسْتَعْظَمُ أَكْثَرَ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، وَقَدْ وَضَحَ بِهَذَا وَجْهُ دُخُولِ الْحَدِيثَيْنِ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ، وَهَذَا عَلَى مُقْتَضَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ مَشَايِخِهِ، لَكِنْ سَقَطَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ فَأَفْرَدَ فِيهَا حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ بِتَرْجَمَةِ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وكُلٌّ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ جَمْعًا وَتَفْرِيقًا حَسَنٌ. وَالطَّائِفَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ فَمَا فَوْقَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ حُضُورِ أَرْبَعَةٍ فِي رَجْمِ الزَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فَالْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْجَلْدِ وَلَا اشْتِرَاطَ فِيهِ وَالِاشْتِرَاطُ فِي الرَّجْمِ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ ثَلَاثَةٍ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فَذَاكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ

ص: 85

الْجَمْعِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ وَاصِلٍ) هُوَ ابْنُ حَيَّانَ، وَلِلْأَصِيلِيِّ هُوَ الْأَحْدَبُ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْعِتْقِ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْمَعْرُورِ) وَفِي الْعِتْقِ: سَمِعْتُ الْمَعْرُورَ بْنَ سُوَيْدٍ، وَهُوَ بِمُهْمَلَاتٍ سَاكِنُ الْعَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بِالرَّبَذَةِ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ: مَوْضِعٌ بِالْبَادِيَةِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ.

قَوْلُهُ: (وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ) هَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ شُعْبَةَ عَنْهُ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ: أَتَيْتُ أَبَا ذَرٍّ، فَإِذَا حُلَّةٌ عَلَيْهِ مِنْهَا ثَوْبٌ وَعَلَى عَبْدِهِ مِنْهَا ثَوْبٌ، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْحُلَّةَ ثَوْبَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمَعْرُورِ، عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي الْأَدَبِ بِلَفْظِ: رَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْدًا وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدًا فَقُلْتُ: لَوْ أَخَذْتُ هَذَا فَلَبِسْتُهُ كَانَتْ حُلَّةً وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقُلْنَا: يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً وَلِأَبِي دَاوُدَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ أَخَذْتَ الَّذِي عَلَى غُلَامِكِ فَجَعَلْتَهُ مَعَ الَّذِي عَلَيْكَ لَكَانَتْ حُلَّةً فَهَذَا مُوَافِقً لِقَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الثَّوْبَيْنِ يَصِيرَانِ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حُلَّةً، وَلَوْ كَانَ كَمَا فِي الْأَصْلِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ لَكَانَ إِذَا جَمَعَهُمَا يَصِيرُ عَلَيْهِ حُلَّتَانِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ بُرْدٌ جَيِّدٌ تَحْتَهُ ثَوْبٌ خَلِقٌ مِنْ جِنْسِهِ وَعَلَى غُلَامِهِ كَذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لَوْ أَخَذْتَ الْبُرْدَ الْجَيِّدَ فَأَضَفْتَهُ إِلَى الْبُرْدِ الْجَيِّدِ الَّذِي عَلَيْكَ وَأَعْطَيْتَ الْغُلَامَ الْبُرْدَ الْخَلِقَ بَدَلَهُ لَكَانَتْ حُلَّةً جَيِّدَةً، فَتَلْتَئِمُ بِذَلِكَ الرِّوَايَتَانِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ لَكَانَتْ حُلَّةً أَيْ: كَامِلَةَ الْجَوْدَةِ، فَالتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْحُلَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ يَحُلُّهُمَا مِنْ طَيِّهِمَا، فَأَفَادَ أَصْلَ تَسْمِيَةِ الْحُلَّةِ. وَغُلَامُ أَبِي ذَرٍّ الْمَذْكُورِ لَمْ يُسَمَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبَا مُرَاوِحٍ مَوْلَى أَبِي ذَرٍّ، وَحَدِيثُهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الْكُنَى أَنَّ اسْمَهُ سَعْدٌ.

قَوْلُهُ: (فَسَأَلْتُهُ) أَيْ: عَنِ السَّبَبِ فِي إِلْبَاسِهِ غُلَامَهُ نَظِيرَ لُبْسِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمَأْلُوفِ، فَأَجَابَهُ بِحِكَايَةِ الْقِصَّةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (سَابَبْتُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ شَاتَمْتُ وَفِي الْأَدَبِ لِلْمُؤَلِّفِ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلَامٌ وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ إِخْوَانِي وَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ هُوَ بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَرَوَى ذَلِكَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ مُنْقَطِعًا. وَمَعْنَى سَابَبْتُ وَقَعَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سِبَابٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ مِنَ السَّبِّ بِالتَّشْدِيدِ وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبَّةِ وَهِيَ حَلْقَةُ الدُّبُرِ، سَمَّى الْفَاحِشَ مِنَ الْقَوْلِ بِالْفَاحِشِ مِنَ الْجَسَدِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ الْمُرَادُ قَطْعُ الْمَسْبُوبِ، وَعَلَى الثَّانِي الْمُرَادُ كَشْفُ عَوْرَتِهِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ السَّابِّ إِبْدَاءَ عَوْرَةِ الْمَسْبُوبِ.

قَوْلُهُ: (فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ) أَيْ: نَسَبْتُهُ إِلَى الْعَارِ، زَادَ فِي الْأَدَبِ: وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ. قُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ، وَالْأَعْجَمِيُّ مَنْ لَا يُفْصِحُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ سَوَاءٌ

ص: 86

كَانَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا، وَالْفَاءُ فِي فَعَيَّرْتُهُ قِيلَ: هِيَ تَفْسِيرِيَّةٌ، كَأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ التَّعْيِيرَ هُوَ السَّبُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَهُمَا سِبَابٌ وَزَادَ عَلَيْهِ التَّعْيِيرُ فَتَكُونُ عَاطِفَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ قَالَ: أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ فَقُلْتُ: مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ. قَالَ: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ أَيْ: خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ تَحْرِيمَهُ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْخَصْلَةُ مِنْ خِصَالِ الْجَاهِلِيَّةِ بَاقِيَةً عِنْدَهُ، فَلِهَذَا قَالَ كَمَا عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي الْأَدَبِ: قُلْتُ: عَلَى سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ؟ قَالَ: نَعَمْ كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ كِبَرِ سِنِّهِ، فَبَيَّنَ لَهُ كَوْنَ هَذِهِ الْخَصْلَةِ مَذْمُومَةً شَرْعًا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يُسَاوِي غُلَامَهُ فِي الْمَلْبُوسِ وَغَيْرِهِ أَخْذًا بِالْأَحْوَطِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ الْمُوَاسَاةِ لَا الْمُسَاوَاةَ، وَسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِبَقِيَّةِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي السِّيَاقِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَعْدِيَةِ عَيَّرْتَهُ بِالْبَاءِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَتَبِعَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَثْبَتَ آخَرُونَ أَنَّهَا لُغَةٌ.

وَقَدْ جَاءَ فِي سَبَبِ إِلْبَاسِ أَبِي ذَرٍّ غُلَامَهُ مِثْلَ لُبْسِهِ أَثَرٌ مَرْفُوعٌ أَصْرَحُ مِنْ هَذَا وَأَخَصُّ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى أَبَا ذَرٍّ عَبْدًا فَقَالَ أَطْعِمْهُ مِمَّا تَأْكُلُ، وَأَلْبِسْهُ مِمَّا تَلْبَسُ وَكَانَ لِأَبِي ذَرٍّ ثَوْبٌ فَشَقَّهُ نِصْفَيْنِ، فَأَعْطَى الْغُلَامَ نِصْفَهُ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فَقَالَ: قُلْتَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ قَالَ: نَعَمْ.

‌23 - بَاب ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ

32 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، ح. قَالَ: وَحَدَّثَنِي بِشْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}

[الحديث 32 - أطرافه في: 6937، 6918، 4776، 4629، 3429، 3428، 3360]

قَوْلُهُ: (بَابُ ظُلْمٍ دُونَ ظُلْمٍ) دُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى غَيْرَ، أَيْ أَنْوَاعُ الظُّلْمِ مُتَغَايِرَةٌ. أَوْ بِمَعْنَى الْأَدْنَى، أَيْ: بَعْضُهَا أَخَفُّ مِنْ بَعْضٍ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي مَقْصُودِ الْمُصَنِّفِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الْآيَةَ، فَاسْتَعْمَلَهُ الْمُؤَلِّفُ تَرْجَمَةً، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ بِظُلْمٍ عُمُومَ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَهُوَ الشِّرْكُ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلظُّلْمِ مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةً. وَمُنَاسَبَةُ إِيرَادِ هَذَا عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَعَاصِيَ غَيْرُ الشِّرْكِ لَا يُنْسَبُ صَاحِبُهَا إِلَى الْكُفْرِ الْمُخْرِجِ عَنِ الْمِلَّةِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ ظَاهِرَةٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنِي بِشْرٌ) هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ الْمُصَحَّحَةِ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَبْلَهَا صُورَةُ ح، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْلِ التَّصْنِيفِ فَهِيَ مُهْمَلَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّحْوِيلِ عَلَى الْمُخْتَارِ. وَإِنْ كَانَتْ مَزِيدَةً مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُهْمَلَةً كَذَلِكَ، أَوْ مُعْجَمَةً مَأْخُوذَةً مِنَ الْبُخَارِيِّ لِأَنَّهَا رَمْزُهُ، أَيْ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَحَدَّثَنِي بِشْرٌ، وَهُوَ ابْنُ خَالِدٍ الْعَسْكَرِيُّ وَشَيْخُهُ مُحَمَّدُ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْرُوفُ بِغُنْدَرٍ، وَهُوَ أَثْبَتُ النَّاسِ فِي شُعْبَةَ، وَلِهَذَا أَخْرَجَ الْمُؤَلِّفُ رِوَايَتَهُ مَعَ كَوْنِهِ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ عَالِيًا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَاللَّفْظُ الْمُسَاقُ هُنَا لَفْظُ بِشْرٍ، وَكَذَلِكَ

ص: 87

أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْهُ وَتَابَعَهُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي تَفْسِيرِ الْأَنْعَامِ، وَأَمَّا لَفْظُ أَبِي الْوَلِيدِ فَسَاقَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي قِصَّةِ لُقْمَانَ بِلَفْظِ أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ وَزَادَ فِيهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ بَعْدَ قَوْلُهُ:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فَطَابَتْ أَنْفُسُنَا. وَاقْتَضَتْ رِوَايَةُ شُعْبَةَ هَذِهِ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي فِي لُقْمَانَ، لَكِنْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَعْمَشِ، وَهُوَ سُلَيْمَانُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ. فَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ عَنْهُ: فَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِذَلِكَ، أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ. وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ عَنْهُ: فَقَالَ: لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ. وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ: إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى مَا قَالَ لُقْمَانُ.

وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي لُقْمَانَ كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ وَلِذَلِكَ نَبَّهَهُمْ عَلَيْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا وَقَعَ فِي الْحَالِ فَتَلَاهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ نَبَّهَهُمْ فَتَلْتَئِمُ الرِّوَايَتَانِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ الشِّرْكُ عِنْدَ الصَّحَابَةِ أَكْبَرَ مِنْ أَنْ يُلَقَّبَ بِالظُّلْمِ، فَحَمَلُوا الظُّلْمَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا عَدَاهُ - يَعْنِي مِنَ الْمَعَاصِي - فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُمْ حَمَلُوا الظُّلْمَ عَلَى عُمُومِهِ، الشِّرْكَ فَمَا دُونَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ صَنِيعُ الْمُؤَلِّفِ. وَإِنَّمَا حَمَلُوهُ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ:(بِظُلْمٍ) نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ ; لَكِنَّ عُمُومَهَا هُنَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنْ دَخَلَ عَلَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مَا يُؤَكِّدُ الْعُمُومَ وَيُقَوِّيهِ نَحْوَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ، أَفَادَ تَنْصِيصَ الْعُمُومِ، وَإِلَّا فَالْعُمُومُ مُسْتَفَادٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ كَمَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ، بَلْ هُوَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، فَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ أَعْلَى أَنْوَاعِهِ وَهُوَ الشِّرْكُ.

فَإِنْ قِيلَ: مِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنَّ مَنْ لَبَسَ الْإِيمَانَ بِظُلْمٍ لَا يَكُونَ آمِنًا وَلَا مُهْتَدِيًا حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَالسِّيَاقُ إِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الظُّلْمُ فَهُوَ آمِنٌ وَمُهْتَدٍ، فَمَا الَّذِي دَلَّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ عَمَّنْ وُجِدَ مِنْهُ الظُّلْمُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَفْهُومِ وَهُوَ مَفْهُومُ الصِّفَةِ، أَوْ مُسْتَفَادٌ مِنَ الِاخْتِصَاصِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ تَقْدِيمِ لَهُمْ عَلَى الْأَمْنِ، أَيْ: لَهُمُ الْأَمْنُ لَا لِغَيْرِهِمْ، كَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} تَقْدِيمُ هُوَ عَلَى قَائِلِهَا يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، أَيْ: هُوَ قَائِلُهَا لَا غَيْرُهُ، فَإِنْ قِيلَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أَنَّ غَيْرَ الشِّرْكِ لَا يَكُونُ ظُلْمًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّنْوِينَ فِي قَوْلِهِ لَظُلْمٌ لِلتَّعْظِيمِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالُ الشَّارِعِ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ، فَالتَّقْدِيرُ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ عَظِيمٍ أَيْ بِشِرْكٍ، إِذْ لَا ظُلْمَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنِ الْأَعْمَشِ وَلَفْظُهُ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ، لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ: بِشِرْكٍ.

أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ فَذَكَرَ الْآيَةَ وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْمَازِرِيُّ جَوَازَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَنَازَعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فَقَالَ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَكْلِيفُ عَمَلٍ، بَلْ تَكْلِيفُ اعْتِقَادٍ بِتَصْدِيقِ الْخَبَرِ، وَاعْتِقَادُ التَّصْدِيقِ لَازِمٌ لِأَوَّلِ وُرُودِهِ فَمَا هِيَ الْحَاجَةُ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُعْتَقَدَاتُ أَيْضًا تَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ، فَلَمَّا أَجْمَلَ الظُّلْمَ حَتَّى تَنَاوَلَ إِطْلَاقُهُ جَمِيعَ الْمَعَاصِي شَقَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى وَرَدَ الْبَيَانُ فَمَا انْتَفَتِ الْحَاجَةُ. وَالْحَقُّ أَنَّ فِي الْقِصَّةِ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ لِأَنَّهُمْ حَيْثُ احْتَاجُوا إِلَيْهِ لَمْ يَتَأَخَّرْ.

قَوْلُهُ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا} أَيْ: لَمْ يَخْلِطُوا، تَقُولُ: لَبَسْتُ الْأَمْرَ بِالتَّخْفِيفِ، أَلْبِسُهُ بِالْفَتْحِ فِي الْمَاضِي وَالْكَسْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ خَلَطْتُهُ. وَتَقُولُ: لَبِسْتُ الثَّوْبَ أَلْبَسُهُ بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي وَالْفَتْحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ فِي شَرْحِهِ: خَلْطُ الْإِيمَانِ بِالشِّرْكِ لَا يُتَصَوَّرُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُمُ الصِّفَتَانِ كُفْرٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِيمَانٍ مُتَقَدِّمٍ. أَيْ: لَمْ يَرْتَدُّوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، أَيْ: لَمْ يُنَافِقُوا. وَهَذَا أَوْجَهُ، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِبَابِ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ تَرْتِيبِهِ. ثُمَّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ رِوَايَةُ ثَلَاثَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ: وَهُمُ الْأَعْمَشُ، عَنْ شَيْخِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ

ص: 88

النَّخَعِيِّ، عَنْ خَالِهِ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ النَّخَعِيِّ، وَالثَّلَاثَةُ كُوفِيُّونَ فُقَهَاءُ، وَعَبْدُ اللَّهِ الصَّحَابِيُّ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَحَدُ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ.

وَالْأَعْمَشُ مَوْصُوفٌ بِالتَّدْلِيسِ وَلَكِنْ فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ الَّتِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ عَنْهُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ وَلَمْ أَرَ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إِلَّا فِي هَذَا الطَّرِيقِ. وَفِي الْمَتْنِ مِنَ الْفَوَائِدِ: الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ، وَأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ، وَأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ وَالْمُبَيَّنَ عَنِ الْمُجْمَلِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ يُحْمَلُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ لِمَصْلَحَةِ دَفْعِ التَّعَارُضِ، وَأَنَّ دَرَجَاتِ الظُّلْمِ تَتَفَاوَتُ كَمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَأَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تُسَمَّى شِرْكًا، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا فَلَهُ الْأَمْنُ وَهُوَ مُهْتَدٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْعَاصِي قَدْ يُعَذَّبُ فَمَا هُوَ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ آمِنٌ مِنَ التَّخْلِيدِ فِي النَّارِ، مُهْتَدٍ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌24 - بَاب عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ

33 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.

[الحديث 33 - أطرافه في: 6095، 2749، 2682،]

34 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ. " تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ

[الحديث 34 - طرفاه في: 3178، 3459]

قَوْلُهُ: (بَابُ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ) لَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مَرَاتِبَ الْكُفْرِ مُتَفَاوِتَةٌ وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ أَتْبَعَهُ بِأَنَّ النِّفَاقَ كَذَلِكَ، وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: مُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُنْقِصُ الْإِيمَانَ، كَمَا أَنَّ الطَّاعَةَ تَزِيدُهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُنَاسَبَةُ هَذَا الْبَابِ لِكِتَابِ الْإِيمَانِ أَنَّ النِّفَاقَ عَلَامَةُ عَدَمِ الْإِيمَانِ، أَوْ لِيُعْلَمَ مِنْهُ أَنَّ بَعْضَ النِّفَاقِ كُفْرٌ دُونَ بَعْضٍ، وَالنِّفَاقُ لُغَةً: مُخَالَفَةُ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ، فَإِنْ كَانَ فِي اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ فَهُوَ نِفَاقُ الْكُفْرِ، وَإِلَّا فَهُوَ نِفَاقُ الْعَمَلِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ) هُوَ الزَّهْرَانِيُّ، بَصْرِيٌّ نَزَلَ بَغْدَادَ، وَمِنْ شَيْخِهِ فَصَاعِدًا مَدَنِيُّونَ، وَنَافِعُ بْنُ مَالِكٍ هُوَ عَمُّ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الْإِمَامِ.

قَوْلُهُ: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ) الْآيَةُ: الْعَلَامَةُ، وَإِفْرَادُ الْآيَةِ إِمَّا عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَوْ أَنَّ الْعَلَامَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِاجْتِمَاعِ الثَّلَاثِ، وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِصَنِيعِ الْمُؤَلِّفِ، وَلِهَذَا تَرْجَمَ بِالْجَمْعِ وَعَقَّبَ بِالْمَتْنِ الشَّاهِدِ لِذَلِكَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ عَلَامَاتُ الْمُنَافِقِ، فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُهُ الْحَصْرُ فِي الثَّلَاثِ فَكَيْفَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ بِلَفْظِ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ. . . الْحَدِيثَ. أَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ اسْتَجَدَّ لَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعِلْمِ بِخِصَالِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ. وَأَقُولُ: لَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَعَارُضٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدِّ الْخَصْلَةِ

ص: 89

الْمَذْمُومَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ النِّفَاقِ كَوْنُهَا عَلَامَةً عَلَى النِّفَاقِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْعَلَامَاتُ دَالَّاتٍ عَلَى أَصْلِ النِّفَاقِ، وَالْخَصْلَةُ الزَّائِدَةُ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى ذَلِكَ كَمُلَ بِهَا خُلُوصُ النِّفَاقِ. عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ عَدَمِ الْحَصْرِ، فَإِنَّ لَفْظَهُ مِنْ عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ وَكَذَا أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَإِذَا حُمِلَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ عَلَى هَذَا لَمْ يَرِدِ السُّؤَالُ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ بِبَعْضِ الْعَلَامَاتِ فِي وَقْتِ، وَبِبَعْضِهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا وَالنَّوَوِيُّ: حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَتَيْنِ خَمْسُ خِصَالٍ ; لِأَنَّهُمَا تَوَارَدَتَا عَلَى الْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ وَالْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَةِ، وَزَادَ الْأَوَّلُ الْخُلْفَ فِي الْوَعْدِ وَالثَّانِي الْغَدْرَ فِي الْمُعَاهَدَةِ وَالْفُجُورَ فِي الْخُصُومَةِ. قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الثَّانِي بَدَلُ الْغَدْرِ فِي الْمُعَاهَدَةِ الْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ، فَكَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ تَصَرَّفَ فِي لَفْظِهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا قَدْ يَتَّحِدُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَزِيدُ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْفُجُورُ فِي الْخُصُومَةِ، وَالْفُجُورُ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ وَالِاحْتِيَالُ فِي رَدِّهِ. وَهَذَا قَدْ يَنْدَرِجُ فِي الْخَصْلَةِ الْأُولَى وَهِيَ الْكَذِبُ فِي الْحَدِيثِ. وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ الْعَلَامَاتِ الثَّلَاثِ أَنَّهَا مُنَبِّهَةٌ عَلَى مَا عَدَاهَا، إِذْ أَصْلُ الدِّيَانَةِ مُنْحَصِرٌ فِي ثَلَاثٍ: الْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ، وَالنِّيَّةِ. فَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالْكَذِبِ، وَعَلَى فَسَادِ الْفِعْلِ بِالْخِيَانَةِ، وَعَلَى فَسَادِ النِّيَّةِ بِالْخُلْفِ ; لِأَنَّ خُلْفَ الْوَعْدِ لَا يَقْدَحُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ مُقَارِنًا لِلْوَعْدِ، أَمَّا لَوْ كَانَ عَازِمًا ثُمَّ عَرَضَ لَهُ مَانِعٌ أَوْ بَدَا لَهُ رَأْيٌ فَهَذَا لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ صُورَةُ النِّفَاقِ، قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ مَا يَشْهَدُ لَهُ، فَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ إِذَا وَعَدَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يُخْلِفُ وَكَذَا قَالَ فِي بَاقِي الْخِصَالِ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ أُجْمِعَ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مُخْتَصَرٌ بِلَفْظِ إِذَا وَعَدَ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ لَهُ فَلَمْ يَفِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا وَعَدَ) قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: يُقَالُ وَعَدْتُهُ خَيْرًا، وَوَعَدْتُهُ شَرًّا. فَإِذَا أَسْقَطُوا الْفِعْلَ قَالُوا فِي الْخَيْرِ: وَعَدْتُهُ، وَفِي الشَّرِّ: أَوْعَدْتُهُ. وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي نَوَادِرِهِ: أَوْعَدْتُهُ خَيْرًا بِالْهَمْزَةِ. فَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ فِي الْحَدِيثِ الْوَعْدُ بِالْخَيْرِ، وَأَمَّا الشَّرُّ فَيُسْتَحَبُّ إِخْلَافُهُ. وَقَدْ يَجِبُ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى تَرْكِ إِنْفَاذِهِ مَفْسَدَةٌ.

وَأَمَّا الْكَذِبُ فِي الْحَدِيثِ فَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ جُرِّبَ عَلَيْهِ كَذِبٌ فَقَالَ: أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الْكَذِبِ؟ لَعَلَّهُ حَدَّثَ عَنْ عَيْشٍ لَهُ سَلَفَ فَبَالَغَ فِي وَصْفِهِ، فَهَذَا لَا يَضُرُّ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ مَنْ حَدَّثَ عَنِ الْأَشْيَاءِ بِخِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ قَاصِدًا الْكَذِبَ انْتَهَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ عَدَّهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مُشْكَلًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ قَدْ تُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِ الْمُجْمَعِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِكُفْرِهِ. قَالَ: وَلَيْسَ فِيهِ إِشْكَالٌ، بَلْ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَالَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ خِصَالُ نِفَاقٍ، وَصَاحِبَهَا شَبِيهٌ بِالْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ وَمُتَخَلِّقٌ بِأَخْلَاقِهِمْ. قُلْتُ: وَمُحَصَّلُ هَذَا الْجَوَابِ الْحَمْلُ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الْمَجَازِ، أَيْ: صَاحِبُ هَذِهِ الْخِصَالِ كَالْمُنَافِقِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّفَاقِ نِفَاقُ الْكُفْرِ. وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنِّفَاقِ نِفَاقُ الْعَمَلِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَهَذَا ارْتَضَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِ عُمَرَ، لِحُذَيْفَةَ: هَلْ تَعْلَمُ فِيَّ شَيْئًا مِنَ النِّفَاقِ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ نِفَاقَ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ نِفَاقَ الْعَمَلِ. وَيُؤَيِّدُهُ وَصْفُهُ بِالْخَالِصِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِإِطْلَاقِ النِّفَاقِ الْإِنْذَارُ وَالتَّحْذِيرُ عَنِ ارْتِكَابِ هَذِهِ الْخِصَالِ وَأَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَهَذَا ارْتَضَاهُ الْخَطَّابِيُّ. وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ هُوَ مَنِ اعْتَادَ ذَلِكَ وَصَارَ لَهُ دَيْدَنًا. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِإِذَا، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَكَرُّرِ الْفِعْلِ. كَذَا قَالَ.

وَالْأَوْلَى مَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنَّ حَذْفَ الْمَفْعُولِ مِنْ حَدَّثَ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ: إِذَا حَدَّثَ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَذَبَ فِيهِ. أَوْ يَصِيرُ قَاصِرًا، أَيْ: إِذَا

ص: 90

وَجَدَ مَاهِيَّةَ التَّحْدِيثِ كَذَبَ. وَقِيلَ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْخِصَالُ وَتَهَاوَنَ بِهَا وَاسْتَخَفَّ بِأَمْرِهَا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فَاسِدَ الِاعْتِقَادِ غَالِبًا. وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي الْمُنَافِقِ لِلْجِنْسِ، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى أَنَّهَا لِلْعَهْدِ فَقَالَ: إِنَّهُ وَرَدَ فِي حَقِّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ شَيْءٌ مِنْهَا لَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَأَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ مَا ارْتَضَاهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ شُعْبَةُ) وَصَلَ الْمُؤَلِّفُ هَذِهِ الْمُتَابَعَةَ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ، وَرِوَايَةُ قَبِيصَةَ، عَنْ سُفْيَانَ - وَهُوَ الثَّوْرِيُّ - ضَعَّفَهَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: إِنَّمَا أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ لَا الْأَصَالَةِ. وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ، فَكَيْفَ تَكُونُ مُتَابَعَةً؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَابَعَةِ هُنَا كَوْنُ الْحَدِيثِ مُخَرَّجًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ أُخْرَى عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَعِنْدَ الْمُؤَلِّفِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَعْمَشِ، مِنْهَا رِوَايَةُ شُعْبَةَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي ذِكْرِهَا هُنَا. وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَابَعَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ لَوْ أَرَادَهُ لَسَمَّاهُ شَاهِدًا. وَأَمَّا دَعْوَاهُ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةً فِي الْمَعْنَى فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، لِمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا. وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهَا مِنْ ثِقَةٍ مُتْقِنٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَائِدَةٌ): رِجَالُ الْإِسْنَادِ الثَّانِي كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ، إِلَّا الصَّحَابِيَّ وَقَدْ دَخَلَ الْكُوفَةَ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌25 - بَاب قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ الْإِيمَانِ

35 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.

[الحديث 35 - أطرافه 2014، 2009، 2008، 1901، 38، 37]

قَوْلُهُ: (بَابُ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الْإِيمَانِ)

لَمَّا بَيَّنَ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ وَقَبَّحَهَا رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ وَحَسَّنَهَا ; لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى مُتَعَلَّقَاتِ الْإِيمَانِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَصَالَةِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ مُتَعَلَّقَاتِ غَيْرِهِ اسْتِطْرَادًا. ثُمَّ رَجَعَ فَذَكَرَ أَنَّ قِيَامَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَقِيَامَ رَمَضَانَ وَصِيَامَ رَمَضَانَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَوْرَدَ الثَّلَاثَةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُتَّحِدَاتُ الْبَاعِثِ وَالْجَزَاءِ، وَعَبَّرَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالْمُضَارِعِ فِي الشَّرْطِ وَبِالْمَاضِي فِي جَوَابِهِ، بِخِلَافِ الْآخَرَيْنِ فَبِالْمَاضِي فِيهِمَا، وَأَبْدَى الْكِرْمَانِيُّ لِذَلِكَ نُكْتَةً لَطِيفَةً قَالَ: لِأَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ وَكَذَا صِيَامُهُ، بِخِلَافِ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، فَلِهَذَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ شَيْءٌ سَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْمَاضِي فِي الْجَزَاءِ إِشَارَةً إِلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، فَهُوَ نَظِيرُ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وَفِي اسْتِعْمَالِ الشَّرْطِ مُضَارِعًا وَالْجَوَابِ مَاضِيًا نِزَاعٌ بَيْنَ النُّحَاةِ، فَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُ، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ لَكِنْ بِقِلَّةٍ. اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ} لِأَنَّ قَوْلَهُ فَظَلَّتْ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَهُوَ تَابِعٌ لِلْجَوَابِ وَتَابِعُ الْجَوَابِ جَوَابٌ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَعِنْدِي فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّنِي أَظُنُّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ فِيهِ مَشْهُورَةٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي الْيَمَانَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَلَمْ يُغَايِرْ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ بَلْ قَالَ: مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ يُغْفَرُ لَهُ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنْ سُلَيْمَانَ وَهُوَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نَجْدَةَ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ وَلَفْظُهُ زَائِدٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فَقَالَ: لَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ

ص: 91

فَيُوَافِقُهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَيُوَافِقُهَا زِيَادَةُ بَيَانٍ، وَإِلَّا فَالْجَزَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَى قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَا يَصْدُقُ قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا عَلَى مَنْ وَافَقَهَا، وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَوَضَحَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَخْرَجَ الْحَدِيثِ وَاحِدٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.

‌26 - بَاب الْجِهَادُ مِنْ الْإِيمَانِ

36 -

حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ.

[الحديث 36 - أطرافه في: 7463، 7457، 7227، 7226، 3123، 2972، 2797، 2787]

‌27 - بَاب تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ الْإِيمَانِ

37 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.

‌28 - بَاب صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنْ الْإِيمَانِ

38 -

حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجِهَادِ مِنَ الْإِيمَانِ)

أَوْرَدَ هَذَا الْبَابَ بَيْنَ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَبَيْنَ قِيَامِ رَمَضَانَ وَصِيَامِهِ، فَأَمَّا مُنَاسَبَةُ إِيرَادِهِ مَعَهَا فِي الْجُمْلَةِ فَوَاضِحٌ لِاشْتِرَاكِهَا فِي كَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا إِيرَادُهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ مَعَ أَنَّ تَعَلُّقَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ظَاهِرٌ فَلِنُكْتَةٍ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا، بَلْ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: صَنِيعُهُ هَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ مَقْطُوعٌ عَنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ، يَعْنِي اشْتِرَاكَهَا فِي كَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ. وَأَقُولُ: بَلْ قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْمُنَاسَبَةِ لِقِيَامِ رَمَضَانَ لَكِنَّ لِلْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي بَابِ الْجِهَادِ مُنَاسَبَةً بِالْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ حَسَنَةً جِدًّا لِأَنَّ الْتِمَاسَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ يَسْتَدْعِي مُحَافَظَةً زَائِدَةً وَمُجَاهَدَةً تَامَّةً، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ يُوَافِقُهَا أَوْ لَا.

وَكَذَلِكَ الْمُجَاهِدُ يَلْتَمِسُ الشَّهَادَةَ وَيَقْصِدُ إِعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا، فَتَنَاسَبَا فِي أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مُجَاهَدَةً، وَفِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ لِصَاحِبِهِ أَوْ لَا. فَالْقَائِمُ لِالْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَأْجُورٌ، فَإِنْ وَافَقَهَا كَانَ أَعْظَمَ أَجْرًا. وَالْمُجَاهِدُ لِالْتِمَاسِ الشَّهَادَةِ مَأْجُورٌ، فَإِنْ وَافَقَهَا كَانَ أَعْظَمُ أَجْرًا. وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ تَمَنِّيهِ صلى الله عليه وسلم الشَّهَادَةَ بِقَوْلِهِ: وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ فَضْلَ الْجِهَادِ لِذَلِكَ اسْتِطْرَادًا، ثُمَّ عَادَ إِلَى ذِكْرِ قِيَامِ رَمَضَانَ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَامٌّ بَعْدَ خَاصٍّ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ بَابَ الصِّيَامِ لِأَنَّ الصِّيَامَ مِنَ التُّرُوكِ فَأَخَّرَهُ عَنِ القِيَامِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ ; وَلِأَنَّ اللَّيْلَ قَبْلَ النَّهَارِ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ مَشْرُوعٌ

ص: 92

فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ) هُوَ اسْمٌ بِلَفْظِ النِّسْبَةِ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ يُكَنَّى أَبَا عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ الْعَبْدِيُّ وَيُقَالُ لَهُ الثَّقَفِيُّ، وَهُوَ ثِقَةٌ مُتْقِنٌ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانَ: لَمْ يُعْتَلَّ عَلَيْهِ بِقَادِحٍ. وَفِي طَبَقَتِهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ بَصْرِيٌّ أَيْضًا لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ وَلَمْ يُخَرَّجْ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُمَارَةُ) هُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ الضَّبِّيُّ.

قَوْلُهُ: (انْتَدَبَ اللَّهُ) هُوَ بِالنُّونِ، أَيْ: سَارَعَ بِثَوَابِهِ وَحُسْنِ جَزَائِهِ، وَقِيلَ بِمَعْنَى أَجَابَ إِلَى الْمُرَادِ، فَفِي الصِّحَاحِ نَدَبْتُ فُلَانًا لِكَذَا فَانْتَدَبَ أَيْ: أَجَابَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ تَكَفَّلَ بِالْمَطْلُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْمُؤَلِّفِ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ تَكَفَّلَ اللَّهُ وَلَهُ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْهُ بِلَفْظِ تَوَكَّلَ اللَّهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَعَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ هُنَا ائْتَدَبَ بِيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ مَهْمُوزَةٍ بَدَلَ النُّونِ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَقَدْ وَجَّهُوهُ بِتَكَلُّفٍ، لَكِنْ إِطْبَاقَ الرُّوَاةِ عَلَى خِلَافِهِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَخْرَجِ كَافٍ فِي تَخْطِئَتِهِ.

قَوْلُهُ: (لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي) كَذَا هُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ يُخْرِجُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ إِلَّا إِيمَانًا بِالنَّصْبِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ مَفْعُولٌ لَهُ، وَتَقْدِيرُهُ لَا يُخْرِجُهُ الْمُخْرِجُ إِلَّا الْإِيمَانَ وَالتَّصْدِيقَ.

قَوْلُهُ: (وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي) ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِلَفْظِ أَوْ تَصْدِيقٌ ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ وَتَكَلَّفَ الْجَوَابَ عَنْهُ، وَالصَّوَابُ أَسْهَلُ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ أَوْ وَقَوْلُهُ بِي فِيهِ عُدُولٌ عَنْ ضَمِيرِ الْغِيبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، فَهُوَ الْتِفَاتٌ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: كَانَ اللَّائِقُ فِي الظَّاهِرِ هُنَا إِيمَانٌ بِهِ، وَلَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ اسْمِ فَاعِلٍ مِنَ الْقَوْلِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيِ: انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ قَائِلًا لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي، وَلَا يُخْرِجُهُ مَقُولُ الْقَوْلِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَالِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُوَ اللَّهُ. وَتَعَقَّبَهُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْمُرَحِّلِ بِأَنَّ حَذْفَ الْحَالِ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّ التَّعْبِيرَ بِاللَّائِقِ هُنَا غَيْرُ لَائِقٍ، فَالْأَوْلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ، وَسَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ فَرْضِ الْخُمُسِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ بِلَفْظِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ.

(تَنْبِيهٌ): جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ هَذِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ، وَقَدِ اخْتَصَرَ الْمُؤَلِّفُ مِنْ سِيَاقِهِ أَكْثَرَ الْأَمْرِ الثَّانِي، وَسَاقَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ الْمَذْكُورِ بِتَمَامِهِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ مُفَرَّقًا مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَهُنَاكَ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى قِيَامِ رَمَضَانَ وَبَابِ صِيَامِ رَمَضَانَ يؤتى فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.

‌29 - بَاب الدِّينُ يُسْرٌ،

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ.

39 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ.

[الحديث 39 - أطرافه في: 7235، 6463، 5673]

قَوْلُهُ: (بَابُ الدِّينِ يُسْرٌ)، أَيْ: دِينُ الْإِسْلَامِ ذُو يُسْرٍ، أَوْ سَمَّى الدِّينَ يُسْرًا مُبَالَغَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَدْيَانِ قَبْلَهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلِهِمْ. وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَمْثِلَةِ لَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ كَانَتْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَوْبَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ وَالنَّدَمِ.

قَوْلُهُ: (أَحَبُّ الدِّينِ) أَيْ: خِصَالُ الدِّينِ ; لِأَنَّ خِصَالَ الدِّينِ كُلُّهَا مَحْبُوبَةٌ،

ص: 93

لَكِنْ مَا كَانَ مِنْهَا سَمْحًا - أَيْ: سَهْلًا - فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَعْرَابِيٍّ لَمْ يُسَمِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: خَيْرُ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ. أَوِ الدِّينُ جِنْسٌ، أَيْ: أَحَبُّ الْأَدْيَانِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَدْيَانِ الشَّرَائِعُ الْمَاضِيَةُ قَبْلَ أَنْ تُبَدَّلَ وَتُنْسَخَ. وَالْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْحَنِيفُ فِي اللُّغَةِ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَسُمِّيَ إِبْرَاهِيمُ حَنِيفًا لِمَيْلِهِ عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَنَفِ الْمَيْلُ، وَالسَّمْحَةُ السَّهْلَةُ، أَيْ: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّهُولَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُعَلَّقُ لَمْ يُسْنِدْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي هَذَا الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ. نَعَمْ وَصَلَهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَكَذَا وَصَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. اسْتَعْمَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ لِكَوْنِهِ مُتَقَاصِرًا عَنْ شَرْطِهِ، وَقَوَّاهُ بِمَا دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ لِتَنَاسُبِ السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهِّرٍ) أَيِ: ابْنُ حُسَامٍ الْبَصْرِيُّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو ظَفَرٍ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ) هُوَ الْمُقَدِّمِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ ; لَكِنَّهُ مُدَلِّسٌ شَدِيدُ التَّدْلِيسِ، وَصَفَهُ بِذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ، وَصَحَّحَهُ - وَإِنْ كَانَ مِنْ رِوَايَةِ مُدَلِّسٍ بِالْعَنْعَنَةِ - لِتَصْرِيحِهِ فِيهِ بِالسَّمَاعِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدِ بْنِ الْمِقْدَامِ أَحَدِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ قَالَ: سَمِعْتُ مَعْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَذَكَرَهُ، وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ قَلِيلُ الْحَدِيثِ، لَكِنْ تَابَعَهُ عَلَى شِقِّهِ الثَّانِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ بِمَعْنَاهُ وَلَفْظُهُ سَدِّدُوا وَقَرِّبُوا وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا وَلَمْ يَذْكُرْ شِقَّهُ الْأَوَّلَ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِ شَوَاهِدِهِ وَمِنْهَا حَدِيثِ عُرْوَةَ الْفُقَيْمِيِّ بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ دِينَ اللَّهِ يُسْرٌ، وَمِنْهَا حَدِيثُ بُرَيْدَ. ةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا، فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادُّ هَذَا الدِّينِ يَغْلِبُهُ رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَإِسْنَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ إِلَّا غَلَبَهُ) هَكَذَا فِي رِوَايَتِنَا بِإِضْمَارِ الْفَاعِلِ، وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْأَصِيلِيِّ بِلَفْظِ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، وَكَذَا هُوَ فِي طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِمْ، وَالدِّينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَكَذَا فِي رِوَايَتِنَا أَيْضًا، وَأَضْمَرَ الْفَاعِلَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَحَكَى صَاحِبُ الْمَطَالِعِ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ بِرَفْعِ الدِّينِ عَلَى أَنَّ يُشَادَّ مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَعَارَضَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ بِالنَّصْبِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا بِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِوَايَاتِ الْمَغَارِبَةِ وَالْمَشَارِقَةِ، وَيُؤَيِّدُ النَّصْبَ لَفْظُ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ إِنَّهُ مَنْ شَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبُهُ ذَكَرَهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هُوَ سَبَبُ حَدِيثِ الْبَابِ. وَالْمُشَادَّةُ بِالتَّشْدِيدِ الْمُغَالَبَةُ، يُقَالُ شَادَّهُ يُشَادُّهُ مُشَادَّةً إِذَا قَاوَاهُ، وَالْمَعْنَى لَا يَتَعَمَّقُ أَحَدٌ فِي الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَيَتْرُكُ الرِّفْقَ إِلَّا عَجَزَ وَانْقَطَعَ فَيُغْلَبُ.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، فَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى النَّاسُ قَبْلَنَا أَنَّ كُلَّ مُتَنَطِّعٍ فِي الدِّينِ يَنْقَطِعُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْعَ طَلَبِ الْأَكْمَلِ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْمُودَةِ، بَلْ مَنْعُ الْإِفْرَاطِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَلَالِ، أَوِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّطَوُّعِ الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، أَوْ إِخْرَاجِ الْفَرْضِ عَنْ وَقْتِهِ كَمَنْ بَاتَ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ وَيُغَالِبُ النَّوْمَ إِلَى أَنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَنَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الْجَمَاعَةِ، أَوْ إِلَى أَنْ خَرَجَ الْوَقْتُ الْمُخْتَارُ، أَوْ إِلَى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَخَرَجَ وَقْتُ الْفَرِيضَةِ، وَفِي حَدِيثِ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ عِنْدَ أَحْمَدَ: إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا هَذَا الْأَمْرَ بِالْمُغَالَبَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْيَسَرَةُ وَقَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْإِشَارَةِ إِلَى الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ فِي مَوْضِعِ الرُّخْصَةِ تَنَطُّعٌ، كَمَنْ

ص: 94

يَتْرُكُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَيُفْضِي بِهِ اسْتِعْمَالُهُ إِلَى حُصُولِ الضَّرَرِ.

قَوْلُهُ: (فَسَدِّدُوا) أَيِ: الْزَمُوا السَّدَادَ وَهُوَ الصَّوَابُ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: السَّدَادُ التَّوَسُّطُ فِي الْعَمَلِ.

قَوْلُهُ: (وَقَارِبُوا) أَيْ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا الْأَخْذَ بِالْأَكْمَلِ فَاعْمَلُوا بِمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَبْشِرُوا) أَيْ: بِالثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ الدَّائِمِ وَإِنْ قَلَّ، وَالْمُرَادُ تَبْشِيرُ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْعَمَلِ بِالْأَكْمَلِ بِأَنَّ الْعَجْزَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ صَنِيعِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصَ أَجْرِهِ، وَأَبْهَمَ الْمُبَشَّرَ بِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَفْخِيمًا.

قَوْلُهُ: (وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ) أَيِ: اسْتَعِينُوا عَلَى مُدَاوَمَةِ الْعِبَادَةِ بِإِيقَاعِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمُنَشِّطَةِ. وَالْغَدْوَةُ بِالْفَتْحِ سَيْرُ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ. وَالرَّوْحَةُ بِالْفَتْحِ السَّيْرُ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَالدُّلْجَةُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ سَيْرُ آخِرِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ سَيْرُ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَلِهَذَا عَبَّرَ فِيهِ بِالتَّبْعِيضِ ; وَلِأَنَّ عَمَلَ اللَّيْلِ أَشَقُّ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ. وَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ أَطْيَبُ أَوْقَاتِ الْمُسَافِرِ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَاطَبَ مُسَافِرًا إِلَى مَقْصِدِ فَنَبَّهَهُ عَلَى أَوْقَاتِ نَشَاطِهِ ; لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا سَافَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ جَمِيعًا عَجَزَ وَانْقَطَعَ، وَإِذَا تَحَرَّى السَّيْرَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمُنَشِّطَةِ أَمْكَنَتْهُ الْمُدَاوَمَةُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ. وَحُسْنُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الدُّنْيَا فِي الْحَقِيقَةِ دَارُ نُقْلَةٍ إِلَى الْآخِرَةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِخُصُوصِهَا أَرْوَحُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْبَدَنُ لِلْعِبَادَةِ. وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ الْقَصْدَ الْقَصْدَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَالْقَصْدُ الْأَخْذُ بِالْأَمْرِ الْأَوْسَطِ.

وَمُنَاسَبَةُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَقِبَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَضَمَّنَتِ التَّرْغِيبَ فِي الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالْجِهَادِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْأَوْلَى لِلْعَامِلِ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُجْهِدَ نَفْسَهُ بِحَيْثُ يَعْجِزُ وَيَنْقَطِعُ، بَلْ يَعْمَلُ بِتَلَطُّفٍ وَتَدْرِيجٍ لِيَدُومَ عَمَلُهُ وَلَا يَنْقَطِعُ.

‌30 - بَاب الصَّلَاةُ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ،

يَعْنِي صَلَاتَكُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ

40 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ، مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَتْ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ.

قَالَ زُهَيْرٌ:، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ فِي حَدِيثِهِ هَذَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} .

[الحديث 40 - أطرافه في: 7252، 4492، 4486، 399]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) هُوَ مَرْفُوعٌ بِتَنْوِينٍ وَبِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَالصَّلَاةُ مَرْفُوعٌ عَلَى التَّنْوِينِ فَقَوْلُهُ وَقَوْلُ اللَّهِ مَرْفُوعٌ عَطْفًا عَلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَى عَدَمِهِ مَجْرُورٌ مُضَافٌ.

قَوْلُهُ: (يَعْنِي صَلَاتَكُمْ) وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مِنَ الْوَجْهِ

ص: 95

الَّذِي أَخْرَجَ مِنْهُ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْبَابِ، فَرَوَى الطَّيَالِسِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ عِنْدَ الْبَيْتِ مُشْكِلٌ، مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِكَوْنِهِ عِنْدَ الْبَيْتِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ فِيهِ تَصْحِيفًا، وَالصَّوَابُ يَعْنِي صَلَاتَكُمْ لِغَيْرِ الْبَيْتِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا تَصْحِيفَ فِيهِ بَلْ هُوَ صَوَابٌ، وَمَقَاصِدُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ دَقِيقَةٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْجِهَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا لِلصَّلَاةِ وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ; لَكِنَّهُ لَا يَسْتَدْبِرُ الْكَعْبَةَ بَلْ يَجْعَلُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

وَأَطْلَقَ آخَرُونَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةَ، فَلَمَّا تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ وَيَلْزَمُ مِنْهُ دَعْوَى النَّسْخِ مَرَّتَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى الْجَزْمِ بِالْأَصَحِّ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْبَيْتِ كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِالْأَوْلَوِيَّةِ ; لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْبَيْتِ وَهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِذَا كَانَتْ لَا تَضِيعُ فَأَحْرَى أَنْ لَا تَضِيعَ إِذَا بَعُدُوا عَنْهُ، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: يَعْنِي صَلَاتَكُمُ الَّتِي صَلَّيْتُمُوهَا عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ نَزِيلُ مِصْرَ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ، عَنْ عَبْدُوسٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُدَمَاءِ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ، وَلَيْسَ فِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ مَنِ اسْمُهُ عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ وَلَا فِي جَمِيعِ رِجَالِهِ بَلْ وَلَا فِي أَحَدٍ مِنْ رِجَالِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْجُعْفِيُّ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ الْجَزِيرَةِ وَبِهَا سَمِعَ مِنْهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ، وَسَمَاعُ زُهَيْرٍ مِنْهُ - فِيمَا قَالَ أَحْمَدُ - بَعْدَ أَنْ بَدَأَ تَغَيُّرَهُ، لَكِنْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ حَفِيدُهُ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْبَرَاءِ) هُوَ ابْنُ عَازِبٍ الْأَنْصَارِيُّ، صَحَابِيٌّ ابْنُ صَحَابِيٍّ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ فَأُمِنَ مَا يُخْشَى مِنْ تَدْلِيسِ أَبِي إِسْحَاقَ.

قَوْلُهُ: (أَوَّلَ) بِالنَّصْبِ أَيْ فِي أَوَّلِ زَمَنِ قُدُومِهِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (أَوْ قَالَ أَخْوَالُهُ) الشَّكُّ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَفِي إِطْلَاقِ أَجْدَادِهِ أَوْ أَخْوَالِهِ مَجَازٌ ; لِأَنَّ الْأَنْصَارَ أَقَارِبُهُ مِنْ جِهَةِ الْأُمُومَةِ، لِأَنَّ أُمَّ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ مِنْهُمْ، وَهِيَ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو أَحَدُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ.

وَإِنَّمَا نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ عَلَى إِخْوَتِهِمْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَفِيهِ عَلَى هَذَا مَجَازٌ ثَانٍ.

قَوْلُهُ: (قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ إِلَى جِهَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

قَوْلُهُ: (سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ) كَذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ هَذ هِ هُنَا، وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْهُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَهُ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا. وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ رَجَاءَ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ فَقَالَ: سِتَّةَ عَشَرَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصَ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَشَرِيكٍ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ - بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ مُصَغَّرًا - كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَكَذَا لِأَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَلِلْبَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سَبْعَةَ عَشَرَ وَكَذَا لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ سَهْلٌ بِأَنْ يَكُونَ مَنْ جَزَمَ بِسِتَّةَ عَشَرَ لَفَّقَ مِنْ شَهْرِ الْقُدُومِ وَشَهْرِ التَّحْوِيلِ شَهْرًا وَأَلْغَى الزَّائِدَ، وَمَنْ جَزَمَ بِسَبْعَةَ عَشَرَ عَدَّهُمَا مَعًا، وَمَنْ شَكَّ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقُدُومَ كَانَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِلَا

ص: 96

خِلَافٍ، وَكَانَ التَّحْوِيلُ فِي نِصْفِ شَهْرِ رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ جَزَمَ الْجُمْهُورُ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقُدُومَ كَانَ فِي ثَانِي عَشَرَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَشَذَّتْ أَقْوَالٌ أُخْرَى. فَفِي ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَأَبُو بَكْرٍ سَيِّئُ الْحِفْظِ وَقَدِ اضْطَرَبَ فِيهِ، فَعِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِهِ فِي رِوَايَةِ: سَبْعَةَ عَشَرَ، وَفِي رِوَايَةِ: سِتَّةَ عَشَرَ، وَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّ التَّحْوِيلَ كَانَ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَأَقَرَّهُ، مَعَ كَوْنِهِ رَجَّحَ فِي شَرْحِهِ لِمُسْلِمٍ رِوَايَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا لِكَوْنِهَا مَجْزُومًا بِهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ إِلَّا إِنِ أَلْغَى شَهْرَيِ الْقُدُومِ وَالتَّحْوِيلِ، وَقَدْ جَزَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ بِأَنَّ التَّحْوِيلَ كَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ.

وَمِنَ الشُّذُوذِ أَيْضًا رِوَايَةُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَرِوَايَةُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، أَوْ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَرِوَايَةُ شَهْرَيْنِ، وَرِوَايَةُ سَنَتَيْنِ، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى الصَّوَابِ. وَأَسَانِيدُ الْجَمِيعِ ضَعِيفَةٌ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَجُمْلَةٌ مَا حَكَاهُ تِسْعُ رِوَايَاتٍ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ) بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُ مَفْعُولُ صَلَّى، وَالْعَصْرُ كَذَلِكَ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَأَعْرَبَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِالرَّفْعِ، وَفِي الْكَلَامِ مُقَدَّرٌ لَمْ يُذْكَرْ لِوُضُوحِهِ، أَيْ: أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكَعْبَةِ صَلَاةُ الْعَصْرِ.

وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ - عَلَى التَّرَدُّدِ - وَسَاقَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: صَلَّيْنَا إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فِي بَنِي سَلِمَةَ لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ الظُّهْرُ، وَأَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الْعَصْرُ، وَأَمَّا الصُّبْحُ فَهُوَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِأَهْلِ قُبَاءٍ، وَهَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ أَوْ رَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ؟ أَقْوَالٌ.

قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ رَجُلٌ) هُوَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ قَيْظِيٍّ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ حَدِيثِ طَوِيلَةَ بِنْتِ أَسْلَمَ، وَقِيلَ هُوَ عَبَّادُ بْنُ نَهِيكٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَأَهْلُ الْمَسْجِدِ الَّذِينَ مَرَّ بِهِمْ قِيلَ هُمْ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، وَقِيلَ هُوَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ الَّذِي أَخْبَرَ أَهْلُ قُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ تَقْرِيرَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْفَوَائِدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَشْهَدُ بِاللَّهِ) أَيْ أَحْلِفُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ أَشْهَدُ بِكَذَا، أَيْ: أَحْلِفُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (قِبَلَ مَكَّةَ) أَيْ: قِبَلَ الْبَيْتِ الَّذِي فِي مَكَّةَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْكَافُ لِلْمُبَادَرَةِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ لِلْمُقَارَنَةِ، وَهُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ.

قَوْلُهُ: (قَدْ أَعْجَبَهُمْ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. (وَأَهْلُ الْكِتَابِ) هُوَ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْيَهُودِ، مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ. وَقِيلَ الْمُرَادُ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ النَّصَارَى لَا يُصَلُّونَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَكَيْفَ يُعْجِبُهُمْ؟ وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كَانَ إِعْجَابُهُمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْيَهُودِ. قُلْتُ: وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْيَهُودِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالنَّصْبِ، وَالْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ: يُصَلِّي مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاخْتُلِفَ فِي صَلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ الْمَذْكُورَةِ صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَ دُخُولِ الْمَدِينَةِ بِشَهْرَيْنِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَحْضًا، وَحَكَى الزُّهْرِيُّ خِلَافًا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ خَلْفَ ظَهْرِهِ أَوْ يَجْعَلُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قُلْتُ: وَعَلَى الْأَوَّلِ فَكَانَ يَجْعَلُ الْمِيزَابَ خَلْفَهُ، وَعَلَى الثَّانِي كَانَ يُصَلِّي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. وَزَعَمَ نَاسٌ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ نُسِخَ.

وَحَمَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي. وَيُؤَيِّدُ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِمَامَةُ جِبْرِيلَ، فَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ

ص: 97

ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ بَابِ الْبَيْتِ.

قَوْلُهُ: (أَنْكَرُوا ذَلِكَ) يَعْنِي الْيَهُودُ، فَنَزَلَتْ:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} الْآيَةَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ زُهَيْرٍ) يَعْنِي ابْنَ مُعَاوِيَةَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ بِحَذْفِ أَدَاةِ الْعَطْفِ كَعَادَتِهِ، وَوَهَمَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ مَعَ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ زُهَيْرٍ سِيَاقًا وَاحِدًا.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ) أَيْ: قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ (رِجَالٌ وَقُتِلُوا) ذِكْرُ الْقَتْلِ لَمْ أَرَهُ إِلَّا فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، وَبَاقِي الرِّوَايَاتِ إِنَّمَا فِيهَا ذِكْرُ الْمَوْتِ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ صَحِيحًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالَّذِينَ مَاتُوا بَعْدَ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةُ أَنْفُسٍ، فَبِمَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِهَابٍ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ الزُّهْرِيَّانِ، وَالسَّكْرَانُ بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيُّ. وَبِأَرْضِ الْحَبَشَةَ مِنْهُمْ: حَطَّابٌ - بِالْمُهْمَلَةِ - ابْنُ الْحَارِثِ الْجُمَحِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الْأَسَدِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ السَّهْمِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَعَدِيُّ بْنُ نَضْلَةَ الْعَدَوِيَّانِ. وَمِنَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ: الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِمُهْمَلَاتٍ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ. فَهَؤُلَاءِ الْعَشَرَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمْ. وَمَاتَ فِي الْمُدَّةِ أَيْضًا إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيُّ ; لَكِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي إِسْلَامِهِ. وَلَمْ أَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قُتِلَ قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الذِّكْرِ عَدَمُ الْوُقُوعِ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَحْفُوظَةً فَتُحْمَلُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ قُتِلَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ، وَلَمْ يُضْبَطِ اسْمُهُ لِقِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِالتَّارِيخِ إِذْ ذَاكَ.

ثُمَّ وَجَدْتُ فِي الْمَغَازِي ذِكْرَ رَجُلٍ اخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِهِ وَهُوَ سُوَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ تَلْقَاهُ الْأَنْصَارُ فِي الْعَقَبَةِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَسَنٌ. وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقُتِلَ بِهَا فِي وَقْعَةِ بُعَاثٍ - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَإِهْمَالِ الْعَيْنِ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ - وَكَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، قَالَ: فَكَانَ قَوْمُهُ يَقُولُونَ: لَقَدْ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ. وَذَكَرَ لِي بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَنْ قُتِلَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ كَأَبَوَيْ عَمَّارٍ.

قُلْتُ: يَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ أَنَّ قَتْلَهُمَا بَعْدَ الْإِسْرَاءِ.

(تَنْبِيهٌ): فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: الرَّدُّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فِي إِنْكَارِهِمْ تَسْمِيَةَ أَعْمَالِ الدِّينِ إِيمَانًا. وَفِيهِ أَنَّ تَمَنِّيَ تَغْيِيرِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ جَائِزٌ إِذَا ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ بَيَانُ شَرَفِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم وَكَرَامَتِهِ عَلَى رَبِّهِ لِإِعْطَائِهِ لَهُ مَا أَحَبَّ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالسُّؤَالِ. وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى دِينِهِمْ وَالشَّفَقَةِ عَلَى إِخْوَانِهِمْ، وَقَدْ وَقَعَ لَهُمْ نَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ كَمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَيْضًا فَنَزَلَ:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} - إِلَى قَوْلِهِ: - {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} وَلِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْمَعْنَى عَقَّبَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْبَابَ بِقَوْلِهِ: بَابُ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ فَذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا فَعَلَ الْحَسَنَةَ أُثِيبَ عَلَيْهَا.

‌31 - بَاب حُسْنُ إِسْلَامِ الْمَرْءِ

41 -

قَالَ مَالِكٌ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ مَالِكٌ) هَكَذَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا، وَلَمْ يُوصِلْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ فِي رِوَايَتِهِ لِلصَّحِيحِ، فَقَالَ عَقِبَهُ: أَخْبَرَنَاهُ النَّضْرَوِيُّ هُوَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ

ص: 98

بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَكَذَا وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، فَذَكَرَهُ أَتَمَّ مِمَّا هُنَا كَمَا سَيَأْتِي، وَكَذَا وَصَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ الْفَرَوِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ، وَذَكَرَ أَنَّ مَعْنَ بْنَ عِيسَى رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، فَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَدَلَ أَبِي سَعِيدٍ، وَرِوَايَتُهُ شَاذَّةٌ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا. وَرُوِّينَاهُ فِي الْخُلَعِيَّاتِ

(1)

وَقَدْ حَفِظَ مَالِكٌ الْوَصْلَ فِيهِ وَهُوَ أَتْقَنُ لِحَدِيثِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ. وَذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ) هَذَا الْحُكْمُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُذَكَّرِ تَغْلِيبًا.

قَوْلُهُ: (فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ) أَيْ: صَارَ إِسْلَامُهُ حَسَنًا بِاعْتِقَادِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَدُخُولِهِ فِيهِ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَأَنْ يَسْتَحْضِرَ عِنْدَ عَمَلِهِ قُرْبَ رَبِّهِ مِنْهُ وَاطِّلَاعَهُ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْإِحْسَانِ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (يُكَفِّرُ اللَّهُ) هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ لِأَنَّ إِذَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ لَكِنَّهَا لَا تَجْزِمُ، وَاسْتَعْمَلَ الْجَوَابَ مُضَارِعًا وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ بِلَفْظِ الْمَاضِي لَكِنَّهُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ كَفَّرَ اللَّهُ فَوَاخَى بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (كَانَ أَزْلَفَهَا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ زَلَفَهَا، وَهِيَ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ كَمَا ضَبَطَهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ بِالتَّشْدِيدِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: مَا مِنْ عَبْدٍ يُسْلِمُ فَيَحْسُنُ إِسْلَامُهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ زَلَفَهَا، وَمَحَا عَنْهُ كُلَّ خَطِيئَةٍ زَلَفَهَا بِالتَّخْفِيفِ فِيهِمَا. وَلِلنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ لَكِنْ قَالَ أَزْلَفَهَا. وَزَلَّفَ بِالتَّشْدِيدِ وَأَزْلَفَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَيْ: أَسْلَفَ وَقَدَّمَ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ: أَزْلَفَ الشَّيْءَ قَرَّبَهُ وَزَلَفَهُ مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا قَدَّمَهُ. وَفِي الْجَامِعِ: الزُّلْفَةُ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ: زَلَفَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: جَمَعَ وَكَسَبَ، وَهَذَا يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا الْقُرْبَةُ فَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْخَيْرِ، فَعَلَى هَذَا تَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، لَكِنْ مَنْقُولُ الْخَطَّابِيِّ يُسَاعِدُهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ مَا سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ كِتَابَةُ الْحَسَنَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ كَتَبَ اللَّهُ أَيْ: أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: يَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ اكْتُبُوا فَقِيلَ: إِنَّ الْمُصَنِّفَ أَسْقَطَ مَا رَوَاهُ غَيْرُهُ عَمْدًا لِأَنَّهُ مُشْكِلٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْكَافِرُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّقَرُّبُ، فَلَا يُثَابُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الصَّادِرِ مِنْهُ فِي شِرْكِهِ ; لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُتَقَرِّبِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا لِمَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَتَابَعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْإِشْكَالِ، وَاسْتَضْعَفَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ - بَلْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ - أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ، وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقَوَاعِدِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْتَدُّ بِبَعْضِ أَفْعَالِ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهَا إِذَا أَسْلَمَ وَتُجْزِئُهُ، انْتَهَى.

وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كِتَابَةِ الثَّوَابِ لِلْمُسْلِمِ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ وَإِحْسَانًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِ عَمَلِهِ الصَّادِرِ مِنْهُ فِي الْكُفْرِ مَقْبُولًا، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا تَضَمَّنَ كِتَابَةَ الثَّوَابِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْقَبُولِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ يَصِيرُ مُعَلَّقًا عَلَى إِسْلَامِهِ فَيُقْبَلُ وَيُثَابُ إِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا قَوِيٌّ، وَقَدْ جَزَمَ بِمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ، إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمْ مِنَ

(1)

هي عشرون جزءا في الحديث، تخريج القاضي أبي الحسين علي بن حسن الخلعى الموصلي المتوفى سنة 448

ص: 99

الْقُدَمَاءِ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ الْمُنِيرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْمُخَالِفُ لِلْقَوَاعِدِ دَعْوَى أَنْ يُكْتَبَ لَهُ ذَلِكَ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَأَمَّا أَنَّ اللَّهَ يُضِيفُ إِلَى حَسَنَاتِهِ فِي الْإِسْلَامِ ثَوَابَ مَا كَانَ صَدَرَ مِنْهُ مِمَّا كَانَ يَظُنُّهُ خَيْرًا فَلَا مَانِعَ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ، وَكَمَا يَتَفَضَّلُ عَلَى الْعَاجِزِ بِثَوَابِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ قَادِرٌ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ ثَوَابَ مَا لَمْ يَعْمَلِ الْبَتَّةَ جَازَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ ثَوَابَ مَا عَمِلَهُ غَيْرَ مُوَفَّى الشُّرُوطِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لِلَّهِ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ غَيْرُهُ بِأَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ لَوْ مَاتَ عَلَى إِيمَانِهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَنْفَعْهُ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، بَلْ يَكُونُ هَبَاءً مَنْثُورًا.

فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ عَمَلِهِ الْأَوَّلِ يُكْتَبُ لَهُ مُضَافًا إِلَى عَمَلِهِ الثَّانِي، وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَأَلَتْهُ عَائِشَةُ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ: وَمَا كَانَ يَصْنَعُهُ مِنَ الْخَيْرِ هَلْ يَنْفَعُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَهَا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ نَفَعَهُ مَا عَمِلَهُ فِي الْكُفْرِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ) أَيْ: كِتَابَةُ الْمُجَازَاةِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِأَنَّهُ اسْمُ كَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَانَ تَامَّةً، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعَ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} وَقَوْلُهُ: الْحَسَنَةُ مُبْتَدَأٌ، وَبِعَشْرِ الْخَبَرُ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: إِلَى سبعمائة مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ مُنْتَهِيَةٍ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْغَايَةِ فَزَعَمَ أَنَّ التَّضْعِيفَ لَا يَتَجَاوَزُ سَبْعَمِائَةٍ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُضَاعِفُ تِلْكَ الْمُضَاعَفَةِ بِأَنْ يَجْعَلَهَا سَبْعَمِائَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُضَاعِفُ السَّبْعَمِائَةِ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا، وَالْمُصَرِّحُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُخَرَّجُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الرِّقَاقِ وَلَفْظُهُ: كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا) زَادَ سَمَّوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ: إِلَّا أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ وَهُوَ الْغَفُورُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُكَفِّرِينَ بِالذُّنُوبِ وَالْمُوجِبِينَ لِخُلُودِ الْمُذْنِبِينَ فِي النَّارِ، فَأَوَّلُ الْحَدِيثِ يَرُدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ فِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْحُسْنَ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُهُ، وَآخِرُهُ يَرُدُّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.

42 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ هَمَّامٍ) هُوَ ابْنُ مُنَبِّهٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ نُسْخَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الْمَرْوِيَّةِ بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِفْرَادِ حَدِيثٍ مِنْ نُسْخَةٍ هَلْ يُسَاقُ بِإِسْنَادِهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُبْتَدَأً بِهِ، أَوْ لَا؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ وَمِنْهُمُ الْبُخَارِيُّ، وَقِيلَ يَمْتَنِعُ، وَقِيلَ يَبْدَأُ أَبَدًا بِأَوَّلِ حَدِيثٍ وَيَذْكُرُ بَعْدَهُ مَا أَرَادَ. وَتَوَسَّطَ مُسْلِمٌ فَأَتَى بِلَفْظٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُفْرَدَ مِنْ جُمْلَةِ النُّسْخَةِ فَيَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا إِذَا انْتَهَى الْإِسْنَادُ: فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا كَذَا، ثُمَّ يَذْكُرُ أَيَّ حَدِيثٍ أَرَادَ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ) كَذَا لَهُ وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَلِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ إِذَا حَسُنَ إِسْلَامُ أَحَدِكُمْ وَكَأَنَّهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ مِنْ لَازِمِهِ. وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ كَالْأَوَّلِ، وَالْخِطَابُ بِأَحَدِكُمْ بِحَسَبِ اللَّفْظِ لِلْحَاضِرِينَ، لَكِنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ حَصَلَ التَّنَازُعُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّنَاوُلِ أَهِيَ بِالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَوِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِالْمَجَازِ.

قَوْلُهُ: (فَكُلُّ حَسَنَةٍ) يُنْبِئُ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ

ص: 100

فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ.

قَوْلُهُ: (بِمِثْلِهَا) زَادَ مُسْلِمٌ، وَإِسْحَاقُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِمْ: حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عز وجل.

‌32 - بَاب أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ عز وجل أَدْوَمُهُ

43 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: فُلَانَةُ - تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا - قَالَ: مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا. وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.

[الحديث 43 - في: 1151]

قَوْلُهُ: (بَابُ أَحَبِّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ) مُرَادُ الْمُصَنِّفِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ هُنَا الْعَمَلُ، وَالدِّينُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَالْإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ مُرَادِفٌ لِلْإِيمَانِ، فَيَصِحُّ بِهَذَا مَقْصُودُهُ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَحْسُنُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ جِهَادَ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ إِلَى حَدِّ الْمُغَالَبَةِ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ الدِّينُ يُسْرٌ وَفِي هَذَا مَا لَيْسَ فِي ذَاكَ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ هِشَامٍ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ مَنْ هَذِهِ) لِلْأَصِيلِيِّ قَالَ مَنْ هَذِهِ بِغَيْرِ فَاءٍ، وَيُوَجَّهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَاذَا قَالَ حِينَ دَخَلَ؟ قَالَتْ: قَالَ مَنْ هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ فُلَانَةُ) هَذِهِ اللَّفْظَةُ كِنَايَةٌ عَنْ كُلِّ عَلَمٍ مُؤَنَّثٍ فَلَا يَنْصَرِفُ، زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَسَنَةُ الْهَيْئَةِ.

قَوْلُهُ: (تَذْكُرُ) بِفَتْحِ التَّاءِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَالْفَاعِلُ عَائِشَةُ. وَرُوِيَ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ: يَذْكُرُونَ أَنَّ صَلَاتَهَا كَثِيرَةٌ. وَلِأَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ لَا تَنَامُ، تُصَلِّي وَلِلْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ صَلَاةِ اللَّيْلِ مُعَلَّقًا عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَهُوَ مَوْصُولٌ فِي الْمُوَطَّأِ لِلْقَعْنَبِيِّ وَحْدَهُ فِي آخِرِهِ لَا تَنَامُ بِاللَّيْلِ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهَا مِنْ بَنِي أَسَدٍ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا الْحَوْلَاءُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ وَهُوَ اسْمُهَا بِنْتُ تُوَيْتٍ بِمُثَنَّاتَيْنِ مُصَغَّرًا ابْنِ حَبِيبٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ابْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ رَهْطِ خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، وَفِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ وَهَذَا يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ فِي أَنَّهَا نُقِلَتْ عَنْ غَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ حَدِيثُ هِشَامٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ عِنْدَهَا، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ الْحَوْلَاءَ مَرَّتْ بِهَا فَظَاهِرُهُ التَّغَايُرُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَارَّةُ امْرَأَةً غَيْرَهَا مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَيْضًا أَوْ أَنَّ قِصَّتَهَا تَعَدَّدَتْ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ مَرَّتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ لَهُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَمَّا دَخَلَ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ قَامَتِ الْمَرْأَةُ كَمَا فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ الْآتِيَةِ، فَلَمَّا قَامَتْ لِتَخْرُجَ مَرَّتْ بِهِ فِي خِلَالِ ذَهَابِهَا فَسَأَلَ عَنْهَا، وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الرِّوَايَاتُ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّهَا أَمِنَتْ عَلَيْهَا الْفِتْنَةَ فَلِذَلِكَ مَدَحَتْهَا فِي وَجْهِهَا. قُلْتُ: لَكِنَّ رِوَايَةَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ، أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظُهُ: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ، فَلَمَّا قَامَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ هَذِهِ يَا عَائِشَةُ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ فُلَانَةُ، وَهِيَ أَعْبَدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،

ص: 101

فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (مَهْ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ كَلِمَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ، وَهِيَ اسْمٌ سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ، وَالْمَعْنَى اكْفُفْ، يُقَالُ مَهْمَهْتُهُ إِذَا زَجَرْتُهُ، فَإِنْ وَصَلْتَ نَوَّنْتَ فَقُلْتَ مَهٍ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا هَذَا كَالْإِنْكَارِ فَطَرَحُوا بَعْضَ اللَّفْظَةِ فَقَالُوا مَهْ فَصَيَّرُوا الْكَلِمَتَيْنِ كَلِمَةً، وَهَذَا الزَّجْرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعَائِشَةَ، وَالْمُرَادُ نَهْيُهَا عَنْ مَدْحِ الْمَرْأَةِ بِمَا ذَكَرَتْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَقَالُوا: يُكْرَهُ صَلَاةُ جَمِيعِ اللَّيْلِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ.

قَوْلُهُ: (عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ) أَيِ: اشْتَغِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا تَسْتَطِيعُونَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ، فَمَنْطُوقُهُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا يُطَاقُ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَمَفْهُومُهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ تَكَلُّفِ مَا لَا يُطَاقُ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَاصًّا بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ. قُلْتُ: سَبَبُ وُرُودِهِ خَاصٌّ بِالصَّلَاةِ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ. وَقَدْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ عَلَيْكُمْ مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ النِّسَاءُ طَلَبًا لِتَعْمِيمِ الْحُكْمِ، فَغُلِّبَتِ الذُّكُورُ عَلَى الْإِنَاثِ.

قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ) فِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ. وَقَدْ يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ فِي تَفْخِيمِ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوْ حَثٍّ عَلَيْهِ أَوْ تَنْفِيرٍ مِنْ مَحْذُورٍ.

قَوْلُهُ: (لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْمَلَالُ اسْتِثْقَالُ الشَّيْءِ وَنُفُورُ النَّفْسِ عَنْهُ بَعْدَ مَحَبَّتِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّفَاقٍ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّمَا أُطْلِقَ هَذَا عَلَى جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ مَجَازًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَأَنْظَارُهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَجْهُ مَجَازِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يَقْطَعُ ثَوَابَهُ عَمَّنْ يَقْطَعُ الْعَمَلَ مَلَالًا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَلَالِ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يَقْطَعُ عَنْكُمْ فَضْلَهُ حَتَّى تَمَلُّوا سُؤَالَهُ فَتَزْهَدُوا فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ لَا يَتَنَاهَى حَقُّهُ عَلَيْكُمْ فِي الطَّاعَةِ حَتَّى يَتَنَاهَى جُهْدُكُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَتَّى عَلَى بَابِهَا فِي انْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَفْهُومِ. وَجَنَحَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَأْوِيلِهَا فَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَمَلُّ اللَّهُ إِذَا مَلَلْتُمْ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: لَا أَفْعَلُ كَذَا حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُ أَوْ حَتَّى يَشِيبَ الْغُرَابُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْبَلِيغِ: لَا يَنْقَطِعُ حَتَّى يَنْقَطِعَ خُصُومُهُ ; لِأَنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ حِينَ يَنْقَطِعُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمْ مَزِيَّةٌ. وَهَذَا الْمِثَالُ أَشْبَهُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ شَيْبَ الْغُرَابِ لَيْسَ مُمْكِنًا عَادَةً، بِخِلَافِ الْمَلَلِ مِنَ الْعَابِدِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: قِيلَ إِنَّ حَتَّى هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لَا يَمَلُّ وَتَمَلُّونَ، فَنَفَى عَنْهُ الْمَلَلَ وَأَثْبَتَهُ لَهُمْ. قَالَ: وَقِيلَ حَتَّى بِمَعْنَى حِينَ.

وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ وَأَجْرَى عَلَى الْقَوَاعِدِ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ لَكِنْ فِي سَنَدِهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: هَذَا مِنَ أَلْفَاظِ التَّعَارُفِ الَّتِي لَا يَتَهَيَّأُ لِلْمُخَاطَبِ أَنْ يَعْرِفَ الْقَصْدَ مِمَّا يُخَاطَبُ بِهِ إِلَّا بِهَا، وَهَذَا رَأْيُهُ فِي جَمِيعِ الْمُتَشَابِهِ.

قَوْلُهُ: (أَحَبُّ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: مَعْنَى الْمَحَبَّةِ مِنَ اللَّهِ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ بِالثَّوَابِ

(1)

أَيْ: أَكْثَرُ الْأَعْمَالِ ثَوَابًا أَدْوَمُهَا.

قَوْلُهُ: (إِلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ إِلَى اللَّهِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، وَلِمُسْلِمٍ، عَنِ الْقَاسِمِ كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِتَرْجَمَةِ الْبَابِ، وَقَالَ بَاقِي الرُّوَاةُ عَنْ هِشَامٍ: وَكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الرِّقَاقِ فِي

(1)

هذا من التأويل الباطل، والحق الذي عليه أهل السنة أن معنى المحبة غير معنى الإرادة، والله سبحانه موصوف بها على الوجه الذي يليق بجلاله، ومحبته لاتشابه محبة خلقه؛ كما أن إرادة خلقه وهكذا سائر صفاته كما قال تعالى {وَليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير}

ص: 102

رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَلَيْسَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ تَخَالُفٌ ; لِأَنَّ مَا كَانَ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: بِدَوَامِ الْقَلِيلِ تَسْتَمِرُّ الطَّاعَةُ بِالذِّكْرِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ الشَّاقِّ حَتَّى يَنْمُوَ الْقَلِيلُ الدَّائِمُ بِحَيْثُ يَزِيدُ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّمَا أَحَبَّ الدَّائِمَ لِمَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّارِكَ لِلْعَمَلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ كَالْمُعْرِضِ بَعْدَ الْوَصْلِ، فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلذَّمِّ، وَلِهَذَا وَرَدَ الْوَعِيدُ فِي حَقِّ مَنْ حَفِظَ آيَةً ثُمَّ نَسِيَهَا وَإِنْ كَانَ قَبْلَ حِفْظِهَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ.

ثَانِيهُمَا: أَنَّ مُدَاوِمَ الْخَيْرِ مُلَازِمٌ لِلْخِدْمَةِ، وَلَيْسَ مَنْ لَازَمَ الْبَابَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَقْتًا مَا كَمَنْ لَازَمَ يَوْمًا كَامِلًا ثُمَّ انْقَطَعَ. وَزَادَ الْمُصَنِّفُ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ.

‌33 - بَاب زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} ، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وَقَالَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ.

44 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مِنْ إِيمَانٍ، مَكَانَ، مِنْ خَيْرٍ.

[الحديث 44 - أطرافه في: 7516، 7510، 7509، 7440، 7410، 6565، 4476]

قَوْلُهُ: (بَابُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ) تَقَدَّمَ لَهُ قَبْلُ بِسِتَّةَ عَشَرَ بَابًا بَابُ تَفَاضُلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي أَوْرَدَهُ هُنَا، فَتُعُقِّبَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَكْرَارٌ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمَّا كَانَتِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ أَوْ بِاعْتِبَارِ التَّصْدِيقِ، تَرْجَمَ لِكُلٍّ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَخَصَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ بِالْأَعْمَالِ لِأَنَّ سِيَاقَهُ لَيْسَ فِيهِ تَفَاوُتٌ بَيْنَ الْمَوْزُونَاتِ، بِخِلَافِ حَدِيثِ أَنَسٍ فَفِيهِ التَّفَاوُتُ فِي الْإِيمَانِ الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ مِنْ وَزْنِ الشَّعِيرَةِ وَالْبُرَّةِ وَالذَّرَّةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: التَّفَاوُتُ فِي التَّصْدِيقِ عَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، فَمَنْ قَلَّ عِلْمُهُ كَانَ تَصْدِيقُهُ مَثَلًا بِمِقْدَارِ ذَرَّةٍ، وَالَّذِي فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ تَصْدِيقُهُ بِمِقْدَارِ بُرَّةٍ، أَوْ شَعِيرَةٍ. إِلَّا أَنَّ أَصْلَ التَّصْدِيقِ الْحَاصِلِ فِي قَلْبِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النُّقْصَانُ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ بِزِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْمُعَايَنَةِ، انْتَهَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ النَّوَوِيِّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ بِمَا يُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَوَقَعَ الِاسْتِدْلَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنَظِيرِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنَ الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الرَّقِّيِّ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ: إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ كَلَامٌ، فَقَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الْأَحْكَامُ، فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَهُمْ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ فَفَعَلُوا، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا نَفَعَهُمُ الْإِقْرَارُ. فَذَكَرَ الْأَرْكَانَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ مَا تَتَابَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ وَقَبُولَهُمْ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الْآيَةَ. فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَسَلًا أَوْ مُجُونًا أَدَّبْنَاهُ عَلَيْهِ وَكَانَ نَاقِصَ الْإِيمَانِ، وَمَنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا كَانَ كَافِرًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَتَبِعَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَزَادَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُخَالِفِينَ لَمَّا أُلْزِمَ بِذَلِكَ أَجَابَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ مَجْمُوعَ الدِّينِ، إِنَّمَا الدِّينُ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ: الْإِيمَانُ جُزْءٌ، وَالْأَعْمَالُ جُزْءَانِ لِأَنَّهَا فَرَائِضُ وَنَوَافِلُ. وَتَعَقَّبَهُ أَبُو عُبَيْدٍ

ص: 103

بِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وَالْإِسْلَامُ حَيْثُ أُطْلِقَ مُفْرَدًا دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَعَادَ فِي هَذَا الْبَابِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَتَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَعَادَهُمَا لِيُوَطِّئَ بِهِمَا مَعْنَى الْكَمَالِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ ; لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا نَصٌّ فِي الزِّيَادَةِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ النَّقْصَ. وَأَمَّا الْكَمَالُ فَلَيْسَ نَصًّا فِي الزِّيَادَةِ، بَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّقْصِ فَقَطْ، وَاسْتِلْزَامُهُ لِلنَّقْصِ يَسْتَدْعِي قَبُولَهُ الزِّيَادَةَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَدَلَ فِي التَّعْبِيرِ لِلْآيَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ أُسْلُوبِ الْآيَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا وَقَوْلُ اللَّهِ وَقَالَ ثَانِيًا وَقَالَ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ آيَةَ:{أَكْمَلْتُ لَكُمْ} لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى مُرَادِهِ ; لِأَنَّ الْإِكْمَالَ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى إِظْهَارِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ أَوْ بِمَعْنَى إِظْهَارِ أَهْلِ الدِّينِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَلَا حُجَّةَ لِلْمُصَنِّفِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى إِكْمَالِ الْفَرَائِضِ لَزِمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ نَاقِصًا، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ إِيمَانُهُ نَاقِصًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَزَلْ تَامًّا.

وَيُوَضِّحُ دَفْعَ هَذَا الِاعْتِرَاضِ جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ النَّقْصَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، لَكِنَّ مِنْهُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الذَّمُّ وَمِنْهُ مَا لَا يَتَرَتَّبُ، فَالْأَوَّلُ مَا نَقْصُهُ بِالِاخْتِيَارِ كَمَنْ عَلِمَ وَظَائِفَ الدِّينِ ثُمَّ تَرَكَهَا عَمْدًا، وَالثَّانِي مَا نَقْصُهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ كَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَوْ لَمْ يُكَلَّفْ، فَهَذَا لَا يُذَمُّ بَلْ يُحْمَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ قَلْبُهُ مُطَمْئِنًا بِأَنَّهُ لَوْ زِيدَ لَقَبِلَ وَلَوْ كُلِّفَ لَعَمِلَ، وَهَذَا شَأْنُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ. وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ النَّقْصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ صُورِيٌّ نِسْبِيٌّ، وَلَهُمْ فِيهِ رُتْبَةُ الْكَمَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ شَرْعَ مُحَمَّدٍ أَكْمَلُ مِنْ شَرْعِ مُوسَى وَعِيسَى لِاشْتِمَالِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ فِي الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَمَعَ هَذَا فَشَرْعُ مُوسَى فِي زَمَانِهِ كَانَ كَامِلًا، وَتَجَدَّدَ فِي شَرْعِ عِيسَى بَعْدَهُ مَا تَجَدَّدَ، فَالْأَكْمَلِيَّةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ كَمَا تَقَرَّرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتُوَائِيُّ، يُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ، وَفِي طَبَقَتِهِ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ لَكِنَّهُ لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (يَخْرُجُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الرَّاءِ، وَيُرْوَى بِالْعَكْسِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَخْرِجُوا.

قَوْلُهُ: (مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ النُّطْقِ بِالتَّوْحِيدِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ هُنَا الْقَوْلُ النَّفْسِيُّ، فَالْمَعْنَى مَنْ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ وَصَدَقَ، فَالْإِقْرَارُ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلِهَذَا أَعَادَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. وَالتَّفَاوُتُ يَحْصُلُ فِي التَّصْدِيقِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ لَمْ يَذْكُرِ الرِّسَالَةَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَجْمُوعُ، وَصَارَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ عَلَمًا عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: قَرَأْتُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أَيِ: السُّورَةَ كُلَّهَا.

قَوْلُهُ: (بُرَّةٌ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَهِيَ الْقَمْحَةُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ وَزْنَ الْبُرَّةِ دُونَ وَزْنِ الشَّعِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ الشَّعِيرَةَ وَتَلَاهَا بِالْبُرَّةِ ثُمَّ الذَّرَّةِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ السِّيَاقَ بِالْوَاوِ وَهِيَ لَا تُرَتِّبُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ ثُمَّ وَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ.

قَوْلُهُ: (ذَرَّةٌ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَصَحَّفَهَا شُعْبَةُ - فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْهُ - فَقَالَ ذُرَةٌ بِالضَّمِّ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُهَا مِنَ الْحُبُوبِ، فَنَاسَبَتِ الشَّعِيرَةَ وَالْبُرَّةَ. قَالَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ يَزِيدُ: صَحَّفَ فِيهَا أَبُو بِسْطَامٍ، يَعْنِي شُعْبَةَ. وَمَعْنَى الذَّرَّةِ قِيلَ: هِيَ أَقَلُّ الْأَشْيَاءِ الْمَوْزُونَةِ، وَقِيلَ: هِيَ الْهَبَاءُ الَّذِي يَظْهَرُ فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ مِثْلَ رُءُوسِ الْإِبَرِ، وَقِيلَ: هِيَ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَضَعْتَ كَفَّكَ فِي التُّرَابِ ثُمَّ نَفَضْتَهَا فَالسَّاقِطُ هُوَ الذَّرُّ. وَيُقال: إن أَرْبَعَ ذَرَّاتٍ وَزْنُ خَرْدَلَةٍ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي أَوَاخِرِ التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: أُدْخِلَ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ، ثُمَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى شَيْءٍ وَهَذَا مَعْنَى الذَّرَّةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبَانُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ لَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ. . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفَائِدَةُ إِيرَادِ

ص: 104

الْمُصَنِّفِ لَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا تَصْرِيحُ قَتَادَةَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ عَنْ أَنَسٍ، ثَانِيَتُهُمَا تَعْبِيرُهُ فِي الْمَتْنِ بِقَوْلِهِ: مِنْ إِيمَانٍ بَدَلَ قَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ هُنَا الْإِيمَانُ. فَإِنْ قِيلَ عَلَى الْأُولَى لِمَ لَمْ يَكْتَفِ بِطَرِيقِ أَبَانَ السَّالِمَةِ مِنَ التَّدْلِيسِ وَيَسُوقُهَا مَوْصُولَةً؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَبَانَ وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا لَكِن هِشَام أَتْقَنُ مِنْهُ وَأَضْبَطُ. فَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ هَذَا الْمَتْنِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ حَيْثُ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرِجَالُ هَذَا الْحَدِيثِ مَوْصُولًا وَمُعَلَّقًا كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ.

45 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ، أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.

[الحديث 45 - أطرافه في: 7268، 4606، 4407]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ) مُرَادُهُ: أَنَّهُ سَمِعَ، وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ بِحَذْفِ أَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا خَطًّا لَا نُطْقًا كَقَالَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ) هَذَا الرَّجُلُ هُوَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، بَيَّنَ ذَلِكَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ رَجَاءِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ خَرَشَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ كَعْبٍ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْيَهُودِ. وَلَهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: قَالَتِ الْيَهُودُ. فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِينَ سُؤَالِ كَعْبٍ عَنْ ذَلِكَ جَمَاعَةً، وَتَكَلَّمَ كَعْبٌ عَلَى لِسَانِهِمْ.

قَوْلُهُ: (لَاتَّخَذْنَا. . إِلَخْ) أَيْ لَعَظَّمْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُ عِيدًا لَنَا فِي كُلِّ سَنَةٍ لِعِظَمِ مَا حَصَلَ فِيهِ مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ. وَالْعِيدُ فِعْلٌ مِنَ الْعَوْدِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَعُودُ فِي كُلِّ عَامٍ.

قَوْلُهُ: (نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) زَادَ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَزَادَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ: وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ طَابَقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ لِأَنَّهُ قَالَ: لَاتَّخَذْنَاهُ عِيدًا، وَأَجَابَ عُمَرُ رضي الله عنه بِمَعْرِفَةِ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، وَلَمْ يَقُلْ جَعَلْنَاهُ عِيدًا؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُخْرَيَاتِ نَهَارِ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الْعِيدِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَوَّلِهِ، وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلْقَابِلَةِ، قَالَهُ هَكَذَا بَعْضُ مَنْ تَقَدَّمَ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ اكْتَفَى فِيهَا بِالْإِشَارَةِ، وَإِلَّا فَرِوَايَةُ إِسْحَاقَ عَنْ قَبِيصَةَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا قَدْ نَصَّتْ عَلَى الْمُرَادِ وَلَفْظُهُ: نَزَلَتْ يَوْمَ جُمُعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَكِلَاهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ لَفْظُ الطَّبَرِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ: وَهُمَا لَنَا عِيدَانِ وَكَذَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ، يَوْمِ جُمُعَةٍ وَيَوْمِ عَرَفَةَ فَظَهَرَ أَنَّ الْجَوَابَ تَضَمَّنَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، وهو يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَاتَّخَذُوا يَوْمَ عَرَفَةَ عِيدًا لِأَنَّهُ لَيْلَةُ الْعِيدِ، وَهَكَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي فِي الصِّيَامِ: شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ فَسُمِّيَ رَمَضَانُ عِيدًا لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ الْعِيدُ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ دَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ؟ أُجِيبَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا

ص: 105

بَيَّنَتْ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ بِعَرَفَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي هِيَ آخِرُ عَهْدِ الْبَعْثَةِ حِينَ تَمَّتِ الشَّرِيعَةُ وَأَرْكَانُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَزَمَ السُّدِّيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.

‌34 - بَاب الزَّكَاةُ مِنْ الْإِسْلَامِ

وَقَوْلُهُ: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}

46 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قال: حدثنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَقال: هل عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال: لا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَصِيَامُ رَمَضَانَ قال: هل عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قال: لا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ قال: هل عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال: لا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وهو يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ.

[الحديث 46 - في: 6956، 2678، 1891]

قَوْلُهُ: (بَابُ الزَّكَاةِ مِنَ الْإِسْلَامِ. {وَمَا أُمِرُوا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: قَوْلُ اللَّهِ: {وَمَا أُمِرُوا} وَيَأْتِي فِيهِ مَا مَضَى فِي بَابِ الصَّلَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى مَا تُرْجِمَ لَهُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:{دِينُ الْقَيِّمَةِ} دِينُ الْإِسْلَامِ، وَالْقَيِّمَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَقَدْ جَاءَ قَامَ بِمَعْنَى اسْتَقَامَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أَيْ: مُسْتَقِيمَةٌ. وَإِنَّمَا خَصَّ الزَّكَاةَ بِالتَّرْجَمَةِ لِأَنَّ بَاقِيَ مَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ قَدْ أَفْرَدَهُ بِتَرَاجِمَ أُخْرَى.

وَرِجَالُ إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ، وَمَالِكٌ وَالِدُ أَبِي سُهَيْلٍ هُوَ ابْنُ أَبِي عَامِرٍ الْأَصْبَحِيُّ حَلِيفُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسِ ابْنِ أُخْتِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ خَالِهِ عَنْ عَمِّهِ، عن أبيه عَنْ حَلِيفِهِ، فَهُوَ مُسَلْسَلٌ بِالْأَقَارِبِ كَمَا هُوَ مُسَلْسَلٌ بِالْبَلَدِ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ: مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَمُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (ثَائِرُ الرَّأْسِ) هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الصِّفَةِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ شَعْرَهُ مُتَفَرِّقٌ مِنْ تَرْكِ الرَّفَاهِيَةِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قُرْبِ عَهْدِهِ بِالْوِفَادَةِ، وَأَوْقَعَ اسْمَ الرَّأْسِ عَلَى الشَّعْرِ إِمَّا مُبَالَغَةً، أَوْ لِأَنَّ الشَّعْرَ مِنْهُ يَنْبُتُ.

قَوْلُهُ: (يُسْمَعُ) بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَوْ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ لِلْجَمْعِ، وَكَذَا فِي يُفْقَهُ.

قَوْلُهُ: (دَوِيٌّ) بِفَتْحِ الدَّالِّ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، كَذَا فِي رِوَايَتِنَا. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ: جَاءَ عِنْدَنَا فِي الْبُخَارِيِّ بِضَمِّ الدَّالِ. قَالَ: وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الدَّوِيُّ صَوْتٌ مُرْتَفِعٌ مُتَكَرِّرٌ وَلَا يُفْهَمُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَادَى مِنْ بُعْدٍ، وَهَذَا الرَّجُلُ جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ وَآخَرُونَ بِأَنَّهُ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَافِدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. وَالْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِيرَادُ مُسْلِمٍ لِقِصَّتِهِ عَقِبَ حَدِيثِ طَلْحَةَ ; وَلِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ بَدْوِيٌّ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. لَكِنْ تَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ سِيَاقَهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَأَسْئِلَتَهُمَا مُتَبَايِنَةٌ، قَالَ: وَدَعْوَى أَنَّهُمَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ دَعْوَى فَرَطٍ، وَتَكَلُّفُ شَطَطٍ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوَّاهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ابْنَ سَعْدٍ، وَابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ وَجَمَاعَةً لَمْ يَذْكُرُوا لِضِمَامٍ إِلَّا الْأَوَّلَ، وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ.

قَوْلُهُ:

ص: 106

(فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ) أَيْ: عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ لَهُ الشَّهَادَةَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَعْلَمُهَا أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْأَلُ عَنِ الشَّرَائِعِ الْفِعْلِيَّةِ، أَوْ ذَكَرَهَا وَلَمْ يَنْقُلْهَا الرَّاوِي لِشُهْرَتِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ بَعْدُ أَوِ الرَّاوِي اخْتَصَرَهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الثَّانِيَ مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَدَخَلَ فِيهِ بَاقِي الْمَفْرُوضَاتِ بَلْ وَالْمَنْدُوبَاتِ.

قَوْلُهُ: (خَمْسُ صَلَوَاتٍ) فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ قَالَ فِي سُؤَالِهِ: أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ سِيَاقِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ غَيْرُ الْخَمْسِ، خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ الْوِتْرَ أَوْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوْ صَلَاةَ الضُّحَى أَوْ صَلَاةَ الْعِيدِ أَوِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ.

قَوْلُهُ: (هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال: لا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ) تَطَّوَّعَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْوَاوِ، وَأَصْلُهُ تَتَطَوَّعُ بِتَاءَيْنِ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الطَّاءِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَاهُمَا. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ يُوجِبُ إِتْمَامَهُ تَمَسُّكًا بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ مُتَّصِلٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِأَنَّهُ نَفْيُ وُجُوبِ شَيْءٍ آخَرَ إِلَّا مَا تَطَوَّعَ بِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَلَا قَائِلَ بِوُجُوبِ التَّطَوُّعِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ إِلَّا أَنْ تَشْرَعَ فِي تَطَوُّعٍ فَيَلْزَمُكَ إِتْمَامُهُ. وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ مَا تَمَسَّكَ بِهِ مُغَالَطَةٌ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ; لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يُقَالُ فِيهِ عَلَيْكَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْكَ شَيْءٌ، إِلَّا إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَطَّوَّعَ فَذَلِكَ لَكَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ التَّطَوُّعَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ أَصْلًا. كَذَا قَالَ. وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ دَائِرٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُتَّصِلٌ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ احْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحْيَانًا يَنْوِي صَوْمَ التَّطَوُّعِ ثُمَّ يُفْطِرُ، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ أَنْ تُفْطِرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ أَنْ شَرَعَتْ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعِبَادَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِتْمَامَ - إِذَا كَانَتْ نَافِلَةً - بِهَذَا النَّصِّ فِي الصَّوْمِ وَالْقِيَاسِ فِي الْبَاقِي. فَإِنْ قِيلَ: يَرِدُ الْحَجَّ، قُلْنَا: لَا ; لِأَنَّهُ امْتَازَ عَنْ غَيْرِهِ بِلُزُومِ الْمُضِيِّ فِي فَاسِدِهِ فَكَيْفَ فِي صَحِيحِهِ.

وَكَذَلِكَ امْتَازَ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ فِي نَفْلِهِ كَفَرْضِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

عَلَى أَنَّ فِي اسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيَّةِ نَظَرًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِفَرْضِيَّةِ الْإِتْمَامِ، بَلْ بِوُجُوبِهِ. وَاسْتِثْنَاءُ الْوَاجِبِ مِنَ الْفَرْضِ مُنْقَطِعٌ لِتَبَايُنِهِمَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لِلْإِثْبَاتِ بَلْ مَسْكُوتٌ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَا، أَيْ: لَا فَرْضَ عَلَيْكَ غَيْرَهَا.

قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ) فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ، قَالَ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ فِي الْقِصَّةِ أَشْيَاءَ أُجْمِلَتْ، مِنْهَا بَيَانُ نُصُبِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا لَمْ تُفَسَّرْ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَذَا أَسْمَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِيهِ شُهْرَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، أَوِ الْقَصْدُ مِنَ الْقِصَّةِ بَيَانُ أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِالْفَرَائِضِ نَاجٍ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ النَّوَافِلَ.

قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ) في رِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ فَقَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ. وَفِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ) وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَذْكُورَةِ: أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ:. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِثْلُهُ لَكِنْ بِحَذْفِ أَوْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْجَامِعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ، أَوْ بِأَنَّهَا كَلِمَةٌ جَارِيَةٌ عَلَى اللِّسَانِ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْحَلِفُ، كَمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِمْ عَقْرَى حَلْقَى

(1)

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ فِيهِ إِضْمَارُ اسْمِ الرَّبِّ كَأَنَّهُ قَالَ: وَرَبِّ أَبِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ

(1)

بوزن غضبى، يقال للمرأة إذا كانت مؤذية مشئومة، أي عقرها الله، وحلقها الله حلقا

ص: 107

بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ تَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا كَانَ وَاللَّهِ، فَقُصِّرَتِ اللَّامَانِ. وَاسْتَنْكَرَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا وَقَالَ: إِنَّهُ يَجْزِمُ الثِّقَةَ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ. وَغَفَلَ الْقَرَافِيُّ فَادَّعَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ: وَأَبِيهِ لَمْ تَصِحَّ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْمُوَطَّأِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَضِ الْجَوَابَ فَعَدَلَ إِلَى رَدِّ الْخَبَرِ، وهو صَحِيحٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَأَقْوَى الْأَجْوِبَةِ الْأَوَّلَانِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دَلَّ قَوْلُهُ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصْدُقْ فِيمَا الْتَزَمَ لَا يُفْلِحُ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَثْبَتَ لَهُ الْفَلَاحَ بِمُجَرَّدِ مَا ذَكَرَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْمَنْهِيَّاتِ؟ أَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ وُرُودِ فَرَائِضِ النَّهْيِ، وهو عَجِيبٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّ السَّائِلَ ضِمَامٌ، وَأَقْدَمَ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ وَفَدَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَقِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ الْمَنْهِيَّاتِ وَاقِعًا قَبْلَ ذَلِكَ.

وَالصَّوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: فَأَخْبَرَهُ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا فَلَاحُهُ بِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا بِأَنْ لَا يَزِيدَ فَكَيْفَ يَصِحُّ؟ أَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ الْفَلَاحَ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ. وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا أَتَى بِزَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُفْلِحًا ; لِأَنَّهُ إِذَا أَفْلَحَ بِالْوَاجِبِ فَفَلَاحُهُ بِالْمَنْدُوبِ مَعَ الْوَاجِبِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ أَقَرَّهُ عَلَى حَلِفِهِ وَقَدْ وَرَدَ النَّكِيرُ عَلَى مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ بِأَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى غَيْرِ تَارِكِ الْفَرَائِضِ، فَهُوَ مُفْلِحٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ فَلَاحًا مِنْهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ صَدَرَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّصْدِيقِ وَالْقَبُولِ، أَيْ: قَبِلْتُ كَلَامَكَ قَبُولًا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّؤَالِ، وَلَا نُقْصَانَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقَبُولِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ تَتَعَلَّقُ بِالْإِبْلَاغِ ; لِأَنَّهُ كَانَ وَافِدَ قَوْمِهِ لِيَتَعَلَّمَ وَيُعَلِّمَهُمْ. قُلْتُ: وَالِاحْتِمَالَانِ مَرْدُودَانِ بِرِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، فَإِنَّ نَصَّهَا: لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا:. وَقِيل: مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: لَا أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ أَيْ: لَا أُغَيِّرُ صِفَةَ الْفَرْضِ كَمَنْ يَنْقُصُ الظُّهْرَ مَثَلًا رَكْعَةً أَوْ يَزِيدُ الْمَغْرِبَ، قُلْتُ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَيْضًا لَفْظُ التَّطَوُّعَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ جَعْفَرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌35 - بَاب اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ مِنْ الْإِيمَانِ

47 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَنْجُوفِيُّ قال: حدثنا رَوْحٌ قال: حدثنا عَوْفٌ، عَنْ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّه يَرْجِعُ مِنْ الْأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ تَابَعَهُ عُثْمَانُ الْمُؤَذِّنُ قال: حدثنا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ

[الحديث 47 - طرفاه في: 1325، 1323]

قَوْلُهُ: (بَابُ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ مِنَ الْإِيمَانِ) خَتَمَ الْمُصَنِّفُ مُعْظَمَ التَّرَاجِمِ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ آخِرُ أَحْوَالِ الدُّنْيَا. وَإِنَّمَا أَخَّرَ تَرْجَمَةَ أَدَاءِ الْخُمُسِ مِنَ الْإِيمَانِ لِمَعْنًى سَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ قَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي نَظَائِرِهِ قَبْلُ.

قَوْلُهُ: (الْمَنْجُوفِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَبَعْدَ الْوَاوِ السَّاكِنَةِ فَاءٌ نِسْبَةً إِلَى جَدِّ جَدِّهِ مَنْجُوفٍ السَّدُوسِيِّ، وهو بَصْرِيٌّ، وَكَذَا بَاقِي رِجَالِ الْإِسْنَادِ غَيْرَ الصَّحَابِيِّ. وَرَوْحٌ بِفَتْحِ

ص: 108

الرَّاءِ هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ الْقَيْسِيُّ، وَعَوْفٌ هُوَ ابْنُ أَبِي جَمِيلَةَ بِفَتْحِ الْجِيمِ، الْأَعْرَابِيُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِفَصَاحَتِهِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو سَهْلٍ، وَاسْمُ أَبِيهِ بَنْدَوَيْهِ - بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ - بِوَزْنِ رَاهْوَيْهِ، وَالْحَسَنُ هُوَ ابْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وهو مَجْرُورٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْحَسَنِ، فَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ حَدَّثَا بِهِ عَوْفًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِمَّا مُجْتَمِعَيْنِ وَإِمَّا مُتَفَرِّقَيْنِ، فَأَمَّا ابْنُ سِيرِينَ فَسَمَاعُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ، وَأَمَّا الْحَسَنُ فَمُخْتَلَفٌ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى نَفْيِهِ وَتَوْهِيمِ مَنْ أَثْبَتَهُ، وهو مَعَ ذَلِكَ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ فَلَا تُحْمَلُ عَنْعَنَتُهُ عَلَى السَّمَاعِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا سَمِعَ، وَقَدْ وَقَعَ لَهُ نَظِيرُ هَذَا فِي قِصَّةِ مُوسَى، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ فِيهَا حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ عَنْهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثًا آخَرَ، وَاعْتِمَادُهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مَنِ اتَّبَعَ) هُوَ بِالتَّشْدِيدِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ تَبِعَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا اللَّفْظِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: تَبِعَهُ إِذَا مَشَى خَلْفَهُ أَوْ إِذَا مَرَّ بِهِ فَمَشَى مَعَهُ، وَكَذَلِكَ اتَّبَعَهُ بِالتَّشْدِيدِ، وهو افْتَعَلَ مِنْهُ، فَإِذَا هُوَ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ الْمُصَحَّحُ عِنْدَ ابْنِ حِبَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمَشْيِ أَمَامَهَا، وَأَمَّا أَتْبَعَهُ بِالْإِسْكَانِ فَهُوَ بِمَعْنَى لَحِقَهُ إِذَا كَانَ سَبَقَهُ، وَلَمْ تَأْتِ بِهِ الرِّوَايَةُ هُنَا.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ مَعَهُ) أَيْ: مَعَ الْمُسْلِمِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: مَعَهَا أَيْ: مَعَ الْجِنَازَةِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُصَلِّي) بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُرْوَى بِفَتْحِهَا، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَحْصُلُ الْمَوْعُودُ بِهِ إِلَّا لِمَنْ تُوجَدُ مِنْهُ الصَّلَاةُ، وَعَلَى الثَّانِي قَدْ يُقَالُ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يُصَلِّ، أَمَّا إِذَا قَصَدَ الصَّلَاةَ وَحَالَ دُونِهُ مَانِعٌ فَالظَّاهِرُ حُصُولُ الثَّوَابِ لَهُ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَيُفْرَغُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَيُرْوَى بِالْعَكْسِ، وَقَدْ أَثْبَتَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَنَّ الْقِيرَاطَيْنِ إِنَّمَا يَحْصُلَانِ بِمَجْمُوعِ الصَّلَاةِ وَالدَّفْنِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ دُونَ الدَّفْنِ يَحْصُلُ بِهَا قِيرَاطٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافًا لِمَنْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِالْمَجْمُوعِ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ مَبَاحِثِهِ وَفَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ) أَيْ: رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعُثْمَانُ هُوَ ابْنُ الْهَيْثَمِ، وهو مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، فَإِنْ كَانَ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ أَعْلَى بِدَرَجَةٍ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ الْمَوْصُولَ عَنْ رَوْحٍ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ إِتْقَانًا مِنْهُ، وَنَبَّهَ بِرِوَايَةِ عُثْمَانَ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي هَذَا السَّنَدِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَقَطْ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْحَسَنَ، فَكَأَنَّ عَوْفًا كَانَ رُبَّمَا ذَكَرَهُ وَرُبَّمَا حَذَفَهُ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ الْمَنْجُوفِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ مَرَّةً بِإِسْقَاطِ الْحَسَنِ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَمُتَابَعَةُ عُثْمَانَ هَذِهِ وَصَلَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنِ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبِ بْنُ أَبِي عَوَانَةَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ. . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَلَفْظُهُ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ رَوْحٍ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: وَكَانَ مَعَهَا، فَإِنَّهُ قَالَ بَدَلَهَا فَلَزِمَهَا، وَفِي قَوْلِهِ: وَيُفْرَغُ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ بَدَلَهَا وَتُدْفَنُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَلَهُ قِيرَاطٌ بَدَلَ قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ، وَالْبَاقِي سَوَاءٌ. وَلِهَذَا الِاخْتِلَافِ فِي اللَّفْظِ قَالَ الْمُصَنِّفُ نَحْوَهُ، وهو بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ: بِمَعْنَاهُ.

‌36 - بَاب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ، وهو لَا يَشْعُرُ،

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ، وَمَا يُحْذَرُ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ

ص: 109

تَوْبَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

48 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قال: حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ قال: سألت أَبَا وَائِلٍ عَنْ الْمُرْجِئَةِ فَقال: حدثنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ.

[الحديث 48 - طرفاه في: 7076، 6044]

قَوْلُهُ: (بَابُ خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ، وهو لَا يَشْعُرُ) هَذَا الْبَابُ مَعْقُودٌ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا مَضَى مِنَ الْأَبْوَابِ قَدْ تَضَمَّنَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ قَدْ يَشْرَكُهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، بِخِلَافِ هَذَا. وَالْمُرْجِئَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْجِيمِ بَعْدَهَا يَاءٌ مَهْمُوزَةٌ وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهَا بِلَا هَمْزٍ نُسِبُوا إِلَى الْإِرْجَاءِ، وهو التَّأْخِيرُ ; لِأَنَّهُمْ أَخَّرُوا الْأَعْمَالَ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالُوا: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُهُمُ النُّطْقَ، وَجَعَلُوا لِلْعُصَاةِ اسْمَ الْإِيمَانِ عَلَى الْكَمَالِ وَقَالُوا: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ أَصْلًا، وَمَقَالَاتُهُمْ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. وَمُنَاسَبَةُ إِيرَادِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ مَظِنَّةٌ لِأَنْ يُقْصَدَ بِهَا مُرَاعَاةُ أَهْلِهَا أَوْ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَجْرَ الْمَوْعُودَ بِهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَنَعَ ذَلِكَ احْتِسَابًا أَيْ: خَالِصًا، فَعَقَّبَهُ بِمَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلْمَرْءِ مَا يُعَكِّرُ عَلَى قَصْدِهِ الْخَالِصِ فَيُحْرَمَ بِهِ الثَّوَابُ الْمَوْعُودُ، وهو لَا يَشْعُرُ. فَقَوْلُهُ: أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ أَيْ: يُحْرَمُ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ لَا يُثَابُ إِلَّا عَلَى مَا أَخْلَصَ فِيهِ.

وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُقَوِّي مَذْهَبَ الْإِحْبَاطِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ السَّيِّئَاتِ يُبْطِلْنَ الْحَسَنَاتِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: الْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِحْبَاطَ إِحْبَاطَانِ: أَحَدُهُمَا إِبْطَالُ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ وَإِذْهَابُهُ جُمْلَةً كَإِحْبَاطِ الْإِيمَانِ لِلْكُفْرِ وَالْكُفْرِ لِلْإِيمَانِ، وَذَلِكَ فِي الْجِهَتَيْنِ إِذْهَابٌ حَقِيقِيٌّ.

ثَانِيهُمَا إِحْبَاطُ الْمُوَازَنَةِ إِذَا جُعِلَتِ الْحَسَنَاتُ فِي كِفَّةٍ وَالسَّيِّئَاتُ فِي كِفَّةٍ، فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ نَجَا، وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ وُقِفَ فِي الْمَشِيئَةِ: إِمَّا أَنْ يُغْفَرَ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يُعَذَّبَ. فَالتَّوْقِيفُ إِبْطَالٌ مَا ; لِأَنَّ تَوْقِيفَ الْمَنْفَعَةِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا إِبْطَالٌ لَهَا، وَالتَّعْذِيبُ إِبْطَالٌ أَشَدُّ مِنْهُ إِلَى حِينَ الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، فَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِبْطَالٌ نِسْبِيٌّ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْبَاطِ مَجَازًا، وَلَيْسَ هُوَ إِحْبَاطٌ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ إِذَا أُخْرِجَ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ عَادَ إِلَيْهِ ثَوَابُ عَمَلِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ الْإِحْبَاطِيَّةِ الَّذِينَ سَوَّوْا بَيْنَ الْإِحْبَاطَيْنِ وَحَكَمُوا عَلَى الْعَاصِي بِحُكْمِ الْكَافِرِ، وَهُمْ مُعْظَمُ الْقَدَرِيَّةِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ) هُوَ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ وَعُبَّادِهِمْ، وَقَوْلُهُ: مُكَذَّبًا يُرْوَى بِفَتْحِ الذَّالِ يَعْنِي خَشِيتُ أَنْ يُكَذِّبَنِي مَنْ رَأَى عَمَلِي مُخَالِفًا لِقَوْلِي فَيَقُولُ: لَوْ كُنْتَ صَادِقًا مَا فَعَلْتَ خِلَافَ مَا تَقُولُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَعِظُ النَّاسَ. وَيُرْوَى بِكَسْرِ الذَّالِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَعَ وَعْظِهِ النَّاسَ لَمْ يَبْلُغْ غَايَةَ الْعَمَلِ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَقَصَّرَ فِي الْعَمَلِ فَقَالَ:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} فَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا أَيْ: مُشَابِهًا لِلْمُكَذِّبِين، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الزُّهْدِ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ. . . إِلَخْ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ، لَكِنْ أَبْهَمَ الْعَدَدَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مُطَوَّلًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُ، وَعَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا كَمَا هُنَا، وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ أَجَلِّهِمْ عَائِشَةُ وَأُخْتُهَا أَسْمَاءُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَالْعَبَادِلَةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْمِسْوَرُ بْنُ

ص: 110

مَخْرَمَةَ، فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَدْرَكَ بِالسِّنِّ جَمَاعَةً أَجَلَّ مِنْ هَؤُلَاءِ كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ النِّفَاقَ فِي الْأَعْمَالِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَعْرِضُ عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ مَا يَشُوبُهُ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِخْلَاصَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ مِنْهُمْ فِي الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى رضي الله عنهم. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا خَافُوا لِأَنَّهُمْ طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ حَتَّى رَأَوْا مِنَ التَّغَيُّرِ مَا لَمْ يَعْهَدُوهُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إِنْكَارِهِ، فَخَافُوا أَنْ يَكُونُوا دَاهَنُوا بِالسُّكُوتِ.

قَوْلُهُ: (مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ) أَيْ لَا يَجْزِمُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِعَدَمِ عُرُوضِ النِّفَاقِ لَهُمْ كَمَا يُجْزَمُ بِذَلِكَ فِي إِيمَانِ جِبْرِيلِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَذْكُورِينَ كَانُوا قَائِلِينَ بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ، خِلَافًا لِلْمُرْجِئَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ إِيمَانَ الصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى أَثَرِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ حَدِيثٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ صِفَةِ الْمُنَافِقِ لَهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ تَرْكُ الْبُخَارِيِّ الْجَزْمَ بِهِ مَعَ صِحَّتِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى قَاعِدَةٍ ذَكَرَهَا لِي شَيْخُنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ رحمه الله، وَهِيَ: أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يَخُصُّ صِيغَةَ التَّمْرِيضِ بِضَعْفِ الْإِسْنَادِ، بَلْ إِذَا ذَكَرَ الْمَتْنَ بِالْمَعْنَى أَوِ اخْتَصَرَهُ أَتَى بِهَا أَيْضًا، لِمَا عَلِمَ مِنَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، فَهُنَا كَذَلِكَ، وَقَدْ أَوْقَعَ اخْتِصَارُهُ لَهُ لِبَعْضِهِمُ الِاضْطِرَابَ فِي فَهْمِهِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ. يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وَقَالَ: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} وَكَذَا شَرَحَهُ ابْنُ التِّينِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَرَّرَهُ الْكِرْمَانِيُّ هَكَذَا، فَقَالَ: مَا خَافَهُ أَيْ: مَا خَافَ مِنَ اللَّهِ، فَحَذَفَ الْجَارَّ وَأَوْصَلَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ. قُلْتُ: وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّهُ خِلَافُ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ وَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ. وَالَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذَا هُوَ الِاخْتِصَارُ. وَإِلَّا فَسِيَاقُ كَلَامِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يُبَيِّنُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ النِّفَاقَ، فَلْنَذْكُرْهُ. قَالَ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ زِيَادٍ، سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَحْلِفُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا مَضَى مُؤْمِنٌ قَطُّ وَلَا بَقِيَ إِلَّا وهو مِنَ النِّفَاقِ مُشْفِقٌ، وَلَا مَضَى مُنَافِقٌ قَطُّ وَلَا بَقِيَ إِلَّا وهو مِنَ النِّفَاقِ آمِنٌ.

وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَخَفِ النِّفَاقَ فَهُوَ مُنَافِقٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَضَى مُؤْمِنٌ وَلَا بَقِيَ إِلَّا وهو يَخَافُ النِّفَاقَ، وَمَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ، انْتَهَى. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأَثَرِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ الَّذِي قَبْلَهُ، وهو قَوْلُهُ: كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا مَحْمُودا لَكِنَّ سِيَاقَ الْبَابِ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَمَا يُحَذَّرُ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَيُرْوَى بِتَخْفِيفِهَا، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَوْفٍ، أَيْ: بَابِ مَا يُحَذَّرُ. وَفَصَلَ بَيْنَ التَّرْجَمَتَيْنِ بِالْآثَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا لِتَعَلُّقِهَا بِالْأُولَى فَقَطْ، وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ بِالثَّانِيَةِ، وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِالْأُولَى عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ، فَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} الْآيَةَ، وَمُرَادُهُ أَيْضًا الرَّدُّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ حَيْثُ قَالُوا: لَا حَذَرَ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ حُصُولِ الْإِيمَانَ، وَمَفْهُومُ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ مَنِ اسْتَغْفَرَ لِذَنْبِهِ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ، فَمَفْهُومُهُ ذَمُّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى التَّرْجَمَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} وَهَذِهِ الْآيَةُ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِمَّا قَبْلَهَا، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى نِفَاقِ الْمَعْصِيَةِ خُشِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْضِيَ بِهِ إِلَى

ص: 111

نِفَاقِ الْكُفْرِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّحَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمُخَرَّجِ عِنْدَ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا قَالَ: وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يَسْتَغْفِرُونَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.

وَلِلتِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَرْفُوعًا: مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً: إِسْنَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (عَلَى التَّقَاتُلِ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وهو الْمُنَاسِبُ لِحَدِيثِ الْبَابِ، وَفِي بَعْضِهَا (عَلَى النِّفَاقِ) وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ الرِّوَايَةُ.

قَوْلُهُ: (زُبَيْدٌ) تقدم أَنَّهُ بِالزَّايِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرًا، وهو ابْنُ الْحَارِثِ الْيَامِيُّ بِيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ وَمِيمٍ خَفِيفَةٍ، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ شُعْبَةُ أَيْضًا عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وهو عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ، وَعَنِ الْأَعْمَشِ، وهو عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: لَمْ يُخْتَلَفْ فِي رَفْعِهِ عَنْ زُبَيْدٍ وَاخْتُلِفَ عَلَى الْآخَرِينَ. وَرَوَاهُ عَنْ زُبَيْدٍ غَيْرُ شُعْبَةَ أَيْضًا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنِ الْمُرْجِئَةِ) أَيْ: عَنْ مَقَالَةِ الْمُرْجِئَةِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ: لَمَّا ظَهَرَتِ الْمُرْجِئَةُ أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ سُؤَالَهُ كَانَ عَنْ مُعْتَقَدِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ ظُهُورِهِمْ، وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي وَائِلٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِدْعَةَ الْإِرْجَاءِ قَدِيمَةٌ، وَقَدْ تَابَعَ أَبَا وَائِلٍ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ الرَّحْمَنَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُصَحَّحًا، وَلَفْظُهُ: قِتَالُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ كُفْرٌ، وَسِبَابُهُ فُسُوقٌ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا، فَانْتَفَتْ بِذَلِكَ دَعْوَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَبَا وَائِلٍ تَفَرَّدَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (سِبَابُ) هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ، وهو مَصْدَرٌ يُقَالُ: سَبَّ يَسُبُّ سَبًّا وَسِبَابًا، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: السِّبَابُ أَشَدُّ مِنَ السَّبِّ، وهو أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ مَا فِيهِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ عَيْبَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: السِّبَابُ هُنَا مِثْلُ الْقِتَالِ فَيَقْتَضِي الْمُفَاعَلَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَوْضَحَ مِنْ هَذَا فِي بَابِ الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (الْمُسْلِمُ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَلِأَحْمَدَ عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ: الْمُؤْمِنُ، فَكَأَنَّهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (فُسُوقٌ) الْفِسْقُ فِي اللُّغَةِ الْخُرُوجُ، وَفِي الشَّرْعِ: الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وهو فِي عُرْفِ الشَّرْعِ أَشَدُّ مِنَ الْعِصْيَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} فَفِي الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْحُكْمُ عَلَى مَنْ سَبَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِالْفِسْقِ، وَمُقْتَضَاهُ الرَّدُّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ. وَعُرِفَ مِنْ هَذَا مُطَابَقَةُ جَوَابِ أَبِي وَائِلٍ لِلسُّؤَالِ عَنْهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَكُونُ مَقَالَتُهُمْ حَقًّا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا؟!

قَوْلُهُ: (وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) إِنْ قِيلَ: هَذَا وَإِنْ تَضَمَّنَ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ لَكِنَّ ظَاهِرَهُ يُقَوِّي مَذْهَبَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالْمَعَاصِي. فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُبْتَدِعِ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، وَلَا مُتَمَسَّكَ لِلْخَوَارِجِ فِيهِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْقِتَالُ أَشَدَّ مِنَ السِّبَابِ - لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى إِزْهَاقِ الرُّوحِ - عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظٍ أَشَدَّ مِنْ لَفْظِ الْفِسْقِ، وهو الْكُفْرُ، وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ الَّتِي هِيَ الْخُرُوجُ عَنِ الْمِلَّةِ، بَلْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْكُفْرَ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ، مُعْتَمِدًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْقَوَاعِدِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةَ، مِثْلُ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. أَوْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْكُفْرَ لِشَبَهِهِ بِهِ ; لِأَنَّ قِتَالَ الْمُؤْمِنِ مِنْ شَأْنِ الْكَافِرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا الْكُفْرُ اللُّغَوِيُّ، وهو التَّغْطِيَةُ ; لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُعِينَهُ وَيَنْصُرَهُ وَيَكُفَّ عَنْهُ أَذَاهُ، فَلَمَّا قَاتَلَهُ كَانَ كَأَنَّهُ غَطَّى عَلَى هَذَا الْحَقِّ، وَالْأَوَّلَانِ أَلْيَقُ بِمُرَادِ الْمُصَنِّفِ وَأَوْلَى بِالْمَقْصُودِ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ وَالزَّجْرِ عَنْهُ بِخِلَافِ الثَّالِثِ.

وَقِيلَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ كُفْرٌ

ص: 112

أَيْ قَدْ يَئُولُ هَذَا الْفِعْلُ بِشُؤْمِهِ إِلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ، وَلَوْ كَانَ مُرَادًا لَمْ يَحْصُلِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ السِّبَابِ وَالْقِتَالِ، فَإِنَّ مُسْتَحِلَّ لَعْنِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ يَكْفُرُ أَيْضًا. ثُمَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ فَفِيهِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الْآيَةَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْكُفْرُ تَغْلِيظًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: لَعْنُ الْمُسْلِمِ كَقَتْلِهِ فَلَا يُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثَ ; لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ فَوْقَ الْمُشَبَّهِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ بُلُوغُ الْغَايَةِ فِي التَّأْثِيرِ: هَذَا فِي الْعَرْضِ، وَهَذَا فِي النَّفْسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَرَدَ لِهَذَا الْمَتْنِ سَبَبٌ ذَكَرْتُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْفِتَنِ فِي أَوَاخِرِ الصَّحِيحِ.

49 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عن أَنَسُ قال: أخبرنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ.

[الحديث 49 - طرفاه في: 6049، 2023]

قَوْلُهُ: (عَنْ حُمَيْدٍ) هُوَ الطَّوِيلُ (عَنْ أَنَسٍ)، وَلِلْأَصِيلِيِّ: حَدَّثَنَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَأَمِنَّا تَدْلِيسَ حُمَيْدٍ، وهو مِنْ رِوَايَةِ صَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ، أَنَسٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.

قَوْلُهُ: (خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ) أَيْ: بِتَعْيِينِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

قَوْلُهُ: (فَتَلَاحَى) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّلَاحِي بِكَسْرِهَا، وهو التَّنَازُعُ وَالْمُخَاصَمَةُ، وَالرَّجُلَانِ أَفَادَ ابْنُ دِحْيَةَ أَنَّهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ - بِحَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَدَالٍ سَاكِنَةٍ مُهْمَلَتَيْنِ، ثُمَّ رَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ أَيْضًا - وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. وَقَوْلُهُ: فَرُفِعَتْ أَيْ فَرُفِعَ تَعْيِينُهَا عَنْ ذِكْرِي، هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ هُنَا. وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا أَوْضَحَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْ: يَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْمُحِقُّ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَنَسِيتُهَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَاصَمَةَ مَذْمُومَةٌ، وَأَنَّهَا سَبَبٌ فِي الْعُقُوبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ أَيِ: الْحِرْمَانِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يَحْضُرُهُ الشَّيْطَانُ تُرْفَعُ مِنْهُ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ الْمُخَاصَمَةُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مَذْمُومَةً؟ قُلْتُ: إِنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ لِوُقُوعِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وهو مَحَلُّ الذِّكْرِ لَا اللَّغْوِ، ثُمَّ فِي الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ أَيْضًا بِالذِّكْرِ لَا اللَّغْوِ، وهو شَهْرُ رَمَضَانَ، فَالذَّمُّ لِمَا عَرَضَ فِيهَا لَا لِذَاتِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِرَفْعِ الصَّوْتِ وَرَفْعُهُ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} - إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى - {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} وَمِنْ هُنَا يَتَّضِحُ مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ وَمُطَابَقَتُهَا لَهُ، وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ.

فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ بِالْعَمَلِ الَّذِي لَا قَصْدَ فِيهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ بِالْإِحْبَاطِ لِاعْتِقَادِكُمْ صِغَرَ الذَّنْبِ، فَقَدْ يَعْلَمُ الْمَرْءُ الذَّنْبَ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَيْ: عِنْدَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ، أَيْ: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ

ص: 113

الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ تَحْصُلُ بِمَا لَمْ يُقْصَدْ فِي الثَّانِي إِذَا قُصِدَ فِي الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْقَصْدِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَوَّلِ ثُمَّ يَسْتَرْسِلُ حُكْمُ النِّيَّةِ الْأُولَى عَلَى مُؤْتَنَفِ الْعَمَلِ، وَإِنْ عَزَبَ الْقَصْدُ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا) أَيْ: وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الرَّفْعِ أَزْيَدَ خَيْرًا وَأَوْلَى مِنْهُ ; لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ، لَكِنْ فِي الرَّفْعِ خَيْرٌ مَرْجُوٌّ لِاسْتِلْزَامِهِ مَزِيدَ الثَّوَابِ ; لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْتِمَاسِهَا، وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِبَرَكَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ بِتَقْدِيمِ السَّبْعِ الَّتِي أَوَّلُهَا السِّينُ عَلَى التِّسْعِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَجَاءَهَا فِي السَّبْعِ أَقْوَى لِلِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِهِ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِتَقْدِيمِ التِّسْعِ عَلَى تَرْتِيبِ التَّدَلِّي. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالتِّسْعِ وَغَيْرِهَا فَقِيلَ لِتِسْعٍ يَمْضِينَ مِنَ الْعَشْرِ، وَقِيلَ لِتِسْعٍ يَبْقَيْنَ مِنَ الشَّهْرِ، وَسَنَذْكُرُ بَسْطَ هَذَا فِي مَحَلِّهِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الِاعْتِكَافِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌37 - بَاب سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ

وَبَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ ثُمَّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، وَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}

50 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قال: حدثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ رجل فَقال: ما الْإِيمَانُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ قال: ما الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ قال: ما الْإِحْسَانُ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قال: ما الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الْآيَةَ، ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ: رُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا فَقال: هذا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ.

[الحديث 50 - طرفه في: 4777]

قَوْلُهُ: (بَابُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ إِلَخْ) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ يَرَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، فَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَجَوَابُهُ يَقْتَضِي تَغَايُرَهُمَا، وَأَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِأُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْإِسْلَامَ إِظْهَارُ أَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ، أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ إِلَى طَرِيقَتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَبَيَانِ) أَيْ: مَعَ بَيَانِ أَنَّ الِاعْتِقَادَ وَالْعَمَلَ دِينٌ، وَقَوْلُهُ: وَمَا بَيَّنَ أَيْ: مَعَ مَا بَيَّنَ لِلْوَفْدِ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ حَيْثُ فَسَّرَهُ فِي قِصَّتِهِمْ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ هُنَا، وَقَوْلُهُ: وَقَوْلُ اللَّهِ أَيْ: مَعَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ خَبَرُ أَبِي سُفْيَانَ: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الدِّينُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ أَمْرٌ وَاحِدٌ. هَذَا مُحَصَّلُ كَلَامِهِ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو عَوَانَةَ الْإسْفَرَايِينِيُّ

ص: 114

فِي صَحِيحِهِ عَنِ الْمُزَنِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ الْجَزْمَ بِأَنَّهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْجَزْمَ بِتَغَايُرِهِمَا، وَلِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَدِلَّةٌ مُتَعَارِضَةٌ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: صَنَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِمَامَانِ كَبِيرَانِ، وَأَكْثَرَا مِنَ الْأَدِلَّةِ لِلْقَوْلَيْنِ، وَتَبَايَنَا فِي ذَلِكَ. وَالْحَقُّ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا. انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ مَعًا، بِخِلَافِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا مَعًا. وَيَرِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا يَتَنَاوَلُ الْعَمَلَ وَالِاعْتِقَادَ مَعًا ; لِأَنَّ الْعَامِلَ غَيْرُ الْمُعْتَقِدِ لَيْسَ بِذِي دِينٍ مَرْضِيٍّ.

وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ فَقَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جِبْرِيلَ هَذَا: جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِسْلَامَ هُنَا اسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنَ الِاعْتِقَادِ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا لِأَنَّ التَّصْدِيقَ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ، بَلْ ذَاكَ تَفْصِيلٌ لِجُمْلَةٍ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَجِمَاعُهَا الدِّينُ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ وَقال سبحانه وتعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} وَقَالَ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وَلَا يَكُونُ الدِّينُ فِي مَحَلِّ الرِّضَا وَالْقَبُولِ إِلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيقِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً، كَمَا أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ بِمَعْنَى التَّكْمِيلِ لَهُ، فَكَمَا أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا كَامِلًا إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ، فَكَذَلِكَ الْمُعْتَقِدُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا كَامِلًا إِلَّا إِذَا عَمِلَ، وَحَيْثُ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ فِي مَوْضِعِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْعَكْسِ، أَوْ يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا عَلَى إِرَادَتِهِمَا مَعًا فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَيَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ بِالسِّيَاقِ، فَإِنْ وَرَدَا مَعًا فِي مَقَامِ السُّؤَالِ حُمِلَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدَا مَعًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِ سُؤَالٍ أَمْكَنَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْقَرَائِنِ. وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَالُوا: إِنَّهُمَا تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُمَا بِالِاقْتِرَانِ، فَإِنْ أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ الْآخَرُ فِيهِ. وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْأَكْثَرِ أَنَّهُمْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَمَا حَكَاهُ اللَّالِكَائِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا عَلَى مَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (وَعِلْمِ السَّاعَةِ) تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلْمُرَادِ بِقَوْلِ جِبْرِيلَ فِي السُّؤَالِ مَتَى السَّاعَةُ؟ أَيْ: مَتَى عِلْمُ السَّاعَةِ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ آخَرَ، أَيْ: مَتَى عِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ؟

قَوْلُهُ: (وَبَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هُوَ مَجْرُورٌ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَى سُؤَالِ الْمَجْرُورِ بِالْإِضَافَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُبَيِّنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ السَّاعَةِ، فَكَيْفَ قَالَ وَبَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَانِ بَيَانُ أَكْثَرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَأَطْلَقَهُ ; لِأَنَّ حُكْمَ مُعْظَمِ الشَّيْءِ حُكْمُ كُلِّهِ. أَوْ جَعَلَ الْحُكْمَ فِي عِلْمِ السَّاعَةِ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ بَيَانًا لَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، قال: أخبرنَا أَبُو حَيَّانَ التَّمِيمِيُّ. وَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ الْمَذْكُورِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي فَرْوَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. زَادَ أَبُو فَرْوَةَ: وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا، وَسَاقَ حَدِيثَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَفِيهِ فَوَائِدُ زَوَائِدُ سَنُشِيرُ إِلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَلَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ هَذَا عَنْهُ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَيَّانَ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِي سِيَاقِهِ فَوَائِدُ زَوَائِدُ أَيْضًا. وَإِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجُهُ الْبُخَارِيُّ لِاخْتِلَافٍ فِيهِ عَلَى بَعْضِ رُوَاتِهِ، فَمَشْهُورُهُ رِوَايَةُ كَهْمَسٍ - بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ قَبْلَهَا مِيمٌ مَفْتُوحَةٌ - ابْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ - بِفَتْحِ الْمِيمِ أَوَّلُهُ يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عن أبيه عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَوَاهُ عَنْ كَهْمَسٍ جَمَاعَةٌ

ص: 115

مِنَ الْحُفَّاظِ، وَتَابَعَهُ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، وَتَابَعَهُ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَكَذَا رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ لَكِنَّهُ قَالَ: عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، زَادَ فِيهِ حُمَيْدًا، وَحُمَيْدٌ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ ذِكْرٌ لَا رِوَايَةٌ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الطُّرُقَ وَلَمْ يَسُقْ مِنْهَا إِلَّا مَتْنَ الطَّرِيقِ الْأُولَى وَأَحَالَ الْبَاقِيَ عَلَيْهَا، وَبَيْنَهَا اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ سَنُشِيرُ إِلَى بَعْضِهِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ مَطَرٍ فَأَخْرَجَهَا أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فَأَخْرَجَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

وَقَدْ خَالَفَهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ فَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ لَا مِنْ رِوَايَتِهِ، عن أبيه. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَكَذَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَعَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، وهو الْعُمَرِيُّ وَلَا يَصْلُحُ لِلصَّحِيحِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ أَخْرَجَهُمَا أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُمَا حَسَنٌ. وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ فَوَائِدُ سَنَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ. وَإِنَّمَا جَمَعْتُ طُرُقَهَا هُنَا وَعَزَوْتُهَا إِلَى مُخَرِّجِيهَا لِتَسْهِيلِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهَا فِرَارًا مِنَ التَّكْرَارِ الْمُبَايِنِ لِطَرِيقِ الِاخْتِصَارِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ) أَيْ: ظَاهِرًا لَهُمْ غَيْرَ مُحْتَجِبٍ عَنْهُمْ وَلَا مُلْتَبِسٍ بِغَيْرِهِ، وَالْبُرُوزُ الظُّهُورُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا بَيَانُ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَوَّلَهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْلِسُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ، فَطَلَبْنَا إِلَيْهِ أَنْ نَجْعَلَ لَهُ مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إِذَا أَتَاهُ، قَالَ: فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا مِنْ طِينٍ كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْقُرْطُبِيُّ اسْتِحْبَابَ جُلُوسِ الْعَالِمِ بِمَكَانٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَيَكُونُ مُرْتَفِعًا إِذَا احْتَاجَ لِذَلِكَ لِضَرُورَةِ تَعْلِيمٍ وَنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَاهُ رَجُلٌ) أَيْ: مَلَكٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، وَفِي التَّفْسِيرِ لِلْمُصَنِّفِ: إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي، وَلِأَبِي فَرْوَةَ: فَإِنَّا لَجُلُوسٌ عِنْدَهُ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبُ النَّاسِ رِيحًا، كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ كَهْمَسٍ فِي حَدِيثِ عُمَرَ: بَيْنَمَا نَحْنُ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ سَوَادِ اللِّحْيَةِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ لِسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: لَيْسَ عَلَيْهِ سَحْنَاءُ السَّفَرِ، وَلَيْسَ مِنَ الْبَلَدِ، فَتَخَطَّى حَتَّى بَرَكَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَجْلِسُ أَحَدُنَا فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ: ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: عَلَى فَخِذَيْهِ يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ التَّيْمِيُّ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَرَجَّحَهُ الطِّيبِيُّ بَحْثًا لِأَنَّهُ نَسَقُ الْكَلَامِ خِلَافًا لِمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَوَافَقَهُ التُّورِبَشْتِيُّ لِأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ جَلَسَ كَهَيْئَةِ الْمُتَعَلِّمِ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا مِنَ السِّيَاقِ لَكِنْ وَضْعُهُ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَنِيعٌ مُنَبِّهٌ لِلْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لِمَا يَنْبَغِي لِلْمَسْئُولِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالصَّفْحِ عَمَّا يَبْدُو مِنْ جَفَاءِ السَّائِلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْمِيَةِ أَمْرِهِ لِيُقَوِّيَ الظَّنَّ بِأَنَّهُ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ، وَلِهَذَا تَخَطَّى النَّاسَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ. وَلِهَذَا اسْتَغْرَبَ الصَّحَابَةُ صَنِيعَهُ ; وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَجَاءَ مَاشِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرُ سَفَرٍ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَرَفَ عُمَرُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى ظَنِّهِ، أَوْ إِلَى صَرِيحِ قَوْلِ الْحَاضِرِينَ. قُلْتُ: وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى، فَقَدْ جَاءَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ

ص: 116

عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ فَإِنَّ فِيهَا: فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ هَذَا. وَأَفَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ سَبَبَ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَعِنْدَهُ فِي أَوَّلِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَلُونِي، فَهَابُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ، قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ كَهْمَسٍ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ - فَكَأَنَّ أَمْرَهُ لَهُمْ بِسُؤَالِهِ وَقَعَ فِي خُطْبَتِهِ - وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَجِيءَ الرَّجُلِ كَانَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَافَقَ انْقِضَاءَهَا أَوْ كَانَ ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَدْرَ جَالِسًا وَعَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِالْخُطْبَةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ: يا رسول الله، مَا الْإِيمَانُ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ بَدَأَ بِالسُّؤَالِ قَبْلَ السَّلَامِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي التَّعْمِيَةِ لِأَمْرِهِ، أَوْ لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ، أَوْ سَلَّمَ فَلَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاوِي. قُلْتُ: وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ، فَفِيهَا بَعْدَ قَوْلِهِ كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ حَتَّى سَلَّمَ مِنْ طَرَفِ الْبِسَاطِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، فَرَدَّ عليه السلام. قَالَ: أَدْنُو يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: ادْنُ. فَمَا زَالَ يَقُولُ أَدْنُو مِرَارًا وَيَقُولُ لَهُ ادْنُ. وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، لَكِنْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يا رسول الله. وَفِي رِوَايَةِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ فَقَالَ: يا رسول الله، أَدْنُو مِنْكَ؟ قَالَ: أدْنُو. وَلَمْ يَذْكُرِ السَّلَامَ. فَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ، هَلْ قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ أَوْ يا رسول الله؟ هَلْ سَلَّمَ أَوْ لَا؟

فَأَمَّا السَّلَامُ فَمَنْ ذَكَرَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ سَكَتَ عَنْهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ وَقال: يا مُحَمَّدُ: إِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّعْمِيَةَ فَصَنَعَ صَنِيعَ الْأَعْرَابِ. قُلْتُ: وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُ بَدَأَ أَوَّلًا بِنِدَائِهِ بِاسْمِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ يا رسول الله. وَوَقَعَ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا مُحَمَّدُ، فَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلدَّاخِلِ أَنْ يُعَمِّمَ بِالسَّلَامِ ثُمَّ يُخَصِّصَ مَنْ يُرِيدُ تَخْصِيصَهُ، انْتَهَى. وَالَّذِي وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ إِنَّمَا فِيهِ الْإِفْرَادُ، وهو قَوْلُهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ.

قَوْلُهُ: (مَا الْإِيمَانُ؟) قِيلَ: قَدَّمَ السُّؤَالَ عَنِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَثَنَّى بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ مِصْدَاقَ الدَّعْوَى، وَثَلَّثَ بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا. وَفِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ: بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ، وَثَنَّى بِالْإِيمَانِ لِأَنَّهُ بِالْأَمْرِ الْبَاطِنِ. وَرَجَّحَ هَذَا الطِّيبِيُّ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّرَقِّي. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي تَأْدِيَتِهَا، وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ تَرْتِيبٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ فَإِنَّهُ بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ وَثَنَّى بِالْإِحْسَانِ وَثَلَّثَ بِالْإِيمَانِ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْوَاقِعَ أَمْرٌ وَاحِدٌ، وَالتَّقْدِ مُ وَالتَّأْخِيرُ وَقَعَ مِنَ الرُّوَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ إِلَخْ) دَلَّ الْجَوَابُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ لَا عَنْ مَعْنَى لَفْظِهِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْجَوَابُ: الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا يُوهِمُ التَّكْرَارَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى أَنْ تَعْتَرِفَ بِهِ، وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالْبَاءِ، أَيْ: أَنْ تُصَدِّقَ مُعْتَرِفًا بِكَذَا. قُلْتُ: وَالتَّصْدِيقُ أَيْضًا يُعَدَّى بِالْبَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى دَعْوَى التَّضْمِينِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَيْسَ هُوَ تَعْرِيفًا لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحْدُودِ الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ، وَمِنَ الْحَدِّ الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَعَادَ لَفْظَ الْإِيمَانِ لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ تَفْخِيمًا لِأَمْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فِي جَوَابِ: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تُؤْمِنَ يَنْحَلُّ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ، وَإِلَّا لَكَانَ الْجَوَابُ: الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ، وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِوُجُودِهِ وَأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ.

قَوْلُهُ: (وَمَلَائِكَتِهِ) الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِوُجُودِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وَقَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ نَظَرًا لِلتَّرْتِيبِ الْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُ سبحانه وتعالى أَرْسَلَ الْمَلَكَ بِالْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ وَلَيْسَ فِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْمَلَكَ عَلَى الرَّسُولِ.

قَوْلُهُ: (وَكُتُبِهِ) هَذِهِ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ هُنَا، وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَلَى ذِكْرِهَا فِي التَّفْسِيرِ، وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ التَّصْدِيقُ بِأَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ

ص: 117

حَقٌّ.

قَوْلُهُ: (وَبِلِقَائِهِ) كَذَا وَقَعَتْ هُنَا بَيْنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَلَمْ تَقَعْ فِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا مُكَرَّرَةٌ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا غَيْرُ مُكَرَّرَةٍ، فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْبَعْثِ الْقِيَامُ مِنَ الْقُبُورِ، وَالْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِيلَ اللِّقَاءُ يَحْصُلُ بِالِانْتِقال من دَارِ الدُّنْيَا، وَالْبَعْثُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ فَإِنَّ فِيهَا وَبِالْمَوْتِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ رُؤْيَةُ اللَّهِ، ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْطَعُ لِنَفْسِهِ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا، وَالْمَرْءُ لَا يَدْرِي بِمَ يُخْتَمُ لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الْإِيمَانِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَوِيَّةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ إِذْ جُعِلَتْ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (وَرُسُلِهِ) وَلِلْأَصِيلِيِّ: وَبِرُسُلِهِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، وَكُلٌّ مِنَ السِّيَاقَيْنِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْبَقَرَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالنَّبِيِّينَ يَشْمَلُ الرُّسُلَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ التَّصْدِيقُ بِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَدَلَّ الْإِجْمَالُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، إِلَّا مَنْ ثَبَتَ تَسْمِيَتُهُ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى التَّعْيِينِ. وَهَذَا التَّرْتِيبُ مُطَابِقٌ لِلْآيَةِ:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} وَمُنَاسَبَةُ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ لَا تُرَتِّبُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ التَّقَدُّمِ أَنَّ الْخَيْرَ وَالرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ رَحْمَتِهِ أَنْ أَنْزَلَ كُتُبَهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَالْمُتَلَقِّي لِذَلِكَ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.

قَوْلُهُ (وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ) زَادَ فِي التَّفْسِيرِ الْآخِرِ وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ عُمَرَ: وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَأَمَّا الْبَعْثُ الْآخِرُ فَقِيلَ ذَكَرَ الْآخِرَ تَأْكِيدًا كَقَوْلِهِمْ أَمْسُ الذَّاهِبُ، وَقِيلَ لِأَنَّ الْبَعْثَ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ: الْأُولَى الْإِخْرَاجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ أَوْ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ بَعْدَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالثَّانِيَةُ الْبَعْثُ مِنْ بُطُونِ الْقُبُورِ إِلَى مَحَلِّ الِاسْتِقْرَارِ. وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ آخِرُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَوْ آخِرُ الْأَزْمِنَةِ الْمَحْدُودَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْبَعْثِ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا.

(فَائِدَةٌ): زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ هُنَا: وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَهِيَ فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ أَيْضًا، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ كُلِّهِ، وَفِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وهو فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِزِيَادَةِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ، وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِعَادَةِ لَفْظِ وَتُؤْمِنَ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَعْثِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ مِمَّا يُؤْمَنُ بِهِ ; لِأَنَّ الْبَعْثَ سَيُوجَدُ بَعْدُ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مَوْجُودٌ الْآنَ، وَلِلتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ كَانَ يُنْكِرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلِهَذَا كَثُرَ تَكْرَارُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَهَكَذَا الْحِكْمَةُ فِي إِعَادَةِ لَفْظِ وَتُؤْمِنَ عِنْدَ ذِكْرِ الْقَدَرِ كَأَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَحَصَلَ الِاهْتِمَامُ بِشَأْنِهِ بِإِعَادَةِ تُؤْمِنَ، ثُمَّ قَرَّرَهُ بِالْإِبْدَالِ بِقَوْلِهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ ثُمَّ زَادَهُ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ اللَّهِ. وَالْقَدَرُ مَصْدَرٌ، تَقُولُ: قَدَرْتُ الشَّيْءَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا أَقْدِرُهُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ قَدْرًا وَقَدَرًا، إِذَا أَحَطْتُ بِمِقْدَارِهِ.

وَالْمُرَادُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مَقَادِيرَ الْأَشْيَاءِ وَأَزْمَانَهَا قَبْلَ إِيجَادِهَا، ثُمَّ أَوْجَدَ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُوجَدُ، فَكُلُّ مُحْدَثٍ صَادِرٌ عَنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، هَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنَ الدِّينِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ، وَعَلَيْهِ كَانَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَخِيَارِ التَّابِعِينَ، إِلَى أَنْ حَدَثَتْ بِدْعَةُ الْقَدَرِ فِي أَوَاخِرِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ الْقِصَّةَ فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ كَهْمَسٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، قَالَ فَانْطَلَقْتُ

ص: 118

أَنَا وَحُمَيْدٌ الْحِمْيَرِيُّ، فَذَكَرَ اجْتِمَاعَهُمَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّنْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ عَمَلًا. وَقَدْ حَكَى الْمُصَنِّفُونَ فِي الْمَقَالَاتِ عَنْ طَوَائِفَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ إِنْكَارَ كَوْنِ الْبَارِئِ عَالِمًا بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا بَعْدَ كَوْنِهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: قَدِ انْقَرَضَ هَذَا الْمَذْهَبُ، وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ: وَالْقَدَرِيَّةُ الْيَوْمُ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا خَالَفُوا السَّلَفَ فِي زَعْمِهِمْ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَقْدُورَةٌ لَهُمْ وَوَاقِعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْلَالِ، وهو مَعَ كَوْنِهِ مَذْهَبًا بَاطِلًا أَخَفُّ مِنَ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ.

وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ فَأَنْكَرُوا تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فِرَارًا مِنْ تَعَلُّقِ الْقَدِيمِ بِالْمُحْدَثِ، وَهُمْ مَخْصُومُونَ بِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ سَلَّمَ الْقَدَرِيُّ الْعِلْمَ خُصِمَ. يَعْنِي يُقَالُ لَهُ: أَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْوُجُودِ خِلَافُ مَا تَضَمَّنَهُ الْعِلْمُ؟ فَإِنْ مَنَعَ وَافَقَ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنْ أَجَازَ لَزِمَهُ نِسْبَةُ الْجَهْلِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ): ظَاهِرُ السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَنْ صَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ، وَقَدِ اكْتَفَى الْفُقَهَاءُ بِإِطْلَاقِ الْإِيمَانِ عَلَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا اخْتِلَافَ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِرَسُولِ اللَّهِ الْمُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ بِوُجُودِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ، فَيَدْخُلُ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ تَحْتَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ) قَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ مَعْرِفَةَ اللَّهِ فَيَكُونُ عَطْفُ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا عَلَيْهَا لِإِدْخَالِهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ الطَّاعَةَ مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْوَظَائِفِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَطْفُ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. قُلْتُ: أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَبَعِيدٌ ; لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ أَعْمَالٌ قَوْلِيَّةٌ وَبَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ عَبَّرَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ هُنَا بِقَوْلِهِ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادَةِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ دَفْعُ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي. وَلَمَّا عَبَّرَ الرَّاوِي بِالْعِبَادَةِ احْتَاجَ أَنْ يُوَضِّحَهَا بِقَوْلِهِ: وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا فِي رِوَايَةِ عُمَرَ لِاسْتِلْزَامِهَا ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: السُّؤَالُ عَامٌّ لِأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ مَاهِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْجَوَابُ خَاصٌّ لِقَوْلِهِ أَنْ تَعْبُدَ أَوْ تَشْهَدَ، وَكَذَا قَالَ فِي الْإِيمَانِ أَنْ تُؤْمِنَ، وَفِي الْإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ لِنُكْتَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَبَيْنَ أَنْ وَالْفِعْلِ ; لِأَنَّ أَنْ تَفْعَلَ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَالْمَصْدَرُ لَا يَدُلُّ عَلَى زَمَانٍ.

عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ أَوْرَدَهُ هُنَا بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ، فَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمُخَاطَبَتِهِ بِالْإِفْرَادِ اخْتِصَاصَهُ بِذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ تَعْلِيمُ السَّامِعِينَ الْحُكْمَ فِي حَقِّهِمْ وَحَقِّ مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ؟ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ، وهو مَرْدُودٌ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِإِسْنَادِهِ الَّذِي عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَوَّلُهُ أَنَّ رَجُلًا فِي آخِرِ عُمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَآخِرُ عُمْرِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَإِنَّهَا آخِرُ سَفَرَاتِهِ، ثُمَّ بَعْدَ قُدُومِهِ بِقَلِيلٍ دُونَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مَاتَ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بَعْدَ إِنْزَالِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لِتَقْرِيرِ أُمُورِ الدِّينِ - الَّتِي بَلَّغَهَا مُتَفَرِّقَةً - فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، لِتَنْضَبِطَ. وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ جَوَازُ سُؤَالِ الْعَالِمِ مَا لَا يَجْهَلُهُ السَّائِلُ لِيَعْلَمَهُ السَّامِعُ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَقَدْ ذُكِرَ، لَكِنْ بَعْضُ الرُّوَاةِ إِمَّا ذَهَلَ عَنْهُ وَإِمَّا نَسِيَهُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَفِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ: وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ لَمْ يَذْكُرِ الصَّوْمَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ ذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ حَسْبُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَزِيدًا عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ. وَذَكَرَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِي رِوَايَتِهِ الْجَمِيعَ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَتَحُجَّ

ص: 119

وَتَعْتَمِرَ، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُتَمِّمَ الْوُضُوءَ. وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ فِي رِوَايَتِهِ: وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ قَالَ فَذَكَرَ عُرَى الْإِسْلَامِ، فَتَبَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ: إِنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ضَبَطَ مَا لَمْ يَضْبِطْهُ غَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ) زَادَ مُسْلِمٌ: الْمَكْتُوبَةَ أَيِ: الْمَفْرُوضَةَ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَكْتُوبَةِ لِلتَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ، فَإِنَّهُ عَبَّرَ فِي الزَّكَاةِ بِالْمَفْرُوضَةِ، وَلِاتِّبَاعِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}

قَوْلُهُ: (وَتَصُومَ رَمَضَانَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى قَوْلِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةِ شَهْرٍ إِلَيْهِ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (الْإِحْسَانُ) هُوَ مَصْدَرٌ، تَقُولُ أَحْسَنَ يُحْسِنُ إِحْسَانًا. وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ تَقُولُ: أَحْسَنْتُ كَذَا إِذَا أَتْقَنْتُهُ، وَأَحْسَنْتُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا أَوْصَلْتُ إِلَيْهِ النَّفْعَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ. وَقَدْ يُلْحَظُ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُخْلِصَ مَثَلًا مُحْسِنٌ بِإِخْلَاصِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِحْسَانُ الْعِبَادَةِ الْإِخْلَاصُ فِيهَا وَالْخُشُوعُ وَفَرَاغُ الْبَالِ حَالَ التَّلَبُّسِ بِهَا وَمُرَاقَبَةُ الْمَعْبُودِ، وَأَشَارَ فِي الْجَوَابِ إِلَى حَالَتَيْنِ: أَرْفَعُهُمَا أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ بِقَلْبِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ، وهو قَوْلُهُ: كَأَنَّكَ تَرَاهُ أَيْ:، وهو يَرَاكَ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنَّ الْحَقَّ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ يَرَى كُلَّ مَا يَعْمَلُ، وهو قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَرَاكَ. وَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ يُثَمِّرُهُمَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَخَشْيَتُهُ، وَقَدْ عَبَّرَ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّكَ إِنَّمَا تُرَاعِي الْآدَابَ الْمَذْكُورَةَ إِذَا كُنْتَ تَرَاهُ وَيَرَاكَ، لِكَوْنِهِ يَرَاكَ لَا لِكَوْنِكَ تَرَاهُ فَهُوَ دَائِمًا يَرَاكَ، فَأَحْسِنْ عِبَادَتَهُ وَإِنْ لَمْ تَرَهُ، فَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَاسْتَمِرَّ عَلَى إِحْسَانِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.

قَالَ: وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْمُسْلِمِينَ، وهو عُمْدَةُ الصِّدِّيقِينَ وَبُغْيَةُ السَّالِكِينَ وَكَنْزُ الْعَارِفِينَ وَدَأْبُ الصَّالِحِينَ، وهو مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي أُوتِيَهَا صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ نَدَبَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ إِلَى مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنَ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّقَائِصِ احْتِرَامًا لَهُمْ وَاسْتِحْيَاءً مِنْهُمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَزَالُ اللَّهُ مُطَّلِعًا عَلَيْهِ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ؟ انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَ إِلَى أَصْلِ هَذَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي تَفْسِيرِ لُقْمَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ): دَلَّ سِيَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ غَيْرُ وَاقِعَةٍ، وَأَمَّا رُؤْيَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَاكَ لِدَلِيلٍ آخَرَ، وَقَدْ صَرَّحَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا. وَأَقْدَمَ بَعْضُ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَقَالَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ الْمَحْوِ وَالْفَنَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ - أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَصِرْ - شَيْئًا وَفَنِيتَ عَنْ نَفْسِكَ حَتَّى كَأَنَّكَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَإِنَّكَ حِينَئِذٍ تَرَاهُ. وَغَفَلَ قَائِلُ هَذَا - لِلْجَهْلِ بِالْعَرَبِيَّةِ - عَنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا زَعَمَ لَكَانَ قَوْلُهُ: تَرَاهُ مَحْذُوفَ الْأَلِفِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَجْزُومًا، لِكَوْنِهِ عَلَى زَعْمِهِ جَوَابَ الشَّرْطِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ إِثْبَاتَهَا فِي الْفِعْلِ الْمَجْزُومِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذْ لَا ضَرُورَةَ هُنَا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَا ادَّعَاهُ صَحِيحًا لَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَرَاكَ ضَائِعًا لِأَنَّهُ لَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ. وَمِمَّا يُفْسِدُ تَأْوِيلَهُ رِوَايَةُ كَهْمَسٍ فَإِنَّ لَفْظَهَا فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، فَسَلَّطَ النَّفْيَ عَلَى الرُّؤْيَةِ لَا عَلَى الْكَوْنِ الَّذِي حُمِلَ عَلَى ارْتِكَابِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ: فَإِنْ لَمْ تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُلُّ هَذَا يُبْطِلُ التَّأْوِيلَ الْمُتَقَدِّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَائِدَةٌ): زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ قَوْلَ السَّائِلِ صَدَقْتَ عَقِبَ كُلِّ جَوَابٍ مِنَ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ، وَزَادَ أَبُو فَرْوَةَ فِي رِوَايَتِهِ فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الرَّجُلِ صَدَقْتَ أَنْكَرْنَاهُ وَفِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. وَفِي رِوَايَةِ مَطَرٍ: انْظُرُوا إِلَيْهِ كَيْفَ يَسْأَلُهُ وَانْظُرُوا إِلَيْهِ كَيْفَ يُصَدِّقُهُ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: انْظُرُوا، وهو يَسْأَلُهُ، وهو يُصَدِّقُهُ كَأَنَّهُ أَعْلَمُ

ص: 120

مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ: قَالَ الْقَوْمُ: مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِثْلَ هَذَا، كَأَنَّهُ يُعَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ لَهُ: صَدَقْتَ صَدَقْتَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا السَّائِلُ مِمَّنْ عُرِفَ بِلِقَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا بِالسَّمَاعِ مِنْهُ، ثُمَّ هُوَ يَسْأَلُ سُؤَالَ عَارِفٍ بِمَا يَسْأَلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُهُ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ تَعَجُّبَ الْمُسْتَبْعِدِ لِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مَتَى السَّاعَةُ؟) أَيْ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا) مَا نَافِيَةٌ. وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ: فَنَكَسَ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ أَعَادَ فَلَمْ يُجِبْهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ.

قَوْلُهُ: (بِأَعْلَمَ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُشْعِرًا بِالتَّسَاوِي فِي الْعِلْمِ لَكِنَّ الْمُرَادَ التَّسَاوِي فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا لِقَوْلِهِ بَعْدَ: خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَسَيَأْتِي نَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ: مَا كُنْتُ بِأَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَيْضًا التَّسَاوِي فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُنَا فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، خَمْسٌ مِنَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ، وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ نَقْصٌ مِنْ مَرْتَبَتِهِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى مَزِيدِ وَرَعِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَقْصُودُ هَذَا السُّؤَالِ كَفُّ السَّامِعِينَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ ; لِأَنَّهُمْ قَدْ أَكْثَرُوا السُّؤَالَ عَنْهَا كَمَا وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْجَوَابُ بِمَا ذُكِرَ هُنَا حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَتِهَا، بِخِلَافِ الْأَسْئِلَةِ الْمَاضِيَةِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا اسْتِخْرَاجُ الْأَجْوِبَةِ لِيَتَعَلَّمَهَا السَّامِعُونَ وَيَعْمَلُوا بِهَا، وَنَبَّهَ بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ عَلَى تَفْصِيلِ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ.

قَوْلُهُ: (مِنَ السَّائِلِ) عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ لَسْتُ بِأَعْلَمَ بِهَا مِنْكَ إِلَى لَفْظٍ يُشْعِرُ بِالتَّعْمِيمِ تَعْرِيضًا لِلسَّامِعِينَ، أَيْ أَنَّ كُلَّ مَسْئُولٍ وَكُلَّ سَائِلٍ فَهُوَ كَذَلِكَ.

(فَائِدَةٌ): هَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ وَقَعَ بَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَجِبْرِيلَ، لَكِنْ كَانَ عِيسَى سَائِلًا وَجِبْرِيلُ مَسْئُولًا. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ فِي نَوَادِرِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَأَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ جِبْرِيلَ

(1)

عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ فَانْتَفَضَ بِأَجْنِحَتِهِ وَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ.

قَوْلُهُ: (وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا) وَفِي التَّفْسِيرِ وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ: وَلَكِنْ لَهَا عَلَامَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا، وَفِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ: قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا فَأَخْبَرَهُ بِهَا فَتَرَدَّدْنَا فَحَصَلَ التَّرَدُّدُ هَلِ ابْتَدَأَهُ بِذِكْرِ الْأَمَارَاتِ أَوِ السَّائِلُ سَأَلَهُ عَنِ الْأَمَارَاتِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَسَأُخْبِرُكَ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَأَخْبِرْنِي. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَلَفْظُهَا وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ نَبَّأْتُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، قَالَ: أَجَلْ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ فَحَدِّثْنِي وَقَدْ حَصَلَ تَفْصِيلُ الْأَشْرَاطِ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَأَنَّهَا الْعَلَامَاتُ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ شَرَطٍ بِفَتْحَتَيْنِ كَقَلَمٍ وَأَقْلَامٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ التَّحْدِيثَ وَالْإِخْبَارَ وَالْإِنْبَاءَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا غَايَرَ بَيْنَهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ اصْطِلَاحًا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَلَامَاتُ السَّاعَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَوْعِ الْمُعْتَادِ، أَوْ غَيْرِهِ. وَالْمَذْكُورُ هُنَا الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الْغَيْرُ مِثْلُ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فَتِلْكَ مُقَارِبَةٌ لَهَا أَوْ مُضَايِقَةٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْعَلَامَاتُ السَّابِقَةُ عَلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (إِذَا وَلَدَتْ) التَّعْبِيرُ بِإِذَا لِلْإِشْعَارِ بِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِلْأَشْرَاطِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ وِلَادَةُ الْأَمَةِ وَتَطَاوُلُ الرُّعَاةِ. فَإِنْ قِيلَ الْأَشْرَاطُ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْمَذْكُورُ هُنَا اثْنَانِ، أَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ: بِأَنَّهُ قَدْ تُسْتَقْرَضُ الْقِلَّةُ لِلْكَثْرَةِ، وَبِالْعَكْسِ.

(1)

لاينبغي الجزم بوقوع هذا من عيسى، لأن كلام الشعبي لاتقوم به حجة. وإن كان نقله عن بني إسرائيل فكذلك. وإنما يذكر مثل هذا بصيغة التمريض كما هو المقررفي علم مصطلح الحديث. والله أعلم

ص: 121

أَوْ لِأَنَّ الْفَرْقَ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي النَّكِرَاتِ لَا فِي الْمَعَارِفِ، أَوْ لِفَقْدِ جَمْعِ الْكَثْرَةِ لِلَفْظِ الشَّرْطِ. وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ نَظَرٌ، وَلَوْ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا دَلِيلُ الْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ لَمَا بَعُدَ عَنِ الصَّوَابِ. وَالْجَوَابُ الْمَرْضِيُّ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنَ الْأَشْرَاطِ ثَلَاثَةٌ، وَإِنَّمَا بَعْضُ الرُّوَاةِ اقْتَصَرَ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا لِأَنَّهُ هُنَا ذَكَرَ الْوِلَادَةَ وَالتَّطَاوُلَ، وَفِي التَّفْسِيرِ ذِكْرُ الْوِلَادَةِ وَتَرَؤُّسُ الْحُفَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ الَّتِي أَخْرَجَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا وَسَاقَ ابْنُ خُزَيْمَةَ لَفْظَهَا عَنْ أَبِي حَيَّانَ ذِكْرُ الثَّلَاثَةِ، وَكَذَا فِي مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَكَذَا ذَكَرَهَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَوَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ، فَفِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ ذِكْرُ الْوِلَادَةِ وَالتَّطَاوُلُ فَقَطْ وَوَافَقَهُ عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ذِكْرُ الثَّلَاثَةِ وَوَافَقَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَكَذَا ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي عَامِرٍ.

قَوْلُهُ: (إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّهَا) وَفِي التَّفْسِيرِ رَبَّتَهَا بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ مِثْلُهُ وَزَادَ يَعْنِي السَّرَارِيَّ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ: إِذَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا وَنَحْوُهُ لِأَبِي فَرْوَةَ، وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ: الْإِمَاءُ أَرْبَابُهُنَّ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَالْمُرَادُ بِالرَّبِّ الْمَالِكُ أَوِ السَّيِّدُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، فَذَكَرَهَا لَكِنَّهَا مُتَدَاخِلَةٌ، وَقَدْ لَخَّصْتُهَا بِلَا تَدَاخُلٍ فَإِذَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ اتِّسَاعُ الْإِسْلَامِ وَاسْتِيلَاءُ أَهْلِهِ عَلَى بِلَادِ الشِّرْكِ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ، فَإِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ الْجَارِيَةَ وَاسْتَوْلَدَهَا كَانَ الْوَلَدُ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ رَبِّهَا لِأَنَّهُ وَلَدُ سَيِّدِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. قُلْتُ: لَكِنْ فِي كَوْنِهِ الْمُرَادَ نَظَرٌ ; لِأَنَّ اسْتِيلَادَ الْإِمَاءِ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْمَقَالَةِ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى بِلَادِ الشِّرْكِ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ وَاتِّخَاذُهُمْ سَرَارِيَّ وَقَعَ أَكْثَرُهُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي الْإِشَارَةَ إِلَى وُقُوعِ مَا لَمْ يَقَعْ مِمَّا سَيَقَعُ قُرْبَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ وَكِيعٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ بِأَخَصَّ مِنَ الْأَوَّلِ.

قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْعَجَمُ الْعَرَبَ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْإِمَاءَ يَلِدْنَ الْمُلُوكَ فَتَصِيرُ الْأُمُّ مِنْ جُمْلَةِ الرَّعِيَّةِ وَالْمَلِكُ سَيِّدُ رَعِيَّتِهِ، وَهَذَا لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، وَقَرَّبَهُ بأَنَّ الرُّؤَسَاءَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَانُوا يَسْتَنْكِفُونَ غَالِبًا مِنْ وَطْءِ الْإِمَاءِ وَيَتَنَافَسُونَ فِي الْحَرَائِرِ، ثُمَّ انْعَكَسَ الْأَمْرُ وَلَا سِيَّمَا فِي أَثْنَاءِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَلَكِنَّ رِوَايَةَ رَبَّتَهَا بِتَاءِ التَّأْنِيثِ قَدْ لَا تُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ.

وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِطْلَاقَ رَبَّتَهَا عَلَى وَلَدِهَا مَجَازٌ ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا فِي عِتْقِهَا بِمَوْتِ أَبِيهِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ السَّبْيَ إِذَا كَثُرَ فَقَدْ يُسْبَى الْوَلَدُ أَوَّلًا، وهو صَغِيرٌ ثُمَّ يُعْتَقُ وَيَكْبَرُ وَيَصِيرُ رَئِيسًا بَلْ مَلِكًا ثُمَّ تُسْبَى أُمُّهُ فِيمَا بَعْدُ فَيَشْتَرِيهَا عَارِفًا بِهَا، أَوْ وهو لَا يَشْعُرُ أَنَّهَا أُمُّهُ، فَيَسْتَخْدِمُهَا أَوْ يَتَّخِذُهَا مَوْطُوءَةً أَوْ يُعْتِقُهَا وَيَتَزَوَّجُهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ بَعْلَهَا وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَحُمِلَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْبَعْلِ الْمَالِكُ، وهو أَوْلَى لِتَتَّفِقَ الرِّوَايَاتُ. الثَّانِي أَنْ تَبِيعَ السَّادَةُ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ وَيَكْثُرُ ذَلِكَ فَيَتَدَاوَلُ الْمُلَّاكُ الْمُسْتَوْلَدَةَ حَتَّى يَشْتَرِيَهَا وَلَدُهَا وَلَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَالَّذِي يَكُونُ مِنَ الْأَشْرَاطِ غَلَبَةُ الْجَهْلِ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَوِ الِاسْتِهَانَةُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا فَلَا يَصْلُحُ الْحَمْلُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ لَا جَهْلَ وَلَا اسْتِهَانَةَ عِنْدَ الْقَائِلِ بِالْجَوَازِ، قُلْنَا: يَصْلُحُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صُورَةِ اتِّفَاقِيَّةٍ كَبَيْعِهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا، فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ. الثَّالِثُ: وهو مِنْ نَمَطِ الَّذِي قَبْلَهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يَخْتَصُّ شِرَاءُ الْوَلَدِ أُمَّهُ بِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، بَلْ يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِهِنَّ بِأَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ حُرًّا مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ، أَوْ رَقِيقًا بِنِكَاحٍ أَوْ زِنًا ثُمَّ تُبَاعُ الْأَمَةُ فِي الصُّورَتَيْنِ بَيْعًا صَحِيحًا وَتَدُورُ فِي الْأَيْدِي حَتَّى يَشْتَرِيَهَا ابْنُهَا أَوِ ابْنَتُهَا.

وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا تَفْسِيرُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ السَّرَارِيُّ لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.

الرَّابِعُ: أَنْ يَكْثُرَ الْعُقُوقُ فِي الْأَوْلَادِ فَيُعَامِلُ الْوَلَدُ أُمَّهُ مُعَامَلَةَ السَّيِّدِ أَمَتَهُ مِنَ الْإِهَانَةِ بِالسَّبِّ

ص: 122

وَالضَّرْبِ وَالِاسْتِخْدَامِ. فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ رَبُّهَا مَجَازًا لِذَلِكَ. أَوِ الْمُرَادُ بِالرَّبِّ الْمُرَبِّي فَيَكُونُ حَقِيقَةً، وَهَذَا أَوْجَهُ الْأَوْجُهِ عِنْدِي لِعُمُومِهِ ; وَلِأَنَّ الْمَقَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَالَةٌ تَكُونُ مَعَ كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْأَحْوَالِ مُسْتَغْرَبَةً. وَمُحَصَّلُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ السَّاعَةَ يَقْرُبُ قِيَامُهَا عِنْدَ انْعِكَاسِ الْأُمُورِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمُرَبَّى مُرَبِّيًا وَالسَّافِلُ عَالِيًا، وهو مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ فِي الْعَلَامَةِ الْأُخْرَى أَنْ تَصِيرَ الْحُفَاةُ مُلُوكَ الْأَرْضِ.

(تَنْبِيهَانِ): أَحَدُهُمَا قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَلَا عَلَى جَوَازِهِ، وَقَدْ غَلِطَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ لِكُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا جُعِلَ عَلَامَةً عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَا يَدُلُّ عَلَى حَظْرٍ وَلَا إِبَاحَةٍ. الثَّانِي: يُجْمَعُ بَيْنَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ إِطْلَاقِ الرَّبِّ عَلَى السَّيِّدِ الْمَالِكِ فِي قَوْلِهِ رَبَّهَا وَبَيْنَ مَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وهو فِي الصَّحِيحِ

(1)

: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ بِأَنَّ اللَّفْظَ هُنَا خَرَجَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ أَوِ الْمُرَادُ بِالرَّبِّ هُنَا الْمُرَبِّي، وَفِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ السَّيِّدُ، أَوْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ، أَوْ مُخْتَصٌّ بِغَيْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (تَطَاوَلَ) أَيْ: تَفَاخَرُوا فِي تَطْوِيلِ الْبُنَيَانِ وَتَكَاثَرُوا بِهِ.

قَوْلُهُ: (رُعَاةَ الْإِبِلِ) هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ رَاعٍ كَقُضَاةٍ وَقَاضٍ. وَالْبُهْمُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِفَتْحِهَا وَلَا يَتَّجِهُ مَعَ ذِكْرِ الْإِبِلِ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ مَعَ ذِكْرِ الشِّيَاهِ أَوْ مَعَ عَدَمِ الْإِضَافَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: رِعَاءَ الْبُهْمِ، وَمِيمُ الْبُهْمِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ يَجُوزُ ضَمُّهَا عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ الرُّعَاةِ، وَيَجُوزُ الْكَسْرُ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ الْإِبِلِ يَعْنِي الْإِبِلَ السُّودَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا شَرُّ الْأَلْوَانِ عِنْدَهُمْ، وَخَيْرُهَا الْحُمْرُ الَّتِي ضُرِبَ بِهَا الْمَثَلُ فَقِيلَ: خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَوَصْفُ الرُّعَاةِ بِالْبُهْمِ إِمَّا لِأَنَّهُمْ مَجْهُولُو الْأَنْسَابِ، وَمِنْهُ أُبْهِمَ الْأَمْرُ فَهُوَ مُبْهَمٌ إِذَا لَمْ تُعْرَفْ حَقِيقَتُهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُمْ سُودُ الْأَلْوَانِ لِأَنَّ الْأُدْمَةَ غَالِبُ أَلْوَانِهِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا شَيْءَ لَهُمْ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً بُهْمًا قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ نَسَبَ لَهُمُ الْإِبِلَ، فَكَيْفَ يُقال: لا شَيْءَ لَهُمْ؟ قُلْتُ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ لَا مِلْكٍ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ أَنَّ الرَّاعِيَ يَرْعَى لِغَيْرِهِ بِالْأُجْرَةِ، وَأَمَّا الْمَالِكُ فَقَلَّ أَنْ يُبَاشِرَ الرَّعْيَ بِنَفْسِهِ. قَوْلُهُ فِي التَّفْسِيرِ: وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: الصُّمُّ الْبُكْمُ. وَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي وَصْفِهِمْ بِالْجَهْلِ، أَيْ: لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَسْمَاعَهُمْ وَلَا أَبْصَارَهُمْ فِي الشَّيْءِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ حَوَاسُّهُمْ سَلِيمَةً.

قَوْلُهُ رُءُوسُ النَّاسِ أَيْ: مُلُوكُ الْأَرْضِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ مِثْلُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ الْبَادِيَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَغَيْرِهِ. قَالَ: مَا الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ؟ قَالَ: الْعُرَيْبُ. وهو بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى التَّصْغِيرِ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مِنِ انْقِلَابِ الدِّينِ تَفَصُّحُ النَّبَطِ وَاتِّخَاذُهُمُ الْقُصُورَ فِي الْأَمْصَارِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارُ عَنْ تَبَدُّلِ الْحَالِ بِأَنْ يَسْتَوْلِيَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ عَلَى الْأَمْرِ وَيَتَمَلَّكُوا الْبِلَادَ بِالْقَهْرِ فَتَكْثُرُ أَمْوَالُهُمْ وَتَنْصَرِفُ هِمَمُهُمْ إِلَى تَشْيِيدِ الْبُنْيَانِ وَالتَّفَاخُرِ بِهِ، وَقَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: لَا تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعٍ وَمِنْهُ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ - أَيْ: أُسْنِدَ - إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (فِي خَمْسٍ) أَيْ: عِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ خَمْسٍ. وَحَذْفُ مُتَعَلَّقِ الْجَارِّ سَائِغٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} أَيْ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي جُمْلَةِ تِسْعِ آيَاتٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: قَالَ فَمَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: هِيَ فِي خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا مَطْمَعَ لِأَحَدٍ فِي عِلْمِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ}

(1)

في كتاب العتق 49 الباب 17 الحديث رقم 2552

ص: 123

بِهَذِهِ الْخَمْسِ، وهو فِي الصَّحِيحِ. قَالَ: فَمَنِ ادَّعَى عِلْمَ شَيْءٍ مِنْهَا غَيْرَ مُسْنَدَةٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ. قَالَ: وَأَمَّا ظَنُّ الْغَيْبِ فَقَدْ يَجُوزُ مِنَ الْمُنَجِّمِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرٍ عَادِيٍّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ وَالْجُعْلِ وَإِعْطَائِهَا فِي ذَلِكَ، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى هَذِهِ الْخَمْسِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوُهُ أَخْرَجَهُمَا أَحْمَدُ، وَأَخْرَجَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْعِلْمَ بِوَقْتِ الْكُسُوفِ قَبْلَ ظُهُورِهِ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّمَا الْغَيْبُ خَمْسٌ - وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ - وَمَا عَدَا ذَلِكَ غَيْبٌ يَعْلَمُهُ قَوْمٌ وَيَجْهَلُهُ قَوْمٌ.

(تَنْبِيهٌ): تَضَمَّنَ الْجَوَابُ زِيَادَةً عَلَى السُّؤَالِ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ إِرْشَادًا لِلْأُمَّةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْآيَة أَدَاةُ حَصْرٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، أَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الْخَطَرِ وَمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْفِعْلُ رَفِيعُ الشَّأْنِ فُهِمَ مِنْهُ الْحَصْرُ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لُوحِظَ مَا ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنْ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَدَّعُونَ عِلْمَ نُزُولِ الْغَيْثِ. فَيُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ نَفْيُ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ وَاخْتِصَاصُهُ بِاللَّهِ سبحانه وتعالى.

(فَائِدَةٌ): النُّكْتَةُ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْإِثْبَاتِ إِلَى النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وَكَذَا التَّعْبِيرُ بِالدِّرَايَةِ دُونَ الْعِلْمِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْمِيمِ، إِذِ الدِّرَايَةُ اكْتِسَابُ عِلْمِ الشَّيْءِ بِحِيلَةٍ، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ مُخْتَصَّاتِهَا وَلَمْ تَقَعْ مِنْهُ عَلَى عِلْمٍ كَانَ عَدَمُ اطِّلَاعِهَا عَلَى عِلْمِ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى. اهـ مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ.

قَوْلُهُ: (الْآيَةَ) أَيْ: تَلَا الْآيَةَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ. وَلِمُسْلِمٍ إِلَى قَوْلِهِ:{خَبِيرٌ} وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ قَوْلِهِ إِلَى الْأَرْحَامِ فَهُوَ تَقْصِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَالسِّيَاقُ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّهُ تَلَا الْآيَةَ كُلَّهَا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ: رُدُّوهُ) زَادَ فِي التَّفْسِيرِ: فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فِيهِ أَنَّ الْمَلَكَ يَجُوزُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَرَاهُ وَيَتَكَلَّمُ بِحَضْرَتِهِ، وهو يَسْمَعُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ) فِي التَّفْسِيرِ لِيُعَلِّمَ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: أَرَادَ أَنْ تَعْلَمُوا إِذَا لَمْ تَسْأَلُوا وَمِثْلُهُ لِعُمَارَةَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا كُنْتُ بِأَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ: ثُمَّ وَلَّى فَلَمَّا لَمْ نَرَ طَرِيقَهُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: سُبْحَانَ اللَّهُ، هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا جَاءَنِي قَطُّ وإِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَرَّةُ، وَفِي رِوَايَةِ التَّيْمِيِّ: ثُمَّ نَهَضَ فَوَلَّى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ، فَطَلَبْنَاهُ كُلَّ مَطْلَبٍ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ. فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ، خُذُوا عَنْهُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا شُبِّهَ عَلَيَّ مُنْذُ أَتَانِي قَبْلَ مَرَّتِي هَذِهِ، وَمَا عَرَفْتُهُ حَتَّى وَلَّى. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ تَفَرَّدَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بِقَوْلِهِ خُذُوا عَنْهُ. قُلْتُ: وهو مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَفِي قَوْلِهِ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَمَا تَفَرَّدَ إِلَّا بِالتَّصْرِيحِ، وَإِسْنَادُ التَّعْلِيمِ إِلَى جِبْرِيلَ مَجَازِيٌّ ; لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَبَ فِي الْجَوَابِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالْأَخْذِ عَنْهُ. وَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ الصَّحَابَةَ بِشَأْنِهِ بَعْدَ أَنِ الْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ.

وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ: ثُمَّ انْطَلَقَ، قَالَ عُمَرُ: فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ ; فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِأَنَّ قَوْلَهُ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا أَيْ: زَمَانًا بَعْدَ انْصِرَافِهِ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتٍ، وَلَكِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ: فَلَبِثْتُ ثَلَاثًا لَكِنِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ فِيهَا التَّصْحِيفَ، وَأَنَّ مَلِيًّا صُغِّرَتْ مِيمُهَا فَأَشْبَهَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّهَا تُكْتَبُ بِلَا أَلِفٍ، وَهَذِهِ الدَّعْوَى مَرْدُودَةٌ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ:

ص: 124

فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ، فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ثَلَاثٍ وَلِابْنِ حِبَّانَ: بَعْدَ ثَالِثَةٍ، وَلِابْنِ مَنْدَهْ: بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَجَمَعَ النَّوَوِيُّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَحْضُرْ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ، بَلْ كَانَ مِمَّنْ قَامَ إِمَّا مَعَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا فِي طَلَبِ الرَّجُلِ أَوْ لِشُغْلٍ آخَرَ وَلَمْ يَرْجِعْ مَعَ مَنْ رَجَعَ لِعَارِضٍ عَرَضَ لَهُ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَاضِرِينَ فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَتَّفِقِ الْإِخْبَارُ لِعُمَرَ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلَقِيَنِي وَقَوْلُهُ: فَقَالَ لِي يَا عُمَرُ فَوَجَّهَ الْخِطَابَ لَهُ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ إِخْبَارِهِ الْأَوَّلِ، وهو جَمْعٌ حَسَنٌ.

(تَنْبِيهَاتٌ): الْأَوَّلُ: دَلَّتِ الرِّوَايَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا عَرَفَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ إِلَّا فِي آخِرِ الْحَالِ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ حَسَنِ الْهَيْئَةِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَدَيْهِمْ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي فَرْوَةَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ فَإِنَّ قَوْلَهُ نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَهْمٌ ; لِأَنَّ دِحْيَةَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: مَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ النَّسَائِيُّ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ حَسْبُ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَحْفُوظَةُ لِمُوَافَقَتِهَا بَاقِيَ الرِّوَايَاتِ.

الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِي قَوْلِهِ: يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ الْحَسَنَ يُسَمَّى عِلْمًا وَتَعْلِيمًا ; لِأَنَّ جِبْرِيلَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ سِوَى السُّؤَالِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَمَّاهُ مُعَلِّمًا، وَقَدِ اشْتَهَرَ قَوْلُهُمْ: حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِيهِ انْبَنَتْ عَلَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَعًا.

الثَّالِثُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ لَهُ أُمُّ السُّنَّةِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ جُمَلِ عِلْمِ السُّنَّةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِهَذِهِ النُّكْتَةِ اسْتَفْتَحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ كِتَابَيْهِ الْمَصَابِيحَ وشَرْحَ السُّنَّةِ اقْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ فِي افْتِتَاحِهِ بِالْفَاتِحَةِ ; لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ عُلُومَ الْقُرْآنِ إِجْمَالًا. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى جَمِيعِ وَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنْ عُقُودِ الْإِيمَانِ ابْتِدَاءً وَحَالًا وَمَآلًا، وَمِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَمِنْ إِخْلَاصِ السَّرَائِرِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ آفَاتِ الْأَعْمَالِ، حَتَّى إِنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ وَمُتَشَعِّبَةٌ مِنْهُ. قُلْتُ: وَلِهَذَا أَشْبَعْتُ الْقَوْلَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِيَ ذَكَرْتُهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ قَلِيلٌ، فَلَمْ أُخَالِفْ طَرِيقَ الِاخْتِصَارِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (قَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) يَعْنِي الْمُؤَلِّفَ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْإِيمَانِ أَيِ: الْإِيمَانِ الْكَامِلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ كُلِّهَا.

‌38 - باب

51 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قال: حدثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ قال: أخبرنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ.

[الحديث 52 - طرفه في: 2051]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا هو بِلَا تَرْجَمَةٍ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَبِي الْوَقْتِ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍ، وَالْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ قَالَ: لِأَنَّ التَّرْجَمَةَ - يَعْنِي سُؤَالَ جِبْرِيلَ عَنْ الْإِيمَانِ - لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا هَذَا الْحَدِيثُ، فَلَا يَصِحْ إِدْخَالُهُ فِيهِ. قُلْتُ: نَفِيُ التَّعَلُّقِ لا يَتِمُّ هُنَا عَلَى الْحَالَتَيْنِ، لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ لَفْظُ (بَابٌ) بِلَا تَرْجَمَةٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ مِنْ الْبَابِ الَّذِي قَبِلَهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تعَلِّقٍ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَتَعَلُّقُهُ بِهِ مُتَعَيِّنٌ، لَكِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا.

وَوَجْهُ التَّعَلُّقِ أَنَّهُ سَمَّى الدِّينَ إِيمَانًا فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ فَيَتِمُّ مُرَادُ الْمُؤَلِّفِ بِكَوْنِ الدِّينِ هُوَ الْإِيمَانَ، فَإِنْ قِيلَ: لَا حُجَّةَ لَهُ

ص: 125

فِيهِ، لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ هِرَقْلَ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَا قَالَهُ مِنْ قِبَلِ اجْتِهَادِهِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اسْتِقْرَائِهِ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَأَيْضًا فَهِرَقْلُ قَالَهُ بِلِسَانِهِ الرُّومِيِّ، وَأَبُو سُفْيَانَ عَبَّرَ عَنْهُ بِلِسَانِهِ الْعَرَبِيِّ، وَأَلْقَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - وهو مِنْ عُلَمَاءِ اللسان - فَرَوَاهُ عَنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَقَدِ اقْتَصَرَ الْمُؤَلَّفُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ الطَّوِيلِ الَّذِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ عَلَى هَذِهِ الْقِطْعَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِغَرَضِهِ هُنَا، وَسَاقَهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ تَامًّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ الَّذِي أَوْرَدَهُ هُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌39 - بَاب فَضْلِ مَنْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ

52 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ قال: سمعت النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ.

[الحديث 52 - طرفه في: 2051]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ) كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْوَرَعَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِيمَانِ، فَلِهَذَا أَوْرَدَ حَدِيثَ الْبَابِ فِي أَبْوَابِ الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ) هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَاسْمُ أَبِي زَائِدَةَ خَالِدُ بْنُ مَيْمُونٍ الْوَادِعِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَامِرٍ) هُوَ الشَّعْبِيُّ الْفَقِيهُ الْمَشْهُورُ. وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُوفِيُّونَ. وَقَدْ دَخَلَ النُّعْمَانُ الْكُوفَةَ وَوَلِيَ إِمْرَتَهَا. وَلِأَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَرِيزٍ - وهو بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرِهِ زَايٌ - عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ خَطَبَ بِهِ بِالْكُوفَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ خَطَبَ بِهِ بِحِمْصَ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ إِمْرَةَ الْبَلَدَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَزَادَ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّاءَ فِيهِ وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَفِي هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْوَاقِدِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ إِنَّ النُّعْمَانَ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ تَحَمُّلِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَاتَ وَلِلنُّعْمَانِ ثَمَانِ سِنِينَ، وَزَكَرِيَّاءُ مَوْصُوفٌ بِالتَّدْلِيسِ، وَلَمْ أَرَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ إِلَّا مُعَنْعَنًا ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي فَوَائِدِ ابْنِ أَبِي الْهَيْثَمِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ، فَحَصَلَ الْأَمْنُ مِنْ تَدْلِيسِهِ

(1)

.

(فَائِدَةٌ): ادَّعَى أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَرْوِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، فَإِنْ أَرَادَ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ فَمُسَلَّمٌ، وَإِلَّا فَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَمَّارٍ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْكَبِيرِ لَهُ، وَمِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ فِي التَّرْغِيبِ لِلْأَصْبَهَانِيِّ، وَفِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ. وَادَّعَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ عَنِ النُّعْمَانَ غَيْرُ الشَّعْبِيِّ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ رَوَاهُ عَنِ النُّعْمَانَ أَيْضًا خَيْثَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ وَغَيْرِهِ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ ; لَكِنَّهُ مَشْهُورٌ عَنِ

(1)

وهو في مسند أحمد (270: 4): عن زكرياء قال (حدثنا) عامر قال سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول

ص: 126

الشَّعْبِيِّ رَوَاهُ عَنْهُ جَمْعٌ جَمٌّ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَرَوَاهُ عَنْهُ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، وَقَدْ سَاقَ الْبُخَارِيُّ إِسْنَادَهُ فِي الْبُيُوعِ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَسَاقَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَنُشِيرُ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ) أَيْ فِي عَيْنِهِمَا وَوَصْفِهِمَا بِأَدِلَّتِهِمَا الظَّاهِرَةِ.

قَوْلُهُ: (وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ) بِوَزْنِ مُفَعَّلَاتٍ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ الْمَفْتُوحَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، أَيْ: شُبِّهَتْ بِغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ بِهِ حُكْمُهَا عَلَى التَّعْيِينِ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: مُشْتَبِهَاتٌ بِوَزْنِ مُفْتَعِلَاتٍ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَعَيْنٍ خَفِيفَةٍ مَكْسُورَةٍ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ، وهو لَفْظُ ابْنِ عَوْنٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مُوَحَّدَةٌ اكْتَسَبَتِ الشَّبَهَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ وَبَيْنَهُمَا مُتَشَابِهَاتٌ.

قَوْلُهُ: (لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أَيْ: لَا يَعْلَمُ حُكْمَهَا، وَجَاءَ وَاضِحًا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ لَا يَدْرِي كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمِنَ الْحَلَالِ هِيَ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ كَثِيرٌ أَنَّ مَعْرِفَةَ حُكْمِهَا مُمْكِنٌ لَكِنْ لِلْقَلِيلِ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ، فَالشُّبُهَاتُ عَلَى هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَقَعُ لَهُمْ حَيْثُ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ) أَيْ: حَذِرَ مِنْهَا، وَالِاخْتِلَافُ فِي لَفْظِهَا بَيْنَ الرُّوَاةِ نَظِيرُ الَّتِي قَبْلَهَا لَكِنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ: الشُّبُهَاتِ بِالضَّمِّ جَمْعُ شُبْهَةٍ.

قَوْلُهُ: (اسْتَبْرَأَ) بِالْهَمْزِ بِوَزْنِ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْبَرَاءَةِ، أَيْ: بَرَّأَ دِينَهُ مِنَ النَّقْصِ وَعِرْضَهُ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِاجْتِنَابِ الشُّبُهَاتِ لَمْ يَسْلَمْ لِقَوْلِ مَنْ يَطْعَنُ فِيهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَوَقَّ الشُّبْهَةَ فِي كَسْبِهِ وَمَعَاشِهِ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلطَّعْنِ فِيهِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى أُمُورِ الدِّينِ وَمُرَاعَاةِ الْمُرُوءَةِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ) فِيهَا أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ. وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الشُّبُهَاتِ فَقِيلَ التَّحْرِيمُ، وهو مَرْدُودٌ. وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ، وَقِيلَ الْوَقْفُ. وهو كَالْخِلَافِ فِيمَا قَبْلَ الشَّرْعِ. وَحَاصِلُ مَا فَسَّرَ بِهِ الْعُلَمَاءُ الشُّبُهَاتِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثَانِيهَا: اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ مُنْتَزَعَةٌ مِنَ الْأُولَى، ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مُسَمَّى الْمَكْرُوهِ لِأَنَّهُ يَجْتَذِبُهُ جَانِبَا الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، رَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُبَاحُ، وَلَا يُمْكِنُ قَائِلُ هَذَا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى مُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَكُونَ مِنْ قِسْمٍ خِلَافَ الْأَوْلَى، بِأَنْ يَكُونَ مُتَسَاوِيَ الطَّرَفَيْنِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، رَاجِحَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي مَنَاقِبِ شَيْخِهِ الْقَبَّارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمَكْرُوهُ عَقَبَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحَرَامِ، فَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْمَكْرُوِهِ تَطَرَّقَ إِلَى الْحَرَامِ، وَالْمُبَاحُ عَقَبَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكْرُوهِ، فَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ تَطَرَّقَ إِلَى الْمَكْرُوِهِ، وهو مَنْزَعٌ حَسَنٌ.

وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ ذَكَرَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحلَالِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ أَرْتَعَ فِيهِ كَانَ كَالْمُرْتِعِ إِلَى جَنْبِ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَلَالَ حَيْثُ يُخْشَى أَنْ يَئُولَ فِعْلُهُ مُطْلَقًا إِلَى مَكْرُوهٍ أَوْ مُحَرَّمٍ يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ، كَالْإِكْثَارِ مَثَلًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَإِنَّهُ يُحْوِجُ إِلَى كَثْرَةِ الِاكْتِسَابِ الْمُوقِعِ فِي أَخْذِ مَا لَا يُسْتَحَقُّ أَوْ يُفْضِي إِلَى بَطَرِ النَّفْسِ، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ الِاشْتِغَالُ عَنْ مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ مُشَاهَدٌ بِالْعِيَانِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا سَأَذْكُرُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْأَوْجُهِ مُرَادًا، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ: فَالْعَالِمُ الْفَطِنُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَمْيِيزُ الْحُكْمِ فَلَا يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْمُبَاحِ أَوِ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَرَّرَ قَبْلُ، وَدُونَهُ تَقَعُ لَهُ الشُّبْهَةُ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُسْتَكْثِرَ مِنَ الْمَكْرُوِهِ تَصِيرُ فِيهِ جُرْأَةٌ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ يَحْمِلُهُ اعْتِيَادُهُ ارْتِكَابَ الْمَنْهِيِّ غَيْرِ الْمُحَرَّمِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ الْمُحَرَّمِ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ. أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ لِشُبْهَةٍ فِيهِ، وهو أَنَّ مَنْ تَعَاطَى مَا نُهِيَ عَنْهُ يَصِيرُ مُظْلِمَ الْقَلْبِ لِفِقْدَانِ نُورِ الْوَرَعِ فَيَقَعُ فِي

ص: 127

الْحَرَامِ وَلَوْ لَمْ يَخْتَرِ الْوُقُوعَ فِيهِ.

وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْبُيُوعِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ لَهُ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ وَهَذَا يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ.

(تَنْبِيهٌ): اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى جَوَازِ بَقَاءِ الْمُجْمَلِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، إِلَّا إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مُنْكِرِي الْقِيَاسِ فَيُحْتَمَلُ مَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (كَرَاعٍ يَرْعَى) هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ مَحْذُوفُ جَوَابِ الشَّرْطِ إِنْ أُعْرِبَتْ مَنْ شَرْطِيَّةً، وَقَدْ ثَبَتَ الْمَحْذُوفُ فِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى وَيُمْكِنُ إِعْرَابُ مَنْ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ مَوْصُولَةً فَلَا يَكُونُ فِيهِ حَذْفٌ، إِذِ التَّقْدِيرُ وَالَّذِي وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ مِثْلُ رَاعٍ يَرْعَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِثُبُوتِ الْمَحْذُوفِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا الَّتِي أَخْرَجَهُ مِنْهَا الْمُؤَلِّفُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: كَرَاعٍ يَرْعَى جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَرَدَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلتَّنْبِيهِ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ. وَالْحِمَى الْمَحْمِيُّ، أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَفِي اخْتِصَاصِ التَّمْثِيلِ بِذَلِكَ نُكْتَةٌ، وَهِيَ أَنَّ مُلُوكَ الْعَرَبِ كَانُوا يَحْمُونَ لِمَرَاعِي مَوَاشِيهِمْ أَمَاكِنَ مُخْتَصَّةً يَتَوَعَّدُونَ مَنْ يَرْعَى فِيهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ، فَمَثَّلَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ، فَالْخَائِفُ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمُرَاقِبُ لِرِضَا الْمَلِكِ يَبْعُدُ عَنْ ذَلِكَ الْحِمَى خَشْيَةَ أَنْ تَقَعَ مَوَاشِيهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، فَبُعْدُهُ أَسْلَمُ لَهُ وَلَوِ اشْتَدَّ حَذَرُهُ. وَغَيْرُ الْخَائِفِ الْمُرَاقِبُ يَقْرُبُ مِنْهُ وَيَرْعَى مِنْ جَوَانِبِهِ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ تَنْفَرِدَ الْفَاذَّةُ فَتَقَعُ فِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَوْ يَمْحَلُ الْمَكَانُ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَيَقَعُ الْخِصْبُ فِي الْحِمَى فَلَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ. فَاللَّهُ سبحانه وتعالى هُوَ الْمَلِكُ حَقًّا، وَحِمَاهُ مَحَارِمُهُ.

(تَنْبِيهٌ): ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ التَّمْثِيلَ مِنْ كَلَامِ الشَّعْبِيِّ، وَأَنَّهُ مُدْرَجٌ فِي الْحَدِيثِ، حَكَى ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى دَلِيلِهِ إِلَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ الْجَارُودِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: لَا أَدْرِي الْمَثَلَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ. قُلْتُ: وَتَرَدُّدُ ابْنِ عَوْنٍ فِي رَفْعِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مُدْرَجًا ; لِأَنَّ الْأَثْبَاتَ قَدْ جَزَمُوا بِاتِّصَالِهِ وَرَفْعِهِ، فَلَا يَقْدَحُ شَكُّ بَعْضِهِمْ فِيهِ. وَكَذَلِكَ سُقُوطُ الْمَثَلِ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِ الرُّوَاةِ - كَأَبِي فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ - لَا يَقْدَحُ فِيمَنْ أَثْبَتَهُ ; لِأَنَّهُمْ حُفَّاظٌ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي حَذْفِ الْبُخَارِيِّ قَوْلَهُ: وَقَعَ فِي الْحَرَامِ: لِيَصِيرَ مَا قَبْلَ الْمَثَلِ مُرْتَبِطًا بِهِ فَيَسْلَمُ مِنْ دَعْوَى الْإِدْرَاجِ. وَمِمَّا يُقَوِّي عَدَمَ الْإِدْرَاجِ رِوَايَةُ ابْنِ حِبَّانٍ الْمَاضِيَةُ، وَكَذَا ثُبُوتُ الْمَثَلِ مَرْفُوعًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ) سَقَطَ فِي أَرْضِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَثَبَتَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَحَارِمِ فِعْلُ الْمَنْهِيِّ الْمُحَرَّمِ أَوْ تَرْكُ الْمَأْمُورِ الْوَاجِبِ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ التَّعْبِيرُ بِالْمَعَاصِي بَدَلَ الْمَحَارِمِ. وَقَوْلُهُ: أَلَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى صِحَّةِ مَا بَعْدَهَا، وَفِي إِعَادَتِهَا وَتَكْرِيرِهَا دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ مَدْلُولِهَا.

قَوْلُهُ: (مُضْغَةٌ) أَيْ: قَدْرُ مَا يُمْضَغُ، وَعَبَّرَ بِهَا هُنَا عَنْ مِقْدَارِ الْقَلْبِ فِي الرُّؤْيَةِ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لِتَقَلُّبِهِ فِي الْأُمُورِ، أَوْ لِأَنَّهُ خَالِصُ مَا فِي الْبَدَنِ، وَخَالِصُ كُلِّ شَيْءٍ قَلْبُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ وُضِعَ فِي الْجَسَدِ مَقْلُوبًا. وَقَوْلُهُ: إِذَا صَلَحَتْ وإِذَا فَسَدَتْ هُوَ بِفَتْحِ عَيْنِهِمَا وَتُضَمُّ فِي الْمُضَارِعِ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ الضَّمَّ فِي مَاضِي صَلَحَ، وهو يُضَمُّ وِفَاقًا إِذَا صَارَ لَهُ الصَّلَاحُ هَيْئَةً لَازِمَةً لِشَرَفٍ وَنَحْوِهِ، وَالتَّعْبِيرُ بِإِذَا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ غَالِبًا، وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى إِنْ كَمَا هُنَا. وَخَصَّ الْقَلْبَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمِيرُ الْبَدَنِ، وَبِصَلَاحِ الْأَمِيرِ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ، وَبِفَسَادِهِ تَفْسُدُ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَعْظِيمِ قَدْرِ الْقَلْبِ، وَالْحَثُّ عَلَى صَلَاحِهِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ لِطِيبِ الْكَسْبِ

ص: 128

أَثَرًا فِيهِ. وَالْمُرَادُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مِنَ الْفَهْمِ الَّذِي رَكَّبَهُ اللَّهُ فِيهِ. وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ: عَقْلٌ. وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَلْبِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ اسْتِقْرَارِهِ. (فَائِدَةٌ): لَمْ تَقَعْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا: أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِلَّا فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ، وَلَا هِيَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، إِنَّمَا تَفَرَّدَ بِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ زَكَرِيَّا الْمَذْكُورُ عَنْهُ، وَتَابَعَهُ مُجَاهِدٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُغِيرَةَ وَغَيْرُهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ.

وَعَبَّرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ عَنِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ بِالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاتِّقَاءِ وَالْوُقُوعِ هُوَ مَا كَانَ بِالْقَلْبِ ; لِأَنَّهُ عِمَادُ الْبَدَنِ. وَقَدْ عَظَّمَ الْعُلَمَاءُ أَمْرَ هَذَا الْحَدِيثِ فَعَدُّوهُ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ تَدُورُ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبَى دَاوُدَ، وَفِيهِ الْبَيْتَانِ الْمَشْهُورَانِ وَهُمَا:

عُمْدَةُ الدِّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ

مُسْنَدَاتٌ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّهِ

اتْرُكِ الْمُشْبِهَاتِ وَازْهَدْ وَدَعْ مَا

لَيْسَ يَعْنِيكَ وَاعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ

وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَدُّ: مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ. . . الْحَدِيثَ بَدَلَ ازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ حَذَفَ الثَّانِيَ، وَأَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْهُ وَحْدَهُ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى تَعَلُّقِ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِالْقَلْبِ، فَمِنْ هُنَا يُمْكِنُ أَنْ تُرَدَّ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

‌40 - بَاب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنْ الْإِيمَانِ

53 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قال: أخبرنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي، فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ ثُمَّ قال: إن وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: من الْقَوْمُ أَوْ مَنْ الْوَفْدُ؟ قَالُوا: رَبِيعَةُ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى فَقالوا: يا رسول الله، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنْ الْأَشْرِبَةِ فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَرُبَّمَا قَالَ: الْمُقَيَّرِ، وَقَالَ: احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَدَاءِ الْخُمُسِ مِنَ الْإِيمَانِ) هُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وهو الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الْآيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ رُوِيَ هُنَا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْمُرَادُ قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ وَفِيهِ بُعْدٌ ; لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يُذْكَرْ هُنَا، وَلِأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ قَدْ تَقَدَّمَ، وَلَمْ يُرِدْ هُنَا إِلَّا ذِكْرَ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِفْرَادَهُ بِالذِّكْرِ. وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ كَوْنِهِ مِنَ الْإِيمَانِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي جَمْرَةَ)

ص: 129

هُوَ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، واسمه نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ نُوحِ بْنِ مَخْلَدٍ الضُّبَعِيُّ بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ أَوَّلَهُ مُصَغَّرًا، وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّشَاطِيُّ، وَفِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ بَطْنٌ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو ضُبَيْعَةَ أَيْضًا، وَقَدْ وَهَمَ مَنْ نَسَبَ أَبَا جَمْرَةَ إِلَيْهِمْ مِنْ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ، فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي تَرْجَمَةِ نُوحِ بْنِ مَخْلَدٍ جَدِّ أَبِي جَمْرَةَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ ضُبَيْعَةِ رَبِيعَةَ. فَقَالَ: خَيْرُ رَبِيعَةَ عَبْدُ الْقَيْسِ ثُمَّ الْحَيُّ الَّذِينَ أَنْتَ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ) بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ فِي الْعِلْمِ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ السَّبَبَ فِي إِكْرَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ وَلَفْظُهُ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: أَصْلُ التَّرْجَمَةِ التَّعْبِيرُ عَنْ لُغَةٍ بِلُغَةٍ، وهو عِنْدِي هُنَا أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ كَانَ يُبَلِّغُ كَلَامَ ابْنَ عَبَّاسٍ إِلَى مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَيُبَلِّغُهُ كَلَامَهُمْ، إِمَّا لِزِحَامٍ أَوْ لِقُصُورِ فَهْمٍ. قُلْتُ: الثَّانِي أَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَلَا فَرْقَ فِي الزِّحَامِ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ فِي صَدْرِ السَّرِيرِ، وَكَانَ أَبُو جَمْرَةَ فِي طَرَفِهِ الَّذِي يَلِي مَنْ يُتَرْجِمُ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا جَمْرَةَ كَانَ يَعْرِفُ الْفَارِسِيَّةَ، فَكَانَ يُتَرْجِمُ لِابْنِ عَبَّاسٍ بِهَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَكْتَفِي فِي التَّرْجَمَةِ بِوَاحِدٍ. قُلْتُ: وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ كَمَا سَيَأْتِي. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ ابْنُ التِّينِ جَوَازَ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ لِقَوْلِهِ: حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي وَفِيهِ نَظَرٌ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ إِعْطَاؤُهُ ذَلِكَ كَانَ بِسَبَبِ الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ صَرِيحًا فِي الْحَجِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَصْلٌ فِي اتِّخَاذِ الْمُحَدِّثِ الْمُسْتَمْلِي.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ) بَيَّنَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ السَّبَبَ فِي تَحْدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَبِي جَمْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَبَيْنَ النَّاسِ: فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْأَلُهُ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ، فَنَهَى عَنْهُ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنِّي أَنْتَبِذُ فِي جَرَّةٍ خَضْرَاءَ نَبِيذًا حُلْوًا فَأَشْرَبُ مِنْهُ فَتُقَرْقِرُ بَطْنِي، قَالَ: لَا تَشْرَبْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ لِي جَرَّةً أَنْتَبِذُ فِيهَا فَأَشْرَبُهُ حُلْوًا، إِنْ أَكْثَرْتُ مِنْهُ فَجَالَسْتُ الْقَوْمَ فَأَطَلْتُ الْجُلُوسَ خَشِيتُ أَنْ أَفْتَضِحَ، فَقَالَ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ فَلَمَّا كَانَ أَبُو جَمْرَةَ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانَ حَدِيثُهُمْ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْجِرَارِ نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَبْلُغْهُ نَسْخُ تَحْرِيمِ الِانْتِبَاذِ فِي الْجِرَارِ، وهو ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْمُفْتِي أَنْ يَذْكُرَ الدَّلِيلَ مُسْتَغْنِيًا بِهِ عَنِ التَّنْصِيصِ عَلَى جَوَابِ الْفُتْيَا إِذَا كَانَ السَّائِلُ بَصِيرًا بِمَوْضِعِ الْحُجَّةِ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنِ الْقَوْمُ، أَوْ مَنِ الْوَفْدُ؟) الشَّكُّ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ، إِمَّا أَبُو جَمْرَةَ أَوْ مَنْ دُونَهُ، وَأَظُنُّهُ شُعْبَةَ فَإِنَّهُ فِي رِوَايَةِ قُرَّةَ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ شَكٍّ. وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: الشَّكُّ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْوَفْدُ الْجَمَاعَةُ الْمُخْتَارَةُ لِلتَّقَدُّمِ فِي لُقِيِّ الْعُظَمَاءِ، وَاحِدُهُمْ وَافِدٌ. قَالَ: وَوَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ الْمَذْكُورُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا كَبِيرُهُمْ الْأَشَجُّ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَسَمَّى مِنْهُمْ الْمُنْذِرَ بْنَ عَائِذٍ، وهو الْأَشَجُّ الْمَذْكُورُ، وَمُنْقِذَ بْنَ حِبَّانَ، وَمَزِيدَةَ

(1)

، بْنَ مَالِكٍ، وَعَمْرَو بْنَ مَرْحُومٍ، وَالْحَارِثَ بْنَ شُعَيْبٍ، وَعُبَيْدَةَ بْنَ هَمَّامٍ، وَالْحَارِثَ بْنَ جُنْدُبٍ، وَصُحَارَ بْنَ الْعَبَّاسٍ، وهو بِصَادٍ مَضْمُومَةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ، قَالَ: وَلَمْ نَعْثُرْ بَعْدَ طُولِ التَّتَبُّعِ عَلَى أَسْمَاءِ الْبَاقِينَ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْهُمْ عُقْبَةَ بْنَ جَرْوَةَ

(2)

، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، قَيْسُ بْنُ النُّعْمَانَ الْعَبْدِيُّ، وَذَكَرَهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا فِي الْمُبْهَمَاتِ، وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ وَتَارِيخِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ الْجَهْمُ بْنُ قُثَمٍ، وَوَقَعَ

(1)

في هامش طبعة بولاق: في نسخة"بريدة".

(2)

في هامش طبعة بولاق: في نسخة"عطية بن جروة"

ص: 130

ذِكْرُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا لَكِنْ لَمْ يُسَمِّهِ، وَفِي مُسْنَدَيْ أَحْمَدَ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ الرُّسْتُمِ الْعَبْدِيِّ، وَفِي الْمَعْرِفَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ جُوَيْرِيَةُ الْعَبْدِيُّ، وَفِي الْأَدَبِ لِلْبُخَارِيِّ، الزَّارِعُ بْنُ عَامِرٍ الْعَبْدِيُّ. فَهَؤُلَاءِ السِّتَّةُ الْبَاقُونَ مِنَ الْعَدَدِ.

وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ الْوَفْدَ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهُ، وَفِي الْمَعْرِفَةِ لِابْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ هُودٍ الْعَصْرِيِّ، وهو بِعَيْنٍ وَصَادٍ مُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ نِسْبَةً إِلَى عَصْرٍ بَطْنٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ جَدِّهِ لِأُمِّهِ مَزِيدَةَ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ إِذْ قَالَ لَهُمْ: سَيَطْلُعُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ رَكْبٌ هُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فَقَامَ عُمَرُ فَلَقِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَاكِبًا فَرَحَّبَ وَقَرَّبَ وَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَذْكُورِينَ كَانَ غَيْرَ رَاكِبٍ أَوْ مُرْتَدِفًا. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدُّولَابِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْرَةَ - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ وَبَعْدَ الرَّاءِ هَاءٌ - الصُّبَاحِيِّ - وهو بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ خَفِيفَةٌ وَبَعْدَ الْأَلِفِ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ - نِسْبَةً إِلَى صُبَاحٍ بَطْنٍ مِنْ عَبْدِ الْقِيسِ قَالَ: كُنْتُ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَكُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَنَهَانَا عَنِ الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ. . . الْحَدِيثَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ كَانُوا رُءُوسَ الْوَفْدِ، وَلِهَذَا كَانُوا رُكْبَانًا، وَكَانَ الْبَاقُونَ أَتْبَاعًا.

وَقَدْ وَقَعَ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْأَخْبَارِ ذِكْرُ جَمَاعَةٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ زِيَادَةً عَلَى مَنْ سَمَّيْتُهُ هُنَا، مِنْهُمْ أَخُو الزَّارِعِ، واسمه مَطَرٌ وَابْنُ أُخْتِهِ وَلَمْ يُسَمَّ وَرَوَى ذَلِكَ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَمِنْهُمْ مُشَمْرَجٌ السَّعْدِيُّ رَوَى حَدِيثَهُ ابْنُ السَّكَنِ وَأَنَّهُ قَدِمَ مَعَ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَمِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَخُزَيْمَةُ بْنُ عَبْدِ بْنُ عَمْرٍو، وَهَمَّامُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَجَارِيَةُ أَوَّلُهُ جِيمٌ ابْنُ جَابِرٍ ذَكَرَهُمْ ابْنُ شَاهِينَ فِي مُعْجَمِهِ، وَمِنْهُمْ نُوحُ بْنُ مَخْلَدٍ جَدُّ أَبِي جَمْرَةَ وَكَذَا أَبُو خَيْرَةَ الصُّبَاحِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِقَوْلِ صَاحِبِ التَّحْرِيرِ إِنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ - بَعْدَ طُولِ التَّتَبُّعِ - إِلَّا بِمَا ذَكَرَهُمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِي قَوْلِهِ مَنِ الْقَوْمُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ سُؤَالِ الْقَاصِدِ عَنْ نَفْسِهِ لِيُعْرَفَ فَيُنْزَلَ مَنْزِلَتَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا: رَبِيعَةُ) فِيهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ رَبِيعَةَ، وَهَذَا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ: فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الْحَيُّ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَالْمَعْنَى إِنَّا هَذَا الْحَيُّ حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: وَالْحَيُّ هُوَ اسْمٌ لِمَنْزِلِ الْقَبِيلَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتِ الْقَبِيلَةُ بِهِ ; لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَحْيَا بِبَعْضٍ.

قَوْلُهُ: (مَرْحَبًا) هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: صَادَفْتُ رُحْبًا بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ سَعَةً، وَالرَّحْبُ بِالْفَتْحِ الشَّيْءُ الْوَاسِعِ، وَقَدْ يَزِيدُونَ مَعَهَا أَهْلًا، أَيْ وَجَدْتُ أَهْلًا فَاسْتَأْنِسْ، وَأَفَادَ الْعَسْكَرِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ مَرْحَبًا سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْنِيسِ الْقَادِمِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَفِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ: وَفِي قِصَّةِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ: مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ وَفِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ مَرْحَبًا بِابْنَتِي وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ بَشِيرٍ الْحَارِثِيِّ، عن أبيه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ لَمَّا دَخَلَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مَرْحَبًا وَعَلَيْكَ السَّلَامُ.

قَوْلُهُ: (غَيْرَ خَزَايَا) بِنَصْبِ غَيْرِ عَلَى الْحَالِ، وَرُوِيَ بِالْكَسْرِ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ: مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى وَخَزَايَا جَمْعُ خَزْيَانَ، وهو الَّذِي أَصَابَهُ خِزْيٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا طَوْعًا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ أَوْ سَبْيٍ يُخْزِيهِمْ وَيَفْضَحُهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَلَا نَدَامَى) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ أَصْلُهُ نَادِمِينَ جَمْعُ نَادِمٍ لِأَنَّ نَدَامَى إِنَّمَا هُوَ جَمْعُ نَدْمَانَ أَيِ: الْمُنَادِمُ فِي اللَّهْوِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي

لَكِنَّهُ هُنَا خَرَجَ عَلَى الْإِتْبَاعِ كَمَا قَالُوا الْعَشَايَا وَالْغَدَايَا، وَغَدَاةٌ جَمْعُهَا الْغَدَوَاتُ لَكِنَّهُ أَتْبَعَ، انْتَهَى. وَقَدْ حَكَى الْقَزَّازُ، وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ نَادِمٌ وَنَدْمَانُ فِي النَّدَامَةِ بِمَعْنًى،

ص: 131

فَعَلَى هَذَا فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ وَلَا إِتْبَاعَ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ قُرَّةَ فَقَالَ مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ لَيْسَ الْخَزَايَا وَلَا النَّادِمِينَ وَهِيَ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: بَشَّرَهُمْ بِالْخَيْرِ عَاجِلًا وَآجِلًا ; لِأَنَّ النَّدَامَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْعَاقِبَةِ، فَإِذَا انْتَفَتْ ثَبَتَ ضِدُّهَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الثَّنَاءِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ إِذَا أُمِنَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالُوا: يا رسول الله،) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِينَ الْمُقَابَلَةِ مُسْلِمِينَ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِمْ كُفَّارُ مُضَرَ وَفِي قَوْلِهِمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ)، وَلِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ إِلَّا فِي شَهْرِ الْحَرَامِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَهِيَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ كَمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ الْجِنْسُ فَيَشْمَلُ الْأَرْبَعَةَ الْحُرُمَ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ قُرَّةَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي الْمَغَازِي بِلَفْظِ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ وَرِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَهُ فِي الْمَنَاقِبِ بِلَفْظِ إِلَّا فِي كُلِّ شَهْرٍ حَرَامٍ وَقِيلَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ شَهْرُ رَجَبٍ، وَفِي رِوَايَةِ لِلْبَيْهَقِيِّ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَكَانَتْ مُضَرُ تُبَالِغُ فِي تَعْظِيمِ شَهْرِ رَجَبٍ، فَلِهَذَا أُضِيفَ إِلَيْهِمْ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ حَيْثُ قَالَ رَجَبُ مُضَرَ كَمَا سَيَأْتِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخُصُّونَهُ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ مَعَ تَحْرِيمِهِمُ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى، إِلَّا أَنَّهُمْ رُبَّمَا أَنْسَأُوهَا بِخِلَافِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى قَبَائِلَ مُضَرَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْبَحْرَيْنِ وَمَا وَالَاهَا مِنْ أَطْرَافِ الْعِرَاقِ، وَلِهَذَا قَالُوا - كَمَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي الْعِلْمِ - وَإِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الشُّقَّةُ السَّفَرُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي تُقْصَدُ.

وَيَدُلُّ عَلَى سَبْقِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَمْرَةَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ - بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنْ الْبَحْرَيْنِ، وَجُوَاثَى بِضَمِّ الْجِيمِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُثَلَّثَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَهِيَ قَرْيَةٌ شَهِيرَةٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا جَمَّعُوا بَعْدَ رُجُوعِ وَفْدِهِمْ إِلَيْهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ سَبَقُوا جَمِيعَ الْقُرَى إِلَى الْإِسْلَامِ.

قَوْلُهُ: (بِأَمْرٍ فَصْلٍ) بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا لَا بِالْإِضَافَةِ، وَالْأَمْرُ: وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، أَيْ: مُرْنَا بِعَمَلٍ بِوَاسِطَةِ افْعَلُوا، وَلِهَذَا قَالَ الرَّاوِي أَمَرَهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آمُرُكُمْ، وَلَهُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ بِصِيغَةِ افْعَلُوا. والْفَصْلُ بِمَعْنَى الْفَاصِلِ كَالْعَدْلِ بِمَعْنَى الْعَادِلِ، أَيْ: يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُفَصَّلِ أَيِ الْمُبَيَّنِ الْمَكْشُوفِ حَكَاهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْفَصْلُ الْبَيِّنُ وَقِيلَ الْمُحْكَمُ.

قَوْلُهُ: (نُخْبِرُ بِهِ) بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِأَمْرٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَنَدْخُلُ، وَيُرْوَى بِالْجَزْمِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ. وَسَقَطَتِ الْوَاوُ مِنْ وَنَدْخُلُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَيُرْفَعُ نُخْبِرُ وَيُجْزَمُ نَدْخُلُ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِبْدَاءِ الْعُذْرِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَوْفِيَةِ الْحَقِّ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، وَعَلَى أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْأَهَمِّ، وَعَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ تُدْخِلُ الْجَنَّةَ إِذَا قُبِلَتْ، وَقَبُولُهَا يَقَعُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ) أَيْ: خِصَالٍ أَوْ جُمَلٍ، لِقَوْلِهِمْ حَدِّثْنَا بِجُمَلٍ مِنَ الْأَمْرِ وَهِيَ رِوَايَةُ قُرَّةَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي الْمَغَازِي، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ الْأَرْبَعِ الْمَأْمُورِ بِهَا إِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّهَادَتَيْنِ تَبَرُّكًا بِهِمَا كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَإِلَى هَذَا نَحَا الطِّيبِيُّ فَقَالَ: عَادَةُ الْبُلَغَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ مَنْصُوبًا لِغَرَضٍ جَعَلُوا سِيَاقَهُ لَهُ وَطَرَحُوا مَا عَدَاهُ، وَهُنَا لَمْ يَكُنِ الْغَرَضُ فِي الْإِيرَادِ ذِكْرَ الشَّهَادَتَيْنِ - لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ - وَلَكِنْ رُبَّمَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْإِيمَانَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمَا كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَلِهَذَا لَمْ يَعُدَّ الشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَوَامِرِ. قِيلَ وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَوْلَا وُجُودُ حَرْفِ الْعَطْفِ لَقُلْنَا: إِنَّ ذِكْرَ الشَّهَادَتَيْنِ وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ

ص: 132

التَّصْدِيرِ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقْرَأَ قَوْلُهُ: وَإِقَامُ الصَّلَاةِ بِالْخَفْضِ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْدِيرُ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ مُصَدَّرًا بِهِ وَبِشَرْطِهِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَأَمَرَهُمْ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ إِلَخْ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَذْفُهُمَا فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ وَلَفْظُهُ: أَرْبَعٌ وَأَرْبَعٍ، أَقِيمُوا الصَّلَاةِ إِلَخْ. فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ مَا تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ أَدَاءَ الْخُمُسِ مِنَ الْإِيمَانِ يَقْتَضِي إِدْخَالَهُ مَعَ بَاقِي الْخِصَالِ فِي تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ يُخَالِفُهُ، أَجَابَ ابْنُ رَشِيدٍ بِأَنَّ الْمُطَابَقَةَ تَحْصُلُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَدْخُلُونَ بِهَا الْجَنَّةَ وَأُجِيبُوا بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَدَاءُ الْخُمُسِ، وَالْأَعْمَالُ الَّتِي تُدْخِلُ الْجَنَّةَ هِيَ أَعْمَالُ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الْإِيمَانِ بِهَذَا التَّقْرِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ قَالَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَعَقَدَ وَاحِدَةً كَذَا لِلْمُؤَلِّفِ فِي الْمَغَازِي، وَلَهُ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ وَعَقَدَ بِيَدِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ إِحْدَى الْأَرْبَعِ.

وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَهُ فِي الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ زِيَادَةِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ لَمْ يُتَابِعْ عَلَيْهَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ أَحَدٌ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَيْ: وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ فِي أَوَائِلِ الْمَوَاقِيتِ وَلَفْظُهُ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الْحَدِيثَ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَلَى إِرَادَةِ الشَّهَادَتَيْنِ مَعًا لِكَوْنِهَا صَارَتْ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي بَابِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَدَّ الشَّهَادَتَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعِ لِأَنَّهُ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ فَسَّرَهَا مُؤَنَّثًا فَيَعُودُ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَلَوْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْإِيمَانِ لَأَعَادَهُ مُذَكَّرًا، وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ: كَيْفَ قَالَ أَرْبَع وَالْمَذْكُورَاتُ خَمْسٌ؟ وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عِيَاضُ - تَبَعًا لِابْنِ بَطَّالٍ - بِأَنَّ الْأَرْبَعَ مَا عَدَا أَدَاءَ الْخُمُسِ، قَالَ: كَأَنَّهُ أَرَادَ إِعْلَامَهُمْ بِقَوَاعِدِ الْإِيمَانِ وَفُرُوضِ الْأَعْيَانِ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ إِخْرَاجُهُ إِذَا وَقَعَ لَهُمْ جِهَادٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِصَدَدِ مُحَارَبَةِ كُفَّارِ مُضَرَ، وَلَمْ يَقْصِدْ ذِكْرَهَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّهَا مُسَبَّبَةٌ عَنِ الْجِهَادِ، وَلَمْ يَكُنِ الْجِهَادُ إِذْ ذَاكَ فَرْضَ عَيْنٍ. قَالَ: وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: قَوْلُهُ: وَأَنْ تُعْطُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِأَرْبَعٍ أَيْ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَبِأَنْ تُعْطُوا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْعُدُولُ عَنْ سِيَاقِ الْأَرْبَعِ وَالْإِتْيَانُ بِأَنْ وَالْفِعْلِ مَعَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَا يَمْتَنِعُ الزِّيَادَةَ إِذَا حَصَلَ الْوَفَاءُ بِوَعْدِ الْأَرْبَعِ. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ، وَأَعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَدَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَاحِدَةً لِأَنَّهَا قَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَتَكُونُ الرَّابِعَةُ أَدَاءَ الْخُمُسِ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَعُدَّ أَدَاءَ الْخُمُسِ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهَمَا أَنَّهُمَا إِخْرَاجُ مَالٍ مُعَيَّنٍ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا تَفْسِيرٌ لِلْإِيمَانِ، وهو أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ الْمَوْعُودِ بِذِكْرِهَا، وَالثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ حَذَفَهَا الرَّاوِي اخْتِصَارًا أَوْ نِسْيَانًا.

كَذَا قَالَ، وَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ الظَّاهِرُ لَعَلَّهُ بحسب مَا ظَهَرَ لَهُ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الشَّهَادَةَ أَحَدُ الْأَرْبَعِ لِقَوْلِهِ وَعَقَدَ وَاحِدَةً وَكَأَنَّ الْقَاضِيَ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِشْكَالَ مِنْ كَوْنِ الْإِيمَانِ وَاحِدًا وَالْمَوْعُودِ بِذِكْرِهِ أَرْبَعًا، وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهِ الْمُفَصَّلَةِ أَرْبَعٌ، وهو فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَاحِدٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخِصَالِ الْأَرْبَعِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِهَا، ثُمَّ فَسَّرَهَا، فَهُوَ وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ مُتَعَدِّدٌ بِحَسَبِ وَظَائِفِهِ، كَمَا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ - وهو الِانْتِبَاذُ فِيمَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْإِسْكَارُ - وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ مُتَعَدِّدٌ بِحَسَبِ أَوْعِيَتِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْإِجْمَالِ

ص: 133

بِالْعَدَدِ قَبْلَ التَّفْسِيرِ أَنْ تَتَشَوَّفَ النَّفْسُ إِلَى التَّفْصِيلِ ثُمَّ تَسْكُنَ إِلَيْهِ وَأَنْ يَحْصُلَ حِفْظُهَا لِلسَّامِعِ فَإِذَا نَسِيَ شَيْئًا مِنْ تَفَاصِيلِهَا طَالَبَ نَفْسَهُ بِالْعَدَدِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْعَدَدَ الَّذِي فِي حِفْظِهِ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ فَاتَهُ بَعْضُ مَا سَمِعَ.

وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى قِدَمِ إِسْلَامِهِمْ، لَكِنْ جَزَمَ الْقَاضِي بِأَنَّ قُدُومَهُمْ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ تَبِعَ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ; لِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَخْتَار أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ حَتَّى لَا يَرِدَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ اهـ. وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِكَوْنِهِ عَلَى التَّرَاخِي بِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ وَلَمْ يَحُجَّ إِلَّا فِي سَنَةِ عَشْرٍ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ الْحَجِّ لِكَوْنِهِ عَلَى التَّرَاخِي فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ; لِأَنَّ كَوْنَهُ عَلَى التَّرَاخِي لَا يَمْنَعُ مِنَ الْأَمْرِ بِهِ، وَكَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا تَرَكَهُ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِقَوِيٍّ ; لِأَنَّهُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ ذَكَرَهُ لَهُمْ أَشْهَرُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَرْكَ ذِكْرِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَيْهِ سَبِيلٌ مِنْ أَجْلِ كُفَّارِ مُضَرَ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَالِ تَرْكُ الْإِخْبَارِ بِهِ لِيُعْمَلَ بِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ كَمَا فِي الْآيَةِ، بَلْ دَعْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْحَجِّ مَمْنُوعَةٌ لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمَنُونَ فِيهَا.

لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِبَعْضِ الْأَوَامِرِ لِكَوْنِهِمْ سَأَلُوهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِمَا يَدْخُلُونَ بِفِعْلِهِ الْجَنَّةَ، فَاقْتَصَرَ لَهُمْ عَلَى مَا يُمْكِنُهُمْ فِعْلُهُ فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِعْلَامَهُمْ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلًا وَتَرْكًا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اقْتِصَارُهُ فِي الْمَنَاهِي عَلَى الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ مَعَ أَنَّ فِي الْمَنَاهِي مَا هُوَ أَشَدُّ فِي التَّحْرِيمِ مِنَ الِانْتِبَاذِ، لَكِنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا لِكَثْرَةِ تَعَاطِيهِمْ لَهَا. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مِنَ السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْهَرَوِيِّ، عَنْ قُرَّةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ زِيَادَةِ ذِكْرِ الْحَجِّ وَلَفْظُهُ: وَتَحُجُّوا الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِعَدَدٍ فَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَمَنِ اسْتَخْرَجَ عَلَيْهِمَا وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ قُرَّةَ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْحَجَّ، وَأَبُو قِلَابَةَ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، فَلَعَلَّ هَذَا مِمَّا حَدَّثَ بِهِ فِي التَّغَيُّرِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِرِوَايَةِ أَبِي جَمْرَةَ. وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْحَجِّ أَيْضًا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ أَبَانَ الْعَطَّارِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ - وَعَنْ عِكْرِمَةَ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ وَفْدِ عَبْدِ قَيْسٍ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْحَجِّ فِيهِ مَحْفُوظًا فَيُجْمَعُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فَيُقَالُ: الْمُرَادُ بِالْأَرْبَعِ مَا عَدَا الشَّهَادَتَيْنِ وَأَدَاءَ الْخُمُسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الْحَنْتَمِ إِلَخْ) فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: وَسَأَلُوهُ عَنِ الْأَشْرِبَةِ هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ، أَيْ: مَا فِي الْحَنْتَمِ وَنَحْوِهِ، وَصَرَّحَ بِالْمُرَادِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ قُرَّةَ فَقَالَ: وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: مَا يُنْتَبَذُ فِي الْحَنْتَمِ: الْحَدِيثَ. وَالْحَنْتَمُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ هِيَ الْجَرَّةُ، كَذَا فَسَّرَهَا ابْنُ عُمَرَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْحَنْتَمُ الْجِرَارُ الْخُضْرُ، وَرَوَى الْحَرْبِيُّ فِي الْغَرِيبِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا جِرَارٌ كَانَتْ تُعْمَلُ مِنْ طِينٍ وَشَعْرٍ وَدَمٍ. وَالدُّبَّاءُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَدِّ هُوَ الْقَرْعُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُرَادُ الْيَابِسُ مِنْهُ. وَحَكَى الْقَزَّازُ فِيهِ الْقَصْرَ. وَالنَّقِيرُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْقَافِ: أَصْلُ النَّخْلَةِ يُنْقَرُ فَيُتَّخَذُ مِنْهُ وِعَاءً. وَالْمُزَفَّتُ بِالزَّايِ وَالْفَاءِ مَا طُلِيَ بِالزِّفْتِ. وَالْمُقَيَّرُ بِالْقَافِ وَالْيَاءِ الْأَخِيرَةِ مَا طُلِيَ بِالْقَارِ وَيُقَالُ لَهُ الْقَيْرُ، وهو نَبْتٌ يُحْرَقُ إِذَا يَبِسَ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ وَغَيْرُهَا كَمَا تُطْلَى بِالزِّفْتِ، قَالَهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ. وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: أَمَّا الدُّبَّاءُ فَإِنَّ أَهْلَ الطَّائِفِ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْقَرْعَ فَيُخَرِّطُونَ فِيهِ الْعِنَبَ ثُمَّ

ص: 134

يَدْفِنُونَهُ حَتَّى يُهْدَرَ ثُمَّ يَمُوتَ. وَأَمَّا النَّقِيرُ فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَامَةِ كَانُوا يَنْقُرُونَ أَصْلَ النَّخْلَةِ ثُمَّ يَنْبِذُونَ الرُّطَبَ وَالْبُسْرَ ثُمَّ يَدْعُونَهُ حَتَّى يُهْدَرَ ثُمَّ يَمُوتَ. وَأَمَّا الْحَنْتَمُ فَجِرَارٌ كَانَتْ تُحْمَلُ إِلَيْنَا فِيهَا الْخَمْرُ.

وَأَمَّا الْمُزَفَّتُ فَهَذِهِ الْأَوْعِيَةُ الَّتِي فِيهَا الزِّفْتُ، انْتَهَى. وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ. وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ بِخُصُوصِهَا لِأَنَّهُ يُسْرِعُ فِيهَا الْإِسْكَارُ، فَرُبَّمَا شَرِبَ مِنْهَا مَنْ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ، ثُمَّ ثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ فِي الِانْتِبَاذِ فِي كُلِّ وِعَاءٍ مَعَ النَّهْيِ عَنْ شُرْبِ كُلِّ مُسْكِرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ) بِفَتْحِ مَنْ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ، وَوَرَاءَكُمْ يَشْمَلُ مَنْ جَاءُوا مِنْ عِنْدِهِمْ وَهَذَا بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، وَيَشْمَلُ مَنْ يَحْدُثُ لَهُمْ مِنَ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ، فَيُحْتَمَلُ إِعْمَالُهَا فِي الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا حَقِيقَةً وَمَجَازًا. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْمُصَنِّفُ الِاعْتِمَادَ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌41 - بَاب مَا جَاءَ إِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَدَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَالْأَحْكَامُ

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} عَلَى نِيَّتِهِ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةٌ وَقَالَ: وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ

54 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قال: أخبرنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.

[انظر الحديث رقم 1]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ) أَيْ: بَابُ بَيَانِ مَا وَرَدَ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الشَّرْعِيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِسْبَةِ طَلَبُ الثَّوَابِ، وَلَمْ يَأْتِ بِحَدِيثٍ لَفْظُهُ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ، وَبِحَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالْحِسْبَةِ، وَقَوْلُهُ: وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى هُوَ بَعْضُ حَدِيثِ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّةِ. وَإِنَّمَا أَدْخَلَ قَوْلَهُ وَالْحِسْبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ تُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُ الْأُولَى.

قَوْلُهُ: (فَدَخَلَ فِيهِ) هُوَ مِنْ مَقُولِ الْمُصَنِّفِ، وَلَيْسَ بَقِيَّةً مِمَّا وَرَدَ. وَقَدْ أَفْصَحَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي رِوَايَتِهِ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الْمُصَنِّفَ - وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ يَعُودُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. وَتَوْجِيهُ دُخُولِ النِّيَّةِ فِي الْإِيمَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْإِيمَانَ عَمَلٌ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ كَسَائِرِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ - مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ - لِأَنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا تَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ تُمَيِّزُهَا ; لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُمَيِّزُ الْعَمَلَ لِلَّهِ عَنِ الْعَمَلِ لِغَيْرِهِ رِيَاءً، وَتُمَيِّزُ مَرَاتِبَ الْأَعْمَالِ كَالْفَرْضِ عَنِ النَّدْبِ، وَتُمَيِّزُ الْعِبَادَةَ عَنِ الْعَادَةِ كَالصَّوْمِ عَنِ الْحَمِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَالْوُضُوءُ) أَشَارَ بِهِ إِلَى خِلَافِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ النِّيَّةَ كَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً بَلْ وَسِيلَةً إِلَى عِبَادَةٍ كَالصَّلَاةِ، وَنُوقِضُوا بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ وَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِيهِ النِّيَّةَ، وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ بِالْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِوَعْدِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَصْدٍ يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ لِيَحْصُلَ الثَّوَابُ الْمَوْعُودُ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَإِنَّمَا تَسْقُطُ بِأَخْذِ السُّلْطَانِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ

ص: 135

صَاحِبُ الْمَالِ لِأَنَّ السُّلْطَانَ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى فَرْضِ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ، وهو حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ شُبْرُمَةَ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَأَشَارَ بِهِ إِلَى خِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ لِأَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ زُفَرَ. وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ الْحَجَّ عَلَى الصَّوْمِ تَمَسُّكًا بِمَا وَرَدَ عِنْدَهُ فِي حَدِيثِ بُنِيَ الْإِسْلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (وَالْأَحْكَامُ) أَيِ: الْمُعَامَلَاتُ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الِاحْتِيَاجُ إِلَى الْمُحَاكَمَاتِ فَيَشْمَلُ الْبُيُوعَ وَالْأَنْكِحَةَ وَالْأَقَارِيرَ وَغَيْرَهَا، وَكُلُّ صُورَةٍ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا النِّيَّةُ فَذَاكَ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْمُنِيرَ ضَابِطًا لِمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ مِمَّا لَا يُشْتَرَطُ فَقَالَ: كُلُّ عَمَلٍ لَا تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ عَاجِلَةٌ بَلِ الْمَقْصُودُ بِهِ طَلَبُ الثَّوَابِ فَالنِّيَّةُ مُشْتَرَطَةٌ فِيهِ، وَكُلُّ عَمَلٍ ظَهَرَتْ فَائِدَتُهُ نَاجِزَةً وَتَعَاطَتْهُ الطَّبِيعَةُ قَبْلَ الشَّرِيعَةِ لِمُلَاءَمَةٍ بَيْنَهُمَا فَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِيهِ إِلَّا لِمَنْ قَصَدَ بِفِعْلِهِ مَعْنًى آخَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ. قَالَ: وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ جِهَةِ تَحْقِيقِ مَنَاطِ التَّفْرِقَةِ قَالَ: وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْمَعَانِي الْمَحْضَةِ كَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهَذَا لَا يُقَالُ بِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ إِلَّا مَنْوِيًّا. وَمَتَى فُرِضَتِ النِّيَّةُ مَفْقُودَةً فِيهِ اسْتَحَالَتْ حَقِيقَتُهُ، فَالنِّيَّةُ فِيهِ شَرْطٌ عَقْلِيٌّ، وَلِذَلِكَ لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِلنِّيَّةِ فِرَارًا مِنَ التَّسَلْسُلِ. وَأَمَّا الْأَقْوَالُ فَتَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: أَحَدُهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ فِرَارًا مِنَ الرِّيَاءِ، وَالثَّانِي التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِغَيْرِ الْمَقْصُودِ، وَالثَّالِثُ قَصْدُ الْإِنْشَاءِ لِيَخْرُجَ سَبْقُ اللِّسَانِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ لَا عَطْفٌ، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ قَالَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ: مَعَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى نِيَّتِهِ) تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِقَوْلِهِ: (عَلَى شَاكِلَتِهِ) بِحَذْفِ أَدَاةِ التَّفْسِيرِ، وَتَفْسِيرُ الشَّاكِلَةِ بِالنِّيَّةِ صَحَّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ الْمُزَنِيَّ، وَقَتَادَةَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ عَنْهُمْ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الشَّاكِلَةُ الطَّرِيقَةُ أَوِ النَّاحِيَةُ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ الدِّينُ. وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَوَّلُهُ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) كَذَا أَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ بِحَذْفِ إِنَّمَا مِنْ أَوَّلِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وهو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْمَذْكُورُ هُنَا بِإِثْبَاتِهَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نُكَتٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَوَّلَ الْكِتَابِ.

55 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قال: حدثنا شُعْبَةُ قال: أخبرنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قال: سمعت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ.

56 -

حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قال: أخبرنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قال: حدثنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي في امْرَأَتِكَ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ) هُوَ الْخَطْمِيُّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وهو صَحَابِيٌّ أَنْصَارِيٌّ رَوَى عَنْ صَحَابِيٍّ أَنْصَارِيٍّ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ أَبِي مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَغَازِي، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِهِ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: يَحْتَسِبُهَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَفَادَ مَنْطُوقُهُ أَنَّ الْأَجْرَ فِي الْإِنْفَاقِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مُبَاحَةً، وَأَفَادَ مَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْصِدِ الْقُرْبَةَ لَمْ يُؤْجَرْ، لَكِنْ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنَ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ لِأَنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، وَأَطْلَقَ الصَّدَقَةَ عَلَى النَّفَقَةِ مَجَازًا وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَجْرُ، وَالْقَرِينَةُ

ص: 136

الصَّارِفَةُ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ الْهَاشِمِيَّةِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَيْهَا الصَّدَقَةُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّكَ) الْخِطَابُ لِسَعْدٍ، وَالْمُرَادُ هُوَ وَمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ.

قَوْلُهُ: (وَجْهُ اللَّهِ) أَيْ: مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أُجِرْتَ) يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقَعُ اسْتِثْنَاءً.

قَوْلُهُ: (حَتَّى): هِيَ عَاطِفَةٌ وَمَا بَعْدَهَا مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ، وَمَا: مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ.

قَوْلُهُ: (فِي فَمِ امْرَأَتِكِ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: فِي فِي امْرَأَتِكِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هِيَ أَصْوَبُ لِأَنَّ الْأَصْلَ حَذْفُ الْمِيمِ بِدَلِيلِ جَمْعِهِ عَلَى أَفْوَاهٍ وَتَصْغِيرُهُ عَلَى فُوَيْهٍ. قَالَ: وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إِثْبَاتُ الْمِيمِ عِنْدَ الْإِفْرَادِ وَأَمَّا عِنْدَ الْإِضَافَةِ فَلَا إِلَّا فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ اهـ. وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي مَرَضِهِ بِمَكَّةَ وَعِيَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَقَوْلُهُ: أُوصِي بِشَطْرِ مَالِي الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: تَبْتَغِي - أَيْ: تَطْلُبُ - بِهَا وَجْهَ اللَّهِ وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْحَظَّ إِذَا وَافَقَ الْحَقَّ لَا يَقْدَحُ فِي ثَوَابِهِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ اللُّقْمَةِ فِي في الزَّوْجَةِ يَقَعُ غَالِبًا فِي حَالَةِ الْمُدَاعَبَةِ، وَلِشَهْوَةِ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ مَدْخَلٌ ظَاهِرٌ. وَمَعَ ذَلِكَ إِذَا وَجَّهَ الْقَصْدُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِلَى ابْتِغَاءِ الثَّوَابِ حَصَلَ لَهُ بِفَضْلِ اللَّهِ. قُلْتُ: وَجَاءَ مَا هُوَ أَصْرَحُ فِي هَذَا الْمُرَادِ مِنْ وَضْعِ اللُّقْمَةِ، وهو مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ: وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يا رسول الله، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ؟ الْحَدِيثَ.

قَالَ: وَإِذَا كَانَ هَذَا بِهَذَا الْمَحَلِّ - مع مَا فِيهِ مِنْ حَظِّ النَّفْسِ - فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ؟ قَالَ: وَتَمْثِيلُهُ بِاللُّقْمَةِ مُبَالَغَةٌ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ; لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْأَجْرُ فِي لُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ لِزَوْجَةٍ غَيْرِ مُضْطَرَّةٍ فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ أَطْعَمَ لُقَمًا لِمُحْتَاجٍ، أَوْ عَمِلَ مِنَ الطَّاعَاتِ مَا مَشَقَّتُهُ فَوْقَ مَشَقَّةِ ثَمَنِ اللُّقْمَةِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْحَقَارَةِ بِالْمَحَلِّ الْأَدْنَى اهـ. وَتَمَامُ هَذَا أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ مَعَ مُشَارَكَةِ الزَّوْجِ لَهَا فِي النَّفْعِ بِمَا يُطْعِمُهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي حُسْنِ بَدَنِهَا، وهو يَنْتَفِعُ مِنْهَا بِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَالْأَغْلَبُ أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الزَّوْجَةِ يَقَعُ بِدَاعِيَةِ النَّفْسِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُجَاهَدَتِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الحديث 53 - أطرافه في: 7556، 7266، 6176، 4369، 4368، 3510، 3095، 1398، 523، 87]

[الحديث 55 - طرفاه في: 5351، 4006]

[الحديث 56 - أطرافه في: 6733، 6372، 5668، 5659، 5354، 4409، 3936، 2744، 2742، 1295]

‌42 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}

57 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قال: حدثنا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قال: حدثنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.

[الحديث 57 - أطرافه في: 7204، 275، 2714، 2157، 1401، 524]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الدِّينُ النَّصِيحَةُ) هَذَا الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا تَرْجَمَةَ بَابٍ، وَلَمْ يُخَرِّجُهُ مُسْنَدًا فِي هَذَا الْكِتَابِ لِكَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ، وَنَبَّهَ بِإِيرَادِهِ عَلَى صَلَاحِيَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَا أَوْرَدَهُ مِنَ الْآيَةِ وَحَدِيثِ جَرِيرٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قال: قلت لِسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ: إِنَّ عَمْرًا حَدَّثَنَا عَنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِيكَ بِحَدِيثٍ، وَرَجَوْتُ أَنْ تُسْقِطَ عَنِّي رَجُلًا - أَيْ فَتُحَدِّثَنِي بِهِ عَنْ أَبِيكَ - قال: فقال:

ص: 137

سَمِعْتُهُ مِنَ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ أَبِي، كَانَ صَدِيقًا لَهُ بِالشَّامِ، وهو عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ عز وجل الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ قال: حدثنا سُهَيْلٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَهُ، وهو يُحَدِّثُ أَبَا صَالِحٍ فَذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ، عَنْ سُهَيْلٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا الْحَدِيثَ. قال: فقال عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: سَمِعْتُ تَمِيمًا الدَّارِيَّ يَقُولُ. . . فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّصِيحَةِ. وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ النَّصِيحَةِ عَنْ سُهَيْلٍ، عن أبيه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وهو وَهْمٌ مِنْ سُهَيْلٍ أَوْ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: لَا يَصِحُّ إِلَّا عَنْ تَمِيمٍ. وَلِهَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى سُهَيْلٍ لَمْ يُخَرِّجْهُ فِي صَحِيحِهِ، بَلْ لَمْ يَحْتَجَّ فِيهِ بِسُهَيْلٍ أَصْلًا.

وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ دُونَ هَذِهِ فِي الْقُوَّةِ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ.

قَوْلُهُ: (الدِّينُ: النَّصِيحَةُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، أَيْ: مُعْظَمُ الدِّينِ النَّصِيحَةُ، كَمَا قِيلَ فِي حَدِيثِ: الْحَجُّ عَرَفَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ عَامِلُهُ الْإِخْلَاصَ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: النَّصِيحَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ نَصَحْتُ الْعَسَلَ إِذَا صَفَّيْتُهُ، يُقَالُ: نَصَحَ الشَّيْءَ إِذَا خَلُصَ، وَنَصَحَ لَهُ الْقَوْلَ إِذَا أَخْلَصَهُ لَهُ. أَوْ مُشْتَقَّةٌ مِنَ النُّصْحِ وَهِيَ الْخِيَاطَةٌ بِالْمِنْصَحَةِ وَهِيَ الْإِبْرَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَلُمُّ شَعَثَ أَخِيهِ بِالنُّصْحِ كَمَا تَلُمُّ الْمِنْصَحَةَ، وَمِنْهُ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، كَأَنَّ الذَّنْبَ يُمَزِّقُ الدِّينَ وَالتَّوْبَةُ تَخِيطُهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّصِيحَةُ كِلْمَةٌ جَامِعَةٌ مَعْنَاهَا حِيَازَةُ الْحَظِّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَهِيَ مِنْ وَجِيزِ الْكَلَامِ، بَلْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ كِلْمَةٌ مُفْرَدَةٌ تُسْتَوْفَى بِهَا الْعِبَارَةَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قِيلَ فِيهَا: إِنَّهَا أَحَدُ أَرْبَاعِ الدِّينِ، وَمِمَّنْ عَدَّهُ فِيهَا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: بَلْ هُوَ وَحْدَهُ مُحَصِّلٌ لِغَرَضِ الدِّينِ كُلِّهِ ; لِأَنَّهُ مُنْحَصِرٌ فِي الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرَهَا: فَالنَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَصْفُهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَالْخُضُوعُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالرَّغْبَةُ فِي مَحَابِّهِ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ، وَالرَّهْبَةُ مِنْ مَسَاخِطِهِ بِتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ، وَالْجِهَادُ فِي رَدِّ الْعَاصِينَ إِلَيْهِ.

وَرَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي ثُمَامَةَ صَاحِبِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى عليه السلام: يَا رُوحَ اللَّهِ مَنِ النَّاصِحِ لِلَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي يُقَدِّمُ حَقَّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ النَّاسِ. وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَلُّمُهُ، وَتَعْلِيمُهُ، وَإِقَامَةُ حُرُوفِهِ فِي التِّلَاوَةِ، وَتَحْرِيُرُهَا فِي الْكِتَابَةِ، وَتَفَهُّمُ مَعَانِيهِ، وَحِفْظُ حُدُودِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ، وَذَبُّ تَحْرِيفِ الْمُبْطِلِينَ عَنْهُ. وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ تَعْظِيمُهُ، وَنَصْرُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ بِتَعَلُّمِهَا وَتَعْلِيمِهَا، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَحَبَّتُهُ وَمَحَبَّةُ أَتْبَاعِهِ. وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِعَانَتُهُمْ عَلَى مَا حَمَلُوا الْقِيَامِ بِهِ، وَتَنْبِيهُهُمْ عِنْدَ الْغَفْلَةِ، وَسَدُّ خُلَّتِهِمْ عِنْدَ الْهَفْوَةِ، وَجَمْعُ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِمْ، وَرَدُّ الْقُلُوبِ النَّافِرَةِ إِلَيْهِمْ، وَمِنْ أَعْظَمِ نَصِيحَتِهِمْ دَفْعُهُمْ عَنِ الظُّلْمِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَمِنْ جُمْلَةِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَئِمَّةُ الِاجْتِهَادِ، وَتَقَعُ النَّصِيحَةُ لَهُمْ بِبَثِّ عُلُومِهِمْ، وَنَشْرِ مَنَاقِبِهِمْ، وَتَحْسِينِ الظَّنِّ بِهِمْ. وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ، وَالسَّعْيُ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِمْ، وَتَعْلِيمُهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَكَفُّ وُجُوهِ الْأَذَى عَنْهُمْ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ أُخْرَى: مِنْهَا أَنَّ الدِّينَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ لِكَوْنِهِ سَمَّى النَّصِيحَةَ دِينًا، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَنَى الْمُصَنِّفُ أَكْثَرَ كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَمِنْهَا جَوَازُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ مِنْ قَوْلِهِ قُلْنَا لِمَنْ؟ وَمِنْهَا رَغْبَةُ السَّلَفِ فِي طَلَبِ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وهو مُسْتَفَادٌ مِنْ قِصَّةِ سُفْيَانَ مَعَ سُهَيْلٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْبَجَلِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقَيْسٌ الرَّاوِي عَنْهُ وَإِسْمَاعِيلُ الرَّاوِي عَنْ قَيْسٍ بَجَلِيَّانِ أَيْضًا، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَكُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اقْتَصَرَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِشُهْرَتِهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرِ

ص: 138

الصَّوْمَ وَغَيْرَهُ لِدُخُولِ ذَلِكَ فِي السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. قُلْتُ: زِيَادَةُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَقَعَتْ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورِ، وَلَهُ فِي الْأَحْكَامِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي فِيمَا اسْتَطَعْتُ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ جَدِّهِ وَزَادَ فِيهِ: فَكَانَ جَرِيرٌ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: اعْلَمْ أَنَّ مَا أَخَذْنَا مِنْكَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا أَعْطَيْنَاكَهُ فَاخْتَرْ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّ غُلَامَهُ اشْتَرَى لَهُ فَرَسًا بِثَلَاثِمِائَةٍ، فَلَمَّا رَآهُ جَاءَ إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ: إِنَّ فَرَسَكَ خَيْرٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَزِيدُهُ حَتَّى أَعْطَاهُ ثَمَانَمِائَةٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَانَتْ مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ تَجْدِيدِ عَهْدٍ أَوْ تَوْكِيدِ أَمْرٍ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُمْ.

وَقَوْلُهُ: فِيمَا اسْتَطَعْتُ رُوِّينَاهُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّهَا، وَتَوْجِيهُهُمَا وَاضِحٌ، وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّازِمَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَايَعِ عَلَيْهَا هُوَ مَا يُطَاقُ، كَمَا هُوَ الْمُشْتَرَطُ فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ، وَيُشْعِرُ الْأَمْرُ بِقَوْلِ ذَلِكَ اللَّفْظِ حَالَ الْمُبَايَعَةِ بِالْعَفْوِ عَنِ الْهَفْوَةِ وَمَا يَقَعُ عَنْ خَطَأٍ وَسَهْوٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

58 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قال: حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ قال: سمعت جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمْ الْآنَ ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لِأَمِيرِكُمْ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَشَرَطَ عَلَيَّ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) الْمَسْمُوعُ مِنْ جَرِيرٍ حَمْدَ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ، فَالتَّقْدِيرُ: سَمِعْتُ جَرِيرًا حَمِدَ اللَّهَ، وَالْبَاقِي شَرْحٌ لِلْكَيْفِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) كَانَ الْمُغِيرَةُ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ خَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاسْتَنَابَ عِنْدَ مَوْتِهِ ابْنَهُ عُرْوَةَ، وَقِيلَ: اسْتَنَابَ جَرِير الْمَذْكُورَ، وَلِهَذَا خَطَبَ الْخُطْبَةَ الْمَذْكُورَةَ، حَكَى ذَلِكَ الْعَلَائِيُّ فِي أَخْبَارِ زِيَادٍ. وَالْوَقَارُ بِالْفَتْحِ: الرَّزَانَةُ، وَالسَّكِينَةُ: السُّكُونُ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ مُقَدِّمًا لِتَقْوَى اللَّهِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ وَفَاةَ الْأُمَرَاءِ تُؤَدِّي إِلَى الِاضْطِرَابِ وَالْفِتْنَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِذْ ذَاكَ مِنْ مُخَالَفَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ) أَيْ بَدَلَ الْأَمِيرِ الَّذِي مَاتَ. وَمَفْهُومُ الْغَايَةِ هُنَا، وهو أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ يَنْتَهِي بِمَجِيءِ الْأَمِيرِ لَيْسَ مُرَادًا، بَلْ يَلْزَمُ ذَلِكَ بَعْدَ مَجِيءِ الْأَمِيرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَشَرْطُ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ.

قَوْلُهُ: (الْآنَ) أَرَادَ بِهِ تَقْرِيبَ الْمُدَّةِ تَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ الْمُغِيرَةِ كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى الْبَصْرَةِ، وهو زِيَادٌ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْكُوفَةِ أَمِيرًا عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (اسْتَعْفُوا لِأَمِيرِكُمْ) أَيِ اطْلُبُوا لَهُ الْعَفْوَ مِنَ اللَّهِ، كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ: اسْتَغْفِرُوا بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَزِيَادَةِ رَاءٍ وَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ يَقَعُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

قَوْلُهُ: (قلب أُبَايِعُكَ) تَرَكَ أَدَاةَ الْعَطْفِ إِمَّا لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَتَيْتُ أَوِ اسْتِئْنَافٌ.

قَوْلُهُ: (وَالنُّصْحِ) بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَطْفًا عَلَى مُقَدَّرِ، أَيْ: شَرَطَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّصِيحَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ شَفَقَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (عَلَى هَذَا) أَيْ: عَلَى مَا ذُكِرَ.

قَوْلُهُ: (وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ) مُشْعِرٌ بِأَنَّ خُطْبَتَهُ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ،

ص: 139

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى جِهَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى شَرَفِ الْمُقْسَمِ بِهِ لِيَكُونَ أَدْعَى لِلْقَبُولِ.

قَوْلُهُ: (لَنَاصِحٌ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَفَّى بِمَا بَايَعَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ، وَأَنَّ كَلَامَهُ خَالِصٌ عَنِ الْغَرَضِ.

قَوْلُهُ: (وَنَزَلَ) مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، أَوِ الْمُرَادُ قَعَدَ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى.

(فَائِدَةٌ): التَّقْيِيدُ بِالْمُسْلِمِ لِلْأَغْلَبِ، وَإِلَّا فَالنُّصْحُ لِلْكَافِرِ مُعْتَبَرٌ بِأَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُشَارُ عَلَيْهِ بِالصَّوَابِ إِذَا اسْتَشَارَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْبَيْعِ على بيعه وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَجَزَمَ أَحْمَدُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِينَ وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ.

(فَائِدَةٌ أُخْرَى): خَتَمَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَ الْإِيمَانِ بِبَابِ النَّصِيحَةِ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ دُونَ السَّقِيمِ، ثُمَّ خَتَمَهُ بِخُطْبَةِ جَرِيرٍ الْمُتَضَمِّنَةِ لِشَرْحِ حَالِهِ فِي تَصْنِيفِهِ فَأَوْمَأَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الْآنَ إِلَى وُجُوبِ التَّمَسُّكِ بِالشَّرَائِعِ حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ يُقِيمُهَا، إِذْ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مَنْصُورَةً، وَهُمْ فُقَهَاءُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَبِقَوْلِهِ اسْتَعْفُوا لِأَمِيرِكُمْ إِلَى طَلَبِ الدُّعَاءِ لَهُ لِعَمَلِهِ الْفَاضِلِ. ثُمَّ خَتَمَ بِقَوْلِ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ فَأَشْعَرَ بِخَتْمِ الْبَابِ. ثُمَّ عَقَّبَهُ بِكِتَابِ الْعِلْمِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّصِيحَةِ أَنَّ مُعْظَمَهَا يَقَعُ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْإِيمَانِ وَمُقَدِّمَتُهُ مِنْ بَدْءِ الْوَحْيِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى أحِدٍ وَثَمَانِينَ حَدِيثًا بِالْمُكَرَّرِ مِنْهَا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي الْإِيمَانِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، مِنْهَا فِي الْمُتَابَعَاتِ بِصِيغَةِ الْمُتَابَعَةِ أَوِ التَّعْلِيقِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، فِي بَدْءِ الْوَحْيِ ثَمَانِيَةٌ، وَفِي الْإِيمَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَمِنَ الْمَوْصُولِ الْمُكَرَّرِ ثَمَانِيَةٌ، وَمِنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي لَمْ يُوصَلْ فِي مَكَانٍ آخَرَ ثَلَاثَةٌ، وَبَقِيَّةُ ذَلِكَ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا مَوْصُولَةٌ بِغَيْرِ تَكْرِيرٍ. وَقَدْ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا إِلَّا سَبْعَةً وَهِيَ: الشَّعْبِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْمُسْلِمِ وَالْمُهَاجِرِ، وَالْأَعْرَجُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي: حُبِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَابْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي: الْفِرَارِ مِنَ الْفِتَنِ، وَأَنَسٌ، عَنْ عُبَادَةَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَسَعِيدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الدِّينِ يُسْرٌ، وَالْأَحْنَفُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ فِي الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، وَهِشَامٌ، عن أبيه عَنْ عَائِشَةَ فِي: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ. وَجَمِيعُ مَا فِيهِ مِنَ الْمَوْقُوفَاتِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَثَرًا مُعَلَّقَةٌ، غَيْرَ أَثَرِ ابْنِ النَّاطُورِ فَهُوَ مَوْصُولٌ. وَكَذَا خُطْبَةُ جَرِيرٍ الَّتِي خَتَمَ بِهَا كِتَابَ الْإِيمَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌3 - كِتَاب الْعِلْمِ

بسم الله الرحمن الرحيم

‌1 - بَاب فَضْلِ الْعِلْمِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وَقَوْلِهِ عز وجل: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} .

قَوْلُهُ: (كِتَابُ الْعِلْمِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. بَابُ فَضْلِ الْعِلْمِ) هَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ تَقْدِيمُ الْبَسْمَلَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ. وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي لَفْظُ بَابٍ وَلَا فِي رِوَايَةِ رَفِيقِهِ لَفْظُ كِتَابِ الْعِلْمِ.

(فَائِدَةٌ): قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: بَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِالنَّظَرِ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ فِي نِهَايَةِ الْوُضُوحِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْرِيفٍ، أَوْ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ

ص: 140

لَيْسَ مِنْ فَنِّ الْكِتَابِ، وَكُلُّ مِنَ الْقَدْرَيْنِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَضَعْ كِتَابَةً لِحُدُودِ الْحَقَائِقِ وَتَصَوُّرِهَا، بَلْ هُوَ جَارٍ عَلَى أَسَالِيبِ الْعَرَبِ الْقَدِيمَةِ، فَإِنَّهُمْ يَبْدَءُونَ بِفَضِيلَةِ الْمَطْلُوبِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَيْهِ إِذَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُ مَكْشُوفَةً مَعْلُومَةً. وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى مَنْ تَصَدَّى لِتَعْرِيفِ الْعِلْمِ وَقَالَ: هُوَ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُبَيَّنَ. قُلْتُ: وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْغَزَالِيِّ وَشَيْخِهِ الْإِمَامِ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُحَدُّ لِوُضُوحِهِ أَوْ لِعُسْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل ضَبَطْنَاهُ فِي الْأُصُولِ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى كِتَابٍ أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.

قَوْلُهُ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا: يَرْفَعِ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ الْعَالِمَ عَلَى الْمُؤْمِنِ غَيْرِ الْعَالِمِ. وَرِفْعَةُ الدَّرَجَاتِ تَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ، إِذِ الْمُرَادُ بِهِ كَثْرَةُ الثَّوَابِ، وَبِهَا تَرْتَفِعُ الدَّرَجَاتُ، وَرِفْعَتُهَا تَشْمَلُ الْمَعْنَوِيَّةَ فِي الدُّنْيَا بِعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ وَحُسْنِ الصِّيتِ، وَالْحِسِّيَّةَ فِي الْآخِرَةِ بِعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ فِي الْجَنَّةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيِّ - وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ عَلَى مَكَّةَ - أَنَّهُ لَقِيَهُ بِعُسْفَانَ فَقَالَ لَهُ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ؟ فَقَالَ: اسْتَخْلَفْتُ ابْنَ أَبْزَى مَوْلًى لَنَا. فَقَالَ عُمَرُ: اسْتَخْلَفْتَ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} قَالَ: بِالْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ عز وجل: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وَاضِحُ الدَّلَالَةِ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِطَلَبِ الِازْدِيَادِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا مِنَ الْعِلْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يُفِيدُ مَعْرِفَةَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ أَمْرِ عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ، وَالْعِلْمُ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقَائِصِ، وَمَدَارُ ذَلِكَ عَلَى التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَقَدْ ضَرَبَ هَذَا الْجَامِعُ الصَّحِيحُ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ بِنَصِيبٍ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ مُصَنِّفِهِ، وَأَعَانَنَا عَلَى مَا تَصَدَّيْنَا لَهُ مِنْ تَوْضِيحِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يُورِدِ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اكْتَفَى بِالْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ، وَإِمَّا بَيَّضَ لَهُ لِيُلْحِقَ فِيهِ مَا يُنَاسِبُهُ فَلَمْ يَتَيَسَّرْ، وَإِمَّا أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي بَعْدَ بَابِ رَفْعِ الْعِلْمِ وَيَكُونُ وَضْعُهُ هُنَاكَ مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَنَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الشَّامِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ بَوَّبَ الْأَبْوَابَ وَتَرْجَمَ التَّرَاجِمَ وَكَتَبَ الْأَحَادِيثَ وَرُبَّمَا بَيَّضَ لِبَعْضِهَا لِيُلْحِقَهُ. وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ تَعَمَّدَ بَعْدَ التَّرْجَمَةِ عَدَمَ إِيرَادِ الْحَدِيثِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَهُ عَلَى شَرْطِهِ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا مَحَلُّهُ حَيْثُ لَا يُورِدُ فِيهِ آيَةً أَوْ أَثَرًا. أَمَّا إِذَا أَوْرَدَ آيَةً أَوْ أَثَرًا فَهُوَ إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ عَلَى شَرْطِهِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ كَافٍ فِي الْبَابِ، وَإِلَى أَنَّ الْأَثَرَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ يَقْوَى بِهِ طَرِيقُ الْمَرْفُوعِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ فِي الْقُوَّةِ إِلَى شَرْطِهِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ كَثِيرَةٌ، صَحَّحَ مُسْلِمٌ مِنْهَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنِ الْتَمَسَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَلَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ لِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الْأَعْمَشِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي صَالِحٍ فِيهِ وَاسِطَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌2 - بَاب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وهو مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ

59 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قال: حدثنا فُلَيْحٌ ح وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قال: حدثنِي أَبِي قال: حدثنِي هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ

ص: 141

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ؟ قَالَ: هَا أَنَا يا رسول الله، قَالَ: فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قال: كيف إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ.

[الحديث 59 - طرفه في: 6491]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ سُئِلَ عِلْمًا، وهو مُشْتَغِلٌ) مُحَصَّلُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَدَبِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ، أَمَّا الْعَالِمُ فَلِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ تَرْكِ زَجْرِ السَّائِلِ، بَلْ أَدَّبَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ أَوَّلًا حَتَّى اسْتَوْفَى مَا كَانَ فِيهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى جَوَابِهِ فَرَفَقَ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَعْرَابِ وَهُمْ جُفَاةٌ. وَفِيه الْعِنَايَةِ جَوَابُ سُؤَالِ السَّائِلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ السُّؤَالُ مُتَعَيِّنًا وَلَا الْجَوَابُ، وَأَمَّا الْمُتَعَلِّمُ فَلِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أَدَبِ السَّائِلِ أَنْ لَا يَسْأَلَ الْعَالِمَ، وهو مُشْتَغِلٌ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ مُقَدَّمٌ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَخْذُ الدُّرُوسِ عَلَى السَّبْقِ، وَكَذَلِكَ الْفَتَاوَى وَالْحُكُومَاتِ وَنَحْوُهَا. وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ الْعَالِمِ إِذَا لَمْ يَفْهَمْ مَا يُجِيبُ بِهِ حَتَّى يَتَّضِحَ، لِقَوْلِهِ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْنُ حِبَّانَ: إِبَاحَةَ إِعْفَاءِ الْمَسْئُولِ عَنِ الْإِجَابَةِ عَلَى الْفَوْرِ وَلَكِنَّ سِيَاقَ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا فِي الْخُطْبَةِ فَقَالُوا: لَا نَقْطَعُ الْخُطْبَةَ لِسُؤَالِ سَائِلٍ، بَلْ إِذَا فَرَغَ نُجِيُبُهُ. وَفَصَلَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ وَاجِبَاتِهَا فَيُؤَخِّرُ الْجَوَابُ، أَوْ فِي غَيْرِ الْوَاجِبَاتِ فَيُجِيبُ.

وَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُهْتَمُّ بِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَلَا سِيَّمَا إِنِ اخْتَصَّ بِالسَّائِلِ فَيُسْتَحَبُّ إِجَابَتُهُ ثُمَّ يُتِمُّ الْخُطْبَةَ، وَكَذَا بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَيُؤَخَّرُ، وَكَذَا قَدْ يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الْوَاجِبِ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْجَوَابِ، لَكِنْ إِذَا أَجَابَ اسْتَأْنَفَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنِ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مَعْرِفَتُهَا عَلَى الْفَوْرِ مُهِمَّةً فَيُؤَخَّرُ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ تَرْكُ السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى. وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُهُ فِي الَّذِي سَأَلَ عَنِ السَّاعَةِ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَأَجَابَهُ. أَخْرَجَاهُ. وَإِنْ كَانَ السَّائِلُ بِهِ ضَرُورَةٌ نَاجِزَةٌ فَتُقَدَّمَ إِجَابَتُهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي رِفَاعَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو يَخْطُبُ: رَجُلٌ غَرِيبٌ لَا يَدْرِي دِينَهُ جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، فَتَرَكَ خُطْبَتَهُ وَأَتَى بِكُرْسِيٍّ فَقَعَدَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يُعَلِّمُهُ، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا. وَكَمَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضَّبِّ. وَكَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ سَالِمٍ

(1)

لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ: أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ؟ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي فِي الْجُمُعَةِ.

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: كَانَتِ الصَّلَاةُ تُقَامُ فَيَعْرِضُ الرَّجُلُ فَيُحَدِّثُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رُبَّمَا نَعَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ وُقُوعُ ذَلِكَ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (فُلَيْحٌ) بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو يَحْيَى الْمَدَنِيُّ، مِنْ طَبَقَةِ مَالِكٍ، وهو صَدُوقٌ، تَكَلَّمَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي حِفْظِهِ، وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا تُوبِعَ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ لَهُ فِي الْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ وَمَا شَاكَلَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَفْرَادِهِ وَهَذَا مِنْهَا. وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ عَالِيًا عَنْ فُلَيْحٍ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ فَقَطْ ثُمَّ أَوْرَدَهُ نَازِلًا بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ فَقَطْ، فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ هُنَا طَرِيقًا أُخْرَى، وَلِأَجْلِ نُزُولِهَا قَرَنَهَا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَهِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ يُقَالُ لَهُ: هِلَالُ بْنُ أَبِي

(1)

كذا في النسخ، وصوابه"سليك" كما في صحيح مسلم

ص: 142

مَيْمُونَةَ وَهِلَالُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، فَقَدْ يُظَنُّ ثَلَاثَةً، وهو وَاحِدٌ، وهو مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَشَيْخُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ.

قَوْلُهُ: (يُحَدِّثُ) هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ الثَّانِي لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ. وَالْقَوْمُ الرِّجَالُ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ تَبَعًا.

قَوْلُهُ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَمَضَى) أَيِ: اسْتَمَرَّ يُحَدِّثُهُ، كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ بِزِيَادَةِ هَاءٍ، وَلَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ ثَبَتَتْ فَالْمَعْنَى يُحَدِّثُ الْقَوْمَ الْحَدِيثَ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَلَيْسَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْأَعْرَابِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ) إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمُ التَّرَدُّدُ فِي ذَلِكَ لِمَا ظَهَرَ مِنْ عَدَمِ الْتِفَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى سُؤَالِهِ وَإِصْغَائِهِ نَحْوَهُ ; وَلِكَوْنِهِ كَانَ يَكْرَهُ السُّؤَالَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ عَدَمُ انْحِصَارِ تَرْكِ الْجَوَابِ فِي الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، بَلِ احْتَمَلَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَهُ لِيُكْمِلَ الْحَدِيثَ الَّذِي هُوَ فِيهِ، أَوْ أَخَّرَ جَوَابَهُ لِيُوحِيَ إِلَيْهِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَأُرَاهُ بِالضَّمِّ أَيْ: أَظُنُّهُ، وَالشَّكُّ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ. وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَغَيْرُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ فُلَيْحٍ وَلَفْظُهُ: أَيْنَ السَّائِلُ وَلَمْ يَشُكَّ.

قَوْلُهُ: (إِذَا وُسِّدَ) أَيْ: أُسْنِدَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوِسَادَةِ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِ الْأَمِيرِ عِنْدَهُمْ إِذَا جَلَسَ أَنْ تُثْنَى تَحْتَهُ وِسَادَةٌ، فَقَوْلُهُ: وُسِّدَ أَيْ: جُعِلَ لَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ وِسَادًا، فَتَكُونُ إِلَى بِمَعْنَى اللَّامِ وَأَتَى بِهَا لِيَدُلَّ عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى أُسْنِدَ. وَلَفْظُ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ فِي الرِّقَاقِ إِذَا أُسْنِدَ وَكَذَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ فُلَيْحٍ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْمَتْنِ لِكِتَابِ الْعِلْمِ أَنَّ إِسْنَادَ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْجَهْلِ وَرَفْعِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْرَاطِ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ مَا دَامَ قَائِمًا فَفِي الْأَمْرِ فُسْحَةٌ. وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يُؤْخَذُ عَنِ الْأَكَابِرِ، تَلْمِيحًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْجُمَحِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُلْتَمَسَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْأَصَاغِرِ وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌3 - بَاب مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ

60 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ قال: حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.

[الحديث 60 - طرفاه في: 163، 96]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ. حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانَ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ عَنْهُ: عَارُمُ بْنُ الْفَضْلِ، وَعَارِمٌ لَقَبٌ، واسمه مُحَمَّدٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ.

قَوْلُهُ: (مَاهَكُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وهو غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَرَوَاهُ الْأَصِيلِيُّ مُنْصَرِفًا فَكَأَنَّهُ لَحَظَ فِيهِ الْوَصْفَ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى جَوَازِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ حَيْثُ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِبُعْدٍ أَوْ كَثْرَةِ جَمْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ فِي مَوْعِظَةٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ وَذَكَرَ السَّاعَةَ اشْتَدَّ غَضَبُهُ وَعَلَا صَوْتُهُ. . . الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ فِي مَعْنَاهُ وَزَادَ حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا بِالسُّوقِ لَسَمِعَهُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إِعَادَةِ الْحَدِيثِ لِيُفْهَمَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَبَاحِثِ الْمَتْنِ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: فِي هَذَا التَّبْوِيبِ رَمْزٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ إِلَى أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْلُغَ الْغَايَةَ فِي تَدْوِينِ

ص: 143

هَذَا الْكِتَابِ بِأَنْ يَسْتَفْرِغَ وُسْعَهُ فِي حُسْنِ تَرْتِيبِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

‌4 - بَاب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ حَدَّثَنَا أو أَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا

وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ: كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا، وَأَنْبَأَنَا، وَسَمِعْتُ وَاحِدًا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وهو الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَقَالَ شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً وَقَالَ حُذَيْفَةُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، وَقَالَ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ عز وجل

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الْمُحَدِّثِ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّهُ بَنَى كِتَابَهُ عَلَى الْمُسْنَدَاتِ الْمَرْوِيَّاتِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: وَمُرَادُهُ: هَلْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ وَإِيرَادُهُ قَوْلَ ابْنِ عُيَيْنَةَ دُونَ غَيْرِهِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ مُخْتَارُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ: وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ: وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، فَهُوَ مُتَّصِلٌ. وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ كَرِيمَةَ قَوْلُهُ: وَأَنْبَأَنَا وَمِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ قَوْلُهُ: أَخْبَرَنَا وَثَبَتَ الْجَمِيعُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي خَلْقِ الْجَنِينِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ شَقِيقٌ) هُوَ أَبُو وَائِلٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، سَيَأْتِي مَوْصُولًا أَيْضًا حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَيَأْتِي أَيْضًا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ. وَمُرَادُهُ مِنْ هَذِهِ التَّعَالِيقِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ قَالَ تَارَةً حَدَّثَنَا وَتَارَةً سَمِعْتُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الصِّيَغِ. وَأَمَّا أَحَادِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ فَقَدْ وَصَلَهَا فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَأَرَادَ بِذِكْرِهَا هُنَا التَّنْبِيهَ عَلَى الْعَنْعَنَةِ، وَأَنَّ حُكْمَهَا الْوَصْلُ عِنْدَ ثُبُوتِ اللُّقِيِّ، وَأَشَارَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رَشِيدٍ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هِيَ عَنْ رَبِّهِ سَوَاءٌ صَرَّحَ الصَّحَابِيُّ بِذَلِكَ أَمْ لَا، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْ رَبِّهِ وَلَكِنَّهُ اخْتِصَارٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّقْدِيرِ. قُلْتُ: وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ مَا كَانَ ذَلِكَ سَبِيلَهُ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِمَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ رَبِّهِ فِيمَا لَمْ يُكَلِّمْهُ بِهِ مِثْلُ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ جِبْرِيلٌ، وهو مَقْبُولٌ قَطْعًا، وَالْوَاسِطَةُ بَيْنَ الصَّحَابِيِّ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وهو صَحَابِيٌّ آخَرُ، وَهَذَا فِي أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ دُونَ غَيْرِهَا، فَإِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رُبَّمَا حَمَلَهَا عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ مِثْلَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ.

(تَنْبِيهٌ): أَبُو الْعَالِيَةِ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الرِّيَاحِيُّ بِالْيَاءِ الْأَخِيرَةِ، واسمه رُفَيْعٌ بِضَمِّ الرَّاءِ. مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الْبَرَّاءُ بِالرَّاءِ الثَّقِيلَةِ فَقَدْ وَهَمَ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مَعْرُوفٌ بِرِوَايَةِ الرِّيَاحِيِّ دُونَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِلتَّرْجَمَةِ، وَمُحَصَّلُ التَّرْجَمَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ صِيَغِ الْأَدَاءِ الصَّرِيحَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِظَاهِرٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَتْ طُرُقُهُ، فَإِنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ فَحَدَّثُونِي مَا هِيَ وَفِي رِوَايَةِ نَافِعٍ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي التَّفْسِيرِ أَخْبَرُونِي وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: أَنْبَؤُنِي وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ حَدَّثُونِي مَا هِيَ وَقَالَ فِيهَا فَقَالُوا أَخْبَرَنَا بِهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّحْدِيثَ وَالْإِخْبَارَ وَالْإِنْبَاءَ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ

ص: 144

الْعِلْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَةِ، وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاصْطِلَاحِ فَفِيهِ الْخِلَافُ: فَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ، وَهَذَا رَأْيُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ وَأَكْثَرِ الْحِجَازِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ، وَعَلَيْهِ اسْتَمَرَّ عَمَلُ الْمَغَارِبَةِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَنُقِلَ عَنِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى إِطْلَاقَ ذَلِكَ حَيْثُ يَقْرَأُ الشَّيْخُ مِنْ لَفْظِهِ وَتَقْيِيدِهِ حَيْثُ يُقْرَأُ عَلَيْهِ، وهو مَذْهَبُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ مَنْدَهْ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الصِّيَغِ بِحَسَبِ افْتِرَاقِ التَّحَمُّلِ: فَيَخُصُّونَ التَّحْدِيثَ بِمَا يَلْفِظُ بِهِ الشَّيْخُ، وَالْإِخْبَارُ بِمَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ وَهْبٍ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ. ثُمَّ أَحْدَثَ أَتْبَاعُهُمْ تَفْصِيلًا آخَرَ: فَمَنْ سَمِعَ وَحْدَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ أَفْرَدَ فَقَالَ حَدَّثَنِي وَمَنْ سَمِعَ مَعَ غَيْرِهِ جَمَعَ، وَمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ عَلَى الشَّيْخِ أَفْرَدَ فَقَالَ أَخْبَرَنِي، وَمَنْ سَمِعَ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ جَمَعَ. وَكَذَا خَصَّصُوا الْإِنْبَاءَ بِالْإِجَازَةِ الَّتِي يُشَافِهُ بِهَا الشَّيْخُ مَنْ يُجِيزُهُ، وكُلُّ هَذَا مُسْتَحْسَنٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا التَّمْيِيزَ بَيْنَ أَحْوَالِ التَّحَمُّلِ. وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ: فَتَكَلَّفُوا فِي الِاحْتِجَاجِ لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. نَعَمْ يَحْتَاجُ الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَى مُرَاعَاةِ الِاصْطِلَاحِ الْمَذْكُورِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ ; لِأَنَّهُ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً عِنْدَهُمْ، فَمَنْ تَجَوَّزَ عَنْهَا احْتَاجَ إِلَى الْإِتْيَانِ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ، وَإِلَّا فَلَا يُؤْمَنُ اخْتِلَاطُ الْمَسْمُوعِ بِالْمَجَازِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الِاصْطِلَاحِ، فَيُحْمَلُ مَا يَرِدُ مِنَ أَلْفَاظِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى مَحْمَلٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الْمُتَأَخِّرِينَ.

61 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ، ثم قالوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يا رسول الله؟ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ.

[الحديث 61 - أطرافه في: 6144، 6122، 5448، 5444، 4698، 2209، 121، 72، 62]

قَوْلُهُ: (إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً) زَادَ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ وَقَالَ: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ. وَلَهُ عَنْهُ فِي الْبُيُوعِ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يَأْكُلُ جُمَّارًا.

قَوْلُهُ: (لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مِثْلُ الْمُسْلِمِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِكَسْرِ مِيمِ مِثْلِ وَإِسْكَانِ الْمُثَلَّثَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةِ بِفَتْحِهَا وَهُمَا بِمَعْنًى، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مِثْلُهُ وَمَثَلُهُ كَلِمَةُ تَسْوِيَةٍ كَمَا يُقَالُ شِبْهُهُ وَشَبَهُهُ بِمَعْنًى، قَالَ: وَالْمَثَلُ بِالتَّحْرِيكِ أَيْضًا مَا يُضْرَبُ مِنَ الْأَمْثَالِ، انْتَهَى. وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ النَّخْلَةِ وَالْمُسْلِمِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ سُقُوطِ الْوَرَقِ مَا رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ: قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: إِنَّ مِثْلَ الْمُؤْمِنِ كَمِثْلِ شَجَرَةِ لَا تَسْقُطُ لَهَا أُنْمُلَةٌ، أَتَدْرُونَ مَا هِيَ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ، لَا تَسْقُطُ لَهَا أُنْمُلَةٌ، وَلَا تَسْقُطُ لِمُؤْمِنٍ دَعْوَةٌ.

وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أُتِيَ بِجُمَّارٍ، فَقَالَ: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبَرَكَةُ النَّخْلَةِ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا، مُسْتَمِرَّةٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، فَمِنْ حِينِ تَطْلُعُ إِلَى أَنْ تَيْبَسَ تُؤْكَلُ أَنْوَاعًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُنْتَفَعُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، حَتَّى النَّوَى فِي عَلْفِ الدَّوَابِّ وَاللِّيفِ فِي الْحِبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا

ص: 145

يَخْفَى، وَكَذَلِكَ بَرَكَةُ الْمُسْلِمِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَنَفْعُهُ مُسْتَمِرٌّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ حَتَّى بَعْدَ مَوْتِهِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ لَا يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا وَلَا وَلَا وَلَا كَذَا ذَكَرَ النَّفْيَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى طَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ، فَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: وَلَا يَنْقَطِعُ ثَمَرُهَا وَلَا يُعْدَمُ فَيْؤُهَا وَلَا يَبْطُلُ نَفْعُهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ذِكْرُ النَّفْيِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَظَنَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ الرَّاوِي عَنْهُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وهو قَوْلُهُ: تُؤْتِي أُكُلَهَا فَاسْتَشْكَلَهُ وَقَالَ: لَعَلَّ لَا زَائِدَةٌ وَلَعَلَّهُ وَتُؤْتِي أُكُلَهَا، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، بَلْ مَعْمُولُ النَّفْيِ مَحْذُوفٌ عَلَى سَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَقَوْلُهُ: تُؤْتِي ابْتِدَاءُ كَلَامٍ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ.

وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِتَقْدِيمِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا فَسَلِمَ مِنَ الْإِشْكَالِ.

قَوْلُهُ: (فَوَقَعَ النَّاسُ) أَيْ ذَهَبَتْ أَفْكَارُهُمْ فِي أَشْجَارِ الْبَادِيَةِ، فَجَعَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ يُفَسِّرُهَا بِنَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ وَذَهِلُوا عَنِ النَّخْلَةِ، يُقَالُ وَقَعَ الطَّائِرُ عَلَى الشَّجَرَةِ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الرَّاوِي.

قَوْلُهُ: (وَوَقَعَ فِي نَفْسِي) بَيَّنَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجْهَ ذَلِكَ قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهَا النَّخْلَةُ مِنْ أَجْلِ الْجُمَّارِ الَّذِي أُتِيَ بِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُلْغَزَ لَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَطَّنَ لِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ السُّؤَالِ، وَأَنَّ الْمُلْغِزَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُبَالِغَ فِي التَّعْمِيَةِ بِحَيْثُ لَا يَجْعَلُ لِلْمُلْغَزِ بَابًا يَدْخُلُ مِنْهُ، بَلْ كُلَّمَا قَرَّبَهُ كَانَ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ سَامِعِهِ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَحْيَيْتُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ فِي بَابِ الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ ; فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ. وَلَهُ فِي الْأَطْعِمَةِ: فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ. وَفِي رِوَايَةِ نَافِعٍ: وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ لَا يَتَكَلَّمَانِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، فَلَمَّا قُمْنَا قُلْتُ لِعُمَرَ: يَا أَبَتَاهُ. وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي بَابِ الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا وَكَذَا. زَادَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: أَحْسَبُهُ قَالَ: حُمْرُ النَّعَمِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ امْتِحَانُ الْعَالِمِ أَذْهَانَ الطَّلَبَةِ بِمَا يَخْفَى مَعَ بَيَانِهِ لَهُمْ إِنْ لَمْ يَفْهَمُوهُ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ - قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ أَحَدُ رُوَاتِهِ: هِيَ صِعَابُ الْمَسَائِلِ - فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا نَفْعَ فِيهِ، أَوْ مَا خَرَجَ عَلَى سَبِيلِ تَعَنُّتِ الْمَسْئُولِ أَوْ تَعْجِيزِهِ، وَفِيهِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ بَابُ الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْحَيَاءِ مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى تَفْوِيتِ مَصْلَحَةٍ، وَلِهَذَا تَمَنَّى عُمَرُ أَنْ يَكُونَ ابْنُهُ لَمْ يَسْكُتْ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ فِي الْعِلْمِ وَفِي الْأَدَبِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بَرَكَةِ النَّخْلَةِ وَمَا تُثْمِرُهُ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا.

وَفِيهِ دَلِيلٌ على أَنَّ بَيْعَ الْجُمَّارِ جَائِزٌ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَكْلُهُ جَازَ بَيْعُهُ، وَلِهَذَا بَوَّبَ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ فِي الْبُيُوعِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ عَقِبَ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَعَلَّ مُتَخَيِّلًا يَتَخَيَّلُ أَنَّ هَذَا مِنْ ذَاكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَجْمِيرِ النَّخْلِ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ فِي الْأَطْعِمَةِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِضَاعَةِ الْمَالِ. وَأَوْرَدَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً} إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّجَرَةِ النَّخْلَةُ. وَقَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِيمَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هِيَ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَمَنَعَنِي أَنْ أَتَكَلَّمَ مَكَانُ سِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ النَّخْلَةُ. وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِالْجُمَّارِ فَشَرَعَ فِي أَكْلِهِ تَالِيًا لِلْآيَةِ قَائِلًا: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً إِلَى آخِرِهِ.

وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ يُخْبِرُنِي عَنْ شَجَرَةٍ مِثْلُهَا مِثْلُ

ص: 146

الْمُؤْمِنِ، أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وهو يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْبَزَّارِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَوَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَصْلَ دِينِ الْمُسْلِمِ ثَابِتٌ، وَأَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْخَيْرِ قُوتٌ لِلْأَرْوَاحِ مُسْتَطَابٌ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ مَسْتُورًا بِدِينِهِ، وَأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِكُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، انْتَهَى.

وَقَالَ غَيْرُهُ: وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ فَرْعِ الْمُؤْمِنِ فِي السَّمَاءِ رَفْعُ عَمَلِهِ وَقَبُولُهُ، وَرَوَى الْبَزَّارُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِثْلُ الْمُؤْمِنِ مِثْلُ النَّخْلَةِ، مَا أَتَاكَ مِنْهَا نَفَعَكَ هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَفْصَحَ بِالْمَقْصُودِ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَوْقِعَ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالنَّخْلَةِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ النَّخْلَةِ إِذَا قُطِعَ رَأْسُهَا مَاتَتْ، أَوْ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ حَتَّى تُلَقَّحَ، أَوْ لِأَنَّهَا تَمُوتُ إِذَا غَرِقَتْ، أَوْ لِأَنَّ لِطَلْعِهَا رَائِحَةَ مَنِيِّ الْآدَمِيِّ، أَوْ لِأَنَّهَا تَعْشَقُ، أَوْ لِأَنَّهَا تَشْرَبُ مِنْ أَعْلَاهَا، فَكُلُّهَا أَوْجُهٌ ضَعِيفَةٌ ; لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنَ الْمُشَابِهَاتِ مُشْتَرِكٌ فِي الْآدَمِيِّينَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ، وَأَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا خُلِقَتْ مِنْ فَضْلَةِ طِينِ آدَمَ فَإِنَّ الْحَدِيثَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِيهِ ضَرْبٌ الْأَمْثَالِ وَالْأَشْبَاهِ لِزِيَادَةِ الْإِفْهَامِ، وَتَصْوِيرُ الْمَعَانِي لِتَرْسَخَ فِي الذِّهْنِ، وَلِتَحْدِيدِ الْفِكْرِ فِي النَّظَرِ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَظِيرَهُ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الْجَمَادَاتِ وَلَا يُعَادِلُهُ. وَفِيهِ تَوْقِيرُ الْكَبِيرِ، وَتَقْدِيمُ الصَّغِيرِ أَبَاهُ فِي الْقَوْلِ، وَأَنَّهُ لَا يُبَادِرُهُ بِمَا فَهِمَهُ وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ الصَّوَابُ. وَفِيهِ أَنَّ الْعَالِمَ الْكَبِيرَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ مَا يُدْرِكُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ مَوَاهِبُ، وَاللَّهُ يُؤْتِي فَضْلَهُ مَنْ يَشَاءُ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ الْخَوَاطِرَ الَّتِي تَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ مَحَبَّةِ الثَّنَاءِ عَلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ لَا يَقْدَحُ فِيهَا إِذَا كَانَ أَصْلُهَا لِلَّهِ، وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ تَمَنِّي عُمَرَ الْمَذْكُورِ، وَوَجْهُ تَمَنِّي عُمَرَ رضي الله عنه مَا طُبِعَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ مِنْ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ، وَلِتَظْهَرَ فَضِيلَةُ الْوَلَدِ فِي الْفَهْمِ مِنْ صِغَرِهِ، وَلِيَزْدَادَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُظْوَةً، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَرْجُو أَنْ يَدْعُوَ لَهُ إِذْ ذَاكَ بِالزِّيَادَةِ فِي الْفَهْمِ. وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَقَارَةِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِ عُمَرَ لِأَنَّهُ قَابَلَ فَهْمَ ابْنَهُ لِمَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ بِحُمْرِ النَّعَمِ مَعَ عِظَمِ مِقْدَارِهَا وَغَلَاءِ ثَمَنِهَا.

(فَائِدَةٌ): قَالَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا السِّيَاقِ إِلَّا ابْنُ عُمَرَ وَحْدَهُ، وَلَمَّا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثٍ مُخْتَصَرٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ أَوْرَدَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ لَفْظُهُ: مِثْلُ الْمُؤْمِنِ مِثْلُ النَّخْلَةِ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ عَاشِرَ عَشَرَةٍ، فَاسْتَفَدْنَا مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مِنْهُمْ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَابْنَ عُمَرَ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ إِنْ كَانَا سَمِعَا مَا رَوَيَاهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَاللَّهُ تعالى أَعْلَمُ.

‌5 - بَاب طَرْحِ الْإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ

62 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، ثم قالوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يا رسول الله؟ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ طَرْحِ الْإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ بِلَفْظٍ قَرِيبٍ مِنْ لَفْظِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا

ص: 147

أَوْرَدَهُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ إِيثَارًا لِابْتِدَاءِ فَائِدَةٍ تَدْفَعُ اعْتِرَاضَ مَنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّكْرَارَ بِلَا فَائِدَةٍ. وَأَمَّا دَعْوَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ لِمُرَاعَاةِ صَنِيعِ مَشَايِخِهِ فِي تَرَاجِمِ مُصَنَّفَاتِهِمْ، وَأَنَّ رِوَايَةَ قُتَيْبَةَ هُنَا كَانَتْ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ، وَرِوَايَةَ خَالِدٍ كَانَتْ فِي بَيَانِ طَرْحِ الْإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَنْ شَيْخِهِ الَّذِي رَوَى لَهُ الْحَدِيثَ لِذَلِكَ الْأَمْرِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَمْ نَجِدْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ عَرَفَ حَالَ الْبُخَارِيِّ وَسَعَةَ عِلْمِهِ وَجَوْدَةَ تَصَرُّفِهِ حَكَى أَنَّهُ كَانَ يُقَلِّدُ فِي التَّرَاجِمِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ تَوَارَدَ النَّقْلُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا امْتَازَ بِهِ كِتَابُ الْبُخَارِيِّ دِقَّةَ نَظَرِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي تَرَاجِمِ أَبْوَابِهِ. وَالَّذِي ادَّعَاهُ الْكِرْمَانِيُّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُقَلِّدٌ فِيهِ لِمَشَايِخِهِ. وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْ قُتَيْبَةَ، وَخَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ لَمْ يُذْكَرْ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا مِمَّنْ صَنَّفَ فِي بَيَانِ حَالِهِمَا أَنَّ لَهُ تَصْنِيفًا عَلَى الْأَبْوَابِ فَضْلًا عَنِ التَّدْقِيقِ فِي التَّرَاجِمِ. وَقَدْ أَعَادَ الْكِرْمَانِيُّ هَذَا الْكَلَامَ فِي شَرْحِهِ مِرَارًا، وَلَمْ أَجِدْ لَهُ سَلَفًا فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَرَاوِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، سُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ الْمَدَنِيُّ الْفَقِيهُ الْمَشْهُورُ، وَلَمْ أَجِدْهُ مِنْ رِوَايَتِهِ إِلَّا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يَقَعْ لِأَحَدٍ مِمَّنِ اسْتَخْرَجَ عَلَيْهِ، حَتَّى إنَّ أَبَا نُعَيْمٍ إِنَّمَا أَوْرَدَهُ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ نَفْسِهِ. وَقَدْ وَجَدْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ الرَّاوِي عَنْ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورِ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ ; لَكِنَّهُ قَالَ: عَنْ مَالِكٍ بَدَلَ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلِخَالِدٍ فِيهِ شَيْخَانِ. وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ لَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.

‌6 - بَاب مَا جَاءَ فِي الْعِلْمِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}

الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ؟ قال: نعم قَالَ: فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُونَ أَشْهَدَنَا فُلَانٌ وَيُقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ فَيَقُولُ الْقَارِئُ أَقْرَأَنِي فُلَانٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ الْحَسَنِ قال: لا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ. وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قال: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: إِذَا قُرِئَ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تقُولَ: حَدَّثَنِي قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ

63 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قال: حدثنا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَجَبْتُكَ فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ فَقَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ

ص: 148

وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ نَعَمْ فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، رَوَاهُ مُوسَى، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِرَاءَةِ وَالْعَرْضِ عَلَى الْمُحَدِّثِ) إِنَّمَا غَايَرَ بَيْنَهُمَا بِالْعَطْفِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، لِأَنَّ الطَّالِبَ إِذَا قَرَأَ كَانَ أَعَمَّ مِنَ الْعَرْضِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَقَعُ الْعَرْضُ إِلَّا بِالْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُعَارِضُ بِهِ الطَّالِبُ أَصْلَ شَيْخِهِ مَعَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْقِرَاءَةِ. وَتَوَسَّعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَأَطْلَقَهُ عَلَى مَا إِذَا أَحْضَرَ الْأَصْلَ لِشَيْخِهِ فَنَظَرَ فِيهِ وَعَرَفَ صِحَّتَهُ وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَدِّثَهُ بِهِ أَوْ يَقْرَأَهُ الطَّالِبُ عَلَيْهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا يُسَمَّى عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ بِالتَّقْيِيدِ لَا الْإِطْلَاقِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ لَا يَعْتَدُّونَ إِلَّا بِمَا سَمِعُوهُ مِنَ أَلْفَاظِ الْمَشَايِخِ دُونَ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ عَلَى جَوَازِهِ وَأَوْرَدَ فِيهِ قَوْلَ الْحَسَنِ - وهو الْبَصْرِيُّ - لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ. ثُمَّ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَلَّقَهُ وَكَذَا ذُكِرَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ مَوْصُولًا أَنَّهُمَا سَوَّيَا بَيْنَ السَّمَاعِ مِنَ الْعَالِمِ وَالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: جَائِزًا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: جَائِزَةً أَيِ: الْقِرَاءَةَ ; لِأَنَّ السَّمَاعَ لَا نِزَاعَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ) الْمُحْتَجُّ بِذَلِكَ هُوَ الْحُمَيْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ قَالَهُ فِي كِتَابِ النَّوَادِرِ لَهُ، كَذَا قَالَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْتُهُ وَتَبِعْتُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي خِلَافُهُ وَأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ الْحَدَّادُ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلٍ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْحَدَّادُ: عِنْدِي خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ. فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: قِصَّةُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قال: نعم، انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي الْمَتْنِ الَّذِي سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ بَعْدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ ضِمَامٍ أَنَّ ضِمَامًا أَخْبَرَ قَوْمَهُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى ذَكَرَهَا أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِي آخِرِهِ أَنَّ ضِمَامًا قَالَ لِقَوْمِهِ عِنْدَمَا رَجَعَ إِلَيْهِمْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا، وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا. فَمَعْنَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ فَأَجَازُوهُ أَيْ: قَبِلُوهُ مِنْهُ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْإِجَازَةَ الْمُصْطَلَحَةَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الصَّكُّ - يَعْنِي بِالْفَتْحِ - الْكِتَابُ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. وَالْجَمْعُ صِكَاكٌ وَصُكُوكٌ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ إِقْرَارُ الْمُقِرِّ ; لِأَنَّهُ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ فَقَالَ: نَعَمْ سَاغَتِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ هُوَ بِمَا فِيهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا قُرِئَ عَلَى الْعَالِمِ فَأَقَرَّ بِهِ صَحَّ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ. وَأَمَّا قِيَاسُ مَالِكٍ قِرَاءَةَ الْحَدِيثِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَرَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا، وَسُئِلَ عَنِ الْكُتُبِ الَّتِي تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَيَقُولُ الرَّجُلُ حَدَّثَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، كَذَلِكَ الْقُرْآنُ. أَلَيْسَ الرَّجُلُ يَقْرَأُ عَلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ: أَقْرَأَنِي فُلَانٌ؟ وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ مُطَرِّفٍ قَالَ: صَحِبْتُ مَالِكًا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَمَا رَأَيْتُهُ قَرَأَ الْمُوَطَّأِ عَلَى أَحَدٍ، بَلْ يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ.

ص: 149

قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَأْبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَا يَجْزِيهِ إِلَّا السَّمَاعُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَيَقُولُ: كَيْفَ لَا يَجْزِيكَ هَذَا فِي الْحَدِيثِ، وَيَجْزِيكَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ أَعْظَمُ؟ قُلْتُ: وَقَدِ انْقَرَضَ الْخِلَافُ فِي كَوْنِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ لَا تَجْزِي، وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَرَوَى الْخَطِيبُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: لَا تَدَعُونَ تَنَطُّعَكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، الْعَرْضُ مِثْلُ السَّمَاعِ.

وَبَالَغَ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ فِي مُخَالَفَتِهِمْ فَقَالُوا: إِنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ أَرْفَعُ مِنَ السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِهِ، وَنَقَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ عَنْهُ، وَنَقَلَهُ الْخَطِيبُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ شُعْبَةَ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَيَحْيَى الْقَطَّانِ. وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ الشَّيْخَ لَوْ سَهَا لَمْ يَتَهَيَّأْ لِلطَّالِبِ الرَّدُّ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: الْقِرَاءَةُ عَلَيَّ أَثْبَتُ وَأَفْهَمُ لِي مِنْ أَنْ أَتَوَلَّى الْقِرَاءَةَ أَنَا. وَالْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ وَعَنْ سُفْيَانَ - وهو الثَّوْرِيُّ - أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَالْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ السَّمَاعَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ. مَا لَمْ يَعْرِضْ عَارِضٌ يُصَيِّرُ الْقِرَاءَةَ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ السَّمَاعُ مِنْ لَفْظِهِ فِي الْإِمْلَاءِ أَرْفَعَ الدَّرَجَاتِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ تَحَرُّزِ الشَّيْخِ وَالطَّالِبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ) هَذَا الْأَثَرُ رَوَاهُ الْخَطِيبُ أَتَمَّ سِيَاقًا مِمَّا هُنَا، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الْحَسَنَ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْزِلِي بَعِيدٌ، وَالِاخْتِلَافُ يَشُقُّ عَلَيَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَى بِالْقِرَاءَةِ بَأْسًا قَرَأْتُ عَلَيْكَ. قَالَ: مَا أُبَالِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ أَم قَرَأْتَ عَلَيَّ. قَالَ: فَأَقُولُ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ. وَرَوَاهُ أَبُو الْفَضْلِ السُّلَيْمَانِيُّ فِي كِتَابِ الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، بِلَفْظِ: قُلْنَا لِلْحَسَنِ: هَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي تُقْرَأُ عَلَيْكَ أَيْشِ نَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولُوا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ.

قَوْلُهُ: (اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، وَكَذَا لِابْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعِيدٍ مَوْهُومَةٌ مَعْدُودَةٌ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ اللَّيْثَ سَمِعَهُ عَنْ سَعِيدٍ بِوَاسِطَةٍ ثُمَّ لَقِيَهُ فَحَدَّثَهُ بِهِ. وَفِيهِ اخْتِلَافٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ منْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَقْدَحْ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِيهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ لِأَنَّ اللَّيْثَ أَثْبَتَهُمْ فِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِسَعِيدٍ فِيهِ شَيْخَانِ، لَكِنْ تَتَرَجَّحَ رِوَايَةُ اللَّيْثِ بِأَنَّ الْمَقْبُرِيَّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جَادَّةٌ مَأْلُوفَةٌ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ ضَابِطًا مُتَثَبِّتًا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عن أبيه: رِوَايَةُ الضَّحَّاكِ وَهْمٌ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ: رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَوَهِمُوا فِيهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ اللَّيْثِ. أَمَّا مُسْلِمٌ فَلَمْ يُخَرِّجْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَلْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الْمُصَنِّفُ عَقِبَ هَذِهِ الطَّرِيقِ.

وَمَا فَرَّ مِنْهُ مُسْلِمٌ وَقَعَ فِي نَظِيرِهِ، فَإِنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ أَثْبَتُ النَّاسِ فِي ثَابِتٍ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ ثَابِتٍ فَأَرْسَلَهُ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ رِوَايَةَ حَمَّادٍ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي نَمِرٍ) هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَأَخْرَجَ لَهُ ابْنُ السَّكَنِ حَدِيثًا، وَأَغْفَلَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ تَبَعًا لِأُصُولِهِ.

قَوْلُهُ: (فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئٌ) فِيهِ جَوَازُ اتِّكَاءِ الْإِمَامِ بَيْنَ أَتْبَاعِهِ، وَفِيهِ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ التَّكَبُّرِ لِقَوْلِهِ: بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَهِيَ بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ بَيْنَهُمْ، وَزِيدَ لَفْظُ الظَّهْرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ظَهْرًا مِنْهُمْ قُدَّامَهُ وَظَهْرًا وَرَاءَهُ، فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِهِمْ مِنْ جَانِبَيْهِ،

ص: 150

وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ قَالَهُ صَاحِبُ الْفَائِقِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْآتِي ذِكْرُهَا آخِرَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَّلِهِ: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نُهِينَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ نَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلِ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ وَكَأَنَّ أَنَسًا أَشَارَ إِلَى آيَةِ الْمَائِدَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهَا فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (دَخَلَ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ قَبْلَهَا إِذْ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ عَقَلَهُ) بِتَخْفِيفِ الْقَافِ أَيْ: شَدَّ عَلَى سَاقِ الْجَمَلِ - بَعْدَ أَنْ ثَنَى رُكْبَتَهُ - حَبْلًا.

قَوْلُهُ: (فِي الْمَسْجِدِ) اسْتَنْبَطَ مِنْهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ طَهَارَةَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَرْوَاثِهَا، إِذْ لَا يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ مُدَّةَ كَوْنِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَدَلَالَتُهُ غَيْرُ وَاضِحَةٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ احْتِمَالٍ، وَيَدْفَعُهُ رِوَايَةُ أَبِي نُعَيْمٍ: أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَأَنَاخَهُ ثُمَّ عَقَلَهُ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهَذَا السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا دَخَلَ بِهِ الْمَسْجِدَ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ وَلَفْظُهَا: فَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَعَقَلَهُ ثُمَّ دَخَلَ، فَعَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ مَجَازُ الْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنَاخَهُ فِي سَاحَةِ الْمَسْجِدِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (الْأَبْيَضُ) أَيِ: الْمُشْرَبُ بِحُمْرَةٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ: الْأَمْغَرُ أَيْ: بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ حَمْزَةُ بْنُ الْحَارِثِ: هُوَ الْأَبْيَضُ الْمُشْرَبُ بِحُمْرَةٍ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا يَأْتِي فِي صِفَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَبْيَضَ وَلَا آدَمَ، أَيْ: لَمْ يَكُنْ أَبْيَضَ صِرْفًا.

قَوْلُهُ: (أَجَبْتُكَ) أَيْ: سَمِعْتُكَ، وَالْمُرَادُ إِنْشَاءُ الْإِجَابَةِ، أَوْ نَزَّلَ تَقْرِيرَهُ لِلصَّحَابَةِ فِي الْإِعْلَامِ عَنْهُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ، وَهَذَا لَائِقٌ بِمُرَادِ الْمُصَنِّفِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لَهُ نَعَمْ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْهُ بِمَا يَلِيقُ بِمَنْزِلَتِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ، لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} وَالْعُذْرُ عَنْهُ - إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ قَدَّمَ مُسْلِمًا - أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ، وَكَانَتْ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ جَفَاءِ الْأَعْرَابِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَفِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ: وَزَعَمَ رَسُولُكُ أَنَّكَ تَزْعُمُ وَلِهَذَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ رِوَايَةِ ثَابِتِ، عَنْ أَنَسٍ: كُنَّا نُهِينَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلَ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ زَادَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ: وَكَانُوا أَجْرَأَ عَلَى ذَلِكَ مِنَّا يَعْنِي أَنَّ الصَّحَابَةَ وَاقِفُونَ عِنْدَ النَّهْيِ، وَأُولَئِكَ يُعْذَرُونَ بِالْجَهْلِ، وَتَمَنَّوْهُ عَاقِلًا لِيَكُونَ عَارِفًا بِمَا يَسْأَلُ عَنْهُ. وَظَهَرَ عَقْلُ ضِمَامٍ فِي تَقْدِيمِهِ الِاعْتِذَارَ بَيْنَ يَدَيْ مَسْأَلَتِهِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى مَقْصُودِهِ إِلَّا بِتِلْكَ الْمُخَاطَبَةِ.

وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ سَأَلَهُ: مَنْ رَفَعَ السَّمَاءَ وَبَسَطَ الْأَرْضَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ، ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِهِ أَنْ يَصْدُقَهُ عَمَّا يَسْأَلُ عَنْهُ، وَكَرَّرَ الْقَسَمَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا لِلْأَمْرِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِالتَّصْدِيقِ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ تَصَرُّفِهِ وَتَمَكُّنِ عَقْلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ مَسْأَلَةً وَلَا أَوْجَزَ مِنْ ضِمَامٍ.

قَوْلُهُ: (ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى النِّدَاءِ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَا ابْنَ بِإِثْبَاتِ حَرْفِ النِّدَاءِ.

قَوْلُهُ: (فَلَا تَجِدْ) أَيْ: لَا تَغْضَبْ. وَمَادَّةُ وَجَدَ مُتَّحِدَةُ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ مُخْتَلِفَةُ الْمَصَادِرِ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي يُقَالُ فِي الْغَضَبِ مَوْجِدَةٌ وَفِي الْمَطْلُوبِ وُجُودًا وَفِي الضَّالَّةِ وِجْدَانًا وَفِي الْحُبِّ وَجْدًا بِالْفَتْحِ، وَفِي الْمَالِ وُجْدًا بِالضَّمِّ، وَفِي الْغِنَى جِدَةٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى الْأَشْهَرِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَقَالُوا أَيْضًا فِي الْمَكْتُوبِ وِجَادَةٌ وَهِيَ مُوَلَّدَةٌ.

قَوْلُهُ: (أَنْشُدُكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَأَصْلُهُ مِنَ النَّشِيدِ، وهو رَفْعُ الصَّوْتِ، وَالْمَعْنَى سَأَلْتُكَ رَافِعًا نَشِيدَتِي قَالَهُ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ أَيْ سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ، كَأَنَّكَ ذَكَّرْتَهُ فَنَشَدَ أَيْ: تَذَكَّرَ.

قَوْلُهُ: (آللَّهُ) بِالْمَدِّ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا.

قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ نَعَمْ) الْجَوَابُ حَصَلَ بِنَعَمْ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُمَّ تَبَرُّكًا بِهَا، وَكَأَنَّهُ اسْتَشْهَدَ بِاللَّهِ فِي ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِصِدْقِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى: فَقَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ

ص: 151

خَلَقَ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ جَعَلَ فِيهَا الْمَنَافِعَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا الْمَنَافِعَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تُصَلِّيَ) بِتَاءِ الْمُخَاطَبِ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ بِالنُّونِ فِيهَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هُوَ أَوْجَهُ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ثَابِتٍ بِلَفْظِ: إِنَّ عَلَيْنَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا: وَسَاقَ الْبَقِيَّةَ كَذَلِكَ. وَتَوْجِيهُ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى أُمَّتِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الِاخْتِصَاصِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالسَّرَخْسِيِّ: الصَّلَاةُ الْخَمْسُ بِالْإِفْرَادِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُفَرِّقُ صَدَقَتَهُ بِنَفْسِهِ.

قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَوْلُهُ: عَلَى فُقَرَائِنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَغْلَبِ لِأَنَّهُمْ مُعْظَمُ أَهْلِ الصَّدَقَةِ.

قَوْلُهُ: (آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا، وهو اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، وَرَجَّحَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَأَنَّهُ حَضَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ مُسْتَثْبِتًا مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَا أَخْبَرَهُ بِهِ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: فَإِنَّ رَسُولَكَ زَعَمَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: أَتَتْنَا كُتُبُكَ وَأَتَتْنَا رُسُلُكَ وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْحَاكِمُ أَصْلَ طَلَبِ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ لِأَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ الرَّسُولِ وَآمَنَ وَصَدَّقَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُشَافَهَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: آمَنْتُ إِنْشَاءً، وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِقَوْلِهِ: زَعَمَ قَالَ: وَالزَّعْمُ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الزَّعْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ أَيْضًا كَمَا نَقَلَهُ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي شَرْحِ فَصِيحِ شَيْخِهِ ثَعْلَبٍ، وَأَكْثَرَ سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: زَعَمَ الْخَلِيلُ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ. وَأَمَّا تَبْوِيبُ أَبِي دَاوُدَ عَلَيْهِ: بَابُ الْمُشْرِكِ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَلَيْسَ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ ضِمَامًا قَدِمَ مُشْرِكًا بَلْ وَجْهُهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا شَخْصًا قَادِمًا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ قَوْلَهُ آمَنْتُ إِخْبَارٌ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ دَلِيلِ التَّوْحِيدِ، بَلْ عَنْ عُمُومِ الرِّسَالَةِ وَعَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ كَانَ إِنْشَاءً لَكَانَ طَلَبَ مُعْجِزَةٍ تُوجِبُ لَهُ التَّصْدِيقَ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ.

وَعَكَسَهُ الْقُرْطُبِيُّ فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ لِلرَّسُولِ وَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ مُعْجِزَةٌ. وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ هَذِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فَقَالَ مُوسَى فِي رِوَايَتِهِ: وَإِنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؟ قَالَ: صَدَقَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وهو فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ. وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا جَزَمَ بِهِ الْوَاقِدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ أَنَّ قُدُومَ ضِمَامٍ كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ فَيَكُونُ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ، لَكِنَّهُ غَلَطٌ مِنْ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ قُدُومَهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ النَّهْيِ فِي الْقُرْآنِ عَنْ سُؤَالِ الرَّسُولِ، وَآيَةُ النَّهْيِ فِي الْمَائِدَةِ وَنُزُولُهَا مُتَأَخِّرٌ جِدًّا.

ثَانِيهَا: أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ إِلَى الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ إِنَّمَا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمُعْظَمُهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.

ثَالِثُهَا: أَنَّ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ قَوْمَهُ أَوْفَدُوهُ، وَإِنَّمَا كَانَ مُعْظَمُ الْوُفُودِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.

رَابِعُهَا: فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْمَهُ أَطَاعُوهُ وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلْ بَنُو سَعْدٍ - وهو ابْنُ بَكْرِ بْنُ هَوَازِنَ - فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بَعْدَ وَقْعَةِ حُنَيْنٍ وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ كَمَا سَيَأْتِي مَشْرُوحًا فِي مَكَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَالصَّوَابُ أَنَّ قُدُومَ ضِمَامٍ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمَا. وَغَفَلَ الْبَدْرُ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ صَحِيحَ مُسْلِمٍ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي) مَنْ مَوْصُولَةٌ وَرَسُولُ مُضَافٌ إِلَيْهَا، وَيَجُوزُ تَنْوِينُهُ وَكَسْرُ مَنْ لَكِنْ لَمْ تَأْتِ بِهِ الرِّوَايَةُ. وَوَقَعَ

ص: 152

فِي رِوَايَةِ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِيهِمْ - فَقَالَ: أَنَا وَافِدُ قَوْمِي وَرَسُولُهُمْ وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ: بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدِمَ عَلَيْنَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَقَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَدِمَ عَلَيْنَا يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ وِفَادَتِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهن وَلَا أَنْقُصُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ وَكَذَا هِيَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ. وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ الْحَامِلَةُ لِمَنْ سَمَّى الْمُبْهَمَ فِي حَدِيثِ طَلْحَةَ، ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ، كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ مَالَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا قَبْلُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ ضِمَامًا قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ: فَأَمَّا هَذِهِ الْهَنَاةُ فَوَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَنَتَنَزَّهُ عَنْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْنِي الْفَوَاحِشَ. فَلَمَّا أَنْ وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَقُهَ الرَّجُلُ.

قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مَسْأَلَةً وَلَا أَوْجَزَ مِنْ ضِمَامٍ. وَوَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ مَجِيءُ ضِمَامٍ مُسْتَثْبِتًا لِأَنَّهُ قَصَدَ اللِّقَاءَ وَالْمُشَافَهَةَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْحَاكِمِ، وَقَدْ رَجَعَ ضِمَامٌ إِلَى قَوْمِهِ وَحْدَهُ فَصَدَّقُوهُ وَآمَنُوا كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهِ نِسْبَةُ الشَّخْصِ إِلَى جَدِّهِ إِذَا كَانَ أَشْهَرَ مِنْ أَبِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَفِيهِ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَفِيهِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ لِأَنَّ سَعِيدًا، وَشَرِيكًا تَابِعِيَّانِ مِنْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُمَا مَدَنِيَّانِ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَعِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِشَيْخِهِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَدْ خُولِفَ فِي وَصْلِهِ فَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ مُرْسَلًا، وَرَجَّحَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَزَعَمَ أَنَّهَا عِلَّةٌ تَمْنَعُ مِنْ تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ لِحَدِيثِ شَرِيكٍ أَصْلًا.

قَوْلُهُ: (وَعَلِيُّ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ) هُوَ الْمَعْنِيُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا يَاءُ النَّسَبِ، وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَخْرَجَهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُعَلَّقِ.

قَوْلُهُ: (بِهَذَا) أَيْ: هَذَا الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَاللَّفْظُ كَمَا بَيَّنَّا مُخْتَلِفٌ. وَسَقَطَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ، وَابْنِ عَسَاكِرَ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي النُّسْخَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ - الَّتِي صَحَّحَهَا الْعَلَّامَةُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الصَّغَانِيِّ اللُّغَوِيُّ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْوَقْتِ وَقَابَلَهَا عَلَى عِدَّةِ نُسَخٍ وَجَعَلَ لَهَا عَلَامَاتٍ عَقِبَ قَوْلِهِ رَوَاهُ مُوسَى، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ مَا نَصُّهُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ. وَقَالَ الصَّغَانِيُّ فِي الْهَامِشِ: هَذَا الْحَدِيثُ سَاقِطٌ مِنَ النُّسَخِ كُلِّهَا إِلَّا فِي النُّسْخَةِ الَّتِي قُرِئَتْ عَلَى الْفَرَبْرِيِّ صَاحِبِ الْبُخَارِيِّ وَعَلَيْهَا خَطُّهُ. قُلْتُ: وَكَذَا سَقَطَتْ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

‌7 - بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ

وَقَالَ أَنَسُ: نَسَخَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْمَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْآفَاقِ وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَالِكُ ذَلِكَ جَائِزًا وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقال:

ص: 153

لا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

64 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: حدثنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ.

[الحديث 64 - أطرافه في: 7264، 4424، 2939]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الْمُنَاوَلَةِ). لَمَّا فَرَغَ مِنْ تَقْرِيرِ السَّمَاعِ وَالْعَرْضِ أَرْدَفَهُ بِبَقِيَّةِ وُجُوهِ التَّحَمُّلِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَمِنْهَا الْمُنَاوَلَةُ، وَصُورَتُهَا أَنْ يُعْطِيَ الشَّيْخُ الطَّالِبَ الْكِتَابَ فَيَقُولُ لَهُ: هَذَا سَمَاعِي مِنْ فُلَانٍ، أَوْ هَذَا تَصْنِيفِي، فَارْوِهِ عَنِّي. وَقَدْ قَدَّمْنَا صُورَةَ عَرْضِ الْمُنَاوَلَةِ وَهِيَ إِحْضَارُ الطَّالِبِ الْكِتَابَ، وَقَدْ سَوَّغَ الْجُمْهُورُ الرِّوَايَةَ بِهَا، وَرَدَّهَا مَنْ رَدَّ عَرْضَ الْقِرَاءَةِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.

قَوْلُهُ: (إِلَى الْبُلْدَانِ) أَيْ: إِلَى أَهْلِ الْبُلْدَانِ. وَكِتَابٌ مَصْدَرٌ، وهو مُتَعَلِّقُ إِلَى، وَذَكَرَ الْبُلْدَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، وَإِلَّا فَالْحُكْمُ عَامٌّ فِي الْقُرَى وَغَيْرِهَا. وَالْمُكَاتَبَةُ مِنْ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، وَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ الشَّيْخُ حَدِيثَهُ بِخَطِّهِ، أَوْ يَأْذَنَ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ بِكَتْبِهِ، وَيُرْسِلَهُ بَعْدَ تَحْرِيرِهِ إِلَى الطَّالِبِ، وَيَأْذَنَ لَهُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ. وَقَدْ سَوَّى الْمُصَنِّفُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُنَاوَلَةِ. وَرَجَّحَ قَوْمٌ الْمُنَاوَلَةَ عَلَيْهَا لِحُصُولِ الْمُشَافَهَةِ فِيهَا بِالْإِذْنِ دُونَ الْمُكَاتَبَةِ. وَقَدْ جَوَّزَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ إِطْلَاقَ الْإِخْبَارِ فِيهِمَا، وَالْأَوْلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنِ اشْتِرَاطِ بَيَانِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (نَسَخَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَدَلَالَتُهُ عَلَى تَسْوِيغِ الرِّوَايَةِ بِالْمُكَاتَبَةِ وَاضِحٌ، فَإِنَّ عُثْمَانَ أَمَرَهُمْ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مَا فِي تِلْكَ الْمَصَاحِفِ وَمُخَالَفَةِ مَا عَدَاهَا، وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ بَعْثِهِ الْمَصَاحِفَ إِنَّمَا هُوَ ثُبُوتُ إِسْنَادِ صُورَةِ الْمَكْتُوبِ فِيهَا إِلَى عُثْمَانَ، لَا أَصْلَ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْجَامِعِ عُمَرَ: بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَكُنْتُ أَظُنُّهُ الْعُمَرِيَّ الْمَدَنِيَّ، وَخَرَّجْتُ الْأَثَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْكِرْمَانِيُّ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي مِنْ قَرِينَةِ تَقْدِيمِهِ فِي الذِّكْرِ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ غَيْرُ الْعُمَرِيِّ لِأَنَّ يَحْيَى أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا وَقَدْرًا، فَتَتَبَّعْتُ فَلَمْ أَجِدْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ صَرِيحًا، لَكِنْ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ لِأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ بِسَنَدٍ لَهُ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ - أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بِكِتَابٍ فِيهِ أَحَادِيثُ فَقَالَ: انْظُرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَمَا عَرَفْتَ مِنْهُ اتْرُكْهُ وَمَا لَمْ تَعْرِفْهُ امْحُهُ. . فَذَكَرَ الْخَبَرَ. وهو أَصْلٌ فِي عَرْضِ الْمُنَاوَلَةِ. وَعَبْدُ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ابْنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنَّ الْحُبُلِيَّ سَمِعَ مِنْهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَإِنَّ الْحُبُلِيَّ مَشْهُورٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ. وَأَمَّا الْأَثَرُ بِذَلِكَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَمَالِكٍ فَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ خَالِي مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الْعِرَاقِ: الْتَقِطْ لِي مِائَةَ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ حَتَّى أَرْوِيَهَا عَنْكَ، قَالَ مَالِكٌ: فَكَتَبْتُهَا ثُمَّ بَعَثْتُهَا إِلَيْهِ.

وَرَوَى الرَّامَهُرْمُزِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ فِي وُجُوِهِ التَّحَمُّلِ قَالَ: قِرَاءَتُكَ عَلَى الْعَالِمِ، ثُمَّ قِرَاءَتُهُ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، ثُمَّ أَنْ يَدْفَعَ

ص: 154

إِلَيْكَ كِتَابَهُ فَيَقُولُ: ارْوِ هَذَا عَنِّي.

قَوْلُهُ: (وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ) هَذَا الْمُحْتَجُّ هُوَ الْحُمَيْدِيُّ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النَّوَادِرِ لَهُ.

قَوْلُهُ: (فِي الْمُنَاوَلَةِ) أَيْ: فِي صِحَّةِ الْمُنَاوَلَةِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ لَمْ يُورِدْهُ مَوْصُولًا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وهو صَحِيحٌ، وَقَدْ وَجَدْتُهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: إِحْدَاهُمَا مُرْسَلَةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وَأَبُو الْيَمَانِ فِي نُسْخَتِهِ عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَالْأُخْرَى مَوْصُولَةٌ أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. ثُمَّ وَجَدْتُ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فِي التَّفْسِيرِ. فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ يَكُونُ صَحِيحًا. وَأَمِيرُ السَّرِيَّةِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الْأَسَدِيُّ أَخُو زَيْنَبَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ تَأْمِيرُهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَالسَّرِيَّةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ الْقِطْعَةُ مِنَ الْجَيْشِ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا) هَكَذَا فِي حَدِيثِ جُنْدُبٍ عَلَى الْإِبْهَامِ. وَفِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إِذَا سِرْتَ يَوْمَيْنِ فَافْتَحِ الْكِتَابَ. قَالَا: فَفَتَحَهُ هُنَاكَ فَإِذَا فِيهِ أَنِ امْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةً فَتَأْتِيَنَا مِنْ أَخْبَارِ قُرَيْشٍ، وَلَا تَسْتَكْرِهَنَّ أَحَدًا قَالَ فِي حَدِيثِ جُنْدُبٍ: فَرَجَعَ رَجُلَانِ وَمَضَى الْبَاقُونَ فَلَقُوا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَمَعَهُ عِيرٌ - أَيْ: تِجَارَةٌ لِقُرَيْشٍ - فَقَتَلُوهُ.

فَكَانَ أَوَّلَ مَقْتُولٍ مِنَ الْكُفَّارِ فِي الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، وَغَنِمُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ فَكَانَتْ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، فَعَابَ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الْآيَةَ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ نَاوَلَهُ الْكِتَابَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ، فَفِيهِ الْمُنَاوَلَةُ وَمَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ. وَتَعَقَّبَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ بِهِ لِعَدَمِ تَوَهُّمِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِيهِ لِعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ، بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَأَقُولُ: شَرْطُ قِيَامِ الْحُجَّةِ بِالْمُكَاتَبَةِ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا وَحَامِلُهُ مُؤْتَمَنًا وَالْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ يَعْرِفُ خَطَّ الشَّيْخِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الدَّافِعَةِ لِتَوَهُّمِ التَّغْيِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.

قَوْلُهُ: (بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ كَمَا سَمَّاهُ الْمُؤَلِّفُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَغَازِي. وَكِسْرَى هُوَ أَبَرْوِيزُ بْنُ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ، وَوَهِمَ مَنْ قال: هو أَنُوشِرْوَانُ. وَعَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ هُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ سَاوَى بِالْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ الْمُمَالَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (فَحَسِبْتُ) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ رَاوِي الْحَدِيثِ، فَقِصَّةُ الْكِتَابِ عِنْدَهُ مَوْصُولَةٌ وَقِصَّةُ الدُّعَاءِ مُرْسَلَةٌ. وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ ظَاهِرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَاوَلَ الْكِتَابَ لِرَسُولِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ عَظِيمَ الْبَحْرَيْنِ بِأَنَّ هَذَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ مَا فِيهِ وَلَا قَرَأَهُ.

65 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قال: أخبرنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ: مَنْ قَالَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنَسٌ.

[الحديث 65 - أطرافه في: 7162، 5877، 5875، 5874، 5872، 5870، 2938]

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (كَتَبَ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَنِسْبَةُ الْكِتَابَةِ إِلَى

ص: 155

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَازِيَّةٌ، أَيْ: كَتَبَ الْكَاتِبَ بِأَمْرِهِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا) يُعْرَفُ مِنْ هَذَا فَائِدَةُ إِيرَادِهِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِالْمُكَاتَبَةِ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا لِيَحْصُلَ الْأَمْنُ مِنْ تَوَهُّمِ تَغْيِيرِهِ، لَكِنْ قَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ خَتْمِهِ إِذَا كَانَ الْحَامِلُ عَدْلًا مُؤْتَمَنًا.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ) الْقَائِلُ هُوَ شُعْبَةُ، وَسَيَأْتِي بَاقِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْجِهَادِ وَفِي اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(فَائِدَةٌ): لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ الْإِجَازَةَ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ أَوِ الْمُكَاتَبَةِ، وَلَا الْوِجَادَةَ وَلَا الْوَصِيَّةَ وَلَا الْإِعْلَامَ الْمُجَرَّدَاتِ عَنِ الْإِجَازَةِ، وَكَأَنَّهُ لَا يَرَى بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَقَدِ ادَّعَى ابْنُ مَنْدَهْ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُ الْبُخَارِيُّ فِيهِ: قَالَ لِي فَهِيَ إِجَازَةٌ، وَهِيَ دَعْوَى مَرْدُودَةٌ بِدَلِيلِ أَنِّي اسْتَقْرَيْتُ كَثِيرًا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا الْجَامِعُ قَالَ لِي فَوَجَدْتُهُ فِي غَيْرِ الْجَامِعِ يَقُولُ فِيهَا حَدَّثَنَا، وَالْبُخَارِيُّ لَا يَسْتَجِيزُ فِي الْإِجَازَةِ إِطْلَاقَ التَّحْدِيثِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَسْمُوعِ، لَكِنْ سَبَبَ اسْتِعْمَالِهِ لِهَذِهِ الصِّيغَةِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ مَا يَبْلُغُ شَرْطَهُ وَمَا لَا يَبْلُغُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌8 - بَاب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا

66 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قال: حدثنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ وَاحِدٌ قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ.

[الحديث 66 - طرفه في: 474]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ) مُنَاسَبَةُ هَذَا لِكِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَجْلِسِ وَبِالْحَلْقَةِ حَلْقَةُ الْعِلْمِ وَمَجْلِسُ الْعِلْمِ. فَيَدْخُلُ فِي أَدَبِ الطَّالِبِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَالتَّرَاجِمُ الْمَاضِيَةُ كُلُّهَا تَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ الْعَالِمِ.

قَوْلُهُ: (مَوْلَى عَقِيلٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَقِيلَ لِأَبِي مُرَّةَ ذَلِكَ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْلَى أُخْتِهِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي وَاقِدٍ) صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ فَقَالَ: عَنْ أَبِي مُرَّةَ أَنَّ أَبَا وَاقِدٍ حَدَّثَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اسْمَ أَبِي وَاقِدٍ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ، وَقِيلَ ابْنُ عَوْفٍ، وَقِيلَ عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ مَدَنِيُّونَ، وهو فِي الْمُوَطَّأِ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ إِلَّا أَبُو مُرَّةَ. وَلَا عَنْهُ إِلَّا إِسْحَاقُ، وَأَبُو مُرَّةَ الرَّاوِي عَنْهُ تَابِعِيَّانِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةُ نَفَرٍ) النَّفَرُ بِالتَّحْرِيكِ لِلرِّجَالِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، وَالْمَعْنَى ثَلَاثَةٌ هُمْ نَفَرٌ، وَالنَّفَرُ اسْمُ جَمْعٍ وَلِهَذَا وَقَعَ مُمَيَّزًا لِلْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{تِسْعَةُ رَهْطٍ}

قَوْلُهُ: (فَأَقْبَلَ اثْنَانِ) بَعْدَ قَوْلِهِ: أَقْبَلَ ثَلَاثَةٌ هُمَا إِقْبَالَانِ، كَأَنَّهُمْ أَقْبَلُوا أَوَّلًا مِنَ الطَّرِيقِ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ مَارِّينَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، فَإِذَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَمُرُّونَ، فَلَمَّا رَأَوْا مَجْلِسَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ إِلَيْهِ اثْنَانِ مِنْهُمْ وَاسْتَمَرَّ الثَّالِثُ ذَاهِبًا.

قَوْلُهُ: (فَوَقَفَا) زَادَ أَكْثَرُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ: فَلَمَّا وَقَفَا

ص: 156

سَلَّمَا وَكَذَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ هُنَا وَلَا فِي الصَّلَاةِ السَّلَامَ. وَكَذَا لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الدَّاخِلَ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ، وَأَنَّ الْقَائِمَ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَاعِدِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ رَدَّ السَّلَامِ عَلَيْهِمَا اكْتِفَاءً بِشُهْرَتِهِ، أَوْ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمُسْتَغْرِقَ فِي الْعِبَادَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الرَّدُّ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمَا صَلَّيَا تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ إِمَّا لِكَوْنِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ أَوْ كَانَا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ وَقَعَ فَلَمْ يُنْقَلْ لِلِاهْتِمَامِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقِصَّةِ أَوْ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ تَنَفُّلٍ، قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّهَا لَا تُصَلَّى فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ.

قَوْلُهُ: (فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: عَلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَلَى بِمَعْنَى عِنْدَ.

قَوْلُهُ: (فُرْجَةٌ) بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ مَعًا هِيَ الْخَلَلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَالْحَلْقَةُ بِإِسْكَانِ اللَّامِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَدِيرٍ خَالِي الْوَسَطِ وَالْجَمْعُ حَلَقٌ بِفَتْحَتَيْنِ، وَحُكِيَ فَتْحُ اللَّامِ فِي الْوَاحِدِ، وهو نَادِرٌ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّحْلِيقِ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا كَانَ أَحَقَّ بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْآخَرُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى زَعَمَ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرِ لِإِطْلَاقِهِ هُنَا عَلَى الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ بِقَصْرِ الْأَوَّلِ وَمَدِّ الثَّانِي، وهو الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْقُرْآنِ {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} بِالْقَصْرِ، {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} بِالْمَدِّ، وَحُكِيَ فِي اللُّغَةِ الْقَصْرُ وَالْمَدُّ مَعًا فِيهِمَا. وَمَعْنَى أَوَى إِلَى اللَّهِ لَجَأَ إِلَى اللَّهِ، أَوْ عَلَى الْحَذْفِ أَيِ: انْضَمَّ إِلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمَعْنَى فَآوَاهُ اللَّهُ أَيْ: جَازَاهُ بِنَظِيرِ فِعْلِهِ بِأَنْ ضَمَّهُ إِلَى رَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَدَبِ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَفَضْلُ سَدِّ خَلَلِ الْحَلْقَةِ، كَمَا وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي سَدِّ خَلَلِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ، وَجَوَازُ التَّخَطِّي لِسَدِّ الْخَلَلِ مَا لَمْ يُؤْذِ، فَإِنْ خُشِيَ اسْتُحِبَّ الْجُلُوسُ حَيْثُ يَنْتَهِي كَمَا فَعَلَ الثَّانِي. وَفِيهِ الثَّنَاءُ عَلَى مَنْ زَاحَمَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَحْيَا) أَيْ تَرَكَ الْمُزَاحَمَةَ كَمَا فَعَلَ رَفِيقُهُ حَيَاءً مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِمَّنْ حَضَرَ قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَسٌ فِي رِوَايَتِهِ سَبَبَ اسْتِحْيَاءِ هَذَا الثَّانِي فَلَفْظُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ: وَمَضَى الثَّانِي قَلِيلًا ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتَحْيَا مِنَ الذَّهَابِ عَنِ الْمَجْلِسِ كَمَا فَعَلَ رَفِيقُهُ الثَّالِثُ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ) أَيْ: رَحِمَهُ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ.

قَوْلُهُ: (فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ) أَيْ: سَخِطَ عَلَيْهِ، وهو مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ ذَهَبَ مُعْرِضًا لَا لِعُذْرٍ، هَذَا إِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا، وَاطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ إِخْبَارًا أَوْ دُعَاءً. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: فَاسْتَغْنَى فَاسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا يُرَشِّحُ كَوْنَهُ خَبَرًا، وَإِطْلَاقُ الْإِعْرَاضِ وَغَيْرِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ، فَيُحْمَلُ كُلُّ لَفْظٍ مِنْهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ سبحانه وتعالى. وَفَائِدَةُ إِطْلَاقِ ذَلِكَ بَيَانُ الشَّيْءِ بِطَرِيقٍ وَاضِحٍ، وَفِيهِ جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَأَحْوَالِهِمْ لِلزَّجْرِ عَنْهَا وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مِنَ الْغَيْبَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ مُلَازَمَةِ حَلَقِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ وَجُلُوسُ الْعَالِمِ وَالْمُذَكِّرِ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُسْتَحِي. وَالْجُلُوسُ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ. وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَسْمِيَةِ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

9 -

بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ

67 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قال: حدثنا بِشْرٌ قال: حدثنا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ أَوْ بِزِمَامِهِ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟

ص: 157

فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ: أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ.

[الحديث 67 - أطرافه في: 7447، 7078، 5550، 4662، 4406، 3197، 1741، 105]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ) هَذَا الْحَدِيثُ الْمُعَلَّقُ، أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا لَفْظُهُ فَهُوَ مَوْصُولٌ عِنْدَهُ فِي بَابِ الْخُطْبَةِ بِمِنًى مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، أَوْرَدَ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، وَرَجُلٌ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا وَفِي آخِرِهِ هَذَا اللَّفْظُ. وَغَفَلَ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الشُّرَّاحِ فِي عَزْوِهِمْ لَهُ إِلَى تَخْرِيجِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَبْعَدُوا النُّجْعَةَ، وَأَوْهَمُوا عَدَمَ تَخْرِيجِ الْمُصَنِّفِ لَهُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. ورُبَّ لِلتَّقْلِيلِ، وَقَدْ تَرِدُ لِلتَّكْثِيرِ، ومُبَلَّغٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وأَوْعَى نَعْتٌ لَهُ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ رُبَّ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ يُوجَدُ أَوْ يَكُونُ، وَيَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي أَنَّ رُبَّ اسْمُ أَنْ تَكُونَ هِيَ مُبْتَدَأً وَأَوْعَى الْخَبَرُ فَلَا حَذْفَ وَلَا تَقْدِيرَ، وَالْمُرَادُ: رُبَّ مُبَلَّغٍ عَنِّي أَوْعَى - أَيْ: أَفْهَمُ - لِمَا أَقُولُ مِنْ سَامِعٍ مِنِّي. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ هَوْذَةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ وَلَفْظُهُ: فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ أَوْعَى لِمَا أَقُولُ مِنْ بَعْضِ مَنْ شَهِدَ.

قَوْلُهُ: (بِشْرٌ) هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بنَصَبَ النَّبِيَّ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي ذَكَرَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الرَّاوِي، يَعْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ كَانَ يُحَدِّثُهُمْ فَذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ وَلَفْظُهُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ. وَذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَالْوَاوُ إِمَّا حَالِيَّةٌ وَإِمَّا عَاطِفَةٌ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَعَدَ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ أَوْ بِزِمَامِهِ) الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي، وَالزِّمَامُ وَالْخِطَامُ بِمَعْنًى، وهو الْخَيْطُ الَّذِي تُشَدُّ فِيهِ الْحَلْقَةُ الَّتِي تُسَمَّى بِالْبُرَةِ - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ - فِي أَنْفِ الْبَعِيرِ. وَهَذَا الْمُمْسِكُ سَمَّاهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِلَالًا، وَاسْتَنَدَ إِلَى مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: حَجَجْتُ فَرَأَيْتُ بِلَالًا يَقُودُ بِخِطَامِ رَاحِلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى. فَذَكَرَ بَعْضَ الْخُطْبَةِ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الْمُبْهَمُ مِنْ بِلَالٍ، لَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ هُنَا أَبُو بَكْرَةَ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ وَلَفْظُهُ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَمْسَكْتُ - إِمَّا قَالَ بِخِطَامِهَا، وَإِمَّا قَالَ بِزِمَامِهَا - وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّكَّ مِمَّنْ دُونَ أَبِي بَكْرَةَ لَا مِنْهُ. وَفَائِدَةُ إِمْسَاكِ الْخِطَامِ صَوْنُ الْبَعِيرِ عَنْ الِاضْطِرَابِ حَتَّى لَا يُشَوِّشَ عَلَى رَاكِبِهِ.

قَوْلُهُ: (أَيُّ يَوْمٍ هَذَا) سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ السُّؤَالُ عَنِ الشَّهْرِ وَالْجَوَابِ الَّذِي قَبْلَهُ فَصَارَ هَكَذَا: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا، فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ قَالَ: أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ؟ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَتَوْجِيهُهُ ظَاهِرٌ، وهو مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ ; وَلَكِنَّ الثَّابِتَ فِي الرِّوَايَاتِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَكَرِيمَةَ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ السُّؤَالُ عَنِ

ص: 158

الْبَلَدِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ، وَثَبَتَ السُّؤَالُ عَنِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَضَاحِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، وَفِي الْحَجِّ مِنْ رِوَايَةِ قُرَّةَ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سُؤَالُهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الثَّلَاثَةِ وَسُكُوتُهُ بَعْدَ كُلِّ سُؤَالٍ مِنْهَا كَانَ لِاسْتِحْضَارِ فُهُومِهِمْ وَلِيُقْبِلُوا عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِمْ، وَلِيَسْتَشْعِرُوا عَظَمَةَ مَا يُخْبِرُهُمْ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ إِلَخْ، مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، انْتَهَى.

وَمَنَاطُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ وَمَا بَعْدَهُ ظُهُورُهُ عِنْدَ السَّامِعِينَ ; لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْبَلَدِ وَالشَّهْرِ وَالْيَوْمِ كَانَ ثَابِتًا فِي نُفُوسِهِمْ، مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ، بِخِلَافِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَبِيحُونَهَا، فَطَرَأَ الشَّرْعُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَحْرِيمَ دَمِ الْمُسْلِمِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَلَدِ وَالشَّهْرِ وَالْيَوْمِ، فَلَا يَرِدُ كَوْنُ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَخَفْضَ رُتْبَةً مِنَ الْمُشَبَّهِ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اعْتَادَهُ الْمُخَاطَبُونَ قَبْلَ تَقْرِيرِ الشَّرْعِ. وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ أَجَابُوهُ عَنْ كُلِّ سُؤَالٍ بِقَوْلِهِمْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ أَدَبِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنَ الْجَوَابِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُ مُطْلَقَ الْإِخْبَارِ بِمَا يَعْرِفُونَهُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ: حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ. فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْوِيضِ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ إِلَى الشَّارِعِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ الْحُجَّةُ لِمُثْبِتِي الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ إِلَخْ) هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: سَفْكَ دِمَائِكُمْ وَأَخْذَ أَمْوَالِكُمْ وَثَلْبَ أَعْرَاضِكُمْ. وَالْعِرْضُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَوْ سَلَفِهِ.

قَوْلُهُ: (لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ) أَيِ: الْحَاضِرُ فِي الْمَجْلِسِ (الْغَائِبَ) أَيِ: الْغَائِبَ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ إِمَّا تَبْلِيغُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ أَوْ تَبْلِيغُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ. وَقَوْلُهُ: مِنْهُ صِلَةٌ لِأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَجَازَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ فِي الظَّرْفِ سَعَةً، وَلَيْسَ الْفَاصِلُ أَيْضًا أَجْنَبِيًّا.

(فَائِدَةٌ): وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَسَكَتْنَا بَعْدَ السُّؤَالِ. وَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَجِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ. وَظَاهِرُهُمَا التَّعَارُضُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ ابْنُ عَبَّاسٍ أَجَابُوا، وَالطَّائِفَةُ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ لَمْ يُجِيبُوا بَلْ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. أَوْ تَكُونُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَجِّ وَفِي الْفِتَنِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالُوا: بَلَى بِمَعْنَى قَوْلِهِمْ يَوْمٌ حَرَامٌ بِالِاسْتِلْزَامِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ نَقَلَ السِّيَاقَ بِتَمَامِهِ، وَاخْتَصَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَكَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِسَبَبِ قُرْبِ أَبِي بَكْرَةَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ كَانَ آخِذًا بِخِطَامِ النَّاقَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْخُطْبَةِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ كَرَّرَهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَيَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَجِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي حَجَّتِهِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ - غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ - الْحَثُّ عَلَى تَبْلِيغِ الْعِلْمِ، وَجَوَازُ التَّحَمُّلِ قَبْلَ كَمَالِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَنَّ الْفَهْمَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْأَدَاءِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَأْتِي فِي الْآخِرِ مَنْ يَكُونُ أَفْهَمَ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ لَكِنْ بِقِلَّةٍ، وَاسْتَنْبَطَ ابْنُ الْمُنِيرِ مِنْ تَعْلِيلِ كَوْنِ الْمُتَأَخِّرِ أَرْجَحَ نَظَرًا مِنَ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ تَفْسِيرَ الرَّاوِي أَرْجَحُ مِنْ تَفْسِيرِ غَيْرِهِ.

وَفِيهِ جَوَازُ الْقُعُودِ عَلَى ظَهْرِ الدَّوَابِّ وَهِيَ وَاقِفَةٌ إِذَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ، وَحُمِلَ النَّهْيُ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ

(1)

. وَفِيهِ الْخُطْبَةُ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي إِسْمَاعِهِ لِلنَّاسِ وَرُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ.

‌10 - بَاب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ، وَأَنَّ

(1)

لو قال لغير حاجة لكان أصح

ص: 159

الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَقَالَ: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} ، {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَقَالَ:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} حُكمَاءَ فُقَهَاءَ، وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْعِلْمِ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْعِلْمَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، فَلَا يُعْتَبَرَانِ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ مُصَحِّحٌ لِلنِّيَّةِ الْمُصَحِّحَةِ لِلْعَمَلِ، فَنَبَّهَ الْمُصَنِّفٌ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعِلْمَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا بِالْعَمَلِ تَهْوِينُ أَمْرِ الْعِلْمِ وَالتَّسَاهُلُ فِي طَلَبِهِ.

قَوْلُهُ: (فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ) أَيْ: حَيْثُ قَالَ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} ثُمَّ قَالَ {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِأُمَّتِهِ. وَاسْتَدَلَّ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ عَنْهُ أَنَّهُ تَلَاهَا فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِ فَقَالَ: اعْلَمْ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعَمَلِ؟ وَيُنْتَزَعُ مِنْهَا دَلِيلُ مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ ; لَكِنَّ النِّزَاعَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ إِنَّمَا هُوَ فِي إِيجَابِ تَعَلُّمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْقَوَانِينِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ) بِفَتْحِ أَنَّ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَمِنْ هُنَا إِلَى قَوْلِهِ: وَافِرٍ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مُصَحَّحًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَحَسَّنَهُ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ، وَضَعَّفَهُ عِنْدَهُمْ بِاضْطِرَابٍ فِي سَنَدِهِ، لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ يَتَقَوَّى بِهَا، وَلَمْ يُفْصِحِ الْمُصَنِّفُ بِكَوْنِهِ حَدِيثًا، فَلِهَذَا لَا يُعَدُّ فِي تَعَالِيقِهِ، لَكِنْ إِيرَادُهُ لَهُ فِي التَّرْجَمَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا، وَشَاهِدُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ، فَلَهُ حُكْمُهُ فِيمَا قَامَ مَقَامَهُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَرَّثُوا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ، أَيِ: الْأَنْبِيَاءُ. وَيُرْوَى بِتَخْفِيفِهَا مَعَ الْكَسْرِ أَيِ: الْعُلَمَاءُ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ فِيهِ: وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ.

قَوْلُهُ: (بِحَظٍّ) أَيْ: نَصِيبٍ (وَافِرٍ) أَيْ: كَامِلٍ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا) هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْضًا مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثٍ غَيْرِ هَذَا، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ. قَالَ: وَلَمْ يُقَلْ لَهُ: صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ الْأَعْمَشَ دَلَّسَ فِيهِ، فَقَالَ: حَدَّثْتُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ. قُلْتُ: لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ فَانْتَفَتْ تُهْمَةُ تَدْلِيسِهِ.

قَوْلُهُ: (طَرِيقًا) نَكَّرَهَا وَنَكَّرَ عِلْمًا لِيتَنَاوُلِ أَنْوَاعِ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، وَلِيَنْدَرِجَ فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ.

قَوْلُهُ: (سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا) أَيْ: فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَفِيهِ بِشَارَةٌ بِتَسْهِيلِ الْعِلْمِ عَلَى طَالِبِهِ، لِأَنَّ طَلَبَهُ مِنَ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْجَنَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ) أَيِ: اللَّهُ عز وجل، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِقَوْلِ اللَّهِ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} أَيْ: يَخَافُ مِنَ اللَّهِ مَنْ

ص: 160

عَلِمَ قُدْرَتَهُ وَسُلْطَانَهُ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: {وَمَا يَعْقِلُهَا} أَيِ الْأَمْثَالَ الْمَضْرُوبَةَ.

قَوْلُهُ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} أَيْ: سَمْعَ مَنْ يَعِي وَيَفْهَمُ {أَوْ نَعْقِلُ} عَقْلَ مَنْ يُمَيِّزُ، وَهَذِهِ أَوْصَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَالْمَعْنَى لَوْ كُنَّا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَعَلِمْنَا مَا يَجِبُ عَلَيْنَا فَعَمِلْنَا بِهِ فَنَجَوْنَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: يُفَهِّمْهُ بِالْهَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا مِيمٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ بَعْدَ هَذَا بِبَابَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي. وَأَمَّا اللَّفْظُ الثَّانِي فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَالْفِقْهُ هُوَ الْفَهْمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أَيْ: لَا يَفْهَمُونَ، وَالْمُرَادُ: الْفَهْمُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ) هُوَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَيْضًا، أَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَيْضًا بِلَفْظِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَعَلَّمُوا، إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ مُبْهَمًا اعْتُضِدَ بِمَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَرَوَى الْبَزَّارُ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ مَرْفُوعًا. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَغَيْرِهِ. فَلَا يَغْتَرُّ بِقَوْلِهِ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْعِلْمُ الْمُعْتَبَرُ إِلَّا الْمَأْخُوذَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَلُّمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ إِلَخْ) هَذَا التَّعْلِيقُ رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ: حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ - يَعْنِي مَالِكَ بْنَ مَرْثَدٍ - عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ذَرٍّ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ يَسْتَفْتُونَهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَوَقَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ تَنْهَ عَنِ الْفُتْيَا؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَرَقِيبٌ أَنْتَ عَلَيَّ؟ لَوْ وَضَعْتُمْ. . فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَرُوِّينَاهُ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِيَ خَاطَبَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ الَّذِي نَهَاهُ عَنِ الْفُتْيَا عُثْمَانُ رضي الله عنه. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفَ مَعَ مُعَاوِيَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: نَزَلَتْ فِيهِمْ وَفِينَا. فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، فَحَصَلَتْ مُنَازَعَةٌ أَدَّتْ إِلَى انْتِقَالِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ الْمَدِينَةِ فَسَكَنَ الرَّبَذَةَ - بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ - إِلَى أَنْ مَاتَ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ لَا يَرَى بِطَاعَةِ الْإِمَامِ إِذَا نَهَاهُ عَنِ الْفُتْيَا ; لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَعَلَّهُ أَيْضًا سَمِعَ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ، وَسَيَأْتِي لِعَلِيٍّ مَعَ عُثْمَانَ نَحْوُهُ. وَالصَّمْصَامَةُ بِمُهْمَلَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ هُوَ السَّيْفُ الصَّارِمُ الَّذِي لَا يَنْثَنِي، وَقِيلَ: الَّذِي لَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ.

قَوْلُهُ: (هَذِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى الْقَفَا، وَهُوَ يُذَّكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَأُنْفِذُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: أُمْضِيَ، وَتُجِيزُوا بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْدَ الْيَاءِ زَايٌ، أَيْ: تُكْمِلُوا قَتْلِي، وَنَكَّرَ كَلِمَةً لِيَشْمَلَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ. وَالْمُرَادُ بِهِ يُبَلِّغُ مَا تَحَمَّلَهُ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا يَنْتَهِي عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ أَشْرَفَ عَلَى الْقَتْلِ. وَلَوْ فِي كَلَامِهِ لِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلَاحَظَ الِامْتِنَاعُ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ الْإِنْفَاذَ حَاصِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ وَضْعِ الصَّمْصَامَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ حُصُولِهِ أَوْلَى، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَاحْتِمَالُ الْمَشَقَّةِ فِيهِ وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى طَلَبًا لِلثَّوَابِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالْخَطِيبُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ حَسَنٍ. وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّبَّانِيَّ بِأَنَّهُ الْحَكِيمُ الْفَقِيهُ، وَوَافَقَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِهِ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ الرَّبَّانِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّبِّ أَيْ: الَّذِي يَقْصِدُ مَا أَمَرَهُ الرَّبُّ بِقَصْدِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: قِيلَ لِلْعُلَمَاءِ رَبَّانِيُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ يُرَبُّونَ الْعِلْمَ أَيْ: يَقُومُونَ بِهِ، وَزِيدَتِ

ص: 161

الْأَلِفُ وَالنُّونُ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ: هَلْ هِيَ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّبِّ أَوْ إِلَى التَّرْبِيَةِ، وَالتَّرْبِيَةُ عَلَى هَذَا لِلْعِلْمِ، وَعَلَى مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ لِتَعَلُّمِهِ. وَالْمُرَادُ بِصِغَارِ الْعِلْمِ مَا وَضَحَ مِنْ مَسَائِلِهِ، وَبِكِبَارِهِ مَا دَقَّ مِنْهَا. وَقِيلَ: يُعَلِّمُهُمْ جُزْئِيَّاتِهِ قَبْلَ كُلِّيَّاتِهِ، أَوْ فُرُوعَهُ قَبْلَ أُصُولِهِ، أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ قَبْلَ مَقَاصِدِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا يُقَالُ لِلْعَالِمِ رَبَّانِيٌّ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا مُعَلِّمًا عَامِلًا.

(فَائِدَةٌ): اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُورِدَ حَدِيثًا مَوْصُولًا عَلَى شَرْطِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيَّضَ لَهُ لِيُورِدَ فِيهِ مَا يَثْبُتُ عَلَى شَرْطِهِ، أَوْ يَكُونَ تَعَمَّدَ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌11 - بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَيْ لَا يَنْفِرُوا

68 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قال: أخبرنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.

[الحديث 68 - طرفاه في: 6411، 70]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُهُمْ) هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ يَتَعَهَّدُهُمْ، وَالْمَوْعِظَةُ النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ، وَعَطْفُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَشْمَلُ الْمَوْعِظَةَ وَغَيْرَهَا، وَإِنَّمَا عَطَفَهُ؛ لِأَنَّهَا مَنْصُوصَةٌ فِي الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ الْعِلْمَ اسْتِنْبَاطًا.

قَوْلُهُ: (لِئَلَّا يَنْفِرُوا) اسْتَعْمَلَ فِي التَّرْجَمَةِ مَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ سَاقَهُمَا، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَفْسِيرَ السَّآمَةِ بِالنُّفُورِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ مِنْ جِهَةِ مَا حَكَاهُ أَخِيرًا مِنْ تَفْسِيرِ الرَّبَّانِيِّ، كَمُنَاسَبَةِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ تَشْدِيدِ أَبِي ذَرٍّ فِي أَمْرِ التَّبْلِيغِ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ. وَغَالِبُ أَبْوَابِ هَذَا الْكِتَابِ لِمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهَا وَالتَّأَمُّلُ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، لَكِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيَّ وَإِنْ كَانَ يَرْوِي عَنِ السُّفْيَانَيْنِ، فَإِنَّهُ حِينَ يُطْلِقُ يُرِيدُ بِهِ الثَّوْرِيُّ، كَمَا أَنَّ الْبُخَارِيَّ حَيْثُ يُطْلِقُ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ لَا يُرِيدُ بِهِ إِلَّا الْفِرْيَابِيَّ وَإِنْ كَانَ يَرْوِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْبَيْكَنْدِيِّ أَيْضًا. وَقَدْ وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ هُنَا الْبَيْكَنْدِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ الْمَذْكُورَةِ: سَمِعْتُ شَقِيقًا وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ. وَأَفَادَ هَذَا التَّصْرِيحُ رَفْعَ مَا يُتَوَهَّمُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الَّتِي أَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ: قَالَ الْأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ، فَقَدْ يُوهِمُ هَذَا أَنَّ الْأَعْمَشَ دَلَّسَهُ أَوَّلًا عَنْ شَقِيقٍ، ثُمَّ سَمَّى الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي وَائِلٍ بِلَا وَاسِطَةٍ وَسَمِعَهُ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَأَرَادَ بِذِكْرِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ كَانَتْ نَازِلَةً تَأْكِيدَهُ، أَوْ لِيُنَبِّهَ عَلَى عِنَايَتِهِ بِالرِّوَايَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَمِعَهُ نَازِلًا فَلَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ حَتَّى سَمِعَهُ عَالِيًا، وَكَذَا صَرَّحَ الْأَعْمَشُ بِالتَّحْدِيثِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ. وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَيُذَكِّرَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ قَالَ: أَمَا إِنِّي أَخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ. . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَتَخَوَّلُنَا) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْخَائِلُ بِالْمُعْجَمَةِ هُوَ الْقَائِمُ الْمُتَعَهِّدُ لِلْمَالِ، يُقَالُ: خَالَ الْمَالَ يَخُولُهُ تَخَوُّلًا إِذَا تَعَهَّدَهُ وَأَصْلَحَهُ. وَالْمَعْنَى كَانَ يُرَاعِي الْأَوْقَاتَ فِي تَذْكِيرِنَا، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ لِئَلَّا نَمَلَّ. وَالتَّخَوُّنُ بِالنُّونِ أَيْضًا، يُقَالُ: تَخَوَّنَ الشَّيْءَ إِذَا تَعَهَّدَهُ وَحَفِظَهُ، أَيِ: اجْتَنَبَ الْخِيَانَةَ فِيهِ، كَمَا قِيلَ فِي تَحَنَّثَ وَتَأَثَّمَ وَنَظَائِرِهِمَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا عَمْرِو

ص: 162

بْنَ الْعَلَاءِ سَمِعَ الْأَعْمَشَ يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: يَتَخَوَّلُنَا بِاللَّامِ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ بِالنُّونِ فَلَمْ يَرْجِعْ لِأَجْلِ الرِّوَايَةِ، وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ جَائِزٌ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الصَّوَابُ يَتَحَوَّلُنَا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: يَتَطَلَّبُ أَحْوَالَنَا الَّتِي نَنْشَطُ فِيهَا لِلْمَوْعِظَةِ. قُلْتُ: وَالصَّوَابُ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى فَقَدْ رَوَاهُ مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ كَرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَهُوَ فِي الْبَابِ الْآتِي. وَإِذَا ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ وَصَحَّ الْمَعْنَى بَطَلَ الِاعْتِرَاضُ.

قَوْلُهُ: (عَلَيْنَا) أَيِ: السَّآمَةُ الطَّارِئَةُ عَلَيْنَا، أَوْ ضَمَّنَ السَّآمَةَ مَعْنَى الْمَشَقَّةِ فَعَدَّاهَا بِعَلَى، وَالصِّلَةُ مَحْذُوفَةٌ وَالتَّقْدِيرُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ. وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ تَرْكِ الْمُدَاوَمَةِ فِي الْجِدِّ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ خَشْيَةَ الْمَلَالِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُوَاظَبَةُ مَطْلُوبَةً لَكِنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: إِمَّا كُلَّ يَوْمٍ مَعَ عَدَمِ التَّكَلُّفِ. وَإِمَّا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، فَيَكُونُ يَوْمُ التَّرْكِ لِأَجْلِ الرَّاحَةِ لِيُقْبِلَ عَلَى الثَّانِي بِنَشَاطٍ، وَإِمَّا يَوْمًا فِي الْجُمُعَةِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، وَالضَّابِطُ الْحَاجَةُ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ النَّشَاطِ. وَاحْتَمَلَ عَمَلُ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنِ اسْتِدْلَالِهِ أَنْ يَكُونَ اقْتَدَى بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى فِي الْيَوْمِ الَّذِي عَيَّنَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اقْتَدَى بِمُجَرَّدِ التَّخَلُّلِ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالتَّرْكِ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّخَوُّلِ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ. وَأَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ كَرَاهِيَةَ تَشْبِيهة غَيْرِ الرَّوَاتِبِ بِالرَّوَاتِبِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ دَائِمًا، وَجَاءَ عَنْ مَالِكٍ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ.

69 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا.

[الحديث 69 - طرفه في: 6125]

قَوْلُهُ: (أَبُو التَّيَّاحِ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تُعَسِّرُوا) الْفَائِدَةُ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِاللَّازِمِ تَأْكِيدًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى يَسِّرُوا لَصَدَقَ عَلَى مَنْ يَسَّرَ مَرَّةً وَعَسَّرَ كَثِيرًا، فَقَالَ: وَلَا تُعَسِّرُوا لِنَفْيِ التَّعْسِيرِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي عَطْفِهِ عَلَيْهِ: وَلَا تُنَفِّرُوا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْإِطْنَابِ لَا الْإِيجَازِ.

قَوْلُهُ: (وَبَشِّرُوا) بَعْدَ قَوْلِهِ: يَسِّرُوا فِيهِ الْجِنَاسُ الْخَطِّيُّ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ بَدَلَهَا: وَسَكِّنُوا وَهِيَ الَّتِي تُقَابِلُ وَلَا تُنَفِّرُوا ; لِأَنَّ السُّكُونَ ضِدُّ النُّفُورِ، كَمَا أَنَّ ضِدَّ الْبِشَارَةِ النِّذَارَةُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ النِّذَارَةُ - وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِالشَّرِّ - فِي ابْتِدَاءِ التَّعْلِيمِ تُوجِبُ النُّفْرَةَ قُوبِلَتِ الْبِشَارَةُ بِالتَّنْفِيرِ، وَالْمُرَادُ تَأْلِيفُ مَنْ قَرُبَ إِسْلَامُهُ وَتَرْكُ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَكَذَلِكَ الزَّجْرُ عَنِ الْمَعَاصِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِتَلَطُّفٍ لِيُقْبَلَ، وَكَذَا تَعَلُّيمُ الْعِلْمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِالتَّدْرِيجِ ; لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ فِي ابْتِدَائِهِ سَهْلًا حُبِّبَ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ فِيهِ وَتَلَقَّاهُ بِانْبِسَاطٍ، وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ غَالِبًا الِازْدِيَادَ، بِخِلَافِ ضِدِّهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

‌12 - بَاب مَنْ جَعَلَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً

70 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ جَعَلَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ يَوْمًا مَعْلُومًا) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: أَيَّامًا مَعْلُومَةً، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: مَعْلُومَاتٍ، وَكَأَنَّهُ

ص: 163

أَخَذَ هَذَا مِنْ صَنِيعِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَذْكِيرِهِ كُلَّ خَمِيسٍ، أَوْ مِنِ اسْتِنْبَاطِ عَبْدِ اللَّهِ ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ.

قَوْلُهُ: (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدُ الرَّحْمَنِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ) هَذَا الْمُبْهَمُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيَّ، وَفِي سِيَاقِ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَاخِرِ الدَّعَوَاتِ مَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (لَوَدِدْتُ) اللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ، وَفَاعِلُ يَمْنَعُنِي: أَنِّي أَكْرَهُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنِّي، وَأُمِلُّكُمْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: أُضْجِرُكُمْ، وَإِنِّي الثَّانِيَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ قَرِيبًا. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي قَبْلَهُ بَصْرِيُّونَ.

‌13 - بَاب مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ

71 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاللَّهُ يُعْطِي وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ.

[الحديث 71 - أطرافه في: 7460، 7312، 3641، 3116،]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ) لَيْسَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ فِي التَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ: فِي الدِّينِ وَثَبَتَتْ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ) هُوَ سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرًا.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) قَالَ حُمَيْدٌ فِي الِاعْتِصَامِ: لِلْمُؤَلِّفِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ. وَلِمُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، زَادَ تَسْمِيَةَ جَدِّهِ

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ) هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ.

قَوْلُهُ: (خَطِيبًا) هُوَ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالِاعْتِصَامِ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَخْطُبُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: فَضْلُ النَّفَقَةِ فِي الدِّينِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُعْطِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَبْقَى عَلَى الْحَقِّ أَبَدًا. فَالْأَوَّلُ لَائِقٌ بِأَبْوَابِ الْعِلْمِ. وَالثَّانِي لَائِقٌ بِقَسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ فِي الزَّكَاةِ، وَالْمُؤَلِّفُ فِي الْخُمُسِ. وَالثَّالِثُ لَائِقٌ بِذِكْرِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الِاعْتِصَامِ لِالْتِفَاتِهِ إِلَى مَسْأَلَةِ عَدَمِ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ هُنَاكَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِأَمْرِ اللَّهِ هُنَا الرِّيحُ الَّتِي تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ.

وَقَدْ تَتَعَلَّقُ لِأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ بِأَبْوَابِ الْعِلْمِ - بَلْ بِتَرْجَمَةِ هَذَا الْبَابِ خَاصَّةً - مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْخَيْرِ لِمَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالِاكْتِسَابِ فَقَطْ، بَلْ لِمَنْ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ، وَأَنَّ مَنْ يَفْتَحِ اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا يَزَالُ جِنْسُهُ مَوْجُودًا حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَقَدْ جَزَمَ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ الْحَدِيثِ، فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَرَادَ أَحْمَدُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَمَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مُحْتَمَلٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ فِرْقَةً مِنْ أَنْوَاعِ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ يُقِيمُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ مُجَاهِدٍ وَفَقِيهٍ، وَمُحَدِّثٍ وَزَاهِدٍ، وَآمِرٍ بِالْمَعْرُوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، وَلَا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (يُفَقِّهْهُ) أَيْ: يُفَهِّمُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ سَاكِنَةُ الْهَاءِ، لِأَنَّهَا جَوَابُ الشَّرْطِ، يُقَالُ: فَقُهَ بِالضَّمِّ إِذَا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً،

ص: 164

وَفَقَهَ بِالْفَتْحِ إِذَا سَبَقَ غَيْرَهُ إِلَى الْفَهْمِ، وَفَقِهَ بِالْكَسْرِ إِذَا فَهِمَ. وَنَكَّرَ خَيْرًا لِيَشْمَلَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ. وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ - أَيْ: يَتَعَلَّمْ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْفُرُوعِ - فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَمَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ لَمْ يُبَالِ اللَّهُ بِهِ وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أُمُورَ دِينِهِ لَا يَكُونُ فَقِيهًا وَلَا طَالِبَ فِقْهٍ، فَيَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِهِ الْخَيْرُ، وَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ ظَاهِرٌ لِفَضْلِ الْعُلَمَاءِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَلِفَضْلِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ عَلَى سَائِرِ الْعُلُومِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنَ الْخُمُسِ وَالِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: لَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ، يَعْنِي بَعْضَ الْأُمَّةِ كَمَا يَجِيءُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌14 - بَاب الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ

72 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ، فَقَالَ: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَسَكَتُّ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هِيَ النَّخْلَةُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْفَهْمِ) أَيْ: فَضْلُ الْفَهْمِ (فِي الْعِلْمِ) أَيْ: فِي الْعُلُومِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَدِينِيِّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ) فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ.

قَوْلُهُ: (صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ) فِيهِ مَا كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ مِنْ تَوَقِّي الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ خَشْيَةَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَهَذِهِ كَانَتْ طَرِيقَةَ ابْنِ عُمَرَ وَوَالِدِهِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ، وَإِنَّمَا كَثُرَتْ أَحَادِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَعَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَفْتِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَتْنِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْعِلْمِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ إِحْضَارِ الْجُمَّارِ إِلَيْهِ فَهِمَ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ النَّخْلَةُ، فَالْفَهْمُ فِطْنَةٌ يَفْهَمُ بِهَا صَاحِبُهَا مِنَ الْكَلَامِ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ فَهِمَ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُخَيَّرٌ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ. وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ.

‌15 - بَاب الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ،

وَقَالَ عُمَرُ: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ

73 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا.

[الحديث 73 - أطرافه في: 7316، 7141، 1409]

ص: 165

قوله: (بَابُ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ) هو بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ) فِيهِ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ، لَكِنَّ هَذَا عَكْسُ ذَاكَ، أَوْ هُوَ مِنَ الْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا) هُوَ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ: تُجْعَلُوا سَادَةً. زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَيِ: الْبُخَارِيُّ: وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا - إِلَى قَوْلِهِ - سِنِّهِمْ. أَمَّا أَثَرُ عُمَرَ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ. فَذَكَرَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا عَقَّبَهُ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا لِيُبَيِّنَ أَنْ لَا مَفْهُومَ لَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَفْهَمَ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ السِّيَادَةَ مَانِعَةٌ مِنَ التَّفَقُّهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْمَنْعِ ; لِأَنَّ الرَّئِيسَ قَدْ يَمْنَعُهُ الْكِبْرُ وَالِاحْتِشَامُ أَنْ يَجْلِسَ مَجْلِسَ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ عَنْ عَيْبِ الْقَضَاءِ: إِنَّ الْقَاضِيَ إِذَا عُزِلَ لَا يَرْجِعُ إِلَى مَجْلِسِهِ الَّذِي كَانَ يَتَعَلَّمُ فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا تَصَدَّرَ الْحَدَثُ فَاتَهُ عِلْمٌ كَثِيرٌ. وَقَدْ فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِهِ: غَرِيبِ الْحَدِيثِ فَقَالَ: مَعْنَاهُ تَفَقَّهُوا وَأَنْتُمْ صِغَارٌ، قَبْلَ أَنْ تَصِيرُوا سَادَةً فَتَمْنَعُكُمُ الْأَنَفَةُ عَنِ الْأَخْذِ عَمَّنْ هُوَ دُونَكُمْ فَتَبْقُوا جُهَّالًا. وَفَسَّرَهُ شِمْرٌ اللُّغَوِيُّ بِالتَّزَوُّجِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَ صَارَ سَيِّدَ أَهْلِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ وُلِدَ لَهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ عُمَرُ الْكَفَّ عَنْ طَلَبِ الرِّيَاسَةِ لِأَنَّ الَّذِي يَتَفَقَّهُ يَعْرِفُ مَا فِيهَا مِنَ الْغَوَائِلِ فَيَجْتَنِبُهَا.

وَهُوَ حَمْلٌ بَعِيدٌ، إِذِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: تُسَوَّدُوا السِّيَادَةُ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ التَّزْوِيجِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَصَّصَهُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الشَّاغِلَةِ لِأَصْحَابِهَا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعَلِم. وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ مِنَ السَّوَادِ فِي اللِّحْيَةِ فَيَكُونُ أَمْرًا لِلشَّابِّ بِالتَّفَقُّهِ قَبْلَ أَنْ تَسْوَدَّ لِحْيَتُهُ، أَوْ أَمْرًا لِلْكَهْلِ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ سَوَادُ اللِّحْيَةِ إِلَى الشَّيْبِ. وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُطَابَقَةُ قَوْلِ عُمَرَ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ جَعَلَ السِّيَادَةَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْعِلْمِ، وَأَوْصَى الطَّالِبَ بِاغْتِنَامِ الزِّيَادَةِ قَبْلَ بُلُوغِ دَرَجَةِ السِّيَادَةِ. وَذَلِكَ يُحَقِّقُ اسْتِحْقَاقَ الْعِلْمِ بِأَنْ يُغْبَطَ صَاحِبُهُ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِسِيَادَتِهِ. كَذَا قَالَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ: إنَّ الرِّيَاسَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُغْبَطُ بِهَا صَاحِبُهَا فِي الْعَادَةِ لَكِنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْغِبْطَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْعِلْمِ، أَوِ الْجُودِ، وَلَا يَكُونُ الْجُودُ مَحْمُودًا إِلَّا إِذَا كَانَ بِعِلْمٍ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: تَعَلَّمُوا قَبْلَ حُصُولِ الرِّيَاسَةِ لِتُغْبَطُوا إِذَا غُبِطْتُمْ بِحَقٍّ. وَيَقُولُ أَيْضًا: إِنْ تَعَجَّلْتُمُ الرِّيَاسَةَ الَّتِي مِنْ عَادَتِهَا أَنْ تَمْنَعَ صَاحِبَهَا مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ فَاتْرُكُوا تِلْكَ الْعَادَةَ وَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتَحْصُلَ لَكُمُ الْغِبْطَةُ الْحَقِيقِيَّةُ. وَمَعْنَى الْغِبْطَةِ تَمَنِّي الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظِيرُ مَا لِلْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَسَدِ الَّذِي أُطْلِقَ فِي الْخَبَرِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِيُّ) يَعْنِي أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَ سُفْيَانَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظٍ غَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ إِسْمَاعِيلُ، وَرِوَايَةُ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْرَجَهَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْحِيدِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ:، عَنْ سَالِمٍ. وَرَوَاهَا مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَغَيْرُهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ. سَاقَهُ مُسْلِمٌ تَامًّا، وَاخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا تَامًّا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. . . فَذَكَرَهُ وَسَنَذْكُرُ مَا تَخَالَفَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ سَمِعْتُ) الْقَائِلُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَى مَا حَرَّرْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (لَا حَسَدَ) الْحَسَدُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يَتَمَنَّى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ أَعَمُّ، وَسَبَبُهُ أَنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ التَّرَفُّعِ عَلَى الْجِنْسِ، فَإِذَا رَأَى لِغَيْرِهِ مَا لَيْسَ لَهُ أَحَبَّ أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ عَنْهُ لَهُ لِيَرْتَفِعَ عَلَيْهِ، أَوْ مُطْلَقًا لِيُسَاوِيَهُ. وَصَاحِبُهُ مَذْمُومٌ إِذَا عَمِلَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ مِنْ تَصْمِيمٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَيَنْبَغِي لِمَنْ خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَكْرَهَهُ كَمَا يَكْرَهُ مَا وُضِعَ فِي طَبْعِهِ مِنْ حُبِّ

ص: 166

الْمَنْهِيَّاتِ. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَتِ النِّعْمَةُ لِكَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا حُكْمُ الْحَسَدِ بِحَسَبِ حَقِيقَتِهِ، وَأَمَّا الْحَسَدُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ الْغِبْطَةُ، وَأَطْلَقَ الْحَسَدَ عَلَيْهَا مَجَازًا، وَهِيَ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ، وَالْحِرْصُ عَلَى هَذَا يُسَمَّى مُنَافَسَةً، فَإِنْ كَانَ فِي الطَّاعَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَمِنْهُ:{فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَمِنْهُ: وَلَا تَنَافَسُوا. وَإِنْ كَانَ فِي الْجَائِزَاتِ فَهُوَ مُبَاحٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: لَا غِبْطَةَ أَعْظَمُ - أَوْ أَفْضَلُ - مِنَ الْغِبْطَةِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.

وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّ الطَّاعَاتِ إِمَّا بَدَنِيَّةٌ أَوْ مَالِيَّةٌ أَوْ كَائِنَةٌ عَنْهُمَا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْبَدَنِيَّةِ بِإِتْيَانِ الْحِكْمَةِ وَالْقَضَاءِ بِهَا وَتَعْلِيمِهَا، وَلَفْظُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ بِهِ الْعَمَلُ بِهِ مُطْلَقًا، أَعَمُّ مِنْ تِلَاوَتِهِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا وَمِنْ تَعْلِيمِهِ، وَالْحُكْمُ وَالْفَتْوَى بِمُقْتَضَاهُ، فَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ لَفْظَيِ الْحَدِيثَيْنِ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ السُّلَمِيِّ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَيَتَّبِعُ مَا فِيهِ. وَيَجُوزُ حَمْلُ الْحَسَدِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ نَفْيُ الْحَسَدِ مُطْلَقًا، لَكِنْ هَاتَانِ الْخَصْلَتَانِ مَحْمُودَتَانِ، وَلَا حَسَدَ فِيهِمَا فَلَا حَسَدَ أَصْلًا.

قَوْلُهُ: (إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ اثْنَتَيْنِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، أَيْ: لَا حَسَدَ مَحْمُودٌ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي خَصْلَتَيْنِ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: رَجُلٌ بِالرَّفْعِ، وَالتَّقْدِيرُ: خَصْلَةُ رَجُلٍ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الِاعْتِصَامِ: إِلَّا فِي اثْنَيْنِ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: رَجُلٍ بِالْخَفْضِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ أَيْ: خَصْلَةُ رَجُلَيْنِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ.

قَوْلُهُ: (مَالًا) نَكَّرَهُ لِيَشْمَلَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ.

قَوْلُهُ: (فَسُلِّطَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْبَاقِينَ فَسَلَّطَهُ، وَعَبَّرَ بِالتَّسْلِيطِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى قَهْرِ النَّفْسِ الْمَجْبُولَةِ عَلَى الشُّحِّ.

قَوْلُهُ: (هَلَكَتِهِ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْكَافِ أَيْ: إِهْلَاكِهِ، وَعَبَّرَ بِذَلِكَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبْقِي مِنْهُ شَيْئًا. وَكَمَّلَهُ بِقَوْلِهِ: فِي الْحَقِّ أَيْ: فِي الطَّاعَاتِ لِيُزِيلَ عَنْهُ إِيهَامَ الْإِسْرَافِ الْمَذْمُومِ.

قَوْلُهُ: (الْحِكْمَةُ) اللَّامُ لِلْعَهْدِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْقُرْآنُ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ كُلُّ مَا مَنَعَ مِنَ الْجَهْلِ وَزَجَرَ عَنِ الْقَبِيحِ.

(فَائِدَةٌ): زَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا الْغِبْطَةُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَفْظُهُ: فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ. أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ النُّونِ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ. فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ اسْتِوَاءُ الْعَالِمِ فِي الْمَالِ بِالْحَقِّ وَالْمُتَمَنِّي فِي الْأَجْرِ، وَلَفْظُهُ: وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَذَكَرَ فِي ضِدِّهِمَا: أَنَّهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَإِطْلَاقُ كَوْنِهِمَا سَوَاءٌ يَرُدُّ عَلَى الْخَطَّابِيِّ فِي جَزْمِهِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ إِذَا قَامَ بِشُرُوطِ الْمَالِ كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الْفَقِيرِ. نَعَمْ يَكُونُ أَفْضَلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ أَعْرَضَ وَلَمْ يَتَمَنَّ ; لَكِنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْهُ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْخَصْلَةِ فَقَطْ لَا مُطْلَقًا. وَسَيَكُونُ لَنَا عَوْدَةٌ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حَدِيثِ: الطَّاعِمِ الشَّاكِرِ كَالصَّائِمِ الصَّابِرِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌16 - بَاب مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}

ص: 167

74 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ. فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي، هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إذ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا فَأَوْحَى إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ.

[الحديث 74 - أطرافه في، 7478، 6672، 4727، 4726، 4725، 3401، 3400، 3278، 2728، 2267، 122، 78]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ) هَذَا الْبَابُ مَعْقُودٌ لِلتَّرْغِيبِ فِي احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ مَا يُغْتَبَطُ بِهِ تُحْتَمَلُ الْمَشَقَّةُ فِيهِ ; وَلِأَنَّ مُوسَى عليه الصلاة والسلام لَمْ يَمْنَعْهُ بُلُوغُهُ مِنَ السِّيَادَةِ الْمَحَلَّ الْأَعْلَى مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَرُكُوبَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لِأَجْلِهِ، فَظَهَرَ بِهَذَا مُنَاسَبَةُ هَذَا الْبَابِ لِمَا قَبْلَهُ. وَظَاهِرُ التَّبْوِيبِ أَنَّ مُوسَى رَكِبَ الْبَحْرَ لَمَّا تَوَجَّهَ فِي طَلَبِ الْخَضِرِ.

وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ خَرَجَ فِي الْبَرِّ وَسَيَأْتِي بِلَفْظِ فَخَرَجَا يَمْشِيَانِ وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَإِنَّمَا رَكِبَ الْبَحْرَ فِي السَّفِينَةِ هُوَ وَالْخَضِرُ بَعْدَ أَنِ الْتَقَيَا، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: إِلَى الْخَضِرِ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَذْفًا، أَيْ: إِلَى مَقْصِدِ الْخَضِرِ ; لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَرْكَبِ الْبَحْرَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا رَكِبَهُ تَبَعًا لِلْخَضِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ذَهَابَ مُوسَى فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَيَكُونُ فِيهِ حَذْفٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَقْصُودُ الذَّهَابِ إِنَّمَا حَصَلَ بِتَمَامِ الْقِصَّةِ، وَمِنْ تَمَامِهَا أَنَّهُ رَكِبَ مَعَهُ الْبَحْرَ، فَأَطْلَقَ عَلَى جَمِيعِهَا ذَهَابًا مَجَازًا، إِمَّا مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ أَوْ مِنْ تَسْمِيَةِ السَّبَبِ بِاسْمِ مَا تَسَبَّبَ عَنْهُ. وَحَمَلَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى أَنَّ إِلَى بِمَعْنَى مَعَ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَبَتَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ مُوسَى تَوَجَّهَ فِي الْبَحْرِ لَمَّا طَلَبَ الْخَضِرَ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ قَوِيَ عِنْدَهُ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ: فَكَانَ يَتْبَعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فَالظَّرْفُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمُوسَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْحُوتِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا جَاءَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِ، فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ أَنَّ مُوسَى الْتَقَى بِالْخَضِرِ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، انْتَهَى. وَالتَّوَصُّلُ إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ لَا يَقَعُ إِلَّا بِسُلُوكِ الْبَحْرِ غَالِبًا. وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: إِنْجَابُ الْمَاءِ عَنْ مَسْلَكِ الْحُوتِ فَصَارَ طَاقَةً مَفْتُوحَةً، فَدَخَلَهَا مُوسَى عَلَى أَثَرِ الْحُوتِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْخَضِرِ.

فَهَذَا يُوَضِّحُ أَنَّهُ رَكِبَ الْبَحْرَ إِلَيْهِ. وَهَذَانِ الْأَثَرَانِ الْمَوْقُوفَانِ رِجَالُهُمَا ثِقَاتٌ.

قَوْلُهُ: (الْآيَةَ) هُوَ بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ: فَذَكَرَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ بَاقِيَ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا) وَلِلْأَصِيلِيِّ: حَدَّثَنِي بِالْإِفْرَادِ.

قَوْلُهُ: (غُرَيْرٌ) تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّهُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرًا، وَمُحَمَّدٌ وَشَيْخُهُ وَأَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ زُهْرِيُّونَ، وَكَذَا

ص: 168

ابْنُ شِهَابٍ شَيْخُ صَالِحٍ وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَهُ) لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: حَدَّثَ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ لِأَنَّ صَالِحًا غَيْرُ مُدَلِّسٍ.

قَوْلُهُ: (تَمَارَى) أَيْ: تَجَادَلَ.

قَوْلُهُ: (وَالْحُرُّ) هُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ ذَكَرَهُ ابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُ، وَلَهُ ذِكْرٌ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا فِي قِصَّةٍ لَهُ مَعَ عُمَرَ قَالَ فِيهَا: وَكَانَ الْحُرُّ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، يَعْنِي لِفَضْلِهِمْ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ خَضِرٌ) لَمْ يَذْكُرْ مَا قَالَ الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ، وَلَا وَقَفْتُ عَلَى ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَخَضِرٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ أَوْ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ، ثَبَتَتْ بِهِمَا الرِّوَايَةُ، وَبِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيهِ، وَبِحَذْفِهِمَا. وَهَذَا التَّمَارِي الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحُرِّ غَيْرُ التَّمَارِي الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ سَعِيدِ بْنِ جبَيْرٍ، وَنَوْفٍ الْبَكَالِيِّ، فَإِنَّ هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى هَلْ هُوَ الْخَضِرُ أَوْ غَيْرُهُ. وَذَاكَ فِي مُوسَى هَلْ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ أَوْ مُوسَى بْنُ مِيشَا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ. وَسِيَاقُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِلْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَتَمُّ مِنْ سِيَاقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ لِهَذَا بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَ الْخَضِرِ بَلْيَا بِمُوَحَّدَةٍ وَلَامٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ، وَسَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ النَّقْلُ عَنْ سَبَبِ تَلْقِيبِهِ بِالْخَضِرِ، وَسَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِي نَسَبِهِ، وَهَلْ هُوَ رَسُولٌ أَوْ نَبِيٌّ فَقَطْ أَوْ مَلَكٌ بِفَتْحِ اللَّامِ أَوْ وَلِيٌّ فَقَطْ، وَهَلْ هُوَ بَاقٍ أَوْ مَاتَ؟

قَوْلُهُ: (فَدَعَاهُ) أَيْ نَادَاهُ. وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ فِيهِ حَذْفًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَقَامَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ ; لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ التَّأَدُّبُ مَعَ مَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ، وَأَخْبَارُهُ فِي ذَلِكَ شَهِيرَةٌ.

قَوْلُهُ: (إِذْ جَاءَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ.

قَوْلُهُ: (بَلَى عَبْدُنَا) أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: بَلْ بِإِسْكَانِ اللَّامِ، وَالتَّقْدِيرُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ لَا تُطْلِقِ النَّفْيَ بَلْ قُلْ خَضِرٌ. وَإِنَّمَا قَالَ عَبْدُنَا - وَإِنْ كَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ عَبْدُ اللَّهِ - لِكَوْنِهِ أَوْرَدَهُ عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ عَنِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَالْإِضَافَةُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ.

قَوْلُهُ: (يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ) فِي هَذَا السِّيَاقِ اخْتِصَارٌ يَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ شَرْحِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا نَبْغِ} أَيْ: نَطْلُبُ ; لِأَنَّ فَقْدَ الْحُوتِ جُعِلَ آيَةً أَيْ: عَلَامَةً عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْخَضِرُ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّجَادُلِ فِي الْعِلْمِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ تَعَنُّتٍ، وَالرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَالْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الصَّدُوقِ، وَرُكُوبِ الْبَحْرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بَلْ فِي طَلَبِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، وَمَشْرُوعِيَّةِ حَمْلِ الزَّادِ فِي السَّفَرِ، وَلُزُومِ التَّوَاضُعِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلِهَذَا حَرَصَ مُوسَى عَلَى الِالْتِقَاءِ بِالْخَضِرِ عليهما السلام وَطَلَبَ التَّعَلُّمَ مِنْهُ تَعْلِيمًا لِقَوْمِهِ أَنْ يَتَأَدَّبُوا بِأَدَبِهِ، وَتَنْبِيهًا لِمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ أَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَ التَّوَاضُعِ.

‌17 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ

75 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ.

[الحديث 75 - أطرافه في: 7270، 3756، 143]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ) اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْحَدِيثِ تَرْجَمَةً تَمَسُّكًا بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ جَوَازُهُ بِابْنِ عَبَّاسٍ، وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذَا لِغَيْرِ مَذْكُورٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِابْنِ عَبَّاسٍ نَفْسِهِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الَّذِيَ وَقَعَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَلَبَتِهِ لِلْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ إِنَّمَا كَانَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمَعْرُوفُ بِالْمُقْعَدِ الْبَصْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ) هُوَ ابْنُ مِهْرَانَ

ص: 169

الْحَذَّاءُ.

قَوْلُهُ: (ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم). زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي فَضْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ إِلَى صَدْرِهِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ ذَاكَ غُلَامًا مُمَيِّزًا، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ احْتِضَانِ الصَّبِيِّ الْقَرِيبِ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَقَةِ.

قَوْلُهُ: (عَلِّمْهُ الْكِتَابَ) بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَبَبَ هَذَا الدُّعَاءِ، وَلَفْظُهُ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا. زَادَ مُسْلِمٌ: فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَأُخْبِرَ وَلِمُسْلِمٍ: قَالُوا: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلِأَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ أَنَّ مَيْمُونَةَ هِيَ الَّتِي أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي بَيْتِهَا لَيْلًا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهَا عِنْدَهَا لِيَرَى صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِيَامِهِ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَفِيهِ: فَقَالَ لِي: مَا بَالُكَ؟ أَجْعَلُكَ حِذَائِي فَتَخْلُفُنِي. فَقُلْتُ: أَوَيَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ حِذَاءَكَ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَدَعَا لِي أَنْ يَزِيدَنِي اللَّهُ فَهْمًا وَعِلْمًا وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ الشَّرْعِيَّ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّعْلِيمِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ حِفْظِهِ وَالتَّفَهُّمِ فِيهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ: الْحِكْمَةُ بَدَلَ: الْكِتَابِ، وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الثَّابِتُ فِي الطُّرُقِ كُلِّهَا عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، كَذَا قَالَ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ وُهَيْبٍ، عَنْ خَالِدٍ بِلَفْظِ: الْكِتَابِ أَيْضًا، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِكْمَةِ أَيْضًا الْقُرْآنُ، فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى. وَلِلنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُوتَى الْحِكْمَةَ مَرَّتَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْوَاقِعَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنَ وَبِالْحِكْمَةِ السُّنَّةَ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ لَكِنْ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي الدِّينِ. وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ أَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ ذَكَرَهُ فِي أَطْرَافِ الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ. قُلْتُ: وَهُوَ كَمَا قَالَ.

نَعَمْ هِيَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَرَوَاهَا ابْنُ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، وَأَخْرَجَ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ عُمَرُ يَدْعُو ابْنَ عَبَّاسٍ وَيُقَرِّبُهُ وَيَقُولُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاكَ يَوْمًا فَمَسَحَ رَأْسَكَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مُسْتَغْرَبَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِدُونِهَا، وَقَدْ وَجَدْتُهَا عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ خَالِدٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ: مَسَحَ عَلَى رَأْسِي وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ مِمَّا تَحَقَّقَ إِجَابَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، لِمَا عُلِمَ مِنْ حَالِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْرِفَةِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ رضي الله عنه.

وَاخْتَلَفَ الشُّرَّاحُ فِي الْمُرَادِ بِالْحِكْمَةِ هُنَا فَقِيلَ: الْقُرْآنُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: الْعَمَلُ بِهِ، وَقِيلَ: السُّنَّةُ، وَقِيلَ: الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْخَشْيَةُ، وَقِيلَ: الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْعَقْلُ، وَقِيلَ: مَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِصِحَّتِهِ، وَقِيلَ: نُورُ يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْإِلْهَامِ وَالْوَسْوَاسِ، وَقِيلَ: سُرْعَةُ الْجَوَابِ مَعَ الْإِصَابَةِ. وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ ذَكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْفَهْمُ فِي الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 170

‌18 - بَاب مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ

76 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ.

[الحديث 76 - أطرافه في: 4412، 1857، 861، 493]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ: الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ. وَمَقْصُودُ الْبَابِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْبُلُوغَ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّحَمُّلِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنَّ مَعْنَى الصِّحَّةِ هُنَا جَوَازُ قَبُولِ مَسْمُوعِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِثَمَرَةِ الصِّحَّةِ لَا لِنَفْسِ الصِّحَّةِ. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا إِلَى اخْتِلَافِ وَقَعَ بَيْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّ يَحْيَى قَالَ: أَقَلُّ سِنِّ التَّحَمُّلِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لِكَوْنِ ابْنِ عُمَرَ رُدَّ يَوْمَ أُحُدٍ إِذْ لَمْ يَبْلُغْهَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَحْمَدَ فَقَالَ: بَلْ إِذَا عَقَلَ مَا يَسْمَعُ، وَإِنَّمَا قِصَّةُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْقِتَالِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْخَطِيبُ أَشْيَاءَ مِمَّا حَفِظَهَا جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الصِّغَرِ وَحَدَّثُوا بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقُبِلَتْ عَنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ مَعِينٍ إِنْ أَرَادَ بِهِ تَحْدِيدَ ابْتِدَاءِ الطَّلَبِ بِنَفْسِهِ فَمُوَجَّهٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ رَدَّ حَدِيثِ مَنْ سَمِعَ اتِّفَاقًا أَوِ اعْتَنَى بِهِ فَسَمِعَ وَهُوَ صَغِيرٌ فَلَا، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى قَبُولِ هَذَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرَادَ ابْنِ مَعِينٍ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ الْبَرَاءَ وَغَيْرَهُ يَوْمَ بَدْرٍ مِمَّنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَ عَشْرَةَ فَمَرْدُودٌ بِأَنَّ الْقِتَالَ يُقْصَدُ فِيهِ مَزِيدُ الْقُوَّةِ وَالتَّبَصُّرُ فِي الْحَرْبِ، فَكَانَتْ مَظِنَّتُهُ سِنَّ الْبُلُوغِ، وَالسَّمَاعُ يُقْصَدُ فِيهِ الْفَهْمُ، فَكَانَتْ مَظِنَّتُهُ التَّمْيِيزَ. وَقَدِ احْتَجَّ الْأَوْزَاعِيُّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ: مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى حِمَارٍ) هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى كَقَوْلِكَ بَعِيرٌ. وَقَدْ شَذَّ حِمَارَةٌ فِي الْأُنْثَى حَكَاهُ فِي الصِّحَاحِ. وَأَتَانٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَشَذَّ كَسْرُهَا كَمَا حَكَاهُ الصَّغَانِيُّ هِيَ الْأُنْثَى مِنَ الْحَمِيرِ، وَرُبَّمَا قَالُوا لِلْأُنْثَى: أَتَانَةٌ حَكاهُ يُونُسُ وَأَنْكَرَهُ غَيْرُهُ، فَجَاءَ فِي الرِّوَايَةِ عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى. وَحِمَارٌ أَتَانٌ بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا عَلَى النَّعْتِ أَوِ الْبَدَلِ، وَرُوِيَ بِالْإِضَافَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ فَائِدَةَ التَّنْصِيصِ عَلَى كَوْنِهَا أُنْثَى لِلِاسْتِدْلَالِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى أَنَّ الْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ لَا تَقْطَعُ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُنَّ أَشْرَفُ، وَهُوَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ، إِلَّا أَنَّ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ لَا يُدْفَعُ بِمِثْلِهِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (نَاهَزْتُ) أَيْ قَارَبْتُ، وَالْمُرَادُ بِالِاحْتِلَامِ الْبُلُوغُ الشَّرْعِيُّ.

قَوْلُهُ: (إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ) أَيْ: إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَوْرَدَهُ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي لَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبَزَّارِ بِلَفْظِ: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ لَيْسَ لِشَيْءٍ يَسْتُرُهُ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ) هُوَ مَجَازٌ عَنِ الْأَمَامِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ; لِأَنَّ الصَّفَّ لَيْسَ لَهُ يَدٌ. وَبَعْضُ الصَّفِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ صَفٌّ مِنَ الصُّفُوفِ أَوْ بَعْضٌ مِنْ أَحَدِ الصُّفُوفِ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (تَرْتَعُ) بِمُثَنَّاتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: تَأْكُلُ مَا تَشَاءُ، وَقِيلَ: تُسْرِعُ فِي الْمَشْيِ، وَجَاءَ أَيْضًا بِكَسْرِ الْعَيْنِ بِوَزْنِ يَفْتَعِلُ مِنَ الرَّعْيِ، وَأَصْلُهُ تَرْتَعِي لَكِنْ حُذِفَتِ الْيَاءُ تَخْفِيفًا، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَجِّ نَزَلْتُ عَنْهَا فَرَتَعَتْ.

قَوْلُهُ: (وَدَخَلْتُ)،

ص: 171

وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: فَدَخَلْتُ بِالْفَاءِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ) قِيلَ فِيهِ جَوَازُ تَقْدِيمِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْخَفِيفَةِ ; لِأَنَّ الْمُرُورَ مَفْسَدَةٌ خَفِيفَةٌ، وَالدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْجَوَازِ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ لِانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ إِذْ ذَاكَ، وَلَا يُقَالُ: مَنَعَ مِنَ الْإِنْكَارِ اشْتِغَالُهُمْ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الْإِنْكَارَ مُطْلَقًا فَتَنَاوَلَ مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ. وَأَيْضًا فَكَانَ الْإِنْكَارُ يُمْكِنُ بِالْإِشَارَةِ. وَفِيهِ مَا تُرْجِمَ لَهُ أَنَّ التَّحَمُّلَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْأَدَاءِ. وَيُلْحَقُ بِالصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْفَاسِقُ وَالْكَافِرُ. وَقَامَتْ حِكَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَقْرِيرُهُ مَقَامُ حِكَايَةِ قَوْلِهِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فِي شَرَائِطِ الْأَدَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: التَّقْيِيدُ بِالصَّبِيِّ وَالصَّغِيرِ فِي التَّرْجَمَةِ لَا يُطَابِقُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّغِيرِ غَيْرُ الْبَالِغِ، وَذِكْرَ الصَّبِيَّ مَعَهُ مِنْ بَابِ التَّوْضِيحِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الصَّغِيرِ يَتَعَلَّقُ بِقِصَّةِ مَحْمُودٍ، وَلَفْظُ الصَّبِيِّ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مَعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي بَاقِي مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

77 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ عَقَلْتُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ.

[الحديث 77 - أطرافه في: 6422، 6354، 1185، 839، 189،]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْبِيكَنْدِيُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الْفِرْيَابِيُّ فَلَيْسَتْ لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي مُسْهِرٍ، وَكَانَ أَبُو مُسْهِرٍ شَيْخُ الشَّامِيِّينَ فِي زَمَانِهِ، وَقَدْ لَقِيَهُ الْبُخَارِيُّ وَسَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا، وَحَدَّثَ عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ، وَذَكَرَ ابْنُ الْمُرَابِطِ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ رَشِيدٍ عَنْهُ أَنَّ أَبَا مُسْهِرٍ تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ فَإِنَّ النَّسَائِيَّ رَوَاهُ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُصَفَّى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَوْصَاءَ - وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْخَلِيلِ، وَأَبِي التَّقِيِّ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْقَافِ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ. فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ غَيْرُ أَبِي مُسْهِرٍ، رَوَوْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ فَكَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِهِ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ إِلَى الزُّهْرِيِّ شَامِيُّونَ. وَقَدْ دَخَلَهَا هُوَ وَشَيْخُهُ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ سُرَاقَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ وَحَدِيثُهُ هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ الْآتِي فِي الصَّلَاةِ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَفِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي مَحْمُودٌ.

قَوْلُهُ: (عَقَلْتُ) بِفَتْحِ الْقَافِ أَيْ: حَفِظْتُ.

قَوْلُهُ: (مَجَّةٌ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَالْمَجُّ هُوَ إِرْسَالُ الْمَاءِ مِنَ الْفَمِ، وَقِيلَ: لَا يُسَمَّى مَجًّا إِلَّا إِنْ كَانَ عَلَى بُعْدٍ. وَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَحْمُودٍ إِمَّا مُدَاعَبَةً مِنْهُ، أَوْ لِيُبَارَكَ عَلَيْهِ بِهَا كَمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ مَعَ أَوْلَادِ الصَّحَابَةِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ) لَمْ أَرَ التَّقْيِيدَ بِالسِّنِّ عِنْدَ تَحَمُّلِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ لَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْجَوَامِعِ وَالْمَسَانِيدِ إِلَّا فِي طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ هَذِهِ، وَالزُّبَيْدِيُّ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ عَنِ الزُّهْرِيِّ حَتَّى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يُفَضِّلُهُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِهِ خَطَأٌ. وَقَدْ تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، لَكِنَّ لَفْظَهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْخَطِيبِ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَمِرٍ - وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ - عَنِ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ الْوَاقِعَةَ الَّتِي ضَبَطَهَا كَانَتْ فِي آخِرِ سَنَةٍ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ

ص: 172

وَتِسْعِينَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً وَهُوَ مُطَابِقٌ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ.

وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْإِلْمَاعِ وَغَيْرِهِ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَرْبَعٍ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا صَرِيحًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَعْدَ التَّتَبُّعِ التَّامِّ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ الِاسْتِيعَابِ إِنَّهُ عَقَلَ الْمَجَّةَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ أَوْ خَمْسٍ، وَكَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا التَّرَدُّدِ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ إِنَّهُ كَانَ ابْنَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ لَمَّا مَاتَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ لِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْوَاقِدِيِّ يُمْكِنُ حَمْلُهُ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ أَلْغَى الْكَسْرَ وَجَبَرَهُ غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِذَا تَحَرَّرَ هَذَا فَقَدِ اعْتَرَضَ الْمُهَلَّبُ عَلَى الْبُخَارِيِّ لِكَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا حَدِيثَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي رُؤْيَتِهِ وَالِدَهُ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَمُرَاجَعَتِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَفِيهِ السَّمَاعُ مِنْهُ، وَكَانَ سِنُّهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعًا، فَهُوَ أَصْغَرُ مِنْ مَحْمُودٍ. وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ مَحْمُودٍ ضَبْطُهُ لِسَمَاعِ شَيْءٍ، فَكَانَ ذِكْرُ حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَوْلَى لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ. وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ نَقْلَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ لَا الْأَحْوَالِ الْوُجُودِيَّةِ، وَمَحْمُودٌ نَقَلَ سُنَّةً مَقْصُودَةً فِي كَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّ مَجَّةً فِي وَجْهِهِ، بَلْ فِي مُجَرَّدِ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ تُثْبِتُ كَوْنَهُ صَحَابِيًّا. وَأَمَّا قِصَّةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَلَيْسَ فِيهَا نَقْلُ سُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي هَذَا الْبَابِ. ثُمَّ أَنْشَدَ

وَصَاحِبُ الْبَيْتِ أَدْرَى بِالَّذِي فِيهِ

انْتَهَى. وَهُوَ جَوَابٌ مُسَدَّدٌ. وَتَكْمِلَتُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ قَبْلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِلَفْظِ السَّمَاعِ فِي التَّرْجَمَةِ هُوَ أَوْ مَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ مِنْ نَقْلِ الْفِعْلِ أَوِ التَّقْرِيرِ، وَغَفَلَ الْبَدْرُ الزَّرْكَشِيُّ، فَقَالَ: يَحْتَاجُ الْمُهَلَّبُ إِلَى ثُبُوتِ أَنَّ قِصَّةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ صَحِيحَةٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، انْتَهَى. وَالْبُخَارِيُّ قَدْ أَخْرَجَ قِصَّةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ الْمَذْكُورَةَ فِي مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ فِي الصَّحِيحِ، فَالْإِيرَادُ مُوَجَّهٌ وَقَدْ حَصَلَ جَوَابُهُ. وَالْعَجَبُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ عَلَى كِتَابِ يَغْفُلُ عَمَّا وَقَعَ فِيهِ فِي الْمَوَاضِعِ الْوَاضِحَةِ وَيَعْتَرِضُهَا بِمَا يُؤَدِّي إِلَى نَفْيِ وُرُودِهَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ دَلْوٍ) زَادَ النَّسَائِيُّ: مُعَلَّقٍ وَلِابْنِ حِبَّانَ مُعَلَّقَةٍ وَالدَّلْوُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الرِّقَاقِ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: مِنْ دَلْوٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ وَلَهُ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا: مِنْ بِئْرٍ بَدَلَ دَلْوٍ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَاءَ أُخِذَ بِالدَّلْوِ مِنَ الْبِئْرِ وَتَنَاوَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدَّلْوِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ جَوَازُ إِحْضَارِ الصِّبْيَانِ مَجَالِسَ الْحَدِيثِ وَزِيَارَةُ الْإِمَامِ أَصْحَابَهُ فِي دُوِرِهِمْ وَمُدَاعَبَتُهُ صِبْيَانَهُمْ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى تَسْمِيعِ مَنْ يَكُونُ ابْنَ خَمْسٍ، وَمَنْ كَانَ دُونَهَا يُكْتَبُ لَهُ حُضُورٌ. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ وَلَا فِي تَبْوِيبِ الْبُخَارِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلِ الَّذِي يَنْبَغِي فِي ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْفَهْمِ، فَمَنْ فَهِمَ الْخِطَابَ سَمِعَ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ابْنِ خَمْسٍ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِتَحْدِيدِ الْخَمْسِ أَنَّهَا مَظِنَّةٌ لِذَلِكَ، لَا أَنَّ بُلُوغَهَا شَرْطٌ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ ضَبْطُ الْفُقَهَاءِ سِنَّ التَّمْيِيزِ بِسِتٍّ أَوْ سَبْعٍ، وَالْمُرَجَّحُ أَنَّهَا مَظِنَّةٌ لَا تَحْدِيدٌ. وَمِنْ أَقْوَى مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَنَّ الْمَرَدَّ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَهْمِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ مَا أَوْرَدَهُ الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ: ذَهَبْتُ بِابْنِي - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ - إِلَى ابْنِ جُرَيْجٍ فَحَدَّثَهُ، قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: وَلَا بَأْسَ بِتَعْلِيمِ الصَّبِيِّ الْحَدِيثَ وَالْقُرْآنَ وَهُوَ فِي هَذَا السِّنِّ، يَعْنِي إِذَا كَانَ فَهِمًا.

وَقِصَّةُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُقْرِي الْحَافِظِ فِي تَسْمِيعِهِ لِابْنِ أَرْبَعٍ بَعْدَ أَنِ امْتَحَنَهُ بِحِفْظِ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ مَشْهُورَةٌ.

‌19 - بَاب الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ

وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ

78 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ قَاضِي حِمْصَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي

ص: 173

صَاحِبِ مُوسَى، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ فَقَالَ أُبَيٌّ: نَعَمْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ يَقُولُ: بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَتَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا، فَأَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} قَالَ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُرُوجِ) أَيِ: السَّفَرِ (فِي طَلَبِ الْعِلْمِ) لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا مَرْفُوعًا صَرِيحًا، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ الْمُصَنِّفُ لِاخْتِلَافٍ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مُصَغَّرًا هُوَ الْجُهَنِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ.

قَوْلُهُ: (فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ) هُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ حَدِيثٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شَدَدْتُ رَحْلِي، فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ: جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ. فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَخَرَجَ فَاعْتَنَقَنِي. فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ. فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ، وَتَمَّامٌ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ يَبْلُغُنِي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ فِي الْقِصَاصِ، وَكَانَ صَاحِبُ الْحَدِيثِ بِمِصْرَ، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا فَسِرْتُ حَتَّى وَرَدْتُ مِصْرَ فَقَصَدْتُ إِلَى بَابِ الرَّجُلِ. . . فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَإِسْنَادُهُ صَالِحٌ.

وَلَهُ طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ أَخْرَجَهَا الْخَطِيبُ فِي الرِّحْلَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْجَارُودِ الْعَنْسِيِّ - وَهُوَ بِالنُّونِ السَّاكِنَةِ - عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَلَغَنِي حَدِيثٌ فِي الْقِصَاصِ. . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ. وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَادَّعَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ هَذَا يَنْقُضُ الْقَاعِدَةَ الْمَشْهُورَةَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ حَيْثُ يُعَلِّقُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ يَكُونُ صَحِيحًا، وَحَيْثُ يُعَلِّقُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ يَكُونُ فِيهِ عِلَّةٌ ; لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْجَزْمِ هُنَا، ثُمَّ أَخْرَجَ طَرَفًا مِنْ مَتْنِهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، فَقَالَ:: وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ الدَّعْوَى مَرْدُودَةٌ، وَالْقَاعِدَةُ بِحَمْدِ اللَّهِ غَيْرُ مُنْتَقَضَةٍ، وَنَظَرُ الْبُخَارِيِّ أَدَقُّ مِنْ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا فَإِنَّهُ حَيْثُ ذَكَرَ الِارْتِحَالَ فَقَطْ جَزَمَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ حَسَنٌ وَقَدِ اعْتُضِدَ. وَحَيْثُ ذَكَرَ طَرَفًا مِنَ الْمَتْنِ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ، لِأَنَّ لَفْظَ الصَّوْتِ مِمَّا يُتَوَقَّفُ فِي إِطْلَاقِ نِسْبَتِهِ إِلَى الرَّبِّ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تأويل

(1)

فَلَا يَكْفِي فِيهِ مَجِيءُ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا وَلَوِ

(1)

ليس الأمر كذلك، بل إطلاق الصوت على كلام الله سبحانه قد ثبت في غير هذا الحديث عند المؤلف وغيره، فالواجب إثبات ذلك على الوجه الائق بالله كسائر الصفات كما هو مذهب أهل السنة. والله أعلم

ص: 174

اعْتُضِدَتْ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ شُفُوفُ عِلْمِهِ وَدِقَّةُ نَظَرِهِ وَحُسْنُ تَصَرُّفِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَوَهَمَ ابْنُ بَطَّالٍ فَزَعَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَحَلَ فِيهِ جَابِرٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ هُوَ حَدِيثُ السَّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ، فَإِنَّ الرَّاحِلَ فِي حَدِيثِ السَّتْرِ هُوَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رَحَلَ فِيهِ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ قَالَ: أَتَانِي جَابِرٌ، فَقَالَ لِي: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَرْوِيهِ فِي السَّتْرِ. . فَذَكَرَهُ. وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَنْ ذَكَرَهُ، فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ رَحَلَ إِلَى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ بِمِصْرَ فِي حَدِيثٍ. وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: بَلَغَنِي حَدِيثٌ عِنْدَ عَلِيٍّ فَخِفْتُ إِنْ مَاتَ أَنْ لَا أَجِدَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَرَحَلْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الْعِرَاقَ. وَتَتَبُّعُ ذَلِكَ يَكْثُرُ، وَسَيَأْتِي قَوْلُ الشَّعْبِيُّ فِي مَسْأَلَةِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرْحَلُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَأَرْحَلُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ. وَسَيَأْتِي نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ ; لِأَنَّهُ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فَلَمْ يُقْنِعْهُ حَتَّى رَحَلَ، فَأَخَذَهُ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَسَيَأْتِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ.

وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا نَرْضَى حَتَّى خَرَجْنَا إِلَيْهِمْ فَسَمِعْنَا مِنْهُمْ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ يَلْزَمُ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ كَثِيرٌ، أَوْ يَرْحَلُ؟ قَالَ: يَرْحَلُ، يَكْتُبُ عَنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، فَيُشَافِهُ النَّاسَ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ. وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ. وَفِيهِ جَوَازُ اعْتِنَاقِ الْقَادِمِ حَيْثُ لَا تَحْصُلُ الرِّيبَةُ.

قَوْلُهُ: (خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ) هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَإِنَّمَا أَعَدْتُهُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الزَّرْكَشِيِّ مَضْبُوطًا بِلَامٍ مُشَدَّدَةٍ، وَهُوَ سَبْقُ قَلَمٍ أَوْ خَطَأٌ مِنَ النَّاسِخِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ) سَقَطَتْ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ فَعَطَفَ عَلَى الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ بِغَيْرِ تَأْكِيدٍ وَلَا فَصْلٍ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْبَعْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ قَبْلُ بِبَابَيْنِ، وَلَيْسَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اخْتِلَافٌ إِلَّا فِيمَا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى وَهُوَ قَلِيلٌ. وَفِيهِ فَضْلُ الِازْدِيَادِ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَوْ مَعَ الْمَشَقَّةِ وَالنَّصَبِ بِالسَّفَرِ، وَخُضُوعُ الْكَبِيرِ لِمَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} وَمُوسَى عليه السلام مِنْهُمْ، فَتَدْخُلُ أُمَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا فِيمَا ثَبَتَ نَسْخُهُ.

‌20 - بَاب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ

79 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتْ الْمَاءَ قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ، وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنْ الْأَرْضِ

ص: 175

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ) الْأُولَى بِكَسْرِ اللَّامِ الْخَفِيفَةِ، أَيْ: صَارَ عَالِمًا، وَالثَّانِيَةُ بِفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) هُوَ أَبُو كُرَيْبٍ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرُ مِنِ اسْمِهِ، وَكَذَا شَيْخُهُ أَبُو أُسَامَةَ، وَبُرَيْدٌ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَأَبُو بُرْدَةَ جَدُّهُ وَهُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. وَقَالَ فِي السِّيَاقِ: عَنْ أَبِي مُوسَى، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ أَبِيهِ تَفَنُّنًا، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (مَثَلُ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الصِّفَةُ الْعَجِيبَةُ لَا الْقَوْلُ السَّائِرُ.

قَوْلُهُ: (الْهُدَى) أَيِ: الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَالْعِلْمُ الْمُرَادُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (نَقِيَّةٌ) كَذَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا بِالنُّونِ مِنَ النَّقَاءِ وَهِيَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ الْخَطَّابِيِّ، وَالْحُمَيْدِيِّ وَفِي حَاشِيَةِ أَصْلِ أَبِي ذَرٍّ ثَغِبَةٌ بِمُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ خَفِيفَةٌ مَفْتُوحَةٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هِيَ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ فِي الْجِبَالِ وَالصُّخُورِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا غَلَطٌ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِحَالَةٌ لِلْمَعْنَى ; لِأَنَّ هَذَا وَصْفُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى الَّتِي تَنْبُتُ، وَمَا ذَكَرَهُ يَصْلُحُ وَصْفًا لِلثَّانِيَةِ الَّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ. قَالَ: وَمَا ضَبَطْنَاهُ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ جَمِيعِ الطُّرُقِ إِلَّا نَقِيَّةٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي مُسْلِمٍ: طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ. قُلْتُ: وَهُوَ فِي جَمِيعِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَفِي كِتَابِ الزَّرْكَشِيِّ. وَرُوِيَ: بُقْعَةٌ قُلْتُ: هُوَ بِمَعْنَى طَائِفَةٍ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ. ثُمَّ قَرَأْتُ فِي شَرْحِ ابْنِ رَجَبٍ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ بِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ النُّونِ قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهَا الْقِطْعَةُ الطَّيِّبَةُ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ بَقِيَّةُ النَّاسِ، وَمِنْهُ:{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ}

قَوْلُهُ: (قَبِلَتْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْقَبُولِ، كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ: قَيَّلَتْ بِالتَّحْتَانِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (الْكَلَأَ) بِالْهَمْزَةِ بِلَا مَدٍّ.

قَوْلُهُ: (وَالْعُشْبَ) هُوَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ ; لِأَنَّ الْكَلَأَ يُطْلَقُ عَلَى النَّبْتِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ مَعًا، وَالْعُشْبُ لِلرَّطْبِ فَقَطْ.

قَوْلُهُ: (إِخَاذَاتٌ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَآخِرُهُ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقُ قَبْلَهَا أَلِفٌ جَمْعُ إِخَاذَةٍ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَكَذَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَجَادِبُ بِالْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ جَمْعُ جَدَبٍ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَهِيَ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ الَّتِي لَا يَنْضُبُ مِنْهَا الْمَاءُ. وَضَبَطَهُ الْمَازِرِيُّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. وَوَهَّمَهُ الْقَاضِي. وَرَوَاهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ: أَحَارِبُ بِحَاءٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَمْ يَضْبِطْهُ أَبُو يَعْلَى. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِشَيْءٍ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَجَارِدُ بِجِيمٍ وَرَاءٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ جَمْعُ جَرْدَاءَ وَهِيَ الْبَارِزَةُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى إِنْ سَاعَدَتْهُ الرِّوَايَةُ. وَأَغْرَبَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ فَجَعَلَ الْجَمِيعَ رِوَايَاتٍ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ سِوَى رِوَايَتَيْنِ فَقَطْ، وَكَذَا جَزَمَ الْقَاضِي.

قَوْلُهُ: (فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا) أَيْ بِالْإِخَاذَاتِ. وَلِلْأَصِيلِيِّ بِهِ أَيْ بِالْمَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَزَرَعُوا) كَذَا لَهُ بِزِيَادَةِ زَايٍ مِنَ الزَّرْعِ، وَوَافَقَهُ أَبُو يَعْلَى، وَيَعْقُوبُ بْنُ الْأَخْرَمِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، وَلِمُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ: وَرَعَوْا بِغَيْرِ زَايٍ مِنَ الرَّعْيِ، قَالَ النَّوَوِيُّ. كِلَاهُمَا صَحِيحٌ. وَرَجَّحَ الْقَاضِي رِوَايَةَ مُسْلِمٍ بِلَا مُرَجِّحٍ ; لِأَنَّ رِوَايَةَ زَرَعُوا تَدُلُّ عَلَى مُبَاشَرَةِ الزَّرْعِ لِتُطَابِقَ فِي التَّمْثِيلِ مُبَاشَرَةَ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ رَعَوْا مُطَابِقَةً لِقَوْلِهِ: أَنْبَتَتْ، لَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْإِنْبَاتِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ رُوِيَ: وَوَعَوْا بِوَاوَيْنِ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: وَرَعَوْا رَاجِعٌ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا نَبَاتٌ، انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الثَّانِيَةِ أَيْضًا بِمَعْنَى أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي اسْتَقَرَّ بِهَا سُقِيَتْ مِنْهُ أَرْضٌ أُخْرَى فَأَنْبَتَتْ.

قَوْلُهُ: (فَأَصَابَ) أَيِ: الْمَاءُ. وَلِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ أَصَابَتْ أَيْ: طَائِفَةٌ أُخْرَى. وَوَقَعَ كَذَلِكَ صَرِيحًا عِنْدَ النَّسَائِيِّ. وَالْمُرَادُ

ص: 176

بِالطَّائِفَةِ الْقِطْعَةُ.

قَوْلُهُ: (قِيعَانٌ) بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قَاعٍ وَهُوَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْمَلْسَاءُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ.

قَوْلُهُ: (فَقُهَ) بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ صَارَ فَقِيهًا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: رُوِّينَاهُ بِكَسْرِهَا وَالضَّمُّ أَشْبَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ مَثَلًا بِالْغَيْثِ الْعَامِّ الَّذِي يَأْتِي فِي حَالِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَكَذَا كَانَ النَّاسُ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، فَكَمَا أَنَّ الْغَيْثَ يُحْيِي الْبَلَدَ الْمَيِّتَ، فَكَذَا عُلُومُ الدِّينِ تُحْيِي الْقَلْبَ الْمَيِّتَ. ثُمَّ شَبَّهَ السَّامِعِينَ لَهُ بِالْأَرْضِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَنْزِلُ بِهَا الْغَيْثُ، فَمِنْهُمُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْمُعَلِّمُ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ شَرِبَتْ فَانْتَفَعَتْ فِي نَفْسِهَا وَأَنْبَتَتْ فَنَفَعَتْ غَيْرَهَا. وَمِنْهُمُ الْجَامِعُ لِلْعِلْمِ الْمُسْتَغْرِقِ لِزَمَانِهِ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِنَوَافِلِهِ أَوْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِيمَا جَمَعَ لَكِنَّهُ أَدَّاهُ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ الَّتِي يَسْتَقِرُّ فِيهَا الْمَاءُ فَيَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ الْعِلْمَ فَلَا يَحْفَظُهُ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ وَلَا يَنْقُلُهُ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ السَّبْخَةِ أَوِ الْمَلْسَاءِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْمَاءَ أَوْ تُفْسِدُهُ عَلَى غَيْرِهَا. وَإِنَّمَا جَمَعَ في الْمَثَلَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ الْمَحْمُودَتَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِانْتِفَاعِ بِهِمَا، وَأَفْرَدَ الطَّائِفَةَ الثَّالِثَةَ الْمَذْمُومَةَ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ فِي كُلِّ مَثَلٍ طَائِفَتَيْنِ، فَالْأَوَّلُ قَدْ أَوْضَحْنَاهُ، وَالثَّانِي الْأُولَى مِنْهُ مَنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ وَلَمْ يَسْمَعِ الْعِلْمَ أَوْ سَمِعَهُ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ، وَمِثَالُهَا مِنَ الْأَرْضِ السِّبَاخُ وَأُشِيرَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهُ فَلَمْ يَنْتَفِعْ به وَلَا نَفَعَ. وَالثَّانِيَةُ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الدِّينِ أَصْلًا، بَلْ بَلَغَهُ فَكَفَرَ بِهِ، وَمِثَالُهَا مِنَ الْأَرْضِ الصَّمَّاءِ الْمَلْسَاءِ الْمُسْتَوِيَةِ الَّتِي يَمُرُّ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَأُشِيرَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي جِئْتُ بِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بَقِيَ مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا الَّذِي انْتَفَعَ بِالْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ غَيْرَهُ، وَالثَّانِي مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ فِي نَفْسِهِ وَعَلَّمَهُ غَيْرَهُ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ دَاخِلٌ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ النَّفْعَ حَصَلَ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُهُ، وَكَذَلِكَ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، فَمِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِ وَمِنْهُ مَا يَصِيرُ هَشِيمًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ كَانَ عَمِلَ الْفَرَائِضَ وَأَهْمَلَ النَّوَافِلَ فَقَدْ دَخَلَ فِي الثَّانِي كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَإِنْ تَرَكَ الْفَرَائِضَ أَيْضًا فَهُوَ فَاسِقٌ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ عَنْهُ، وَلَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ: مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتْ) أَيْ: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ. أَيْ: إِنَّ إِسْحَاقَ وَهُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ حَيْثُ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ خَالَفَ فِي هَذَا الْحَرْفِ. قَالَ الْأَصِيلِيُّ: هُوَ تَصْحِيفٌ مِنْ إِسْحَاقَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هُوَ صَوَابٌ وَمَعْنَاهُ شَرِبَتْ، وَالْقَيْلُ شُرْبُ نِصْفِ النَّهَارِ، يُقَالُ: قَيَّلَتِ الْإِبِلُ أَيْ شَرِبَتْ فِي الْقَائِلَةِ. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَخْتَصُّ بِشُرْبِ الْقَائِلَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَوْنَ هَذَا أَصْلُهُ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ تَجَوُّزًا. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: قَيَّلَ الْمَاءُ فِي الْمَكَانِ الْمُنْخَفِضِ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ، وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا بِأَنَّهُ يُفْسِدُ التَّمْثِيلَ ; لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْمَاءِ إِنَّمَا هُوَ مِثَالُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْكَلَامُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْأُولَى الَّتِي شَرِبَتْ وَأَنْبَتَتْ. قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ.

قَوْلُهُ: (قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ. وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ) هَذَا ثَابِتٌ عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي، وَأَرَادَ بِهِ أَنَّ قِيعَانَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ جَمْعُ قَاعٍ وَأَنَّهَا الْأَرْضُ الَّتِي يَعْلُوهَا الْمَاءُ وَلَا يَسْتَقِرُّ فِيهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الصَّفْصَفَ مَعَهُ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ فِي الِاعْتِنَاءِ بِتَفْسِيرِ مَا يَقَعُ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ يَسْتَطْرِدُ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصْطَفُّ بَدَلَ الصَّفْصَفِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ شَيْخُنَا الْعِرَاقِيُّ يُرَجِّحُهَا وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: وَقَالَ إِسْحَاقُ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ. وَهَذَا يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ.

ص: 177

‌21 - بَاب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ.

وقال رَبِيعَةُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ

80 -

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا"

[الحديث 80 - اطرافه في: 6808، 5577، 5232، 81]

قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْعِلْمِ) مَقْصُودُ الْبَابِ الْحَثُّ عَلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَا يُرْفَعُ إِلَّا بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَيَأْتِي صَرِيحًا. وَمَا دَامَ مَنْ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مَوْجُودًا لَا يَحْصُلُ الرَّفْعُ. وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ رَفْعَهُ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ رَبِيعَةُ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ الْمَدَنِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِرَبِيعَةَ الرَّأْيِ - بِإِسْكَانِ الْهَمْزَةِ - قِيلَ لَهُ: ذَلِكَ لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ بِالِاجْتِهَادِ. وَمُرَادُ رَبِيعَةَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِيهِ فَهْمٌ وَقَابِلِيَّةٌ لِلْعِلْمِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُهْمِلَ نَفْسَهُ فَيَتْرُكَ الِاشْتِغَالَ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى رَفْعِ الْعِلْمِ. أَوْ مُرَادُهُ الْحَثُّ عَلَى نَشْرِ الْعِلْمِ فِي أَهْلِهِ لِئَلَّا يَمُوتَ الْعَالِمُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيُؤَدِّيَ إِلَى رَفْعِ الْعِلْمِ. أَوْ مُرَادُهُ أَنْ يُشْهِرَ الْعَالِمُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّى لِلْأَخْذِ عَنْهُ لِئَلَّا يَضِيعَ عِلْمُهُ. وَقِيلَ: مُرَادُهُ تَعْظِيمُ الْعِلْمِ وَتَوْقِيرُهُ، فَلَا يُهِينُ نَفْسَهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ عَرَضًا لِلدُّنْيَا. وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ ; لَكِنَّ اللَّائِقَ بِتَبْوِيبِ الْمُصَنِّفِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ وَصَلَ أَثَرَ رَبِيعَةَ الْمَذْكُورَ الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُوَيْسِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ) فِي بَعْضِهَا عِمْرَانُ غَيْرُ مَذْكُورِ الْأَبِ، وَقَدْ عُرِفَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ ابْنُ مَيْسَرَةَ. وَقَدْ خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى الْقَزَّازِ، وَلَيْسَ هُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ (عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ) بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ فَوْقَانِيَّةٍ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ، وَأَبُو ذَرٍّ: ابْنَ مَالِكٍ، وَلِلنَّسَائِيِّ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ. وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ، وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (أَشْرَاطُ السَّاعَةِ) أَيْ: عَلَامَاتُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ) هُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ لِأَنَّهُ اسْمُ أَنَّ، وَسَقَطَتْ أن مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ حَيْثُ أَخْرَجَهُ عَنْ عِمْرَانَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَعَلَى رِوَايَتِهِ يَكُونُ مَرْفُوعَ الْمَحَلِّ. وَالْمُرَادُ بِرَفْعِهِ مَوْتُ حَمَلَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (وَيَثْبُتُ) هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَيُبَثُّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ أَيْ تَنْتَشِرُ. وَغَفَلَ الْكِرْمَانِيُّ فَعَزَاهَا لِلْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا حَكَاهَا النَّوَوِيُّ فِي الشَّرْحِ لِمُسْلِمٍ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَفِي رِوَايَةِ: وَيَنْبُتُ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمُثَلَّثَةِ مِنَ النَّبَاتِ، وَحَكَى ابْنُ رَجَبٍ عَنْ بَعْضِهِمْ: وَيَنُثُّ بِنُونٍ وَمُثَلَّثَةٍ مِنَ النَّثِّ وَهُوَ الْإِشَاعَةُ. قُلْتُ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَيُشْرَبُ الْخَمْرُ) هُوَ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ أَوَّلَهُ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الْعَطْفِ، وَالْمُرَادُ كَثْرَةُ ذَلِكَ وَاشْتِهَارُهُ. وَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ: وَيَكْثُرُ شُرْبُ الْخَمْرِ فَالْعَلَامَةُ مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ.

قَوْلُهُ: (وَيَظْهَرُ الزِّنَا) أَيْ: يَفْشُو كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.

81 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ قَالَ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ

ص: 178

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ). زَادَ الْأَصِيلِيُّ: ابْنَ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (لَأُحَدِّثَنَّكُمْ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُوَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَاللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ، وَصَرَّحَ بِهِ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُمْ أَوَّلًا: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ؟ فَقَالَوا: نَعَمْ، فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ.

قَوْلُهُ: (لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي) كَذَا لَهُ وَلِمُسْلِمٍ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ: لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ أَحَدٌ بَعْدِي، وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ غَيْرِي، وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدِي وَعَرَفَ أَنَسٌ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ آخِرَ مَنْ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَلَعَلَّ الْخِطَابَ بِذَلِكَ كَانَ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، أَوْ كَانَ عَامًّا وَكَانَ تَحْدِيثُهُ بِذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا النَّادِرَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَتْنُ فِي مَرْوِيِّهِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنَ التَّغْيِيرِ وَنَقْصِ الْعِلْمِ، يَعْنِي فَاقْتَضَى ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لِفَسَادِ الْحَالِ لَا يُحَدِّثُهُمْ أَحَدٌ بِالْحَقِّ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ) هُوَ بَيَانٌ، أَوْ بَدَلٌ لِقَوْلِهِ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ) هُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ مِنَ الْقِلَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ غُنْدَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ شُعْبَةَ: أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَمَّامٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْحُدُودِ وَهِشَامٍ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أَبِي التَّيَّاحِ، وَلِلْمُصَنِّفِ أَيْضًا فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ: أَنْ يَقِلَّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقِلَّتِهِ أَوَّلَ الْعَلَامَةِ وَبِرَفْعِهِ آخِرَهَا، أَوْ أُطْلِقَتِ الْقِلَّةُ وَأُرِيدَ بِهَا الْعَدَمُ كَمَا يُطْلَقُ الْعَدَمُ وَيُرَادُ بِهِ الْقِلَّةُ، وَهَذَا أَلْيَقُ لِاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ.

قَوْلُهُ: (وَتَكْثُرُ النِّسَاءُ) قِيلَ: سَبَبُهُ أَنَّ الْفِتَنَ تَكْثُرُ فَيَكْثُرُ الْقَتْلُ فِي الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ دُونَ النِّسَاءِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ الْفُتُوحِ فَتَكْثُرُ السَّبَايَا فَيَتَّخِذُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ عِدَّةَ مَوْطُوآتٍ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْقِلَّةِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْآتِي فِي الزَّكَاةِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فَقَالَ: مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ لَا لِسَبَبٍ آخَرَ، بَلْ يُقَدِّرُ اللَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَنْ يَقِلَّ مَنْ يُولَدُ مِنَ الذُّكُورِ، وَيَكْثُرُ مَنْ يُولَدُ مِنَ الْإِنَاثِ، وَكَوْنُ كَثْرَةِ النِّسَاءِ مِنَ الْعَلَامَاتِ مُنَاسِبَةٌ لِظُهُورِ الْجَهْلِ وَرَفْعِ الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ: لِخَمْسِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَقِيقَةُ هَذَا الْعَدَدِ، أَوْ يَكُونَ مَجَازًا عَنِ الْكَثْرَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: وَتَرَى الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً.

قَوْلُهُ: (الْقَيِّمُ) أَيْ: مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِنَّ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ إِشْعَارًا بِمَا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْ كَوْنِ الرِّجَالِ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا مُشْعِرَةً بِاخْتِلَالِ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْصُلُ بِحِفْظِهَا صَلَاحُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ الدِّينُ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْعِلْمِ يُخِلُّ بِهِ، وَالْعَقْلُ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ يُخِلُّ بِهِ، وَالنَّسَبُ؛ لِأَنَّ الزِّنَا يُخِلُّ بِهِ، وَالنَّفْسُ وَالْمَالُ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْفِتَنِ تُخِلُّ بِهِمَا. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ اخْتِلَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُؤْذِنًا بِخَرَابِ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ لَا يُتْرَكُونَ هَمَلًا، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللَّهُ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، إِذْ أَخْبَرَ عَنْ أُمُورٍ سَتَقَعُ فَوَقَعَتْ، خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَيِّمِ مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِنَّ سَوَاءٌ كُنَّ مَوْطُوآتٍ أَمْ لَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الزَّمَانِ الَّذِي لَا يَبْقَى فِيهِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ، فَيَتَزَوَّجُ الْوَاحِدُ بِغَيْرِ عَدَدٍ جَهْلًا بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. قُلْتُ: وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ أُمَرَاءِ التُّرْكُمَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مَعَ دَعْوَاهُ الْإِسْلَامَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

ص: 179

‌22 - بَاب فَضْلِ الْعِلْمِ

82 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعِلْمَ.

[الحديث 82 - أطرافه في: 7032، 7027، 7007، 7006، 3681]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْعِلْمِ) الْفَضْلُ هُنَا بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ، أَيْ مَا فَضَلَ عَنْهُ، وَالْفَضْلُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْفَضِيلَةِ، فَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ كَرَّرَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ) هُوَ سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ الْمِصْرِيُّ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَعُفَيْرٌ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) هُوَ ابْنُ سَعْيدٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، وَلِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ حَمْزَةَ) وَلِلْمُصَنِّفِ فِي التَّعْبِيرِ: أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَا) أَصْلُهُ بَيْنَ فَأُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ.

قَوْلُهُ: (أُوتِيتُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ.

قَوْلُهُ: (فَشَرِبْتُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ.

قَوْلُهُ: (لَأَرَى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنَ الرِّوَايَةِ أَوْ مِنَ الْعِلْمِ، وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالرِّيُّ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي الرِّوَايَةِ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ الْفَتْحَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بِالْكَسْرِ: الْفِعْلُ، وَبِالْفَتْحِ: الْمَصْدَرُ.

قَوْلُهُ: (يَخْرُجُ) أَيِ: الرِّيُّ، وَأَطْلَقَ رُؤْيَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ.

قَوْلُهُ: (فِي أَظْفَارِي) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ: مِنْ أَظْفَارِي وَهُوَ أَبْلَغُ، وَفِي التَّعْبِيرِ: مِنْ أَطْرَافِي وَهُوَ بِمَعْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْعِلْمَ) هُوَ بِالنَّصْبِ وَبِالرَّفْعِ مَعًا فِي الرِّوَايَةِ، وَتَوْجِيهُهُمَا ظَاهِرٌ. وَتَفْسِيرُ اللَّبَنِ بِالْعِلْمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي كَثْرَةِ النَّفْعِ بِهِمَا. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ وَفِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ الْفَضِيلَةِ لِلْعِلْمِ فِي الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَضْلَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَصِيبٌ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ، وَنَاهِيكَ بِذَلِكَ، انْتَهَى. وَهَذَا قَالَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَضْلِ الْفَضِيلَةُ، وَغَفَلَ عَنِ النُّكْتَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

‌23 - بَاب الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا

83 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ: اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ، فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فنحرت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ. فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ.

[الحديث 83 - طرفه في، 6665، 1738، 1737، 1736، 124،]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْفُتْيَا) هُوَ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَإِنْ قُلْتُ: الْفَتْوَى فَتَحْتُهَا، وَالْمَصَادِرُ الْآتِيَةُ بِوَزْنِ فُتْيَا قَلِيلَةٌ مِثْلُ تُقْيَا وَرُجْعَى.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ) أَيِ: الْمُفْتِي، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْعَالِمَ يُجِيبُ سُؤَالَ الطَّالِبِ وَلَوْ كَانَ رَاكِبًا.

قَوْلُهُ: (عَلَى الدَّابَّةِ) الْمُرَادُ بِهَا فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَا مَشَى عَلَى الْأَرْضِ، وَفِي الْعُرْفِ مَا يُرْكَبُ. وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّرْجَمَةِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعُرْفِ خَصَّهَا بِالْحِمَارِ، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ ذِكْرُ الرُّكُوبِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَحَالَ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأُخْرَى الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي الْحَجِّ،

ص: 180

فَقَالَ: كَانَ عَلَى نَاقَتِهِ تَرْجَمَ لَهُ: بَابُ الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ فَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، فَذَكَرَهُ كَالَّذِي هُنَا، ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاقَتِهِ. قَالَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ وَقَالَ بَعْدَهُ: تَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، انْتَهَى. وَرِوَايَةُ مَعْمَرٍ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ وَفِيهَا: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى عَلَى نَاقَتِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (حَجَّةُ الْوَدَاعِ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا.

قَوْلُهُ: (لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ) هُوَ إِمَّا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ وَقَفَ أَوْ مِنَ النَّاسِ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانًا لِسَبَبِ الْوُقُوفِ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَ رَجُلٌ) لَمْ أَعْرِفِ اسْمَ هَذَا السَّائِلِ وَلَا الَّذِي بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: فَجَاءَ آخَرُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ لَمْ يُسَمِّ أَحَدًا لِكَثْرَةِ مَنْ سَأَلَ إِذْ ذَاكَ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (وَلَا حَرَجَ) أَيْ: لَا شَيْءَ عَلَيْك مُطْلَقًا مِنَ الْإِثْمِ، لَا فِي التَّرْتِيبِ وَلَا فِي تَرْكِ الْفِدْيَةِ. هَذَا ظَاهِرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْمُرَادُ نَفْيُ الْإِثْمِ فَقَطْ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ: وَلَمْ يَأْمُرْ بِكَفَّارَةٍ، وَسَيَأْتِي مَبَاحِثُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ.

‌24 - بَاب مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ

84 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ، فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ، قَالَ: وَلَا حَرَجَ، قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلَا حَرَجَ.

[الحديث 84 - أطرافه في: 6666، 1735، 1734، 1723، 1722، 1721]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ أَوِ الرَّأْسِ) الْإِشَارَةُ بِالْيَدِ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي بَابِ أَوَّلًا، وَهُمَا مَرْفُوعَانِ. وَبِالرَّأْسِ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ فَقَطْ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ عَائِشَةَ، فَيَكُونُ مَوْقُوفًا لَكِنْ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ فِي الصَّلَاةِ يَرَى مَنْ خَلْفَهُ فَيَدْخُلُ فِي التَّقْرِيرِ.

قَوْلُهُ: (وُهَيْبٌ) بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ ابْنُ خَالِدٍ، مِنْ حُفَّاظِ الْبَصْرَةِ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: تِسْعٍ وَسِتِّينَ، وَأَرَّخَهُ الدِّمْيَاطِيُّ فِي حَوَاشِي نُسْخَتِهِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَهُوَ وَهْمٌ. وَأَيُّوبُ هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَعِكْرِمَةُ هُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (سُئِلَ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ (فَقَالَ) أَيِ: السَّائِلُ: (ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ) أَيْ: فَهَلْ عَلَيَّ شَيْءٌ؟

قَوْلُهُ: (فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ، فَقَالَ: لَا حَرَجَ) أَيْ: عَلَيْكَ. وَقَوْلُهُ: فَقَالَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ أَوْمَأَ، وَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ: فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا وَالتَّقْدِيرُ: فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَائِلًا: لَا حَرَجَ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَالنُّطْقِ، وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِتَرْجَمَةِ الْمُصَنِّفِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: حَلَقْتُ) يُحْتَمَلُ أَنَّ السَّائِلَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَقَالَ: سَائِلٌ كَذَا، وَقَالَ آخَرُ كَذَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِيُوَافِقَ الرِّوَايَةَ الَّتِي قَبْلَهُ حَيْثُ قَالَ: فَجَاءَ آخَرُ.

قَوْلُهُ: (فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلَا حَرَجَ) كَذَا ثَبَتَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا حَرَجَ، وَلَيْسَتْ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي عَطْفٌ عَلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا. انْتَهَى. وَقَدْ ثَبَتَتِ الْوَاوُ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ.

ص: 181

85 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ.

[الحديث 85 - أطرافه في: 7121، 7115، 7061، 6935، 6506، 6037، 4636، 4635، 3609، 3608، 1412، 1036]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ) هُوَ اسْمٌ وَلَيْسَ بِنَسَبٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ إِثْمِ مَنْ كَذَبَ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ) هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ الْمَدَنِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَالِمٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّاوِي عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا، وَزَادَ فِيهِ: لَا أَدْرِي كَمْ رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَائِمًا فِي السُّوقِ يَقُولُ: يُقْبَضُ الْعِلْمُ فَذَكَرَهُ مَوْقُوفًا، لَكِنْ ظَهَرَ فِي آخِرِهِ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ.

قَوْلُهُ: (يُقْبَضُ الْعِلْمُ) يُفَسَّرُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا: يُرْفَعُ الْعِلْمُ وَالْقَبْضُ يُفَسِّرُهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْآتِي بَعْدَ أَنَّهُ يَقَعُ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ) هُوَ مِنْ لَازِمِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَالْفِتَنُ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ: وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ.

قَوْلُهُ: (الْهَرْجُ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا جِيمٌ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ) هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ.

قَوْلُهُ: (فَحَرَّفَهَا) الْفَاءُ فِيهِ تَفْسِيرِيَّةٌ كَأَنَّ الرَّاوِيَ بَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَاءَ كَانَ مُحَرَّفًا.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ) كَأَنَّ ذَلِكَ فُهِمَ مِنْ تَحْرِيفِ الْيَدِ وَحَرَكَتِهَا كَالضَّارِبِ ; لَكِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَمْ أَرَهَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ وَكَأَنَّهَا مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي عَنْ حَنْظَلَةَ، فَإِنَّ أَبَا عَوَانَةَ رَوَاهُ عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَأَرَانَا أَبُو عَاصِمٍ كَأَنَّهُ يَضْرِبُ عُنُقَ الْإِنْسَانِ وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْهَرْجُ هُوَ الْفِتْنَةُ، فَإِرَادَةُ الْقَتْلِ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ إِذْ هُوَ لَازِمُ مَعْنَى الْهَرْجِ، قَالَ: إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ وُرُودُ الْهَرْجِ بِمَعْنَى الْقَتْلِ لُغَةً. قُلْتُ: وَهِيَ غَفْلَةٌ عَمَّا فِي الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ. وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

86 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ. قُلْتُ: آيَةٌ، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا - أَيْ: نَعَمْ - فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلَّانِي الْغَشْيُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي الْمَاءَ، فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ. فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ - أَوْ: قَرِيبَ، لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ - أَوْ: الْمُوقِنُ، لَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلَاثًا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ - أَوْ: الْمُرْتَابُ، لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ.

[الحديث 86 - أطرافه في: 7287، 2520، 2519، 1373، 1235، 1061، 1054، 1053، 922، 184]

ص: 182

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. عَنْ (فَاطِمَةَ) هِيَ بِنْتُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهِيَ زَوْجُة هِشَامٍ وَبِنْتُ عَمِّهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَسْمَاءَ) أَيْ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ زَوْجِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَهِيَ جَدَّةُ هِشَامٍ وَفَاطِمَةَ جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ) أَيْ: لِمَا رَأَيتْ مِنَ اضْطِرَابِهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَأَشَارَتْ) أَيْ عَائِشَةُ إِلَى السَّمَاءِ، أَيِ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ) كَأَنَّهَا الْتَفَتَتْ مِنْ حُجْرَةِ عَائِشَةَ إِلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ فَوَجَدَتْهُمْ قِيَامًا فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، فَفِيهِ إِطْلَاقُ النَّاسِ عَلَى الْبَعْضِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهُ) أَيْ: أَشَارَتْ قَائِلَةً: سُبْحَانَ اللَّهُ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: آيَةٌ) هُوَ بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ آيَةٌ، أَيْ: عَلَامَةٌ، وَيَجُوزُ حَذْفُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَإِثْبَاتُهَا.

قَوْلُهُ: (فَقُمْتُ)، أَيْ: فِي الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى عَلَانِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: تَجَلَّانِي بِمُثَنَّاةٍ وَجِيمٍ وَلَامٍ مُشَدَّدَةٍ، وَجِلَالُ الشَّيْءِ مَا غُطِّيَ بِهِ. وَالْغَشْيُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَبِكَسْرِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْضًا هُوَ طَرَفٌ مِنَ الْإِغْمَاءِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَالَةُ الْقَرِيبَةُ مِنْهُ، فَأَطْلَقَتْهُ مَجَازًا، وَلِهَذَا قَالَتْ: فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي الْمَاءَ، أَيْ: فِي تِلْكَ الْحَالِ لِيَذْهَبَ. وَوَهِمَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ صَبَّهَا كَانَ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أُرِيتُهُ) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ)، رُوِّينَاهُ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِيهِمَا.

قَوْلُهُ: (مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا) كَذَا هُوَ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ فِي الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتِهِ فِي الثَّانِي، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: تَوْجِيهُهُ أَنَّ أَصْلَهُ مِثْلُ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، فَحُذِفَ مَا أُضِيفَ إِلَى مِثْلَ وَتُرِكَ عَلَى هَيْئَتِهِ قَبْلَ الْحَذْفِ، وَجَازَ الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الْأَسَدِ؛

تَقْدِيرُهُ: بَيْنَ ذِرَاعَيِ الْأَسَدِ وَجَبْهَةِ الْأَسَدِ، وَقَالَ الْآخَرُ:

أَمَامَ وَخَلْفَ الْمَرْءِ مِنْ لُطْفِ رَبِّهِ

كَوَالِئُ تَزْوِي عَنْهُ مَا هُوَ يَحْذَرُ

وَفِي رِوَايَةٍ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ فِي الثَّانِي أَيْضًا، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى فِتْنَةٍ أَيْضًا، وَإِظْهَارُ حَرْفِ الْجَرِّ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ جَائِزٌ عِنْدَ قَوْمٍ. وَقَولُهُ: لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيَّنَ بِهَا الرَّاوِي أَنَّ الشَّكَّ مِنْهُ هَلْ قَالَتْ لَهُ أَسْمَاءُ: مِثْلَ، أَوْ قَالَتْ: قَرِيبًا، وَسَتَأْتِي مَبَاحِثُ هَذَا الْمَتْنِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُنَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْقَدُنَا مَخْرَجُنَا. وَفِي ثُبُوتِ ذَلِكَ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ لِذَلِكَ ذِكْرٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَظْهَرُ لَهُ مُنَاسَبَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ سُورَةِ يس.

‌25 - بَاب تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الْإِيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ.

وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ

87 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ الْوَفْدُ - أَوْ: مَنْ الْقَوْمُ - قَالُوا: رَبِيعَةُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى، قَالُوا: إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ عز وجل وَحْدَهُ، قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ

ص: 183

بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَتُعْطُوا الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ - قَالَ شُعْبَةُ: رُبَّمَا قَالَ: النَّقِيرِ، وَرُبَّمَا قَالَ: الْمُقَيَّرِ - قَالَ: احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَحْرِيضِ) هُوَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَمَنْ قَالَهَا بِالْمُهْمَلَةِ هُنَا فَقَدْ صَحَّفَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ) هُوَ بِصِيغَةِ تَصْغِيرِ الْحَارِثِ. وَهَذَا التَّعْلِيقُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لَهُ مَشْهُورٍ يَأْتِي فِي الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (أَبِي جَمْرَةَ) هُوَ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ شُقَّةٍ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ.

قَوْلُهُ: (وَتُعْطُوا) كَذَا وَقَعَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَنْ، وَسَاغَ التَّقْدِيرُ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ اسْمٌ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. قُلْتُ: قَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَرٍ، فَقَالَ: وَأَنْ تُعْطُوا فَكَأَنَّ حَذْفَهَا مِنْ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ شُعْبَةُ: وَرُبَّمَا قَالَ النَّقِيرُ) أَيْ: بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ الْمَكْسُورَةِ. (وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرُ) أَيْ: بِالْمِيمِ الْمَضْمُومَةِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ فِي هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ لِيُثْبِتَ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ الْمُقَيَّرِ التَّكْرَارُ لِسَبْقِ ذِكْرِ الْمُزَفَّتِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ جَازِمًا بِذِكْرِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ شَاكًّا فِي الرَّابِعِ وَهُوَ النَّقِيرُ، فَكَانَ تَارَةً يَذْكُرُهُ وَتَارَةً لَا يَذْكُرُهُ. وَكَانَ أَيْضًا شَاكًّا فِي التَّلَفُّظِ بِالثَّالِثِ، فَكَانَ تَارَةً يَقُولُ: الْمُزَفَّتُ، وَتَارَةً يَقُولُ: الْمُقَيَّرُ. هَذَا تَوْجِيهُهُ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا عَدَاهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ. وَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ عَالِيًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ، وَلَمْ يَتَرَدَّدْ إِلَّا فِي الْمُزَفَّتِ وَالْمُقَيَّرِ فَقَطْ، وَجَزَمَ بِالنَّقِيرِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَأَخْبِرُوهُ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ. وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: وَأَخْبِرُوا بِحَذْفِ الضَّمِيرِ.

‌26 - بَاب الرِّحْلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ وَتَعْلِيمِ أَهْلِهِ

88 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لِأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ. فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي، وَلَا أَخْبَرْتِنِي، فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ.

[الحديث 88 - أطرافه في: 5104، 2660، 2659، 2640، 2052]

قَوْلُهُ: (بَابُ الرِّحْلَةِ) هُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ بِمَعْنَى الِارْتِحَالِ، وَفِي رِوَايَتِنَا أَيْضًا بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيِ الْوَاحِدَةِ، وَأَمَّا بِضَمِّهَا فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَةُ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ يُرْتَحَلُ إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: وَتَعْلِيمُ أَهْلِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ، وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا لِأَنَّهَا تَأْتِي فِي بَابٍ آخَرَ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ) سَيَأْتِي تَصْرِيحُهُ بِالسَّمَاعِ مِنْ عُقْبَةَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَهُ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي كُنْيَةِ عُقْبَةَ فِي قِصَّةِ حبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً) اسْمُهَا غَنِيَّةٌ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ، وَكُنْيَتُهَا أُمُّ يَحْيَى كَمَا يَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ. وَهَجَمَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: لَا يُعْرَفُ اسْمُهَا، وَأَبُو إِهَابٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لَا أَعْرِفُ اسْمَهُ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَعَزِيزٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ

ص: 184

الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَآخِرُهُ زَايٌ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَمَنْ قَالَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ فَقَدْ حَرَّفَ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا.

قَوْلُهُ: (وَلَا أَخْبَرْتِنِي) بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ أَيْ قَبْلَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ اتَّهَمَهَا.

قَوْلُهُ: (فَرَكِبَ) أَيْ: مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ دَارَ إِقَامَتِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَتَرْجَمَةِ: بَابِ الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا أَخَصُّ وَذَاكَ أَعَمُّ، وَسَتَأْتِي مَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ) اسْمُ هَذَا الزَّوْجِ ظُرَيْبٌ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَالَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ مُصَغَّرًا.

‌27 - بَاب التَّنَاوُبِ فِي الْعِلْمِ

89 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ. ح قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ - وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ - وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا، فَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ

قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: أطلقت نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لَا. فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ.

[الحديث 89 - أطرافه في: 7263، 7256، 5843، 5218، 5191، 4915، 4914، 4913، 2468]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّنَاوُبِ) هُوَ بِالنُّونِ وَضَمِّ الْوَاوِ مِنَ النَّوْبَةِ بِفَتْحِ النُّونِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَرْمَلَةَ عَنْهُ بِسَنَدِهِ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ قَوْلُ عُمَرَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ وَهُوَ مَقْصُودُ هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ وَحْدَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الذُّهْلِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ سَاقَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ وَحْدَهُ أَتَمَّ مِمَّا هُنَا بِكَثِيرٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هُنَا رِوَايَةَ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ لِيُوَضِّحَ أَنَّ الْحَدِيثَ كُلَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْرَادِ شُعَيْبٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ) هُوَ مَكِّيٌّ نَوْفَلِيٌّ، وَقَدِ اشْتَرَكَ مَعَهُ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ، وَفِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الْمَدَنِيُّ الْهُذَلِيُّ ; لَكِنَّ رِوَايَتَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَيْسَ لِابْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.

قَوْلُهُ: (وَجَارٌ لِي) هَذَا الْجَارُ هُوَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ أَفَادَهُ ابْنُ الْقَسْطَلَّانِيِّ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهُ.

قَوْلُهُ: (فِي بَنِي أُمَيَّةَ) أَيْ: نَاحِيَةَ بَنِي أُمَيَّةَ، سُمِّيَتِ الْبُقْعَةُ بِاسْمِ مَنْ نَزَلَهَا.

قَوْلُهُ: (أَثَمَّ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ.

قَوْلُهُ: (دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ) ظَاهِرٌ سِيَاقِهِ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْأَنْصَارِيِّ، وَإِنَّمَا الدَّاخِلُ عَلَى حَفْصَةَ عُمَرُ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ أَيْ: قَالَ عُمَرُ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا مِنَ الِاخْتِصَارِ، وَإِلَّا فَفِي أَصْلِ الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَمْرٌ عَظِيمٌ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ. قُلْتُ: قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا كَائِنٌ، حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ شَدَدْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ. يَعْنِي أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ

ص: 185

بِنْتَهُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الِاعْتِمَادُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْعَمَلُ بِمَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ. وَفِيه أَنَّ الطَّالِبَ لَا يَغْفُلُ عَنِ النَّظَرِ فِي أَمْرِ مَعَاشِهِ لِيَسْتَعِينَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، مَعَ أَخْذِهِ بِالْحَزْمِ فِي السُّؤَالِ عَمَّا يَفُوتُهُ يَوْمَ غَيْبَتِهِ، لِمَا عُلِمَ مِنْ حَالِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَانَى التِّجَارَةَ إِذْ ذَاكَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبُيُوعِ. وَفِيهِ أَنَّ شَرْطَ التَّوَاتُرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُ نَقَلَتِهِ الْأَمْرَ الْمَحْسُوسَ، لَا الْإِشَاعَةَ الَّتِي لَا يُدْرَى مَنْ بَدَأَ بِهَا. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌28 - بَاب الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ

90 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ. فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ.

[الحديث 90 - أطرافه في: 7159، 6110، 704، 702]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) هُوَ الْعَبْدِيُّ وَلَمْ يُخَرِّجْ لِلصَّغَانِيِّ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ (عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ) هُوَ إِسْمَاعِيلُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَجُلٌ) قِيلَ: هُوَ حَزْمُ بْنُ أَبِي كَعْبٍ.

قَوْلُهُ: (لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطِيلُ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ظَاهِرُهُ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ التَّطْوِيلَ يَقْتَضِي الْإِدْرَاكَ لَا عَدَمَهُ، قَالَ: فَكَأَنَّ الْأَلِفَ زِيدَتْ بَعْدَ لَا، وَكَأَنَّ أُدْرِكُ كَانَتْ أَتْرُكُ. قُلْتُ: هُوَ تَوْجِيهٌ حَسَنٌ لَوْ سَاعَدَتْهُ الرِّوَايَةُ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ بْنُ سِرَاجٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ بِهِ ضَعْفٌ، فَكَانَ إِذَا طَوَّلَ بِهِ الْإِمَامُ فِي الْقِيَامِ لَا يَبْلُغُ الرُّكُوعَ إِلَّا وَقَدِ ازْدَادَ ضَعْفُهُ فَلَا يَكَادُ يُتِمُّ مَعَهُ الصَّلَاةَ. قُلْتُ: وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ، لَكِنْ رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنِ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنِ الصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا فَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: إِنِّي لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ أَيْ: لَا أَقْرُبُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ بَلْ أَتَأَخَّرُ عَنْهَا أَحْيَانًا مِنْ أَجْلِ التَّطْوِيلِ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي اسْمِ الشَّاكِي وَالْمَشْكُوِّ.

قَوْلُهُ: (أَشَدَّ غَضَبًا) قِيلَ: إِنَّمَا غَضِبَ لِتَقَدُّمِ نَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَذَا الْحَاجَةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ: وَذُو الْحَاجَةِ وَتَوْجِيهُهُ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ أنَّ قَبْلَ دُخُولِهَا، أَوْ هُوَ اسْتِئْنَافٌ.

91 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عامر، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ الْمَدِينِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا - أَوْ قَالَ: وِعَاءَهَا - وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ - أَوْ قَالَ: احْمَرَّ وَجْهُهُ - فَقَالَ: وَمَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا، قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ.

[الحديث 91 - أطرافه في: 6112، 5292، 2438، 2436، 2429، 2428، 2427، 2372]

ص: 186

قَوْلُهُ: (سَأَلَهُ رَجُلٌ) هُوَ عُمَيْرٌ وَالِدُ مَالِكٍ، وَقِيلَ: غَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي اللُّقَطَةِ.

قَوْلُهُ: (وِكَاءَهَا) هُوَ بِكَسْرِ الْوَاوِ مَا يُرْبَطُ بِهِ، وَالْعِفَاصُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الْوِعَاءُ بِكَسْرِ الْوَاوِ.

قَوْلُهُ: (فَغَضِبَ) إِمَّا لِأَنَّهُ لأن نَهَى قَبْلَ ذَلِكَ عَنِ الْتِقَاطِهَا، وَإِمَّا لِأَنَّ السَّائِلَ قَصَّرَ فِي فَهْمِهِ فَقَاسَ مَا يَتَعَيَّنُ الْتِقَاطُهُ عَلَى مَا لَا يَتَعَيَّنُ.

قَوْلُهُ: (سِقَاؤُهَا) هُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَجْوَافُهَا؛ لِأَنَّهَا تَشْرَبُ فَتَكْتَفِي بِهِ أَيَّامًا.

قَوْلُهُ: (وَحِذَاؤُهَا) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَالْمُرَادُ هُنَا خُفُّهَا. وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

92 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ. قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ. فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عز وجل.

[الحديث 92 - طرفه في: 7291]

قوله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تَقَدَّمَ هَذَا الْإِسْنَادُ فِي: بَابِ فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ.

قَوْلُهُ: (سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ) كَانَ مِنْهَا السُّؤَالُ عَنِ السَّاعَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَجُلٌ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ - بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ - الْقُرَشِيُّ السَّهْمِيُّ، كَمَا سَمَّاهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ آخَرُ) هُوَ سَعْدُ بْنُ سَالِمٍ مَوْلَى شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، سَمَّاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ فِي تَرْجَمَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ مِنْهُ، وَأَغْفَلَهُ فِي الِاسْتِيعَابِ، وَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الشَّارِحِينَ وَلَا مَنْ صَنَّفَ فِي الْمُبْهَمَاتِ وَلَا فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ بِلَا مِرْيَةٍ لِقَوْلِهِ: فَقَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ قَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: سَعْدٌ، نَسَبَهُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ بِخِلَافِ ابْنِ حُذَافَةَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ) هُوَ ابْنُ الْخَطَّابِ (مَا فِي وَجْهِهِ) أَيْ: مِنَ الْغَضَبِ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ) أَيْ: مِمَّا يُوجِبُ غَضَبَكَ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي بَعْدُ أَنَّ عُمَرَ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ بِأَنَّهُ قَالَ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَنَقَلَ كُلٌّ مِنَ الصَّحَابِيَّيْنِ مَا حَفِظَ، وَدَلَّ عَلَى اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي نَقْلِ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ.

(تَنْبِيهٌ): قَصَرَ الْمُصَنِّفُ الْغَضَبَ عَلَى الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ دُونَ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَأْمُورٌ أَنْ لَا يَقْضِيَ وَهُوَ غَضْبَانُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاعِظَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِي صُورَةِ الْغَضْبَانِ، لِأَنَّ مَقَامَهُ يَقْتَضِي تَكَلُّفَ الِانْزِعَاجِ؛ لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الْمُنْذِرِ، وَكَذَا الْمُعَلِّمُ إِذَا أَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ سُوءَ فَهْمٍ وَنَحْوَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَدْعَى لِلْقَبُولِ مِنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لَازِمًا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي فِي بَابِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَضَى عليه الصلاة والسلام فِي حَالِ غَضَبِهِ حَيْثُ قَالَ: أَبُوكَ فُلَانٌ. فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَوَّلًا لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْحُكْمِ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَيُقَالُ: هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ لِمَحَلِّ الْعِصْمَةِ، فَاسْتَوَى غَضَبُهُ وَرِضَاهُ. وَمُجَرَّدُ غَضَبِهِ مِنَ الشَّيْءِ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم.

‌29 - بَاب مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَوْ الْمُحَدِّثِ

93 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فَقَامَ

ص: 187

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي

فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا، فَسَكَتَ.

[الحديث 93 - أطرافه في: 7295، 7294، 7091، 7090، 7089، 6468، 6362، 4621، 749، 540]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ بَرَكَ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ، يُقَالُ: بَرَكَ الْبَعِيرُ إِذَا اسْتَنَاخَ، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْآدَمِيِّ مَجَازًا.

قَوْلُهُ: (خَرَجَ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ) فِيهِ حَذْفٌ يَظْهَرُ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَالتَّقْدِيرُ: خَرَجَ، فَسُئِلَ فَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ فَغَضِبَ، فَقَالَ: سَلُونِي، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَهِمَ عُمَرُ مِنْهُ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْئِلَةَ قَدْ تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ أَوِ الشَّكِّ، فَخَشِيَ أَنْ تَنْزِلَ الْعُقُوبَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا. . . إِلَخْ، فَرَضِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَسَكَتَ.

‌30 - بَاب مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلَاثًا لِيُفْهَمَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا،

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ بَلَّغْتُ؟ ثَلَاثًا

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلَاثًا لِيُفْهَمَ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَفِي رِوَايَتِنَا بِكَسْرِ الْهَاءِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ: لِيُفْهَمَ عَنْهُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ لَا غَيْرُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ طَرَفٌ مُعَلَّقٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الْمَذْكُورِ فِي الشَّهَادَاتِ وَفِي الدِّيَاتِ الَّذِي أَوَّلُهُ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَفِيهِ مَعْنَى التَّرْجَمَةِ لِكَوْنِهِ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ ثَلَاثًا.

قَوْلُهُ: (فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا) أَيْ: فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ. وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْكَلِمَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ قَوْلُ الزُّورِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَكَانِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) هُوَ طَرَفٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثٍ مَذْكُورٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَوَّلُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ هَذَا الْقَدْرُ الْمُعَلَّقُ، وَقَوْلُهُ: ثَلَاثًا مُتَعَلِّقٌ بِقَالَ لَا بِقَوْلِهِ بَلَّغْتُ.

94 -

حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا.

[الحديث 94 - طرفاه في: 6244، 95]

95 -

حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا.

قَوْلُهُ: (إِذَا تَكَلَّمَ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ يُشْعِرُ بِالِاسْتِمْرَارِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ مِنْ طَبَقَةِ عَبْدَةَ الصَّفَّارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ الصَّفَّارُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، يُكَنَّى أَبَا سَهْلٍ، وَالْمُثَنَّى وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

ص: 188

أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَثُمَامَةُ عَمُّهُ. وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ) أَيْ: مِنْ عَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ أَنَّ أَنَسًا مُخْبِرٌ عَمَّا عَرَفَهُ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشَاهَدُهُ، لَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ عَنْ إِسْحَاقَ - وَهُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ - عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى أَنَسٍ، فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ.

قَوْلُهُ: (بِكَلِمَةٍ) أَيْ: بِجُمْلَةٍ مُفِيدَةٍ.

قَوْلُهُ: (أَعَادَهَا ثَلَاثًا) قَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ حَتَّى تُعْقَلَ عَنْهُ. وَوَهِمَ الْحَاكِمُ فِي اسْتِدْرَاكِهِ وَفِي دَعْوَاهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى، انْتَهَى.

وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى مِمَّنْ تَفَرَّدَ الْبُخَارِيُّ بِإِخْرَاجِ حَدِيثِهِ دُونَ مُسْلِمٍ، وَقَدْ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ: صَالِحٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ حَيْثُ يُخَرِّجُ لِبَعْضِ مَنْ فِيهِ مَقَالٌ لَا يُخَرِّجُ شَيْئًا مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ أَرَادَ بِهِ فِي حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ سُئِلَ عَنْهُ، وَقَدْ قَوَّاهُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْهُ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَالرَّجُلُ إِذَا ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ لَمْ يُقْبَلْ فِيهِ الْجَرْحُ إِلَّا إِذَا كَانَ مُفَسَّرًا بِأَمْرٍ قَادِحٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى هَذَا.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ لَمَّا ذَكَرَهُ فِي الثِّقَاتِ: رُبَّمَا أَخْطَأَ. وَالَّذِي أُنْكِرَ عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ غَيْرِ عَمِّهِ ثُمَامَةَ، وَالْبُخَارِيُّ إِنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ عَنْ عَمِّهِ هَذَا الْحَدِيثَ وَغَيْرَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّجُلَ أَضْبَطُ لِحَدِيثِ آلِ بَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: نَبَّهَ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَلَى الرَّدِّ مَنْ كَرِهَ إِعَادَةَ الْحَدِيثِ، وَأَنْكَرَ عَلَى الطَّالِبِ الِاسْتِعَادَةَ وَعَدَّهُ مِنَ الْبَلَادَةِ، قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ، فَلَا عَيْبَ عَلَى الْمُسْتَفِيدِ الَّذِي لَا يَحْفَظُ مِنْ مَرَّةٍ إِذَا اسْتَعَادَ، وَلَا عُذْرَ لِلْمُفِيدِ إِذَا لَمْ يُعِدْ بَلِ الْإِعَادَةُ عَلَيْهِ آكَدُ مِنَ الِابْتِدَاءِ ; لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: فِيهِ أَنَّ الثَّلَاثَ غَايَةٌ مَا يَقَعُ بِهِ الِاعْتِذَارُ وَالْبَيَانُ

قَوْلُهُ: (وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ) أَيْ: وَكَانَ إِذَا أَتَى.

قَوْلُهُ: (فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ الشَّرْطِ، وَقَوْلُهُ: سَلَّمَ عَلَيْهِمْ هُوَ الْجَوَابُ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَامَ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا أَنْ يَمُرَّ الْمَارُّ مُسَلِّمًا فَالْمَعْرُوفُ عَدَمُ التَّكْرَارِ. قُلْتُ: وَقَدْ فَهِمَ الْمُصَنِّفُ هَذَا بِعَيْنِهِ فَأَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ مَقْرُونًا بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي قِصَّتِهِ مَعَ عُمَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الِاسْتِئْذَانِ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ يَقَعُ أَيْضًا مِنْهُ إِذَا خَشِيَ أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ سَلَامُهُ. وَمَا ادَّعَاهُ الْكِرْمَانِيُّ مِنْ أَنَّ الصِّيغَةَ الْمَذْكُورَةَ تُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ مِمَّا يُنَازَعُ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

96 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلَاةَ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (فَأَدْرَكَنَا) هُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ. وَقَوْلُهُ: أَرْهَقْنَا بِسُكُونِ الْقَافِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ أَرْهَقَتْنَا. وَقَوْلُهُ: صَلَاةُ الْعَصْرِ هُوَ بَدَلٌ مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ رَفْعًا فَرَفْعٌ وَإِنْ نَصْبًا فَنَصْبٌ.

قَوْلُهُ: (مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ لَيْسَتْ شَرْطًا، بَلِ الْمُرَادُ التَّفْهِيمُ، فَإِذَا حَصَلَ بِدُونِهَا أَجْزَأَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ فِي الطَّهَارَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 189

‌31 - بَاب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ

97 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ - هُوَ ابْنُ سَلَامٍ -، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ:، حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ.

ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ: أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ.

[الحديث 97 - أطرافه في: 5083، 3446، 3011، 2551، 2547، 2544]

قَوْلُهُ: (بَابُ تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ) مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ فِي الْأَمَةِ بِالنَّصِّ وَفِي الْأَهْلِ بِالْقِيَاسِ، إِذْ الِاعْتِنَاءُ بِالْأَهْلِ الْحَرَائِرِ فِي تَعْلِيمِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَسُنَنِ رَسُولِهِ آكَدُ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِالْإِمَاءِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ بْنُ سَلَّامٍ، وَلِلْأَصِيلِيِّ:، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَسْبُ، وَاعْتَمَدَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ، فَقَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قِيلَ: هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثٌ آخَرُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ بَلَدِهِمْ صَحَّفَ الْمُحَارِبِيَّ، فَقَالَ الْبُخَارِيُّ، فَأَخْطَأَ خَطَأً فَاحِشًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ) هُوَ صَالِحُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ حَيَّانَ نُسِبَ إِلَى جَدِّ أَبِيهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَلَقَبُهُ حَيٌّ وَهُوَ أَشْهَرُ بِهِ مِنِ اسْمِهِ، وَكَذَا مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ غَالِبًا: فُلَانُ ابْنُ حَيٍّ كَصَالِحِ بْنِ حَيٍّ هَذَا. وَهُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَفِي طَبَقَتِهِ رَاوٍ آخَرُ كُوفِيٌّ أَيْضًا - يُقَالُ لَهُ: صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ الْقُرَشِيُّ - لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ وَهَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَخْرَجَ لِصَالِحِ بْنِ حَيٍّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ بِرِوَايَتِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ دُونَ الْقُرَشِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ طُرُقٍ: مِنْهَا فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ أَبُو حَيَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي أَخْرَجَهُ هُنَا، فَقَالَ: صَالِحُ بْنُ حَيٍّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَامِرٌ) أَيْ: قَالَ صَالِحٌ: قَالَ عَامِرٌ، وَعَادَتُهُمْ حَذْفُ قَالَ إِذَا تَكَرَّرَتْ خَطًّا لَا نُطْقًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ) ثَلَاثَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالتَّقْدِيرُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ أَوْ رِجَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَلَهُمْ أَجْرَانِ خَبَرُهُ.

قَوْلُهُ: (رَجُلٌ) هُوَ بَدَلُ تَفْصِيلٍ، أَوْ بَدَلُ كُلٍّ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَجْمُوعِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) لَفْظُ الْكِتَابِ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ خَاصٌّ، أَيِ: الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ كَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَيْثُ يُطْلَقُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِنْجِيلُ خَاصَّةً إِنْ قُلْنَا: إِنَّ النَّصْرَانِيَّةَ نَاسِخَةٌ لِلْيَهُودِيَّةِ، كَذَا قَرَّرَهُ جَمَاعَةٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اشْتِرَاطِ النَّسْخِ لِأَنَّ عِيسَى عليه الصلاة والسلام كَانَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِلَا خِلَافٍ، فَمَنْ أَجَابَهُ مِنْهُمْ نُسِبَ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَذَّبَهُ مِنْهُمْ وَاسْتَمَرَّ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْخَبَرُ ; لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِنَبِيِّهِ. نَعَمْ مَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ عِيسَى عليه السلام فَلَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَتُهُ، يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ مُؤْمِنٌ، إِذْ هُوَ مُؤْمِنٌ بِنَبِيِّهِ مُوسَى عليه السلام وَلَمْ يُكَذِّبْ نَبِيًّا

ص: 190

آخَرَ بعده، فَمَنْ أَدْرَكَ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَآمَنَ بِهِ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْعَرَبُ الَّذِينَ كَانُوا بِالْيَمَنِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ، وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ عِيسَى عليه السلام لِكَوْنِهِ أُرْسِلَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً.

نَعَمِ الْإِشْكَالُ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ الْمُوَافِقَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ آمَنُوا مِنْهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ، فَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِيَّ وَفِيمَنْ آمَنَ مَعِي. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَشَرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - مِنْهُمْ أَبُي رِفَاعَةَ - إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنُوا بِهِ فَأُوذُوا، فَنَزَلَتْ:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} الْآيَاتِ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِعِيسَى بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ إِلَى أَنْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَيُحْتَمَلُ إِجْرَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ، إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ طَرَيَانُ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم سَبَبًا لِقَبُولِ تِلْكَ الْأَدْيَانِ وَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوخَةً، انْتَهَى. وَسَأَذْكُرُ مَا يُؤَيِّدُهُ بَعْدُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ: إِنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ عِيسَى عليه السلام؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْتَشِرْ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، فَاسْتَمَرُّوا عَلَى يَهُودِيَّتِهِمْ مُؤْمِنِينَ بِنَبِيِّهِمْ مُوسَى عليه السلام، إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(فَوَائِدُ): الْأُولَى: وَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ التِّينِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَهُوَ صَوَابٌ فِي عَبْدِ اللَّهِ خَطَأٌ فِي كَعْبٍ ; لِأَنَّ كَعْبًا لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَلَمْ يُسْلِمْ إِلَّا فِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ ; لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْهِجْرَةِ، وَسَلْمَانَ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبُيُوعِ. وَهُمَا صَحَابِيَّانِ مَشْهُورَانِ.

الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْكِتَابِيُّ الَّذِي يُضَاعَفُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى الْحَقِّ فِي شَرْعِهِ عَقْدًا وَفِعْلًا إِلَى أَنْ آمَنَ بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَيُؤْجَرُ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، انْتَهَى. وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى هِرَقْلَ: أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَهِرَقْلُ كَانَ مِمَّنْ دَخَلَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ بَحْثَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ. الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَوْنِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَا يَتَنَاوَلُ الْيَهُودَ الْبَتَّةَ، وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ كَمَا قَرَّرْنَاهُ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَ الْأُمَمِ فِيمَا فَعَلُوهُ مِنْ خَيْرٍ كَمَا فِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ الْآتِي: أَسْلَمْتُ عَلَى مَا أَسْلَفْتُ مِنْ خَيْرٍ وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ مُقَيَّدٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُمْ إِلَّا بِقِيَاسِ الْخَيْرِ عَلَى الْإِيمَانِ. وَأَيْضًا فَالنُّكْتَةُ فِي قَوْلِهِ: آمَنَ بِنَبِيِّهِ الْإِشْعَارُ بِعِلِّيَّةِ الْأَجْرِ، أَيْ: أَنَّ سَبَبَ الْأَجْرَيْنِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّينَ، وَالْكُفَّارُ لَيْسُوا كَذَلِكَ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} فَمَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ مِنْهُمْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَا مَنْ كَذَّبَهُ مِنْهُمْ كَانَ وِزْرُهُ أَشَدَّ مِنْ وِزْرِ غَيْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِكَوْنِ الْوَحْيِ كَانَ يَنْزِلُ فِي بُيُوتِهِنَّ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يُذْكَرْنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَيَكُونُ الْعَدَدُ أَرْبَعَةً؟ أَجَابَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ قَضِيَّتَهُنَّ خَاصَّةٌ بِهِنَّ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِنَّ، وَالثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا مَصِيرُ من شَيْخِنَا إِلَى أَنَّ قَضِيَّةَ مُؤْمِنِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُسْتَمِرَّةٌ، وَقَدِ ادَّعَى الْكِرْمَانِيُّ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِمَنْ آمَنَ فِي عَهْدِ الْبَعْثَةِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ نَبِيَّهُمْ بَعْدَ الْبَعْثَةِ إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِاعْتِبَارِ عُمُومِ بَعْثَتِهِ، انْتَهَى. وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يَتِمُّ لِمَنْ كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ خَصَّهُ بِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ

ص: 191

فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عَهْدِهِ وَبَعْدِهِ، فَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا أَظْهَرُ.

وَالْمُرَادُ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى غَيْرِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا قَوَّى بِهِ الْكِرْمَانِيُّ دَعْوَاهُ بِكَوْنِ السِّيَاقِ مُخْتَلِفًا حَيْثُ قِيلَ فِي مُؤْمِنِ أَهْلِ الْكِتَابِ: رَجُلٌ بِالتَّنْكِيرِ، وَفِي الْعَبْدِ بِالتَّعْرِيفِ، وَحَيْثُ زِيدَتْ فِيهِ: إِذَا الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ فَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَجْرَيْنِ لِمُؤْمِنِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَقَعُ فِي الِاسْتِقْبَالِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ، انْتَهَى. وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ; لِأَنَّهُ مَشَى فِيهِ مَعَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَلَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الرُّوَاةِ، بَلْ هُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ مُخْتَلِفٌ، فَقَدْ عَبَّرَ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى بِإِذَا فِي الثَّلَاثَةِ، وَعَبَّرَ فِي النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ: أَيُّمَا رَجُلٍ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي التَّعْمِيمِ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ فَلَا أَثَرَ لَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْجِنْسِ مُؤَدَّاهُ مُؤَدَّى النَّكِرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الرَّابِعَةُ: حُكْمُ الْمَرْأَةِ الْكِتَابِيَّةِ حُكْمُ الرَّجُلِ كَمَا هُوَ مُطَّرِدٌ فِي جُلِّ الْأَحْكَامِ حَيْثُ يَدْخُلْنَ مَعَ الرِّجَالِ بِالتَّبَعِيَّةِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَسَيَأْتِي مَبَاحِثُ الْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ وَمَبَاحِثُ الْأَمَةِ فِي النِّكَاحِ.

قَوْلُهُ: (فَلَهُ أَجْرَانِ) هُوَ تَكْرِيرٌ لِطُولِ الْكَلَامِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ) - أَيِ الشَّعْبِيُّ - أَعْطَيْنَاكَهَا، ظَاهِرُة أَنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ صَالِحًا الرَّاوِي عَنْهُ ; وَلِهَذَا جَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِقَوْلِهِ: الْخِطَابُ لِصَالِحٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا خَاطَبَ بِذَلِكَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ سَأَلَهُ عَمَّنْ يُعْتِقُ أَمَتَهُ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى عليه السلام مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (بِغَيْرِ شَيْءٍ) أَيْ: مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَإِلَّا فَالْأَجْرُ الْأُخْرَوِيُّ حَاصِلٌ لَهُ.

قَوْلُهُ: (يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا) أَيْ: يُرْحَلُ لِأَجْلِ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْهَا كَمَا عِنْدَهُ فِي الْجِهَادِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ.

قَوْلُهُ: (إِلَى الْمَدِينَةِ) أَيِ: النَّبَوِيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ تَفَرَّقَ الصَّحَابَةُ فِي الْبِلَادِ بَعْدَ فُتُوحِ الْأَمْصَارِ وَسَكَنُوهَا، فَاكْتَفَى أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ بِعُلَمَائِهِ إِلَّا مَنْ طَلَبَ التَّوَسُّعَ فِي الْعِلْمِ فَرَحَلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا عَبَّرَ الشَّعْبِيُّ - مَعَ كَوْنِهِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ - بِقَوْلِهِ: كَانَ، وَاسْتِدْلَالُ ابْنِ بَطَّالٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا قَرَّرْنَاهُ. وإِنَّمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ ذَلِكَ تَحْرِيضًا لِلسَّامِعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لِحِفْظِهِ وَأَجْلَبَ لِحِرْصِهِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانِ. وَقَدْ رَوَى الدَّارِمِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ - قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَأَرْكَبُ إِلَى الْمِصْرِ مِنَ الْأَمْصَارِ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ الْحَدِيثَ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَلَا نَرْضَى حَتَّى نَرْكَبَ إِلَيْهِمْ فَنَسْمَعَهُ مِنْهُمْ.

‌32 - بَاب عِظَةِ الْإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ

98 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ، وَبِلَالٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَطَاءٍ، وَقَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 98 - أطرافه في: 7325، 5883، 5881، 5880، 5249، 4895، 1449، 1431، 989، 979، 977، 975، 964، 962، 863]

قَوْلُهُ: (بَابُ عِظَةِ الْإِمَامِ النِّسَاءَ) نَبَّهَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَلَى أَنَّ مَا سَبَقَ مِنَ النَّدْبِ إِلَى تَعْلِيمِ الْأَهْلَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأَهْلِهِنَّ، بَلْ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ. وَاسْتُفِيدَ الْوَعْظُ بِالتَّصْرِيحِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: فَوَعَظَهُنَّ

ص: 192

وَكَانَتِ الْمَوْعِظَةُ بِقَوْلِهِ: إِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ. وَاسْتُفِيدَ التَّعْلِيمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ كَأَنَّهُ أَعْلَمَهُنَّ أَنَّ فِي الصَّدَقَةِ تَكْفِيرًا لِخَطَايَاهُنَّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَيُّوبَ) هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَعَطَاءٌ هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ.

قَوْلُهُ: (أَوْ قَالَ عَطَاءٌ أَشْهَدُ) مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّاوِيَ تَرَدَّدَ هَلْ لَفْظُ أَشْهَدُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ مِنْ قَوْلِ عَطَاءٍ؟ وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ جَازِمًا بِلَفْظِ أَشْهَدُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ تَأْكِيدًا لِتَحَقُّقِهِ وَوُثُوقًا بِوُقُوعِهِ.

قَوْلُهُ: (وَمَعَهُ بِلَالٌ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَسَقَطَتِ الْوَاوُ لِلْبَاقِينَ.

قَوْلُهُ: (الْقُرْطُ) هُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ بَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ، أَيِ: الْحَلْقَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي شَحْمَةِ الْأُذُنِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ فِي هَذَا الْمَتْنِ فِي الْعِيدَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَأَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ أَنَّهُ جَزَمَ عَنْ أَيُّوبَ بِأَنَّ لَفْظَ: أَشْهَدُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَطْ، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَا قَالَ وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَطْفًا عَلَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ فَلَا يَكُونُ تَعْلِيقًا، انْتَهَى. وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ لَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ أَصْلًا لَا لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مَوْصُولًا عَنْ مُؤَمِّلِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ قُلْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ: إِنَّ الِاحْتِمَالَاتِ الْعَقْلِيَّةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ. وَلَوِ اسْتَرْسَلَ فِيهَا مُسْتَرْسِلُ لَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِسْمَاعِيلُ هُنَا آخَرَ غَيْرَ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَأَنَّ أَيُّوبَ آخَرُ غَيْرُ السَّخْتِيَانِيِّ، وَهَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرُّوَاةِ، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ إِلَى مَا لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُعَاطَاةِ فِي الصَّدَقَةِ، وَصَدَقَةُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْحُو كَثِيرًا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تُدْخِلُ النَّارَ.

‌33 - بَاب الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ

99 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ: نَفْسِهِ.

[الحديث 99 - طرفه في: 6570]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ) الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا يُضَافُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مُقَابَلَةُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ) هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأُوَيْسِيُّ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو هُوَ مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، وَاسْمُ أَبِي عَمْرٍو، مَيْسَرَةُ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَكَرِيمَةَ. وَسَقَطَتْ قِيلَ لِلْبَاقِينَ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ قُلْتُ فَتَصَحَّفَتْ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الرِّقَاقِ كَذَلِكَ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (أَوَّلُ مِنْكَ) وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا بِرَفْعِ اللَّامِ وَنَصْبِهَا، فَالرَّفْعُ عَلَى الصِّفَةِ لِأَحَدٍ أَوِ الْبَدَلِ مِنْهُ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِظَنَنْتُ، قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عَلَى الْحَالِ: وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ نَكِرَةً لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِمْ: مَا كَانَ أَحَدٌ

ص: 193

مِثْلَكَ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: لِمَا مَوْصُولَةٌ، وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَفِيهِ فَضْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفَضْلُ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) احْتِرَازٌ مِنَ الْمُشْرِكِ، وَالْمُرَادُ مَعَ قَوْلِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، لَكِنْ قَدْ يُكْتَفَى بِالْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ كَلِمَتِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شِعَارًا لِمَجْمُوعِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (خَالِصًا) احْتِرَازٌ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَمَعْنَى أَفْعَلَ فِي قَوْلِهِ: أَسْعَدَ الْفِعْلُ لَا أَنَّهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ أَيْ: سَعِيدُ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَحْسَنُ مَقِيلا} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَلَى بَابِهَا، وَأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَحْصُلُ لَهُ سَعْدٌ بِشَفَاعَتِهِ ; لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُخْلِصَ أَكْثَرُ سَعَادَةً بِهَا، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَشْفَعُ فِي الْخَلْقِ لِإِرَاحَتِهِمْ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ، وَيَشْفَعُ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ، بِتَخْفِيفِ الْعَذَابِ كَمَا صَحَّ فِي حَقِّ أَبِي طَالِبٍ، وَيَشْفَعُ فِي بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ دَخَلُوهَا، وَفِي بَعْضِهِمْ بِعَدَمِ دُخُولِهَا بَعْدَ أَنِ اسْتَوْجَبُوا دُخُولَهَا، وَفِي بَعْضِهِمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَفِي بَعْضِهِمْ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِيهَا. فَظَهَرَ الِاشْتِرَاكُ فِي السَّعَادَةِ بِالشَّفَاعَةِ، وَأَنَّ أَسْعَدَهُمْ بِهَا الْمُؤْمِنُ الْمُخْلِصُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الرِّقَاقِ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ النُّطْقِ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ لِتَعْبِيرِهِ بِالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ قَالَ.

‌34 - بَاب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ.

وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاكْتُبْهُ؛ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِذَلِكَ. يَعْنِي: حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى قَوْلِهِ: ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ

100 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.

قَالَ الْفِرَبْرِيُّ:، حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ، نَحْوَهُ.

[الحديث 100 - طرفه في: 7307]

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ) أَيْ: كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيٌّ نُسِبَ إِلَى جَدِّ أَبِيهِ وَلِجَدِّهِ عَمْرٌو صُحْبَةٌ، وَلِأَبِيهِ مُحَمَّدٌ رُؤْيَةٌ، وَأَبُو بَكْرٍ تَابِعِيٌّ فَقِيهٌ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ وَقَضَائِهَا وَلِهَذَا كَتَبَ إِلَيْهِ. وَلَا يُعْرَفُ لَهُ اسْمٌ سِوَى أَبِي بَكْرٍ، وَقِيلَ: كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاسْمُهُ أَبُو بَكْرٍ. وَقِيلَ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ.

قَوْلُهُ: (انْظُرْ مَا كَانَ) أَيِ اجْمَعِ الَّذِي تَجِدُ. وَوَقَعَ هُنَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ عِنْدَكَ أَيْ: فِي بَلَدِكِ.

قَوْلُهُ: (فَاكْتُبْهُ) يُسْتَفَادُ مِنْهُ ابْتِدَاءُ تَدْوِينِ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ. وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْحِفْظِ، فَلَمَّا خَافَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى مِنْ ذَهَابِ الْعِلْمِ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ رَأَى أَنَّ فِي تَدْوِينِهِ ضَبْطًا لَهُ وَإِبْقَاءً. وَقَدْ رَوَى

ص: 194

أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِلَفْظِ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْآفَاقِ، انْظُرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاجْمَعُوهُ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يُقْبَلُ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَبِسُكُونِهَا وَكَسْرِهَا مَعًا فِي وَلْيُفْشُوا وَلْيَجْلِسُوا.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُعَلَّمَ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ يُعْلَمُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ.

قَوْلُهُ: (يَهْلِكُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ اللَّامِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ) لَمْ يَقَعْ وَصْلُ هَذَا التَّعْلِيقِ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَا كَرِيمَةَ وَلَا ابْنِ عَسَاكِرَ إِلَى قَوْلِهِ: ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ عُمَرَ أَوْ مِنْ كَلَامِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَبِهِ صَرَّحَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ إِلَّا كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَبَقِيَّتُهُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَوْرَدَهُ تِلْوَ كَلَامِ عُمَرَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ كَلَامُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مَالِكٌ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ فِي الْمُوَطَّأِ إِلَّا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، وَرَوَاهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ، كَابْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِ عَنْ مَالِكٍ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ، وَأَفَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَزِيدَ رَوَاهُ أَيْضًا فِي الْمُوَطَّأِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَوَقَعَ لَنَا مِنْ رِوَايَةٍ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ نَفْسًا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْعِرَاقَيْنِ وَالشَّامِ وَخُرَاسَانَ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا، وَوَافَقَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةُ أَبُو الْأَسْوَدِ الْمَدَنِيُّ وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالزُّهْرِيُّ وَحَدِيثُهُ فِي النَّسَائِيِّ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَحَدِيثُهُ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ، وَوَافَقَ أَبَاهُ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوَبَانَ وَحَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (لَا يَقْبِضُ الْعِلْمُ انْتِزَاعًا) أَيْ: مَحْوًا مِنَ الصُّدُورِ، وَكَانَ تَحْدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ أَوْ يُرْفَعَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: كَيْفَ يُرْفَعُ؟ فَقَالَ: أَلَا إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ ذَهَابُ حَمَلَتِهِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَحْوُ الْعِلْمِ مِنَ الصُّدُورِ جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْقَافِ، وَعَالِمًا مَنْصُوبٌ أَيْ: لَمْ يُبْقِ اللَّهُ عَالِمًا. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا.

قَوْلُهُ: (رُءُوسًا) قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالتَّنْوِينِ جَمْعُ رَأْسٍ. قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِي آخِرِهِ هَمْزَةٌ أُخْرَى مَفْتُوحَةٌ جَمْعُ رَئِيسٍ.

قَوْلُهُ: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدَ فِي الِاعْتِصَامِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ: فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ وَرَوَاهَا مُسْلِمٌ كَالْأُولَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْفَرَبْرِيُّ) هَذَا مِنْ زِيَادَاتِ الرَّاوِي عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي بَعْضِ الْأَسَانِيدِ، وَهِيَ قَلِيلَةٌ.

قَوْلُهُ: (نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ. وَلَفْظُ رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ هَذِهِ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ عَنْهُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ تَرْئِيسِ الْجَهَلَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الْفَتْوَى هِيَ الرِّيَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَذَمُّ مَنْ يُقْدِمُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ بِخُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَسَيَكُونُ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ عَوْدٌ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌36 - بَاب هَلْ يُجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ فِي الْعِلْمِ

101 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: قَالَتْ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا

ص: 195

مِنْ النَّارِ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: وَاثْنَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُجْعَلُ) أَيِ الْإِمَامُ، وَلِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ: يُجْعَلُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَعِنْدَهُمَا يَوْمٌ بِالرَّفْعِ لِأَجْلِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى حِدَةٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ نَاحِيَةٍ وَحْدَهُنَّ، وَالْهَاءُ عِوَضٌ عَنِ الْوَاوِ الْمَحْذُوفَةِ كَمَا قَالُوا فِي عِدَةٍ مِنَ الْوَعْدِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا آدَمُ) هُوَ ابْنُ أَبِي إِيَاسٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ النِّسَاءُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْبَاقِينَ قَالَتِ النِّسَاءُ وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ. وَغَلَبَنَا بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرِّجَالُ بِالضَّمِّ؛ لِأَنَّهُ فَاعِلُهُ.

قَوْلُهُ: (فَاجْعَلْ لَنَا) أَيْ: عَيِّنْ لَنَا. وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَعْلِ لِأَنَّهُ لَازِمُهُ. وَمِنِ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِاجْعَلْ، وَالْمُرَادُ رَدُّ ذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِهِ.

قَوْلُهُ: (فَوَعَظَهُنَّ) التَّقْدِيرُ فَوَفَّى بِوَعْدِهِ فَلَقِيَهُنَّ فَوَعَظَهُنَّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَقَالَ: مَوْعِدُكُنَّ بَيْتُ فُلَانَةَ فَأَتَاهُنَّ فَحَدَّثَهُنَّ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَرَهُنَّ) أَيْ: بِالصَّدَقَةِ، أَوْ حَذَفَ الْمَأْمُورَ بِهِ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ.

قَوْلُهُ: (مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ)، وَلِلْأَصِيلِيِّ: مَا مِنِ امْرَأَةٌ وَمِنْ زَائِدَةٌ لَفْظًا. وَقَوْلُهُ تُقَدِّمُ صِفَةٌ لِامْرَأَةٍ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا كَانَ لَهَا) أَيِ: التَّقْدِيمُ (حِجَابًا). وَلِلْأَصِيلِيِّ حِجَابٌ بِالرَّفْعِ وَتُعْرَبُ كَانَ تَامَّةً أَيْ: حَصَلَ لَهَا حِجَابٌ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجَنَائِزِ إِلَّا كُنَّ لَهَا أَيِ: الْأَنْفُسُ الَّتِي تُقَدِّمُ. وَلَهُ فِي الِاعْتِصَامِ إِلَّا كَانُوا أَيِ الْأَوْلَادُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ) هِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ، وَقِيلَ غَيْرُهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي الْجَنَائِزِ.

قَوْلُهُ: (وَاثْنَيْنِ)، وَلِكَرِيمَةَ وَاثْنَتَيْنِ بِزِيَادَةِ تَاءِ التَّأْنِيثِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَيُسَمَّى الْعَطْفَ التَّلْقِينِيَّ، وَكَأَنَّهَا فَهِمَتِ الْحَصْرَ وَطَمِعَتْ فِي الْفَضْلِ، فَسَأَلَتْ عَنْ حُكْمِ الِاثْنَيْنِ: هَلْ يَلْتَحِقُ بِالثَّلَاثَةِ أَوْ لَا، وَسَيَأْتِي فِي الْجَنَائِزِ الْكَلَامُ فِي تَقْدِيمِ الْوَاحِدِ.

102 -

حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا.

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ.

[الحديث 102 - طرفه في: 1250]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) أَفَادَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَائِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: تَسْمِيَةُ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ الْمُبْهَمِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ: زِيَادَةُ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي زَادَ فِيهَا التَّقْيِيدَ بِعَدَمِ بُلُوغِ الْحِنْثِ، أَيْ: الْإِثْمِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا ; لِأَنَّ الْإِثْمَ إِنَّمَا يُكْتَبُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ إِذْ ذَاكَ عُقُوقٌ فَيَكُونُ الْحُزْنُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ. وَفِي الْحَدِيثِ مَا كَانَ عَلَيْهِ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى تَعْلِمِ أُمُورِ الدِّينِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْوَعْدِ، وَأَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدَانِ حَجَبَاهُ مِنَ النَّارِ، وَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِالنِّسَاءِ كَمَا سَيَأْتِي التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ فِي الْجَنَائِزِ.

(تَنْبِيهٌ): حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعٌ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَقَالَ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ مِثْلُهُ أَيْ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ أَوَّلًا: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ شُعْبَةَ يَرْوِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِإِسْنَادَيْنِ، فَهُوَ مَوْصُولٌ، وَوَهَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ.

‌35 - بَاب مَنْ سَمِعَ شَيْئًا فَرَاجَعَ حَتَّى يَعْرِفَهُ

103 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ

ص: 196

زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَتْ: فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ.

[الحديث 103 - أطرافه في: 6537، 6536، 4939]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ سَمِعَ شَيْئًا) زَادَ أَبُو ذَرٍّ: فَلَمْ يَفْهَمْهُ.

قَوْلُهُ: (فَرَاجَعَهُ) أَيْ: رَاجَعَ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ. وَلِلْأَصِيلِيِّ فَرَاجَعَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عَائِشَةَ) ظَاهِرُ أَوَّلِهِ الْإِرْسَالُ ; لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ تَابِعِيٌّ لَمْ يُدْرِكْ مُرَاجَعَةَ عَائِشَةَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ تَبَيَّنَ وَصْلُهُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: قَالَتْ عَائِشَةُ، فَقُلْتُ.

قَوْلُهُ: (كَانَتْ لَا تَسْمَعُ) أَتَى بِالْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِلصُّورَةِ الْمَاضِيَةِ لِقُوَّةِ تَحَقُّقِهَا.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ (الْعَرْضُ) أَيْ: عَرْضُ النَّاسِ عَلَى الْمِيزَانِ.

قَوْلُهُ: (نُوقِشَ) بِالْقَافِ وَالْمُعْجَمَةِ مِنَ الْمُنَاقَشَةِ وَأَصْلُهَا الِاسْتِخْرَاجُ، وَمِنْهُ نَقَشَ الشَّوْكَةَ إِذَا اسْتَخْرَجَهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ تَحْرِيرَ الْحِسَابِ يُفْضِي إِلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ ; لِأَنَّ حَسَنَاتِ الْعَبْدِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْقَبُولِ، وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الرَّحْمَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْقَبُولِ لَا يَحْصُلُ النَّجَاءُ.

قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ (يَهْلِكُ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ. وَفِي الْحَدِيثِ مَا كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ مِنْ الْحِرْصِ عَلَى تَفَهُّمِ مَعَانِي الْحَدِيثِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَتَضَجَّرُ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ فِي الْعِلْمِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْمُنَاظَرَةِ، وَمُقَابَلَةُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، وَتَفَاوُتُ النَّاسِ فِي الْحِسَابِ. وَفِيهِ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ مِثْلِ هَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِيمَا نُهِيَ الصَّحَابَةُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ وَقَدْ وَقَعَ نَحْوُ ذَلِكَ لِغَيْرِ عَائِشَةَ، فَفِي حَدِيثِ حَفْصَةَ أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ: لَا يَدْخُلِ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ قَالَتْ. أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} فَأُجِيبَتْ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الْآيَةَ، وَسَأَلَ الصَّحَابَةَ لَمَّا نَزَلَتْ:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ الشِّرْكُ. وَالْجَامِعُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ ظُهُورُ الْعُمُومِ فِي الْحِسَابِ وَالْوُرُودِ وَالظُّلْمِ. فَأَوْضَحَ لَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ فِي كُلٍّ مِنْهَا أَمْرٌ خَاصٌّ.

وَلَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا قَلِيلًا مَعَ تَوَجُّهِ السُّؤَالِ وَظُهُورِهِ، وَذَلِكَ لِكَمَالِ فَهْمِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَمِّ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْمُشْكِلَاتِ عَلَى مَنْ سَأَلَ تَعَنُّتًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ فَهُمُ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ وَمِنْ ثَمَّ أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى صُبَيْغٍ لَمَّا رَآهُ أَكْثَرَ مِنَ السُّؤَالِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَعَاقَبَهُ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ هَذَا كُلِّهِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَسَيَأْتِي بَاقِيهِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَكَذَا الْكَلَامُ عَلَى انْتِقَادِ الدَّارَقُطْنِيِّ لِإِسْنَادِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌37 - بَاب لِيُبَلِّغْ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ

قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

104 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ

ص: 197

بِهَا شَجَرَةً. فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ.

[الحديث 104 طرفاه في: 4295، 1832]

قَوْلُهُ: (بَابُ لِيُبَلِّغَ الْعِلْمَ) بِالنَّصْبِ وَالشَّاهِدُ بِالرَّفْعِ وَالْغَائِبَ مَنْصُوبٌ أَيْضًا. وَالْمُرَادُ بِالشَّاهِدِ هُنَا الْحَاضِرُ، أَيْ لِيُبَلِّغْ مَنْ حَضَرَ مَنْ غَابَ ; لِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَإِنْ قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ.

قَوْلُهُ: (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ) أَيْ رَوَاهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَتِهِ وَرِوَايَةِ غَيْرِهِ بِحَذْفِ الْعِلْمِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِتَبْلِيغِهِ هُوَ الْعِلْمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ) هُوَ الْخُزَاعِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ الْعَاصِي بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي بْنِ أُمَيَّةَ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ يُعْرَفُ بِالْأَشْدَقِ، وَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ وَلَا كَانَ مِنَ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ) أَيْ يُرْسِلُ الْجُيُوشَ إِلَى مَكَّةَ لِقِتَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لِكَوْنِهِ امْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَاعْتَصَمَ بِالْحَرَمِ، وَكَانَ عَمْرٌو وَالِيَ يَزِيدَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةُ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ عَهِدَ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَهُ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ إِلَّا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ، فَأَمَّا ابْنُ أَبِي بَكْرٍ فَمَاتَ قَبْلَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ، وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَبَايَعَ لِيَزِيدَ عَقِبَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَسَارَ إِلَى الْكُوفَةِ لِاسْتِدْعَائِهِمْ إِيَّاهُ لِيُبَايِعُوهُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ قَتْلِهِ، وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَاعْتَصَمَ وَيُسَمَّى عَائِذَ الْبَيْتِ وَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ مَكَّةَ، فَكَانَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يَأْمُرُ أُمَرَاءَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ أَنْ يُجَهِّزُوا إِلَيْهِ الْجُيُوشَ، فَكَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ اجْتَمَعُوا عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ مِنَ الْخِلَافَةِ.

قَوْلُهُ: (ائْذَنْ لِي) فِيهِ حُسْنُ التَّلَطُّفِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى أُمَرَاءِ الْجَوْرِ لِيَكُونَ أَدْعَى لِقَبُولِهِمْ.

قَوْلُهُ: (أُحَدِّثْكَ) بِالْجَزْمِ لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ.

قَوْلُهُ: (قَامَ) صِفَةٌ لِلْقَوْلِ، وَالْمَقُولُ هُوَ حَمْدُ اللَّهِ إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (الْغَدَ) بِالنَّصْبِ أَيْ أَنَّهُ خَطَبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ. . . إِلَخْ) أَرَادَ أَنَّهُ بَالَغَ فِي حِفْظِهِ وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَأَتَى بِالتَّثْنِيَةِ تَأْكِيدًا، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: تَكَلَّمَ بِهِ عَائِدٌ عَلَى قَوْلِهِ قَوْلًا.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ) بِالضَّمِّ، أَيْ أَنَّ تَحْرِيمَهَا كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لَا مِنَ اصْطِلَاحِ النَّاسِ.

قَوْلُهُ: (يَسْفِكُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَهُوَ صَبُّ الدَّمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَتْلُ.

قوله: (بها) وللمستملي فيها.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَعْضِدُ) بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: يَقْطَعُ بِالْمِعْضَدِ وَهُوَ آلَةٌ كَالْفَأْسِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي) أَيِ اللَّهُ، رُوِيَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. وَفِي قَوْلِهِ لِي الْتِفَاتٌ؛ لِأَنَّ نَسَقَ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ أَيْ: لِرَسُولِهِ.

قَوْلُهُ: (سَاعَةً) أَيْ: مِقْدَارًا مِنَ الزَّمَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ يَوْمُ الْفَتْحِ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الْعَصْرِ، وَالْمَأْذُونُ لَهُ فِيهِ الْقِتَالُ لَا قَطْعُ الشَّجَرِ.

قَوْلُهُ: (مَا قَالَ عَمْرٌو) أَيْ: فِي جَوَابِكَ.

قَوْلُهُ: (لَا تُعِيذُ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ ذَالٌ مُعْجَمَةٌ أَيْ: مَكَّةُ لَا تَعْصِمُ الْعَاصِيَ عَنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ

قَوْلُهُ: (وَلَا فَارًّا) بِالْفَاءِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: هَارِبًا عَلَيْهِ دَمٌ يَعْتَصِمُ بِمَكَّةَ كَيْلَا يُقْتَصَّ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (بِخَرْبَةٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ ثُمَّ مُوَحَّدَةً، يَعْنِي السَّرِقَةَ، كَذَا ثَبَتَ تَفْسِيرُهَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْخُرْبَةُ بِالضَّمِّ الْفَسَادُ، وَبِالْفَتْحِ السَّرِقَةُ. وَقَدْ تَشَدَّقَ

(1)

عَمْرٌو فِي الْجَوَابِ وَأَتَى بِكَلَامٍ ظَاهِرُهُ حَقٌّ،

(1)

في الطبعات السابقة "تصرف" والتصحيح من مخطوطة الرياض، وعمرو كان يسمى "الاشدق" لتشدقه في البيان

ص: 198

لَكِنْ أَرَادَ بِهِ الْبَاطِلَ، فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِ نَصْبَ الْحَرْبِ عَلَى مَكَّةَ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْقِصَاصِ، وَهُوَ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَرْتَكِبْ أَمْرًا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَسَنَذْكُرُ مَبَاحِثَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ شَرَفُ مَكَّةَ، وَتَقْدِيمُ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَقْصُودِ، وَإِثْبَاتُ خَصَائِصِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتِوَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ فِي الْحُكْمِ إِلَّا مَا ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِهِ، وَوُقُوعُ النَّسْخِ، وَفَضْلُ أَبِي شُرَيْحٍ لِاتِّبَاعِهِ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

105 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ - عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ ذَلِكَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ. مَرَّتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدٍ) هُوَ ابْنُ سِيرِينَ (عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَسَقَطَ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ لِلْبَاقِينَ، فَصَارَ مُنْقَطِعًا لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَفِي رِوَايَةِ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهِيَ خَطَأٌ وَكَأَنَّ عَنْ سَقَطَتْ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَسَيَأْتِي بِهَذَا السَّنَدِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ بِإِسْقَاطِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ وَسَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ: عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَيَأْتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.

قَوْلُهُ: (ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) فِيهِ اخْتِصَارٌ وَقَدْ قَدَّمْنَا تَوْجِيهَهُ هُنَاكَ، وَكَأَنَّهُ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ ذَكَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ قَوْلُهُ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ. . . إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ سِيرِينَ.

قَوْلُهُ: (أَحْسِبُهُ) كَأَنَّهُ شَكَّ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْرَاضَكُمْ أَقَالَهَا ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ أَمْ لَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْعِلْمِ الْجَزْمُ بِهَا وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ بِالْعَطْفِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ) هَذَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ تَكْمِلَةُ الْحَدِيثِ، وَاعْتَرَضَ قَوْلَهُ: وَكَانَ مُحَمَّدٌ إِلَى قَوْلِهِ: ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ، هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا عَدَاهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

‌38 - بَاب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

106 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ، قَالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ.

قوله: (بَابُ إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي الْبَابِ تَصْرِيحٌ بِالْإِثْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْوَعِيدِ بِالنَّارِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَازِمُهُ.

قَوْلُهُ: (مَنْصُورٌ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ الْكُوفِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَرِبْعِيٌّ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ، وَأَبُوهُ حِرَاشٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَوَّلَهُ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عَلِيًّا) هُوَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه.

قَوْلُهُ: (لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ) هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ كَاذِبٍ، مُطْلَقٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْكَذِبِ، وَمَعْنَاهُ لَا تَنْسِبُوا الْكَذِبَ إِلَيَّ. وَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ: عَلَيَّ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُكْذَبَ لَهُ لِنَهْيِهِ عَنْ مُطْلَقِ الْكَذِبِ. وَقَدِ اغْتَرَّ قَوْمٌ مِنَ الْجَهَلَةِ فَوَضَعُوا أَحَادِيثَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَقَالُوا: نَحْنُ لَمْ نَكْذِبْ عَلَيْهِ، بَلْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَأْيِيدِ شَرِيعَتِهِ، وَمَا دَرَوْا

ص: 199

أَنَّ تَقْوِيلَهُ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْ يَقْتَضِي الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْإِيجَابِ أَوِ النَّدْبِ، وَكَذَا مُقَابِلُهُمَا وَهُوَ الْحَرَامُ وَالْمَكْرُوهُ. وَلَا يُعْتَدُّ بِمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنَ الْكَرَامِيَّةِ حَيْثُ جَوَّزُوا وَضْعَ الْكَذِبِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِي تَثْبِيتِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَاحْتَجّ بِأَنَّهُ كَذِبَ لَهُ لَا عَلَيْهِ، وَهُوَ جَهْلٌ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.

وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مِنْ زِيَادَةٍ لَمْ تَثْبُتْ وَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ لِيُضِلَّ بِهِ النَّاسَ الْحَدِيثَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ إِرْسَالَهُ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَيْسَتِ اللَّامُ فِيهِ لِلْعِلَّةِ بَلْ لِلصَّيْرُورَةِ كَمَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} وَالْمَعْنَى أَنَّ مَآلَ أَمْرِهِ إِلَى الْإِضْلَالِ، أَوْ هُوَ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعُمُومِ بِالذِّكْرِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} - {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} فَإِنَّ قَتْلَ الْأَوْلَادِ وَمُضَاعَفَةَ الرِّبَا وَالْإِضْلَالَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ فِيهَا لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَلِجِ النَّارَ) جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْوُلُوجِ مُسَبَّبًا عَنِ الْكَذِبِ ; لِأَنَّ لَازِمَ الْأَمْرِ الْإِلْزَامُ، وَالْإِلْزَامُ بِوُلُوجِ النَّارِ سَبَبُهُ الْكَذِبُ عَلَيْهِ أَوْ هُوَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: مَنْ يَكْذِبُ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: الْكَذِبُ عَلَيَّ يُولِجُ - أَيْ: يُدْخِلُ - النَّارَ.

107 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ وَ (جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ) كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ. وَفِي الْإِسْنَادِ لَطِيفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ، يَرْوِيهِ صَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ. ثَانِيهُمَا: أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ بِخُصُوصِ رِوَايَةِ الْأَبِ عَنِ الْجَدِّ، وَقَدْ أُفْرِدَتْ بِالتَّصْنِيفِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ) أَيِ: ابْنِ الْعَوَّامِ.

قَوْلُهُ: (تُحَدِّثُ) حَذَفَ مَفْعُولَهَا لِيَشْمَلَ قَوْلَهُ: (كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ) سُمِّيَ مِنْهُمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (أَمَا) بِالْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ وَهِيَ مِنْ حُرُوفِ التَّنْبِيهِ وَ (إِنِّي) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (لَمْ أُفَارِقْهُ) أَيْ: لَمْ أُفَارِقْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَالْمُرَادُ فِي الْأَغْلَبِ وَإِلَّا فَقَدْ هَاجَرَ الزُّبَيْرُ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْجِيهِ لِلسُّؤَالِ ; لِأَنَّ لَازِمَ الْمُلَازَمَةِ السَّمَاعُ، وَلَازِمُهُ إعَادَةُ التَّحْدِيثِ، لَكِنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا خَشِيَهُ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَلِهَذَا أَتَى بِقَوْلِهِ: لَكِنْ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي كِتَابِ النَّسَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: عَنَانِي ذَلِكَ يَعْنِي قِلَّةَ رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ: فَسَأَلْتُهُ أَيْ: عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ مَا عَلِمْتَ، وَعَمَّتُهُ أُمِّي، وَزَوْجَتُهُ خَدِيجَةُ عَمَّتِي، وَأُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ، وَجَدَّتِي هَالَةُ بِنْتُ وُهَيْبٍ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وَعِنْدِي أُمُّكَ، وَأُخْتُهَا عَائِشَةُ عِنْدَهُ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ.

قَوْلُهُ: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ) كَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ لَيْسَ فِيهِ مُتَعَمِّدًا وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ الْمَذْكُورَةِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ وَزَادَ فِيهِ مُتَعَمِّدًا وَكَذَا

ص: 200

لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى شُعْبَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِلَفْظِ: مَنْ حَدَّثَ عَنِّي كَذِبًا وَلَمْ يَذْكُرِ الْعَمْدَ. وَفِي تَمَسُّكِ الزُّبَيْرِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ اخْتِيَارِ قِلَّةِ التَّحْدِيثِ دَلِيلٌ لِلْأَصَحِّ فِي أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، وَالْمُخْطِئُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْثُومٍ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنَّ الزُّبَيْرَ خَشِيَ مِنَ الْإِكْثَارِ أَنْ يَقَعَ فِي الْخَطَأِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ بِالْخَطَأِ لَكِنْ قَدْ يَأْثَمُ بِالْإِكْثَارِ إِذْ الْإِكْثَارُ مَظِنَّةُ الْخَطَأِ، وَالثِّقَةُ إِذَا حَدَّثَ بِالْخَطَأِ فَحُمِلَ عَنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ أَنَّهُ خَطَأٌ يُعْمَلُ بِهِ عَلَى الدَّوَامِ لِلْوُثُوقِ بِنَقْلِهِ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْعَمَلِ بِمَا لَمْ يَقُلْهُ الشَّارِعُ، فَمَنْ خَشِيَ مِنْ الإِكْثَارِ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْإِثْمُ إِذَا تَعَمَّدَ الْإِكْثَارَ، فَمِنْ ثَمَّ تَوَقَّفَ الزُّبَيْرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ الْإِكْثَارِ مِنَ التَّحْدِيثِ. وَأَمَّا مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا وَاثِقِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالتَّثَبُّتِ، أَوْ طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ فَاحْتِيجَ إِلَى مَا عِنْدَهُمْ فَسُئِلُوا فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْكِتْمَانُ. رضي الله عنهم.

قَوْلُهُ: (فَلْيَتَبَوَّأْ) أَيْ فَلْيَتَّخِذْ لِنَفْسِهِ مَنْزِلًا، يُقَالُ: تَبَوَّأَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ إِذَا اتَّخَذَهُ سَكَنًا، وَهُوَ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَيْضًا، أَوْ بِمَعْنَى التَّهْدِيدِ، أَوْ بِمَعْنَى التَّهَكُّمِ، أَوْ دُعَاءٌ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ، أَيْ: بَوَّأَهُ اللَّهُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ كَذَبَ فَلْيَأْمُرْ نَفْسَهُ بِالتَّبَوُّءِ وَيَلْزَمْ عَلَيْهِ كَذَا، قَالَ: وَأَوَّلُهَا أَوْلَاهَا، فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي النَّارِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى الْقَصْدِ فِي الذَّنْبِ وَجَزَائِهِ، أَيْ كَمَا أَنَّهُ قَصَدَ فِي الْكَذِبِ التَّعَمُّدَ فَلْيَقْصِدْ بِجَزَائِهِ التَّبَوُّءَ.

108 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ الْبَصْرِيُّ الْمُقْعَدُ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٌ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (حَدِيثًا) الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْحَدِيثِ، وَلِهَذَا وَصَفَهُ بِالْكَثْرَةِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ فَاعِلُ يَمْنَعُنِي، وَإِنَّمَا خَشِيَ أَنَسٌ مِمَّا خَشِيَ مِنْهُ الزُّبَيْرُ، وَلِهَذَا صَرَّحَ بِلَفْظِ الْإِكْثَارِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ، وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى لَا يَأْمَنُ وُقُوعَهُ فِيهِ، فَكَانَ التَّقْلِيلُ مِنْهُمْ لِلِاحْتِرَازِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَنَسٌ مِنَ الْمُكْثِرِينَ؛ لِأَنَّهُ تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ فَاحْتِيجَ إِلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْكِتْمَانَ. وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ لَوْ حَدَّثَ بِجَمِيعِ مَا عِنْدَهُ لَكَانَ أَضْعَافَ مَا حَدَّثَ بِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَتَّابٍ - بِمُهْمَلَةٍ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ - مَوْلَى هُرْمُزَ، سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ أُخْطِئَ لَحَدَّثْتُكَ بِأَشْيَاءَ قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَدِّثُ إِلَّا مَا تَحَقَّقَهُ وَيَتْرُكُ مَا يَشُكُّ فِيهِ. وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُحَافِظُ عَلَى الرِّوَايَةِ بِاللَّفْظِ، فَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ أُخْطِئَ. وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَنَسٍ جَوَازُ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى كَمَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ صَرِيحًا، وَقَدْ وُجِدَ فِي رِوَايَاتِهِ ذَلِكَ كَالْحَدِيثِ فِي الْبَسْمَلَةِ، وَفِي قِصَّةِ تَكْثِيرِ الْمَاءِ عِنْدَ الْوُضُوءِ، وَفِي قِصَّةِ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ.

قَوْلُهُ: (كَذِبًا) هُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ.

109 -

حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ) هُوَ اسْمٌ وَلَيْسَ بِنَسَبٍ كَمَا تَقَدَّمَ: وَهُوَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، سَمِعَ مِنْ سَبْعَةَ عَشْرَ

ص: 201

نَفْسًا مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَهُوَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ صَاحِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوَّلُ ثُلَاثِيٍّ وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ فِيهِ أَعْلَى مِنَ الثُّلَاثِيَّاتِ، وَقَدْ أُفْرِدَتْ فَبَلَغَتْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ حَدِيثًا.

قَوْلُهُ: (مَنْ يَقُلْ) أَصْلُهُ يَقُولُ، وَإِنَّمَا جُزِمَ بِالشَّرْطِ.

قَوْلُهُ: (مَا لَمْ أَقُلْ) أَيْ: شَيْئًا لَمْ أَقُلْهُ فَحَذَفَ الْعَائِدَ وَهُوَ جَائِزٌ، وَذَكَرَ الْقَوْلَ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ، وَحُكْمُ الْفِعْلِ كَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ دَخَلَ الْفِعْلُ فِي عُمُومِ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ، وَأَنَسٍ السَّابِقَيْنِ لِتَعْبِيرِهِمَا بِلَفْظِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَ حَدِيثِ سَلَمَةَ فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا، وَفَعَلَ كَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَالَهُ أَوْ فَعَلَهُ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ مَنْ مَنَعَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى. وَأَجَابَ الْمُجِيزُونَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِلَفْظٍ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْحُكْمِ مَعَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِاللَّفْظِ لَا شَكَّ فِي أَوْلَوِيَّتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

110 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي، وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ.

[الحديث 110 - أطرافه في: 6993، 6197، 6188، 3539]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَصِينٍ) هُوَ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ، وَأَبُو صَالِحٍ هُوَ ذَكْوَانُ السَّمَّانُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدِ اقْتَصَرَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ لَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ مَقْصُودُ الْبَابِ، وَإِنَّمَا سَاقَهُ الْمُؤَلِّفُ بِتَمَامِهِ وَلَمْ يَخْتَصِرْهُ كَعَادَتِهِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَوِي فِيهِ الْيَقَظَةُ وَالْمَنَامُ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: الْكَذِبُ مَعْصِيَةٌ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ فِي الْإِصْلَاحِ وَغَيْرِهِ، وَالْمَعَاصِي قَدْ تُوُعِّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ، فَمَا الَّذِي امْتَازَ بِهِ الْكَاذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَى غَيْرِهِ؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ يُكَفِّرُ مُتَعَمِّدَهُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، لَكِنْ ضَعَّفَهُ ابْنُهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ بَعْدَهُ، وَمَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْكَاذِبَ عَلَيْهِ فِي تَحْلِيلِ حَرَامٍ مَثَلًا لَا يَنْفَكُّ عَنِ اسْتِحْلَالِ ذَلِكَ الْحَرَامِ أَوِ الْحَمْلِ عَلَى اسْتِحْلَالِهِ، وَاسْتِحْلَالُ الْحَرَامِ كُفْرٌ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْكُفْرِ كُفْرٌ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ حِلَّ ذَلِكَ.

الْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ كَبِيرَةٌ وَالْكَذِبُ عَلَى غَيْرِهِ صَغِيرَةٌ فَافْتَرَقَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اسْتِوَاءِ الْوَعِيدِ فِي حَقِّ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ أَوْ كَذَبَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ مَقَرُّهُمَا وَاحِدًا أَوْ طُولُ إِقَامَتِهِمَا سَوَاءً، فَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: فَلْيَتَبَوَّأْ عَلَى طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهَا، بَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَنْزِلًا غَيْرَهُ، إِلَّا أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْقَطْعِيَّةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ خُلُودَ التَّأْبِيدِ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِينَ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْكَذِبِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْكَذِبِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجَنَائِزِ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ حَيْثُ يَقُولُ: إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ وَسَنَذْكُرُ مَبَاحِثَهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَذْكُرُ فِيهِ الِاخْتِلَافَ فِي تَوْبَةِ مَنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ عَلَيْهِ هَلْ تُقْبَلُ أَوْ لَا. (تَنْبِيهٌ): رَتَّبَ الْمُصَنِّفُ أَحَادِيثَ الْبَابِ تَرْتِيبًا حَسَنًا؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ وَفِيهِ مَقْصُودُ الْبَابِ، وَثَنَّى بِحَدِيثِ الزُّبَيْرِ الدَّالِّ عَلَى تَوَقِّي الصَّحَابَةِ وَتَحَرُّزِهِمْ مِنَ الْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَثَلَّثَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ امْتِنَاعَهُمْ إِنَّمَا كَانَ مِنَ الْإِكْثَارِ الْمُفْضِي إِلَى الْخَطَأِ لَا عَنْ أَصْلِ التَّحْدِيثِ ; لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ، وَخَتَمَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى اسْتِوَاءِ تَحْرِيمِ

ص: 202

الْكَذِبِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ دَعْوَى السَّمَاعِ مِنْهُ فِي الْيَقِظَةِ أَوْ فِي الْمَنَامِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ فِي الْجَنَائِزِ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ فِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَهُوَ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ بِلَفْظِ الْوَعِيدِ بِالنَّارِ صَرِيحًا. وَاتَّفَقَ مُسْلِمٌ مَعَهُ عَلَى تَخْرِيجِ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْمُغِيرَةِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا، وَصَحَّ أَيْضًا فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي قَتَادَةَ، وَجَابِرٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَوَرَدَ بِأَسَانِيدَ حِسَانٍ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَطَارِقٍ الْأَشْجَعِيِّ، وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، وَخَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَأَبِي قِرْصَافَةَ، وَأَبِي مُوسَى الْغَافِقِيِّ، وَعَائِشَةَ، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ نَفْسًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَوَرَدَ أَيْضًا عَنْ نَحْوِ من خَمْسِينَ غَيْرِهِمْ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ، وَعَنْ نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ آخَرِينَ بِأَسَانِيدَ سَاقِطَةٍ.

وَقَدِ اعْتَنَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ بِجَمْعِ طُرُقِهِ، فَأَوَّلُ مَنْ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِهِ فِي ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَتَبِعَهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ، فَقَالَ: رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: إِنَّهُ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَرْبَعِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَجَمَعَ طُرُقَهُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ فَزَادَ قَلِيلًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيّرفي شَارِحُ رِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ: رَوَاهُ سِتُّونَ نَفْسًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَجَمَعَ طُرُقَهُ الطَّبَرَانِيُّ فَزَادَ قَلِيلًا، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ: رَوَاهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِينَ نَفْسًا، وَقَدْ خَرَّجَهَا بَعْضُ النَّيْسَابُورِيِّينَ فَزَادَتْ قَلِيلًا، وَقَدْ جَمَعَ طُرُقَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِ الْمَوْضُوعَاتِ فَجَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ دِحْيَةَ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ: يَرْوِيهِ نَحْوُ مِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَمَعَهَا بَعْدَهُ الْحَافِظَانِ يُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَكْرِيُّ، وَهُمَا مُتَعَاصِرَانِ فَوَقَعَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ، وَتَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ كُلِّهِ رِوَايَةُ مِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا فَصَّلْتُهُ مِنْ صَحِيحٍ وَحَسَنٍ وَضَعِيفٍ وَسَاقِطٍ، مَعَ أَنَّ فِيهَا مَا هُوَ فِي مُطْلَقِ ذَمِّ الْكَذِبِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِهَذَا الْوَعِيدِ الْخَاصِّ.

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ جَاءَ عَنْ مِائَتَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَجْلِ كَثْرَةِ طُرُقِهِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، وَنَازَعَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي ذَلِكَ قَالَ: لِأَنَّ شَرْطَ التَّوَاتُرِ اسْتِوَاءُ طَرَفَيْهِ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي الْكَثْرَةِ، وَلَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي كُلِّ طَرِيقٍ مِنْهَا بِمُفْرَدِهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِطْلَاقِ كَوْنِهِ مُتَوَاتِرًا رِوَايَةُ الْمَجْمُوعِ عَنِ الْمَجْمُوعِ مِنِ ابْتِدَائِهِ إِلَى انْتِهَائِهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَهَذَا كَافٍ فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ. وَأَيْضًا فَطَرِيقُ أَنَسٍ وَحْدَهَا قَدْ رَوَاهَا عَنْهُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ وَتَوَاتَرَتْ عَنْهُمْ. نَعَمْ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَوَاهُ عَنْهُ سِتَّةٌ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَثِقَاتِهِمْ، وَكَذَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَلَوْ قِيلَ فِي كُلٍّ مِنْهَا: إِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ صَحَابِيِّهِ لَكَانَ صَحِيحًا، فَإِنَّ الْعَدَدَ الْمُعَيَّنَ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَوَاتِرِ، بَلْ مَا أَفَادَ الْعِلْمَ كَفَى، وَالصِّفَاتُ الْعَلِيَّةُ فِي الرُّوَاةِ تَقُومُ مَقَامَ الْعَدَدِ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي نُكَتِ عُلُومِ الْحَدِيثِ وَفِي شَرْحِ نُخْبَةِ الْفِكْرِ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ الرَّدَّ عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ مِثَالَ الْمُتَوَاتِرِ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيَّنْتُ أَنَّ أَمْثِلَتَهُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا حَدِيثُ مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ، وَرُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، وَوَافَقَهُ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُورَةِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَدِيثٌ أَجْمَعَ الْعَشَرَةُ عَلَى رِوَايَتِهِ غَيْرُهُ، فَقَدْ تَعَقَّبَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، لَكِنَّ الطُّرُقَ عَنْهُمْ مَوْجُودَةٌ فِيمَا جَمَعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ، وَالثَّابِتُ مِنْهَا مَا قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ. فَمِنَ الصِّحَاحِ عَلِيٌّ،

ص: 203

وَالزُّبَيْرُ، وَمِنَ الْحِسَانِ طَلْحَةُ، وَسَعْدٌ، وَسَعِيدٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمِنَ الضَّعِيفِ الْمُتَمَاسِكِ طَرِيقُ عُثْمَانَ، وَبَقِيَّتُهَا ضَعِيفٌ وَسَاقِطٌ.

‌39 - بَاب كِتَابَةِ الْعِلْمِ

111 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.

[الحديث 111 - أطرافه في: 7300، 6915، 6903، 6755، 3179، 3172، 3047، 1870]

قَوْلُهُ: (بَابُ كِتَابَةِ الْعِلْمِ) طَرِيقَةُ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الِاخْتِلَافُ أَنْ لَا يَجْزِمَ فِيهَا بِشَيْءٍ بَلْ يُورِدُهَا عَلَى الِاحْتِمَالِ. وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ السَّلَفَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَمَلًا وَتَرْكًا، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ اسْتَقَرَّ وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى جَوَازِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ، بَلْ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، بَلْ لَا يَبْعُدُ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ خَشِيَ النِّسْيَانَ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ) كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سُفْيَانَ) هُوَ الثَّوْرِيُّ ; لِأَنَّ وَكِيعًا مَشْهُورٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ فِي الْأَطْرَافِ: يُقَالُ: إِنَّهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ. قُلْتُ: لَوْ كَانَ ابْنَ عُيَيْنَةَ لَنَسَبَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي كُلِّ مَنْ رَوَى عَنْ مُتَّفِقِي الِاسْمِ أَنْ يَحْمِلَ مَنْ أَهْمَلَ نِسْبَتَهُ عَلَى مَنْ يَكُونُ لَهُ بِهِ خُصُوصِيَّةٌ مِنْ إِكْثَارٍ وَنَحْوِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَبْلَ هَذَا، وَهَكَذَا نَقُولُ هُنَا؛ لِأَنَّ وَكِيعًا قَلِيلُ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِخِلَافِ الثَّوْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُطَرِّفٍ) هُوَ بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ ابْنُ طَرِيفٍ بِطَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (عَنِ الشَّعْبِيِّ) وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الدِّيَاتِ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) هُوَ وَهْبٌ السُّوَائِيُّ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الدِّيَاتِ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ دَخَلَ الْكُوفَةَ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ صَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِعَلِيٍّ) هُوَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه.

قَوْلُهُ: (هَلْ عِنْدَكُمْ) الْخِطَابُ لِعَلِيٍّ، وَالْجَمْعُ إِمَّا لِإِرَادَتِهِ مَعَ بَقِيَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ لِلتَّعْظِيمِ.

قَوْلُهُ: (كِتَابٌ) أَيْ: مَكْتُوبٌ أَخَذْتُمُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَلَهُ فِي الدِّيَاتِ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ: هَلْ عَلِمْتَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ وَإِنَّمَا سَأَلَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الشِّيعَةِ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيْتِ - لَا سِيَّمَا عَلِيًّا - أَشْيَاءَ مِنَ الْوَحْيِ خَصَّهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا لَمْ يُطْلِعْ غَيْرَهُمْ عَلَيْهَا. وَقَدْ سَأَلَ عَلِيًّا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ - وَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ - وَالْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، وَحَدِيثُهُمَا فِي مُسْنَدِ النَّسَائِيِّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجِهَادِ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ) هُوَ بِالرَّفْعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ أَشْيَاءُ مَكْتُوبَةٌ مِنَ الْفِقْهِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ لِأَنَّهُ ذُكِرَ بِالرَّفْعِ، فَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَكَانَ مَنْصُوبًا. كَذَا قَالَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ مُنْقَطِعٌ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ الْفَهْمِ إِثْبَاتُ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي الدِّيَاتِ بِلَفْظِ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ مِنَ الْكِتَابِ فَالِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ مُفَرَّغٌ وَالثَّانِي مُنْقَطِعٌ، مَعْنَاهُ لَكِنْ إِنْ أَعْطَى اللَّهُ رَجُلًا فَهْمًا فِي كِتَابِهِ فَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ فَتَحْصُلُ عِنْدَهُ الزِّيَادَةُ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ طَرِيقِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ

ص: 204

قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا كِتَابَ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْفَهْمِ شَيْئًا مَكْتُوبًا.

قَوْلُهُ: (الصَّحِيفَةَ) أَيِ: الْوَرَقَةَ الْمَكْتُوبَةَ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَشْتَرِ فَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ.

قَوْلُهُ: (الْعَقْلُ) أَيِ: الدِّيَةُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعْطُونَ فِيهَا الْإِبِلَ وَيَرْبِطُونَهَا بِفِنَاءِ دَارِ الْمَقْتُولِ بِالْعِقَالِ وَهُوَ الْحَبْلُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ بَدَلَ الْعَقْلِ الدِّيَاتُ وَالْمُرَادُ أَحْكَامُهَا وَمَقَادِيرُهَا وَأَصْنَافُهَا.

قَوْلُهُ: (وَفِكَاكُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْفَتْحُ أَفْصَحُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ فِيهَا حُكْمَ تَخْلِيصِ الْأَسِيرِ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ وَالتَّرْغِيبَ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يُقْتَلُ) بِضَمِّ اللَّامِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: وَأَنْ لَا يُقْتَلَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى الْمُفْرَدِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهَا أَيِ الصَّحِيفَةِ حُكْمُ الْعَقْلِ وَحُكْمُ تَحْرِيمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَوَقَعَ لِلْمُصَنِّفِ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابَ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ. فَإِذَا فِيهَا: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ. . . الْحَدِيثَ. وَلِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا. وَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبَةً فِيهَا: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. . . الْحَدِيثَ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَشْتَرِ وَغَيْرِهِ عَنْ عَلِيٍّ: فَإِذَا فِيهَا: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ. الْحَدِيثَ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: فِيهَا فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الصَّحِيفَةَ كَانَتْ وَاحِدَةً وَكَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَكْتُوبًا فِيهَا، فَنَقَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّوَاة عَنْهُ مَا حَفِظَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ قَتَادَةُ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي حَسَّانٍ، عَنْ عَلِيٍّ، وَبَيَّنَ أَيْضًا السَّبَبَ فِي سُؤَالِهِمْ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَسَّانٍ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُ بِالْأَمْرِ فَيُقَالُ: قَدْ فَعَلْنَاهُ. فَيَقُولُ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ لَهُ الْأَشْتَرُ: هَذَا الَّذِي تَقُولُ: أَهُوَ شَيْءٌ عَهِدَهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً دُونَ النَّاسِ؟ فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ.

112 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْقَتْلَ - أَوْ: الْفِيلَ، شك أَبُو عَبْد اللَّهِ - وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أَلَا وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اكْتُبُوا لِأَبِي فُلَانٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِلَّا الْإِذْخِرَ إِلَّا الْإِذْخِرَ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: يُقَالُ: يُقَادُ بِالْقَافِ، فَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَيُّ شَيْءٍ كَتَبَ لَهُ؟ قَالَ: كَتَبَ لَهُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ.

[الحديث 112 - طرفاه في: 6880، 2434]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُكَنَّى أَبَا مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ،

ص: 205

وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ غَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الدِّيَاتِ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (أنَّ خُزَاعَةَ) أَيِ الْقَبِيلَةَ الْمَشْهُورَةَ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْقَبِيلَةِ مَجَازًا، وَاسْمُ هَذَا الْقَاتِلِ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيُّ، وَالْمَقْتُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَحْمَرُ، وَالْمَقْتُولُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ بَنِي لَيْثِ لَمْ يُسَمَّ.

قَوْلُهُ: (حَبَسَ) أَيْ: مَنَعَ عَنْ مَكَّةَ. (الْقَتْلَ) أَيْ: بِالْقَافِ وَالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ (أَوِ الْفِيلِ) أَيْ: بِالْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (كَذَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ) أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ شَيْخِهِ.

قَوْلُهُ: (وَغَيْرُهُ يَقُولُ: الْفِيلُ) أَيْ: بِالْفَاءِ وَلَا يَشُكُّ، وَالْمُرَادُ بِالْغَيْرِ مَنْ رَوَاهُ عَنْ شَيْبَانَ رَفِيقًا لِأَبِي نُعَيْمٍ، وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، وَمَنْ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى رَفِيقًا لِشَيْبَانَ وَهُوَ حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الدِّيَاتِ، وَالْمُرَادُ بِحَبْسِ الْفِيلِ: أَهْلُ الْفِيلِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ لِلْحَبَشَةِ فِي غَزْوِهِمْ مَكَّةَ وَمَعَهُمُ الْفِيلُ، فَمَنَعَهَا اللَّهُ مِنْهُمْ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الطَّيْرَ الْأَبَابِيلَ مَعَ كَوْنِ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ ذَاكَ كَانُوا كُفَّارًا، فَحُرْمَةُ أَهْلِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ آكَد ; لَكِنَّ غَزْوَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا مَخْصُوصٌ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَسُلِّطَ عَلَيْهِمْ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَرَسُولُ مَرْفُوعٌ، وَالْمُؤْمِنُونَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَحِلُّ) لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: وَلَمْ تَحِلَّ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي اللُّقَطَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى: وَلَنْ وَهِيَ أَلْيَقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ.

قَوْلُهُ: (لَا يُخْتَلَى) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَا يُحْصَدُ، يُقَالُ: اخْتَلَيْتُهُ إِذَا قَطَعْتُهُ وَذِكْرُ الشَّوْكِ دَالٌّ عَلَى مَنْعِ قَطْعِ غَيْرِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْخِلَافِ فِيهِ فِي الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (إِلَّا لِمُنْشِدٍ) أَيْ مُعَرِّفٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَفِيهِ حَذْفٌ وَقَعَ بَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الدِّيَاتِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ.

قَوْلُهُ: (وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ) هُوَ بِالْقَافِ أَيْ: يَقْتَصُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ لِمُسْلِمٍ إِمَّا أَنْ يُفَادَى بِالْفَاءِ وَزِيَادَةِ يَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ: مَنْ قَالَهَا بِالْقَافِ قَالَ فِيمَا قَبْلَهَا: إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ مِنَ الْعَقْلِ وَهُوَ الدِّيَةُ، وَمَنْ قَالَهَا بِالْفَاءِ قَالَ فِيمَا قَبْلَهَا: إِمَّا أَنْ يُقْتَلَ بِالْقَافِ وَالْمُثَنَّاةِ. وَالْحَاصِلُ تَفْسِيرُ النَّظَرَيْنِ بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ يَأْتِي فِي الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ) هُوَ أَبُو شَاهٍ بِهَاءٍ مُنَوَّنَةٍ، وَسَيَأْتِي فِي اللُّقَطَةِ مُسَمًّى، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ حَرَّفَهُ، وَهُنَاكَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ: قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: مَا قَوْلُهُ: اكْتُبُوا لِي؟ قَالَ: هَذِهِ الْخُطْبَةُ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُطَابَقَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ) هُوَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَمَا يَأْتِي فِي اللُّقَطَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: يُقَالُ لَهُ: شَاهٌ وَهُوَ غَلَطٌ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا الْإِذْخِرَ) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا بِالنَّصْبِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الْبَدَلِ مِمَّا قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا الْإِذْخِرَ إِلَّا الْإِذْخِرَ) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا، وَالثَّانِيَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ.

113 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَخِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ الْمَكِّيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَخِيهِ) هُوَ هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ، وَكَانَ

ص: 206

أَكْبَرَ مِنْهُ سِنًّا لَكِنْ تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ عَنْ وَهْبٍ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْ طَبَقَةٍ مُتَقَارِب ةٍ أَوَّلُهُمْ عَمْرٌو.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ) هَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَكْثَرِيَّةِ مَا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ - عَلَى مَا عِنْدَهُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ جَازِمًا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ الْمَوْجُودَ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَقَلُّ مِنَ الْمَوْجُودِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ فَلَا إِشْكَالَ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَكِنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ لَمْ يَكُنْ مِنِّي، سَوَاءٌ لَزِمَ مِنْهُ كَوْنُهُ أَكْثَرَ حَدِيثًا لِمَا تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ أَمْ لَا. وَإِنْ قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ فَالسَّبَبُ فِيهِ مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْعِبَادَةِ أَكْثَرَ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِالتَّعْلِيمِ، فَقَلَّتِ: الرِّوَايَةُ عَنْهُ. ثَانِيهَا أَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَ مُقَامِهِ بَعْدَ فُتُوحِ الْأَمْصَارِ بِمِصْرَ أَوْ بِالطَّائِفِ وَلَمْ تَكُنِ الرِّحْلَةُ إِلَيْهِمَا مِمَّنْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ كَالرِّحْلَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مُتَصَدِّيًا فِيهَا لِلْفَتْوَى وَالتَّحْدِيثِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَيَظْهَرُ هَذَا مِنْ كَثْرَةِ مَنْ حَمَلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ ثَمَانَمِائَةِ نَفْسٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يَقَعْ هَذَا لِغَيْرِهِ.

ثَالِثُهَا مَا اخْتُصَّ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِأَنْ لَا يَنْسَى مَا يُحَدِّثُهُ بِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا. رَابِعُهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ قَدْ ظَفِرَ فِي الشَّامِ بِحِمْلِ جَمَلٍ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يَنْظُرُ فِيهَا وَيُحَدِّثُ مِنْهَا فَتَجَنَّبَ الْأَخْذَ عَنْهُ لِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: (وَلَا أَكْتُبُ) قَدْ يُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةٍ قَالَ: تُحُدِّثَ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثٍ، فَأَخَذَ بِيَدِي إِلَى بَيْتِهِ فَأَرَانَا كُتُبًا مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: هَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدِي. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدِيثُ هَمَّامٍ أَصَحُّ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَكْتُبُ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ ثُمَّ كَتَبَ بَعْدَهُ. قُلْتُ: وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْحَدِيثِ مَكْتُوبًا عَنْده أَنْ يَكُونَ بِخَطِّهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَكْتُبُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَكْتُوبَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ خَطِّهِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مَعْمَرٌ) أَيِ: ابْنُ رَاشِدٍ، يَعْنِي تَابَعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ هَمَّامٍ، وَالْمُتَابَعَةُ الْمَذْكُورَةُ أَخْرَجَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَأَخْرَجَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ لَهُ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ عَنْهُ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَا: سَمِعْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ بِيَدِهِ وَيَعِي بِقَلْبِهِ، وَكُنْتُ أَعِي وَلَا أَكْتُبُ، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكِتَابِ عَنْهُ فَأَذِنَ لَهُ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الْعُقَيْلِيُّ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ بِيَدِهِ مَا سَمِعَ مِنْهُ فَأَذِنَ لَهُ الْحَدِيثَ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا الْحَقُّ وَلِهَذَا طُرُقٌ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.

وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَا فِي الْوَعْيِ سَوَاءً لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ اخْتِصَاصِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالدُّعَاءِ بِعَدَمِ النِّسْيَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ تُحْمَلُ أَكْثَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى مَا فَازَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ مِنَ الْكِتَابَةِ قَبْلَ الدُّعَاءِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدُ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ فِيمَا سَمِعَهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ، بِخِلَافِ عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّ الَّذِي سَمِعَهُ مَضْبُوطٌ بِالْكِتَابَةِ، وَالَّذِي انْتَشَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَا انْتَشَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لِتَصَدِّي أَبِي هُرَيْرَةَ لِذَلِكَ وَمُقَامُهُ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، بِخِلَافِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْأَمْرَيْنِ.

ص: 207

وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ وَمِنْ الحَدِيثِ عَلِيٍّ الْمُتَقَدِّمِ وَمِنْ قِصَّةِ أَبِي شَاهٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ عَنْهُ، وَهُوَ يُعَارِضُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِوَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ خَشْيَةَ الْتِبَاسِهِ بِغَيْرِهِ، وَالْإِذْنَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. أَوْ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِكِتَابَةِ غَيْرِ الْقُرْآنِ مَعَ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَالْإِذْنَ فِي تَفْرِيقِهِمَا، أَوِ النَّهْيَ مُتَقَدِّمٌ وَالْإِذْنَ نَاسِخٌ لَهُ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنَ الِالْتِبَاسِ وَهُوَ أَقْرَبُهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُنَافِيهَا.

وَقِيلَ: النَّهْيُ خَاصٌّ بِمَنْ خُشِيَ مِنْهُ الِاتِّكَالُ عَلَى الْكِتَابَةِ دُونَ الْحِفْظِ، وَالْإِذْنُ لِمَنْ أُمِنَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعَلَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ وَقَالَ: الصَّوَابُ وَقْفُهُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كِتَابَةَ الْحَدِيثِ، وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُمْ حِفْظًا كَمَا أَخَذُوا حِفْظًا، لَكِنْ لَمَّا قَصُرَتِ الْهِمَمُ وَخَشِيَ الْأَئِمَّةُ ضَيَاعَ الْعِلْمِ دَوَّنُوهُ، وَأَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الْحَدِيثَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ كَثُرَ التَّدْوِينُ ثُمَّ التَّصْنِيفُ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

114 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ قَالَ: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ. قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا، فَاخْتَلَفُوا، وَكَثُرَ اللَّغَطُ. قَالَ: قُومُوا عَنِّي، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ، فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كِتَابِهِ.

[الحديث 114 - أطرافه في: 7366، 5669، 4432، 4431، 3168، 3053]

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي يُونُسُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا اشْتَدَّ) أَيْ: قَوِيَ.

قَوْلُهُ: (وَجَعُهُ) أَيْ: فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْمَغَازِي وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: لَمَّا حَضَرَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْوَفَاةُ وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَهُوَ قَبْلَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.

قَوْلُهُ: (بِكِتَابٍ) أَيْ: بِأَدَوَاتِ الْكِتَابِ، فَفِيهِ مَجَازُ الْحَذْفِ. وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: ائْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ وَالْمُرَادُ بِالْكَتِفِ عَظْمُ الْكَتِفِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (أَكْتُبْ) هُوَ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَفِيهِ مَجَازٌ أَيْضًا، أَيْ: آمُرُ بِالْكِتَابَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِذَلِكَ وَلَفْظُهُ أَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ آتِيَهُ بِطَبَقٍ - أَيْ: كَتِفٍ - يَكْتُبُ مَا لَا تَضِلُّ أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ.

قَوْلُهُ: (كِتَابًا) بَعْدَ قَوْلِهِ: بِكِتَابٍ فِيهِ الْجِنَاسُ التَّامُّ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْحَقِيقَةِ وَالْأُخْرَى بِالْمَجَازِ.

قَوْلُهُ: (لَا تَضِلُّوا) هُوَ نَفْيُ وَحُذِفَتِ النُّونِ فِي الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ جَوَابِ الْأَمْرِ، وَتَعَدُّدُ جَوَابِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ جَائِزٌ.

قَوْلُهُ: (غَلَبَهُ الْوَجَعُ) أَيْ: فَيَشُقُّ عَلَيْهِ إِمْلَاءُ الْكِتَابِ أَوْ مُبَاشَرَةُ الْكِتَابَةِ، وَكَأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّطْوِيلَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: ائْتُونِي أَمْرٌ، وَكَانَ حَقُّ الْمَأْمُورِ أَنْ يُبَادِرَ لِلِامْتِثَالِ، لَكِنْ ظَهَرَ لِعُمَرَ رضي الله عنه مَعَ طَائِفَةٍ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَصْلَحِ، فَكَرِهُوا أَنْ يُكَلِّفُوهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشُقُّ

ص: 208

عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَعَ اسْتِحْضَارِهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ. وَظَهَرَ لِطَائِفَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُكْتَبَ لِمَا فِيهِ مِنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيضَاحِ، وَدَلَّ أَمْرُهُ لَهُمَ بِالْقِيَامِ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ الْأَوَّلَ كَانَ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَلِهَذَا عَاشَ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا وَلَمْ يُعَاوِدْ أَمْرَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَتْرُكْهُ لِاخْتِلَافِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ التَّبْلِيغَ لِمُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُرَاجِعُونَهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَا لَمْ يَجْزِمْ بِالْأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمَ امْتَثَلُوا. وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ عُدَّ هَذَا مِنْ مُوَافَقَةِ عُمَرَ رضي الله عنه. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ، فَقِيلَ: كَانَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا يَنُصُّ فِيهِ عَلَى الْأَحْكَامِ لِيَرْتَفِعَ الِاخْتِلَافُ، وَقِيلَ: بَلْ أَرَادَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى أَسَامِي الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ، قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ.

وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أَوَائِلِ مَرَضِهِ وَهُوَ عِنْدَ عَائِشَةَ: ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولُ قَائِلٌ، وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلِلْمُصَنِّفِ مَعْنَاهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكْتُبْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِ عُمَرَ: كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا. أَيْ: كَافِينَا. مَعَ أَنَّهُ يَشْمَلُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَائِدَةٌ): قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا ذَهَبَ عُمَرُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ نَصَّ بِمَا يُزِيلُ الْخِلَافِ لَبَطَلَتْ فَضِيلَةُ الْعُلَمَاءِ وَعُدِمَ الِاجْتِهَادُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى شَيْءٍ أَوْ أَشْيَاءَ لَمْ يَبْطُلِ الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا. قَالَ: وَإِنَّمَا خَافَ عُمَرُ أَنْ يَكُونَ مَا يَكْتُبُهُ فِي حَالَةِ غَلَبَةِ الْمَرَضِ فَيَجِدُ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ سَبِيلًا إِلَى الطَّعْنِ فِي ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ، وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُهُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِيَ التَّنَازُعُ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْأَوْلَى كَانَ الْمُبَادَرَةَ إِلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ مَا اخْتَارَهُ عُمَرُ صَوَابًا إِذْ لَمْ يَتَدَارَكْ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا، وَتَمَسَّكَ آخَرُونَ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ فَلَمْ يُصَلُّوا، فَمَا عَنَّفَ أَحَدًا مِنْهُمْ مِنْ أَجْلِ الِاجْتِهَادِ الْمُسَوِّغِ وَالْمَقْصِدِ الصَّالِحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ مَعَهُمْ، وَأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ خَرَجَ قَائِلًا هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي الْوَاقِعِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الظَّاهِرُ، بَلْ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا كَانَ يَقُولُهُ عِنْدَمَا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الِاعْتِصَامِ وَغَيْرِهِ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ. وَكَذَا لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ. وَجَزَمَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضِيِّ بِمَا قُلْتُهُ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَحَادِيثِ يَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي مَكَانِهِ اللَّائِقِ بِهِ، إِلَّا حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَو فَهُوَ عُمْدَةُ الْبَابِ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا حَدَّثَ عُبَيْدَ اللَّهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ خَرَجَ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ بِهِ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَسَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ. . . إِلَخْ. وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ تَابِعِيٌّ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يُدْرِكِ الْقِصَّةَ فِي وَقْتِهَا؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ثُمَّ سَمِعَهَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ أُخْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (الرَّزِيئَةُ) هِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا يَاءٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ، وَقَدْ تُسَهَّلُ الْهَمْزَةُ وَتُشَدَّدُ الْيَاءُ، وَمَعْنَاهَا الْمُصِيبَةُ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ أَيْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ سَبَبًا لِتَرْكِ كِتَابَةِ الْكِتَابِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ، وَعَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي حِرْمَانِ الْخَيْرِ كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَخَاصَمَا فَرُفِعَ تَعْيِينُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَفِيهِ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ فِيهِ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي أَوَاخِرِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 209

(تَنْبِيهٌ): قَدَّمَ حَدِيثَ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَتَبَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَطْرُقُهُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا كَتَبَ ذَلِكَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ، وَثَنَّى بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ بَعْدَ النَّهْيِ فَيَكُونُ نَاسِخًا، وَثَلَّثَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَدْ بَيَّنْتُ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ إِذْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ أَقْوَى فِي الِاسْتِدْلَالِ لِلْجَوَازِ مِنَ الْأَمْرِ أَنْ يَكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ لِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِمَنْ يَكُونُ أُمِّيًّا أَوْ أَعْمَى، وَخَتَمَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم هَمَّ أَنْ يَكْتُبَ لِأُمَّتِهِ كِتَابًا يَحْصُلُ مَعَهُ الْأَمْنُ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَهُوَ لَا يَهُمُّ إِلَّا بِحَقٍّ.

‌40 - بَاب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ

115 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ هِنْدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَعَمْرٍو، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ هِنْدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتَنِ، وَمَاذَا فُتِحَ مِنْ الْخَزَائِنِ. أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ.

[الحديث 115 - أطرافه في: 7069، 6218، 5844، 3599، 1126]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْعِلْمِ) أَيْ: تَعْلِيمِ الْعِلْمِ بِاللَّيْلِ، وَالْعِظَةُ تَقَدَّمَ أَنَّهَا الْوَعْظُ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْحَدِيثِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مَخْصُوصٌ بِمَا لَا يَكُونُ فِي الْخَيْرِ.

قَوْلُهُ: (صَدَقَةُ) هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِنْدٍ) هِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ الْفِرَاسِيَّةُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَدَلُهَا عَنِ امْرَأَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَعَمْرٌو) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا بِالرَّفْعِ، وَيَجُوزُ الْكَسْرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ حَدَّثَهُمْ عَنْ مَعْمَرٍ ثُمَّ قَالَ: وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، فَعَلَى رِوَايَةِ الْكَسْرِ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَعْمَرٍ، وَعَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ يَكُونُ اسْتِئْنَافًا كَأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ حَدَّثَ بِحَذْفِ صِيغَةِ الْأَدَاءِ وَقَدْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى الْحُمَيْدِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ عَنِ الثَّلَاثَةِ.

قَوْلُهُ: (وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ الْقَطَّانُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَلَا لَقِيَهُ. وَوَقَعَ فِي غَيْرِ رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ امْرَأَةٍ بَدَلَ قَوْلِهِ: عَنْ هِنْدٍ فِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ رُبَّمَا أَبْهَمَهَا وَرُبَّمَا سَمَّاهَا. وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ هِنْدًا وَلَا أُمَّ سَلَمَةَ.

قَوْلُهُ: (سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا) مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالتَّعْظِيمِ، وَعَبَّرَ عَنِ الرَّحْمَةِ بِالْخَزَائِنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} وَعَنِ الْعَذَابِ بِالْفِتَنِ؛ لِأَنَّهَا أَسْبَابُهُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً.

قَوْلُهُ: (أُنْزِلَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْزَلَ اللَّهُ بِإِظْهَارِ الْفَاعِلِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْزَالِ إِعْلَامُ الْمَلَائِكَةِ بِالْأَمْرِ الْمَقْدُورِ، أَوْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي نَوْمِهِ ذَاكَ بِمَا سَيَقَعُ بَعْدَهُ مِنَ الْفِتَنِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِنْزَالِ.

قَوْلُهُ: (وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَالشَّيْءُ قَدْ يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ تَأْكِيدًا ; لِأَنَّ مَا يُفْتَحُ مِنَ الْخَزَائِنِ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَزَائِنِ خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا فُتِحَ عَلَى الصَّحَابَةِ ; لَكِنَّ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْخَزَائِنِ وَالْفِتَنِ أَوْضَحُ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ، وَكَمْ مِنْ نَائِلٍ مِنْ تِلْكَ الْخَزَائِنِ سَالِمٌ مِنَ الْفِتَنِ.

قَوْلُهُ: (صَوَاحِبَاتُ الْحُجَرِ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ جَمْعُ حُجْرَةٍ وَهِيَ مَنَازِلُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا خَصَّهُنَّ بِالْإِيقَاظِ؛ لِأَنَّهُنَّ الْحَاضِرَاتُ حِينَئِذٍ، أَوْ مِنْ بَابِ ابْدَأْ بِنَفْسِكِ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ.

قَوْلُهُ: (فَرُبَّ كَاسِيَةٍ) اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ رُبَّ فِي الْغَالِبِ لِلتَّكْثِيرِ ; لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لِلنِّسَاءِ، وَهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ

ص: 210

النَّارِ، انْتَهَى. وَهَذَا يَدُلُّ لِوُرُودِهَا فِي التَّكْثِيرِ لَا لِأَكْثَرِيَّتِهَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (عَارِيَةٌ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَهِيَ مَجْرُورَةٌ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَلَى النَّعْتِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: إِنَّهُ الْأَحْسَنُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ ; لِأَنَّ رُبَّ عِنْدَهُ حَرْفُ جَرٍّ يَلْزَمُ صَدْرَ الْكَلَامِ، قَالَ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ، أَيْ: هِيَ عَارِيَةٌ وَالْفِعْلُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ رُبَّ مَحْذُوفٌ، انْتَهَى. وَأَشَارَ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ إِلَى مُوجِبِ إِيقَاظِ أَزْوَاجِهِ، أَيْ: يَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ لَا يَتَغَافَلْنَ عَنِ الْعِبَادَةِ وَيَعْتَمِدْنَ عَلَى كَوْنِهِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ، وَنَدْبِيَّةُ ذِكْرِ اللَّهِ بَعْدَ الِاسْتِيقَاظِ، وَإِيقَاظُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ بِاللَّيْلِ لِلْعِبَادَةِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ آيَةٍ تَحْدُثُ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالثَّانِي عَمْرٌو، وَيَحْيَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَفِيهِ رِوَايَةُ ثَلَاثَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فِي نَسَقٍ. وَهِنْدٌ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا صَحَابِيَّةٌ فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ تَابِعِيٍّ عَنْ مِثْلِهِ عَنْ صَحَابِيَّةٍ عَنْ مِثْلِهَا، وَأُمُّ سَلَمَةَ هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ لَيْلَتَهَا. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الْإِسْرَاعِ إِلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ خَشْيَةِ الشَّرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَمَرَ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.

وَفِيهِ التَّسْبِيحُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ الْمَهُولَةِ، وَفِيهِ تَحْذِيرُ الْعَالِمِ مَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَتَوَقَّعُ حُصُولُهُ، وَالْإِرْشَادُ إِلَى مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الْمَحْذُورَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌41 - بَاب السَّمَرِ فِي الْعِلْمِ

116 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ.

[الحديث 116 - طرفاه في: 601، 564]

قَوْلُهُ: (بَابُ السَّمَرِ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ إِسْكَانُ الْمِيمِ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ لِلْفِعْلِ، وَمَعْنَاهُ الْحَدِيثُ بِاللَّيْلِ قَبْلَ النَّوْمِ ; وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا.

قَوْلُهُ: (فِي الْعِلْمِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِإِضَافَةِ الْبَابِ إِلَى السَّمَرِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: بَابٌ السَّمَرُ فِي الْعِلْمِ بِتَنْوِينِ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ) أَيْ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ:، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَاللَّيْثُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَرِينَانِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَالِمٍ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (أَبِي حَثْمَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، وَاسْمُ أَبِي حَثْمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيُّ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فَتَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ لَمْ يُسَمَّ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ.

قَوْلُهُ: (صَلَّى لَنَا) أَيْ إِمَامًا، وَفِي رِوَايَةٍ بِنَا بِمُوَحَّدَةٍ.

قَوْلُهُ: (الْعِشَاءَ) أَيْ: صَلَاةَ الْعِشَاءِ.

قَوْلُهُ: (فِي آخِرِ حَيَاتِهِ) جَاءَ مُقَيَّدًا فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم بِشَهْرٍ.

قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَكُمْ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ؛ لِأَنَّهَا ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ، وَالْكَافُ ضَمِيرٌ ثَانٍ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَالْهَمْزَةُ الْأُولَى لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ أَوِ الْبَصَرِ، وَالْمَعْنَى أَعَلِمْتُمْ أَوْ أَبْصَرْتُمْ لَيْلَتَكُمْ، وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَاضْبُطُوهَا. وَتَرِدُ أَرَأَيْتَكُمْ لِلِاسْتِخْبَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} الْآيَةَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَخْبِرُونِي. وَمُتَعَلِّقُ الِاسْتِخْبَارِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: مَنْ تَدْعُونَ. ثُمَّ بَكَّتَهُمْ فَقَالَ: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} انْتَهَى. وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُ هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ نَقَلَ كَلَامَ الزَّمَخْشَرِيِّ

ص: 211

فِي الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ التَّقْدِيرَ: أَخْبِرُونِي لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَاحْفَظُوهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِسِيَاقِ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ رَأْسَ) وَلِلْأَصِيلِيِّ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ أَيْ عِنْدَ انْتِهَاءِ مِائَةِ سَنَةٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الزَّمَانِ كَقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ، وَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ مِنْ شَوَاهِدِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} وَقَوْلِ أَنَسٍ: مَا زِلْتُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَقَوْلُهُ: مُطِرْنَا مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ) أَيِ الْآنَ مَوْجُودًا أَحَدٌ إِذْ ذَاكَ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا التَّقْدِيرُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي الصَّلَاةِ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ تَخْتَرِمُ الْجِيلَ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَوَعَظَهُمْ بِقِصَرِ أَعْمَارِهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ أَعْمَارَهُمْ لَيْسَتْ كَأَعْمَارِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ لِيَجْتَهِدُوا فِي الْعِبَادَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَعِيشُ بَعْدَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ، سَوَاءً قَلَّ عُمْرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَمْ لَا، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ حَيَاةِ أَحَدٍ يُولَدُ بَعْدَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِائَةَ سَنَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

117 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: نَامَ الْغُلَيِّمُ - أَوْ: كَلِمَةً تُشْبِهُهَا - ثُمَّ قَامَ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ - أَوْ: خَطِيطَهُ - ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ.

[الحديث 117 - أطرافه في 7452، 6316، 6215، 5919، 4572، 4571، 4570، 4569، 1198، 9924، 895، 728، 736، 699، 698، 697، 183، 138]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَكَمُ) بِفَتْحَتَيْنِ هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِالْمُثَنَّاةِ تَصْغِيرُ عُتْبَةَ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَكَانَ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ جَاءَ) أَيْ: مِنَ الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (نَامَ الْغُلَيِّمُ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ مِنْ تَصْغِيرِ الشَّفَقَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِخْبَارًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِنَوْمِهِ، أَوِ اسْتِفْهَامًا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْوَاقِعُ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: يَا أُمَّ الْغُلَيِّمِ بِالنِّدَاءِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، لَمْ تَثْبُتْ بِهِ رِوَايَةٌ.

قَوْلُهُ: (أَوْ كَلِمَةٌ) بِالشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ الْجُمْلَةُ أَوِ الْمُفْرَدَةُ، فَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى نَامَ الْغُلَامُ.

قَوْلُهُ: (غَطِيطَهُ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ صَوْتُ نَفَسِ النَّائِمِ، وَالنَّخِيرُ أَقْوَى مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (أَوْ خَطِيطَهُ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالشَّكُّ فِيهِ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ، قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ أَجِدْهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَتَبِعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فَقَالَ: هُوَ هُنَا وَهْمٌ، انْتَهَى. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْأَثِيرِ عَنْ أَهْلِ الْغَرِيبِ أَنَّهُ دُونَ الْغَطِيطِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) أَيْ: رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: إِنَّمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْخَمْسِ وَلَمْ يَقُلْ: سَبْعَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّ الْخَمْسَ اقْتَدَى ابْنُ عَبَّاسٍ بِهِ فِيهَا بِخِلَافِ الرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ لِأَنَّ الْخَمْسَ بِسَلَامٍ وَالرَّكْعَتَيْنِ بِسَلَامٍ آخَرَ. انْتَهَى، وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، لَكِنَّ حَمْلَهُمَا عَلَى سُنَّةِ الْفَجْرِ أَوْلَى لِيَحْصُلَ الْخَتْمُ بِالْوَتْرِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ الْوَتْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمُنَاسَبَةُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ؛ لِقَوْلِهِ فِيهِ: قَامَ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: صَلَّى الْعِشَاءَ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ

ص: 212

ابْنُ الْمُنِيرِ وَمَنْ تَبِعَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ أَصْلَ السَّمَرِ يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: نَامَ الْغُلَيِّمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ ارْتِقَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّعْلِيمِ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّعْلِيمِ مِنَ الْفِعْلِ، فَقَدْ سَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْلَتَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، زَادَ الْكِرْمَانِيُّ أَوْ مَا يُفْهَمُ مِنْ جَعْلِهِ إِيَّاهُ عَلَى يَمِينِهِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: قِفْ عَنْ يَمِينِي. فَقَالَ: وَقَفْتُ اهـ. وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ مُعْتَرَضٌ ; لِأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُسَمَّى سَامِرًا، وَصَنِيعُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُسَمَّى سَهَرًا لَا سَمَرًا؛ إِذِ السَّمَرُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ تَحَدُّثٍ، قَالَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. وَأَبْعَدُهَا الْأَخِيرُ لِأَنَّ مَا يَقَعُ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ مِنَ النَّوْمِ لَا يُسَمَّى سَمَرًا.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ أَيْضًا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْأَقَارِبَ إِذَا اجْتَمَعُوا لَا بُدَّ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمْ حَدِيثٌ لِلْمُؤَانَسَةِ، وَحَدِيثُهُ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُ عِلْمٌ وَفَوَائِدُ.

قُلْتُ: وَالْأَوْلَى مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ مُنَاسَبَةَ التَّرْجَمَةِ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ لَفْظٍ آخَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، وَهَذَا يَصْنَعُهُ الْمُصَنِّفُ كَثِيرًا؛ يُرِيدُ بِهِ تَنْبِيهَ النَّاظِرِ فِي كِتَابِهِ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِتَتَبُّعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَالنَّظَرِ فِي مَوَاقِعِ أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ ; لِأَنَّ تَفْسِيرَ الْحَدِيثِ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى مِنَ الْخَوْضِ فِيهِ بِالظَّنِّ. وَإِنَّمَا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ هُنَا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا يَدُلُّ صَرِيحًا عَلَى حَقِيقَةِ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ. . الْحَدِيثَ. فَصَحَّتِ التَّرْجَمَةُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَعَسُّفٍ وَلَا رَجْمٍ بِالظَّنِّ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى السَّمَرِ مَعَ الْأَهْلِ لَا فِي الْعِلْمِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ، وَالْجَامِعُ تَحْصِيلُ الْفَائِدَةِ، أَوْ هُوَ بِدَلِيلِ الْفَحْوَى ; لِأَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي الْمُبَاحِ فَفِي الْمُسْتَحَبِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. وَسَنَذْكُرُ بَاقِيَ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُطَوَّلًا فِي كِتَابِ الْوِتْرِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَهُمْ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَلِأَنَسٍ حَدِيثٌ آخَرُ فِي قِصَّةِ أُسَيْدِ ابْنِ حَضِيرٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْمُرُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ، إِلَّا أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافًا عَلَى عَلْقَمَةَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ عَلَى شَرْطِهِ. وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُنَا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يُصْبِحَ لَا يَقُومُ إِلَّا إِلَى عَظِيمِ صَلَاةٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَأَمَّا حَدِيثُ لَا سَمَرَ إِلَّا لِمُصَلٍّ أَوْ مُسَافِرٍ فَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ فِيهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَالسَّمَرُ فِي الْعِلْمِ يُلْحَقُ بِالسَّمَرِ فِي الصَّلَاةِ نَافِلَةً، وَقَدْ سَمَرَ عُمَرُ مَعَ أَبِي مُوسَى فِي مُذَاكَرَةِ الْفِقْهِ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: الصَّلَاةُ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا فِي صَلَاةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌42 - بَاب حِفْظِ الْعِلْمِ

118 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ: {الرَّحِيمُ} إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 213

بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ.

[الحديث أطرافه في: 7354، 3648، 2350، 2047، 119]

قَوْلُهُ: (بَابُ حِفْظِ الْعِلْمِ) لَمْ يَذْكُرْ فِي الْبَابِ شَيْئًا عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَحْفَظَ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي عَصْرِهِ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ فِي جِنَازَتِهِ وَيَقُولُ: كَانَ يَحْفَظُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ.

وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ مِنَ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْ بِجَمِيعِ مَحْفُوظِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمَوْجُودُ مِنْ حَدِيثِهِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَوْجُودِ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُكْثِرِينَ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيمِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَلَى نَفْسِهِ فِي كَثْرَةِ الْحَدِيثِ لِأَنَّا قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ ; وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ مِنَ الْبَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا سَمِعَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِثْلُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ) هُوَ الْأُوَيْسِيُّ الْمَدَنِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ) أَيْ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَهُ فِيهِ وَفِي الْمُزَارَعَةِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ هُنَا زِيَادَةٌ وَهِيَ: وَيَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ وَبِهَا تَبِينُ الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَوَضْعِهِ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ حَيْثُ قَالَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَقُلْ أَكْثَرْتُ.

قَوْلُهُ: (وَلَوْلَا آيَتَانِ): مَقُولُ قَالَ، لَا مَقُولُ يَقُولُونَ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَتْلُو مَقُولَ الْأَعْرَجِ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِصُورَةِ التِّلَاوَةِ، وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْكَاتِمِينَ لِلْعِلْمِ مَا حَدَّثَ أَصْلًا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْكِتْمَانُ حَرَامًا وَجَبَ الْإِظْهَارُ، فَلِهَذَا حَصَلَتِ الْكَثْرَةُ لِكَثْرَةِ مَا عِنْدَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ الْكَثْرَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ إِخْوَانَنَا وَأَرَادَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ نَفْسَهُ وَأَمْثَالَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأُخُوَّةِ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ.

قَوْلُهُ: (يَشْغَلُهُمْ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَحُكِيَ ضَمُّهُ وَهُوَ شَاذٌّ.

قَوْلُهُ: (الصَّفْقُ) بِإِسْكَانِ الْفَاءِ، هُوَ ضَرْبُ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ، وَجَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ عِنْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ.

قَوْلُهُ: (فِي أَمْوَالِهِمْ) أَيِ: الْقِيَامِ عَلَى مَصَالِحِ زَرْعِهِمْ، وَلِمُسْلِمٍ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَرَضِيهِمْ وَلِابْنِ سَعْدٍ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَرَضِيهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) فِيهِ الْتِفَاتٌ؛ إِذْ كَانَ نَسَقَ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: وَإِنِّي.

قَوْلُهُ: (لِشِبَعٍ) بِلَامِ التَّعْلِيلِ لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الثَّابِتُ فِي غَيْرِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، وَلِلْأَصِيلِيِّ بِشِبَعِ بِمُوَحَّدَةٍ أَوَّلَهُ، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبُيُوعِ وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَيَحْضُرُ) أَيْ: مِنَ الْأَحْوَالِ (وَيَحْفَظُ) أَيْ: مِنَ الْأَقْوَالِ، وَهُمَا مَعْطُوفَانِ عَلَى قَوْلِهِ: يَلْزَمُ.

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ شَاهِدًا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، وَلَفْظُهُ: لَا أَشُكُّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَا نَسْمَعُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مِسْكِينًا لَا شَيْءَ لَهُ ضَيْفًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ قَعَدَ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ مَشْيَخَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَدِيثِ فَلَا يَعْرِفُهُ بَعْضُهُمْ، فَيُرَاجِعُونَ فِيهِ حَتَّى يَعْرِفُوهُ، ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ كَذَلِكَ حَتَّى فَعَلَ مِرَارًا، فَعَرَفْتُ يَوْمَئِذٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ النَّاسِ.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْرَفَنَا بِحَدِيثِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ. وَاخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الزُّهْرِيِّ، فَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْهُ هَكَذَا، وَوَافَقَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَرَوَاهُ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا

ص: 214

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَابَعَهُ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ. وَالْإِسْنَادَانِ جَمِيعًا مَحْفُوظَانِ صَحَّحَهُمَا الشَّيْخَانِ، وَزَادُوا فِي رِوَايَتِهِمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ شَيْئًا سَنَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الثَّانِي.

119 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ، قَالَ: ابْسُطْ رِدَاءَكَ، فَبَسَطْتُهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ضُمَّهُ، فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ.

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا. أَوْ قَالَ: غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) هُوَ الزُّهْرِيُّ الْمَدَنِيُّ صَاحِبُ مَالِكٍ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ أَبُو مُصْعَبٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَرُ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ أَيْضًا وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (كَثِيرًا) هُوَ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ حَدِيثًا؛ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ.

قَوْلُهُ: (فَغَرَفَ) لَمْ يَذْكُرِ الْمَغْرُوفَ مِنْهُ وَكَأَنَّهَا كَانَتْ إِشَارَةً مَحْضَةً.

قَوْلُهُ: (ضُمَّ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَالْبَاقِينَ ضُمَّهُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ لِأَجْلِ ضَمَّةِ الْهَاءِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا لَكِنْ مَعَ إِسْكَانِ الْهَاءِ وَكَسْرِهَا.

قَوْلُهُ: (فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ) هُوَ مَقْطُوعُ الْإِضَافَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ، وَتَنْكِيرُ شَيْئًا بَعْدَ النَّفْيِ ظَاهِرُ الْعُمُومِ فِي عَدَمِ النِّسْيَانِ مِنْهُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَمَا نَسِيتُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْئًا حَدَّثَنِي بِهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عَدَمِ النِّسْيَانِ بِالْحَدِيثِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَتَهُ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ النِّسْيَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ فَقَطْ ; لَكِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ رِوَايَةِ يُونُسَ وَمَنْ وَافَقَهُ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ نَبَّهَ بِهِ عَلَى كَثْرَةِ مَحْفُوظِهِ مِنَ الْحَدِيثِ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ وَحْدَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ وَقَعَتْ لَهُ قَضِيَّتَانِ: فَالَّتِي رَوَاهَا الزُّهْرِيُّ مُخْتَصَّةٌ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَالْقَضِيَّةُ الَّتِي رَوَاهَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَامَّةٌ.

وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: تَحَدَّثْتُ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثٍ فَأَنْكَرَهُ، فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ مِنْكَ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ سَمِعْتَهُ مِنِّي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدِي. فَقَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي تَخْصِيصِ عَدَمِ النِّسْيَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ لَكِنَّ سَنَدَ هَذَا ضَعِيفٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَهُوَ نَادِرٌ. وَيَلْتَحِقُ بِهِ حَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ لَا عَدْوَى فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْكَرَهُ. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُهُ نَسِيَ شَيْئًا غَيْرَهُ.

(فَائِدَةٌ): الْمَقَالَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أُبْهِمَتْ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ، وَقَدْ وَجَدْتُهَا مُصَرَّحًا بِهَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَفِي الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ رَجُلٍ يَسْمَعُ كَلِمَةً أَوْ كَلِمَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ فَيَتَعَلَّمُهُنَّ وَيُعَلِّمُهُنَّ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُعْجِزَةٌ وَاضِحَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ ; لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِنْسَانِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ مِنْهُ ثُمَّ تَخَلَّفَ عَنْهُ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَآخَرُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ادْعُوَا. فَدَعَوْتُ أَنَا وَصَاحِبِي وَأَمَّنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ دَعَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِثْلَ مَا سَأَلَكَ صَاحِبَايَ، وَأَسْأَلُكَ عِلْمًا لَا يُنْسَى. فَأَمَّنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: وَنَحْنُ كَذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: سَبَقَكُمَا الْغُلَامُ الدَّوْسِيُّ.

وَفِيهِ: الْحَثُّ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ أَنَّ التَّقَلُّلَ

ص: 215

مِنَ الدُّنْيَا أَمْكَنُ لِحِفْظِهِ. وَفِيهِ فَضِيلَةُ التَّكَسُّبِ لِمَنْ لَهُ عِيَالٌ، وَفِيهِ جَوَازُ إِخْبَارِ الْمَرْءِ بِمَا فِيهِ مِنْ فَضِيلَةٍ إِذَا اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ وَأَمِنَ مِنَ الْإِعْجَابِ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا) أَشْكَلَ قَوْلُهُ بِهَذَا عَلَى بَعْضِ الشَّارِحِينَ؛ لِأَنَّ ابْنَ أَبِي فُدَيْكٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ الْمَذْكُورُ قَبْلُ، فَيَكُونُ مُرَادُهُ أَنَّ السِّيَاقَيْنِ مُتَّحِدَانِ إِلَّا فِي اللَّفْظَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِيهِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ; لِأَنَّ ابْنَ أَبِي فُدَيْكٍ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ وَهُوَ لَيْثِيٌّ

(1)

يُكَنَّى أَبَا إِسْمَاعِيلَ. وَابْنُ دِينَارٍ جُهَنِيٌّ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَكِنِ اشْتَرَكَا فِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِغَيْرِهِ، وَفِي كَوْنِهِمَا مَدَنِيَّيْنِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ بِإِسْنَادٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَفْلَةٌ عَمَّا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ سَاقَهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَالْمَتْنُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: بِيَدَيْهِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا بِالْإِفْرَادِ، وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: فَغَرَفَ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ فَحَذَفَ بَدَلَ فَغَرَفَ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ لِمَا وَضَحَ فِي سِيَاقِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، فَقَالَ: فَغَرَفَ.

120 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ (حَدَّثَنِي أَخِي) هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ.

قَوْلُهُ: (حَفِظْتُ عَنْ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ بَدَلَ عَنْ، وَهِيَ أَصْرَحُ فِي تَلَقِّيهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَا وَاسِطَةٍ.

قَوْلُهُ: (وِعَاءَيْنِ) أَيْ ظَرْفَيْنِ، أَطْلَقَ الْمَحَلَّ وَأَرَادَ بِهِ الْحَالَّ، أَيْ: نَوْعَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ إِيرَادُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي كُنْتُ لَا أَكْتُبُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ مَحْفُوظَهُ مِنَ الْحَدِيثِ لَوْ كُتِبَ لَمَلَأَ وِعَاءَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَمْلَى حَدِيثَهُ عَلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ فَكَتَبَهُ لَهُ وَتَرَكَهُ عِنْدَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَوَقَعَ فِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ حَفِظْتُ ثَلَاثَةَ أَجْرِبَةٍ، بَثَثْتُ مِنْهَا جِرَابَيْنِ. وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِحَدِيثِ الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْوِعَاءَيْنِ كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْآخَرِ بِحَيْثُ يَجِيءُ مَا فِي الْكَبِيرِ فِي جِرَابَيْنِ وَمَا فِي الصَّغِيرِ فِي وَاحِدٍ. وَوَقَعَ فِي الْمُحَدِّثِ الْفَاضِلِ لِلرَّامَهُرْمُزِي مِنْ طَرِيقٍ مُنْقَطِعَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ خَمْسَةَ أَجْرِبَةٍ، وَهُوَ - إِنْ ثَبَتَ - مَحْمُولٌ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا نَشَرَهُ مِنَ الْحَدِيثِ أَكْثَرُ مِمَّا لَمْ يَنْشُرْهُ.

قَوْلُهُ: (بَثَثْتُهُ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَبَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ سَاكِنَةٌ تُدْغَمُ فِي الْمُثَنَّاةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَيْ: أَذَعْتُهُ وَنَشَرْتُهُ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فِي النَّاسِ.

قَوْلُهُ: (قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الْمُصَنِّفَ - الْبُلْعُومُ مَجْرَى الطَّعَامِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنِ الْقَتْلِ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَقُطِعَ هَذَا يَعْنِي رَأْسَهُ. وَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ الْوِعَاءَ الَّذِي لَمْ يَبُثَّهُ عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَبْيِينُ أَسَامِي أُمَرَاءِ السُّوءِ وَأَحْوَالِهِمْ وَزَمَنِهِمْ، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَكُنِّي عَنْ بَعْضِهِ، وَلَا يُصَرِّحُ بِهِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السِّتِّينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ، يُشِيرُ إِلَى خِلَافَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ سِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَاتَ قَبْلَهَا بِسَنَةٍ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: جَعَلَ الْبَاطِنِيَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ ذَرِيعَةً إِلَى تَصْحِيحِ بَاطِلِهِمْ حَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّ لِلشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَذَلِكَ الْبَاطِنُ إِنَّمَا حَاصِلُهُ الِانْحِلَالُ مِنَ الدِّينِ. قَالَ:

(1)

في تهذيب التهذيب وتقريب التهذيب"ديلي"

ص: 216

وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِقَوْلِهِ: قُطِعَ أَيْ: قَطَعَ أَهْلُ الْجَوْرِ رَأْسَهُ إِذَا سَمِعُوا عَيْبَهُ لِفِعْلِهِمْ وَتَضْلِيلَهُ لِسَعْيِهِمْ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَكْتُوبَةَ لَوْ كَانَتْ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَا وَسِعَهُ كِتْمَانُهَا؛ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَمِّ مَنْ كَتَمَ الْعِلْمَ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعَ الصِّنْفِ الْمَذْكُورِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَالْمَلَاحِمِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَيُنْكِرُ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَأْلَفْهُ، وَيَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِهِ.

‌43 - بَاب الْإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ

121 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ:، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو:، عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: اسْتَنْصِتْ النَّاسَ، فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.

[الحديث 121 - أطرافه في: 7080، 6869، 4405]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ) أَيِ السُّكُوتِ وَالِاسْتِمَاعِ لِمَا يَقُولُونَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَجَّاجُ) هُوَ ابْنُ مِنْهَالٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَرِيرٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَهُوَ جَدُّ أَبِي زُرْعَةَ الرَّاوِي عَنْهُ هُنَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ لَفْظَ لَهُ زِيَادَةٌ ; لِأَنَّ جَرِيرًا إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِنَحْوٍ مِنْ شَهْرَيْنِ، فَقَدْ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَمَا جَزَمَ بِهِ يُعَارِضُهُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ، وَابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ أَسْلَمَ فِي رَمَضَانِ سَنَةَ عَشْرٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجَرِيرٍ، وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَيُقَوِّي مَا قَالَ الْبَغَوِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (يَضْرِبُ) هُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ فِي الرِّوَايَاتِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَفْعَلُوا فِعْلَ الْكُفَّارِ فَتُشْبِهُوهُمْ فِي حَالَةِ قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ الْإِنْصَاتَ لِلْعُلَمَاءِ لَازِمٌ لِلْمُتَعَلِّمِينَ ; لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ. كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا مُنَاسَبَةَ التَّرْجَمَةِ لِلْحَدِيثِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْخُطْبَةَ

(1)

الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالْجَمْعُ كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، فَلَمَّا خَطَبَهُمْ لِيُعَلِّمَهُمْ نَاسَبَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْإِنْصَاتِ. وَقَدْ وَقَعَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وَمَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، فَالْإِنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ وَهُوَ يَحْصُلُ مِمَّنْ يَسْتَمِعُ وَمِمَّنْ لَا يَسْتَمِعُ كَأَنْ يَكُونَ مُفَكِّرًا فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِمَاعُ قَدْ يَكُونُ مَعَ السُّكُوتِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ النُّطْقِ بِكَلَامٍ آخَرَ لَا يَشْتَغِلُ النَّاطِقُ بِهِ عَنْ فَهْمِ مَا يَقُولُ الَّذِي يَسْتَمِعُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوَّلُ الْعِلْمِ الِاسْتِمَاعُ، ثُمَّ الْإِنْصَاتُ، ثُمَّ الْحِفْظُ، ثُمَّ الْعَمَلُ، ثُمَّ النَّشْرُ. وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ تَقْدِيمُ الْإِنْصَاتِ عَلَىِ الِاسْتِمَاعِ. وَقَدْ ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ: أَخْبَرَنِي مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَهَمْسٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: الْإِنْصَاتُ مِنَ الْعَيْنَيْنِ.

فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَمَا نَدْرِي كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِذَا حَدَّثْتَ رَجُلًا فَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْكَ لَمْ يَكُنْ مُنْصِتًا، انْتَهَى. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌44 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ

122 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ:

(1)

في النسخ "العقبة"، والصواب"الخطبة"

ص: 217

قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ. فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ. فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلَا حُوتًا فِي مِكْتَلٍ حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا، فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنْ الْمِكْتَلِ {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} ، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} . وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنْ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} ، قَالَ مُوسَى:{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} .

فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ - أَوْ قَالَ: تَسَجَّى بِثَوْبِهِ - فَسَلَّمَ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى، فَقَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ، يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا فَعُرِفَ الْخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ، فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ.

فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ، {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} فَكَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، فَانْطَلَقَا فَإِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلَاهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ مُوسَى:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ؟ - قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَهَذَا أَوْكَدُ - {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} ، قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ، فَأَقَامَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى:{لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} ، قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ) أَيْ: مِنْ غَيْرِهِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَيَكِلُ تَفْسِيرِيَّةٌ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْمُضَارِعِ بِتَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، أَيْ: مَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ السُّؤَالِ هُوَ الْوُكُولُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنْ يَكِلَ، وَهُوَ

ص: 218

أَوْضَحُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ الْمُسْنَدِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَنَوْفٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَبِالْفَاءِ، وَالْبَكَالِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا وَتَخْفِيفِ الْكَافِ - وَوَهِمَ مَنْ شَدَّدَهَا - مَنْسُوبٌ إِلَى بَكَالٍ بَطْنٍ مِنْ حِمْيَرَ، وَوَهَمَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى بَكِيلٍ بِكَسْرِ الْكَافِ بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ لِأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ، وَنَوْفٌ الْمَذْكُورُ تَابِعِيٌّ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ فَاضِلٌ عَالِمٌ لَا سِيَّمَا بِالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَكَانَ ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ مُوسَى) أَيْ: صَاحِبَ الْخَضِرِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ فِيهِمَا، وَهُوَ عَلَمٌ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ قَالُوا: إِنَّهُ مُوسَى بْنُ مِيشَا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُنَوَّنٌ مَصْرُوفٌ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَعَلَهُ مِثَالًا لِلْعَلَمِ إِذَا نُكِّرَ تَخْفِيفًا، قَالَ: وَفِيهِ بَحْثٌ.

قَوْلُهُ: (كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يُرِدِ ابْنُ عَبَّاسٍ إِخْرَاجَ نَوْفٍ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ قُلُوبَ الْعُلَمَاءِ تَنْفِرُ إِذَا سَمِعَتْ غَيْرَ الْحَقِّ، فَيُطْلِقُونَ أَمْثَالَ هَذَا الْكَلَامِ لِقَصْدِ الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ. قُلْتُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ اتَّهَمَ نَوْفًا فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ فِي حَقِّ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مَعَ تَوَارُدِهِمَا عَلَيْهَا. وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ لِلْعَالِمِ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ فَسَمِعَ غَيْرَهُ يَذْكُرُ فِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمٍ أَنْ يُكَذِّبَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ أَيْ: أَخْبَرَ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) فِي اسْتِدْلَالِهِ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُتْقِنِ عِنْدَهُ؛ حَيْثُ يُطْلِقُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامُ فِي حَقِّ مَنْ خَالَفَهُ، وَفِي الْإِسْنَادِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ وَهُمَا عَمْرٌو، وَسَعِيدٌ، وَصَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ وَهُمَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيٌّ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ) فِي جَوَابِ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ، قِيلَ: إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ فِي بَابِ الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟

وَعِنْدِي: لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ هُنَا أَنَا أَعْلَمُ أَيْ: فِيمَا أَعْلَمُ، فَيُطَابِقُ قَوْلَهُ لَا فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ فِي إِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ لَا إِلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِهَذَا السَّنَدِ قَامَ مُوسَى خَطِيبًا، فَعَرَضَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ مَا أُوتِيَ، وَعَلِمَ اللَّهُ بِمَا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ، فَقَالَ: يَا مُوسَى، إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ آتَيْتُهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ أُوتِكْ.

وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: مَا أَجِدُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ مِنِّي.

وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظِ مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ رَجُلًا خَيْرًا أَوْ أَعْلَمُ مِنِّي.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: ظَنَّ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ تَرْكَ مُوسَى الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ أَوْلَى. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ رَدُّ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَيِّنٌ أَجَابَ أَوْ لَمْ يُجِبْ، فَلَوْ قَالَ مُوسَى عليه السلام: أَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ تَحْصُلِ الْمُعَاتَبَةُ، وَإِنَّمَا عُوتِبَ عَلَى اقْتِصَارِهِ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ: لِأَنَّ الْجَزْمَ يُوهِمُ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ الْإِخْبَارُ بِمَا فِي عِلْمِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَالْعَتْبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ لَا عَلَى مَعْنَاهُ الْعُرْفِيِّ فِي الْآدَمِيِّينَ كَنَظَائِرِهِ.

قَوْلُهُ: (هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيٌّ، بَلْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَلَزِمَ تَفْضِيلُ الْعَالِي عَلَى الْأَعْلَى وَهُوَ بَاطِلٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَلِهَذَا أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ سُؤَالًا وَهُوَ: دَلَّتْ حَاجَةُ مُوسَى إِلَى التَّعْلِيمِ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ مُوسَى بْنُ مِيشَا كَمَا قِيلَ، إِذِ النَّبِيُّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا نَقْصَ بِالنَّبِيِّ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ مِنْ نَبِيٍّ مِثْلِهِ، قُلْتُ: وَفِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مَا أَوْجَبَ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ تَقْيِيدُ الْأَعْلَمِيَّةِ بِأَمْرٍ مَخْصُوصٍ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ أَيْ مِمَّنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى مُرْسَلًا إِلَى الْخَضِرِ، وَإِذًا فَلَا نَقْصَ بِهِ إِذَا كَانَ الْخَضِرُ أَعْلَمَ

ص: 219

مِنْهُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ أَعْلَمَ مِنْهُ فِي أَمْرٍ مَخْصُوصٍ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ. وَيَنْحَلُّ بِهَذَا التَّقْرِيرِ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ.

وَمِنْ أَوْضَحِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ قَوْلُهُ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وَيَنْبَغِي اعْتِقَادُ كَوْنِهِ نَبِيًّا؛ لِئَلَّا يَتَذَرَّعُ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، حَاشَا وَكَلَّا.

وَتَعَقَّبَ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى ابْنِ بَطَّالٍ إِيرَادَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَثِيرًا مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الدَّعْوَى فِي الْعِلْمِ، وَالْحَثِّ عَلَى قَوْلِ الْعَالِمِ، لَا أَدْرِي بِأَنَّ سِيَاقَ مِثْلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ لَائِقٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ رحمه الله. قَالَ: وَلَيْسَ قَوْلُ مُوسَى عليه السلام أَنَا أَعْلَمُ كَقَوْلِ آحَادِ النَّاسِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا نَتِيجَةُ قَوْلِهِ كَنَتِيجَةِ قَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّ نَتِيجَةَ قَوْلِهِمُ الْعُجْبُ وَالْكِبْرُ، وَنَتِيجَةَ قَوْلِهِ الْمَزِيدُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُعِ وَالْحِرْصُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ. وَاسْتِدْلَالُهُ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِالْعَقْلِ عَلَى الشَّرْعِ خَطَأً ; لِأَنَّ مُوسَى إِنَّمَا اعْتَرَضَ بِظَاهِرِ الشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الِاعْتِرَاضِ بِالشَّرْعِ عَلَى مَا لَا يَسُوغُ فِيهِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِيمًا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ.

قَوْلُهُ: (فِي مِكْتَلٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا) بِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَيَوْمَهُمَا بِالنَّصْبِ عَلَى إِرَادَةِ سَيْرِ جَمِيعِهِ، وَنَبَّهَ بَعْضُ الْحُذَّاقِ عَلَى أَنَّهُ مَقْلُوبٌ. وَأَنَّ الصَّوَابَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهُمَا؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَلَمَّا أَصْبَحَ لِأَنَّهُ لَا يُصْبِحُ إِلَّا عَنْ لَيْلٍ، انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَصْبَحَ أَيْ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَلِي الْيَوْمَ الَّذِي سَارَا جَمِيعَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّى) أَيْ: كَيْفَ بِأَرْضِكِ السَّلَامُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي التَّفْسِيرِ هَلْ بِأَرْضِي مِنْ سَلَامٍ؟، أَوْ مِنْ أَيْنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنَّى لَكِ هَذَا} وَالْمَعْنَى: مِنْ أَيْنَ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ فِيهَا؟ وَكَأَنَّهَا كَانَتْ بِلَادَ كُفْرٍ، أَوْ كَانَتْ تَحِيَّتُهُمْ بِغَيْرِ السَّلَامِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ دُونِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، إِذْ لَوْ كَانَ الْخَضِرُ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ لَعَرَفَ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ) أَيْ: مُوسَى وَالْخَضِرُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فَتَى مُوسَى - وَهُوَ يُوشَعُ - لِأَنَّهُ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْأَصَالَةِ.

قَوْلُهُ: (فَكَلَّمُوهُمْ) ضَمَّ يُوشَعَ مَعَهُمَا فِي الْكَلَامِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي كَلَامَ التَّابِعِ.

قَوْلُهُ: (فَحَمَلُوهُمَا) يُقَالُ فِيهِ مَا قِيلَ فِي يَمْشِيَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُوشَعُ لَمْ يَرْكَبْ مَعَهُمَا لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ ذِكْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَ عُصْفُورٌ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، قِيلَ هُوَ الصُّرَدُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَفِي الرِّحْلَةِ لِلْخَطِيبِ أَنَّهُ الْخُطَّافُ.

قَوْلُهُ: (مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ) لَفْظُ النَّقْصِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ النَّقْصُ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ لَمْ يَأْخُذْ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ حَسَنٌ. وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ وَاقِعًا عَلَى الْآخِذِ لَا عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومُ بِدَلِيلِ دُخُولِ حَرْفِ التَّبْعِيضِ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الْقَائِمَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لَا تَتَبَعَّضُ، وَالْمَعْلُومُ هُوَ الَّذِي يَتَبَعَّضُ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ نَقْصَ الْعُصْفُورِ لَا يَنْقُصُ الْبَحْرَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَمَا قِيلَ:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ

بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

أَيْ: لَيْسَ فِيهِمْ عَيْبٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ نَفْيَ النَّقْصِ أُطْلِقَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ إِلَّا بِمَعْنَى وَلَا، أَيْ: وَلَا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَنْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ هُنَا تَجَوَّزَ لِقَصْدِهِ التَّمَسُّكَ وَالتَّعْظِيمَ، إِذْ لَا نَقْصَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَلَا نِهَايَةَ لِمَعْلُومَاتِهِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظٍ أَحْسَنَ سِيَاقًا مِنْ هَذَا وَأَبْعَدَ إِشْكَالًا، فَقَالَ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلَّفْظِ الَّذِي وَقَعَ هُنَا، قَالَ: وَفِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يُرِيدُ، وَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ مِمَّا يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ، فَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي أَفْعَالِهِ وَلَا مُعَارَضَةَ لِأَحْكَامِهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ، فَإِنَّ إِدْرَاكَ الْعُقُولِ لِأَسْرَارِ الرُّبُوبِيَّةِ قَاصِرٌ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَى حُكْمِهِ

ص: 220

لِمَ وَلَا كَيْفَ، كَمَا لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فِي وُجُودِهِ أَيْنَ وَحَيْثُ

(1)

وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ

(2)

وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الشَّرْعِ: فَمَا حَسَّنَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَمَا قَبَّحَهُ بِالذَّمِّ فَهُوَ قَبِيحٌ. وَأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَقْضِيهِ حُكْمًا وَأَسْرَارًا فِي مَصَالِحَ خَفِيَّةٍ اعْتَبَرَهَا كُلَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ وَلَا حُكْمِ عَقْلٍ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، بَلْ بِحَسَبِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَنَافِذِ حُكْمِهِ، فَمَا أَطْلَعَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْرَارِ عُرِفَ، وَإِلَّا فَالْعَقْلُ عِنْدَهُ وَاقِفٌ. فَلْيَحْذَرِ الْمَرْءُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ؛ فَإِنَّ مَآلَ ذَلِكَ إِلَى الْخَيْبَةِ.

قَالَ: وَلْنُنَبِّهْ هُنَا عَلَى مُغَلَّطَتَيْنِ:

الْأُولَى: وَقَعَ لِبَعْضِ الْجَهَلَةِ أَنَّ الْخَضِرَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى؛ تَمَسُّكًا بِهَذِهِ الْقِصَّةِ وَبِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ مِمَّنْ قَصَرَ نَظَرُهُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَمْ يَنْظُرْ فِيمَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ مُوسَى عليه السلام مِنَ الرِّسَالَةِ، وَسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ، وَإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ فِيهَا عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ شَرِيعَتِهِ وَمُخَاطَبُونَ بِحُكْمِ نُبُوَّتِهِ حَتَّى عِيسَى، وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} وَسَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى مَا فِيهِ كِفَايَةٌ.

قَالَ: وَالْخَضِرُ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَيْسَ بِرَسُولٍ بِاتِّفَاقٍ، وَالرَّسُولُ أَفْضَلُ مِنْ نَبِيٍّ لَيْسَ بِرَسُولٍ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ فَرِسَالَةُ مُوسَى أَعْظَمُ وَأُمَّتُهُ أَكْثَرُ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَغَايَةُ الْخَضِرِ أَنْ يَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُوسَى أَفْضَلُهُمْ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ بَلْ وَلِيٌّ فَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَالصَّائِرُ إِلَى خِلَافِهِ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَتْ قِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى امْتِحَانًا لِمُوسَى؛ لِيَعْتَبِرَ.

الثَّانِيَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقَةٍ تَسْتَلْزِمُ هَدْمَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ؛ فَقَالُوا: إِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْعَامَّةَ تَخْتَصُّ بِالْعَامَّةِ وَالْأَغْبِيَاءِ، وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ وَالْخَوَاصُّ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى تِلْكَ النُّصُوصِ، بَلْ إِنَّمَا يُرَادُ مِنْهُمْ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى خَوَاطِرِهِمْ، لِصَفَاءِ قُلُوبِهِمْ عَنِ الْأَكْدَارِ وَخُلُوِّهَا عَنِ الْأَغْيَارِ. فَتَنْجَلِي لَهُمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْحَقَائِقُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِ الْكَائِنَاتِ وَيَعْلَمُونَ الْأَحْكَامَ الْجُزْئِيَّاتِ فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّاتِ، كَمَا اتَّفَقَ لِلْخَضِرِ، فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى بِمَا يَنْجَلِي لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ عَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ ; لِأَنَّهُ إِنْكَارٌ لِمَا عُلِمَ مِنَ الشَّرَائِعِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجْرَى سُنَّتَهُ وَأَنْفَذَ كَلِمَتَهُ بِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ السُّفَرَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ الْمُبَيِّنِينَ لِشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} وَقَالَ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِمْ فِي كُلِّ مَا جَاءُوا بِهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَالتَّمَسُّكِ بِمَا أَمَرُوا بِهِ فَإِنَّ فِيهِ الْهُدَى. وَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ الْيَقِينُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفُ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا أُخْرَى يَعْرِفُ بِهَا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ غَيْرَ الطُّرُقِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنِ الرَّسُولِ فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ. قَالَ: وَهِيَ دَعْوَى تَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ نُبُوَّةٍ بَعْدَ نَبِيِّنَا ; لِأَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَقَدْ أَثْبَتَ

(1)

الصواب عند أهل السنة وصف الله سبحانه بأنه في جهة العلو، وأنه فوق العرش، كما ذلك على ذلك نصوص الكتاب السنة، ويجوز عند أهل السنة السؤال هنه بأين، كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمجارية: أين الله؟ قالت في السماء، الحديث.

(2)

هذا هو قول بعض أهل السنة، وذهب بعض المحققين منهم إلى أن العقل يحسن ويطيح، لما فطر الله عليه العباد من معرفة الحسن والقبيح. وقد جاءت الشرائع الإلهية تأمر بالحسن وتنهى عن القبيح، ولكن لا يتراب الثواب والعقاب على ذلك إلا بعد بلوغ الشرع، كما حلق ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة)، وهذا هو الصواب. والله أعلم.

ص: 221

لِنَفْسِهِ خَاصَّةً النُّبُوَّةَ كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي. قَالَ: وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا لَا آخُذُ عَنِ الْمَوْتَى، وَإِنَّمَا آخُذُ عَنِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَكَذَا قَالَ آخَرُ: أَنَا آخُذُ عَنْ قَلْبِي عَنْ رَبِّي. وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الشَّرَائِعِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنِ اسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ مِنْ خَفَايَا الْأُمُورِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ وَيَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ فَقَدْ ضَلَّ، وَلَيْسَ مَا تَمَسَّكَ بِهِ صَحِيحًا، فَإِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْخَضِرُ لَيْسَ فِي شَيْءٌ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ الشَّرْعَ، فَإِنَّ نَقْضَ لَوْحٍ مِنَ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ لِدَفْعِ الظَّالِمِ عَنْ غَصْبِهَا ثُمَّ إِذَا تَرَكَهَا أُعِيدَ اللَّوْحُ - جَائِزٌ شَرْعًا وَعَقْلًا ; وَلَكِنَّ مُبَادَرَةَ مُوسَى بِالْإِنْكَارِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ. وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ: فَإِذَا جَاءَ الَّذِي يُسَخِّرُهَا فَوَجَدَهَا مُنْخَرِقَةً تَجَاوَزَهَا فَأَصْلَحَهَا. فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ وُجُوبُ التَّأَنِّي عَنِ الْإِنْكَارِ فِي الْمُحْتَمَلَاتِ. وَأَمَّا قَتْلُهُ الْغُلَامَ فَلَعَلَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا إِقَامَةُ الْجِدَارِ فَمِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَعَمَدَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ، وَكَذَا قَوْلُهُ عَمَدْتُ. وَنَوْلٌ بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ: أُجْرَةٌ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَا) أَيْ فَخَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ فَانْطَلَقَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ) هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَسَنَذْكُرُ بَاقِيَ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌45 - بَاب مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ عَالِمًا جَالِسًا

123 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ - قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا - فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل.

[الحديث 123 - أطرافه في: 7458، 3126، 2810]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ عَنِ الْفَاعِلِ. وَقَوْلُهُ: عَالِمًا: مَفْعُولٌ، وَجَالِسًا: صِفَةٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ الْعَالِمَ الْجَالِسَ إِذَا سَأَلَهُ شَخْصٌ قَائِمٌ لَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا. بَلْ هَذَا جَائِزٌ، بِشَرْطِ الْأَمْنِ مِنَ الْإِعْجَابِ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ) هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورُ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَأَبُو وَائِلٍ هُوَ شَقِيقٌ، وَأَبُو مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيُّ، وَكُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ أَبُو مُوسَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ دُونَهُ، فَيَكُونُ مُدْرَجًا فِي أَثْنَاءِ الْخَبَرِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ قَاتَلَ. . . إِلَخْ) هُوَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ بِلَفْظٍ جَامِعٍ لِمَعْنَى السُّؤَالِ مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ شَاهِدٌ لِحَدِيثِ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقِيَامِ طَالِبِ الْحَاجَةِ عِنْدَ أَمْنِ الْكِبْرِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْمُجَاهِدِينَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ قَاتَلَ لِإِعْلَاءِ دِينِ اللَّهِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِقْبَالِ الْمَسْئُولِ عَلَى السَّائِلِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌46 - باب السُّؤَالِ وَالْفُتْيَا عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ

124 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ

ص: 222

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَهُوَ يُسْأَلُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ. ارْمِ وَلَا حَرَجَ، قَالَ آخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ قَالَ: انْحَرْ وَلَا حَرَجَ، فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ، إِلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السُّؤَالِ وَالْفُتْيَا عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ) مُرَادُهُ: أَنَّ اشْتِغَالَ الْعَالِمِ بِالطَّاعَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ سُؤَالِهِ عَنِ الْعِلْمِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا فِيهَا، إِنَّ الْكَلَامَ فِي الرَّمْيِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ جَائِزٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ، وَأُخِّرَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ إِلَى الْحَجِّ. وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبِشِينٍ مُعْجَمَةٍ. وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّرْجَمَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ وَقَعَتْ فِي حَالِ الرَّمْيِ، بَلْ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ وَاقِفًا عِنْدَهَا فَقَطْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ كَثِيرًا مَا يَتَمَسَّكُ بِالْعُمُومِ، فَوُقُوعُ السُّؤَالِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ اشْتِغَالِهِ بِالرَّمْيِ أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ. وَاسْتَدَلَّ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِالْخَبَرِ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ قَائِمٌ مَقَامَ اللَّفْظِ، أَيْ: بِأَيِّ صِيغَةٍ وَرَدَ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ إِرَادَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْهَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ لَمَا احْتَاجُوا إِلَى السُّؤَالِ عَنْ حُكْمِ تَقْدِيمِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، إِذَا وَرَدَ الْأَمْرُ لِشَيْئَيْنِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ، فَيُقَالُ: الْأَصْلُ الْعَمَلُ بِتَقْدِيمِ مَا قُدِّمَ وَتَأْخِيرُ مَا أُخِّرَ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ، وَلِمَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ التَّرْتِيبِ أَصْلًا أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَذَا الْخَبَرِ يَقُولُ

(1)

حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ. وَاعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا عَلَى التَّرْجَمَةِ فَقَالَ: لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ فِيهِ حَتَّى يُفْرَدَ بِبَابٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارِ مِثْلِ ذَلِكَ فَلْيُتَرْجَمْ بِبَابِ السُّؤَالِ وَالْمَسْئُولِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَبِبَابِ السُّؤَالِ يَوْمَ النَّحْرِ. قُلْتُ: أَمَّا نَفْيُ الْفَائِدَةِ فَتَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَيُرَادُ أَنَّ سُؤَالَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحُكْمَ عَنْهُ فِي مَوْضِعِ فِعْلِهِ حَسَنٌ بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ صِحَّةَ الْعَمَلِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهِ، وَأَنَّ سُؤَالَ الْعَالِمِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّائِلُ لَا نَقْصَ فِيهِ عَلَى الْعَالِمِ إِذَا أَجَابَ وَلَا لَوْمَ عَلَى السَّائِلِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَيْضًا دَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ تَضْيِيقًا عَلَى الرَّامِينَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنَ الْمَنْعِ مَا إِذَا كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ. وَأَمَّا إِلْزَامُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ تَرْجَمَ لِلْأَوَّلِ فِيمَا مَضَى بَابَ الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقَابِلَ الْمَكَانَ بِالزَّمَانِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْعِلْمِ لَا يَتَقَيَّدُ بِيَوْمٍ دُونَ يَوْمٍ، لَكِنْ قَدْ يَتَخَيَّلُ مُتَخَيِّلٌ مِنْ كَوْنِ يَوْمِ الْعِيدِ يَوْمَ لَهْوٍ امْتِنَاعَ السُّؤَالِ عَنِ الْعِلْمِ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌47 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا}

125 -

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ، لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ،

(1)

في طبعة بولاق: كذا بالنسخ التي بأيدينا، ولعل لفظة"يقول"زائدة من قلم الناسخ

ص: 223

فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} . قَالَ الْأَعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا.

[الحديث 125 - اطرافه في: 7462، 7456، 7297، 4721]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} عَبْدُ الْوَاحِدِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ، وَإِسْنَادُ الْأَعْمَشِ إِلَى مُنْتَهَاهُ مِمَّا قِيلَ إِنَّهُ أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ.

قَوْلُهُ: (خِرَبٍ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ خِرْبَةٍ، وَيُقَالُ بِالْعَكْسِ. وَالْخَرِبُ ضِدُّ الْعَامِرِ. وَوَقَعَ فِي مَوْضِعِ آخَرَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ.

قَوْلُهُ: (عَسِيبٍ) أَيْ: عَصًا مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ.

قَوْلُهُ: (بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَائِهِمْ.

قَوْلُهُ: (لَا تَسْأَلُوهُ لَا يَجِئْ) فِي رِوَايَتِنَا بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ. وَالْمَعْنَى: لَا تَسْأَلُوهُ خَشْيَةَ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.

قَوْلُهُ: (لَنَسْأَلَنَّهُ) جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ.

قَوْلُهُ: (فَقُمْتُ) أَيْ: حَتَّى لَا أَكُونَ مُشَوِّشًا عَلَيْهِ، أَوْ فَقُمْتُ قَائِمًا حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا انْجَلَى) أَيِ الْكَرْبُ الَّذِي كَانَ يَغْشَاهُ حَالَ الْوَحْيِ.

قَوْلُهُ: (الرُّوحُ) الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ الَّذِي فِي الْحَيَوَانِ، وَقِيلَ عَنْ جِبْرِيلَ، وَقِيلَ عَنْ عِيسَى، وَقِيلَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ عَنْ خَلْقٍ عَظِيمٍ رُوحَانِيِّ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنُشِيرُ هُنَاكَ إِلَى مَا قِيلَ فِي الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ وَأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ.

قَوْلُهُ: (هِيَ كَذَا) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا أَيْ: قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِي السَّبْعَةِ، بَلْ وَلَا فِي الْمَشْهُورِ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ أَغْفَلَهَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ لَهُ مِنْ قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌48 - باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الِاخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْهُ

126 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُسِرُّ إِلَيْكَ كَثِيرًا، فَمَا حَدَّثَتْكَ فِي الْكَعْبَةِ؟ قُلْتُ: قَالَتْ لِي: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ - قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِكُفْرٍ - لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ، فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ.

[الحديث 126 - أطرافه في: 7243، 4484، 3368، 1585، 1584، 1583]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الِاخْتِيَارِ) أَيْ: فِعْلَ الشَّيْءِ الْمُخْتَارِ وَالْإِعْلَامَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْرَائِيلَ) هُوَ ابْنُ يُونُسَ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ جَدُّ إِسْرَائِيلَ الرَّاوِي عَنْهُ، وَ (الْأَسْوَدُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدُ النَّخَعِيُّ وَالْإِسْنَادُ إِلَيْهِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ لِي ابْنُ الزُّبَيْرِ) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ الصَّحَابِيَّ الْمَشْهُورَ.

قَوْلُهُ: (كَانَتْ عَائِشَةُ) أَيْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ.

قَوْلُهُ: (فِي الْكَعْبَةِ) يَعْنِي فِي شَأْنِ الْكَعْبَةِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: قَالَتْ لِي) زَادَ فِيهِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ: قُلْتُ: لَقَدْ حَدَّثَتْنِي حَدِيثًا كَثِيرًا نَسِيتُ بَعْضَهُ، وَأَنَا أَذْكُرُ بَعْضَهُ، قَالَ - أَيِ: ابْنُ الزُّبَيْرِ - مَا نَسِيتَ أَذْكَرْتُكِ، قُلْتُ: قَالَتْ.

قَوْلُهُ: (حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ) بِتَنْوِينِ حَدِيثٍ، وَرَفْعِ عَهْدِهِمْ عَلَى إِعْمَالِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ) لِلْأَصِيلِيِّ فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِكُفْرٍ أَيْ أَذْكَرَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِقَوْلِهَا بِكُفْرٍ كَانَ الْأَسْوَدُ نَسِيَهَا،

ص: 224

وَأَمَّا مَا بَعْدَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: لَنَقَضْتُ. . . إِلَخْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا نَسِيَ أَيْضًا أَوْ مِمَّا ذَكَرَ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ بِتَمَامِهِ، إِلَّا قَوْلُهُ: بِكُفْرٍ فَقَالَ بَدَلَهَا: بِجَاهِلِيَّةٍ، وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ فِي الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى عَنِ الْأَسْوَدِ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَلَفْظُهُ: قُلْتُ حَدَّثَتْنِي حَدِيثًا حَفِظْتُ أَوَّلَهُ وَنَسِيتُ آخِرَهُ وَرَجَّحَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ إِدْرَاجٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (بَابًا) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلِغَيْرِهِ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.

قَوْلُهُ: (فَفَعَلَهُ) يَعْنِي بَنَى الْكَعْبَةَ عَلَى مَا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ مَعْنَى مَا تَرْجَمَ لَهُ لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُعَظِّمُ أَمْرَ الْكَعْبَةِ جِدًّا، فَخَشِيَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَظُنُّوا - لِأَجْلِ قُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ - أَنَّهُ غَيَّرَ بِنَاءَهَا لِيَنْفَرِدَ بِالْفَخْرِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ: تَرْكُ الْمَصْلَحَةِ لِأَمْنِ الْوُقُوعِ فِي الْمَفْسَدَةِ، وَمِنْهُ تَرْكُ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي أَنْكَرَ مِنْهُ، وَأَنَّ الْإِمَامَ يَسُوسُ رَعِيَّتَهُ بِمَا فِيهِ إِصْلَاحُهُمْ وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا.

‌49 - بَاب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا

وَقَالَ عَلِيٌّ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ. أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟

127 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ) أَيْ: سِوَى قَوْمٍ لَا بِمَعْنَى الْأَدْوَنِ. وَكَرَاهِيَةَ بِالْإِضَافَةِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ قَرِيبَةٌ مِنَ التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ; وَلَكِنَّ هَذِهِ فِي الْأَقْوَالِ وَتِلْكَ فِي الْأَفْعَالِ أَوْ فِيهِمَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مُوسَى كَمَا ثَبَتَ لِلْبَاقِينَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَعْرُوفٍ) هُوَ ابْنُ خَرَّبُوذٍ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مَكِّيٌّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَبُوهُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنْ عَوَالِي الْبُخَارِيِّ لِأَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالثُّلَاثِيَّاتِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الرَّاوِيَ الثَّالِثَ مِنْهُ صَحَابِيٌّ وَهُوَ أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ كُلُّهُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ بِتَقْدِيمِ الْمَتْنِ ابْتَدَأَ بِهِ مُعَلَّقًا فَقَالَ: وَقَالَ عَلِيٌّ. . . إِلَخْ. ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالْإِسْنَادِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: بِمَا يَعْرِفُونَ أَيْ: يَفْهَمُونَ. وَزَادَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ مَعْرُوفٍ فِي آخِرِهِ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ أَيْ: يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ فَهْمُهُ. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا أَنْتَ مُحَدِّثًا قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِمَّنْ كَرِهَ التَّحْدِيثَ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ أَحْمَدُ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْخُرُوجُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَمَالِكٌ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي الْغَرَائِبِ، وَمِنْ قَبْلِهِمْ أَبُو هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الْجِرَابَيْنِ وَأَنَّ الْمُرَادَ مَا يَقَعُ مِنَ الْفِتَنِ، وَنَحْوُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ أَنْكَرَ تَحْدِيثَ أَنَسٍ، لِلْحَجَّاجِ بِقِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهَا وَسِيلَةً إِلَى مَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ بِتَأْوِيلِهِ الْوَاهِي، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُقَوِّي الْبِدْعَةَ وَظَاهِرُهُ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مُرَادٍ، فَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ مَطْلُوبٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 225

128 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَتَادَةُ قَالَ: حَدَّثَن اأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ: يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: يَا مُعَاذُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ - ثَلَاثًا - قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا. وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.

[الحديث 128 - طرفه في: 129]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبِي) هُوَ هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتُوَائِيُّ.

قَوْلُهُ: (رَدِيفُهُ) أَيْ: رَاكِبٌ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. وَالرَّحْلُ بِإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ لِلْبَعِيرِ، لَكِنْ مُعَاذٌ كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ رَدِيفَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ كَمَا يَأْتِي فِي الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ) هُوَ خَبَرُ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَابْنُ جَبَلٍ بِفَتْحِ النُّونِ، وَأَمَّا مُعَاذٌ فَبِالضَّمِّ لِأَنَّهُ مُنَادًى مُفْرَدٌ عَلَمٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ مَالِكٍ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى تَقْدِيرٌ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ النَّصْبَ عَلَى أَنَّهُ مَعَ مَا بَعْدَهُ كَاسْمٍ وَاحِدٍ مُرَكَّبٍ كَأَنَّهُ أُضِيفَ، وَالْمُنَادَى الْمُضَافُ مَنْصُوبٌ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مُعَاذٌ زَائِدٌ، فَالتَّقْدِيرُ يَا ابْنَ جَبَلٍ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ بِتَأْوِيلٍ.

قَوْلُهُ. (قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ) اللَّبُّ بِفَتْحِ اللَّامِ مَعْنَاهُ هُنَا الْإِجَابَةُ، وَالسَّعْدُ الْمُسَاعَدَةُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَبًّا لَكَ وَإِسْعَادًا لَكَ ; وَلَكِنَّهُمَا ثُنِّيَا عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ وَالتَّكْثِيرِ، أَيْ: إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ وَإِسْعَادًا بَعْدَ إِسْعَادٍ. وَقِيلَ فِي أَصْلِ لَبَّيْكَ وَاشْتِقَاقِهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثًا) أَيِ: النِّدَاءَ وَالْإِجَابَةَ قِيلَا ثَلَاثًا، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ فِي بَابِ مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلَاثًا لِيُفْهَمَ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (صِدْقًا) فِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ شَهَادَةِ الْمُنَافِقِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَلْبِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِصِدْقًا أَيْ: يَشْهَدُ بِلَفْظِهِ وَيُصَدِّقُ بِقَلْبِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيَشْهَدُ أَيْ: يَشْهَدُ بِقَلْبِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ صِدْقًا أُقِيمَ هُنَا مَقَامَ الِاسْتِقَامَةِ لِأَنَّ الصِّدْقَ يُعَبَّرُ بِهِ قَوْلًا عَنْ مُطَابَقَةِ الْقَوْلِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَيُعَبَّرُ بِهِ فِعْلًا عَنْ تَحَرِّي الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أَيْ: حَقَّقَ مَا أَوْرَدَهُ قَوْلًا بِمَا تَحَرَّاهُ فِعْلًا، انْتَهَى. وَأَرَادَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ رَفْعَ الْإِشْكَالِ عَنْ ظَاهِرِ الْخَبَرِ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ دُخُولِ جَمِيعِ مَنْ شَهِدَ الشَّهَادَتَيْنِ النَّارَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْمِيمِ وَالتَّأْكِيدِ، لَكِنْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ طَائِفَةً مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَنْ عَمِلَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ. قَالَ: وَلِأَجْلِ خَفَاءَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْذَنْ لِمُعَاذٍ فِي التَّبْشِيرِ بِهِ. وَقَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنِ الْإِشْكَالِ أَيْضًا بِأَجْوِبَةٍ أُخْرَى: مِنْهَا أَنَّ مُطْلَقَهُ مُقَيَّدٌ بِمَنْ قَالَهَا تَائِبًا ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَعَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَصُحْبَتُهُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ نُزُولِ أَكْثَرِ الْفَرَائِضِ، وَكَذَا وَرَدَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَكَانَ قُدُومُهُ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَدِمَ فِيهَا أَبُو هُرَيْرَةَ.

وَمِنْهَا أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، إِذِ الْغَالِبُ أَنَّ الْمُوَحِّدَ يَعْمَلُ الطَّاعَةَ وَيَجْتَنِبُ الْمَعْصِيَةَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِتَحْرِيمِهِ عَلَى النَّارِ تَحْرِيمُ خُلُودِهِ فِيهَا لَا أَصْلُ دُخُولِهَا. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ النَّارُ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ لَا الطَّبَقَةُ الَّتِي أُفْرِدَتْ لِعُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِتَحْرِيمِهِ عَلَى النَّارِ حُرْمَةُ جُمْلَتِهِ لِأَنَّ النَّارَ لَا

ص: 226

تَأْكُلُ مَوَاضِعَ السُّجُودِ مِنَ الْمُسْلِمِ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا، وَكَذَا لِسَانُهُ النَّاطِقُ بِالتَّوْحِيدِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَيَسْتَبْشِرُونَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ أَيْ فَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَلِلْبَاقِينَ بِحَذْفِ النُّونِ، وَهُوَ أَوْجَهُ لِوُقُوعِ الْفَاءِ بَعْدَ النَّفْيِ أَوِ الِاسْتِفْهَامِ أَوِ الْعَرْضِ وَهِيَ تَنْصِبُ فِي كُلِّ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِذًا يَتَّكِلُوا) بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْمَفْتُوحَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ، وَهُوَ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ أَيْ: إِنْ أَخْبَرْتَهُمْ يَتَّكِلُوا. وَلِلْأَصِيلِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ يَنْكُلُوا - بِإِسْكَانِ النُّونِ وَضَمِّ الْكَافِ - أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنَ الْعَمَلِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا يَتَبَادَرُ مِنْ ظَاهِرِهِ، وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِمُعَاذٍ فِي التَّبْشِيرِ، فَلَقِيَهُ عُمَرُ فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ. ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَنْتَ أَفْضَلُ رَأْيًا، إِنَّ النَّاسَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ اتَّكَلُوا عَلَيْهَا، قَالَ فَرَدَّهُ. وَهَذَا مَعْدُودٌ مِنْ مُوَافَقَاتِ عُمَرَ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: يَتَّكِلُوا عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ اخْتِيَارًا كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ

(1)

.

قَوْلُهُ: (عِنْدَ مَوْتِهِ) أَيْ: مَوْتِ مُعَاذٍ. وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: وَيَرُدُّهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ مُعَاذًا حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ يَقُولُ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ إِلَّا مَخَافَةَ أَنْ تَتَّكِلُوا. . فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (تَأَثُّمًا) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ الْمَضْمُومَةِ، أَيْ: خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي الْإِثْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ: يَتَحَنَّثُ. وَالْمُرَادُ بِالْإِثْمِ الْحَاصِلُ مِنْ كِتْمَانِ الْعِلْمِ، وَدَلَّ صَنِيعُ مُعَاذٍ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّبْشِيرِ كَانَ عَلَى التَّنْزِيهِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ يُخْبِرُ بِهِ أَصْلًا. أَوْ عَرَفَ أَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِالِاتِّكَالِ فَأَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ لَا يَخْشَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِذَا زَالَ الْقَيْدُ زَالَ الْمُقَيَّدُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِكَوْنِهِ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ مَوْتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَعَلَّ مُعَاذًا لَمْ يَفْهَمِ النَّهْيَ، لَكِنْ كُسِرَ عَزْمُهُ عَمَّا عَرَضَ لَهُ مِنْ تَبْشِيرِهِمْ. قُلْتُ: وَالرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ صَرِيحَةٌ فِي النَّهْيِ، فَالْأَوْلَى مَا تَقَدَّمَ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْإِرْدَافِ، وَبَيَانُ تَوَاضُعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْزِلَةُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مِنَ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِمَا ذَكَرَ. وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِفْسَارِ الطَّالِبِ عَمَّا يَتَرَدَّدُ فِيهِ، وَاسْتِئْذَانِهِ فِي إِشَاعَةِ مَا يَعْلَمُ بِهِ وَحْدَهُ.

129 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذِ: مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قَالَ: أَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَذَكَرَ الْجَيَّانِيُّ أَنَّ عَبْدُوسًا، وَالْقَابِسِيَّ رَوَيَاهُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِإِسْقَاطِ مُسَدَّدٍ مِنَ السَّنَدِ، قَالَ: وَهُوَ وَهْمٌ وَلَا يَتَّصِلُ السَّنَدُ إِلَّا بِذِكْرِهِ، انْتَهَى. وَمُعْتَمِرٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ إِلَّا مُعَاذًا، وَكَذَا الَّذِي قَبْلَهُ إِلَّا إِسْحَاقَ فَهُوَ مَرْوَزِيٌّ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهْوَيْهِ.

قَوْلُهُ: (ذُكِرَ لِي) هُوَ بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلَمْ يُسَمِّ أَنَسٌ مَنْ ذَكَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ جَمِيعَ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الطُّرُقِ، وَكَذَلِكَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عِنْدِ أَحْمَدَ ; لِأَنَّ مُعَاذًا إِنَّمَا حَدَّثَ بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ بِالشَّامِ، وَجَابِرٌ، وَأَنَسٌ إِذْ ذَاكَ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ يَشْهَدَاهُ وَقَدْ حَضَرَ ذَلِكَ مِنْ مُعَاذٍ، عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ أَحَدُ الْمُخَضْرَمِينَ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا فِي سِيَاقِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ ثَمَّ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ

(1)

هذا الذى عده الشارح لبعض متكلمي الأشاعرة هو قول أهل السنة، وهو أن للعبد اختيارا وفعلا ومشيئة، لكن ذلك إنما يقع بعد مشيئة الله كما قال تعالى {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فتنبه

ص: 227

أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ مُعَاذٍ أَيْضًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَسَّرَ الْمُبْهَمُ بِأَحَدِهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): أَوْرَدَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِ أَنَسٍ، وَهُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ أَنَسٍ، وَكَانَ حَقَّهُ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الْمُبْهَمَاتِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (مَنْ لَقِيَ اللَّهَ) أَيْ مَنْ لَقِيَ الْأَجَلَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ يَعْنِي الْمَوْتَ. كَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْبَعْثَ أَوْ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ.

قَوْلُهُ: (لَا يُشْرِكُ بِهِ) اقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي التَّوْحِيدَ بِالِاقْتِضَاءِ، وَيَسْتَدْعِي إِثْبَاتَ الرِّسَالَةِ بِاللُّزُومِ، إِذْ مَنْ كَذَّبَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ كَذَّبَ اللَّهَ وَمَنْ كَذَّبَ اللَّهَ فَهُوَ مُشْرِكٌ، أَوْ هُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ تَوَضَّأَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، أَيْ: مَعَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ. فَالْمُرَادُ مَنْ مَاتَ حَالَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا بِجَمِيعِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ. وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: دَخَلَ الْجَنَّةَ مِنَ الْإِشْكَالِ مَا تَقَدَّمَ فِي السِّيَاقِ الْمَاضِي ; لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّعْذِيبِ أَوْ بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا) مَعْنَى التَّأَثُّمِ التَّحَرُّجُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْإِثْمِ وَهُوَ كَالتَّحَنُّثِ، وَإِنَّمَا خَشِيَ مُعَاذٌ مِنَ الْإِثْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى كِتْمَانِ الْعِلْمِ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ مَنْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْبِرَ بِهَا إِخْبَارًا عَامًّا لِقَوْلِهِ: أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ فَأَخَذَ هُوَ أَوَّلًا بِعُمُومِ الْمَنْعِ فَلَمْ يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ عُمُومًا، فَبَادَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَأَخْبَرَ بِهَا خَاصًّا مِنَ النَّاسِ فَجَمَعَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ الْمَنْعَ لَوْ كَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْأَشْخَاصِ لَمَا أَخْبَرَ هُوَ بِذَلِكَ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ مَقَامِهِ فِي الْفَهْمِ أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِخْبَارِهِ. وَقَدْ تُعُقِّبَ هَذَا الْجَوَابُ بِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِيهِ انْقِطَاعٌ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: أَدْخِلُوا عَلَيَّ النَّاسَ. فَأُدْخِلُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ وَمَا كُنْتُ أُحَدِّثُكُمُوهُ إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَشَاهِدِي عَلَى ذَلِكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ. فَقَالَ: صَدَقَ أَخِي، وَمَا كَانَ يُحَدِّثُكُمْ بِهِ إِلَّا عِنْدَ مَوْتِهِ. وَقَدْ وَقَعَ لِأَبِي أَيُّوبَ مِثْلُ ذَلِكَ، فَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ظَبْيَانَ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ غَزَا الرُّومَ فَمَرِضَ، فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ: سَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْلَا حَالِي هَذِهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ.

وَإِذَا عُورِضَ هَذَا الْجَوَابُ فَأُجِيبَ عَنْ أَصْلِ الْإِشْكَالِ بِأَنَّ مُعَاذًا اطَّلَعَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَنْعِ التَّحْرِيمَ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ يُبَشِّرَ بِذَلِكَ النَّاسَ، فَلَقِيَهُ عُمَرُ فَدَفَعَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَدَخَلَ عَلَى أَثَرِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ. فَقَالَ: فَخَلِّهِمْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَكَأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ: أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا كَانَ بَعْدَ قِصَّةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَكَانَ النَّهْيُ لِلْمَصْلَحَةِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ بِهِ مُعَاذٌ لِعُمُومِ الْآيَةِ بِالتَّبْلِيغِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (لَا) هِيَ لِلنَّهْيِ لَيْسَتْ دَاخِلَةً عَلَى أَخَافُ، بَلِ الْمَعْنَى لَا تُبَشِّرْ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: أَخَافُ. وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِنِّي أَخَافُ بِإِثْبَاتِ التَّعْلِيلِ، وَلِلْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مُعْتَمِرٍ قَالَ: لَا، دَعْهُمْ فَلْيَتَنَافَسُوا فِي الْأَعْمَالِ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا.

‌50 - بَاب الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ.

130 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ

ص: 228

غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ. فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ - تَعْنِي وَجْهَهَا - وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟

[الحديث 130 - أطرافه في: 6121، 6091، 3328، 282]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَيَاءِ) أَيْ: حُكْمِ الْحَيَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْإِجْلَالِ وَالِاحْتِرَامِ لِلْأَكَابِرِ، وَهُوَ مَحْمُودٌ. وَأَمَّا مَا يَقَعُ سَبَبًا لِتَرْكِ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِحَيَاءٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَعْفٌ وَمَهَانَةٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ مُجَاهِدٍ: لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَهُوَ بِإِسْكَانِ الْحَاءِ. وَلَا فِي كَلَامِهِ نَافِيَةٌ لَا نَاهِيَةٌ ; وَلِهَذَا كَانَتْ مِيمُ يَتَعَلَّمُ مَضْمُومَةً، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَحْرِيضَ الْمُتَعَلِّمِينَ عَلَى تَرْكِ الْعَجْزِ وَالتَّكَبُّرِ لِمَا يُؤَثِّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ النَّقْصِ فِي التَّعْلِيمِ. وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ هَذَا وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْهُ، وَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْمُصَنِّفِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثٍ أَوَّلُهُ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ.

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَفِي الْإِسْنَادِ مِنَ اللَّطَائِفِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ مِثْلِهِ عَنْ صَحَابِيَّةٍ عَنْ مِثْلِهَا، وَفِيهِ رِوَايَةُ الِابْنِ عَنْ أَبِيهِ وَالْبِنْتِ عَنْ أُمِّهَا، وَزَيْنَبُ هِيَ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُسِبَتْ إِلَى أُمِّهَا تَشْرِيفًا؛ لِكَوْنِهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ) هِيَ بِنْتُ مِلْحَانَ وَالِدَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أَيْ: لَا يَأْمُرُ بِالْحَيَاءِ فِي الْحَقِّ. وَقَدَّمَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ هَذَا الْكَلَامَ؛ بَسْطًا لِعُذْرِهَا فِي ذِكْرِ مَا تَسْتَحْيِي النِّسَاءُ مِنْ ذِكْرِهِ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ، وَلِهَذَا قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: فَضَحْتِ النِّسَاءَ.

قَوْلُهُ: (إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ) أَيْ رَأَتْ فِي مَنَامِهَا أَنَّهَا تُجَامَعُ.

قَوْلُهُ: (إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ) يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِ ذَلِكَ، وَجَعْلُ رُؤْيَةِ الْمَاءِ شَرْطًا لِلْغُسْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَرَ الْمَاءَ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ) فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لِعَائِشَةَ أَيْضًا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُمَا كَانَتَا حَاضِرَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (تَعْنِي وَجْهَهَا) هُوَ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، وَالْقَائِلُ عُرْوَةُ، وَفَاعِلُ تَعْنِي زَيْنَبُ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ.

قَوْلُهُ: (وَتَحْتَلِمُ) بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَوَتَحْتَلِمُ بِإِثْبَاتِهَا، قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ يَكُونُ فِي بَعْضِ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ذَلِكَ ; لَكِنَّ الْجَوَابَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِنَّمَا أَنْكَرَتْ وُجُودَ الْمَنِيِّ مِنْ أَصْلِهِ وَلِهَذَا أُنْكِرَ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (تَرِبَتْ يَمِينُكِ) أَيِ: افْتَقَرَتْ وَصَارَتْ عَلَى التُّرَابِ، وَهِيَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُطْلَقُ عِنْدَ الزَّجْرِ وَلَا يُرَادُ بِهَا ظَاهِرُهَا.

قَوْلُهُ: (فَبِمَ) بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَبَاحِثِهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

131 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ النَّخْلَةُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي، فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا.

ص: 229

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْعِلْمِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: فَاسْتَحْيَيْتُ وَلِتَأَسُّفِ عُمَرُ عَلَى كَوْنِهِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ؛ لِتَظْهَرَ فَضِيلَتُهُ، فَاسْتَلْزَمَ حَيَاءُ ابْنِ عُمَرَ تَفْوِيتَ ذَلِكَ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ إِذَا اسْتَحْيَى إِجْلَالًا لِمَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ سِرًّا لِيُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ ; وَلِهَذَا عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِبَابِ مَنِ اسْتَحْيَى فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالسُّؤَالِ.

‌51 - بَاب مَنْ اسْتَحْيَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالسُّؤَالِ

132 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُنْذِرٍ الْثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيِّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: فِيهِ الْوُضُوءُ.

[الحديث أطرافه في: 269، 178]

وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً وَهُوَ بِتَثْقِيلِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ أَيْ كَثِيرَ الْمَذْيِ، وَهُوَ بِإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ: الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الرَّجُلِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الطَّهَارَةِ أَيْضًا. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْخَبَرِ الْمَظْنُونِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَقْطُوعِ، وَهُوَ خَطَأٌ، فَفِي النَّسَائِيِّ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ وَعَلِيٌّ حَاضِرُ.

‌52 - باب ذِكْرِ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا فِي الْمَسْجِدِ

133 -

حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 133 - أطرافه في: 7334، 1528، 1527، 1525، 1522]

قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ الْعِلْمِ) أَيْ: إِلْقَاءِ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا فِي الْمَسْجِدِ، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ تَوَقَّفَ فِيهِ لِمَا يَقَعُ فِي الْمُبَاحَثَةِ مِنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ فَنَبَّهَ عَلَى الْجَوَازِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي الْمَسْجِدِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ كَانَ قَبْلَ السَّفَرِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَرْنٍ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَغَلِطَ مَنْ فَتَحَهَا. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: وَيَزْعُمُونَ. . . إِلَخْ يُفَسَّرُ بِمَنْ رَوَى الْحَدِيثَ تَامًّا كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِطْلَاقِ الزَّعْمِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْهُ لِقَوْلِهِ: لَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ أَيَ: الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ فَصَارَ يَرْوِيهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى شِدَّةِ تَحَرِّيهِ وَوَرَعِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 230

‌53 - بَاب مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ

134 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَعَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوْ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ.

[الحديث 134 - أطرافه في: 5852، 5847، 5806، 5805، 5803، 5794، 1842، 1838، 1542، 366]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَوْقِعُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مُطَابَقَةَ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ غَيْرُ لَازِمٍ، بَلْ إِذَا كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا وَالْجَوَابُ عَامًّا جَازَ، وَحُمِلَ الْحُكْمُ عَلَى عُمُومِ اللَّفْظِ لَا عَلَى خُصُوصِ السَّبَبِ لِأَنَّهُ جَوَابٌ وَزِيَادَةُ فَائِدَةٍ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا سُئِلَ عَنْ وَاقِعَةٍ وَاحْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ يَتَذَرَّعُ بِجَوَابِهِ إِلَى أَنْ يُعَدِّيَهُ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّ السُّؤَالِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُفَصِّلَ الْجَوَابَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَكَأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، فَأَجَابَهُ عَنْهَا، وَزَادَهُ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ، وَلَيْسَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنِ السُّؤَالِ لِأَنَّ حَالَةَ السَّفَرِ تَقْتَضِي ذَلِكَ.

وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْجَوَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُطَابِقَةِ عَدَمَ الزِّيَادَةِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْجَوَابَ يَكُونُ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْعُدُولُ عَمَّا لَا يَنْحَصِرُ إِلَى مَا يَنْحَصِرُ طَلَبًا لِلْإِيجَازِ ; لِأَنَّ السَّائِلَ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ فَأُجِيبَ بِمَا لَا يَلْبَسُ، إِذِ الْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ، وَلَوْ عَدَّدَ لَهُ مَا يَلْبَسُ لَطَالَ بِهِ، بَلْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بَعْضُ السَّامِعِينَ بِمَفْهُومِهِ فَيُظَنُّ اخْتِصَاصُهُ بِالْمُحَرَّمِ، وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ مَا يَحْرُمُ لُبْسُهُ لَا مَا يَحِلُّ لَهُ لُبْسُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهُ لِبَاسٌ مَخْصُوصٌ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ شَيْئًا مَخْصُوصًا.

قَوْلُهُ: (وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) هُوَ بِالضَّمِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِ آدَمَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَالْمُرَادُ أَنَّ آدَمَ سَمِعَهُ مِنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِإِسْنَادَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَعَنِ الزُّهْرِيِّ بِالْعَطْفِ عَلَى نَافِعٍ وَلَمْ يُعِدْ ذِكْرَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْعِلْمِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةِ حَدِيثٍ وَحَدِيثَيْنِ، مِنْهَا فِي الْمُتَابَعَاتِ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ وَغَيْرِهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَالتَّعَالِيقُ الَّتِي لَمْ يُوصِلْهَا فِي مَكَانٍ آخَرَ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ، وَرَحَلَ جَابِرٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، وَقِصَّةُ ضِمَامٍ فِي رُجُوعِهِ إِلَى قَوْمِهِ، وَحَدِيثُ إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ. وَبَاقِي ذَلِكَ وَهُوَ ثَمَانُونَ حَدِيثًا كُلُّهَا مَوْصُولَةٌ، فَالْمُكَرَّرُ مِنْهَا سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَبِغَيْرِ تَكْرِيرٍ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، وَقَدْ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا إِلَّا سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ الْمُعَلَّقَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ، وَحَدِيثُهُ فِي الذَّبْحِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي إِعَادَةِ الْكَلِمَةِ ثَلَاثًا، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالشَّفَاعَةِ، وَحَدِيثُ الزُّبَيْرِ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ، وَحَدِيثُ سَلَمَةَ مَ تَقَوَّلَ عَلَيَّ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الصَّحِيفَةِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كَوْنِهِ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ حَدِيثًا، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَفِظْتُ وِعَاءَيْنِ.

وَالْمُرَادُ بِمُوَافَقَةِ مُسْلِمٍ

ص: 231

مُوَافَقَتُهُ عَلَى تَخْرِيجِ أَصْلِ الْحَدِيثِ عَنْ صَحَابِيِّهِ وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْضُ الْمُخَالَفَةِ فِي بَعْضِ السِّيَاقَاتِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَثَرًا: أَرْبَعَةٌ مِنْهَا مَوْصُولَةٌ، وَالْبَقِيَّةٌ مُعَلَّقَةٌ.

قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: خَتَمَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَ الْعِلْمِ بِبَابِ مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْجَوَابِ عَمَلًا بِالنَّصِيحَةِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَأَشَارَ قَبْلَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ بِتَرْجَمَةِ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الِاخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ رُبَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ، فَأَتْبَعَ الطَّيِّبَ بِالطَّيِّبِ بِأَبْرَعِ سِيَاقٍ وَأَبْدَعِ اتِّسَاقٍ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌4 - كِتَاب الْوُضُوء

‌1 - بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ،

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً. وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثٍ. وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْإِسْرَافَ فِيهِ وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابُ الْوُضُوءِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الْآيَةَ)، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَلِكَرِيمَةَ بَابٌ فِي الْوُضُوءِ وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل. . . إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ ذِكْرُ أَحْكَامِهِ وَشَرَائِطِهِ وَصِفَتِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ. وَالْوُضُوءُ بِالضَّمِّ هُوَ الْفِعْلُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا، وَحُكِيَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْأَمْرَانِ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَضَاءَةِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتَنَظَّفُ بِهِ فَيَصِيرُ وَضِيئًا: وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: مَا جَاءَ إِلَى اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: التَّقْدِيرُ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْأَمْرُ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ حَذْفٍ، إِلَّا أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُحْدِثِ عَلَى الْإِيجَابِ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى النَّدْبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ عَلَى الْإِيجَابِ ثُمَّ نُسِخَ فَصَارَ مَنْدُوبًا.

وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ حَدَّثَتْ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ وُضِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّكَ فَعَلْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ. فَقَالَ: عَمْدًا فَعَلْتُهُ أَيْ: لِبَيَانِ الْجَوَازِ. وَسَيَأْتِي حَدِيثُ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي مُوجِبِ الْوُضُوءِ فَقِيلَ: يَجِبُ بِالْحَدَثِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، وَقِيلَ بِهِ وَبِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ مَعًا وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ حَسْبُ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إِيجَابَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَتَوَضَّؤُوا لِأَجْلِهَا، إِذَا رَأَيْتُ الْأَمِيرَ فَقُمْ، أَيْ لِأَجْلِهِ. وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ

ص: 232

الْوُضُوءَ أَوَّلَ مَا فُرِضَ بِالْمَدِينَةِ، فَأَمَّا مَا قَبْلَ ذَلِكَ فَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اتِّفَاقَ أَهْلِ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ إِنَّمَا فُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِمَكَّةَ كَمَا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ إِلَّا بِوُضُوءٍ. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا يَجْهَلُهُ عَالِمٌ.

وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: وَأَهْلُ السُّنَّةِ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى دَلِيلِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوُضُوءَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ. ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَتْ: هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ تَعَاهَدُوا لِيَقْتُلُوكَ. فَقَالَ: ائْتُونِي بِوَضُوءٍ. فَتَوَضَّأَ. . الْحَدِيثَ. قُلْتُ: وَهَذَا يَصْلُحُ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، لَا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَهُ حِينَئِذٍ. وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ الْجَهْمِ

(1)

بِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مَنْدُوبًا وَجَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَرُدَّ عَلَيْهِمَا بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ فِي الْمَغَازِي الَّتِي يَرْوِيهَا عَنْ أَبِي الْأَسْوَدَ يَتِيمِ عُرْوَةَ عَنْهُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْوُضُوءَ عِنْدَ نُزُولِهِ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَوَصَلَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ أَيْضًا لَكِنْ قَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي السَّنَدِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عَقِيلٍ مَوْصُولًا، وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ رِوَايَةُ ابْنِ لَهِيعَةَ.

قَوْلُهُ: (وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةٌ مَرَّةٌ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، أَيْ: فَرْضُ الْوُضُوءِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ غَسْلًا مَرَّةً مَرَّةً، أَوْ عَلَى الْحَالِ السَّادَّةِ مَسَدَّ الْخَبَرِ، أَيْ يُفْعَلُ مَرَّةً، أَوْ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَنْصِبُ الْجُزْأَيْنِ بِأَنَّ. وَأَعَادَ لَفْظَ مَرَّةٍ لِإِرَادَةِ التَّفْصِيلِ أَيِ: الْوَجْهُ مَرَّةً وَالْيَدُ مَرَّةً. . . إِلَخْ.

وَالْبَيَانُ الْمَذْكُورُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ بِهِ إِلَى مَا رَوَاهُ بَعْدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَهُوَ بَيَانٌ بِالْفِعْلِ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ، إِذِ الْأَمْرُ يُفِيدُ طَلَبَ إِيجَادِ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَتَعَيَّنُ بِعَدَدٍ، فَبَيَّنَ الشَّارِعُ أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ لِلْإِيجَابِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا لِلِاسْتِحْبَابِ، وَسَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ، فَفِيهِ بَيَانُ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ مَعًا ; لَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ تَكْرَارٍ، وَسَيَأْتِي هَذَا التَّعْلِيقُ مَوْصُولًا فِي بَابٍ مُفْرَدٍ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَثَلَاثًا) أَيْ: وَتَوَضَّأَ أَيْضًا ثَلَاثًا، زَادَ الْأَصِيلِيُّ ثَلَاثًا عَلَى نَسَقِ مَا قَبْلَهُ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا أَيْضًا فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثٍ) أَيْ: لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي صِفَةِ وُضُوئِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ زَادَ عَلَى ثَلَاثٍ، بَلْ وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم ذَمُّ مَنْ زَادَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ. إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، لَكِنْ عَدَّهُ مُسْلِمٌ فِي جُمْلَةِ مَا أُنْكِرَ عَلَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ ذَمُّ النَّقْصِ مِنَ الثَّلَاثِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَمْرٌ سَيِّئٌ وَالْإِسَاءَةُ تَتَعَلَّقُ بِالنَّقْصِ، وَالظُّلْمُ بِالزِّيَادَةِ. وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: مَنْ نَقَصَ مِنْ وَاحِدَةٍ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ مَرْفُوعًا الْوُضُوءُ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا، فَإِنْ نَقَصَ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوْ زَادَ عَلَى ثَلَاثٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وَهُوَ مُرْسَلٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

وَأُجِيبَ عَنِ الْحَدِيثِ أَيْضًا بِأَنَّ الرُّوَاةَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى ذِكْرِ النَّقْصِ فِيهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ مُقْتَصِرٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ زَادَ فَقَطْ، كَذَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ. وَمِنَ الْغَرَائِبِ مَا

(1)

بهامش طبعة بولاق: في نسخة "ابن الحكم"

ص: 233

حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّقْصُ مِنَ الثَّلَاثِ، وَكَأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَا أُحِبُّ الْوَاحِدَةَ إِلَّا مِنَ الْعَالِمِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِيجَابُ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْإِسْرَافَ فِيهِ) يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: مِنَ الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ وَلَوْ كُنْتَ عَلَى شَاطِئِ نَهَرٍ. وَأُخْرِجَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ فِي مَعْنَاهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْ يُجَاوِزُوا. . . إِلَخْ) يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَيْسَ بَعْدَ الثَّلَاثِ شَيْءٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا آمَنَ أَنْ يَأْثَمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَزِيدَ الْمُتَوَضِّئُ عَلَى ثَلَاثٍ، فَإِنْ زَادَ لَمْ أَكْرَهْهُ. أَيْ: لَمْ أُحَرِّمْهُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أُحِبُّ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ. وَهَذَا الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ.

وَحَكَى الدَّارِمِيُّ مِنْهُمْ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ تُبْطِلُ الْوُضُوءَ كَالزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، وَيَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ أَوْ كَرَاهَتِهَا أَنَّهُ لَا يُنْدَبُ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَاخْتُلِفَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَيْدِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْهُ حُكْمُ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ، فَالْأَصَحُّ إِنْ صَلَّى بِهِ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَقِيلَ الْفَرْضُ فَقَطْ، وَقِيلَ مِثْلُهُ حَتَّى سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرُ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ، وَقِيلَ مَا يُقْصَدُ لَهُ الْوُضُوءُ وَهُوَ أَعَمُّ، وَقِيلَ إِذَا وَقَعَ الْفَصْلُ بِزَمَنٍ يُحْتَمَلُ فِي مِثْلِهِ نَقْضُ الْوُضُوءِ عَادَةً.

وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الِاعْتِقَادِ؛ فَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ سُنَّةٌ أَخْطَأَ وَدَخَلَ فِي الْوَعِيدِ، وَإِلَّا فَلَا يُشْتَرَطُ لِلتَّحْدِيدِ شَيْءٌ، بَلْ لَوْ زَادَ الرَّابِعَةَ وَغَيْرَهَا لَا لَوْمَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قَصَدَ بِهِ الْقُرْبَةَ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ: الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ. قُلْتُ: وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ.

وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ بَقِيَ مِنَ الْعُضْوِ شَيْءٌ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ فِي الْمَرَّاتِ أَوْ بَعْضِهَا فَإِنَّهُ يَغْسِلُ مَوْضِعَهُ فَقَطْ، وَأَمَّا مَعَ الشَّكِّ الطَّارِئِ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَلَا، لِئَلَّا يَؤُولَ بِهِ الْحَالُ إِلَى الْوَسْوَاسِ الْمَذْمُومِ.

‌2 - بَاب لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ

135 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ. قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ.

[الحديث 135 - طرفه في: 6954]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ) هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ. وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْمُلَيْحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، فَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِ فِي التَّرْجَمَةِ وَأَوْرَدَ فِي الْبَابِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.

قَوْلُهُ: (لَا تُقْبَلُ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ نَصْرٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ وَالْمُرَادُ بِالْقَبُولِ

ص: 234

هُنَا مَا يُرَادِفُ الصِّحَّةَ وَهُوَ الْإِجْزَاءُ، وَحَقِيقَةُ الْقَبُولِ ثَمَرَةُ وُقُوعِ الطَّاعَةِ مُجْزِئَةً رَافِعَةً لِمَا فِي الذِّمَّةِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ بِشُرُوطِهَا مَظِنَّةَ الْإِجْزَاءِ الَّذِي الْقَبُولُ ثَمَرَتُهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَبُولِ مَجَازًا، وَأَمَّا الْقَبُولُ الْمَنْفِيُّ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَتَى عَرَّافًا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ فَهُوَ الْحَقِيقِيُّ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ الْعَمَلُ وَيَتَخَلَّفُ الْقَبُولُ لِمَانِعٍ، وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: لَأَنْ تُقْبَلَ لِي صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَمِيعِ الدُّنْيَا، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}

قَوْلُهُ: (أَحْدَثَ) أَيْ: وُجِدَ مِنْهُ الْحَدَثُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَارِجُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِأَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهًا بِالْأَخَفِّ عَلَى الْأَغْلَظِ ; وَلِأَنَّهُمَا قَدْ يَقَعَانِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَأَمَّا بَاقِي الْأَحْدَاثِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - كَمَسِّ الذَّكَرِ، وَلَمْسِ الْمَرْأَةِ، وَالْقَيْءِ مِلْءَ الْفَمِ وَالْحِجَامَةِ - فَلَعَلَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ لَا يَرَى النَّقْضَ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُصَنِّفُ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلَّا مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ اقْتَصَرَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَا ذُكِرَ لِعِلْمِهِ أَنَّ السَّائِلَ كَانَ يَعْلَمُ مَا عَدَا ذَلِكَ، وَفِيهِ بُعْدٌ.

وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ سَوَاءٌ كَانَ خُرُوجُهُ اخْتِيَارِيًّا أَمِ اضْطِرَارِيًّا، وَعَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِأَنَّ الْقَبُولَ انْتَفَى إِلَى غَايَةِ الْوُضُوءِ، وَمَا بَعْدَهَا مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا فَاقْتَضَى ذَلِكَ قَبُولَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ مُطْلَقًا.

قَوْلُهُ: (يَتَوَضَّأُ) أَيْ: بِالْمَاءِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ. فَأَطْلَقَ الشَّارِعُ عَلَى التَّيَمُّمِ أَنَّهُ وَضُوءٌ لِكَوْنِهِ قَامَ مَقَامَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَبُولِ صَلَاةِ مَنْ كَانَ مُحْدِثًا فَتَوَضَّأَ أَيْ: مَعَ بَاقِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌3 - بَاب فَضْلِ الْوُضُوءِ، وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ

136 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ: رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْوُضُوءِ، وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ لِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، أَوِ الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَهُمْ فَضْلٌ، أَوِ الْخَبَرُ قَوْلُهُ: مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَالْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ بِالْعَطْفِ عَلَى الْوُضُوءِ أَيْ: وَفَضْلِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدٍ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الثِّقَاتُ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ، وُصِفَ هُوَ وَأَبُوهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمَا كَانَا يُبَخِّرَانِ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ وَصْفَ عَبْدِ اللَّهِ بِذَلِكَ حَقِيقَةٌ وَوَصْفُ ابْنِهِ نُعَيْمٍ بِذَلِكَ مَجَازٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ جَزَمَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ بِأَنَّ نُعَيْمًا كَانَ يُبَاشِرُ ذَلِكَ.

وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ السِّتَّةُ نِصْفُهُمْ مِصْرِيُّونَ، وَهُمُ اللَّيْثُ وَشَيْخُهُ وَالرَّاوِي عَنْهُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ. (رَقِيتُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: صَعِدْتُ.

قَوْلُهُ: (فَتَوَضَّأَ) كَذَا لِجُمْهُورِ الرُّوَاةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ يَوْمًا بَدَلَ قَوْلِهِ فَتَوَضَّأَ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ تَوَضَّأَ. وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِيهِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ فَرَفَعَ فِي عَضُدَيْهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ فَرَفَعَ فِي سَاقَيْهِ وَكَذَا

ص: 235

لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ نُعَيْمٍ. وَزَادَ فِي هَذِهِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ فَأَفَادَ رَفْعَهُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَلْ مِنْ رِوَايَتِهِ وَرَأْيِهِ مَعًا.

قَوْلُهُ: (أُمَّتِي) أَيْ: أُمَّةُ الْإِجَابَةِ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ تُطْلَقُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ وَيُرَادُ بِهَا أُمَّةُ الدَّعْوَةِ وَلَيْسَتْ مُرَادَةً هُنَا.

قَوْلُهُ: (يُدْعَوْنَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: يُنَادَوْنَ أَوْ يُسَمَّوْنَ.

قَوْلُهُ: (غُرًّا) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ جَمْعُ أَغَرَّ أَيْ ذُو غُرَّةٍ، وَأَصْلُ الْغُرَّةِ لَمْعَةٌ بَيْضَاءُ تَكُونُ فِي جَبْهَةِ الْفَرَسِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي الْجَمَالِ وَالشُّهْرَةِ وَطِيبِ الذِّكْرِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا النُّورُ الْكَائِنُ فِي وُجُوِهِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَغُرًّا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِيُدْعَوْنَ أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ نُودُوا بِهَذَا الْوَصْفِ وَكَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ.

قَوْلُهُ: (مُحَجَّلِينَ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ، مِنَ التَّحْجِيلِ، وَهُوَ بَيَاضٌ يَكُونُ فِي ثَلَاثِ قَوَائِمَ مِنْ قَوَائِمِ الْفَرَسِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِجْلِ - بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ - وَهُوَ الْخَلْخَالُ، وَالْمُرَادُ بِهِ: هُنَا أَيْضًا النُّورُ. وَاسْتَدَلَّ الْحَلِيمِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي قِصَّةِ سَارَةَ رضي الله عنها مَعَ الْمَلِكِ الَّذِي أَعْطَاهَا هَاجَرَ أَنَّ سَارَةَ لَمَّا هَمَّ الْمَلِكُ بِالدُّنُوِّ مِنْهَا قَامَتْ تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، وَفِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ أَيْضًا أَنَّهُ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ كَلَّمَ الْغُلَامَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِيَ اخْتَصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ هُوَ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ لَا أَصْلُ الْوُضُوءِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا مَرْفُوعًا قَالَ: سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ. وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ نَحْوُهُ. وَسِيمَا بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ أَيْ: عَلَامَةٌ.

وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْحَلِيمِيِّ بِحَدِيثِ: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِ، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِضَعْفِهِ ; وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ أُمَمِهِمْ إِلَّا هَذِهِ الْأُمَّةَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ) بِضَمِّ الْوَاوِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا عَلَى أَنَّهُ الْمَاءُ قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.

قَوْلُهُ: (فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ) أَيْ: فَلْيُطِلِ الْغُرَّةَ وَالتَّحْجِيلَ. وَاقْتَصَرَ عَلَى إِحْدَاهُمَا لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْأُخْرَى نَحْوَ: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْغُرَّةِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ دُونَ التَّحْجِيلِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْغُرَّةِ أَشْرَفُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَأَوَّلُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ النَّظَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ.

عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ ذِكْرَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَفْظُهُ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَنَّى أَبُو هُرَيْرَةَ بِالْغُرَّةِ عَنِ التَّحْجِيلِ لِأَنَّ الْوَجْهَ لَا سَبِيلَ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي غَسْلِهِ، وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ قَلْبَ اللُّغَةِ، وَمَا نَفَاهُ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْإِطَالَةَ مُمْكِنَةٌ فِي الْوَجْهِ بِأَنْ يَغْسِلَ إِلَى صَفْحَةِ الْعُنُقِ مَثَلًا. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْغُرَّةَ تُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ، لَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحٍ، عَنْ نُعَيْمٍ وَفِي آخِرِهِ: قَالَ نُعَيْمٌ: لَا أَدْرِي قَوْلُهُ مَنِ اسْتَطَاعَ. . . إِلَخْ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي رِوَايَةِ أَحَدٍ مِمَّنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ عَشَرَةٌ وَلَا مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرَ رِوَايَةِ نُعَيْمٍ هَذِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ مِنَ التَّطْوِيلِ فِي التَّحْجِيلِ فَقِيلَ: إِلَى الْمَنْكِبِ وَالرُّكْبَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةُ وَرَأْيًا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ فِعْلَهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَقِيلَ الْمُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ إِلَى نِصْفِ الْعَضُدِ وَالسَّاقِ، وَقِيلَ إِلَى فَوْقَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكَعْبِ وَالْمِرْفَقِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ. وَكَلَامُهُمْ مُعْتَرَضٌ مِنْ وُجُوهٍ، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ صَرِيحَةٌ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَلَا تَعَارُضَ بِالِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا دَعْوَاهُمُ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ بِمَا نَقَلْنَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِاسْتِحْبَابِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ. وَأَمَّا

ص: 236

تَأْوِيلُهُمُ الْإِطَالَةَ الْمَطْلُوبَةَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْوُضُوءِ فَمُعْتَرَضٌ بِأَنَّ الرَّاوِيَ أَدْرَى بِمَعْنَى مَا رَوَى، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ إِلَى الشَّارِعِ صلى الله عليه وسلم

(1)

وَفِي الْحَدِيثِ مَعْنَى مَا تَرْجَمَ لَهُ مِنْ فَضْلِ الْوُضُوءِ ; لِأَنَّ الْفَضْلَ الْحَاصِلَ بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ مِنْ آثَارِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاجِبِ، فَكَيْفَ الظَّنُّ بِالْوَاجِبِ؟ وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَفِيهِ جَوَازُ الْوُضُوءِ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ لَكِنْ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ أَذًى لِلْمَسْجِدِ أَوْ لِمَنْ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌4 - بَاب لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ

137 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَا يَنْفَتِلْ - أَوْ لَا يَنْصَرِفْ - حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا.

[الحديث 137 - طرفاه في: 2056، 177]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (لَا يَتَوَضَّأُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الشَّكِّ) أَيْ: بِسَبَبِ الشَّكِّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ عَبَّادٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَقَطَتِ الْوَاوُ مِنْ رِوَايَةِ كَرِيمَةَ غَلَطًا؛ لِأَنَّ سَعِيدًا لَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ عَبَّادٍ أَصْلًا، ثُمَّ إِنَّ شَيْخَ سَعِيدٍ فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَمَّ عَبَّادٍ كَأَنَّهُ قَالَ كِلَاهُمَا عَنْ عَمِّهِ أَيْ: عَمِّ الثَّانِي وَهُوَ عَبَّادٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا ويكون مِنْ مَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ جَرَى صَاحِبُ الْأَطْرَافِ. وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ لَكِنْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْهُ فَقَالَ إِنَّهُ مُنْكَرٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمِّهِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، سَمَّاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي رِوَايَتِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَاخْتُلِفَ هَلْ هُوَ عَمُّ عَبَّادٍ لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ شَكَا) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا شَكَا بِأَلِفٍ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الرَّاوِيَ هُوَ الشَّاكِي، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ سُفْيَانَ وَلَفْظُهُ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ شُكِيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَعَلَى هَذَا فَالْهَاءُ فِي أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ.

وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ شُكِيَ بِالضَّمِّ أَيْضًا كَمَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ: لَمْ يُسَمَّ الشَّاكِي، قَالَ: وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ الرَّاوِي. قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَهَّمَ مِنْ هَذَا أَنَّ شَكَى بِالْفَتْحِ أَيْ: فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ كَلَامُ النَّوَوِيِّ.

قَوْلُهُ: (الرَّجُلُ) بِالضَّمِّ عَلَى الْحِكَايَةِ. وَهُوَ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ.

قَوْلُهُ: (يُخَيَّلُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَيَالِ، وَالْمَعْنَى يَظُنُّ، وَالظَّنُّ هُنَا أَعَمُّ مِنْ تَسَاوِي الِاحْتِمَالَيْنِ أَوْ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى مَا هُوَ أَصْلُ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ الظَّنَّ خِلَافُ الْيَقِينِ.

قَوْلُهُ: (يَجِدُ الشَّيْءَ) أَيْ: الْحَدَثَ خَارِجًا مِنْهُ، وَصَرَّحَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَلَفْظُهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ وَفِيهِ الْعُدُولُ عَنْ ذِكْرِ الشَّيْءِ الْمُسْتَقْذَرِ بِخَاصِّ اسْمِهِ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ.

قَوْلُهُ: (فِي الصَّلَاةِ) تَمَسَّكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِظَاهِرِهِ فَخَصُّوا الْحُكْمَ

(1)

الأصح في هذه المسألة شرعية الإطالة في التعجيل خاصة، وذلك بالشروع في العضد والساق تكميلا للمفروض من غسل اليدين والقدمين، كما صرح أبو هريرة برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم. والله أعلم

ص: 237

بِمَنْ كَانَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ، وَأَوْجَبُوا الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَهَا، وَفَرَّقُوا بِالنَّهْيِ عَنْ إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى صِحَّتِهَا، فَلَا مَعْنَى لِلتَّفْرِيقِ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ هَذَا التَّخَيُّلَ إِنْ كَانَ نَاقِضًا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِيهَا كَبَقِيَّةِ النَّوَاقِضِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَنْفَتِلْ) بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّ لَا نَافِيَةٌ.

قَوْلُهُ: (أَوْ لَا يَنْصَرِفُ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَكَأَنَّهُ مِنْ عَلِيٍّ ; لِأَنَّ الرُّوَاةَ غَيْرَهُ رَوَوْهُ عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظٍ لَا يَنْصَرِفُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ.

قَوْلُهُ: (صَوْتًا) أَيْ: مِنْ مَخْرَجِهِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ يَجِدُ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَعَبَّرَ بِالْوِجْدَانِ دُونَ الشَّمِّ لِيَشْمَلَ مَا لَوْ لَمَسَ الْمَحَلَّ ثُمَّ شَمَّ يَدَهُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَمْسَ الدُّبُرِ لَا يَنْقُضُ لِأَنَّ الصُّورَةَ تُحْمَلُ عَلَى لَمْسِ مَا قَارَبَهُ لَا عَيْنِهِ.

وَدَلَّ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْحَدَثَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَخْصِيصَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِالْيَقِينِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى إِذَا كَانَ أَوْسَعَ مِنَ اللَّفْظِ كَانَ الْحُكْمُ لِلْمَعْنَى قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي حُكْمِ بَقَاءِ الْأَشْيَاءِ عَلَى أُصُولِهَا حَتَّى يُتَيَقَّنَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَلَا يَضُرُّ الشَّكُّ الطَّارِئُ عَلَيْهَا. وَأَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ النَّقْضُ مُطْلَقًا، وَرُوِيَ عَنْهُ النَّقْضُ خَارِجَ الصَّلَاةِ دُونَ دَاخِلِهَا، وَرُوِيَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالْأَوَّلُ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَرِوَايَةُ التَّفْصِيلِ لَمْ تَثْبُتْ عَنْهُ وَإِنَّمَا هِيَ لِأَصْحَابِهِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ كَانَ بِهِ وَسْوَاسٌ، وَتَمَسَّكَ بِأَنَّ الشَّكْوَى لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ، وَأُجِيبَ بِمَا دَلَّ عَلَى التَّعْمِيمِ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخْرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا وَقَوْلُهُ: فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ أَيْ: مِنَ الصَّلَاةِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ.

وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ رَاجِحٌ ; لِأَنَّهُ احْتَاطَ لِلصَّلَاةِ وَهِيَ مَقْصِدٌ، وَأَلْغَى الشَّكَّ فِي السَّبَبِ الْمُبْرِئِ، وَغَيْرُهُ احْتَاطَ لِلطَّهَارَةِ وَهِيَ وَسِيلَةٌ وَأَلْغَى الشَّكَّ فِي الْحَدَثِ النَّاقِضِ لَهَا، وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمَقَاصِدِ أَوْلَى مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِلْوَسَائِلِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ قَوِيٌّ ; لَكِنَّهُ مُغَايِرٌ لِمَدْلُولِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِعَدَمِ الِانْصِرَافَ إِلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رِيحُ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ وِجْدَانَ الرِّيحِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ، وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ هُنَا قَائِمَةٌ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مُتَحَقِّقٌ.

‌5 - بَاب التَّخْفِيفِ فِي الْوُضُوءِ

138 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ صَلَّى - وَرُبَّمَا قَالَ: اضْطَجَعَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى -. ثُمَّ حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا - يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ - وَقَامَ يُصَلِّي، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: عَنْ شِمَالِهِ - فَحَوَّلَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِي فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قُلْنَا لِعَمْرٍو: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ

ص: 238

بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، ثُمَّ قَرَأَ:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} . [102 الصافات]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّخْفِيفِ فِي الْوُضُوءِ) أَيْ: جَوَازِ التَّخْفِيفِ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانَ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرُو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ الْمَكِّيُّ لَا الْبَصْرِيُّ، وَكُرَيْبٌ بِالتَّصْغِيرِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالْإِسْنَادُ مَكِّيُّونَ، سِوَى عَلِيٍّ وَقَدْ أَقَامَ بِهَا مُدَّةً. وَفِيهِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ: عَمْرٍو، عَنْ كُرَيْبٍ.

قَوْلُهُ. (وَرُبَّمَا قَالَ اضْطَجَعَ) أَيْ: كَانَ سُفْيَانُ يَقُولُ تَارَةً نَامَ وَتَارَةً اضْطَجَعَ، وَلَيْسَا مُتَرَادِفَيْنِ بَلْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ ; لَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِقَامَةَ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ، بَلْ كَانَ إِذَا رَوَى الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا قَالَ اضْطَجَعَ فَنَامَ كَمَا سَيَأْتِي، وَإِذَا اخْتَصَرَهُ قَالَ نَامَ أَيْ: مُضْطَجِعًا أَوِ اضْطَجَعَ أَيْ نَائِمًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ حَدَّثَنَا) يَعْنِي أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يُحَدِّثُهُمْ بِهِ مُخْتَصَرًا ثُمَّ صَارَ يُحَدِّثُهُمْ بِهِ مُطَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (لَيْلَةً فَقَامَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِابْنِ السَّكَنِ فَنَامَ بِالنُّونِ بَدَلَ الْقَافِ وَصَوَّبَهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ لِأَجْلِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ، انْتَهَى. وَلَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِخَطَئِهَا لِأَنَّ تَوْجِيهَهَا ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا تَفْصِيلِيَّةٌ، فَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَإِنْ كَانَ مَضْمُونُهَا مَضْمُونَ الْأُولَى لَكِنَّ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا بِالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا كَانَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فِي بَعْضِ اللَّيْلِ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ بَدَلَ فِي، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَاهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً وَكَانَ تَامَّةٌ، أَيْ: فَلَمَّا حَصَلَ بَعْضُ اللَّيْلِ.

قَوْلُهُ: (شَنٍّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أِيِ الْقِرْبَةِ الْعَتِيقَةِ.

قَوْلُهُ: (مُعَلَّقٍ) ذُكِّرَ عَلَى إِرَادَةِ الْجِلْدِ أَوِ الْوِعَاءِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ بِلَفْظِ مُعَلَّقَةٍ.

قَوْلُهُ: (يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ) أَيْ: يَصِفُهُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّقْلِيلِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُخَفِّفُهُ أَيْ: لَا يُكْثِرُ الدَّلْكَ، وَيُقَلِّلُهُ أَيْ: لَا يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ مَرَّةٍ. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِيجَابِ الدَّلْكِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُمْكِنُ اخْتِصَارُهُ لَاخْتَصَرَهُ ; لَكِنَّهُ لَمْ يَخْتَصِرْهُ، انْتَهَى. وَهِيَ دَعْوَى مَرْدُودَةٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَقْتَضِي الدَّلْكَ، بَلِ الِاقْتِصَارِ عَلَى سَيَلَانِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ أَخَفُّ مِنْ قَلِيلِ الدَّلْكِ.

قَوْلُهُ: (نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَمْ يَقُلْ مِثْلًا لِأَنَّ حَقِيقَةَ مُمَاثَلَتِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، انْتَهَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمِثْلِيَّةِ الْمُسَاوَاةُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.

قَوْلُهُ: (فَآذَنُهُ) بِالْمَدِّ أَيْ أَعْلَمُهُ، وَلِلْمُسْتَمْلِي فَنَادَاهُ.

قَوْلُهُ: (فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ حَدَثًا بَلْ مَظِنَّةُ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ تَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ فَلَوْ أَحْدَثَ لَعَلِمَ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانَ رُبَّمَا تَوَضَّأَ إِذَا قَامَ مِنَ النَّوْمِ وَرُبَّمَا لَمْ يَتَوَضَّأْ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا مُنِعَ قَلْبُهُ النَّوْمَ لِيَعِيَ الْوَحْيَ الَّذِي يَأْتِيهِ فِي مَنَامِهِ.

قَوْلُهُ: (قُلْنَا) الْقَائِلُ سُفْيَانُ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَلِأَبِيهِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ صُحْبَةٌ. وَقَوْلُهُ: رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَرْفُوعًا، وَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ، عَنْ أَنَسٍ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا تَلَاهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرُّؤْيَا لَوْ لَمْ تَكُنْ وَحْيًا لَمَا جَازَ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام الْإِقْدَامُ عَلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ فَقَالَ: قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهَذَا الْبَابِ. وَهَذَا إِلْزَامٌ مِنْهُ لِلْبُخَارِيِّ بِأَنْ لَا يَذْكُرَ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجَمَةِ فَقَطْ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ أَحَدٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِحَدِيثِ الْبَابِ أَصْلًا فَمَمْنُوعٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْوِتْرِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌6 - بَاب إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ.

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ الْإِنْقَاءُ

139 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ

ص: 239

بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يُسْبِغْ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الْعِشَاءُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا.

[الحديث 139 - أطرافه في: 1672، 1669، 1667، 181]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ) الْإِسْبَاغُ فِي اللُّغَةِ الْإِتْمَامُ، وَمِنْهُ دِرْعٌ سَابِغٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ، إِذِ الْإِتْمَامُ يَسْتَلْزِمُ الْإِنْقَاءَ عَادَةً، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَكَأَنَّهُ بَالَغَ فِيهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا لِأَنَّهُمَا مَحَلُّ الْأَوْسَاخِ غَالِبًا لِاعْتِيَادِهِمُ الْمَشْيَ حُفَاةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) هُوَ الْقَعْنَبِيُّ، وَالْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ: مُوسَى، عَنْ كُرَيْبٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَيِ: ابْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَهُ وَلِأَبِيهِ وَجَدِّهِ صُحْبَةٌ. وَسَتَأْتِي مَنَاقِبُهُ فِي مَكَانِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ) أَيْ: أَفَاضَ.

قَوْلُهُ: (بِالشِّعْبِ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ) أَيْ: خَفَّفَهُ، وَيَأْتِي فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَوْجِيهِ الْحَدِيثِ الْمَاضِي.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ الصَّلَاةَ) هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَوْ عَلَى الْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرِ: أَتُرِيدُ الصَّلَاةَ؟ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ تَأْتِي: فَقُلْتُ: أَتُصَلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، وَالتَّقْدِيرُ: حَانَتِ الصَّلَاةُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الصَّلَاةُ) هُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَأَمَامَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ خَبَرُهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوُضُوءِ لِلدَّوَامِ عَلَى الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ شَيْئًا، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُضُوءِ هُنَا الِاسْتِنْجَاءُ فَبَاطِلٌ ; لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ وَلِقَوْلِهِ هُنَا وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ.

قَوْلُهُ: (نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إِعَادَةِ الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِصَلَاةٍ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَحْدَثَ.

(فَائِدَةٌ): الْمَاءُ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَتَئِذٍ كَانَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي زِيَادَاتِ مُسْنَدِ أَبِيهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ مَنَعَ اسْتِعْمَالَ مَاءِ زَمْزَمَ لِغَيْرِ الشُّرْبِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌7 - بَاب غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ

140 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ بِلَالٍ - يَعْنِي سُلَيْمَانَ -، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ؛ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الْأُخْرَى، فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ

ص: 240

أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً أُخْرَى، فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ - يَعْنِي الْيُسْرَى - ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ) مُرَادُهُ بِهَذَا التَّنْبِيهُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الِاغْتِرَافِ بِالْيَدَيْنِ جَمِيعًا، وَالْإِشَارَةُ إِلَى تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْسِلُ وَجْهَهُ بِيَمِينِهِ. وَجَمَعَ الْحَلِيمِيُّ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هَذَا حَيْثُ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ إِنَاءٍ يَصُبُّ مِنْهُ بِيَسَارِهِ عَلَى يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ حَيْثُ كَانَ يَغْتَرِفُ، لَكِنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلَ الْمَاءَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ أَضَافَهُ إِلَى الْأُخْرَى وَغَسَلَ بِهِمَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) هُوَ أَبُو يَحْيَى الْمَعْرُوفُ بِصَاعِقَةَ. وَكَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادُ، وَشَيْخُهُ مَنْصُورٌ كَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ أَيْضًا، وَقَدْ أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ لَكِنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ. وَفِي الْإِسْنَادِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ: زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ تَوَضَّأَ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي أَوَّلِهِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَتُحِبُّونَ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدٍ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَغَرَفَ غَرْفَةً.

قَوْلُهُ: (فَغَسَلَ وَجْهَهُ) الْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْمُفَصَّلِ.

قَوْلُهُ: (أَخْذَ غَرْفَةً) وَهُوَ بَيَانُ الْغَسْلِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ مِنْ جُمْلَةِ غَسْلِ الْوَجْهِ ; لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ أَوَّلًا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ ; بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَعَادَ ذِكْرَهُ ثَانِيًا بَعْدَ ذِكْرِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ بِغَرْفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَفِيهِ دَلِيلُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَغَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ جَمِيعًا إِذَا كَانَ بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْيَدَ الْوَاحِدَةَ قَدْ لَا تَسْتَوْعِبُهُ.

قَوْلُهُ: (أَضَافَهَا) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا.

قَوْلُهُ: (فَغَسَلَ بِهَا) أَيْ: بِالْغَرْفَةِ. وَلِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ فَغَسَلَ بِهِمَا أَيْ بِالْيَدَيْنِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ) لَمْ يَذْكُرْ لَهَا غَرْفَةً مُسْتَقِلَّةً، فَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِطَهُورِيَّةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ نَفَضَ يَدَهُ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ زَيْدٍ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَجْلَانَ بَاطِنَهُمَا بِالسَّبَّاحَتَيْنِ وَظَاهِرَهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ وَزَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ فِيهِمَا.

قَوْلُهُ: (فَرَشَّ) أَيْ: سَكَبَ الْمَاءَ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى أَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْغَسْلِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى غَسَلَهَا) صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِالرَّشِّ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالْحَاكِمِ فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى وَفِيهَا النَّعْلُ، ثُمَّ مَسَحَهَا بِيَدَيْهِ يَدٌ فَوْقَ الْقَدَمِ وَيَدٌ تَحْتَ النَّعْلِ فَالْمُرَادُ بِالْمَسْحِ تَسْيِيلُ الْمَاءِ حَتَّى يَسْتَوْعِبُ الْعُضْوَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَضَّأُ فِي النَّعْلِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَحْتَ النَّعْلِ: فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّجَوُّزِ عَنِ الْقَدَمِ وَإِلَّا فَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ وَرَاوِيهَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ لَا يُحْتَجُّ بِمَا تَفَرَّدَ بِهِ فَكَيْفَ إِذَا خَالَفَ.

قَوْلُهُ: (فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ يَعْنِي الْيُسْرَى) قَائِلُ: يَعْنِي هُوَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَوْ مَنْ دُونَهُ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَهُورٌ ; لِأَنَّ الْعُضْوَ إِذَا غُسِلَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَبْقَى فِي الْيَدِ مِنْهَا يُلَاقِي مَاءَ الْعُضْوِ الَّذِي يَلِيهِ. وَأَيْضًا فَالْغَرْفَةُ تُلَاقِي أَوَّلَ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ كُلِّ عُضْوٍ فَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَاءَ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِالْيَدِ مَثَلًا لَا يُسَمَّى مُسْتَعْمَلًا حَتَّى يَنْفَصِلَ، وَفِي الْجَوَابِ بَحْثٌ.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رَوَاهُ بِلَفْظِ فَعَلَّ بِهَا رِجْلَهُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ قَالَ: فَلَعَلَّهُ جَعَلَ الرِّجْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ فَعَدَّ الْغَسْلَةَ الثَّانِيَةَ تَكْرِيرًا لِأَنَّ الْعَلَّ هُوَ الشُّرْبُ الثَّانِي. انْتَهَى، وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا تَصْحِيفٌ.

ص: 241

‌8 - بَاب التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الْوِقَاعِ

141 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَبْلُغُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ.

[الحديث 141 - في: 7396، 6388، 5165، 3283، 3271]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الْوِقَاعِ) أَيِ الْجِمَاعِ، وَعَطْفُهُ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلَيْسَ الْعُمُومُ ظَاهِرًا مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ، لَكِنْ يُسْتَفَادُ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي حَالَةِ الْجِمَاعِ - وَهِيَ مِمَّا أُمِرَ فِيهِ بِالصَّمْتِ - فَغَيْرُهُ أَوْلَى. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَضْعِيفِ مَا وَرَدَ مِنْ كَرَاهَةِ ذِكْرِ اللَّهِ فِي حَالَيْنِ: الْخَلَاءِ، وَالْوِقَاعِ، لَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يُنَافِي حَدِيثَ الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى حَالِ إِرَادَةِ الْجِمَاعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى. وَيُقَيِّدُ مَا أَطْلَقَهُ الْمُصَنِّفُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَكَانَ إِذَا غَشِيَ أَهْلَهُ فَأَنْزَلَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ فِيمَا رَزَقْتَنِي نَصِيبًا.

قَوْلُهُ: (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ: (فَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ، وَلِلْبَاقِينَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَصْوَبُ، وَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، وَسَيَأْتِي مَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَفَادَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ رَأَى فِي نُسْخَةٍ قُرِئَتْ عَلَى الْفَرَبْرِيِّ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْمُصَنِّفَ: مَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ يَقُولُهَا بِالْفَارِسِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

‌9 - بَاب مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلَاءِ

142 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ.

تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ غُنْدَرٌ: عَنْ شُعْبَةَ: إِذَا أَتَى الْخَلَاءَ. وَقَالَ مُوسَى، عَنْ حَمَّادٍ: إِذَا دَخَلَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ.

[الحديث 142 - طرفه في: 6322]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلَاءِ) أَيْ: عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّخُولِ فِي الْخَلَاءِ إِنْ كَانَ مُعَدًّا لِذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا تَقْدِيرَ.

(تَنْبِيهٌ): أَشْكَلَ إِدْخَالُ هَذَا الْبَابِ وَالْأَبْوَابِ الَّتِي بَعْدَهُ إِلَى بَابِ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً ; لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي أَبْوَابِ الْوُضُوءِ فَذَكَرَ مِنْهَا فَرْضَهُ وَشَرْطَهُ وَفَضِيلَتَهُ وَجَوَازَ تَخْفِيفِهِ وَاسْتِحْبَابَ إِسْبَاغِهِ، ثُمَّ غَسْلَ الْوَجْهِ، ثُمَّ التَّسْمِيَةَ، وَلَا أَثَرَ لِتَأْخِيرِهَا عَنْ غَسْلِ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهَا مُقَارَنَةُ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، فَتَقْدِيمُهَا فِي الذِّكْرِ عَنْهُ وَتَأْخِيرُهَا سَوَاءٌ، لَكِنْ ذَكَرَ بَعْدَهَا الْقَوْلَ عِنْدَ الْخَلَاءِ، وَاسْتَمَرَّ فِي ذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِنْجَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ فَذَكَرَ الْوُضُوءَ مَرَّةً مَرَّةً، وَقَدْ خَفِيَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ عَلَى الْكِرْمَانِيِّ فَاسْتَرْوَحَ قَائِلًا: مَا وَجْهُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مَعَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ إِنَّمَا هِيَ قَبْلَ غَسْلِ الْوَجْهِ لَا بَعْدَهُ، ثُمَّ تَوْسِيطِ أَبْوَابِ الْخَلَاءِ بَيْنَ أَبْوَابِ الْوُضُوءِ؟ وَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: قُلْتُ: الْبُخَارِيُّ لَا يُرَاعِي حُسْنَ التَّرْتِيبِ، وَجُمْلَةُ قَصْدِهِ إِنَّمَا هُوَ

ص: 242

فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِصَحِيحِهِ لَا غَيْرُ، انْتَهَى.

وَقَدْ أَبْطَلَ هَذَا الْجَوَابَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ فَقَالَ لَمَّا نَاقَشَ الْبُخَارِيَّ فِي أَشْيَاءَ ذَكَرَهَا مِنْ تَفْسِيرِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِمَا مَعْنَاهُ: لَوْ تَرَكَ الْبُخَارِيُّ هَذَا لَكَانَ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ كِتَابِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ تَوْجِيُهُ مَا يَقُولُهُ الْبُخَارِيُّ، مَعَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ فِي جَمِيعِ مَا يُورِدُهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْغَرِيبِ إِنَّمَا يَنْقُلُهُ عَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْفَنِّ كَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَالنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمَّا الْمَبَاحِثُ الْفِقْهِيَّةُ فَغَالِبُهَا مُسْتَمَدَّةٌ لَهُ مِنَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَمْثَالِهِمَا، وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْكَلَامِيَّةُ فَأَكْثَرُهَا مِنَ الْكَرَابِيسِيِّ، وَابْنِ كِلَابٍ وَنَحْوِهِمَا.

وَالْعَجَبُ مِنْ دَعْوَى الْكِرْمَانِيِّ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ تَحْسِينَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْأَبْوَابِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ عَلَى الْأَبْوَابِ مَنِ اعْتَنَى بِذَلِكَ غَيْرَهُ، حَتَّى قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ: فِقْهُ الْبُخَارِيِّ فِي تَرَاجِمِهِ.

وَقَدْ أَبْدَيْتُ فِي هَذَا الشَّرْحِ مِنْ مَحَاسِنِهِ وَتَدْقِيقِهِ فِي ذَلِكَ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ، وَقَدْ أَمْعَنْتُ النَّظَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَوَجَدْتُهُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ يَظُنُّ النَّاظِرُ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَنِ بِتَرْتِيبِهِ كَمَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ ; لَكِنَّهُ اعْتَنَى بِتَرْتِيبِ كِتَابِ الصَّلَاةِ اعْتِنَاءً تَامًّا كَمَا سَأَذْكُرُهُ هُنَاكَ، وَقَدْ يُتَلَمَّحُ أَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا فَرْضَ الْوُضُوءِ كَمَا ذَكَرْتُ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، ثَمَّ فَضْلَهُ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا مَعَ التَّيَقُّنِ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ عَلَى إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى الْعُضْوِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْإِسْبَاغِ فَضْلٌ، وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ فِي غَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَعَ أَوَّلِهِ مَشْرُوعَةٌ كَمَا يُشْرَعُ الذِّكْرُ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ، فَاسْتَطْرَدَ مِنْ هُنَا لِآدَابِ الِاسْتِنْجَاءِ وَشَرَائِطِهِ، ثُمَّ رَجَعَ لِبَيَانِ أَنَّ وَاجِبَ الْوُضُوءِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ وَأَنَّ الثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثِ سُنَّةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ سُنَّةَ الِاسْتِنْثَارِ إِشَارَةً إِلَى الِابْتِدَاءِ بِتَنْظِيفِ الْبَوَاطِنِ قَبْلَ الظَّوَاهِرِ، وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِجْمَارِ وِتْرًا فِي حَدِيثِ الِاسْتِنْثَارِ فَتَرْجَمَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ التَّنَظُّفِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حُكْمِ التَّخْفِيفِ فَتَرْجَمَ بِغَسْلِ الْقَدَمَيْنِ لَا بِمَسْحِ الْخُفَّيْنِ؛ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ التَّخْفِيفَ لَا يَكْفِي فِيهِ الْمَسْحُ دُونَ مُسَمَّى الْغَسْلِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَضْمَضَةِ لِأَنَّهَا أُخْتُ الِاسْتِنْشَاقِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ بِغَسْلِ الْعَقِبَيْنِ؛ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِ فِي مُسَمَّى الْقَدَمِ، وَذَكَرَ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ فِي النَّعْلَيْنِ؛ رَدًّا عَلَى مَنْ قَصَّرَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَاقْتَصَرَ عَلَى

النَّعْلَيْنِ عَلَى مَا سَأُبَيِّنُهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ فَضْلَ الِابْتِدَاءِ بِالْيَمِينِ، وَمَتَى يَجِبُ طَلَبُ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الْمَاءِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ وَمَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ. ثُمَّ ذَكَرَ الِاسْتِعَانَةَ فِي الْوُضُوءِ، ثُمَّ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ اسْتَطْرَدَ مِنْهُ إِلَى مَا لَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ لِمَنْ يُمْعِنُ التَّأَمُّلَ، إِلَى أَنْ أَكْمَلَ كِتَابَ الْوُضُوءِ عَلَى ذَلِكَ. وَسَلَكَ فِي تَرْتِيبِ الصَّلَاةِ أَسْهَلَ مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ، فَأَوْرَدَ أَبْوَابَهَا ظَاهِرَةَ التَّنَاسُبِ فِي التَّرْتِيبِ، فَكَأَنَّهُ تَفَنَّنَ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (الْخُبُثِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ كَذَا فِي الرِّوَايَةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ إِسْكَانُ الْمُوَحَّدَةِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِمَّا جَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَكُتُبٍ وَكُتْبٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ الْبَاءَ هُنَا سَاكِنَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ تَرْكَ التَّخْفِيفِ أَوْلَى لِئَلَّا يَشْتَبِهَ بِالْمَصْدَرِ، وَالْخُبْثُ جَمْعُ خَبِيثٍ، وَالْخَبَائِثُ جَمْعُ خَبِيثَةٍ، يُرِيدُ ذُكْرَانَ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثَهُمْ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - وَيُقَالُ الْخُبْثُ أَيْ بِإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُخَفَّفَةً عَنِ الْمُحَرَّكَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُفْرَدِ فَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَكْرُوهُ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ مِنَ الْكَلَامِ فَهُوَ الشَّتْمُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمِلَلِ فَهُوَ الْكُفْرُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الطَّعَامِ فَهُوَ الْحَرَامُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الشَّرَابِ فَهُوَ الضَّارُّ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْخَبَائِثِ الْمَعَاصِي أَوْ مُطْلَقُ الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ لِيَحْصُلَ التَّنَاسُبُ ; وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبِيثِ، أَوِ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ؛ هَكَذَا عَلَى الشَّكِّ، الْأَوَّلُ بِالْإِسْكَانِ مَعَ

ص: 243

الْإِفْرَادِ، وَالثَّانِي بِالتَّحْرِيكِ مَعَ الْجَمْعِ، أَيْ: مِنَ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ وَمِنَ الشَّيْءِ الْمَذْمُومِ، أَوْ مِنْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ. وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِيذُ إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ، وَيَجْهَرُ بِهَا لِلتَّعْلِيمِ.

وَقَدْ رَوَى الْعُمَرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ بِلَفْظِ الْأَمْرِ قَالَ: إِذَا دَخَلْتُمُ الْخَلَاءَ فَقُولُوا: بِاسْمِ اللَّهِ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ. وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ زِيَادَةُ التَّسْمِيَةِ وَلَمْ أَرَهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ) اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الدَّعَوَاتِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ غُنْدَرٌ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارِ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ بِلَفْظِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ غُنْدَرٍ بِلَفْظِ إِذَا دَخَلَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ حَمَّادٍ) هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ يَعْنِي عن عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ صُهَيْبٍ، وَطَرِيقُ مُوسَى هَذِهِ وَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ) هُوَ أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَرِوَايَتُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ قَالَ. . فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَبْيِينَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ أَيْ: كَانَ يَقُولُ هَذَا الذِّكْرَ عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّخُولِ لَا بَعْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَهَذَا فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُعَدَّةِ لِذَلِكَ بِقَرِينَةِ الدُّخُولِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: رِوَايَةُ إِذَا أَتَى أَعَمُّ لِشُمُولِهَا، انْتَهَى. وَالْكَلَامُ هُنَا فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هَلْ يَخْتَصُّ هَذَا الذِّكْرُ بِالْأَمْكِنَةِ الْمُعَدَّةِ لِذَلِكَ لِكَوْنِهَا تَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي السُّنَنِ، أَوْ يَشْمَلُ حَتَّى لَوْ بَالَ فِي إِنَاءٍ مَثَلًا فِي جَانِبِ الْبَيْتِ؟ الْأَصَحُّ الثَّانِي مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: مَتَى يَقُولُ ذَلِكَ؟ فَمَنْ يَكْرَهُ ذِكْرَ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يُفَصِّلُ: أَمَّا فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُعَدَّةِ لِذَلِكَ فَيَقُولُهُ قُبَيْلَ دُخُولِهَا، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَيَقُولُهُ فِي أَوَّلِ الشُّرُوعِ كَتَشْمِيرِ ثِيَابِهِ مَثَلًا وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَقَالُوا فِيمَنْ نَسِيَ: يَسْتَعِيذُ بِقَلْبِهِ لَا بِلِسَانِهِ. وَمَنْ يُجِيزُ مُطْلَقًا كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ.

(تَنْبِيهٌ): سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ الَّذِي أَتَى بِالرِّوَايَةِ الْمُبَيِّنَةِ صَدُوقٌ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي حِفْظِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُعَلَّقِ، لَكِنْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَقَدْ رَوَاهُ مُسَدَّدٌ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.

‌10 - بَاب وَضْعِ الْمَاءِ عِنْدَ الْخَلَاءِ

143 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْخَلَاءَ، فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا، قَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ وَضْعِ الْمَاءِ عِنْدَ الْخَلَاءِ) هُوَ بِالْمَدِّ، وَحَقِيقَتُهُ الْمَكَانُ الْخَالِي، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ مَجَازًا.

قَوْلُهُ: (وَرْقَاءُ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ أَبِي يَزِيدَ) مَكِّيٌّ ثِقَةٌ لَا يُعْرَفُ اسْمُ أَبِيهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ وَهُوَ غَلَطٌ.

قَوْلُهُ: (فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا) بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: مَاءً لِيَتَوَضَّأَ بِهِ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَاوَلَهُ إِيَّاهُ لِيَسْتَنْجِيَ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

قَوْلُهُ: (فَأُخْبِرَ) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ الْمُخْبِرَةُ بِذَلِكَ، قَالَ التَّيْمِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمُكَافَأَةِ بِالدُّعَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ الدُّعَاءِ لِابْنِ عَبَّاسٍ بِالتَّفَقُّهِ عَلَى وَضْعِهِ الْمَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهِ بِالْمَاءِ إِلَى الْخَلَاءِ، أَوْ يَضَعَهُ عَلَى

ص: 244

الْبَابِ لِيَتَنَاوَلَهُ مِنْ قُرْبٍ، أَوْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَرَأَى الثَّانِيَ أَوْفَقَ ; لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَعَرُّضًا لِلِاطِّلَاعِ، وَالثَّالِثُ يَسْتَدْعِي مَشَقَّةً فِي طَلَبِ الْمَاءِ، وَالثَّانِي أَسْهَلُهَا، فَفِعْلُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَكَائِهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ لِيَحْصُلَ بِهِ النَّفْعُ، وَكَذَا كَانَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَاقِي مَبَاحِثِهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

‌11 - بَاب لَا تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ إِلَّا عِنْدَ الْبِنَاءِ جِدَارٍ أَوْ نَحْوِهِ

144 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا.

[الحديث 144 - طرفه في: 394]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ) فِي رِوَايَتِنَا بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَبِرَفْعِ الْقِبْلَةِ، وَفِي غَيْرِهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْقِبْلَةِ، وَلَامُ تُسْتَقْبَلُ مَضْمُومَةٌ عَلَى أَنَّ لَا نَافِيَةٌ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا عَلَى أَنَّهَا نَاهِيَةٌ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا عِنْدَ الْبِنَاءِ جِدَارٌ أَوْ نَحْوُهُ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْ غَيْرِهِ أَيْ: كَالْأَحْجَارِ الْكِبَارِ وَالسَّوَارِي وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهَا مِنَ السَّوَاتِرِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ دَلَالَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ، وَأُجِيبَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِحَقِيقَةِ الْغَائِطِ لِأَنَّهُ الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ فِي الْفَضَاءِ، وَهَذِهِ حَقِيقَتُهُ اللُّغَوِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَكَانٍ أُعِدَّ لِذَلِكَ مَجَازًا فَيَخْتَصُّ النَّهْيُ بِهِ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَهَذَا الْجَوَابُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ وَهُوَ أَقْوَاهَا. ثَانِيهَا: أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْفَضَاءِ، وَأَمَّا الْجِدَارُ وَالْأَبْنِيَةُ فَإِنَّهَا إِذَا اسْتُقْبِلَتْ أُضِيفَ إِلَيْهَا الِاسْتِقْبَالُ عُرْفًا قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَيَتَقَوَّى بِأَنَّ الْأَمْكِنَةَ الْمُعَدَّةَ لَيْسَتْ صَالِحَةً لِأَنْ يُصَلَّى فِيهَا فَلَا يَكُونُ فِيهَا قِبْلَةٌ بِحَالٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاةٌ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ مَكَانٌ لَا يَصْلُحُ لِلصَّلَاةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.

ثَالِثُهَا: الِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَفَادٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ ; لِأَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلَّهُ كَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَارْتَضَاهُ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ، لَكِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَبْقَى لِتَفْصِيلِ التَّرَاجِمِ مَعْنًى، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ حَمَلْتُمُ الْغَائِطَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَمْ تَحْمِلُوهُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِيَتَنَاوَلَ الْفَضَاءَ وَالْبُنْيَانَ؟ لَا سِيَّمَا وَالصَّحَابِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ قَالَ - كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ - فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَعْمَلَ لَفْظَ الْغَائِطِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ التَّخْصِيصِ، وَلَوْلَا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ دَلَّ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالْأَبْنِيَةِ لَقُلْنَا بِالتَّعْمِيمِ ; لَكِنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنَ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَقَدْ جَاءَ عَنْ جَابِرٍ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ تَأْيِيدُ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ أَوْ نَسْتَقْبِلَهَا بِفُرُوجِنَا إِذَا هَرَقْنَا الْمَاءَ.

قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ يَبُولُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَاسِخٍ لِحَدِيثِ النَّهْيِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ، بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ فِي بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ حَالِهِ صلى الله عليه وسلم لِمُبَالَغَتِهِ فِي التَّسَتُّرِ، وَرُؤْيَةُ ابْنِ عُمَرَ لَهُ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا سَيَأْتِي فَكَذَا رِوَايَةُ جَابِرٍ.

وَدَعْوَى خُصُوصِيَّةِ ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا؛ إِذِ الْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَدَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي عَلَى جَوَازِ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ فِي الْأَبْنِيَةِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ عَلَى جَوَازِ اسْتِقْبَالِهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ

ص: 245

حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ لَا يُخَصُّ مِنْ عُمُومِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إِلَّا جَوَازُ الِاسْتِدْبَارِ فَقَطْ، وَلَا يُقَالُ: يُلْحَقُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ قِيَاسًا ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلْحَاقُهُ بِهِ لِكَوْنِهِ فَوْقَهُ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ قَوْمٌ فَقَالُوا بِجَوَازِ الِاسْتِدْبَارِ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ، حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَبِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبُنْيَانِ وَالصَّحْرَاءِ مُطْلَقًا، قَالَ الْجُمْهُورُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ لِإِعْمَالِهِ جَمِيعَ الْأَدِلَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ: مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْمُنِيرِ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ فِي الْبُنْيَانِ مُضَافٌ إِلَى الْجِدَارِ عُرْفًا، وَبِأَنَّ الْأَمْكِنَةَ الْمُعَدَّةَ لِذَلِكَ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ فَلَيْسَتْ صَالِحَةً لِكَوْنِهَا قِبْلَةً، بِخِلَافِ الصَّحْرَاءِ فِيهِمَا.

وَقَالَ قَوْمٌ بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَقَالَ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، وَرَجَّحَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَمِنَ الظَّاهِرِيَّةِ ابْنُ حَزْمٍ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ النَّهْيَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَلَمْ يُصَحِّحْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَقَالَ قَوْمٌ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَعُرْوَةَ، وَرَبِيعَةَ، وَدَاوُدَ، وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ تَعَارَضَتْ فَلْيُرْجَعْ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. فَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ مَشْهُورَةٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَحْكِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ غَيْرَهَا.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أُخْرَى: مِنْهَا جَوَازُ الِاسْتِدْبَارِ فِي الْبُنَيَّانِ فَقَطْ؛ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَمِنْهَا التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا حَتَّى فِي الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنِ سِيرِينَ؛ عَمَلًا بِحَدِيثِ مَعْقِلٍ الْأَسَدِيِّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَتَيْنِ بِبَوْلٍ أَوْ بِغَائِطٍ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ رَاوِيًا مَجْهُولَ الْحَالِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ عَلَى سَمْتِهَا ; لِأَنَّ اسْتِقْبَالَهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ يَسْتَلْزِمُ اسْتِدْبَارَهُمُ الْكَعْبَةَ فَالْعِلَّةُ اسْتِدْبَارُ الْكَعْبَةِ لَا اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَدِ ادَّعَى الْخَطَّابِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِمَنْ لَا يَسْتَدْبِرُ فِي اسْتِقْبَالِهِ الْكَعْبَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ. وَمِنْهَا أَنَّ التَّحْرِيمَ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ كَانَ عَلَى سَمْتِهَا، فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ قِبْلَتُهُ فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ فَيَجُوزُ لَهُ الِاسْتِقْبَالُ وَالِاسْتِدْبَارُ مُطْلَقًا؛ لِعُمُومِ قَوْلُهُ: شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا قَالَهُ أَبُو عَوَانَةَ صَاحِبُ الْمُزَنِيِّ، وَعَكَسَهُ الْبُخَارِيُّ فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلَا فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَسْتَقْبِلِ) بِكَسْرِ اللَّامِ لِأَنَّ لَا نَاهِيَةٌ وَاللَّامُ فِي الْقِبْلَةِ لِلْعَهْدِ أَيْ لِلْكَعْبَةِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ) وَلِمُسْلِمٍ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا وَزَادَ بِبَوْلٍ أَوْ بِغَائِطٍ وَالْغَائِطُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، أُطْلِقَ عَلَى الْخَارِجِ مِنَ الدُّبُرِ مَجَازًا مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ كَرَاهِيَةً لِذِكْرِهِ بِصَرِيحِ اسْمِهِ، وَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ جِنَاسٌ تَامٌّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ بِبَوْلٍ اخْتِصَاصُ النَّهْيِ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَيَكُونُ مَثَارُهُ إِكْرَامَ الْقِبْلَةِ عَنِ الْمُوَاجَهَةِ بِالنَّجَاسَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ إِذَا هَرَقْنَا الْمَاءَ. وَقِيلَ مَثَارُ النَّهْيِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ، وَعَلَى هَذَا فَيَطَّرِدُ فِي كُلِّ حَالَةٍ تُكْشَفُ فِيهَا الْعَوْرَةُ كَالْوَطْءِ مَثَلًا، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ شَاسٍ الْمَالِكِيُّ قَوْلًا فِي مَذْهَبِهِمْ وَكَأَنَّ قَائِلَهُ تَمَسَّكَ بِرِوَايَةٍ فِي الْمُوَطَّأِ: لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِفُرُوجِكُمْ، وَلَكِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَيْ: حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ حَيْثُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌12 - بَاب مَنْ تَبَرَّزَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ

145 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ

ص: 246

عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلَا تَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَقَدْ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ، وَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ، فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ. قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي الَّذِي يُصَلِّي وَلَا يَرْتَفِعُ عَنْ الْأَرْضِ، يَسْجُدُ وَهُوَ لَاصِقٌ بِالْأَرْضِ.

[الحديث 145 - أطرافه في 3102، 149، 148]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَبَرَّزَ) بِوَزْنِ تَفَعَّلَ مِنَ الْبَرَازِ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ الْفَضَاءُ الْوَاسِعُ، كَنَّوْا بِهِ عَنِ الْخَارِجِ مِنَ الدُّبُرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْغَائِطِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى لَبِنَتَيْنِ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ النُّونِ تَثْنِيَةُ لَبِنَةٍ وَهِيَ مَا يُصْنَعُ مِنَ الطِّينِ أَوْ غَيْرِهِ لِلْبِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحْرَقَ.

قَوْلُهُ: (يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ التَّابِعِيُّ، وَكَذَا شَيْخُهُ وَشَيْخُ شَيْخِهِ فِي الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنْ قِيلَ: إِنَّ لِوَاسِعٍ رُؤْيَةً فَذُكِرَ لِذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، وَأَبُوهُ حِبَّانُ هُوَ ابْنُ مُنْقِذِ بْنِ عُمَرَ لَهُ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ، وَسَيَأْتِي لَفْظُهُ قَرِيبًا، فَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى وَاسِعٍ فَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ جَوَابًا لِوَاسِعٍ، بَلِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَالَ سَبَبِيَّةٌ ; لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَوْرَدَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ مُنْكِرًا لَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ إِنْكَارِهِ بِمَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ. . . إِلَخْ، وَلَكِنَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ - وَهُوَ وَاسِعٌ - أَرَادَ التَّأْكِيدَ بِإِعَادَةِ قَوْلِهِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ نَاسًا) يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَنْ كَانَ يَقُولُ بِعُمُومِ النَّهْيِ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَعْقِلٍ الْأَسَدِيِّ وَغَيْرِهِمْ.

قَوْلُهُ: (إِذَا قَعَدْتَ) ذَكَرَ الْقُعُودَ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ وَإِلَّا فَحَالُ الْقِيَامِ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى حَاجَتِكَ) كَنَّى بِهَذَا عَنِ التَّبَرُّزِ وَنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ) اللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ.

قَوْلُهُ: (عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا) وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ الْآتِيَةِ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِنَا وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْآتِيَةِ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِ حَفْصَةَ أَيْ: أُخْتِهِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَصَعِدْتُ ظَهْرَ الْبَيْتِ. وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنْ يُقَالَ: إِضَافَتُهُ الْبَيْتَ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِكَوْنِهَا أُخْتَهُ فَلَهُ مِنْهُ سَبَبٌ، وَحَيْثُ أَضَافَهُ إِلَى حَفْصَةَ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْبَيْتُ الَّذِي أَسْكَنَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ وَاسْتَمَرَّ فِي يَدِهَا إِلَى أَنْ مَاتَتْ فَوَرِثَ عَنْهَا، وَسَيَأْتِي انْتِزَاعُ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْخُمُسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَيْثُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ الْحَالُ؛ لِأَنَّهُ وَرِثَ حَفْصَةَ دُونَ إِخْوَتِهِ لِكَوْنِهَا كَانَتْ شَقِيقَتَهُ وَلَمْ تَتْرُكْ مَنْ يَحْجُبُهُ عَنْ الِاسْتِيعَابِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى لَبِنَتَيْنِ) وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ فَأَشْرَفْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى خَلَائِهِ وَفِي رِوَايَةِ لَهُ: فَرَأَيْتُهُ يَقْضِي حَاجَتَهُ مَحْجُوبًا عَلَيْهِ بِلَبِنٍ وَلِلْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ فَرَأَيْتُهُ فِي كَنِيفٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ فَاءٌ.

وَانْتَفَى بِهَذَا إِيرَادُ مَنْ قَالَ مِمَّنْ يَرَى الْجَوَازَ مُطْلَقًا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ فِي الْفَضَاءِ، وَكَوْنُهُ رَآهُ عَلَى لَبِنَتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْبِنَاءِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ جَلَسَ عَلَيْهِمَا لِيَرْتَفِعَ بِهِمَا عَنِ الْأَرْضِ، وَيَرُدُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ عُمَرِ كَانَ يَرَى الْمَنْعَ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْفَضَاءِ إِلَّا بِسَاتِرٍ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَمْ يَقْصِدِ ابْنُ عُمَرَ الْإِشْرَافَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَإِنَّمَا صَعِدَ السَّطْحَ لِضَرُورَةٍ لَهُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ، كَمَا فِي رِوَايَةِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

نَعَمْ لَمَّا اتَّفَقَتْ لَهُ رُؤْيَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَحَبَّ أَنْ لَا يُخْلِيَ ذَلِكَ مِنْ فَائِدَةٍ، فَحَفِظَ هَذَا الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا

ص: 247

رَآهُ مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهِ حَتَّى سَاغَ لَهُ تَأَمُّلُ الْكَيْفِيَّةَ الْمَذْكُورَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْذُورٍ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى شِدَّةِ حِرْصِ الصَّحَابِيِّ عَلَى تَتَبُّعِ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَتَّبِعَهَا، وَكَذَا كَانَ رضي الله عنه.

قَوْلُهُ: (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (لَعَلَّكَ)، الْخِطَابُ لِوَاسِعٍ، وَغَلِطَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ. وَقَدْ فَسَّرَ مَالِكٌ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ أَيْ: مَنْ يُلْصِقُ بَطْنَهُ بِوَرِكَيْهِ إِذَا سَجَدَ، وَهُوَ خِلَافُ هَيْئَةِ السُّجُودِ الْمَشْرُوعَةِ وَهِيَ التَّجَافِي وَالتَّجَنُّحُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ يُفَرِّجُ رُكْبَتَيْهِ فَيَصِيرُ مُعْتَمِدًا عَلَى وَرِكَيْهِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَتْ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ ابْنِ عُمَرَ لِهَذَا مَعَ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ فَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِيَ خَاطَبَهُ لَا يَعْرِفُ السُّنَّةَ ; إِذْ لَوْ كَانَ عَارِفًا بِهَا لَعَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَضَاءِ وَغَيْرِهِ، أَوِ الْفَرْقَ بَيْنَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِنَّمَا كَنَّى عَمَّنْ لَا يَعْرِفُ السُّنَّةَ بِالَّذِي يُصَلِّي عَلَى وَرِكَيْهِ لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا جَاهِلًا بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ لِلْكَرْمَانِيِّ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ أَنَّ وَاسِعًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى حَتَّى يَنْسِبَهُ إِلَى عَدَمِ مَعْرِفَتِهَا.

ثُمَّ الْحَصْرُ الْأَخِيرُ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَسْجُدُ عَلَى وَرِكَيْهِ مَنْ يَكُونُ عَارِفًا بِسُنَنِ الْخَلَاءِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ مُسْلِمٍ، فَفِي أَوَّلِهِ عِنْدَهُ عَنْ وَاسِعٍ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ، فَلَمَّا قَضَيْتُ صَلَاتِي انْصَرَفْتُ إِلَيْهِ مِنْ شِقِّي، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَقُولُ النَّاسُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى مِنْهُ فِي حَالِ سُجُودِهِ شَيْئًا لَمْ يَتَحَقَّقْهُ، فَسَأَلَهُ عَنْهُ بِالْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَأَنَّهُ بَدَأَ بِالْقِصَّةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا مِنْ رِوَايَتِهِ الْمَرْفُوعَةِ الْمُحَقَّقَةِ عِنْدَهُ فَقَدَّمَهَا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَظْنُونِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِقَوْلِ مَنْ نَقَلَ عَنْهُمْ مَا نَقَلَ، فَأَحَبَّ أَنْ يُعَرِّفَ الْحُكْمَ لِهَذَا التَّابِعِيِّ لِيَنْقُلَهُ عَنْهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ إِبْدَاءُ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِخُصُوصِهِمَا وَأَنَّ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى تَعَلُّقًا بِأَنْ يُقَالُ: لَعَلَّ الَّذِي كَانَ يَسْجُدُ وَهُوَ لَاصِقٌ بَطْنَهُ بِوَرِكَيْهِ كَانَ يَظُنُّ امْتِنَاعَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِفَرْجِهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى مَثَارِ النَّهْيِ.

وَأَحْوَالُ الصَّلَاةِ أَرْبَعَةٌ: قِيَامٌ وَرُكُوعٌ وَسُجُودٌ وَقُعُودٌ، وَانْضِمَامُ الْفَرْجِ فِيهَا بَيْنَ الْوَرِكَيْنِ مُمْكِنٌ إِلَّا إِذَا جَافَى فِي السُّجُودِ فَرَأَى أَنَّ فِي الْإِلْصَاقِ ضَمًّا لِلْفَرْجِ فَفَعَلَهُ ابْتِدَاعًا وَتَنَطُّعًا، وَالسُّنَّةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَالتَّسَتُّرُ بِالثِّيَابِ كَافٍ فِي ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْجِدَارَ كَافٍ فِي كَوْنِهِ حَائِلًا بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَالْقِبْلَةِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَثَارَ النَّهْيِ الِاسْتِقْبَالُ بِالْعَوْرَةِ، فَلَمَّا حَدَّثَ ابْنُ عُمَرَ التَّابِعِيَّ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ أَشَارَ لَهُ إِلَى الْحُكْمِ الثَّانِي؛ مُنَبِّهًا لَهُ عَلَى مَا ظَنَّهُ مِنْهُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي رَآهُ صَلَّاهَا. وَأَمَّا قَوْلُ وَاسِعٍ لَا أَدْرِي فَدَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا شُعُورَ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا ظَنَّهُ بِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُغْلِظِ ابْنُ عُمَرَ لَهُ فِي الزَّجْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌13 - بَاب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْبَرَازِ

146 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ - وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ - فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي عِشَاءً، وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ: أَلَا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ.

[الحديث 146 - أطرافه في 6240، 5237، 4795، 147]

ص: 248

قَوْلُهُ: (بَابُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْبَرَازِ) أَيِ الْفَضَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ رَاءٍ وَبَعْدَ الْأَلِفِ زَايٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَكْثَرُ الرُّوَاةِ يَقُولُونَهُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْبِرَازَ بِالْكَسْرِ هُوَ الْمُبَارَزَةُ فِي الْحَرْبِ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ مُوَجَّهٌ لِأَنْ يُطْلَقُ بِالْكَسْرِ عَلَى نَفْسِ الْخَارِجِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْبِرَازُ الْمُبَارَزَةُ فِي الْحَرْبِ، وَالْبِرَازُ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ تُفْلِ الْغِذَاءِ وَهُوَ الْغَائِطٌ، وَالْبَرَازُ بِالْفَتْحِ الْفَضَاءُ الْوَاسِعُ. انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا مَنْ فَتَحَ أَرَادَ الْفَضَاءَ، فَإِنْ أَطْلَقَهُ عَلَى الْخَارِجِ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْغَائِطِ، وَمَنْ كَسَرَ أَرَادَ نَفْسَ الْخَارِجِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) تَقَدَّمَ هَذَا الْإِسْنَادُ بِرُمَّتِهِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَفِيهِ تَابِعِيَّانِ عُرْوَةُ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَقَرِينَانِ اللَّيْثُ، وَعَقِيلٌ.

قَوْلُهُ: (الْمَنَاصِعُ) بِالنُّونِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ جَمْعُ مَنْصَعٍ بِوَزْنِ مَقْعَدٍ وَهِيَ أَمَاكِنُ مَعْرُوفَةٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَقِيعِ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْصَعُ فِيهَا أَيْ: يَخْلُصُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّفْسِيرَ مَقُولُ عَائِشَةَ. وَالْأَفْيَحُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُتَّسِعُ.

قَوْلُهُ: (احْجُبْ) أَيْ امْنَعْهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ; بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ قَالَ لِسَوْدَةَ مَا قَالَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَوَّلًا الْأَمْرَ بِسَتْرِ وُجُوهِهِنَّ، فَلَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ بِوَفْقِ مَا أَرَادَ أَحَبَّ أَيْضًا أَنْ يَحْجُبَ أَشْخَاصَهُنَّ مُبَالَغَةً فِي التَّسَتُّرِ فَلَمْ يُجَبْ؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَيْنِ.

وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَعُدُّ نُزُولَ آيَةِ الْحِجَابِ مِنْ مُوَافَقَاتِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ كَانَ لَهُنَّ فِي التَّسَتُّرِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ حَالَاتٌ: أَوَّلُهَا بِالظُّلْمَةِ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، انْتَهَى. ثُمَّ نَزَلَ الْحِجَابُ فَتَسَتَّرْنَ بِالثِّيَابِ، لَكِنْ كَانَتْ أَشْخَاصُهُنَّ رُبَّمَا تَتَمَيَّزُ ; وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ لِسَوْدَةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ نُزُولِ الْحِجَابِ: أَمَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، ثُمَّ اتُّخِذَتِ الْكُنُفُ فِي الْبُيُوتِ فَتَسَتَّرْنَ بِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ فِيهَا وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُتَّخَذَ الْكُنُفُ، وَكَانَ قِصَّةُ الْإِفْكِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ

(1)

سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْحِجَابَ) وَلِلْمُسْتَمْلِي آيَةَ الْحِجَابِ. زَادَ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْحِجَابَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قِصَّةُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ لَمَّا أَوْلَمَ عَلَيْهَا وَتَأَخَّرَ النَّفَرُ الثَّلَاثَةُ فِي الْبَيْتِ وَاسْتَحْيَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْخُرُوجِ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا حَدِيثُ عُمَرَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ نِسَاءَكَ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ وَمَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَعَائِشَةُ تَأْكُلُ مَعَهُمْ إِذْ أَصَابَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهَا، فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُا أَنَّ أَسْبَابَ نُزُولِ الْحِجَابِ تَعَدَّدَتْ، وَكَانَتْ قِصَّةُ زَيْنَبَ آخِرَهَا؛ لِلنَّصِّ عَلَى قِصَّتِهَا فِي الْآيَةِ، وَالْمُرَادُ بِآيَةِ الْحِجَابِ فِي بَعْضِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}

147 -

حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَدْ أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِي حَاجَتِكُنَّ. قَالَ هِشَامٌ يَعْنِي الْبَرَازَ.

(1)

سيأتي للحافظ بن حجر"في الحديث 4750"قوله"وكنت قد أمليت في أوائل كتاب الوضوء"يعني هذا الموضع"أن قصة الإفك وقعت قبل نزول الحجاب. فليصلح هناك"

ص: 249

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا) هُوَ ابْنُ يَحْيَى. وَسَيَأْتِي حَدِيثُهُ هَذَا فِي التَّفْسِيرِ مُطَوَّلًا، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ سَوْدَةَ خَرَجَتْ بَعْدَمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا - وَكَانَتْ عَظِيمَةَ الْجِسْمِ - فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ، أَمَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ. فَرَجَعَتْ فَشَكَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَعَشَّى، فَأُوحِيَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِقْهُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ التَّصَرُّفُ فِيمَا لَهُنَّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِهِنَّ، وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى فِيمَا يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَحَيْثُ لَا يَقْصِدُ التَّعَنُّتَ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِعُمَرَ، وَفِيهِ جَوَازُ كَلَامِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطُّرُقِ لِلضَّرُورَةِ، وَجَوَازُ الْإِغْلَاظِ فِي الْقَوْلِ لِمَنْ يَقْصِدُ الْخَيْرَ، وَفِيهِ جَوَازُ وَعْظِ الرَّجُلِ أُمَّهُ فِي الدِّينِ لِأَنَّ سَوْدَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُنَّ بِالْحِجَابِ مَعَ وُضُوحِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَكَذَا فِي إِذْنِهِ لَهُنَّ بِالْخُرُوجِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌14 - بَاب التَّبَرُّزِ فِي الْبُيُوتِ

148 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّأْمِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّبَرُّزِ فِي الْبُيُوتِ) عَقَّبَ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ النِّسَاءِ لِلْبَرَازِ لَمْ يَسْتَمِرَّ، بَلِ اتُّخِذَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَخْلِيَةُ فِي الْبُيُوتِ فَاسْتَغْنَيْنَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ.

قَوْلُهُ: (عُبَيْدُ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَثْبَاتِهِمْ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

149 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ أَنَّ عَمَّهُ وَاسِعَ بْنَ حَبَّانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ قَالَ: لَقَدْ ظَهَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الدَّوْرَقِيُّ، وَيَزِيدُ هُوَ ابْنُ هَارُونَ كَمَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي رَوَى مَالِكٌ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى مُسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةِ أَيِ: الْكَعْبَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ لَازِمِ مَنِ اسْتَقْبَلَ الشَّامَ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّصْرِيحِ بِهِ، وَالتَّعْبِيرُ تَارَةً بِالشَّامِ وَتَارَةً بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُمَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ.

‌15 - بَاب الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ

150 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي مُعَاذٍ - وَاسْمُهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ - قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَجِيءُ أَنَا وَغُلَامٌ مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ يَعْنِي يَسْتَنْجِي بِهِ.

[الحديث 150 - أطرافه في: 500، 217، 152، 151]

ص: 250

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ) أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ، وَعَلَى مَنْ نَفَى وُقُوعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ فَقَالَ: إِذًا لَا يَزَالُ فِي يَدِي نَتْنٌ. وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ. وَعَنِ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: مَا كُنَّا نَفْعَلُهُ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ. وَعَنِ ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ مَنَعَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ.

قَوْلُهُ: (هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (أَجِيءُ أَنَا وَغُلَامٌ) زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ عَقِبَهَا مِنَّا أَيْ: مِنْ الْأَنْصَارِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوِي أَيْ مُقَارِبٌ لِي فِي السِّنِّ، وَالْغُلَامُ هُوَ الْمُتَرَعْرِعُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ: مِنْ لَدُنِ الْفِطَامِ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ، وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ الْغُلَامَ هُوَ الصَّغِيرُ إِلَى حَدِّ الِالْتِحَاءِ، فَإِنْ قِيلَ لَهُ بَعْدَ الِالْتِحَاءِ غُلَامٌ فَهُوَ مَجَازٌ.

قَوْلُهُ: (إِدَاوَةٌ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ إِنَاءٌ صَغِيرٌ مِنْ جِلْدٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْ مَاءٍ) أَيْ: مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَاءٍ.

قَوْلُهُ: (يَعْنِي يَسْتَنْجِي بِهِ) قَائِلُ يَعْنِي هُوَ هِشَامٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ فَلَمْ يَذْكُرْهَا، لَكِنَّهُ رَوَاهُ عَقِبَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ: يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَأَنْطَلِقُ أَنَا وَغُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مَعَنَا إِدَاوَةٌ فِيهَا مَاءٌ يَسْتَنْجِي مِنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ إِذَا تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فَيَغْسِلُ بِهِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَنَسٍ فَخَرَجَ عَلَيْنَا وَقَدِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ وَقَدْ بَانَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ حِكَايَةَ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ رَاوِي الْحَدِيثِ، فَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْأَصِيلِيِّ حَيْثُ تَعَقَّبَ عَلَى الْبُخَارِيِّ اسْتِدْلَالَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ قَالَ: لِأَنَّ قَوْلَهُ يَسْتَنْجِي بِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْوَلِيدِ أَيْ: أَحَدِ الرُّوَاةِ عَنْ شُعْبَةَ، قال: وَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَلَمْ يَذْكُرْهَا، قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ لِوُضُوئِهِ، انْتَهَى.

وَقَدِ انْتَفَى هَذَا الِاحْتِمَالُ بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَكَذَا فِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ عَطَاءٍ الرَّاوِي عَنْ أَنَسٍ فَيَكُونُ مُرْسَلًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَوْنِيِّ، فَإِنَّ رِوَايَةَ خَالِدٍ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ أَنَسٍ حَيْثُ قَالَ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا. وَوَقَعَ هُنَا فِي نُكَتِ الْبَدْرِ الزَّرْكَشِيِّ تَصْحِيفٌ، فَإِنَّهُ نَسَبَ التَّعَقُّبَ الْمَذْكُورَ إِلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْأَصِيلِيِّ، وَأَقَرَّهُ فَكَأَنَّهُ ارْتَضَاهُ، وَلَيْسَ بِمَرْضِيٍّ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ. وَكَذَا نَسَبَهُ الْكِرْمَانِيُّ إِلَى ابْنِ بَطَّالٍ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ، وَابْنُ بَطَّالٍ إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنِ الْأَصِيلِيِّ.

‌16 - بَاب مَنْ حُمِلَ مَعَهُ الْمَاءُ لِطُهُورِهِ

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالطَّهُورِ وَالْوِسَادِ.

151 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي مُعَاذٍ هُوَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ تَبِعْتُهُ أَنَا وَغُلَامٌ مِنَّا مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ حَمَلَ مَعَهُ الْمَاءَ لِطُهُورِهِ) هُوَ بِالضَّمِّ أَيْ: لِيَتَطَهَّرَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَلَيْسَ فِيكُمْ) هَذَا الْخِطَابُ لِعَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، وَالْمُرَادُ بِصَاحِبِ النَّعْلَيْنِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَوَلَّى خِدْمَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، وَصَاحِبُ النَّعْلَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ مَجَازًا؛ لِكَوْنِهِ كَانَ

ص: 251

يَحْمِلُهُمَا، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مَوْصُولًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَإِيرَادُ الْمُصَنِّفِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ مَعَ هَذَا الطَّرَفِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءَ يُشْعِرُ إِشْعَارًا قَوِيًّا بِأَنَّ الْغُلَامَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ الْغُلَامِ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الصَّغِيرِ مَجَازًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ مَسْعُودٍ بِمَكَّةَ وَهُوَ يَرْعَى الْغَنَمَ: إِنَّكَ لَغُلَامٌ مُعَلَّمٌ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ أَنَسٍ وَغُلَامٌ مِنَّا أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ مِنْ خَدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الَّتِي فِيهَا مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَعَلَّهَا مِنْ تَصَرُّفِ الرَّاوِي حَيْثُ رَأَى فِي الرِّوَايَةِ مِنَّا فَحَمَلَهَا عَلَى الْقَبَلِيَّةِ فَرَوَاهَا بِالْمَعْنَى فَقَالَ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَوْ إِطْلَاقُ الْأَنْصَارِ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ سَائِغٌ وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ خَصَّهُ بِالْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَى الْخَلَاءَ أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فِي رَكْوَةٍ فَاسْتَنْجَى فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الْغُلَامُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي ذِكْرِ الْجِنِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْإِدَاوَةَ لِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَنَّ أَنَسًا وَصَفَهُ بِالصِّغَرِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، فَيَبْعُدُ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَصْغَرُنَا أَيْ: فِي الْحَالِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ.

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الَّذِي فِي آخِرِ الْكِتَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم انْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَاتَّبَعَهُ جَابِرٌ بِإِدَاوَةٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الْمُبْهَمُ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ فَأَتْبَعُهُ وَأَنَا غُلَامٌ بِتَقْدِيمِ الْوَاوِ فَتَكُونُ حَالِيَّةً، لَكِنْ تَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَا وَغُلَامٌ أَيْ: بِوَاوِ الْعَطْفِ.

‌17 - بَاب حَمْلِ الْعَنَزَةِ مَعَ الْمَاءِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ

152 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْخَلَاءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ. تَابَعَهُ النَّضْرُ وَشَاذَانُ عَنْ شُعْبَةَ. الْعَنَزَةُ: عَصًا عَلَيْهِ زُجٌّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ حَمْلِ الْعَنَزَةِ مَعَ الْمَاءِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ) الْعَنَزَةُ بِفَتْحِ النُّونِ عَصًا أَقْصَرُ مِنَ الرُّمْحِ لَهَا سِنَانٌ، وَقِيلَ هِيَ الْحَرْبَةُ الْقَصِيرَةُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ فِي آخِرِ حَدِيثِ هَذَا الْبَابِ: الْعَنَزَةُ عَصًا عَلَيْهَا زُجٌّ بِزَايٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مُشَدَّدَةٍ أَيْ: سِنَانٍ، وَفِي الطَّبَقَاتِ لِابْنِ سَعْدٍ: أَنَّ النَّجَاشِيَّ كَانَ أَهْدَاهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا يُؤَيِّدُ كَوْنَهَا كَانَتْ عَلَى صِفَةِ الْحَرْبَةِ لِأَنَّهَا مِنْ آلَاتِ الْحَبَشَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْعِيدَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) أَيْ: أَنَّهُ سَمِعَ وَلَفْظَةَ أَنَّهُ تُحْذَفُ فِي الْخَطِّ عُرْفًا.

قَوْلُهُ: (يَدْخُلُ الْخَلَاءَ) الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْفَضَاءُ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ وَلِقَرِينَةِ حَمْلِ الْعَنَزَةِ مَعَ الْمَاءِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ إِلَيْهَا إِنَّمَا تَكُونُ حَيْثُ لَا سُتْرَةَ غَيْرَهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَخْلِيَةَ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ كَانَ خِدْمَتُهُ فِيهَا مُتَعَلِّقَةً بِأَهْلِهِ. وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ تَبْوِيبِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا كَانَتْ تُحْمَلُ لِيَسْتَتِرَ بِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ضَابِطَ السُّتْرَةِ فِي هَذَا مَا يَسْتُرُ الْأَسَافِلَ وَالْعَنَزَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْكُزَهَا أَمَامَهُ وَيَضَعَ عَلَيْهَا الثَّوْبَ السَّاتِرَ، أَوْ يَرْكَزَهَا بِجَنْبِهِ لِتَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مَنْعِ مَنْ يَرُومُ الْمُرُورَ بِقُرْبِهِ، أَوْ تُحْمَلُ لِنَبْشِ الْأَرْضِ الصُّلْبَةِ، أَوْ لِمَنْعِ مَا يَعْرِضُ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ، لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعُدُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، أَوْ تُحْمَلُ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا اسْتَنْجَى تَوَضَّأَ، وَإِذَا تَوَضَّأَ صَلَّى، وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَوْجُهِ، وَسَيَأْتِي التَّبْوِيبُ عَلَى الْعَنَزَةِ فِي سُتْرَةِ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ.

وَاسْتَدَلَّ

ص: 252

الْبُخَارِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى غَسْلِ الْبَوْلِ كَمَا سَيَأْتِي.

وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِخْدَامِ الْأَحْرَارِ - خُصُوصًا إِذَا أُرْصِدُوا لِذَلِكَ - لِيَحْصُلَ لَهُمُ التَّمَرُّنُ عَلَى التَّوَاضُعِ. وَفِيهِ أَنَّ فِي خِدْمَةِ الْعَالِمِ شَرَفًا لِلْمُتَعَلِّمِ ; لِكَوْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَدَحَ ابْنَ مَسْعُودٍ بِذَلِكَ. وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ حَبِيبٍ حَيْثُ مَنَعَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْمَدِينَةِ كَانَ عَذْبًا. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّوَضُّؤِ مِنَ الْأَوَانِي دُونَ الْأَنْهَارِ وَالْبِرَكِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ الْأَنْهَارَ وَالْبِرَكَ فَعَدَلَ عَنْهَا إِلَى الْأَوَانِي.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ النَّضْرُ) أَيِ: ابْنُ شُمَيْلٍ، تَابَعَ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ، وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ النَّسَائِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَشَاذَانُ) أَيِ: الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الصَّلَاةِ وَلَفْظُهُ وَمَعَنَا عُكَّازَةٌ أَوْ عَصًا أَوْ عَنَزَةٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي لِتَوَافُقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى ذِكْرِ الْعَنَزَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَمِيعُ الرُّوَاةِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ بَصْرِيُّونَ.

‌18 - بَاب النَّهْيِ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ

153 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ.

[الحديث 153 طرفاه في: 5630، 154]

قَوْلُهُ: (بَابُ النَّهْيِ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ) أَيْ: بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَعَبَّرَ بِالنَّهْيِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ هَلْ هُوَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ أَوْ أَنَّ الْقَرِينَةَ الصَّارِفَةَ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّحْرِيمِ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ، وَهِيَ أَنَّ ذَلِكَ أَدَبٌ مِنَ الْآدَابِ، وَبِكَوْنِهِ لِلتَّنْزِيهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ، وَفِي كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَا يُشْعِرُ بِهِ، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: مُرَادُ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْيَمِينِ أَيْ: لَا يَكُونُ مُبَاحًا يَسْتَوِي طَرَفَاهُ، بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ رَاجِحُ التَّرْكِ، وَمَعَ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ فَمَنْ فَعَلَهُ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: لَا يُجْزِئُ، وَمَحَلُّ هَذَا الِاخْتِلَافِ حَيْثُ كَانَتِ الْيَدُ تُبَاشِرُ ذَلِكَ بِآلَةٍ غَيْرِهَا كَالْمَاءِ وَغَيْرِهِ، أَمَّا بِغَيْرِ آلَةٍ فَحَرَامٌ غَيْرُ مُجْزِئٍ بِلَا خِلَافٍ، وَالْيُسْرَى فِي ذَلِكَ كَالْيُمْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ مِنْ قُدَمَاءِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ) أَيْ: ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ لَا ابْنُ حَسَّانٍ، وَهُمَا بَصْرِيَّانِ ثِقَتَانِ مَشْهُورَانِ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: أَبِي قَتَادَةَ الْحَارِثَ وَقِيلَ عَمْرٌو وَقِيلَ النُّعْمَانُ الْأَنْصَارِيُّ، فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَتَنَفَّسْ) بِالْجَزْمِ وَلَا نَاهِيَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ، وَرُوِيَ بِالضَّمِّ فِيهَا عَلَى أَنَّ لَا نَافِيَةٌ.

قَوْلُهُ: (فِي الْإِنَاءِ) أَيْ دَاخِلَهُ، وَأَمَّا إِذَا أَبَانَهُ وَتَنَفَّسَ فَهِيَ السُّنَّةُ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا النَّهْيُ لِلتَّأَدُّبِ لِإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَافَةِ، إِذْ قَدْ يَخْرُجُ مَعَ النَّفَسِ بُصَاقٌ أَوْ مُخَاطٌ أَوْ بُخَارٌ رَدِيءٌ فَيُكْسِبُهُ رَائِحَةً كَرِيهَةً فَيَتَقَذَّرُ بِهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ عَنْ شُرْبِهِ.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ) أَيْ: فَبَالَ كَمَا فَسَّرَتْهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي بَعْدَهَا.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَتَمَسَّحُ بِيَمِينِهِ) أَيْ: لَا يَسْتَنْجِ. وَقَدْ أَثَارَ الْخَطَّابِيُّ هُنَا بَحْثًا وَبَالَغَ فِي التَّبَجُّحِ بِهِ، وَحَكَى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ نَاظَرَ رَجُلًا مِنَ الْفُقَهَاءِ الْخُرَاسَانِيِّينَ فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَعْيَاهُ جَوَابُهَا، ثُمَّ أَجَابَ الْخَطَّابِيُّ عَنْهُ بِجَوَابٍ فِيهِ نَظَرٌ، وَمُحَصَّلُ الْإِيرَادِ أَنَّ الْمُسْتَجْمِرَ مَتَى اسْتَجْمَرَ بِيَسَارِهِ

ص: 253

اسْتَلْزَمَ مَسَّ ذَكَرِهِ بِيَمِينِهِ، وَمَتَى أَمْسَكَهُ بِيَسَارِهِ اسْتَلْزَمَ اسْتِجْمَارَهُ بِيَمِينِهِ وَكِلَاهُمَا قَدْ شَمِلَهُ النَّهْيُ، وَمُحَصَّلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ يَقْصِدُ الْأَشْيَاءَ الضَّخْمَةَ الَّتِي لَا تَزُولُ بِالْحَرَكَةِ كَالْجِدَارِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْبَارِزَةِ فَيَسْتَجْمِرُ بِهَا بِيَسَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُلْصِقْ مَقْعَدَتَهُ بِالْأَرْضِ وَيُمْسِكْ مَا يَسْتَجْمِرُ بِهِ بَيْنَ عَقِبَيْهِ أَوْ إِبْهَامَيْ رِجْلَيْهِ وَيَسْتَجْمِرْ بِيَسَارِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَصَرِّفًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، انْتَهَى. وَهَذِهِ هَيْئَةٌ مُنْكَرَةٌ بَلْ يَتَعَذَّرُ فِعْلُهَا فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِجْمَارِ بِالْيَمِينِ مُخْتَصٌّ بِالدُّبُرِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمَسِّ مُخْتَصٌّ بِالذَّكَرِ فَبَطَلَ الْإِيرَادُ مِنْ أَصْلِهِ، كَذَا قَالَ. وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ تَخْصِيصِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالدُّبُرِ مَرْدُودٌ، وَالْمَسُّ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالذَّكَرِ لَكِنْ يُلْحَقُ بِهِ الدُّبُرُ قِيَاسًا، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الذَّكَرِ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ فَرْجُ الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا خُصَّ الذَّكَرُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ الرِّجَالِ فِي الْغَالِبِ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ وَالنِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا خُصَّ.

وَالصَّوَابُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْخَطَّابِيُّ مَا قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ بَعْدَهُ - كَالْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ وَالْبَغَوِيِّ فِي التَّهْذِيبِ - أَنَّهُ يُمِرُّ الْعُضْوَ بِيَسَارِهِ عَلَى شَيْءٍ يُمْسِكُهُ بِيَمِينِهِ، وَهِيَ قَارَّةٌ غَيْرُ مُتَحَرِّكَةٍ فَلَا يُعَدُّ مُسْتَجْمِرًا بِالْيَمِينِ وَلَا مَاسًّا بِهَا، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ مُسْتَجْمِرًا بِيَمِينِهِ فَقَطْ غَلِطَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَنْ صَبَّ بِيَمِينِهِ الْمَاءِ عَلَى يَسَارِهِ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ.

‌19 - باب لَا يُمْسِكُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ إِذَا بَالَ

154 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ. وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُمْسِكُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ إِذَا بَالَ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ بِالْيَمِينِ كَمَا فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِحَالَةِ الْبَوْلِ فَيَكُونُ مَا عَدَاهُ مُبَاحًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَكُونُ مَمْنُوعًا أَيْضًا مِنْ بَابِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَتَعَقَّبَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ بِأَنَّ مَظِنَّةَ الْحَاجَةِ لَا تَخْتَصُّ بِحَالَةِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَإِنَّمَا خُصَّ النَّهْيُ بِحَالَةِ الْبَوْلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مُجَاوِرَ الشَّيْءِ يُعْطَى حُكْمُهُ، فَلَمَّا مُنِعَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْيَمِينِ مُنِعَ مَسُّ آلَتِهِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ.

ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ مَسِّ ذَكَرِهِ: إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ فِي كُلِّ حَالٍ، فَخَرَجَتْ حَالَةُ الْبَوْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَبَقِيَ مَا عَدَاهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ، وَقَدْ يُقَالُ: حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ قَالَ بِهِ يَشْتَرِطُ فِيهِ شُرُوطًا، لَكِنْ نَبَّهَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الِاخْتِلَافِ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ تَتَغَايَرُ مَخَارِجُ الْحَدِيثِ بِحَيْثُ يُعَدُّ حَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا اتَّحَدَ الْمَخْرَجُ وَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فَيَنْبَغِي حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ التَّقْيِيدَ حِينَئِذٍ يَكُونُ زِيَادَةً مِنْ عَدْلٍ فَتُقْبَلُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي رِوَايَتِهِ بِسَمَاعِ يَحْيَى لَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَصَرَّحَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْأَوْسَطِ بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيعِ الْإِسْنَادِ، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فَحَصَلَ الْأَمْنُ مِنْ مَحْذُورِ التَّدْلِيسِ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَأْخُذُونَّ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِنُونِ التَّأْكِيدِ وَلِغَيْرِهِ بِدُونِهَا، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ لَا يُمْسِكُ وَكَذَا فِي مُسْلِمٍ التَّعْبِيرُ بِالْمَسْكِ

ص: 254

مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ عَنْ يَحْيَى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَا يَمَسُّ فَاعْتُرِضَ عَلَى تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ بِأَنَّ الْمَسَّ أَعَمُّ مِنَ الْمَسْكِ، يَعْنِي فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِالْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ؟ وَلَا إِيرَادَ عَلَى الْبُخَارِيِّ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لِمَا بَيَّنَّاهُ. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ مَنْعَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَدِ الَّتِي فِيهَا الْخَاتَمُ الْمَنْقُوشُ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ لِتَشْرِيفِ الْيَمِينِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَمَا وَقَعَ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ عَدَمِ الْكَرَاهَةِ قَدْ أَنْكَرَهُ حُذَّاقُ أَصْحَابِهِ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ لِكَوْنِ الْيَمِينِ مُعَدَّةً لِلْأَكْلِ بِهَا فَلَوْ تَعَاطَى ذَلِكَ بِهَا لَأَمْكَنَ أَنْ يَتَذَكَّرَهُ عِنْدَ الْأَكْلِ فَيَتَأَذَّى بِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ) جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ إِنْ كَانَتْ لَا نَافِيَةً، وَإِنْ كَانَتْ نَاهِيَةً فَمَعْطُوفَةٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ مُقَيَّدًا بِهِ ; لِأَنَّ التَّنَفُّسَ لَا يَتَعَلَّقُ بِحَالَةِ الْبَوْلِ وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِهَا هُنَا أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ التَّأَسِّي بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كَانَ إِذَا بَالَ تَوَضَّأَ، وَثَبَتَ أَنَّهُ شَرِبَ فَضْلَ وَضُوئِهِ، فَالْمُؤْمِنُ بِصَدَدِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَعَلَّمَهُ أَدَبَ الشُّرْبِ مُطْلَقًا لِاسْتِحْضَارِهِ، وَالتَّنَفُّسُ فِي الْإِنَاءِ مُخْتَصٌّ بِحَالَةِ الشُّرْبِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَتَنَفَّسْ أَحَدُكُمْ فِي الْإِنَاءِ إِذَا كَانَ يَشْرَبُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌20 - بَاب الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحِجَارَةِ

155 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا - أَوْ نَحْوَهُ - وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثٍ، فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِي، فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ.

[الحديث 155 - طرفه في: 3860]

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِنْجَاءِ: بِالْحِجَارَةِ) أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ مُخْتَصٌّ بِالْمَاءِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ أَسْتَنْفِضُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَسْتَنْجِي كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ) هُوَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ جَدُّ أَبِي الْوَلِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبِ تَارِيخِ مَكَّةَ، وَفِي طَبَقَتِهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ أَيْضًا لَكِنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَاسْمَ جَدِّهِ عَوْنٌ وَيُعْرَفُ بِالْقَوَّاسِ، وَقَدْ وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْهُ، وَإِنَّمَا رَوَى عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَوَهِمَ أَيْضًا مَنْ جَعَلَهُمَا وَاحِدًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَدِّهِ) يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي بْنِ أُمَيَّةَ الْقُرَشِيَّ الْأُمَوِيَّ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْأَشْدَقِ الَّذِي وَلِيَ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يُجَهِّزُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، وَكَانَ عَمْرٌو هَذَا قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى دِمَشْقَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ وَسَيَّرَ أَوْلَادَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسَكَنَ وَلَدُهُ مَكَّةَ لَمَّا ظَهَرَتْ دَوْلَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ فَاسْتَمَرُّوا بِهَا، فَفِي الْإِسْنَادِ مَكِّيَّانِ وَمَدَنِيَّانِ.

قَوْلُهُ: (اتَّبَعْتُ) بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ، أَيْ: سِرْتُ وَرَاءَهُ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَخَرَجَ حَالِيَّةٌ وَفِي قَوْلِهِ وَكَانَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَكَانَ بِالْفَاءِ.

قَوْلُهُ: (فَدَنَوْتُ مِنْهُ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَسْتَأْنِسُ وَأَتَنَحْنَحُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَبُو هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (ابْغِنِي) بِالْوَصْلِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ أَيْ: اطْلُبْ لِي، يُقَالُ: بَغَيْتُكَ الشَّيْءَ أَيْ: طَلَبْتُهُ لَكَ. وَفِي رِوَايَةٍ بِالْقَطْعِ أَيْ: أَعِنِّي

ص: 255

عَلَى الطَّلَبِ، يُقَالُ أَبْغَيْتُكَ الشَّيْءَ أَيْ أَعَنْتُكَ عَلَى طَلَبِهِ، وَالْوَصْلُ أَلْيَقُ بِالسِّيَاقِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ ائْتِنِي.

قَوْلُهُ: (أَسْتَنْفِضُ) بِفَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، مَجْزُومٌ لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، قَالَ الْقَزَّازُ: قَوْلُهُ أَسْتَنْفِضُ أَسَتَفْعِلُ مِنَ النَّفْضِ وَهُوَ أَنْ تَهُزَّ الشَّيْءَ لِيَطِيرَ غُبَارُهُ، قَالَ: وَهَذَا مَوْضِعُ أَسْتَنْظِفُ، أَيْ: بِتَقْدِيمِ الظَّاءِ الْمُشَالَةِ عَلَى الْفَاءِ، وَلَكِنْ كَذَا رُوِيَ، انْتَهَى. وَالَّذِي وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ صَوَابٌ فَفِي الْقَامُوسِ اسْتَنْفَضَهُ اسْتَخْرَجَهُ، وَبِالْحَجَرِ اسْتَنْجَى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْمُطَرِّزِيِّ قَالَ: الِاسْتِنْفَاضُ الِاسْتِخْرَاجُ، وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَمَنْ رَوَاهُ بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ فَقَدْ صَحَّفَ، انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَسْتَنْجِي بَدَلَ أَسْتَنْفِضُ وَكَأَنَّهَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَتِنَا أَوْ نَحْوِهِ، وَيَكُونُ التَّرَدُّدُ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَأْتِنِي) كَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَشِيَ أَنْ يَفْهَمَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ أَسْتَنْجِي أَنَّ كُلَّ مَا يُزِيلُ الْأَثَرَ وَيُنَقِّي كَافٍ، وَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِالْأَحْجَارِ، فَنَبَّهَهُ بِاقْتِصَارِهِ فِي النَّهْيِ عَلَى الْعَظْمِ وَالرَّوْثِ عَلَى أَنَّ مَا سِوَاهُمَا يُجْزِئُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْأَحْجَارِ - كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ - لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَذَيْنِ بِالنَّهْيِ مَعْنًى، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَحْجَارَ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ وُجُودِهَا، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَبْعَثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثِ؟ قَالَ: هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ اخْتِصَاصُ الْمَنْعِ بِهِمَا. نَعَمْ يَلْتَحِقُ بِهِمَا جَمِيعُ الْمَطْعُومَاتِ الَّتِي لِلْآدَمِيِّينَ قِيَاسًا مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَكَذَا الْمُحْتَرَمَاتُ كَأَوْرَاقِ كُتُبِ الْعِلْمِ.

وَمَنْ قَالَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ الرَّوْثِ كَوْنُهُ نَجَسًا أَلْحَقَ بِهِ كُلَّ نَجَسٍ مُتَنَجِّسٍ، وَعَنِ الْعَظْمِ كَوْنُهُ لَزِجًا فَلَا يُزِيلُ إِزَالَةً تَامَّةً أَلْحَقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالزُّجَاجِ الْأَمْلَسِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ بِعَظْمٍ وَقَالَ: إِنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِمَا يُجْزِئُ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَبْعَثِ بَيَانُ قِصَّةِ وَفْدِ الْجِنِّ وَأَيُّ وَقْتٍ كَانَتْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَأَعْرَضْتُ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَاعْتَرَضْتُ بِزِيَادَةِ مُثَنَّاةٍ بَعْدَ الْعَيْنِ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَضَى) أَيْ: حَاجَتَهُ (أَتْبَعُهُ) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ أَيْ أَلْحَقُهُ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اتِّبَاعِ السَّادَاتِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرُوا بِذَلِكَ، وَاسْتِخْدَامُ الْإِمَامِ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ قَاضِي الْحَاجَةِ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى إِحْضَارِ مَا يَسْتَنْجِي بِهِ وَإِعْدَادُهُ عِنْدَهُ؛ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى طَلَبِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَلَا يَأْمَنُ التَّلَوُّثَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

‌21 - بَاب لَا يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ

156 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ، وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ:، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (لَا يُسْتَنْجَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ.

قَوْلُهُ: (زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ الْكُوفِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ وَهُوَ تَابِعِيٌّ، وَكَذَا شَيْخُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَبُوهُ الْأَسْوَدُ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ)

ص: 256

أَيِ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.

وَقَوْلُهُ: (ذَكَرَهُ) أَيْ: لِي. (وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ) أَيْ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ لِي بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ الْمُعَلَّقَةِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ إِلَى الرِّوَايَةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي عُبَيْدَةَ أَعْلَى لَهُ - لِكَوْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَتَكُونُ مُنْقَطِعَةً بِخِلَافِ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ فَإِنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَرِوَايَةُ أَبِي إِسْحَاقَ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، فَمُرَادُ أَبِي إِسْحَاقَ هُنَا بِقَوْلِهِ لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ أَيْ: لَسْتُ أَرْوِيهِ الْآنَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَإِنَّمَا أَرْوِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ صَاحِبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ، وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ؛ فَإِنَّ الْأَسْوَدَ الزُّهْرِيَّ لَمْ يُسْلِمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعِيشَ حَتَّى يَرْوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (أَتَى الْغَائِطَ) أَيِ: الْأَرْضَ الْمُطَمْئِنَةَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ أَجِدْ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَلَمْ أَجِدْهُ أَيِ: الْحَجَرَ الثَّالِثَ.

قَوْلُهُ: (بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ) فِيهِ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّهْيُ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَلَا يَسْتَنْجِ أَحَدُكُمْ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَخَذَ بِهَذَا الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَاشْتَرَطُوا أَنْ لَا يَنْقُصَ مِنَ الثَّلَاثِ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْإِنْقَاءِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ بِهَا فَيُزَادُ حَتَّى يُنَقَّى، وَيُسْتَحَبُّ حِينَئِذٍ الْإِيتَارُ لِقَوْلِهِ: وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِزِيَادَةٍ فِي أَبِي دَاوُدَ حَسَنَةِ الْإِسْنَادِ قَالَ: وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَوْ كَانَ الْقَصْدُ الْإِنْقَاءَ فَقَطْ لَخَلَا اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ عَنِ الْفَائِدَةِ، فَلَمَّا اشْتَرَطَ الْعَدَدَ لَفْظًا وَعُلِمَ الْإِنْقَاءُ فِيهِ مَعْنًى دَلَّ عَلَى إِيجَابِ الْأَمْرَيْنِ، وَنَظِيرُهُ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ فَإِنَّ الْعَدَدَ مُشْتَرَطٌ وَلَوْ تَحَقَّقَتْ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَخَذْتُ رَوْثَةً) زَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ رَوْثَةَ حِمَارٍ، وَنَقَلَ التَّيْمِيُّ أَنَّ الرَّوْثَ مُخْتَصٌّ بِمَا يَكُونُ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ.

قَوْلُهُ: (وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ) اسْتَدَلَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الثَّلَاثَةِ؛ قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَرَطًا لَطَلَبَ ثَالِثًا، كَذَا قَالَ، وَغَفَلَ رحمه الله عَمَّا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ فِيهِ: فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: إِنَّهَا رِكْسٌ، ائْتِنِي بِحَجَرٍ. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَثْبَاتٌ.

وَقَدْ تَابَعَ عَلَيْهِ مَعْمَر، أَبُو شُعْبَةَ الْوَاسِطِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَتَابَعَهُمَا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلْقَمَةَ لَكِنْ أَثْبَتَ سَمَاعَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْهُ الْكَرَابِيسِيُّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَهُ عَنْهُ فَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْمُخَالِفِينَ وَعِنْدَنَا أَيْضًا إِذَا اعْتُضِدَ، وَاسْتِدْلَالُ الطَّحَاوِيِّ فِيهِ نَظَرٌ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اكْتَفَى بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ فِي طَلَبِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يُجَدِّدِ الْأَمْرَ بِطَلَبِ الثَّالِثِ، أَوِ اكْتَفَى بِطَرَفِ أَحَدِهِمَا عَنِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالثَّلَاثَةِ أَنْ يَمْسَحَ بِهَا ثَلَاثَ مَسَحَاتٍ وَذَلِكَ حَاصِلٌ وَلَوْ بِوَاحِدٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّهُ لَوْ مَسَحَ بِطَرَفٍ وَاحِدٍ وَرَمَاهُ ثُمَّ جَاءَ شَخْصٌ آخَرُ فَمَسَحَ بِطَرَفِهِ الْآخَرِ لَأَجْزَأَهُمَا بِلَا خِلَافٍ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ: رُوِيَ أَنَّهُ أَتَاهُ بِثَالِثٍ، لَكِنْ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ صَحَّ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِمَنْ لَا يَشْتَرِطُ الثَّلَاثَةَ قَائِمٌ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَحَصَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ثَابِتَةٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا وَقَفَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فَقَطْ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا مِنْ سَبِيلٍ وَاحِدٍ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ مِنْهُمَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اكْتَفَى لِلْقُبُلِ بِالْمَسْحِ فِي الْأَرْضِ وَلِلدُّبُرِ بِالثَّلَاثَةِ، أَوْ مَسَحَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِطَرَفَيْنِ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ لِلْعَدَدِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ فَفَاسِدُ الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الصَّرِيحِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَلْمَانَ

ص: 257

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (هَذَا رِكْسٌ) كَذَا وَقَعَ هُنَا بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ فَقِيلَ: هِيَ لُغَةٌ فِي رِجْسٍ بِالْجِيمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهَا عِنْدَهُمَا بِالْجِيمِ، وَقِيلَ: الرِّكْسُ الرَّجِيعُ، رُدَّ مِنْ حَالَةِ الطَّهَارَةِ إِلَى حَالَةِ النَّجَاسَةِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: رُدَّ مِنْ حَالَةِ الطَّعَامِ إِلَى حَالَةِ الرَّوْثِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ أَرَ هَذَا الْحَرْفَ فِي اللُّغَةِ، يَعْنِي الرِّكْسَ بِالْكَافِ. وَتَعَقَّبَهُ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ الرَّدُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أُرْكِسُوا فِيهَا} أَيْ رُدُّوا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا رَدٌّ عَلَيْكَ، انْتَهَى. وَلَوْ ثَبَتَ مَا قَالَ لَكَانَ بِفَتْحِ الرَّاءِ؛ يُقَالُ: رَكَسَهُ رَكْسًا إِذَا رَدَّهُ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: هَذَا رِكْسٌ يَعْنِي نَجَسًا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ. وَأَغْرَبَ النَّسَائِيُّ فَقَالَ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ: الرِّكْسُ طَعَامُ الْجِنِّ، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مُرِيحٌ مِنَ الْإِشْكَالِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ) يَعْنِي يُوسُفَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَهُوَ جَدُّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا التَّعْلِيقِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ دَلَّسَ هَذَا الْخَبَرَ كَمَا حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّاذَكُونِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يُسْمَعْ فِي التَّدْلِيسِ بِأَخْفَى مِنْ هَذَا. قَالَ لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَقُلْ ذَكَرَهُ لِي، انْتَهَى.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ سَمَاعِ أَبِي إِسْحَاقَ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِكَوْنِ يَحْيَى الْقَطَّانِ رَوَاهُ عَنْ زُهَيْرٍ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ: وَالْقَطَّانُ لَا يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَ عَنْ زُهَيْرٍ مَا لَيْسَ بِسَمَاعٍ لِأَبِي إِسْحَاقَ، وَكَأَنَّهُ عُرِفَ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ صَنِيعِ الْقَطَّانِ، أَوْ بِالتَّصْرِيحِ مِنْ قَوْلِهِ. فَانْزَاحَتْ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ عِلَّةُ التَّدْلِيسِ.

وَقَدْ أَعَلَّهُ قَوْمٌ بِالِاضْطِرَابِ، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ، وَاسْتَوْفَيْتُهُ فِي مُقَدِّمَةِ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ زُهَيْرٍ هَذِهِ تَرَجَّحَتْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِمُتَابَعَةِ يُوسُفَ حَفِيدِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَتَابَعَهُمَا شَرِيكٌ الْقَاضِي، وَزَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَتَابَعَ أَبَا إِسْحَاقَ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَحَدِيثُهُ يُسْتَشْهَدُ بِهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَمِمَّا يُرَجِّحُهَا أَيْضًا اسْتِحْضَارُ أَبِي إِسْحَاقَ لِطَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَعُدُولُهُ عَنْهَا بِخِلَافِ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَنْهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهَا لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، فَلَمَّا اخْتَارَ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ طَرِيقَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَارِفٌ بِالطَّرِيقَيْنِ وَأَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَهُ أَرْجَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌22 - بَاب الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً

157 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً مَرَّةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً) أَيْ لِكُلِّ عُضْوٍ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ مُجْمَلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَالرَّاوِي عَنْهُ الْفِرْيَابِيُّ لَا الْبَيْكَنْدِيُّ، وَصَرَّحَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا بِسَمَاعِ سُفْيَانَ لَهُ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.

‌23 - بَاب الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ

158 -

حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.

ص: 258

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) أَيْ لِكُلِّ عُضْوٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى) هُوَ الْبَسْطَامِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَيُونُسُ هُوَ الْمُؤَدِّبُ، وَفُلَيْحٌ وَمَنْ فَوْقَهُ مَدَنِيُّونَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ هُوَ ابْنُ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ، وَحَدِيثُهُ هَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ الْغَسْلُ مَرَّتَيْنِ إِلَّا فِي الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ.

نَعَمْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ التَّثْنِيَةَ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَتَثْلِيثِ غَسْلِ الْوَجْهِ، لَكِنْ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ نَظَرٌ سَنُشِيرُ إِلَيْهِ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَعَلَى هَذَا فَحَقُّ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنْ يُبَوَّبَ لَهُ غَسْلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ مَرَّةً وَبَعْضُهَا مَرَّتَيْنِ وَبَعْضُهَا ثَلَاثًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ لِرِوَايَةِ فُلَيْحٍ هَذِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ هَذَا الْمُجْمَلُ غَيْرَ حَدِيثِ مَالِكٍ الْمُبَيِّنِ لِاخْتِلَافِ مَخْرَجِهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌24 - بَاب الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا

159 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْإِنَاءِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.

[الحديث 159 - أطرافه في: 6433، 1934، 164، 160]

قَوْلُهُ (بَابُ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) أَيْ لِكُلِّ عُضْوٍ.

قَوْلُهُ: (عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ) هُوَ اللَّيْثِيُّ الْمَدَنِيُّ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: حُمْرَانُ - وَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ - ابْنُ أَبَانَ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ شِهَابٍ. وَفِي الْإِسْنَادِ الَّذِي يَلِيهِ أَرْبَعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: حُمْرَانُ، وَعُرْوَةُ وَهُمَا قَرِينَانِ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَهُمَا قَرِينَانِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (دَعَا بِإِنَاءٍ) وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الْآتِيَةِ قَرِيبًا دَعَا بِوَضُوءٍ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمٌ لِلْمَاءِ الْمُعَدِّ لِلْوُضُوءِ وَبِالضَّمِّ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ، وَفِيهِ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى إِحْضَارِ مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَفْرَغَ) أَيْ: صَبَّ.

قَوْلُهُ: (عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ مَرَّاتٍ بِمُثَنَّاةٍ آخِرَهُ، وَفِيهِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَقِبَ نَوْمٍ احْتِيَاطًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ) فِيهِ الِاغْتِرَافُ بِالْيَمِينِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الِاغْتِرَافِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا.

قَوْلُهُ: (فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَاسْتَنْشَقَ بَدَلَ وَاسْتَنْثَرَ، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ، وَثَبَتَتِ الثَّلَاثَةُ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الْآتِيَةِ فِي بَابِ الْمَضْمَضَةِ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِعَدَدٍ. نَعَمْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ عُثْمَانَ، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتِ عَلَى تَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ) فِيهِ تَأْخِيرُهُ عَنِ الْمَضْمَضَةِ

ص: 259

وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ اعْتِبَارُ أَوْصَافِ الْمَاءِ ; لِأَنَّ اللَّوْنَ يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ وَالطَّعْمَ يُدْرَكُ بِالْفَمِ وَالرِّيحَ يُدْرَكُ بِالْأَنْفِ فَقُدِّمَتِ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَهُمَا مَسْنُونَانِ قَبْلَ الْوَجْهِ وَهُوَ مَفْرُوضٌ، احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ حِكْمَةِ الِاسْتِنْثَارِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ) أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الصَّوْمِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ. وَفِيهَا تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَالتَّعْبِيرُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِثُمَّ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الرِّجْلَيْنِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ) هُوَ بِحَذْفِ الْبَاءِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ ذِكْرُ عَدَدِ الْمَسْحِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَحَبُّ التَّثْلِيثُ فِي الْمَسْحِ كَمَا فِي الْغُسْلِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِظَاهِرِ رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُجْمَلٌ تَبَيَّنَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْمَسْحَ لَمْ يَتَكَرَّرْ فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ أَوْ يَخْتَصُّ بِالْمَغْسُولِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ: أَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ ; وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنَّ الثَّابِتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْحِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَبِأَنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَى الْغُسْلِ الْمُرَادِ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِسْبَاغِ، وَبِأَنَّ الْعَدَدَ لَوِ اعْتُبِرَ فِي الْمَسْحِ لَصَارَ فِي صُورَةِ الْغُسْلِ؛ إِذْ حَقِيقَةُ الْغُسْلِ جَرَيَانُ الْمَاءِ، وَالدَّلْكُ لَيْسَ بِمُشْتَرَطٍ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَبَالَغَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ اسْتَحَبَّ تَثْلِيثَ مَسْحِ الرَّأْسِ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ، وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ، فَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهَيْنِ - صَحَّحَ أَحَدَهُمَا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ - تَثْلِيثَ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ

(1)

.

قَوْلُهُ: (نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ مِثْلَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ مُمَاثَلَتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ. قُلْتُ: لَكِنْ ثَبَتَ التَّعْبِيرُ بِهَا فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ عُثْمَانَ، وَلَفْظُهُ: مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ. وَلَهُ فِي الصِّيَامِ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ حُمْرَانَ: تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا. وَعَلَى هَذَا فَالتَّعْبِيرُ بِنَحْوٍ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ؛ لِأَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْمِثْلِيَّةِ مَجَازًا، وَلِأَنَّ مِثْلَ - وَإِنْ كَانَتْ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ ظَاهِرًا - لَكِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْغَالِبِ، فَبِهَذَا تَلْتَئِمُ الرِّوَايَتَانِ وَيَكُونُ الْمَتْرُوكُ بِحَيْثُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ عَقِبَ الْوُضُوءِ، وَيَأْتِي فِيهِمَا مَا يَأْتِي فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ) الْمُرَادُ بِهِ مَا تَسْتَرْسِلُ النَّفْسُ مَعَهُ وَيُمْكِنُ الْمَرْءُ قَطْعَهُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ يُحَدِّثُ يَقْتَضِي تَكَسُّبًا مِنْهُ، فَأَمَّا مَا يَهْجُمُ مِنَ الْخَطَرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ وَيَتَعَذَّرُ دَفْعُهُ فَذَلِكَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ حَدِيثُ النَّفْسِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ بِلَفْظِ لَمْ يُسِرَّ فِيهِمَا. وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: الصَّوَابُ حُصُولُ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ مَعَ طَرَيَانِ الْخَوَاطِرِ الْعَارِضَةِ غَيْرِ الْمُسْتَقِرَّةِ. نَعَمْ مَنِ اتَّفَقَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ عَدَمُ حَدِيثِ النَّفْسِ أَصْلًا أَعْلَى دَرَجَةً بِلَا رَيْبٍ. ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْخَوَاطِرَ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَالْمُرَادُ دَفْعُهُ مُطْلَقًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا. وَهِيَ فِي الزُّهْدِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ أَيْضًا وَالْمُصَنِّفُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا أَشْبَهَ أَحْوَالَ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ تِلْكَ الصَّلَاةِ فَلَا، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (مِنْ ذَنْبِهِ) ظَاهِرُهُ يَعُمُّ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ ; لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ خَصُّوهُ بِالصَّغَائِرِ لِوُرُودِهِ مُقَيَّدًا بِاسْتِثْنَاءِ الْكَبَائِرِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ

(1)

لكنها رواية شاذة فلا يعتمد عليها كما تقدم في كلام أبي داود رحمه الله

ص: 260

فِي حَقِّ مَنْ لَهُ كَبَائِرُ وَصَغَائِرُ، فَمَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا صَغَائِرُ كُفِّرَتْ عَنْهُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا كَبَائِرُ خُفِّفَ عَنْهُ مِنْهَا بِمِقْدَارِ مَا لِصَاحِبِ الصَّغَائِرِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ صَغَائِرُ وَلَا كَبَائِرُ يَزْدَادُ فِي حَسَنَاتِهِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ التَّعْلِيمُ بِالْفِعْلِ؛ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ وَأَضْبَطَ لِلْمُتَعَلِّمِ، وَالتَّرْتِيبُ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لِلْإِتْيَانِ فِي جَمِيعِهَا بِثُمَّ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْإِخْلَاصِ، وَتَحْذِيرُ مَنْ لَهَا فِي صَلَاتِهِ بِالتَّفْكِيرِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِي الْعَزْمِ عَلَى عَمَلِ مَعْصِيَةٍ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ الْمَرْءَ فِي حَالِ صَلَاتِهِ مَا هُوَ مَشْغُوفٌ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ خَارِجِهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الرِّقَاقِ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تَغْتَرُّوا أَيْ: فَتَسْتَكْثِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تُكَفِّرُهَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي تُكَفَّرُ بِهَا الْخَطَايَا هِيَ الَّتِي يَقْبَلُهَا اللَّهُ، وَأَنَّى لِلْعَبْدِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى ذَلِكَ.

160 -

وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عَنْ حُمْرَانَ: فَلَمَّا تَوَضَّأَ عُثْمَانُ قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ؟ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ يُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّي الصَّلَاةَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا.

قَالَ عُرْوَةُ: الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}

قَوْلُهُ: (وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ: ابْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَزَعَمَ مُغَلْطَايْ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا، وَإِذَا كَانَا جَمِيعًا عِنْدَ يَعْقُوبَ فَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَا عِنْدَ الْأُوَيْسِيِّ. ثُمَّ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ - مِنْ حَدِيثِ الْأُوَيْسِيِّ الْمَذْكُورِ - فَصَحَّ مَا قُلْتُهُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنَّ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ) يَعْنِي أَنَّ شَيْخَيِ ابْنِ شِهَابٍ اخْتَلَفَا فِي رِوَايَتِهِمَا لَهُ عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ عُثْمَانَ، فَحَدَّثَهُ بِهِ عَطَاءٌ عَلَى صِفَةٍ وَعُرْوَةُ عَلَى صِفَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَإِنَّمَا هُمَا حَدِيثَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَقَدْ رَوَاهُمَا مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ نَحْوَ سِيَاقِ عَطَاءٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ نَحْوَ سِيَاقِ عُرْوَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (لَوْلَا آيَةٌ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ صَحَّفَ بَعْضُ رُوَاتِهِ آيَةً فَجَعَلَهَا أَنَّهُ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ وَبِهَاءِ الشَّأْنِ.

قَوْلُهُ: (وَيُصَلِّي الصَّلَاةَ) أَيِ: الْمَكْتُوبَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَيُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ.

قَوْلُهُ: (وَبَيْنَ الصَّلَاةِ) أَيِ الَّتِي تَلِيهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُصَلِّيَهَا) أَيْ: يَشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُرْوَةُ: الْآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} يَعْنِي الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {اللاعِنُونَ} كَمَا صَرَّحَ بِهِ مُسْلِمٌ، وَمُرَادُ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّ هَذِهِ الْآيَةِ تُحَرِّضُ عَلَى التَّبْلِيغِ، وَهِيَ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُ ذَلِكَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا كَانَ عُثْمَانُ يَرَى تَرْكَ تَبْلِيغِهِمْ ذَلِكَ لَوْلَا الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ مِنَ الِاغْتِرَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَتِهِ تَعْيِينُ الْآيَةِ فَقَالَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ: أَرَاهُ يُرِيدُ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ عُرْوَةُ رَاوِي الْحَدِيثِ بِالْجَزْمِ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 261

‌25 - بَاب الِاسْتِنْثَارِ فِي الْوُضُوءِ

ذَكَرَهُ عُثْمَانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

161 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ.

[الحديث 161 - طرفه في: 162]

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِنْثَارِ) هُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ النَّثْرِ بِالنُّونِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ طَرْحُ الْمَاءِ الَّذِي يَسْتَنْشِقُهُ الْمُتَوَضِّئُ - أَيْ: يَجْذِبُهُ بِرِيحِ أَنْفِهِ - لِتَنْظِيفِ مَا فِي دَاخِلِهِ فَيَخْرُجُ بِرِيحِ أَنْفِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِعَانَةِ يَدِهِ أَمْ لَا. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهِيَةُ فِعْلِهِ بِغَيْرِ الْيَدِ لِكَوْنِهِ يُشْبِهُ فِعْلَ الدَّابَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ. وَإِذَا اسْتَنْثَرَ بِيَدِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْيُسْرَى، بَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُقَيَّدًا بِهَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرَهُ) أَيْ: رَوَى الِاسْتِنْثَارَ (عُثْمَانُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ، (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) وَسَيَأْتِي حَدِيثُهُ.

قَوْلُهُ: (وَابْنُ عَبَّاسٍ) تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ فِي بَابِ غَسْلِ الْوَجْهِ مِنْ غَرْفَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الِاسْتِنْثَارِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا اسْتَنْثِرُوا مَرَّتَيْنِ بَالِغَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ وَاسْتَنْثَرَ فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (أَبُو إِدْرِيسَ) هُوَ الْخَوْلَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ عَنْ يُونُسَ، أَبَا سَعِيدٍ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَسْتَنْثِرْ) ظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ، فَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الِاسْتِنْشَاقِ لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ كَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ أَنْ يَقُولَ بِهِ فِي الِاسْتِنْثَارِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُغْنِي يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الِاسْتِنْشَاقِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالِاسْتِنْثَارِ، وَصَرَّحَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِوُجُوبِ الِاسْتِنْثَارِ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلنَّدْبِ بِمَا حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْأَعْرَابِيِّ: تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، فَأَحَالَهُ عَلَى الْآيَةِ. وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الِاسْتِنْشَاقِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ آيَةِ الْوُضُوءِ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ مِمَّنْ وَصَفَ وُضُوءَهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ أَنَّهُ تَرَكَ الِاسْتِنْشَاقَ بَلْ وَلَا الْمَضْمَضَةَ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ لَمْ يُوجِبِ الْمَضْمَضَةَ أَيْضًا، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِهَا أَيْضًا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِنْشَاقِ مَعَ صِحَّةِ الْأَمْرِ بِهِ إِلَّا لِكَوْنِهِ لَا يَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ تَارِكَهُ لَا يُعِيدُ، وَهَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ، فَإِنَّهُ لَا يُحْفَظُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ إِلَّا عَنْ عَطَاءٍ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إِيجَابِ الْإِعَادَةِ، ذَكَرَهُ كُلَّهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَدَدًا. وَقَدْ وَرَدَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَلَفْظُهُ: وَإِذَا اسْتَنْثَرَ فَلْيَسْتَنْثِرْ وِتْرًا أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَأَصْلُهُ لِمُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِنْثَارِ فِي الْوُضُوءِ التَّنْظِيفُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعُونَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ ; لِأَنَّ بِتَنْقِيَةِ مَجْرَى النَّفَسِ تَصِحُّ مَخَارِجُ الْحُرُوفِ، وَيُزَادُ لِلْمُسْتَيْقِظِ بِأَنَّ ذَلِكَ لِطَرْدِ الشَّيْطَانِ. وَسَنَذْكُرُ بَاقِيَ مَبَاحِثِهِ فِي مَكَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَمَنِ اسْتَجْمَرَ) أَيْ: اسْتَعْمَلَ الْجِمَارَ - وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ - فِي الِاسْتِنْجَاءِ. وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ

ص: 262

عَلَى اسْتِعْمَالِ الْبَخُورِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيهِ: تَجَمَّرَ وَاسْتَجْمَرَ، حَكَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ خِلَافَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ أَيْضًا بِمُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فَلْيُوتِرْ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ مَنْ نَفَى وُجُوبَ الِاسْتِنْجَاءِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِلْإِتْيَانِ فِيهِ بِحَرْفِ الشَّرْطِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْأَحْجَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌26 - بَاب الِاسْتِجْمَارِ وِتْرًا

162 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ، ثُمَّ لِيَنْثُرْ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِجْمَارِ وِتْرًا) اسْتَشْكَلَ إِدْخَالُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَثْنَاءِ أَبْوَابِ الْوُضُوءِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِالِاسْتِشْكَالِ، فَإِنَّ أَبْوَابَ الِاسْتِطَابَةِ لَمْ تَتَمَيَّزْ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَنْ أَبْوَابِ صِفَةِ الْوُضُوءِ لِتَلَازُمِهِمَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّنْ دَوَّنَ الْمُصَنَّفَ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْتُ تَوْجِيهَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوُضُوءِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا تَوَضَّأَ) أَيْ: إِذَا شَرَعَ فِي الْوُضُوءِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ مَاءً لِغَيْرِهِ. وَكَذَا اخْتَلَفَ رُوَاةُ الْمُوَطَّأِ فِي إِسْقَاطِهِ وَذِكْرِهِ، وَثَبَتَ ذِكْرُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ بِوَزْنِ لِيَفْتَعِلْ، وَلِغَيْرِهِمَا ثُمَّ لِيَنْثُرْ بِمُثَلَّثَةٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَ النُّونِ السَّاكِنَةِ، وَالرِّوَايَتَانِ لِأَصْحَابِ الْمُوَطَّأِ أَيْضًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ نَثَرَ الرَّجُلُ وَانْتَثَرَ وَاسْتَنْثَرَ إِذَا حَرَّكَ النَّثْرَةَ وَهِيَ طَرَفُ الْأَنْفِ فِي الطَّهَارَةِ.

قَوْلُهُ (وَإِذَا اسْتَيْقَظَ) هَكَذَا عَطَفَهُ الْمُصَنِّفُ، وَاقْتَضَى سِيَاقُهُ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ فِي الْمُوَطَّأِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ مُوَطَّأِ يَحْيَى رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ مُفَرَّقًا، وَكَذَا هُوَ فِي مُوَطَّأِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا فَرَّقَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَكَذَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ. وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ كَانَ يَرَى جَوَازَ جَمْعِ الْحَدِيثَيْنِ إِذَا اتَّحَدَ سَنَدُهُمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، كَمَا يَرَى جَوَازَ تَفْرِيقِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى حُكْمَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ نَوْمِهِ) أَخَذَ بِعُمُومِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ فَاسْتَحَبُّوهُ عَقِبَ كُلِّ نَوْمٍ، وَخَصَّهُ أَحْمَدُ بِنَوْمِ اللَّيْلِ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ بَاتَتْ يَدُهُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَبِيتِ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّيْلِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ سَاقَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ وَكَذَا لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ فِي رِوَايَةٍ سَاقَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا أَيْضًا إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوُضُوءِ حِينَ يُصْبِحُ لَكِنَّ التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي إِلْحَاقَ نَوْمِ النَّهَارِ بِنَوْمِ اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا خُصَّ نَوْمُ اللَّيْلِ بِالذِّكْرِ لِلْغَلَبَةِ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْكَرَاهَةُ فِي الْغَمْسِ لِمَنْ نَامَ لَيْلًا أَشَدُّ مِنْهَا لِمَنْ نَامَ نَهَارًا ; لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي نَوْمِ اللَّيْلِ أَقْرَبُ لِطُولِهِ عَادَةً، ثُمَّ الْأَمْرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى النَّدْبِ، وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ عَلَى الْوُجُوبِ فِي نَوْمِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةِ اسْتِحْبَابِهِ فِي نَوْمِ النَّهَارِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ غَمَسَ يَدَهُ لَمْ يَضُرَّ الْمَاءَ، وَقَالَ إِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ، وَالطَّبَرِيُّ يَنْجُسُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُمْ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِرَاقَتِهِ ; لَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْقَرِينَةُ

ص: 263

الصَّارِفَةُ لِلْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ التَّعْلِيلُ بِأَمْرٍ يَقْتَضِي الشَّكَّ ; لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَقْتَضِي وُجُوبًا فِي هَذَا الْحُكْمِ اسْتِصْحَابًا لِأَصْلِ الطَّهَارَةِ.

وَاسْتَدَلَّ أَبُو عَوَانَةَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِوُضُوئِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّنِّ الْمُعَلَّقِ بَعْدَ قِيَامِهِ مِنَ النَّوْمِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُكُمْ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِغَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ غَسْلُ يَدَيْهِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ حَالَ الْيَقَظَةِ، فَاسْتِحْبَابُهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَوْلَى، وَيَكُونُ تَرْكُهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَاتٍ لِمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا فَلْيَغْسِلْهُمَا ثَلَاثًا وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْعَدَدِ فِي غَيْرِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِيَّةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ فَلَا يَضَعْ يَدَهُ فِي الْوَضُوءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا وَالنَّهْيُ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا إِنْ فَعَلَ اسْتُحِبَّ وَإِنْ تَرَكَ كُرِهَ وَلَا تَزُولُ الْكَرَاهَةُ بِدُونِ الثَّلَاثِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ.

وَالْمُرَادُ بِالْيَدِ هُنَا الْكَفُّ دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا اتِّفَاقًا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ مَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ الشَّرْطِ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، أَمَّا الْمُسْتَيْقِظُ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِعْلُ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَلَا يُكْرَهُ التَّرْكُ لِعَدَمِ وُرُودِ النَّهْيِ فِيهِ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ وَلَا يَرَى بِتَرْكِهِ بَأْسًا، وَسَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْبَرَاءِ نَحْوُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا)، وَلِمُسْلِمٍ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا وَهِيَ أَبْيَنُ فِي الْمُرَادِ مِنْ رِوَايَةِ الْإِدْخَالِ ; لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِدْخَالِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَرَاهَةٌ كَمَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي إِنَاءٍ وَاسِعٍ فَاغْتَرَفَ مِنْهُ بِإِنَاءٍ صَغِيرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلَامِسَ يَدَهُ الْمَاءُ.

قَوْلُهُ: (فِي وَضُوئِهِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: الْإِنَاءِ الَّذِي أُعِدَّ لِلْوُضُوءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الْإِنَاءِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ فِي إِنَائِهِ أَوْ وَضُوئِهِ عَلَى الشَّكِّ، وَالظَّاهِرُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِإِنَاءِ الْوُضُوءِ، وَيَلْحَقُ بِهِ إِنَاءُ الْغُسْلِ لِأَنَّهُ وُضُوءٌ وَزِيَادَةٌ، وَكَذَا بَاقِي الْآنِيَةِ قِيَاسًا، لَكِنْ فِي الِاسْتِحْبَابِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِعَدَمِ وُرُودِ النَّهْيِ فِيهَا عَنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَخَرَجَ بِذِكْرِ الْإِنَاءِ الْبِرَكُ وَالْحِيَاضُ الَّتِي لَا تَفْسُدُ بِغَمْسِ الْيَدِ فِيهَا عَلَى تَقْدِيرِ نَجَاسَتِهَا فَلَا يَتَنَاوَلُهَا النَّهْيُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْأَمْرِ بِذَلِكَ احْتِمَالُ النَّجَاسَةِ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ إِذَا ذَكَرَ حُكْمًا وَعَقَّبَهُ بِعِلَّةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِأَجْلِهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْمُحْرِمِ الَّذِي سَقَطَ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا بَعْدَ نَهْيِهِمْ عَنْ تَطْيِيبِهِ، فَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ النَّهْيِ وَهِيَ كَوْنُهُ مُحْرِمًا.

قَوْلُهُ: (لَا يَدْرِي) فِيهِ أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ احْتِمَالُ هَلْ لَاقَتْ يَدُهُ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ أَوْ لَا، وَمُقْتَضَاهُ إِلْحَاقُ مَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ دَرَى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ كَمَنْ لَفَّ عَلَيْهَا خِرْقَةً مَثَلًا فَاسْتَيْقَظَ وَهِيَ عَلَى حَالِهَا أَنْ لَا كَرَاهَةَ، وَإِنْ كَانَ غَسْلُهَا مُسْتَحَبًّا عَلَى الْمُخْتَارِ كَمَا فِي الْمُسْتَيْقِظِ، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ لِلتَّعَبُّدِ - كَمَالِكٍ - لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ شَاكٍّ وَمُتَيَقِّنٍ.

وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَبَيْنَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَعَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ تُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ، وَهُوَ صَحِيحٌ ; لَكِنَّ كَوْنَهَا تُؤَثِّرُ التَّنْجِيسَ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّأْثِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ التَّأْثِيرِ بِالتَّنْجِيسِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ بِالْمُتَيَقَّنِ أَشَدَّ مِنَ الْكَرَاهَةِ بِالْمَظْنُونِ قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ فِيهِ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ.

قَوْلُهُ: (أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ) أَيْ مِنْ جَسَدِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: كَانُوا يَسْتَجْمِرُونَ وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ، فَرُبَّمَا عَرِقَ أَحَدُهُمْ إِذَا نَامَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَطُوفَ يَدُهُ عَلَى الْمَحَلِّ أَوْ عَلَى بَثْرَةٍ أَوْ دَمِ حَيَوَانٍ أَوْ قَذَرٍ غَيْرِ ذَلِكَ. وَتَعَقَّبَهُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِغَسْلِ ثَوْبِ النَّائِمِ لِجَوَازِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْعَرَقُ فِي الْيَدِ دُونَ الْمَحَلِّ، أَوْ أَنَّ الْمُسْتَيْقِظَ لَا يُرِيدُ غَمْسَ ثَوْبِهِ فِي الْمَاءِ حَتَّى يُؤْمَرَ

ص: 264

بِغَسْلِهِ، بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى غَمْسِهَا، وَهَذَا أَقْوَى الْجَوَابَيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِمَحَلِّ الِاسْتِجْمَارِ مَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ فِي آخِرِهِ أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ مِنْهُ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ دُونَ قَوْلِهِ مِنْهُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهَا شُعْبَةُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقًا فَلَا، فَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْأَخْذُ بِالْوَثِيقَةِ، وَالْعَمَلُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْكِنَايَةُ عَمَّا يُسْتَحْيَا مِنْهُ إِذَا حَصَلَ الْإِفْهَامُ بِهَا، وَاسْتِحْبَابُ غَسْلِ النَّجَاسَةِ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِالتَّثْلِيثِ عِنْدَ تَوَهُّمِهَا فَعِنْدَ تَيَقُّنِهَا أَوْلَى. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ قَوْمٌ فَوَائِدَ أُخْرَى فِيهَا بُعْدٌ، مِنْهَا أَنَّ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ مَخْصُوصٌ بِالرُّخْصَةِ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ

(1)

، وَمِنْهَا إِيجَابُ الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَمِنْهَا تَقْوِيَةُ مَنْ يَقُولُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، حَكَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَمِنْهَا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِإِدْخَالِ الْيَدِ فِيهِ لِمَنْ أَرَادَ الْوُضُوءَ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ صَاحِبُ الْخِصَالِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.

‌27 - بَاب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَلَا يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ

163 -

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنَّا فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَنَا الْعَصْرُ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا -.

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَزَادَ أَبُو ذَرٍّ وَلَا يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُوسَى) ابْنُ إِسْمَاعِيلَ هُوَ التَّبُوذَكِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنَّا فِي سَفْرَةٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ سَافَرْنَاهَا وَظَاهِرُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ لِمُسْلِمٍ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ مُحَقَّقًا إِلَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَمَّا غَزْوَةُ الْفَتْحِ فَقَدْ كَانَ فِيهَا لَكِنْ مَا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ مَكَّةَ، بَلْ مِنَ الْجِعِرَّانَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ؛ فَإِنَّ هِجْرَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (أَرْهَقَنَا) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالْقَافِ وَالْعَصْرُ مَرْفُوعٌ بِالْفَاعِلِيَّةِ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ. وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِإِسْكَانِ الْقَافِ وَالْعَصْرَ مَنْصُوبٌ بِالْمَفْعُولِيَّةِ، وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ رِوَايَةُ الْأَصِيلِيِّ أَرْهَقَتْنَا بِفَتْحِ الْقَافِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ سَاكِنَةٌ. وَمَعْنَى الْإِرْهَاقِ الْإِدْرَاكُ وَالْغِشْيَانُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَأَنَّ الصَّحَابَةَ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ طَمَعًا أَنْ يَلْحَقَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيُصَلُّوا مَعَهُ، فَلَمَّا ضَاقَ الْوَقْتُ بَادَرُوا إِلَى الْوُضُوءِ وَلِعَجَلَتِهِمْ لَمْ يُسْبِغُوهُ، فَأَدْرَكَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَأْخِيرِهِمْ قَالَهُ احْتِمَالًا، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونُوا أَخَّرُوا؛ لِكَوْنِهِمْ عَلَى طُهْرٍ أَوْ لِرَجَاءِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ أَيْ: قُرْبَ دُخُولِ وَقْتِهَا فَتَوَضَّؤُوا وَهُمْ عِجَالٌ.

قَوْلُهُ: (وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا) انْتَزَعَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ كَانَ بِسَبَبِ الْمَسْحِ لَا بِسَبَبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ الرِّجْلِ، فَلِهَذَا قَالَ فِي التَّرْجَمَةِ: وَلَا يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ بِيضٌ تَلُوحُ

(1)

في مخطوط الرياض"الخفاف"

ص: 265

لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ فَتَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ بِإِجْزَاءِ الْمَسْحِ، وَبِحَمْلِ الْإِنْكَارِ عَلَى تَرْكِ التَّعْمِيمِ ; لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا أَرْجَحُ فَتُحْمَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَيْهَا بِالتَّأْوِيلِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَمَسَّهَا الْماءُ أَيْ: مَاءُ الْغُسْلِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ.

وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَهُ فَقَالَ ذَلِكَ: وَأَيْضًا فَمَنْ قَالَ بِالْمَسْحِ لَمْ يُوجِبْ مَسْحَ الْعَقِبِ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَمَّا أَمَرَهُمْ بِتَعْمِيمِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمَا لُمْعَةٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ فَرْضَهَا الْغَسْلُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ التَّعْمِيمَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْغَسْلَ، فَالرَّأْسُ تُعَمُّ بِالْمَسْحِ وَلَيْسَ فَرْضُهَا الْغَسْلَ.

قَوْلُهُ: (أَرْجُلِنَا) قَابَلَ الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ فَالْأَرْجُلُ مُوَزَّعَةٌ عَلَى الرِّجَالِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ رَجُلٍ أَرْجُلٌ.

قَوْلُهُ: (وَيْلٌ) جَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمِ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: لَوْ كَانَ الْمَاسِحُ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ لَمَا تُوُعِّدَ بِالنَّارِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ عَنِ الشِّيعَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمَسْحُ أَخْذًا بِظَاهِرِ قِرَاءَةِ (وَأَرْجُلِكُمْ) بِالْخَفْضِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صِفَةِ وُضُوئِهِ أَنَّهُ غَسَلَ رِجْلَيْهِ وَهُوَ الْمُبَيِّنُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مُطَوَّلًا فِي فَضْلِ الْوُضُوءِ ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُمُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْمَسْحَ مَنْسُوخٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (لِلْأَعْقَابِ) أَيِ: الْمَرْئِيَّةِ إِذْ ذَاكَ، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. وَيَلْتَحِقُ بِهَا مَا يُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ ; وَالْعَقِبُ مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: مَعْنَاهُ وَيْلٌ لِأَصْحَابِ الْأَعْقَابِ الْمُقَصِّرِينَ فِي غَسْلِهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّ الْعَقِبَ مُخْتَصٌّ بِالْعِقَابِ إِذَا قُصِّرَ فِي غَسْلِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ تَعْلِيمُ الْجَاهِلِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِنْكَارِ، وَتَكْرَارُ الْمَسْأَلَةِ لِتُفْهَمَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

‌28 - بَاب الْمَضْمَضَةِ فِي الْوُضُوءِ.

قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهم، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

164 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَضْمَضَةِ فِي الْوُضُوءِ) أَصْلُ الْمَضْمَضَةِ فِي اللُّغَةِ التَّحْرِيكُ، وَمِنْهُ: مَضْمَضَ النُّعَاسُ فِي عَيْنَيْهِ إِذَا تَحَرَّكَتَا بِالنُّعَاسِ، ثُمَّ اشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي وَضْعِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ وَتَحْرِيكِهِ.

وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ، فَأَكْمَلُهُ: أَنْ يَضَعَ الْمَاءَ فِي الْفَمِ ثُمَّ يُدِيرُهُ ثُمَّ يَمُجُّهُ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَحْرِيكُهُ وَلَا مَجُّهُ وَهُوَ عَجِيبٌ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَجُّ، بَلْ لَوِ ابْتَلَعَهُ أَوْ تَرَكَهُ حَتَّى يَسِيلَ أَجْزَأَ.

قَوْلُهُ: (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ) قَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي أَوَائِلِ الطَّهَارَةِ.

قَوْلُهُ: (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) سَيَأْتِي حَدِيثُهُ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ) كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِابْنِ عَسَاكِرَ

ص: 266

كِلْتَا رِجْلَيْهِ، وَهِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا صَاحِبُ الْعُمْدَةِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ كُلُّ رِجْلِهِ، وَهِيَ تُفِيدُ تَعْمِيمَ كُلِّ رِجْلٍ بِالْغَسْلِ، وَفِي نُسْخَةٍ رِجْلَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَهِيَ بِمَعْنَى الْأُولَى.

قَوْلُهُ: (لَا يُحَدِّثُ) تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ قَرِيبًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْإِخْلَاصَ، أَوْ تَرْكَ الْعُجْبِ بِأَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ مَزِيَّةً خَشْيَةَ أَنْ يَتَغَيَّرَ فَيَتَكَبَّرَ فَيَهْلِكَ.

قَوْلُهُ: (غَفَرَ اللَّهُ لَهُ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَلِغَيْرِهِ غُفِرَ لَهُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ، إِلَّا أَنَّ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنَ الزِّيَادَةِ رَفْعَ صِفَةِ الْوُضُوءِ إِلَى فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ لِيُونُسَ قال: الزُّهْرِيُّ: كَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ هَذَا الْوُضُوءُ أَسْبَغُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدٌ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ لَا يَرَى تَثْلِيثَ مَسْحِ الرَّأْسِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌29 - بَاب غَسْلِ الْأَعْقَابِ.

وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ إِذَا تَوَضَّأَ

165 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، قال: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا وَالنَّاسُ يَتَوَضَّؤُونَ مِنْ الْمِطْهَرَةِ، قال: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ؛ فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ قال: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ الْأَعْقَابِ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ خَالِدٍ عَنْهُ؛ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ حَرَّكَ خَاتَمَهُ، وَالْإِسْنَادَانِ صَحِيحَانِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَاسِعًا بِحَيْثُ يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى مَا تَحْتَهُ بِالتَّحْرِيكِ، وَفِي ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

قَوْلُهُ: (مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ) هُوَ الْجُمَحِيُّ الْمَدَنِيُّ لَا الْإِلْهَانِيُّ الْحِمْصِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ) الْوَاوُ حَالِيَّةٌ مِنْ مَفْعُولِ سَمِعْتُ، وَالنَّاسُ يَتَوَضَّؤُونَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَمُرُّ.

قَوْلُهُ: (الْمِطْهَرَةُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ هِيَ الْإِنَاءُ الْمُعَدُّ لِلتَّطَهُّرِ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (أَسْبِغُوا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَكْمِلُوا، وَكَأَنَّهُ رَأَى مِنْهُمْ تَقْصِيرًا وَخَشِيَ عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمَ) فِيهِ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكُنْيَتِهِ وَهُوَ حَسَنٌ، وَذِكْرُهُ بِوَصْفِ الرِّسَالَةِ أَحْسَنُ، وَفِيهِ أَنَّ الْعَالِمَ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَا يُفْتِي بِهِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ سَامِعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَعْقَابِ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِصُورَةِ السَّبَبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَيَلْتَحِقُ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي قَدْ يَحْصُلُ التَّسَاهُلُ فِي إِسْبَاغِهَا. وَفِي الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي التَّرْجَمَةِ أَثَرَ ابْنِ سِيرِينَ فِي غَسْلِهِ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْمَاءُ إِذَا كَانَ ضَيِّقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌30 - بَاب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي النَّعْلَيْنِ وَلَا يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ

166 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ؛ أَنَّهُ قال لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا، قال: وَمَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟ قال: رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، قال عَبْدُ اللَّهِ: أَمَّا الْأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ، وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ

ص: 267

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ.

[الحديث 166 - أطرافه في: 5851، 2865، 1609، 1552، 1514]

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي النَّعْلَيْنِ) لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَتَوَضَّأُ فِيهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوُضُوءِ هُوَ الْغَسْلُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى الْغَسْلِ، وَلَوْ أُرِيدَ الْمَسْحُ لَقَالَ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ) أَيْ: لَا يُكْتَفَى بِالْمَسْحِ عَلَيْهِمَا كَمَا فِي الْخُفَّيْنِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ مَسَحُوا عَلَى نِعَالِهِمْ فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ صَلَّوْا، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ لَكِنْ ضَعَّفَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ عَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْخُفَّيْنِ إِذَا تَخَرَّقَا حَتَّى تَبْدُوَ الْقَدَمَانِ أَنَّ الْمَسْحَ لَا يُجْزِئُ عَلَيْهِمَا، قال: فَكَذَلِكَ النَّعْلَانِ لِأَنَّهُمَا لَا يُفِيدَانِ الْقَدَمَيْنِ. انْتَهَى. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مُنَازَعٌ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ نُشِيرُ إِلَى مُلَخَّصٍ مِنْهَا: فَقَدْ تَمَسَّكَ مَنِ اكْتَفَى بِالْمَسْحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَرْجُلَكُمْ عَطْفًا عَلَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فَذَهَبَ إِلَى ظَاهِرِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ وَالثَّابِتُ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشِّيعَةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ الْوَاجِبُ الْغَسْلُ أَوِ الْمَسْحُ، وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَذْكُورَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ، وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ قُرِئَ {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى {أَيْدِيكُمْ} وَقِيلَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ {بِرُءُوسِكُمْ} كَقَوْلِهِ:{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} بِالنَّصْبِ.

وَقِيلَ: الْمَسْحُ فِي الْآيَةِ مَحْمُولٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَحَمَلُوا قِرَاءَةَ الْجَرِّ عَلَى مَسْحِ الْخُفَّيْنِ، وَقِرَاءَةَ النَّصْبِ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ تَقْرِيرًا حَسَنًا، فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ تَعَارُضٌ ظَاهِرٌ، وَالْحُكْمُ فِيمَا ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا وَجَبَ، وَإِلَّا عَمِلَ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَلَا يَتَأَتَّى الْجَمْعُ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَكْرَارِ الْمَسْحِ لِأَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَبَقِيَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِمَا فِي حَالَيْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ وَعَمَلًا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ.

وَقِيلَ: إِنَّمَا عُطِفَتْ عَلَى الرُّؤُوسِ الْمَمْسُوحَةِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةٌ لِكَثْرَةِ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا فَلِمَنْعِ الْإِسْرَافِ عُطِفَتْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تُمْسَحُ حَقِيقَةً. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمُرَادِ قَوْلُهُ:{إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ رُخْصَةٌ فَلَا يُقَيَّدُ بِالْغَايَةِ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ يُطْلَقُ عَلَى الْغَسْلِ الْخَفِيفِ، يُقَالُ: مَسَحَ أَطْرَافَهُ. لِمَنْ تَوَضَّأَ، ذَكَرَهُ أَبُو زَيْدٍ اللُّغَوِيُّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا.

قَوْلُهُ: (عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ) هُوَ مَدَنِيٌّ مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ جُرَيْجٍ الْفَقِيهِ الْمَكِّيِّ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ نَسَبٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ الْفَقِيهَ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنُ جُرَيْجٍ فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ هَذَا عَمُّهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ؛ لِأَنَّ عُبَيْدًا، وَسَعِيدًا تَابِعِيَّانِ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ.

قَوْلُهُ: (أَرْبَعًا) أَيْ أَرْبَعَ خِصَالٍ.

قَوْلُهُ: (لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ) أَيْ: أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ، وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ انْفِرَادُ ابْنِ عُمَرَ بِمَا ذُكِرَ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ رَآهُمْ عُبَيْدٌ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا يَصْنَعُهُنَّ غَيْرُكَ مُجْتَمِعَةً وَإِنْ كَانَ يَصْنَعُ بَعْضَهَا.

قَوْلُهُ: (الْأَرْكَانُ) أَيْ أَرْكَانُ الْكَعْبَةِ الْأَرْبَعَةُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ غَيْرَ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَآهُمْ

ص: 268

عُبَيْدٌ كَانُوا يَسْتَلِمُونَ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (السِّبْتِيَّةُ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ هِيَ الَّتِي لَا شَعْرَ فِيهَا، مُشْتَقَّةٌ مِنَ السَّبْتِ وَهُوَ الْحَلْقُ قَالَهُ فِي التَّهْذِيبِ، وَقِيلَ: السِّبْتُ جِلْدُ الْبَقَرِ الْمَدْبُوغِ بِالْقَرَظِ، وَقِيلَ بِالسُّبْتِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَهُوَ نَبْتٌ يُدْبَغُ بِهِ قَالَهُ صَاحِبُ الْمُنْتَهَى، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: قِيلَ لَهَا سِبْتِيَّةٌ لِأَنَّهَا انْسَبَتَتْ بِالدِّبَاغِ؛ أَيْ: لَانَتْ بِهِ، يُقَالُ: رَطْبَةٌ مُنْسَبِتَةٌ؛ أَيْ: لَيِّنَةٌ.

قَوْلُهُ: (تُصْبَغُ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَكَسْرُهَا، وَهَلِ الْمُرَادُ صَبْغُ الثَّوْبِ أَوِ الشَّعْرِ؟ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَهَلَّ النَّاسُ)؛ أَيْ: رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ) وَلِمُسْلِمٍ حَتَّى يَكُونَ (يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) أَيِ: الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَمُرَادُهُ فَتُهِلُّ أَنْتَ حِينَئِذٍ. وَتَبَيَّنَ مِنْ جَوَابِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُهِلُّ حَتَّى يَرْكَبَ قَاصِدًا إِلَى مِنًى، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا فِي الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قال عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ مُجِيبًا لِعُبَيْدٍ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي اللِّبَاسِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (الْيَمَانِيَيْنِ) تَثْنِيَةُ يَمَانٍ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ وَالَّذِي يُسَامِتْهُ مِنْ مُقَابَلَةِ الصَّفَا، وَقِيلَ لِلْأَسْوَدِ يَمَانٌ تَغْلِيبًا.

قَوْلُهُ: (فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْبَاقِينَ فَأَنَا أُحِبُّ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَسَيَأْتِي بَاقِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌31 - بَاب التَّيَمُّنِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ

167 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قال: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ، قال: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُنَّ فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا.

[الحديث 167 - أطرافه في: 1263، 1262، 1261، 1260، 1259، 1258، 1257، 1256، 1255، 1254، 125]

168 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ"

[الحديث 168 - أطرافه في: 5926، 5854، 5380، 426]

قَوْلُهُ (بَابُ التَّيَمُّنِ)؛ أَيْ: الِابْتِدَاءُ بِالْيَمِينِ.

قَوْلُهُ: (إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَخَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (فِي غَسْلِ)؛ أَيْ: فِي صِفَةِ غَسْلِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ عليها السلام كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ مِنَ الْحَدِيثِ طَرَفًا لِيُبَيِّنَ بِهِ الْمُرَادَ بِقَوْلِ عَائِشَةَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ؛ إِذْ هُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ بِالْيَمِينِ وَتَعَاطِي الشَّيْءِ بِالْيَمِينِ وَالتَّبَرُّكِ وَقَصْدِ الْيَمِينِ، فَبَانَ بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطُّهُورِ الْأَوَّلُ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبِي) هُوَ سُلَيْمُ بْنُ أَسْوَدَ الْمُحَارِبِيُّ الْكُوفِيُّ أَبُو الشَّعْثَاءِ، مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمِهِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ كَشَيْخِهِ مَسْرُوقٍ؛ فَهُمَا قَرِينَانِ كَمَا أَنَّ أَشْعَثَ، وَشُعْبَةَ قَرِينَانِ وَهُمَا مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنَ) قِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ إِذْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ. وَزَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّلَاةِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ مَا اسْتَطَاعَ، فَنَبَّهَ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ.

قَوْلُهُ: (فِي تَنَعُّلِهِ)؛ أَيْ: لُبْسِ نَعْلِهِ (وَتَرَجُّلِهِ)؛ أَيْ: تَرْجِيلِ شَعْرِهِ وَهُوَ تَسْرِيحُهُ وَدَهْنُهُ، قال: فِي الْمَشَارِقِ: رَجَّلَ شَعْرَهُ إِذَا مَشَّطَهُ بِمَاءٍ أَوْ دُهْنٍ لِيَلِينَ وَيُرْسِلَ الثَّائِرَ وَيَمُدَّ الْمُنْقَبِضَ، زَادَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ وَسِوَاكِهِ.

قَوْلُهُ: (فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنَ الرُّوَاةِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَفِي

ص: 269

رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَهِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا صَاحِبُ الْعُمْدَةِ، قال: الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْخَلَاءِ وَالْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَنَحْوَهُمَا يُبْدَأُ فِيهِمَا بِالْيَسَارِ، انْتَهَى.

وَتَأْكِيدُ الشَّأْنِ بِقَوْلِهِ كُلِّهِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يَرْفَعُ الْمَجَازَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: حَقِيقَةُ الشَّأْنِ مَا كَانَ فِعْلًا مَقْصُودًا، وَمَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ التَّيَاسُرُ لَيْسَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَقْصُودَةِ، بَلْ هِيَ إِمَّا تُرُوكٌ وَإِمَّا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ إِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَأَمَّا عَلَى إِسْقَاطِهَا فَقَوْلُهُ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ مُتَعَلِّقٌ بِـ يُعْجِبُهُ لَا بِالتَّيَمُّنِ، أَيْ يُعْجِبُهُ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ التَّيَمُّنَ فِي تَنَعُّلِهِ. . . إِلَخْ؛ أَيْ: لَا يَتْرُكُ ذَلِكَ سَفَرًا وَلَا حَضَرًا وَلَا فِي فَرَاغِهِ وَلَا شُغْلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ فِي شَأْنِهِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي تَنَعُّلِهِ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ. قال: وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ التَّنَعُّلَ لِتَعَلُّقِهِ بِالرِّجْلِ، وَالتَّرَجُّلَ لِتَعَلُّقِهِ بِالرَّأْسِ، وَالطُّهُورَ لِكَوْنِهِ مِفْتَاحَ أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ، فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فَيَكُونُ كَبَدَلِ الْكُلِّ مِنَ الْكُلِّ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِتَقْدِيمِ قَوْلِهِ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ عَلَى قَوْلِهِ فِي تَنَعُّلِهِ. . . إِلَخْ وَعَلَيْهَا شَرَحَ الطِّيبِيُّ، وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَاهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ظَاهِرِ السِّيَاقِ الْوَارِدِ هُنَا، لَكِنْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ أَنَّ أَشْعَثَ شَيْخَهُ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً مُقْتَصِرًا عَلَى قَوْلِهِ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ وَتَارَةً عَلَى قَوْلِهِ فِي تَنَعُّلِهِ. . .

إِلَخْ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَيْضًا كَانَتْ تُجْمِلُهُ تَارَةً وَتُبَيِّنُهُ أُخْرَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَصْلُ الْحَدِيثِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّنَعُّلِ وَغَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ كِلَاهُمَا، عَنْ أَشْعَثَ بِدُونِ قَوْلِهِ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، وَكَأَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُقْتَصِرَةَ عَلَى فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فِي طُهُورِهِ وَنَعْلِهِ بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ؛ أَيْ: هَيْئَةِ تَنَعُّلِهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ فِي مُسْلِمٍ وَنَعَلِهِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ.

وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الْبَدَاءَةِ بِشِقِّ الرَّأْسِ الْأَيْمَنِ فِي التَّرَجُّلِ وَالْغُسْلِ وَالْحَلْقِ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ مِنْ بَابِ الْإِزَالَةِ فَيُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَيْسَرِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ وَالتَّزْيِينِ، وَقَدْ ثَبَتَ الِابْتِدَاءُ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ فِي الْحَلْقِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَفِيهِ الْبَدَاءَةُ بِالرِّجْلِ الْيُمْنَى فِي التَّنَعُّلِ وَفِي إِزَالَتِهَا بِالْيُسْرَى، وَفِيهِ الْبَدَاءَةُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى فِي الْوُضُوءِ وَكَذَا الرِّجْلُ، وَبِالشِّقِّ الْأَيْمَنُ فِي الْغُسْلِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَفِي مَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ وَفِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْيَمِينِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، قال: النَّوَوِيُّ: قَاعِدَةُ الشَّرْعِ الْمُسْتَمِرَّةُ اسْتِحْبَابُ الْبَدَاءَةِ بِالْيَمِينِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّزْيِينِ، وَمَا كَانَ بِضِدِّهِمَا اسْتُحِبَّ فِيهِ التَّيَاسُرُ.

قال: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْيَمِينِ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ مَنْ خَالَفَهَا فَاتَهُ الْفَضْلُ وَتَمَّ وُضُوؤُهُ، انْتَهَى. وَمُرَادُهُ بِالْعُلَمَاءِ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَإِلَّا فَمَذْهَبُ الشِّيعَةِ الْوُجُوبُ، وَغَلِطَ الْمُرْتَضَى مِنْهُمْ فَنَسَبَهُ لِلشَّافِعِيِّ، وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ مِنْ قَوْلِهِ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فِي الْيَدَيْنِ وَلَا فِي الرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّهُمَا جُمِعَا فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ حُكْمُهُمْ عَلَى الْمَاءِ بِالِاسْتِعْمَالِ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ أُخْرَى، مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْمَاءَ مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا عَلَى الْعُضْوِ لَا يُسَمَّى مُسْتَعْمَلًا، وَفِي اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ مُنَكِّسًا، وَكَذَلِكَ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ قَدَّمَ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى.

وَوَقَعَ فِي الْبَيَانِ لِلْعِمْرَانِيِّ وَالتَّجْرِيدِ لِلْبَنْدَنِيجِيِّ نِسْبَةُ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ إِلَى الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ مِنَ الشِّيعَةِ. وَفِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ مَا يُوهِمُ أَنَّ أَحْمَدَ، قال بِوُجُوبِهِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْهُ، بَلْ قال الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي: لَا نَعْلَمُ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ خِلَافًا.

ص: 270

‌32 - بَاب الْتِمَاسِ الْوَضُوءِ إِذَا حَانَتْ الصَّلَاةُ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَضَرَتْ الصُّبْحُ فَالْتُمِسَ الْمَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ.

169 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، قال: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.

[الحديث 169 - أطرافه في: 3575، 3574، 3573، 3572، 200، 195]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْتِمَاسِ الْوَضُوءِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ؛ أَيْ: طَلَبِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ (إِذَا حَانَتِ) بِالْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ: قَرُبَتِ (الصَّلَاةُ)، وَالْمُرَادُ وَقْتُهَا الَّذِي تُوقَعُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهَا فِي قِصَّةِ نُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَاقَهُ هُنَا بِلَفْظِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا، وَهُوَ مَوْصُولٌ عِنْدَهُ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ، قال ابْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ طَلَبُ الْمَاءِ لِلتَّطْهِيرِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمُ التَّأْخِيرَ فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ.

قَوْلُهُ: (فَالْتُمِسَ) بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَالْتَمَسُوا.

قَوْلُهُ: (وَحَانَ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَحَانَتْ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ.

قَوْلُهُ: (الْوَضُوءُ) بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيِ: الْمَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَجِدُوا) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَلَمْ يَجِدُوهُ بِزِيَادَةِ الضَّمِيرِ.

قَوْلُهُ: (فَأُتِيَ) بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالزَّوْرَاءِ وَهُوَ سُوقٌ بِالْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (بِوَضُوءٍ) بِالْفَتْحِ؛ أَيْ: بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ لِيَتَوَضَّأَ بِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَجَاءَ رَجُلٌ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ يَسِيرٌ، فَصَغُرَ أَنْ يَبْسُطَ صلى الله عليه وسلم فِيهِ كَفَّهُ فَضَمَّ أَصَابِعَهُ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ الْآتِيَةِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنَ الْمِخْضَبِ.

قَوْلُهُ: (يَنْبُعُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَفَتْحُهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مُسْتَوْعَبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَوَضَّؤُوا مِنْ عِنْدَ آخِرِهِمْ)، قال: الْكِرْمَانِيُّ حَتَّى لِلتَّدْرِيجِ وَمِنْ لِلْبَيَانِ؛ أَيْ: تَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّأَ الَّذِينَ عِنْدَ آخِرِهِمْ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ جَمِيعِهِمْ، قال: وَعِنْدَ بِمَعْنَى فِي؛ لِأَنَّ عِنْدَ وَإِنْ كَانَتْ لِلظَّرْفِيَّةِ الْخَاصَّةِ لَكِنَّ الْمُبَالَغَةَ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ لِمُطْلَقِ الظَّرْفِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قال: الَّذِينَ هُمْ فِي آخِرِهِمْ. وَقَالَ التَّيْمِيُّ: الْمَعْنَى تَوَضَّأَ الْقَوْمُ حَتَّى وَصَلَتِ النَّوْبَةُ إِلَى الْآخِرِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مِنْ هُنَا بِمَعْنَى إِلَى وَهِيَ لُغَةٌ. وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهَا شَاذَّةٌ، قال: ثُمَّ إِنَّ إِلَى لَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى عِنْدَ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا قال التَّيْمِيُّ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْأَخِيرُ، لَكِنْ مَا قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ مِنْ أَنَّ إِلَى لَا تَدْخُلُ عَلَى عِنْدَ، لَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي مِنْ إِذَا وَقَعَتْ بِمَعْنَى إِلَى، وَعَلَى تَوْجِيهِ النَّوَوِيِّ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: عِنْدَ زَائِدَةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُوَاسَاةَ مَشْرُوعَةٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمَنْ كَانَ فِي مَائِهِ فَضْلٌ عَنْ وُضُوئِهِ. وَفِيهِ أَنَّ اغْتِرَافَ الْمُتَوَضِّئِ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُصَيِّرُ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِغَسْلِ الْيَدِ قَبْلَ إِدْخَالِهَا الْإِنَاءَ أَمْرُ نَدْبٍ لَا حَتْمٍ.

(تَنْبِيهٌ):، قال ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ - يَعْنِي حَدِيثَ نَبْعِ الْمَاءِ - شَهِدَهُ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِلَّا

ص: 271

أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ؛ وَذَلِكَ لِطُولِ عُمْرِهِ وَلِطَلَبِ النَّاسِ عُلُوَّ السَّنَدِ. كَذَا قال. وَقَدْ قال الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذِهِ الْقِصَّةُ رَوَاهَا الْعَدَدُ الْكَثِيرُ مِنَ الثِّقَاتِ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ عَنِ الْكَافَّةِ مُتَّصِلًا عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِنْكَارُ ذَلِكَ فَهُوَ مُلْتَحِقٌ بِالْقَطْعِيِّ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، انْتَهَى. فَانْظُرْ كَمْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ وَسَنُحَرِّرُ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي كِتَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌33 - بَاب الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الْإِنْسَانِ.

وَكَانَ عَطَاءٌ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ وَسُؤْرِ الْكِلَابِ وَمَمَرِّهَا فِي الْمَسْجِدِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِذَا وَلَغَ فِي إِنَاءٍ لَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: هَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَهَذَا مَاءٌ. وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَاءِ)؛ أَيْ: حُكْمِ الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعْرُ الْإِنْسَانِ. أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى أَنَّ حُكْمَهُ الطَّهَارَةُ؛ لِأَنَّ الْمُغْتَسِلَ قَدْ يَقَعُ فِي مَاءِ غُسْلِهِ مِنْ شَعْرِهِ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَتَنَجَّسَ الْمَاءُ بِمُلَاقَاتِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَجَنَّبَ ذَلِكَ فِي اغْتِسَالِهِ، بَلْ كَانَ يُخَلِّلُ أُصُولَ شَعْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَذَلِكَ يُفْضِي غَالِبًا إِلَى تَنَاثُرِ بَعْضِهِ فَدَلَّ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَيْضًا وَصَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَصَحَّحَ جَمَاعَةٌ الْقَوْلَ بِتَنْجِيسِهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى طَهَارَتِهِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ شَعْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُكَرَّمٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَنَقَضَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ الْخُصُوصِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، قَالُوا: وَيَلْزَمُ الْقَائِلُ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَحْتَجَّ عَلَى طَهَارَةِ الْمَنِيِّ بِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِهِ صلى الله عليه وسلم لِإِمْكَانِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: مَنِيُّهُ طَاهِرٌ فَلَا يُقَاسُ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ إِلَّا فِيمَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَقَدْ تَكَاثَرَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى طَهَارَةِ فَضَلَاتِهِ وَعَدَّ الْأَئِمَّةُ ذَلِكَ فِي خَصَائِصِهِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي كُتُبِ كَثِيرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَ أَئِمَّتُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِالطَّهَارَةِ

وَهَذَا كُلُّهُ فِي شَعْرِ الْآدَمِيِّ.

أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ غَيْرُ الْمَأْكُولِ الْمُذَكَّى فَفِيهِ اخْتِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ هَلْ تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ فَيَنْجُسُ بِالْمَوْتِ أَوْ لَا؟ فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى خِلَافِهِ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَلَى أَنَّهُ لَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ فَلَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ وَلَا بِالِانْفِصَالٍ بِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى طَهَارَةِ مَا يُجَزُّ مِنَ الشَّاةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، وَعَلَى نَجَاسَةِ مَا يُقْطَعُ مِنْ أَعْضَائِهَا وَهِيَ حَيَّةٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَعَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حَالَتَيِ الْمَوْتِ وَالِانْفِصَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا. يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَا عَدَا مَا يُؤْكَلُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ لَا يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ اهـ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى رِيشِ الْمَيْتَةِ وَعَظْمِهَا فِي بَابٍ مُفْرَدٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَطَاءٌ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفَاكِهِيُّ فِي أَخْبَارِ مَكَّةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى عَطَاءٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالِانْتِفَاعِ بِشُعُورِ النَّاسِ الَّتِي تُحْلَقُ بِمِنًى.

قَوْلُهُ: (وَسُؤْرِ الْكِلَابِ) هُوَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ الْمَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ وَبَابُ سُؤْرِ الْكِلَابِ؛ أَيْ: مَا حُكْمُهُ؟ وَالسُّؤْرُ الْبَقِيَّةُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَقُولُ بِطَهَارَتِهِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَكْلُهَا وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ) جَمَعَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ

ص: 272

بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ وَهُمَا حُكْمُ شَعْرِ الْآدَمِيِّ وَسُؤْرِ الْكَلْبِ. فَذَكَرَ التَّرْجَمَةَ الْأُولَى وَأَثَرَهَا مَعَهَا، ثُمَّ ثَنَّى بِالثَّانِيَةِ وَأَثَرَهَا مَعَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دَلِيلِ الْأُولَى مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، ثُمَّ ثَنَّى بِأَدِلَّةِ الثَّانِيَةِ. وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ هَذَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ وَلَفْظُهُ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ فِي إِنَاءٍ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ فَلَمْ يَجِدُوا مَاءً غَيْرَهُ، قال: يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُفْيَانُ) الْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ لِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا بِالرِّوَايَةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ دُونَ الثَّوْرِيِّ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الثَّوْرِيُّ، فَإِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ عَقَّبَ أَثَرَ الزُّهْرِيِّ هَذَا بِقَوْلِهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، فَقَالَ: وَاللَّهِ هَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ. . . فَذَكَرَهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ شَيْءٌ فَأَرَى أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ وَيَتَيَمَّمَ، فَسَمَّى الثَّوْرِيُّ الْأَخْذَ بِدَلَالَةِ الْعُمُومِ فِقْهًا، وَهِيَ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} لِكَوْنِهَا نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ وَلَا تَخُصُّ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَتَنْجِيسُ الْمَاءِ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ فِيهِ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَزَادَ مِنْ رَأْيِهِ التَّيَمُّمُ احْتِيَاطًا. وَتَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ جَوَازَ التَّوَضُّؤِ بِهِ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ يَدُلُّ عَلَى تَنْجِيسِهِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ أَوْلَى، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ - وَهُوَ يَعْتَقِدُ طَهَارَتَهُ - إِلَى التَّيَمُّمِ، وَأَمَّا فُتْيَا سُفْيَانَ بِالتَّيَمُّمِ بَعْدَ الْوُضُوءِ بِهِ فَلِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ مِنْ أَجْلِ الِاخْتِلَافِ فَاحْتَاطَ لِلْعِبَادَةِ، وَقَدْ تُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يَكُونَ جَسَدُهُ طَاهِرًا بِلَا شَكٍّ فَيَصِيرُ بِاسْتِعْمَالِهِ مَشْكُوكًا فِي طَهَارَتِهِ، وَلِهَذَا قال بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: الْأَوْلَى أَنْ يُرِيقَ ذَلِكَ الْمَاءَ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ سُفْيَانَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَاءً، وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَلَى الْبُخَارِيِّ، وَفِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ {فَلَمْ تَجِدُوا} وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلتِّلَاوَةِ. وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ لِإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي - يَعْنِي بِإِسْنَادِهِ إِلَى سُفْيَانَ -، قال: وَمَا أَعْرِفُ مَنْ قَرَأَ بِذَلِكَ. قُلْتُ: لَعَلَّ الثَّوْرِيَّ حَكَاهُ بِالْمَعْنَى وَكَانَ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَرَّ الْمُصَنِّفَ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

170 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قال: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، قال: قُلْتُ لِعَبِيدَةَ: عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ أَنَسٍ؛ فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

[الحديث 170 - طرفه في: 171]

171 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قال: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قال: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ

قَوْلُهُ: (عَنْ عَاصِمٍ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَابْنُ سِيرِينَ هُوَ مُحَمَّدٌ، وَعُبَيْدَةُ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو السَّلْمَانِيُّ أَحَدُ كِبَارِ التَّابِعِينَ الْمُخَضْرَمِينَ أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَنَتَيْنِ وَلَمْ يَرَهُ.

قَوْلُهُ: (مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي شيء.

قَوْلُهُ: (أَصَبْنَاهُ)؛ أَيْ: حَصَلَ لَنَا مِنْ جِهَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِإِيرَادِ هَذَا الْأَثَرِ تَقْرِيرَ أَنَّ الشَّعَرَ الَّذِي حَصَلَ لِأَبِي طَلْحَةَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ بَقِيَ عِنْدَ آلِ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ صَارَ لِمَوَالِيهِمْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ سِيرِينَ وَالِدَ مُحَمَّدٍ كَانَ مَوْلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ أَنَسٌ رَبِيبَ أَبِي طَلْحَةَ.

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى التَّرْجَمَةِ أَنَّ الشَّعْرَ طَاهِرٌ وَإِلَّا لَمَا حَفِظُوهُ وَلَا تَمَنَّى عُبَيْدَةُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ طَاهِرًا فَالْمَاءُ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ طَاهِرٌ.

ص: 273

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبَّادٌ) هُوَ ابْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ لِأَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ شَيْخِ شَيْخِهِ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بَلْ سَمِعَ مِنْ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَوْنٍ فَيَقَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ عَوْنٍ وَاحِدٌ، وَهُنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ثَلَاثة أَنْفُسٍ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا حَلَقَ)؛ أَيْ: أَمَرَ الْحَلَّاقَ فَحَلَقَهُ، فَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ مَجَازًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.

قَوْلُهُ: (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ) يَعْنِي الْأَنْصَارِيَّ زَوْجَ أُمِّ سُلَيْمٍ وَالِدَةِ أَنَسٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورِ أَبَيْنَ مِمَّا سَاقَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ وَلَفْظُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْحَلَّاقَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَدَفَعَ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ الشِّقَّ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ حَلَقَ الشِّقَّ الْآخَرَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ النَّاسِ.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ لَمَّا رَمَى الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ: اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامٍ أَنَّهُ قَسَمَ الْأَيْمَنَ فِيمَنْ يَلِيهِ، وَفِي لَفْظٍ فَوَزَّعَهُ بَيْنَ النَّاسِ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ، وَأَعْطَى الْأَيْسَرَ أُمَّ سُلَيْمٍ، وَفِي لَفْظٍ أَبَا طَلْحَةَ وَلَا تَنَاقُضَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، بَلْ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُا أَنَّهُ نَاوَلَ أَبَا طَلْحَةَ كُلًّا مِنَ الشِّقَّيْنِ فَأَمَّا الْأَيْمَنُ فَوَزَّعَهُ أَبُو طَلْحَةَ بِأَمْرِهِ وَأَمَّا الْأَيْسَرُ فَأَعْطَاهُ لِأُمِّ سُلَيْمٍ زَوْجَتِهِ بِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا، زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ لِتَجْعَلَهُ فِي طِيبِهَا، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ يَقْسِمُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ يَعُودُ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ؛ فَقَالَ: اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ، قال: النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْبَدَاءَةِ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ مِنْ رَأْسِ الْمَحْلُوقِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَفِيهِ طَهَارَةُ شَعْرِ الْآدَمِيِّ وَبِهِ قال: الْجُمْهُورُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِشَعْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَجَوَازُ اقْتِنَائِهِ، وَفِيهِ الْمُوَاسَاةُ بَيْنَ الْأَصْحَابِ فِي الْعَطِيَّةِ وَالْهَدِيَّةِ. أَقُولُ: وَفِيهِ أَنَّ الْمُوَاسَاةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمُسَاوَاةَ.

وَفِيهِ تَنْفِيلُ مَنْ يَتَوَلَّى التَّفْرِقَةَ عَلَى غَيْرِهِ، قال: وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِ الْحَالِقِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ بِمُعْجَمَتَيْنِ اهـ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ خِرَاشًا كَانَ الْحَالِقَ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَعَ هُنَا - فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ - قَبْلَ إِيرَادِ حَدِيثِ مَالِكٍ بَابُ إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ.

172 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا.

قَوْلُهُ (إِذَا شَرِبَ) كَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ إِذَا وَلَغَ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ: وَلَغَ يَلَغُ - بِالْفَتْحِ فِيهِمَا - إِذَا شَرِبَ بِطَرَفِ لِسَانِهِ، أَوْ أَدْخَلَ لِسَانَهُ فِيهِ فَحَرَّكَهُ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ أَنْ يُدْخِلَ لِسَانَهُ فِي الْمَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ مَائِعٍ فَيُحَرِّكَهُ، زَادَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ: شَرِبَ أَوْ لَمْ يَشْرَبْ. وَقَالَ ابْنُ مَكِّيٍّ: فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَائِعٍ يُقَالُ لَعِقَهُ. وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: فَإِنْ كَانَ فَارِغًا يُقَالُ لَحِسَهُ.

وَادَّعَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ لَفْظَ شَرِبَ لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا مَالِكٌ، وَأَنَّ غَيْرَهُ رَوَاهُ بِلَفْظِ وَلَغَ، وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقَيْنِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ إِذَا شَرِبَ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ بِلَفْظِ إِذَا وَلَغَ، كَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ شَيْخُ مَالِكٍ بِلَفْظِ

ص: 274

إِذَا شَرِبَ وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ، وَكَذَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، نَعَمْ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ إِذَا وَلَغَ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الطَّهُورِ لَهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا، وَكَأَنَّ أَبَا الزِّنَادِ حَدَّثَ بِهِ بِاللَّفْظَيْنِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَعْنَى، لَكِنَّ الشُّرْبَ كَمَا بَيَّنَّا أَخَصُّ مِنَ الْوُلُوغِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ.

وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ إِذَا وَلَغَ يَقْتَضِي قَصْرَ الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ لِلتَّنْجِيسِ يَتَعَدَّى الْحُكْمَ إِلَى مَا إِذَا لَحِسَ أَوْ لَعِقَ مَثَلًا، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْوُلُوغِ لِلْغَالِبِ، وَأَمَّا إِلْحَاقُ بَاقِي أَعْضَائِهِ كَيَدِهِ وَرِجْلِهِ فَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فَمَهُ أَشْرَفُهَا فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَخَصَّهُ فِي الْقَدِيمِ بالْأَوَّلِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: إِنَّهُ وَجْهٌ شَاذٌّ. وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إِنَّهُ الْقَوِيُّ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلِ، وَالْأَوْلَوِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ قَدْ تُمْنَعُ لِكَوْنِ فَمِهِ مَحَلَّ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَاتِ.

قَوْلُهُ: (فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ) ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي الْآنِيَةِ، وَمَفْهُومُهُ يُخْرِجُ الْمَاءَ الْمُسْتَنْقَعَ مَثَلًا، وَبِهِ قال: الْأَوْزَاعِيُّ مُطْلَقًا، لَكِنْ إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْغَسْلَ لِلتَّنْجِيسِ يَجْرِي الْحُكْمُ فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْمَاءِ دُونَ الْكَثِيرِ، وَالْإِضَافَةُ الَّتِي فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ يُلْغَى اعْتِبَارُهَا هُنَا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى مِلْكِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ فَلْيَغْسِلْهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْغَاسِلَ. وَزَادَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَأَبِي رَزِينٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلْيُرِقْهُ وَهُوَ يُقَوِّي الْقَوْلَ بِأَنَّ الْغَسْلَ لِلتَّنْجِيسِ، إِذِ الْمُرَاقُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَاءً أَوْ طَعَامًا، فَلَوْ كَانَ طَاهِرًا لَمْ يُؤْمَرْ بِإِرَاقَتِهِ لِلنَّهْيِ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، لَكِنْ قال النَّسَائِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ عَلِيَّ بْنَ مُسْهِرٍ عَلَى زِيَادَةِ فَلْيُرِقْهُ. وَقَالَ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ: إِنَّهَا غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَذْكُرْهَا الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ، كَأَبِي مُعَاوِيَةَ، وَشُعْبَةَ. وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: لَا تُعْرَفُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوِهِ إِلَّا عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. قُلْتُ: قَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْإِرَاقَةِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، لَكِنْ فِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وَكَذَا ذَكَرَ الْإِرَاقَةَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَغْسِلْهُ) يَقْتَضِي الْفَوْرَ، لَكِنْ حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ إِلَّا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ ذَلِكَ الْإِنَاءَ.

قَوْلُهُ: (سَبْعًا)؛ أَيْ: سَبْعَ مِرَارٍ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ التَّتْرِيبُ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي رَافِعٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالِدِ السُّدِّيِّ عِنْدَ الْبَزَّارِ. وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي مَحَلِّ غَسْلَةِ التَّتْرِيبِ، فَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْهُ أُولَاهُنَّ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ الْمَذْكُورَةِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْهُ أُولَاهُنَّ أَيْضًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ أَبَانُ عَنْ قَتَادَةَ السَّابِعَةُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلِلشَّافِعِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أُولَاهُنَّ أَوْ إِحْدَاهُنَّ

(1)

. وَفِي رِوَايَةِ السُّدِّيِّ، عَنِ الْبَزَّارِ إِحْدَاهُنَّ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْهُ، فَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنْ يُقَالَ إِحْدَاهُنَّ مُبْهَمَةٌ وَأُولَاهُنَّ وَالسَّابِعَةُ مُعَيَّنَةٌ وَأَوْ إِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ فَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ فَمُقْتَضَى حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى

(1)

في مخطوطة الرياض"أوأخراهن"

ص: 275

الرِّوَايَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْبُوَيْطِيُّ وَصَرَّحَ بِهِ الْمَرْعَشِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ وَذَكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَالسُّبْكِيُّ بَحْثًا، وَهُوَ مَنْصُوصٌ كَمَا ذَكَرْنَا.

وَإِنْ كَانَتْ أَوْ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي فَرِوَايَةُ مَنْ عَيَّنَ وَلَمْ يَشُكَّ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ أَبْهَمَ أَوْ شَكَّ، فَيَبْقَى النَّظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ رِوَايَةِ أُولَاهُنَّ وَرِوَايَةِ السَّابِعَةِ، وَرِوَايَةُ أُولَاهُنَّ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ الْأَكْثَرِيَّةُ وَالْأَحْفَظِيَّةُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَتْرِيبَ الْأَخِيرَةِ يَقْتَضِي الِاحْتِيَاجَ إِلَى غَسْلَةٍ أُخْرَى لِتَنْظِيفِهِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي حَرْمَلَةَ عَلَى أَنَّ الْأُولَى أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ يَتَعَدَّى عَنْ مَحَلِّهَا إِلَى مَا يُجَاوِرُهَا بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَائِعًا، وَعَلَى تَنْجِيسِ الْمَائِعَاتِ إِذَا وَقَعَ فِي جُزْءٍ مِنْهَا نَجَاسَةٌ، وَعَلَى تَنْجِيسِ الْإِنَاءِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْمَائِعِ، وَعَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ؛ لِأَنَّ وُلُوغَ الْكَلْبِ لَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْإِنَاءِ غَالِبًا، وَعَلَى أَنَّ وُرُودَ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ يُخَالِفُ وُرُودَهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِإِرَاقَةِ الْمَاءِ لَمَّا وَرَدَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي إِرَاقَةِ جَمِيعِهِ وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ، وَحَقِيقَتُهُ تَتَأَدَّى بِمَا يُسَمَّى غَسْلًا وَلَوْ كَانَ مَا يُغْسَلُ بِهِ أَقَلَّ مِمَّا أُرِيقَ.

(فَائِدَةٌ): خَالَفَ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، فَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّتْرِيبِ أَصْلًا مَعَ إِيجَابِهِمُ التَّسْبِيعَ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ التَّتْرِيبَ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، قال الْقَرَافِيُّ مِنْهُمْ: قَدْ صَحَّتْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ، فَالْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ لَمْ يَقُولُوا بِهَا. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّسْبِيعِ لِلنَّدْبِ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ لَكِنَّهُ لِلتَّعَبُّدِ لِكَوْنِ الْكَلْبِ طَاهِرًا عِنْدَهُمْ، وَأَبْدَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ لَهُ حِكْمَةً غَيْرَ التَّنْجِيسِ كَمَا سَيَأْتِي. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ بِأَنَّهُ نَجِسُ، لَكِنَّ قَاعِدَتَهُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ، فَلَا يَجِبُ التَّسْبِيعُ لِلنَّجَاسَةِ بَلْ لِلتَّعَبُّدِ، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ تُسْتَعْمَلُ إِمَّا عَنْ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ، وَلَا حَدَثَ عَلَى الْإِنَاءِ فَتَعَيَّنَ الْخَبَثُ. وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الْحَصْرِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَقَدْ قِيلَ لَهُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ نَاشِئٌ عَنْ حَدَثٍ، فَلَمَّا قَامَ يطهر مَا يُطَهِّرُ الْحَدَثَ سُمِّيَ طَهُورًا. وَمَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ يَمْنَعُ هَذَا الْإِيرَادَ مِنْ أَصْلِهِ

(1)

.

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ أَلْفَاظَ الشَّرْعِ إِذَا دَارَتْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ حُمِلَتْ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا إِذَا قَامَ دَلِيلٌ، وَدَعْوَى بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْغَسْلِ مِنْ وُلُوغِهِ الْكَلْبُ الْمَنْهِيُّ عَنِ اتِّخَاذِهِ دُونَ الْمَأْذُونِ فِيهِ يَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ تَقَدُّمِ النَّهْيِ عَنِ الِاتِّخَاذِ عَنِ الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ، وَإِلَى قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِي اتِّخَاذِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ الْكَلْبُ أَنَّهَا لِلْجِنْسِ أَوْ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ فَيَحْتَاجُ الْمُدَّعِي أَنَّهَا لِلْعَهْدِ إِلَى دَلِيلٍ، وَمِثْلُهُ تَفْرِقَةُ بَعْضِهِمْ بَيْنَ الْبَدَوِيِّ وَالْحَضَرِيِّ، وَدَعْوَى بَعْضِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْكَلْبِ الْكَلِبِ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الْأَمْرِ بِغَسْلِهِ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ السَّبْعَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ كَقَوْلِهِ صُبُّوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، قَوْلُهُ مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْكَلْبَ الْكَلِبَ لَا يَقْرَبُ الْمَاءَ فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِالْغَسْلِ مِنْ وُلُوغِهِ؟ وَأَجَابَ حَفِيدُ ابْنِ رُشْدٍ بِأَنَّهُ لَا يَقْرَبُ الْمَاءَ بَعْدَ اسْتِحْكَامِ الْكَلْبِ مِنْهُ، أَمَّا فِي ابْتِدَائِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ.

وَهَذَا التَّعْلِيلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ لَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّخْصِيصَ بِلَا دَلِيلٍ وَالتَّعْلِيلُ بِالتَّنْجِيسِ أَقْوَى لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْغَسْلَ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ بِأَنَّهُ رِجْسٌ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافَهُ،

(1)

وهو الصواب لظاهر الكتاب والسنة، وليس مع من منع ذلك حجة يحسن الاعتماد عليها

ص: 276

وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ إِنَاءِ الْمَاءِ فَيُرَاقُ وَيُغْسَلُ وَبَيْنَ إِنَاءِ الطَّعَامِ فَيُؤْكَلُ ثُمَّ يُغْسَلُ الْإِنَاءُ تَعَبُّدًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِرَاقَةِ عَامٌّ فَيُخَصُّ الطَّعَامُ مِنْهُ بِالنَّهْيِ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَعُورِضَ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْإِضَاعَةِ مَخْصُوصٌ بِالْأَمْرِ بِالْإِرَاقَةِ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ عَلَى إِرَاقَةِ مَا تَقَعُ فِيهِ النَّجَاسَةُ مِنْ قَلِيلِ الْمَائِعَاتِ وَلَوْ عَظُمَ ثَمَنُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ عُمُومَ النَّهْيِ عَنِ الْإِضَاعَةِ مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالْإِرَاقَةِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ نَجَاسَةُ سُؤْرِهِ كَانَ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ أَوْ لِنَجَاسَةٍ طَارِئَةٍ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ مَثَلًا، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَرْجَحُ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى الثَّانِي مُشَارَكَةُ غَيْرِهِ لَهُ فِي الْحُكْمِ كَالْهِرَّةِ مَثَلًا، وَإِذَا ثَبَتَتْ نَجَاسَةُ سُؤْرِهِ لِعَيْنِهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَجَاسَةِ بَاقِيهِ إِلَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَأَنْ يُقَالَ: لُعَابُهُ نَجِسٌ فَفَمُهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ مُتَحَلِّبٌ مِنْهُ وَاللُّعَابُ عَرَقُ فَمِهِ وَفَمُهُ أَطْيَبُ بَدَنِهِ، فَيَكُونُ عَرَقُهُ نَجِسًا وَإِذَا كَانَ عَرَقُهُ نَجِسًا كَانَ بَدَنُهُ نَجِسًا؛ لِأَنَّ الْعَرَقَ مُتَحَلِّبٌ مِنَ الْبَدَنِ وَلَكِنْ هَلْ يَلْتَحِقُ بَاقِي أَعْضَائِهِ بِلِسَانِهِ فِي وُجُوبِ السَّبْعِ وَالتَّتْرِيبِ أَمْ لَا؟ تَقَدَّمَتِ

الْإِشَارَةِ إِلَى ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يَقُولُوا بِوُجُوبِ السَّبْعِ وَلَا التَّتْرِيبِ، وَاعْتَذَرَ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ بِأُمُورٍ، مِنْهَا كَوْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَاوِيهِ أَفْتَى بِثَلَاثِ غَسَلَاتٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ نَسْخُ السَّبْعِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَفْتَى بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِ نَدْبِيَّةَ السَّبْعِ لَا وُجُوبَهَا أَوْ كَانَ نَسِيَ مَا رَوَاهُ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ، وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَفْتَى بِالْغَسْلِ سَبْعًا وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَنْهُ مُوَافِقَةً فُتْيَاهُ لِرِوَايَتِهِ أَرْجَحُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى عَنْهُ مُخَالَفَتُهَا مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادُ وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ، أَمَّا النَّظَرُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْإِسْنَادُ فَالْمُوَافَقَةُ وَرَدَتْ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْهُ وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ، وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ فَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ وَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْقُوَّةِ بِكَثِيرٍ، وَمِنْهَا أَنَّ الْعَذِرَةَ أَشَدُّ فِي النَّجَاسَةِ مِنْ سُؤْرِ الْكَلْبِ، وَلَمْ يُقَيَّدْ بِالسَّبْعِ فَيَكُونُ الْوُلُوغُ كَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا أَشَدَّ مِنْهُ فِي الِاسْتِقْذَارِ أَنْ لَا يَكُونَ أَشَدَّ مِنْهَا فِي تَغْلِيظِ الْحُكْمِ، وَبِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ.

وَمِنْهَا دَعْوَى أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ كَانَ عِنْدَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، فَلَمَّا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهَا نُسِخَ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِهَا كَانَ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ وَالْأَمْرُ بِالْغَسْلِ مُتَأَخِّرٌ جِدًّا لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْغَسْلِ وَكَانَ إِسْلَامُهُ سَنَةَ سَبْعٍ كَأَبِي هُرَيْرَةَ، بَلْ سِيَاقُ مُسْلِمٍ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ كَانَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، وَمِنْهَا إِلْزَامُ الشَّافِعِيَّةِ بِإِيجَابِ ثَمَانِ غَسَلَاتٍ عَمَلًا بِظَاهِرِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بِالتُّرَابِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَقُولُونَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنْ يَتْرُكُوا هُمُ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ أَصْلًا وَرَأْسًا؛ لِأَنَّ اعْتِذَارَ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مُتَّجِهًا فَذَاكَ، وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَلُومٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.

ص: 277

وَقَدِ اعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَبِهِ قال: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ الْكِرْمَانِيِّ عَنْهُ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال: هُوَ حَدِيثٌ لَمْ أَقِفْ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُثْبِتُ الْعُذْرَ لِمَنْ وَقَفَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَجَنَحَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّرْجِيحِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَالتَّرْجِيحُ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَالْأَخْذُ بِحَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ دُونَ الْعَكْسِ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ.

وَلَوْ سَلَكْنَا التَّرْجِيحَ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ نَقُلْ بِالتَّتْرِيبِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ مَالِكٍ بِدُونِهِ أَرْجَحُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ أَثْبَتَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقُلْنَا بِهِ أَخْذًا بِزِيَادَةِ الثِّقَةِ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ، فَقَالَ: لَمَّا كَانَ التُّرَابُ جِنْسًا غَيْرَ الْمَاءِ جُعِلَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مَعْدُودًا بِاثْنَتَيْنِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا غَسْلَةً مُسْتَقِلَّةً، لَكِنْ لَوْ وَقَعَ التَّعْفِيرُ فِي أَوَّلِهِ قَبْلَ وُرُودِ الْغَسَلَاتِ السَّبْعِ كَانَتِ الْغَسَلَاتُ ثَمَانِيَةً، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْغَسْلَةِ عَلَى التَّتْرِيبِ مَجَازًا. وَهَذَا الْجَمْعُ مِنْ مُرَجِّحَاتِ تَعَيُّنِ التُّرَابِ فِي الْأُولَى.

وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنْهُ مُنْتَشِرٌ جِدًّا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفْرَدَ بِالتَّصْنِيفِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَافٍ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

173 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ؛ فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ.

[الحديث 173 - أطرافه في: 6009، 2466، 2363]

174 -

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قال: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قال: كَانَتْ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجُ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ لَكِنَّهُ صَدُوقٌ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَالْإِسْنَادُ مِنْهُ فَصَاعِدًا مَدَنِيُّونَ، وَأَبُوهُ وَشَيْخُهُ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ تَابِعِيَّانِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) لَمْ يُسَمَّ هَذَا الرَّجُلُ وَهُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (يَأْكُلُ الثَّرَى) بِالْمُثَلَّثَةِ أَيْ يَلْعَقُ التُّرَابَ النَّدِيَّ، وَفِي الْمُحْكَمِ الثَّرَى التُّرَابُ، وَقِيلَ التُّرَابُ الَّذِي إِذَا بُلَّ لَمْ يَصِرْ طِينًا لَازِبًا.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْعَطَشِ) أَيْ بِسَبَبِ الْعَطَشِ.

قَوْلُهُ: (يَغْرِفُ لَهُ بِهِ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ سَقَى الْكَلْبَ فِيهِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا وَفِيهِ اخْتِلَافٌ، وَلَوْ قُلْنَا بِهِ لَكَانَ مَحَلُّهُ فِيمَا لَمْ يُنْسَخْ، وَمَعَ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَبَّهُ فِي شَيْءٍ فَسَقَاهُ أَوْ غَسَلَ خُفَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْبَسْهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ)؛ أَيْ: أَثْنَى عَلَيْهِ فَجَزَاهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَبِلَ عَمَلَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ فَضْلِ سَقْيِ الْمَاءِ مِنْ كِتَابِ الشُّرْبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ.

قَوْلُهُ: (حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. (كَانَتِ الْكِلَابُ) زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ الْمَذْكُورِ مَوْصُولًا بِصَرِيحِ التَّحْدِيثِ قَبْلَ قَوْلِهِ تُقْبِلُ تَبُولُ وَبَعْدَهَا وَاوُ الْعَطْفِ، وَكَذَا ذَكَرَ الْأَصِيلِيُّ أَنَّهَا فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ شَيْخِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ الْكِلَابِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْلِهَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْكَلْبَ يُؤْكَلُ وَأَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ يَقْدَحُ فِي نَقْلِ الِاتِّفَاقِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قال جَمْعٌ بِأَنَّ أَبْوَالَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا طَاهِرَةٌ إِلَّا الْآدَمِيَّ، وَمِمَّنْ، قال بِهِ ابْنُ وَهْبٍ، حَكَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ غَسْلِ الْبَوْلِ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهَا كَانَتْ تَبُولُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فِي مَوَاطِنِهَا ثُمَّ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ

ص: 278

عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَلَقٌ. قال: وَيَبْعُدُ أَنْ تُتْرَكَ الْكِلَابُ تَنْتَابُ الْمَسْجِدَ حَتَّى تَمْتَهِنَهُ بِالْبَوْلِ فِيهِ.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ بِطَهَارَتِهَا لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْهِرَّةِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، ثُمَّ وَرَدَ الْأَمْرُ بِتَكْرِيمِ الْمَسَاجِدِ وَتَطْهِيرِهَا وَجَعْلِ الْأَبْوَابِ عَلَيْهَا، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ مَا زَادَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قال: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ اجْتَنِبُوا اللَّغْوَ فِي الْمَسْجِدِ، قال ابْنُ عُمَرَ: وَقَدْ كُنْتُ أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتِ الْكِلَابُ. . . إِلَخْ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ وَرَدَ الْأَمْرُ بِتَكْرِيمِ الْمَسْجِدِ حَتَّى مِنْ لَغْوِ الْكَلَامِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ الْكَلْبِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُضَافٌ، لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا قَبْلَ الزَّمَنِ الَّذِي أُمِرَ فِيهِ بِصِيَانَةِ الْمَسْجِدِ، وَفِي قَوْلِهِ فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ مُبَالَغَةٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ الْغَسْلِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْكِلَابِ أَنْ تَتْبَعَ مَوَاضِعَ الْمَأْكُولِ، وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لَا بُيُوتَ لَهُمْ إِلَّا الْمَسْجِدَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَصِلَ لُعَابُهَا إِلَى بَعْضِ أَجْزَاءِ الْمَسْجِدِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْجِدِ مُتَيَقَّنَةٌ وَمَا ذُكِرَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالْيَقِينُ لَا يُرْفَعُ بِالشَّكِّ. ثُمَّ إِنَّ دَلَالَتَهُ لَا تُعَارِضُ دَلَالَةَ مَنْطُوقِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ مِنْ وُلُوغِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ تَطْهُرُ إِذَا لَاقَتْهَا النَّجَاسَةُ بِالْجَفَافِ، يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ صَبِّ الْمَاءِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، فَلَوْلَا أَنَّ الْجَفَافَ يُفِيدُ تَطْهِيرَ الْأَرْضِ مَا تَرَكُوا ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

(تَنْبِيهٌ): حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ الشَّارِحِ أَنَّهُ أَبْدَلَ قَوْلَهُ يَرُشُّونَ بِلَفْظِ يَرْتَقِبُونَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ قَافٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَفَسَّرَهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَخْشَوْنَ فَصُحِّفَ اللَّفْظُ، وَأَبْعَدَ فِي التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِارْتِقَابِ الِانْتِظَارُ، وَأَمَّا نَفْيُ الْخَوْفِ مِنْ نَفْيِ الِارْتِقَابِ فَهُوَ تَفْسِيرٌ بِبَعْضِ لَوَازِمِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

175 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِذَا أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ. قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ، قال: فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبٍ آخَرَ.

[الحديث 175 - أطرافه في: 7397، 5487، 5486، 5484، 5483، 5477، 2054]

قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي السَّفَرِ) تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَنَّ السَّفَرَ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَوَهِمَ مَنْ سَكَّنَهَا.

قَوْلُهُ: (عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ) أَيِ الطَّائِيُّ.

قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ)؛ أَيْ: عَنْ حُكْمِ صَيْدِ الْكِلَابِ، وَحَذَفَ لَفْظَ السُّؤَالِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فِي الصَّيْدِ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَإِنَّمَا سَاقَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَا لِيَسْتَدِلَّ بِهِ لِمَذْهَبِهِ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِ الْكَلْبِ، وَمُطَابَقَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ فِيهَا وَسُؤْرِ الْكِلَابِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لَهُ فِي أَكْلِ مَا صَادَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِغَسْلِ مَوْضِعِ فَمِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قال مَالِكٌ: كَيْفَ يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَيَكُونُ لُعَابُهُ نَجِسًا؟ وَأَجَابَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ لِتَعْرِيفِ أَنَّ قَتْلَهُ ذَكَاتُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ نَجَاسَةٍ وَلَا نَفْيُهَا. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ اغْسِلِ الدَّمَ إِذَا خَرَجَ مِنْ جُرْحٍ نَابِهُ، لَكِنَّهُ وَكَلَهُ إِلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدُهُ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ الدَّمِ، فَلَعَلَّهُ وَكَلَهُ أَيْضًا إِلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدُهُ مِنْ غَسْلِ مَا يُمَاسُّهُ

ص: 279

فَمُهُ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ السِّكِّينَ إِذَا سُقِيَتْ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَذَبَحَ بِهَا نَجَّسَتِ الذَّبِيحَةَ، وَنَابُ الْكَلْبِ عِنْدَهُمْ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَقَدْ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّ ذَكَاتَهُ شَرْعِيَّةٌ لَا تُنَجِّسُ الْمُذَكَّى. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَةَ لَا تَصِيرُ نَجِسَةً بِعَضِّ الْكَلْبِ ثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مُتَنَجِّسَةً، فَمَا أَلْزَمَهُمْ بِهِ مِنَ التَّنَاقُضِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، عَلَى أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُمْ خِلَافًا، وَالْمَشْهُورُ وُجُوبُ غَسْلِ الْمَعَضِّ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

‌34 - بَاب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلَّا مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ.

وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ الْقَمْلَةِ يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِذَا ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ أَعَادَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ. وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَنَزَفَهُ الدَّمُ، فَرَكَعَ وَسَجَدَ وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَطَاءٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ: لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ. وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَبَزَقَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى دَمًا فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ فِيمَنْ يَحْتَجِمُ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا غَسْلُ مَحَاجِمِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلَّا مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ) الِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَالْمَعْنَى مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ وَاجِبًا مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ شَيْءٍ مِنْ مَخَارِجِ الْبَدَنِ إِلَّا مِنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى خِلَافِ مَنْ رَأَى الْوُضُوءَ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْبَدَنِ كَالْقَيْءِ وَالْحِجَامَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ الْمُعْتَبَرَةَ تَرْجِعُ إِلَى الْمَخْرَجَيْنِ: فَالنَّوْمُ مَظِنَّةُ خُرُوجِ الرِّيحِ، وَلَمْسُ الْمَرْأَةِ وَمَسُّ الذَّكَرِ مَظِنَّةُ خُرُوجِ الْمَذْيِ.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فَعَلَّقَ وُجُوبَ الْوُضُوءِ - أَوِ التَّيَمُّمَ عِنْدَ فَقَدِ الْمَاءِ - عَلَى الْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي كَانُوا يَقْصِدُونَهُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَهَذَا دَلِيلُ الْوُضُوءِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ. وَقَوْلُهُ:{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} دَلِيلُ الْوُضُوءِ مِنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَسُّ الذَّكَرِ مَعَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَقَدْ صَحَّحَهُ مَالِكٌ وَجَمِيعُ مَنْ أَخْرَجَ الصَّحِيحَ غَيْرَ الشَّيْخَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ بِنَحْوِهِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَالْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالُوا: لَا يَنْقُضُ النَّادِرُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، قال: إِلَّا إِنْ حَصَلَ مَعَهُ تَلْوِيثٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَابِرٌ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ قَوْلِ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مَرْفُوعًا لَكِنْ ضَعَّفَهَا.

وَالْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، قَالُوا: يَنْقُضُ الضَّحِكُ إِذَا وَقَعَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ لَا خَارِجَهَا. قال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَ فِيهَا، فَخَالَفَ مَنْ قال بِهِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثٍ لَا يَصِحُّ، وَحَاشَا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ أَنْ يَضْحَكُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، انْتَهَى. عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا بِعُمُومِ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِي الضَّحِكِ بَلْ

ص: 280

خَصُّوهُ بِالْقَهْقَهَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ) أَيِ: ابْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالتَّعْلِيقُ عَنْهُ لِلْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَالْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَحَمَّادٌ قَالُوا: مَنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ أَوْ جَزَّ شَارِبَهُ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ اسْتَقَرَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ عَنْهُ لِلْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَدَاوُدُ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ عَلَى قَوْلَيْنِ مُرَتَّبَيْنِ عَلَى إِيجَابِ الْمُوَالَاةِ وَعَدَمِهَا، فَمَنْ أَوْجَبَهَا، قال: يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ إِذَا طَالَ الْفَصْلُ، وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهَا، قال: يَكْتَفِي بِغَسْلِ رِجْلَيْهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْمُوَطَّأِ

(1)

: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَبْتَدِئَ الْوُضُوءَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: يَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ وَإِنْ لَمْ تَجِبِ الْمُوَالَاةُ، وَعَنِ اللَّيْثِ عَكْسُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) وَصَلَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا، وَزَادَ أَوْ رِيحٍ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ) وَصَلَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي، قال: حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ مُطَوَّلًا. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَشَيْخُهُ صَدَقَةُ ثِقَةٌ، وَعَقِيلٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا أَعْرِفُ رَاوِيًا عَنْهُ غَيْرَ صَدَقَةَ، وَلِهَذَا لَمْ يَجْزِمْ بِهِ الْمُصَنِّفُ، أَوْ لِكَوْنِهِ اخْتَصَرَهُ، أَوْ لِلْخِلَافِ فِي ابْنِ إِسْحَاقَ.

قَوْلُهُ: (فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَرُمِيَ) بِضَمِّ الرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (رَجُلٌ) تَبَيَّنَ مِنْ سِيَاقِ الْمَذْكُورِينَ سَبَبُ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَمُحَصَّلُهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ بِشِعْبٍ، فَقَالَ: مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَبَاتَا بِفَمِ الشِّعْبِ فَاقْتَسَمَا اللَّيْلَ لِلْحِرَاسَةِ، فَنَامَ الْمُهَاجِرِيُّ وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْعَدُوِّ فَرَأَى الْأَنْصَارِيَّ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَصَابَهُ فَنَزَعَهُ وَاسْتَمَرَّ فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ رَمَاهُ بِثَانٍ فَصَنَعَ كَذَلِكَ، ثُمَّ رَمَاهُ بِثَالِثٍ فَانْتَزَعَهُ وَرَكَعَ وَسَجَدَ وَقَضَى صَلَاتَهُ، ثُمَّ أَيْقَظَ رَفِيقَهُ. فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِ مِنَ الدِّمَاءِ، قال لَهُ: لِمَ لَا أَنْبَهْتَنِي أَوَّلَ مَا رَمَى؟ قال: كُنْتُ فِي سُورَةٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَقْطَعَهَا.

وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَسَمَّى الْأَنْصَارِيَّ الْمَذْكُورَ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ وَالْمُهَاجِرِيَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَالسُّورَةَ الْكَهْفَ.

قَوْلُهُ: (فَنَزَفَهُ)، قال ابْنُ طَرِيفٍ

(2)

فِي الْأَفْعَالِ: يُقَالُ: نَزَفَهُ الدَّمُ وَأَنْزَفَهُ إِذَا سَالَ مِنْهُ كَثِيرًا حَتَّى يُضْعِفَهُ فَهُوَ نَزِيفٌ وَمَنْزُوفٌ. وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الرَّدَّ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الدَّمَ السَّائِلَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ مَضَى فِي صَلَاتِهِ مَعَ وُجُودِ الدَّمِ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ وَاجْتِنَابُ النَّجَاسَةِ فِيهَا وَاجِبٌ؟ أَجَابَ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ جَرَى مِنَ الْجِرَاحِ عَلَى سَبِيلِ الدَّفْقِ، بِحَيْثُ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا مِنْ ظَاهِرِ بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ، وَفِيهِ بُعْدُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ أَصَابَ الثَّوْبَ فَقَطْ فَنَزَعَهُ عَنْهُ وَلَمْ يَسِلْ عَلَى جِسْمِهِ إِلَّا قَدْرٌ يَسِيرٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. ثُمَّ الْحُجَّةُ قَائِمَةٌ بِهِ عَلَى كَوْنِ خُرُوجِ الدَّمِ لَا يَنْقُضُ، وَلَوْ لَمْ يَظْهَرِ الْجَوَابُ عَنْ كَوْنِ الدَّمِ أَصَابَهُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ كَانَ يَرَى أَنَّ خُرُوجَ الدَّمَ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ ذَكَرَ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ أَثَرَ الْحَسَنِ وَهُوَ الْبَصْرِيُّ، قال: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ صَلَّى وَجُرْحُهُ يَنْبُعُ دَمًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ التَّابِعِيُّ الْمَشْهُورُ، وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَلَفْظُهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى فِي الدَّمِ وُضُوءًا، يَغْسِلُ عَنْهُ

(1)

بهامش طبعة بولاق: في بعض النسخ: وقال البوطي"

(2)

هو عبد الملك بن طريف الأندلسي، مات في حدود الأربعمائة قاله السيوطي في بغية الوعا

ص: 281

الدَّمَ ثُمَّ حَسْبَهُ.

قَوْلُهُ: (وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ) أَيِ: ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَأَثَرُهُ هَذَا رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي فَوَائِدِ الْحَافِظِ أَبِي بِشْرٍ الْمَعْرُوفُ بِسَمُّويَهْ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ عَنِ الرُّعَافِ، فَقَالَ: لَوْ سَالَ نَهَرٌ مِنْ دَمٍ مَا أَعَدْتُ مِنْهُ الْوُضُوءَ. وَعَطَاءٌ هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ (وَأَهْلُ الْحِجَازِ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورِينَ قَبْلُ حِجَازِيُّونَ. وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِذنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَزَادَ قَبْلَ قَوْلِهِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلَّى.

قَوْلُهُ: (بَثْرَةً) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، هِيَ خُرَّاجٌ صَغِيرٌ. يُقَالُ بَثِرَ وَجْهُهُ، مُثَلَّثُ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ.

قَوْلُهُ: (وَبَزَقَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الصَّحَابِيُّ ابْنُ الصَّحَابِيِّ، وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُ رَآهُ فَعَلَ ذَلِكَ. وَسُفْيَانُ سَمِعَ مِنْ عَطَاءٍ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ فَالْإِسْنَادُ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ كَانَ إِذَا احْتَجَمَ غَسَلَ مَحَاجِمَهُ.

قَوْلُهُ: (وَالْحَسَنُ) أَيِ: الْبَصْرِيُّ، وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا وَلَفْظُهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَحْتَجِمُ مَاذَا عَلَيْهِ؟ قال: يَغْسِلُ أَثَرَ مَحَاجِمِهِ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُ مَحَاجِمِهِ بِإِسْقَاطِ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ثَبَتَتْ إِلَّا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي دُونَ رَفِيقَيْهِ، انْتَهَى.

وَهِيَ فِي نُسْخَتِي ثَابِتَةٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَتَخْرِيجُ التَّعْلِيقِ الْمَذْكُورِ يُؤَيِّدُ ثُبُوتَهَا، وَقَدْ حَكَى عَنِ اللَّيْثِ أَنَّهُ قال: يُجْزِئُ الْمُحْتَجِمَ أَنْ يَمْسَحَ مَوْضِعَ الْحِجَامَةِ وَيُصَلِّيَ وَلَا يَغْسِلَهُ.

176 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عن سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ مَا لَمْ يُحْدِثْ. فَقَالَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قال: الصَّوْتُ يَعْنِي الضَّرْطَةَ.

[الحديث 176 - أطرافه في: 4717، 3229، 2119، 659، 648، 647، 477، 445]

قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) تَقَدَّمَ أَنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ إِلَّا آدَمَ وَقَدْ دَخَلَهَا.

قَوْلُهُ: (مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ)؛ أَيْ: مَا دَامَ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ فِي ثَوَابِ الصَّلَاةِ مَا دَامَ يَنْتَظِرُهَا وَإِلَّا لَامْتَنَعَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: نَكَّرَ قَوْلَهُ فِي صَلَاةٍ لِيُشْعِرَ بِأَنَّ الْمُرَادَ نَوْعُ صَلَاتِهِ الَّتِي يَنْتَظِرُهَا، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَعْجَمِيٌّ)؛ أَيْ: غَيْرُ فَصِيحٍ بِالْعَرَبِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ عَرَبِيَّ الْأَصْلِ أَمْ لَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَعْجَمِيُّ هُوَ الْحَضْرَمِيَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوُضُوءِ.

قَوْلُهُ: (قال: الصَّوْتُ) كَذَا فَسَّرَهُ هُنَا، وَيُؤَيِّدُهُ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ؛ حَيْثُ قال: لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ. فَكَأَنَّهُ قال: لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ ضُرَاطٍ أَوْ فُسَاءٍ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ دُونَ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمَا لِكَوْنِهِمَا لَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَرْءِ غَالِبًا فِي الْمَسْجِدِ غَيْرِهِمَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنِ الْحَدثِ الْخَاصِّ وَهُوَ الْمَعْهُودُ وُقُوعُهُ غَالِبًا فِي الصَّلَاةِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْوُضُوءِ.

ص: 282

177 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، وَإِنْ كَانَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ يُكَنَّى أَيْضًا أَبَا الْوَلِيدِ، وَيَرْوِي أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَيَرْوِي عَنْهُ الْبُخَارِيُّ.

قَوْلُهُ (عَنْ عَمِّهِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْمَازِنِيُّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِهِ هَذَا فِي بَابِ لَا يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِظُهُورِ دَلَالَتِهِ عَلَى حَصْرِ النَّقْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَوْجِيهَ إِلْحَاقِ بَقِيَّةِ النَّوَاقِضِ بِهِمَا أَوَائِلَ الْبَابِ.

178 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قال: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُنْذِرٍ أَبِي يَعْلَى الْثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قال: قَالَ عَلِيٌّ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: فِيهِ الْوُضُوءُ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ فِي بَابِ غَسْلِ الْمَذْيِ مِنْ كِتَابِ الْغُسْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَتْ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ. وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِدَلَالَتِهِ عَلَى إِيجَابِ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْيِ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ أَحَدِ الْمَخْرَجَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ.

179 -

حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ فَلَمْ يُمْنِ؟ قال عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ. قال عُثْمَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنهم فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ.

[الحديث 179 - طرفه في: 292]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، إِلَّا الْقَابِسِيَّ، فَقَالَ سَعِيدٌ: وَكَذَا صَنَعَ فِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ الْآتِي فِي بَابِ فَضْلِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ، نَبَّهَ عَلَيْهِمَا الْجَيَّانِيُّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَيِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. وَفِي الْإِسْنَادِ تَابِعِيَّانِ كَبِيرَانِ مَدَنِيَّانِ يَرْوِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَصَحَابِيَّانِ كَذَلِكَ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَيْضًا تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، فَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ.

قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ)؛ أَيْ: أَخْبِرْنِي.

قَوْلُهُ: (إِذَا جَامَعَ) أَيِ الرَّجُلُ فَلَمْ يُمْنِ بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ.

قَوْلُهُ: (كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ) بَيَانٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ لَا اللُّغَوِيُّ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْغُسْلِ، وَنُبَيِّنُ هُنَاكَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَلَا يُقَالُ إِذَا كَانَ مَنْسُوخًا كَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَنْسُوخُ مِنْهُ عَدَمُ وُجُوبِ الْغُسْلِ وَنَاسِخُهُ الْأَمْرُ بِالْغُسْلِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ فَهُوَ بَاقٍ لِأَنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْغُسْلِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ الْغُسْلَ إِمَّا لِكَوْنِ الْجِمَاعِ مَظِنَّةَ خُرُوجِ الْمَذْيِ أَوْ لِمُلَامَسَةِ الْمَرْأَةِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ.

ص: 283

180 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قال: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، قال: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَجَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ قُحِطْتَ فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ.

تَابَعَهُ وَهْبٌ، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قال أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَلَمْ يَقُلْ غُنْدَرٌ وَيَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ: الْوُضُوءُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَغَيْرِهَا، زَادَ الْأَصِيلِيُّ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ بَهْرَامٍ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْكَوْسَجِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا النَّضْرُ) هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرًا، وَالْحَكَمُ هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِمُثَنَّاةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرًا.

قَوْلُهُ: (أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ) وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مَرَّ بِهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْأَنْصَارِيُّ سَمَّاهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عِتْبَانَ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ خَفِيفَةٍ، وَلَفْظُهُ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، قال: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى قُبَاءٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي بَنِي سَالِمٍ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَابِ عِتْبَانَ فَخَرَجَ يَجُرُّ إِزَارَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْجَلْنَا الرَّجُلَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ. وَعِتْبَانُ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ كَمَا نَسَبَهُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ أَنَّهُ ابْنُ عِتْبَانَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، لَكِنَّهُ قال: فَهَتَفَ بِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ صَالِحٌ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ وَإِلَّا فَطَرِيقُ مُسْلِمٍ أَصَحُّ. وَقَدْ وَقَعَتِ الْقِصَّةُ أَيْضًا لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وغَيْرِهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّ الْأَقْرَبَ فِي تَفْسِيرِ الْمُبْهَمِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ عِتْبَانُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (يَقْطُرُ)؛ أَيْ: يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَاءُ قَطْرَةً قَطْرَةً مِنْ أَثَرِ الْغُسْلِ.

قَوْلُهُ: (لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ)؛ أَيْ: عَنْ فَرَاغِ حَاجَتِكَ مِنَ الْجِمَاعِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْأَخْذِ بِالْقَرَائِنِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَمَّا أَبْطَأَ عَنِ الْإِجَابَةِ مُدَّةَ الِاغْتِسَالِ خَالَفَ الْمَعْهُودَ مِنْهُ وَهُوَ سُرْعَةُ الْإِجَابَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى عَلَيْهِ أَثَرَ الْغُسْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّ شُغْلَهُ كَانَ بِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَزَعَ قَبْلَ الْإِنْزَالِ لِيُسْرِعَ الْإِجَابَةَ، أَوْ كَانَ أَنْزَلَ فَوَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ.

وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدَّوَامِ عَلَى الطَّهَارَةِ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَأْخِيرَ إِجَابَتِهِ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ إِيجَابِهَا، إِذِ الْوَاجِبُ لَا يُؤَخَّرُ لِلْمُسْتَحَبِّ. وَقَدْ كَانَ عِتْبَانُ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فِي مَكَانٍ يَتَّخِذُهُ مُصَلًّى فَأَجَابَهُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ، وَقَدَّمَ الِاغْتِسَالَ لِيَكُونَ مُتَأَهِّبًا لِلصَّلَاةِ مَعَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أُعْجِلْتَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَفِي أَصْلِ أَبِي ذَرٍّ إِذَا عُجِّلْتَ بِلَا هَمْزٍ، وَقُحِطْتَ وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ أُقْحِطْتَ بِوَزْنِ أُعْجِلْتَ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ. قال صَاحِبُ الْأَفْعَالِ: يُقَالُ: أَقَحَطَ الرَّجُلُ إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يُنْزِلْ. وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنِ ابْنِ الْخَشَّابِ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ يَقُولُونَ: قَحَطَ بِفَتْحِ الْقَافِ، قال: وَالصَّوَابُ الضَّمُّ. قُلْتُ: وَرِوَايَتُهُ فِي أَمَالِي أَبِي عَلِيٍّ الْقَالِيِّ بِالْوَجْهَيْنِ فِي الْقَافِ، وَبِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ الْمَضْمُومَةِ، يُقَالُ: قَحَطَ النَّاسُ وَأُقْحِطُوا إِذَا حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ، وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِتَأَخُّرِ الْإِنْزَالِ. قال الْكِرْمَانِيُّ: لَيْسَ قَوْلُهُ أَوْ لِلشَّكِّ بَلْ هُوَ لِبَيَانِ عَدَمِ الْإِنْزَالِ سَوَاءٌ كَانَ بِحَسَبِ أَمْرٍ مِنْ ذَاتِ الشَّخْصِ أَمْ لَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِحْدَاهُمَا بِالتَّعْدِيَةِ وَإِلَّا فَهِيَ لِلشَّكِّ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ وَهْبٌ) أَيِ: ابْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى النَّضْرِ، وَمُتَابَعَةُ وَهْبٍ وَصَلَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْهُ.

ص: 284

قَوْلُهُ: (لَمْ يَقُلْ غُنْدَرٌ، وَيَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ الْوُضُوءَ) يَعْنِي أَنَّ غُنْدَرًا وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيَحْيَى وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ رَوَيَا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، لَكِنْ لَمْ يَقُولَا فِيهِ عَلَيْكَ الْوُضُوءُ، فَأَمَّا يَحْيَى فَهُوَ كَمَا قال: فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْكَ غُسْلٌ وَأَمَّا غُنْدَرٌ فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ الْوُضُوءَ، وَلَفْظُهُ فَلَا غُسْلَ عَلَيْكَ، عَلَيْكَ الْوُضُوءُ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ شُعْبَةَ، كَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْهُ، فَكَأَنَّ بَعْضَ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَهُ بِهِ عَنْ يَحْيَى وَغُنْدَرٍ مَعًا، فَسَاقَهُ لَهُ عَلَى لَفْظِ يَحْيَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الْغُسْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌35 - بَاب الرَّجُلُ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ

181 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، قال: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَفَاضَ مِنْ عَرَفةَ عَدَلَ إِلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ. قال أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي؟ فَقَالَ: الْمُصَلَّى أَمَامَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّجُلِ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ)؛ أَيْ: مَا حُكْمُهُ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ سَلَامٍ) هُوَ مُحَمَّدٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ؛ لِأَنَّ يَحْيَى وَمُوسَى بْنَ عُقْبَةَ تَابِعِيَّانِ صَغِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَاسِطِ التَّابِعِينَ، فَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ، وَيَأْتِي بَاقِيهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ.

وَوَقَعَ فِي تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ، لِابْنِ الْمُنِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهْمٌ، فَإِنَّهُ قال: فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ رِوَايَةِ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (أَصُبُّ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيِ: الْمَاءَ. وَقَوْلُهُ وَيَتَوَضَّأُ؛ أَيْ: وَهُوَ يَتَوَضَّأُ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي الْوُضُوءِ، لَكِنْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِغَيْرِ الْمَشَقَّةِ أَوْ الِاحْتِيَاجِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي السَّفَرِ. وَكَذَا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ الْمَذْكُورِ، قال ابْنُ الْمُنِيرِ: قَاسَ الْبُخَارِيُّ تَوْضِئَةَ الرَّجُلِ غَيْرَهُ عَلَى صَبِّهِ عَلَيْهِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي مَعْنَى الْإِعَانَةِ. قُلْتُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَلَمْ يُفْصِحِ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ بِجَوَازٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَهَذِهِ عَادَتُهُ فِي الْأُمُورِ الْمُحْتَمَلَةِ.

قال النَّوَوِيُّ: الِاسْتِعَانَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: إِحْضَارُ الْمَاءِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ أَصْلًا. قُلْتُ: لَكِنِ الْأَفْضَلُ خِلَافُهُ. قال: الثَّانِي مُبَاشَرَةُ الْأَجْنَبِيِّ الْغُسْلَ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ إِلَّا لِحَاجَةٍ. الثَّالِثُ: الصَّبُّ وَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا يُكْرَهُ، وَالثَّانِي خِلَافُ الْأَوْلَى. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ لَا يَكُونُ خِلَافَ الْأَوْلَى. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَلَا يَكُونُ فِي حَقِّهِ خِلَافُ الْأَوْلَى بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِذَا كَانَ الْأَوْلَى تَرْكُهُ كَيْفَ يُنَازَعُ فِي كَرَاهَتِهِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ فِعْلُهُ خِلَافُ الْأَوْلَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، إِذِ الْمَكْرُوهُ يُطْلَقُ عَلَى الْحَرَامِ بِخِلَافِ الْآخَرِ.

182 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قال: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، قال: أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ كَانَ

ص: 285

مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ، وَأَنَّ مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

[الحديث 182 - أطرافه في: 5799، 5798، 4421، 2918، 388، 363، 206، 203]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ) هُوَ الْفَلَّاسُ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْبَصْرِيِّينَ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَيِ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. وَفِي الْإِسْنَادِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّ يَحْيَى، وَسَعْدًا تَابِعِيَّانِ صَغِيرَانِ، وَنَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تَابِعِيَّانِ وَسَطَانِ، فَفِيهِ أَرْبَعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ وَهُوَ مِنَ النَّوَادِرِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ كَانَ) أَدَّى عُرْوَةُ مَعْنَى كَلَامِ أَبِيهِ بِعِبَارَةِ نَفْسِهِ، وَإِلَّا فَكَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: قال: إِنِّي كُنْتُ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ جَعَلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ الْتِفَاتٌ عَلَى رَأْيٍ فَيَكُونُ عُرْوَةُ أَدَّى لَفْظَ أَبِيهِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّهُ ذَهَبَ وَفِي قَوْلِهِ لَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَمَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ تَأْتِي فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا مِنَ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْمَلَهَا عَنْ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، قال: وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْوُضُوءِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَضِّئُهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الْمُتَوَضِّئُ الِاغْتِرَافَ مِنَ الْمَاءِ لِأَعْضَائِهِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَكْفِيَهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ بِالصَّبِّ - وَالِاغْتِرَافُ بَعْضُ عَمَلِ الْوُضُوءِ -، كَذَلِكَ يَجُوزُ فِي بَقِيَّةِ أَعْمَالِهِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الِاغْتِرَافَ مِنَ الْوَسَائِلِ لَا مِنَ الْمَقَاصِدِ، لِأَنَّهُ لَوِ اغْتَرَفَ ثُمَّ نَوَى أَنْ يَتَوَضَّأَ جَازَ، وَلَوْ كَانَ الِاغْتِرَافُ عَمَلًا مُسْتَقِلًّا لَكَانَ قَدْ قَدَّمَ النِّيَّةَ عَلَيْهِ

(1)

وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.

وَحَاصِلُهُ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْإِعَانَةِ بِالصَّبِّ وَبَيْنَ الْإِعَانَةِ بِمُبَاشَرَةِ الْغَيْرِ لِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلُ. وَالْحَدِيثَانِ دَالَّانِ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبِّ، وَكَذَا إِحْضَارُ الْمَاءِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِمَا عَلَيْهَا، نَعَمْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَسْتَعِينَ أَصْلًا. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أُبَالِي مَنْ أَعَانَنِي عَلَى طُهُورِي أَوْ عَلَى رُكُوعِي وَسُجُودِي، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِعَانَةِ بِالْمُبَاشَرَةِ لِلصَّبِّ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْكُبُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ.

وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِوَضُوءٍ، فَقَالَ: اسْكُبِي، فَسَكَبْتُ عَلَيْهِ. وَهَذَا أَصْرَحُ فِي عَدَمِ الْكَرَاهَةِ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، لِكَوْنِهِ فِي الْحَضَرِ، وَلِكَوْنِهِ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْمُصَنِّفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌36 - بَاب قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ، وَبِكَتْبِ الرِّسَالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَارٌ فَسَلِّمْ، وَإِلَّا فَلَا تُسَلِّمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ) أَيِ: الْأَصْغَرِ (وَغَيْرِهِ)؛ أَيْ: مِنْ مَظَانِّ الْحَدَثِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَالتَّقْدِيرُ بَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَيِ: الذِّكْرِ وَالسَّلَامِ وَنَحْوِهِمَا بَعْدَ الْحَدَثِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إِنْ جَازَتِ الْقِرَاءَةُ بَعْدَ الْحَدَثِ فَجَوَازُ غَيْرِهَا مِنَ الْأَذْكَارِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْ

(1)

صوابه: لكان قد قدمه على النية. فتأمل

ص: 286

ذِكْرِهِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْحَدَثِ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْحَدَثِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْتُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَنْصُورٌ) أَيِ: ابْنُ الْمُعْتَمِرِ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ: النَّخَعِيِّ، وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ مِثْلِهِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، قال: سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ، فَقَالَ: لَمْ يُبْنَ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ أَبِي عَوَانَةَ، فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمُطْلَقِ الْجَوَازِ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، قال: سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ، فَقَالَ: يُكْرَهُ ذَلِكَ، انْتَهَى. وَالْإِسْنَادُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ.

وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ، قال: بِئْسَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ يُنْزَعُ فِيهِ الْحَيَاءُ، وَلَا يُقْرَأُ فِيهِ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ بِمَا هُوَ الْوَاقِعُ بِأَنَّ شَأْنَ مَنْ يَكُونُ فِي الْحَمَّامِ أَنْ يَلْتَهِيَ عَنِ الْقِرَاءَةِ.

وَحُكِيَتِ الْكَرَاهَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَمَالِكٌ، فَقَالَا: لَا تُكْرَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ، وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبَا الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ عَنِ الْأَصْحَابِ: لَا تُكْرَهُ، فَأَطْلَقَ. لَكِنْ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ لِلصَّيْمَرِيِّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ. وَسَوَّى الْحَلِيمِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. وَرَجَّحَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَطْلُوبَةٌ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْهَا مَطْلُوبٌ وَالْحَدَثَ يَكْثُرُ، فَلَوْ كُرِهَتْ لَفَاتَ خَيْرٌ كَثِيرٌ. ثُمَّ قال: حُكْمُ الْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ إِنْ كَانَ الْقَارِئُ فِي مَكَانٍ نَظِيفٍ وَلَيْسَ فِيهِ كَشْفُ عَوْرَةٍ لَمْ يُكْرَهْ، وَإِلَّا كُرِهَ.

قَوْلُهُ: (وَيَكْتُبُ الرِّسَالَةَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ بِلَفْظِ مُضَارِعِ كَتَبَ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِكَتْبِ بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَكَافٍ مَفْتُوحَةٍ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ بِالْقِرَاءَةِ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ أَيْضًا، عَنْ مَنْصُورٍ، قال: سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ: أَأَكْتُبُ الرِّسَالَةَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؟ قال: نَعَمْ. وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابَةِ لَا بِالْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الرَّسَائِلِ أَنْ تُصَدَّرَ بِالْبَسْمَلَةِ تَوَهَّمَ السَّائِلُ أَنَّ ذَلِكَ يُكْرَهُ لِمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كَاتِبَ الرِّسَالَةِ لَا يَقْصِدُ الْقِرَاءَةَ فَلَا يَسْتَوِي مَعَ الْقِرَاءَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَقِيهُ الْكُوفَةِ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ: النَّخَعِيِّ (إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ)؛ أَيْ: عَلَى مَنْ فِي الْحَمَّامِ (إِزَارٌ) الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ؛ أَيْ: عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إِزَارٌ. وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ إِمَّا إِهَانَةٌ لَهُمْ لِكَوْنِهِمْ عَلَى بِدْعَةٍ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ يَسْتَدْعِي مِنْهُمُ الرَّدَّ، وَالتَّلَفُّظُ بِالسَّلَامِ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَأَنَّ لَفْظَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمُتَعَرِّي عَنِ الْإِزَارِ مُشَابِهٌ لِمَنْ هُوَ فِي الْخَلَاءِ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَوَجَّهُ ذِكْرُ هَذَا الْأَثَرِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ.

183 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قال: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ خَالَتُهُ، فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ. ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قال ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.

ص: 287

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (مَخْرَمَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (فَاضْطَجَعْتُ) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ لِأَنَّ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ فَاضْطَجَعَ؛ لِأَنَّهُ قال قَبْلَ ذَلِكَ: إِنَّهُ بَاتَ.

قَوْلُهُ: (فِي عَرْضِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَبِالضَّمِّ أَيْضًا، وَأَنْكَرَهُ الْبَاجِيُّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، قال:؛ لِأَنَّ الْعُرْضَ بِالضَّمِّ هُوَ الْجَانِبُ وَهُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ. قُلْتُ: لَكِنْ لَمَّا قال: فِي طُولِهَا تَعَيَّنَ الْمُرَادُ، وَقَدْ صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ فَلَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ.

قَوْلُهُ: (يَمْسَحُ النَّوْمَ)؛ أَيْ: يَمْسَحُ بِيَدِهِ عَيْنَيْهِ، مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْحَالِّ عَلَى الْمَحَلِّ، أَوْ أَثَرَ النَّوْمِ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ.

قَوْلُهُ (ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ أَوَّلَهَا){إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قال ابْنُ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى رَدِّ مَنْ كَرِهَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْدَ قِيَامِهِ مِنَ النَّوْمِ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُفَرَّعٌ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ فِي حَقِّهِ يَنْقُضُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ قال: تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي وَأَمَّا كَوْنُهُ تَوَضَّأَ عَقِبَ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ جَدَّدَ الْوُضُوءَ أَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَوَضَّأَ. قُلْتُ: وَهُوَ تَعْقِيبٌ جَيِّدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ بَطَّالٍ: بَعْدَ قِيَامِهِ مِنَ النَّوْمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ أَحْدَثَ فِي النَّوْمِ، لَكِنْ لَمَّا عَقَّبَ ذَلِكَ بِالْوُضُوءِ كَانَ ظَاهِرًا فِي كَوْنِهِ أَحْدَثَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ نَوْمِهِ لَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُ حَدَثٌ وَهُوَ نَائِمٌ، نَعَمْ خُصُوصِيَّتُهُ أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ شَعَرَ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَمَا ادَّعَوْهُ مِنَ التَّجْدِيدِ وَغَيْرِهِ الْأَصْلُ عَدَمُهُ.

وَقَدْ سَبَقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُنَاسَبَةَ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مُضَاجَعَةَ الْأَهْلِ فِي الْفِرَاشِ لَا تَخْلُو مِنَ الْمُلَامَسَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ وَلَمْ يُرِدِ الْمُصَنِّفُ أَنَّ مُجَرَّدَ نَوْمِهِ صلى الله عليه وسلم يَنْقُضُ؛ لِأَنَّ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَهُ فِي بَابِ التَّخْفِيفِ فِي الْوُضُوءِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ صَلَّى. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْحَلَبِيَّاتِ لِلسُّبْكِيِّ الْكَبِيرِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اعْتِرَاضَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ احْتَجَّ بِفِعْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوِ اعْتَبَرَ اضْطِجَاعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ وَاللَّمْسَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَوْجِيهُ مَا قَيَّدْتُ الْحَدِيثَ بِهِ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَصْغَرُ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَكْبَرَ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْوُضُوءِ ثُمَّ صَلَّى بَلْ كَانَ يَغْتَسِلُ.

قَوْلُهُ: (إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ)، قال الْخَطَّابِيُّ: الشَّنُّ الْقِرْبَةُ الَّتِي تَبَدَّتْ لِلْبَلَاءِ، وَلِذَلِكَ قال: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُعَلَّقَةٍ فَأَنَّثَ لِإِرَادَةِ الْقِرْبَةِ.

قَوْلُهُ: (فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ) تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ فِي بَابِ تَخْفِيفِ الْوُضُوءِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَلْيُرَاجَعْ مِنْ ثَمَّ، وَسَتَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْوِتْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ): رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَرَاهَةَ ذِكْرِ اللَّهِ بَعْدَ الْحَدِيثِ، لَكِنَّهُ عَلَى غَيْرِ شَرْطِ الْمُصَنِّفِ.

‌37 - بَاب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلَّا مِنْ الْغَشْيِ الْمُثْقِلِ

184 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قال: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي، فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ! فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ أَيْ نَعَمْ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلَّانِي الْغَشْيُ، وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي مَاءً، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ

ص: 288

قال: مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ، فَيُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ، فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا. فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ - أَوْ الْمُرْتَابُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ -، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ)؛ أَيْ: مِنَ الْغَشْيِ (إِلَّا مِنَ الْغَشْيِ الْمُثْقِلِ) فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ. وَالْمُثْقِلُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنَ الْغَشْيِ مُطْلَقًا، وَالتَّقْدِيرُ: بَابُ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنَ الْغَشْيِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُثْقِلًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ أَيْضًا، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ أَيْضًا، وَفِيهِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ هِشَامٍ وَامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَمِّهِ الْمُنْذِرِ.

قَوْلُهُ: (فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ) كَذَا لِأَكْثَرِهِمْ بِالنُّونِ، وَلِكَرِيمَةَ أَيْ نَعَمْ، وَهِيَ رِوَايَةُ وُهَيْبٍ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْعِلْمِ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ كَانَتْ بِرَأْسِهَا.

قَوْلُهُ: (تَجَلَّانِي)؛ أَيْ: غَطَّانِي، قال ابْنُ بَطَّالٍ: الْغَشْيُ مَرَضٌ يَعْرِضُ مِنْ طُولِ التَّعَبِ وَالْوُقُوفِ

(1)

، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِغْمَاءِ إِلَّا أَنَّهُ دُونَهُ، وَإِنَّمَا صَبَّتْ أَسْمَاءُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهَا مُدَافَعَةً لَهُ، وَلَوْ كَانَ شَدِيدًا لَكَانَ كَالْإِغْمَاءِ، وَهُوَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِالْإِجْمَاعِ، انْتَهَى.

وَكَوْنُهَا كَانَتْ تَتَوَلَّى صَبَّ الْمَاءِ عَلَيْهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَوَاسَّهَا كَانَتْ مُدْرِكَةً، وَذَلِكَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ بِفِعْلِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يَرَى الَّذِي خَلْفَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَتَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ فِي كِتَابِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌38 - بَاب مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ،

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا. وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ؟ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ

185 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قال لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.

[الحديث 185 - أطرافه في: 199، 197، 192، 191، 186]

(1)

وقد يعرض للإنسان عند رؤيته او سماعه ما يدهشه، كما في هذا الحديث

ص: 289

قَوْلُهُ (بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ) كَذَا لِأَكْثَرِهِمْ، وَسَقَطَ لَفْظُ كُلِّهِ لِلْمُسْتَمْلِي.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ)؛ أَيْ: سَعِيدٌ، وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْمَسْحِ سَوَاءٌ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قال: يَكْفِي الْمَرْأَةَ مَسْحُ مُقَدَّمِ رَأْسِهَا.

قَوْلُهُ: (وَسُئِلَ مَالِكٌ) السَّائِلُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، بَيَّنَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَفْظُهُ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الرَّجُلِ يَمْسَحُ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ فِي وُضُوئِهِ أَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وُضُوئِهِ مِنْ نَاصِيَتِهِ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّ يَدَيْهِ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَمَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ. وَهَذَا السِّيَاقُ أَصْرَحُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنَ الَّذِي سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ قَبْلُ، وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ مُجْمَلٌ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مِنْهَا مَسْحُ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ، أَوْ مَسْحُ الْبَعْضِ عَلَى أَنَّهَا تَبْعِيضِيَّةٌ، فَتَبَيَّنَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُرَادَ الْأَوَّلُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ مَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ إِلَّا فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّعْمِيمَ لَيْسَ بِفَرْضٍ

(1)

، فَعَلَى هَذَا فَالْإِجْمَالُ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لَا فِي الْأَصْلِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ)؛ أَيْ: أَبِي عُثْمَانَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ أَيِ: ابْنِ أَبِي حَسَنٍ وَاسْمُهُ تَمِيمُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وَلِجَدِّهِ أَبِي حَسَنٍ صُحْبَةٌ، وَكَذَا لِعُمَارَةَ فِيمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فِيهِ نَظَرٌ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يُوسُفَ وَقَدْ دَخَلَهَا.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) هُوَ عَمْرُو بْنُ أَبِي حَسَنٍ كَمَا سَمَّاهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدُ هَذَا مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ هُنَا وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى فِيهِ تَجَوُّزٌ، لِأَنَّهُ عَمُّ أَبِيهِ، وَسَمَّاهُ جَدًّا لِكَوْنِهِ فِي مَنْزِلَتِهِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ جَدًّا لِعَمْرِو بْنِ يَحْيَى لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.

وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْكَمَالِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَرْجَمَةِ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ ابْنُ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فَغَلَطٌ تَوَهَّمَهُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ أُمَّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى هِيَ حَمِيدَةُ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ أُمُّ النُّعْمَانِ بِنْتُ أَبِي حَيَّةَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ رُوَاةُ الْمُوَطَّأِ فِي تَعْيِينِ هَذَا السَّائِلِ، وَأَمَّا أَكْثَرُهُمْ فَأَبْهَمَهُ، قال مَعْنُ بْنُ عِيسَى فِي رِوَايَتِهِ، عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى: إِنَّهُ سَمِعَ أَبَا حَسَنٍ - وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى -، قال: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ مَالِكٍ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ أَبَا حَسَنٍ يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ. وَكَذَا سَاقَهُ سَحْنُونُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ إِنَّهُ، قال لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. وَمِثْلُهُ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ، قال: قُلْتُ. . وَالَّذِي يَجْمَعُ هَذَا الِاخْتِلَافَ أَنْ يُقَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَبُو حَسَنٍ الْأَنْصَارِيُّ وَابْنُهُ عَمْرٌو وَابْنُ ابْنِهِ يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَسَنٍ، فَسَأَلُوهُ عَنْ صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَوَلَّى السُّؤَالَ مِنْهُمْ لَهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي حَسَنٍ، فَحَيْثُ نُسِبَ إِلَيْهِ السُّؤَالُ كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنَ التَّوْرِ، قال: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ، قال: كَانَ عَمِّي يَعْنِي عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ يُكْثِرُ الْوُضُوءَ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبِرْنِي. فَذَكَرَهُ. وَحَيْثُ نُسِبَ السُّؤَالُ إِلَى أَبِي حَسَنٍ فَعَلَى الْمَجَازِ لِكَوْنِهِ كَانَ الْأَكْبَرَ وَكَانَ حَاضِرًا. وَحَيْثُ نُسِبَ السُّؤَالُ لِيَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ فَعَلَى الْمَجَازِ أَيْضًا لِكَوْنِهِ نَاقِلَ الْحَدِيثِ وَقَدْ حَضَرَ السُّؤَالَ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ،

(1)

ليس في الحديث المذكور حجة على أن تعميم الرأس ليس بفرض إذا لم يكن عليه عمامة، وإنما يدل الحديث على الاجتزاء بمسح ما ظهر منه تبعا لمسح العمامة عند وجودها. وأما عند عدمها فالواجب تعميمه عملا بحديث عبد الله بن زيد. وبذلك يتبين أنه ليس بين الحديثين اختلاف. والباء في الآية للا لصاق، فليست زائدة ولا للتبعيض فتنبه.

ص: 290

عَنْ خَالِدٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قال: قِيلَ لَهُ تَوَضَّأْ لَنَا فَذَكَرَهُ مُبْهَمًا. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ قُلْنَا لَهُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْجَمْعَ الْمُتَقَدِّمَ مِنْ كَوْنِهِمُ اتَّفَقُوا عَلَى سُؤَالِهِ، لَكِنَّ مُتَوَلِّيَ السُّؤَالِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ أَبِي حَسَنٍ.

وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا رِوَايَةُ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ عَمْرِو بْنِ أَبِي حَسَنٍ، قال: كُنْتُ كَثِيرَ الْوُضُوءِ، فَقُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَتَسْتَطِيعُ) فِيهِ مُلَاطَفَةُ الطَّالِبِ لِلشَّيْخِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُ بِالْفِعْلِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي التَّعْلِيمِ، وَسَبَبُ الِاسْتِفْهَامِ مَا قَامَ عِنْدَهُ مِنِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ نَسِيَ ذَلِكَ لِبُعْدِ الْعَهْدِ.

قَوْلُهُ: (فَدَعَا بِمَاءٍ) وَفِي رِوَايَةِ وَهْبٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ. وَالتَّوْرُ بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ، قال الدَّاوُدِيُّ: قَدَحٌ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إِنَاءٌ يُشْرَبُ مِنْهُ. وَقِيلَ هُوَ الطَّسْتُ، وَقِيلَ يُشْبِهُ الطَّسْتَ، وَقِيلَ هُوَ مِثْلُ الْقِدْرِ يَكُونُ مِنْ صُفْرٍ أَوْ حِجَارَةٍ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْغُسْلِ فِي الْمِخْضَبِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ وَالصُّفْرُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَقَدْ تُكْسَرُ صِنْفٌ مِنْ حَدِيدِ النُّحَاسِ، قِيلَ: إِنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ يُشْبِهُ الذَّهَبَ، وَيُسَمَّى أَيْضًا الشَّبَهَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ. وَالتَّوْرُ الْمَذْكُورُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي تَوَضَّأَ مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ إِذْ سُئِلَ عَنْ صِفَةِ الْوُضُوءِ فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي حِكَايَةِ صُورَةِ الْحَالِ عَلَى وَجْهِهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَفْرَغَ) وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى، عَنْ وُهَيْبٍ فَأَكْفَأَ بِهَمْزَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي بَابِ مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً، عَنْ وُهَيْبٍ فَكَفَأَ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى يُقَالُ كَفَأَ الْإِنَاءَ وَأَكْفَأَ إِذَا أَمَالَهُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ كَفَأْتُ الْإِنَاءَ كَبَبْتُهُ وَأَكْفَأْتُهُ أَمَلْتُهُ، وَالْمُرَادُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِفْرَاغُ الْمَاءِ مِنَ الْإِنَاءِ عَلَى الْيَدِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (فَغَسَلَ يَدَهُ مَرَّتَيْنِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ بِإِفْرَادِ يَدِهِ، وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا لِلدَّرَاوَرْدِيِّ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ، فَيُحْمَلُ الْإِفْرَادُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَلَى الْجِنْسِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ مَرَّتَيْنِ، وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ ثَلَاثًا، وَكَذَا لِخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَهَؤُلَاءِ حُفَّاظٌ وَقَدِ اجْتَمَعُوا فَزِيَادَتُهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحَافِظِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ بَهْزٍ، عَنْ وُهَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مَرَّتَيْنِ مِنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى إِمْلَاءً، فَتَأَكَّدَ تَرْجِيحُ رِوَايَتِهِ، وَلَا يُقَالُ يُحْمَلُ عَلَى وَاقِعَتَيْنِ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَخْرَجُ مُتَّحِدٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ.

وَفِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ غَسْلُ الْيَدِ قَبْلَ إِدْخَالِهَا الْإِنَاءَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ نَوْمٍ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَالْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ هُنَا الْكَفَّانِ لَا غَيْرُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ)، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَالِاسْتِنْثَارُ يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِنْشَاقَ بِلَا عَكْسٍ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ الثَّلَاثَةِ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ مِنْ كُلِّ غَرْفَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْآتِيَةِ بَعْدَ قَلِيلٍ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْجَمْعِ كُلَّ مَرَّةٍ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ وُهَيْبٍ فَإِنَّهُ تَطَرَّقَهَا احْتِمَالُ التَّوْزِيعِ بِلَا تَسْوِيَةٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنَ التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى الْجَمْعِ بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنِ اتِّحَادِ الْمَخْرَجِ فَتُقَدَّمُ الزِّيَادَةُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَضْمَضَ، فَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى تَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ لِكَوْنِهِ عَطْف بِالْفَاءِ التَّعْقِيبِيَّةِ وَفِيهِ بَحْثٌ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا) لَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى

ص: 291

وُجُوبِ التَّرْتِيبِ لِلْإِتْيَانِ بِقَوْلِهِ ثُمَّ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْحُكْمَيْنِ مُجْمَلٌ فِي الْآيَةِ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِالْفِعْلِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) كَذَا بِتَكْرَارِ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ مَرَّتَيْنِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ بْنِ وَاسِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنٍ زَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، وَفِيهِ: وَيَدَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا ثُمَّ الْأُخْرَى ثَلَاثًا، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ وُضُوءٌ آخَرُ لِكَوْنِ مَخْرَجِ الْحَدِيثَيْنِ غَيْرَ مُتَّحِدٍ.

قَوْلُهُ: (إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِالْإِفْرَادِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يَدْخُلُ الْمِرْفَقَانِ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْمُعْظَمُ: نَعَمْ، وَخَالَفَ زُفَرُ، وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِلْجُمْهُورِ بِأَنَّ إِلَى فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَرِينَةَ دَلَّتْ عَلَيْهِ وَهِيَ كَوْنُ مَا بَعْدَ إِلَى مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: الْيَدُ يَتَنَاوَلُهَا الِاسْمُ إِلَى الْإِبْطِ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ أَنَّهُ تَيَمَّمَ إِلَى الْإِبْطِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَلَمَّا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِلَى الْمَرَافِقِ} بَقِيَ الْمِرْفَقُ مَغْسُولًا مَعَ الذِّرَاعَيْنِ بِحَقِّ الِاسْمِ، انْتَهَى.

فَعَلَى هَذَا فَإِلَى هُنَا حَدٌّ لِلْمَتْرُوكِ مِنْ غَسْلِ الْيَدَيْنِ لَا لِلْمَغْسُولِ، وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ ظَاهِرًا مِنَ السِّيَاقِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَفْظُ إِلَى يُفِيدُ مَعْنَى الْغَايَةِ مُطْلَقًا، فَأَمَّا دُخُولُهَا فِي الْحُكْمِ وَخُرُوجُهَا فَأَمْرٌ يَدُورُ مَعَ الدَّلِيلِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} دَلِيلُ عَدَمِ دُخُولِ النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ حَفِظْتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ دَلِيلُ الدُّخُولِ كَوْنُ الْكَلَامِ مَسُوقًا لِحِفْظِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِلَى الْمَرَافِقِ} لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، قال: فَأَخَذَ الْعُلَمَاءُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَوَقَفَ زُفَرُ مَعَ الْمُتَيَقَّنِ، انْتَهَى.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لِدُخُولِهِمَا بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، فَفِي الدَّارَقُطْنِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ حَتَّى مَسَّ أَطْرَافَ الْعَضُدَيْنِ، وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ، قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ

(1)

. وَفِي الْبَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى جَاوَزَ الْمِرْفَقَ وَفِي الطَّحَاوِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى يَسِيلَ الْمَاءُ عَلَى مِرْفَقَيْهِ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. قال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: إِلَى فِي الْآيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَعَ، فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّهَا بِمَعْنَى مَعَ، انْتَهَى.

وَقَدْ قال الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: لَا أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي إِيجَابِ دُخُولِ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، فَعَلَى هَذَا فَزُفَرُ مَحْجُوجٌ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ وَكَذَا مَنْ قال بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ صَرِيحًا وَإِنَّمَا حَكَى عَنْهُ أَشْهَبُ كَلَامًا مُحْتَمِلًا. وَالْمِرْفَقُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ فِي آخِرِ الذِّرَاعِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُرْتَفَقُ بِهِ فِي الِاتِّكَاءِ وَنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ) زَادَ ابْنُ الطَّبَّاعِ كُلَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَفِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِرَأْسِهِ بِزِيَادَةِ الْبَاءِ. قال الْقُرْطُبِيُّ: الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ يَجُوزُ حَذْفُهَا وَإِثْبَاتُهَا، كَقَوْلِكَ مَسَحْتُ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَمَسَحْتُ بِرَأْسِهِ. وَقِيلَ: دَخَلَتِ الْبَاءُ لِتُفِيدَ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْغُسْلَ لُغَةً يَقْتَضِي مَغْسُولًا بِهِ، وَالْمَسْحُ لُغَةً لَا يَقْتَضِي مَمْسُوحًا بِهِ، فَلَوْ قال: وَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ لَأَجْزَأَ الْمَسْحُ بِالْيَدِ بِغَيْرِ مَاءٍ، فَكَأَنَّهُ قال: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمُ الْمَاءَ فَهُوَ عَلَى الْقَلْبِ، وَالتَّقْدِيرُ: امْسَحُوا رُءُوسَكُمْ بِالْمَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: احْتَمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} جَمِيعَ الرَّأْسِ أَوْ بَعْضَهُ، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ يُجْزِئُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} فِي اتَّيَمُّمِ أَنَّ

(1)

وأصح من هذه الأحاديث ما رواه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه "ثم غسل يديه حتى أشرع في العضد-الى أن قال- ثم غسل رجليه حتى أشرع في الساق" فهذا الحديث صحيح صريح في إدخال الكعبين والمرفقين في المغسول

ص: 292

الْمَسْحَ فِيهِ بَدَلٌ عَنِ الْغَسْلِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ أَصْلٌ فَافْتَرَقَا، وَلَا يَرِدُ كَوْنُ مَسْحِ الْخُفِّ بَدَلًا عَنْ غَسْلِ الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِيهِ ثَبَتَتْ بِالْإِجْمَاعِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ النَّاصِيَةِ لِعُذْرٍ - لِأَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ مَظِنَّةُ الْعُذْرِ، وَلِهَذَا مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ بَعْدَ مَسْحِ النَّاصِيَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -، قُلْنَا: قَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَسْحُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ مَسْحٍ عَلَى الْعِمَامَةِ وَلَا تَعَرُّضٍ لِسَفَرٍ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَحَسَرَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ وَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ لَكِنَّهُ اعْتُضِدَ بِمَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو مَعْقِلٍ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، فَقَدِ اعْتَضَدَ كُلٌّ مِنَ الْمُرْسَلِ وَالْمَوْصُولِ بِالْآخَرِ، وَحَصَلَتِ الْقُوَّةُ مِنَ الصُّورَةِ الْمَجْمُوعَةِ، وَهَذَا مِثَالٌ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُرْسَلَ يَعْتَضِدُ بِمُرْسَلٍ آخَرَ أَوْ مُسْنَدٍ، وَظَهَرَ بِهَذَا جَوَابُ مَنْ أَوْرَدَ أَنَّ الْحُجَّةَ حِينَئِذٍ بِالْمُسْنَدِ فَيَقَعُ الْمُرْسَلُ لَغْوًا، وَقَدْ قَرَّرْتُ جَوَابَ ذَلِكَ فِيمَا كَتَبْتُهُ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ لِابْنِ الصَّلَاحِ.

وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ، قال: وَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَفِيهِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الِاكْتِفَاءُ بِمَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنْكَارُ ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ. وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَقْوَى بِهِ الْمُرْسَلُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ، فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قال: السُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ بِمُؤَخَّرِ الرَّأْسِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى مُقَدَّمِهِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ فَأَدْبَرَ بِيَدَيْهِ وَأَقْبَلَ فَلَمْ يَكُنْ فِي ظَاهِرِهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْبَالَ وَالْإِدْبَارَ مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَا أَقْبَلَ إِلَيْهِ وَلَا مَا أَدْبَرَ عَنْهُ، وَمَخْرَجُ الطَّرِيقَيْنِ مُتَّحِدٌ، فَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وَعَيَّنَتْ رِوَايَةُ مَالِكٍ الْبَدَاءَةَ بِالْمُقَدَّمِ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ أَقْبَلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْفِعْلِ بِابْتِدَائِهِ؛ أَيْ: بَدَأَ بِقِبَلِ الرَّأْسِ، وَقِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ غَيْرُ ذَلِكُ. وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ اسْتِيعَابُ جِهَتَيِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَنْ لَهُ شَعْرٌ، وَالْمَشْهُورُ عَمَّنْ أَوْجَبَ التَّعْمِيمَ الْأُولَى وَاجِبَةٌ وَالثَّانِيَةَ سُنَّةٌ، وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ التَّعْمِيمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ الْآتِيَةِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَالْبَحْثُ فِيهِ كَالْبَحْثِ فِي قَوْلِهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْكَعْبَ هُوَ الْعَظْمُ النَّاشِزُ عِنْدَ مُلْتَقَى السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ الْعَظْمُ الَّذِي فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِيهِ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الصَّحِيحُ فِي صِفَةِ الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا رَأَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ قَطْعِ الْمُحْرِمِ الْخُفَّيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْإِفْرَاغُ عَلَى الْيَدَيْنِ مَعًا فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ، وَأَنَّ الْوُضُوءَ الْوَاحِدَ يَكُونُ بَعْضُهُ بِمَرَّةٍ وَبَعْضُهُ بِمَرَّتَيْنِ وَبَعْضُهُ بِثَلَاثٍ، وَفِيهِ مَجِيءُ الْإِمَامِ إِلَى بَيْتِ بَعْضِ رَعِيَّتِهِ وَابْتِدَاؤُهُمْ إِيَّاهُ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّ لَهُ بِهِ حَاجَةً، وَجَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ فِي إِحْضَارِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَالتَّعْلِيمُ بِالْفِعْلِ، وَأَنَّ الِاغْتِرَافَ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لِلتَّطَهُّرِ لَا يُصَيِّرُ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ وَغَيْرِهِ: ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ. . . إِلَخْ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ نِيَّةِ الِاغْتِرَافِ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُثْبِتُهَا وَلَا مَا يَنْفِيهَا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَلَى جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُذْكَرْ فِيهِ، وَقَدْ أَدْخَلَ يَدَهُ لِلِاغْتِرَافِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ وَهُوَ وَقْتُ غَسْلِهَا، وَقَالَ

ص: 293

الْغَزَالِيُّ: مُجَرَّدُ الِاغْتِرَافِ لَا يُصَيِّرُ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ إِنَّمَا يَقَعُ مِنَ الْمُغْتَرَفِ مِنْهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى اسْتِيعَابِ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ يَدُلُّ لِذَلِكَ نَدْبًا لَا فَرْضًا، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُنْدَبُ تَكْرِيرُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَعَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ مِنْ غَرْفَةٍ كَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا، وَعَلَى جَوَازِ التَّطَهُّرِ مِنْ آنِيَةِ النُّحَاسِ وَغَيْرِهِ.

‌39 - بَاب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ

186 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، قال: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ قال: شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِهِ مِنْ التَّوْرِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

وَعَمْرٌو الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ شَيْخُ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي حَسَنٍ عَمُّ أَبِيهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَسَمَّاهُ هُنَاكَ جَدَّهُ مَجَازًا، وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ - تَبَعًا لِصَاحِبِ الْكَمَالِ -، فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ أَبِي حَسَنٍ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أُمَّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى لَيْسَتْ بِنْتًا لِعَمْرِو بْنِ أَبِي حَسَنٍ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ مَا قَالَهُ بِالِاحْتِمَالِ.

قَوْلُهُ: (فَتَوَضَّأَ لَهُمْ)؛ أَيْ: لِأَجْلِهِمْ (وُضُوءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أَيْ: مِثْلَ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ وُضُوءَهُ مُبَالَغَةً.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ) بَيَّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَجْدِيدَ الِاغْتِرَافِ لِكُلِّ عُضْوٍ، وَأَنَّهُ اغْتَرَفَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَكَذَا هُوَ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ، وَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ، وَأَبِي الْوَقْتِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ الْآتِيَةِ: ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَلَا الْأَصِيلِيِّ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ خَارِجَ الصَّحِيحِ. قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَأَظُنُّ أَنَّ الْإِنَاءَ كَانَ صَغِيرًا، فَاغْتَرَفَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ ثُمَّ أَضَافَهَا إِلَى الْأُخْرَى، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلَّا فَالِاغْتِرَافُ بِالْيَدَيْنِ جَمِيعًا أَسْهَلُ وَأَقْرَبُ تَنَاوُلًا كَمَا قال الشَّافِعِيُّ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ) الْمُرَادُ غَسَلَ كُلَّ يَدٍ مَرَّتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي طَرِيقِ مَالِكٍ: ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَوْزِيعَ الْمَرَّتَيْنِ عَلَى الْيَدَيْنِ، فَكَأنَ يَكُونُ لِكُلِّ يَدٍ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ.

‌40 - بَاب اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّئُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ

187 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قال: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، قال: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ.

[الحديث 187 - أطرافه في: 5859، 5786، 3566، 3553، 634، 633، 501، 499، 495، 376]

ص: 294

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ)؛ أَيْ: فِي التَّطَهُّرِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ الْمَاءُ الَّذِي يَبْقَى فِي الظَّرْفِ بَعْدَ الْفَرَاغِ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْهُ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَانَ جَرِيرٌ يَسْتَاكُ وَيَغْمِسُ رَأْسَ سِوَاكِهِ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ لِأَهْلِهِ: تَوَضَّئُوا بِفَضْلِهِ، لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ، وَظَنَّ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِ سِوَاكِهِ الْمَاءُ الَّذِي يُنْتَقَعُ فِيهِ الْعُودُ مِنَ الْأَرَاكِ وَغَيْرِهِ لَيْلَيْنِ، فَقَالُوا: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَاءَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ صَنِيعَهُ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ، وَكَذَا مُجَرَّدُ الِاسْتِعْمَالِ لَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّطَهُّرُ بِهِ.

وَقَدْ صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ: كَأَنْ يَقُولُ لِأَهْلِهِ: تَوَضَّؤُوا مِنْ هَذَا الَّذِي أُدْخِلُ فِيهِ سِوَاكِي. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِ سِوَاكِهِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ فِي مَسَائِلِهِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: كَانَ يُدْخِلُ السِّوَاكَ فِي الْإِنَاءِ وَيَسْتَاكُ، فَإِذَا فَرَغَ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ إِيرَادُ الْبُخَارِيِّ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَعْقُودِ لِطَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ السِّوَاكَ مُطَهِّرٌ لِلْفَمِ، فَإِذَا خَالَطَ الْمَاءَ ثُمَّ حَصَلَ الْوُضُوءُ بِذَلِكَ الْمَاءِ كَانَ فِيهِ اسْتِعْمَالٌ لِلْمُسْتَعْمَلِ فِي الطَّهَارَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَكَمُ) هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ تَصْغِيرُ عَتَبَةَ بِالْمُثَنَّاةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ، كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ. وَحَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ الْمَذْكُورُ سَتَأْتِي مَبَاحِثُهُ فِي بَابِ السُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ: يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ. كَأَنَّهُمُ اقْتَسَمُوا الْمَاءَ الَّذِي فَضَلَ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا تَنَاوَلُوا مَا سَالَ مِنْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.

188 -

وَقَالَ أَبُو مُوسَى: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قال لَهُمَا: اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا.

[الحديث 188 - طرافاه في: 196، 4328]

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُوسَى) هُوَ الْأَشْعَرِيُّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْمَغَازِي، وَأَوَّلُهُ عَنْ أَبِي مُوسَى، قال: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعِرَّانَةِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ. . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَعُرِفَ مِنْهُ تَفْسِيرُ الْمُبْهَمَيْنِ فِي قَوْلِهِ اشْرَبَا وَهُمَا أَبُو مُوسَى، وَبِلَالٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ طَرَفًا مِنْهُ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ فِي بَابِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِي الْمِخْضَبِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ قَلِيلٍ.

قَوْلُهُ: (وَمَجَّ فِيهِ)؛ أَيْ: صَبَّ مَا تَنَاوَلَهُ مِنَ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ، وَالْغَرَضُ بِذَلِكَ إِيجَادُ الْبَرَكَةِ بِرِيقِهِ الْمُبَارَكِ.

189 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قال: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قال: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، قال: وَهُوَ الَّذِي مَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَهُوَ غُلَامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ. وَقَالَ عُرْوَةُ عَنْ الْمِسْوَرِ، وَغَيْرِهِ: يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ هَذَا فِي بَابِ مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُرْوَةُ) هُوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ (عَنِ الْمِسْوَرِ) هُوَ ابْنُ مَخْرَمَةَ.

قَوْلُهُ: (وَغَيْرُهُ) هُوَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ كَمَا سَيَأْتِي مَوْصُولًا مُطَوَّلًا فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ:

ص: 295

هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَإِنْ كَانَتْ عَنْ مَجْهُولٍ لَكِنَّهَا مُتَابَعَةٌ، وَيُغْتَفَرُ فِيهَا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْأُصُولِ. قُلْتُ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَذَرُ بِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُبْهَمَ مَعْرُوفٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُسَمِّهِ اخْتِصَارًا كَمَا اخْتَصَرَ السَّنَدَ فَعَلَّقَهُ، وَزَعَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ وَقَالَ عُرْوَةُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي السَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ أَخْبَرَنِي مَحْمُودٌ فَيَكُونُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدِيثَ مَحْمُودٍ وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَدِيثَ عُرْوَةَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ حَدِيثُ عُرْوَةَ مُعَلَّقًا بَلْ يَكُونُ مَوْصُولًا بِالسَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَصَنِيعُ أَئِمَّةِ النَّقْلِ يُخَالِفُ مَا زَعَمَهُ، وَاسْتَمَرَّ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى هَذَا التَّجْوِيزِ حَتَّى زَعَمَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ لِلْمِسْوَرِ، وَمَحْمُودِ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ بَلْ هُوَ لِلْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانَ، وَهُوَ تَجْوِيزٌ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى النَّقْلِ فِي بَابِ النَّقْلِ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (كَانُوا يَقْتَتِلُونَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِلْبَاقِينَ كَادُوا بِالدَّالِ وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَإِنَّمَا حَكَى ذَلِكَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ لِيُعْلِمَهُمْ شِدَّةَ تَعْظِيمِ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ الْقِتَالَ مُبَالَغَةً.

بَاب

190 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، قال: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ الْجَعْدِ، قال: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَقِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ. ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ.

[الحديث 190 - أطرافه في: 3540، 3541، 6352]

قَوْلُهُ: (بَابُ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي كَأَنَّهُ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَجَعَلَهُ الْبَاقُونَ مِنْهُ بِلَا فَصْلٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ) هُوَ أَبُو مُسْلِمٍ الْمُسْتَمْلِي أَحَدُ الْحُفَّاظِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْجَعْدِ) كَذَا هُنَا، وَلِلْأَكْثَرِ الْجُعَيْدُ بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالسَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُهُ هَذَا مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقِعٌ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَالتَّنْوِينِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَقَعَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَجَعٌ بِالْجِيمِ وَالتَّنْوِينِ، وَالْوَقْعُ وَجَعٌ فِي الْقَدَمَيْنِ.

قَوْلُهُ: (زِرُّ الْحَجَلَةِ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَالْحَجَلَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ وَاحِدَةُ الْحِجَالِ، وَهِيَ بُيُوتٌ تُزَيَّنُ بِالثِّيَابِ وَالْأَسِرَّةِ وَالسُّتُورِ لَهَا عُرًى وَأَزْرَارٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَجَلَةِ الطَّيْرُ وَهُوَ الْيَعْقُوبُ يُقَالُ لِلْأُنْثَى مِنْهُ حَجَلَةٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِزِرِّهَا بَيْضَتُهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مِثْلُ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ قال بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَحَكَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَجَعَ عَنْهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الْأُولَى: طَاهِرٌ لَا طَهُورٌ وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، الثَّانِيَةُ: نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ، الثَّالِثَةُ: نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ اللُّؤْلُؤِيِّ عَنْهُ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَرُدُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّجِسَ لَا يُتَبَرَّكُ بِهِ، وَحَدِيثُ الْمَجَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْوُضُوءِ لَكِنَّ تَوْجِيهَهُ أَنَّ الْقَائِلَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ إِذَا عَلَّلَهُ بِأَنَّهُ مَاءٌ مُضَافٌ، قِيلَ لَهُ: هُوَ مُضَافٌ إِلَى طَاهِرٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَهُ الرِّيقُ طَاهِرٌ لِحَدِيثِ الْمَجَّةِ، وَأَمَّا مَنْ عَلَّلَهُ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ مَاءُ الذَّنُوبِ فَيَجِبُ إِبْعَادُهُ مُحْتَجًّا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ

ص: 296

عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، فَأَحَادِيثُ الْبَابِ أَيْضًا تَرُدُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ إِبْعَادُهُ لَا يُتَبَرَّكُ بِهِ وَلَا يُشْرَبُ، قال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِي إِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْبَلَلَ الْبَاقِيَ عَلَى أَعْضَاءِ الْمُتَوَضِّئِ وَمَا قَطَرَ مِنْهُ عَلَى ثِيَابِهِ طَاهِرٌ؛ دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ غَيْرَ طَهُورٍ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْغُسْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌41 - بَاب مَنْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ

191 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قال: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ أَفْرَغَ مِنْ الْإِنَاءِ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ غَسَلَ أَوْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا. فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قال: هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ قَرِيبًا فِي بَابِ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَتَقَدَّمَتِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَوَائِلِ الْوُضُوءِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَسَلَ)؛ أَيْ: فَمَهُ (أَوْ مَضْمَضَ) كَذَا عِنْدَهُ بِالشَّكِّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ عَنْ خَالِدٍ بِسَنَدِهِ هَذَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ كَذَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ. وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنَ التَّابِعِيِّ.

قَوْلُهُ: (مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِلْأَكْثَرِ مِنْ كَفٍّ بِغَيْرِ هَاءٍ. قال ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِالْكَفَّةِ الْغَرْفَةُ، فَاشْتُقَّ لِذَلِكَ مِنِ اسْمٍ الْكَفِّ عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى، قال: وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلْحَاقُ هَاءِ التَّأْنِيثِ فِي الْكَفِّ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ كَفَّةٌ فَعْلَةٌ، لَا أَنَّهَا تَأْنِيثُ الْكَفِّ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ: قَوْلُهُ مِنْ كُفَّةٍ هِيَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ كَغَرْفَةٍ وَغُرْفَةٍ؛ أَيْ: مَا مَلَأَ كَفَّهُ مِنَ الْمَاءِ.

قَوْلُهُ (ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ) لَمْ يَذْكُرْ غَسْلَ الْوَجْهِ اخْتِصَارًا، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. وَبَقِيَّةُ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا.

‌42 - بَاب مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً

192 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قال: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، قال: شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ، فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ بِهِمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ.

وَحَدَّثَنَا مُوسَى، قال: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قال: مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً) ولِلْأَصِيلِيِّ: مَسْحَةً.

قَوْلُهُ: (فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ

ص: 297

فَدَعَا بِمَاءٍ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّوْرَ.

قَوْلُهُ: (فَكَفَأَهُ)؛ أَيْ: أَمَالَهُ، وَلِلْأَصِيلِيِّ فَأَكْفَأَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى.

قَوْلُهُ (فَأَقْبَلَ بِيَدِهِ) كَذَا هُنَا بِالْإِفْرَادِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالتَّثْنِيَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ)؛ أَيْ: بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ وَحَدِيثِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ طَرِيقُ مُوسَى هَذِهِ فِي بَابِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مَرَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِي اسْتِحْبَابِ الْعَدَدِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَذَكَرْنَا قَوْلَ أَبِي دَاوُدَ: إِنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عَنْ عُثْمَانَ لَيْسَ فِيهَا عَدَدٌ لِمَسْحِ الرَّأْسِ، وَأَنَّهُ أَوْرَدَ الْعَدَدَ مِنْ طَرِيقَيْنِ صَحَّحَ أَحَدَهُمَا غَيْرُهُ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ

(1)

، فَيُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ عَلَى إِرَادَةِ اسْتِثْنَاءِ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا، فَكَأَنَّهُ قال: إِلَّا هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ.

قال ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: فِي الِاصْطِلَامِ

(2)

: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ يُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ، فَيَكُونُ مَسَحَ تَارَةً مَرَّةً وَتَارَةً ثَلَاثًا، فَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ مَسَحَ مَرَّةً حُجَّةٌ عَلَى مَنْعِ التَّعَدُّدِ. وَيُحْتَجُّ لِلتَّعَدُّدِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَغْسُولِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ، وَلَا فَرْقَ فِي الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ. وَأُجِيبَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ بِخِلَافِ الْغَسْلِ، وَلَوْ شُرِعَ التَّكْرَارُ لَصَارَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ الْمَغْسُولِ. وَقَدِ اتُّفِقَ عَلَى كَرَاهَةِ غَسْلِ الرَّأْسِ بَدَلَ الْمَسْحِ وَإِنْ كَانَ مُجْزِئًا، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْخِفَّةَ تَقْتَضِي عَدَمَ الِاسْتِيعَابِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ فَلْيَكُنِ الْعَدَدُ كَذَلِكَ، وَجَوَابُهُ وَاضِحٌ.

وَمِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى عَدَمِ الْعَدَدِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ؛ حَيْثُ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ فَرَغَ: مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ. فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى الْمَرَّةِ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ، وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي تَثْلِيثِ الْمَسْحِ - إِنْ صَحَّتْ - عَلَى إِرَادَةِ الِاسْتِيعَابِ بِالْمَسْحِ، لَا أَنَّهَا مَسَحَاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ. جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ.

(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرُ غَسْلِ الْوَجْهِ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَفْعُولَ غَسَلَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي، وَالتَّقْدِيرُ: فَغَسَلَ وَجْهَهُ أَوْ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا الْمَذْكُورَةِ وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِصَارَ مِنْ مُسَدَّدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّكَّ مِنْهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَذَفَ الْوَجْهَ إِذَا لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ اخْتِلَافٌ، وَذَكَرَ مَا عَدَاهُ لِمَا فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ مِنَ الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ، وَلِمَا فِي إِدْخَالِ الْمِرْفَقَيْنِ، وَلِمَا فِي مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَلِمَا فِي الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَلَا ي خْفَى تَكَلُّفُهُ.

‌43 - بَاب وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ وَفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ. وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ مِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ

193 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قال: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّؤُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ وُضُوءِ الرَّجُلِ) بِضَمِّ الْوَاوِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ الْفِعْلُ.

قَوْلُهُ: (وَفَضْلُ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَاءُ الْفَاضِلُ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْوُضُوءِ، وَهُوَ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ وُضُوءِ الرَّجُلِ.

قَوْلُهُ:

(1)

سبق فيص 260 أنها زيادة شاذة فلا يعتمد عليها. والله أعلم

(2)

كتاب له في الرد على أبوزيد الدبوسي

ص: 298

(وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ)؛ أَيْ: بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ وَيَغْتَسِلُ مِنْهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ كَانَ يُسَخَّنُ لَهُ مَاءٌ فِي قُمْقُمٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ. قال الدَّارَقُطْنِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ أَهْلَ الرَّجُلِ تَبَعٌ لَهُ فِيمَا يَفْعَلُ، فَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ مَنَعَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَتَطَهَّرَ بِفَضْلِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ امْرَأَةَ عُمَرَ كَانَتْ تَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهِ أَوْ مَعَهُ، فَيُنَاسِبُ قَوْلَهُ: وُضُوءُ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ أَيْ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ.

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ فَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ.

قَوْلُهُ: (وَمِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحَمِيمِ؛ أَيْ: وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ: تَوَضَّأَ مِنْ مَاءٍ فِي جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ وَلَمْ يَسْمَعْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعْدَانَ بْنِ نَصْرٍ عَنْهُ، قال: حَدَّثُونَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. فَذَكَرَهُ مُطَوَّلًا. وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ الْوَاسِطَةِ، فَقَالَ: عَنِ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ. وَأَوْلَادُ زَيْدٍ هُمْ عَبْدُ اللَّهِ، وَأُسَامَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَوْثَقُهُمْ وَأَكْبَرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَظُنُّهُ هُوَ الَّذِي سَمِعَ ابْنَ عُيَيْنَةَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا جَزَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِحَذْفِ الْوَاوِ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنْ بَيْتِ وَهَذَا الَّذِي جَرَّأَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَقُولَ: الْمَقْصُودُ ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ سُؤْرِ الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا الْحَمِيمُ فَذَكَرَهُ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُمَا أَثَرَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَهَذَا الثَّانِي مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ وَفَضْلُ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ تَوَضَّأَ بِمَائِهَا وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، مَعَ جَوَازِ أَنْ تَكُونَ تَحْتَ مُسْلِمٍ وَاغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضٍ لِيَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا فَفَضَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَاءُ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ بِهِ لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَجَرَتْ عَادَةُ الْبُخَارِيِّ بِالتَّمَسُّكِ بِمِثْلِ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِفْصَالِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ لَا يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ مِيَاهِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَاءِ الْمُشْرِكِ وَبِفَضْلِ وَضُوئِهِ مَا لَمْ تُعْلَمْ فِيهِ نَجَاسَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: انْفَرَدَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ بِكَرَاهَةِ فَضْلِ الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ جُنُبًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ التِّنِّيسِيُّ أَحَدُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ) ظَاهِرُهُ التَّعْمِيمُ، فَاللَّامُ لِلْجِنْسِ لَا لِلِاسْتِغْرَاقِ.

قَوْلُهُ: (فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ يَرَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى زَمَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ حُكْمُهُ الرَّفْعَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ خِلَافُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِتَوَفُّرِ دَوَاعِي الصَّحَابَةِ عَلَى سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ لَهُمْ وَمِنْهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَسْأَلُوهُ لَمْ يُقَرُّوا عَلَى فِعْلِ غَيْرِ الْجَائِزِ فِي زَمَنِ التَّشْرِيعِ، فَقَدِ اسْتَدَلَّ أَبُو سَعِيدٍ، وَجَابِرٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْعَزْلِ بِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ وَلَوْ كَانَ مَنْهِيًّا لَنَهَى عَنْهُ الْقُرْآنُ، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: نُدْلِي فِيهِ أَيْدِينَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاغْتِرَافَ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُصَيِّرُهُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّ أَوَانِيَهُمْ كَانَتْ صِغَارًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ الذِّمِّيَّةِ وَاسْتِعْمَالِ فَضْلِ طَهُورِهَا وَسُؤْرِهَا لِجَوَازِ تَزَوُّجِهِنَّ، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَغَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (جَمِيعًا) ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الْمَاءَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ كَانُوا يَتَوَضَّؤُونَ جَمِيعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، هَؤُلَاءِ عَلَى حِدَةٍ وَهَؤُلَاءِ عَلَى حِدَةٍ، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَرِدُ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ اسْتَبْعَدَ اجْتِمَاعَ

ص: 299

الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْأَجَانِبِ، وَقَدْ أَجَابَ ابْنُ التِّينِ عَنْهُ بِمَا حَكَاهُ عَنْ سَحْنُونَ أَنَّ مَعْنَاهُ كَانَ الرِّجَالُ يَتَوَضَّؤُونَ وَيَذْهَبُونَ، ثُمَّ تَأْتِي النِّسَاءُ فَيَتَوَضَّأْنَ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِهِ جَمِيعًا، قال أَهْلُ اللُّغَةِ: الْجَمِيعُ ضِدُّ الْمُفْتَرِقِ، وَقَدْ وَقَعَ مُصَرَّحًا بِوَحْدَةِ الْإِنَاءِ فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَبْصَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ يَتَطَهَّرُونَ وَالنِّسَاءُ مَعَهُمْ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ يَتَطَهَّرُ مِنْهُ، وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَا مَانِعَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيَخْتَصُّ بِالزَّوْجَاتِ وَالْمَحَارِمِ.

وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ ثُمَّ الْقُرْطُبِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ اغْتِسَالِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مِنَ الْإِنَاءِ الْوَاحِدِ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْهُ، وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ قَوْمٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ بِفَضْلِ الرَّجُلِ دُونَ الْعَكْسِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا فَقَدْ أَثْبَتَ الْخِلَافَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ، وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ الْمَنْعَ لَكِنْ مُقَيَّدًا بِمَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا، وَأَمَّا عَكْسُهُ فَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ الصَّحَابِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُم مَنَعُوا التَّطَهُّرَ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، وَبِهِ قال أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، لَكِنْ قَيَّدَاهُ بِمَا إِذَا خَلَتْ بِهِ؛ لِأَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ ظَاهِرَةٌ فِي الْجَوَازِ إِذَا اجْتَمَعَا، وَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي مَنْعِ التَّطَهُّرِ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ مُضْطَرِبَةٌ، قال: لَكِنْ صَحَّ عَنْ عِدَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْمَنْعُ فِيمَا إِذَا خَلَتْ بِهِ، وَعُورِضَ بِصِحَّةِ الْجَوَازِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَشْهَرُ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْجِهَتَيْنِ حَدِيثُ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ فِي الْمَنْعِ، وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ فِي الْجَوَازِ.

أَمَّا حَدِيثُ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو فَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى تَضْعِيفِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ مَيْمُونَةَ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، لَكِنْ أَعَلَّهُ قَوْمٌ لِتَرَدُّدٍ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ؛ حَيْثُ قال: عِلْمِي وَالَّذِي يَخْطِرُ عَلَى بَالِي أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أَخْبَرَنِي. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ وَرَدَ من طَرِيقٍ أُخْرَى بِلَا تَرَدُّدٍ لَكِنَّ رَاوِيَهَا غَيْرُ ضَابِطٍ وَقَدْ خُولِفَ، وَالْمَحْفُوظُ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ بِلَفْظِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَيْمُونَةَ كَانَا يَغْتَسِلَانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْمَنْعِ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، قال: لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ سِنِينَ، فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا.

رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلَمْ أَقِفْ لِمَنْ أَعَلَّهُ عَلَى حُجَّةٍ قَوِيَّةٍ، وَدَعْوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُرْسَلِ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّ إِبْهَامَ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ، وَقَدْ صَرَّحَ التَّابِعِيُّ بِأَنَّهُ لَقِيَهُ، وَدَعْوَى ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ دَاوُدَ رَاوِيَهُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ يَزِيدُ الْأَوْدِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَرْدُودَةٌ، فَإِنَّهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِاسْمِ أَبِيهِ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَمِنْ أَحَادِيثِ الْجَوَازِ مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: أَجْنَبْتُ فَاغْتَسَلْتُ مِنْ جَفْنَةٍ، فَفَضَلَتْ فِيهَا فَضْلَةٌ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: الْمَاءُ لَيْسَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ. وَاغْتَسَلَ مِنْهُ. لَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ.

وَقَدْ أَعَلَّهُ قَوْمٌ بِسِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ رَاوِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ عَنْهُ شُعْبَةُ وَهُوَ لَا يَحْمِلُ عَنْ مَشَايِخِهِ إِلَّا صَحِيحَ حَدِيثِهِمْ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ مُضْطَرِبَةٌ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ، وَهُوَ مُمْكِنٌ بِأَنْ تُحْمَلَ أَحَادِيثُ النَّهْيِ عَلَى مَا تَسَاقَطَ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَالْجَوَازِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْمَاءِ، وَبِذَلِكَ جَمَعَ الْخَطَّابِيُّ، أَوْ يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى التَّنْزِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 300

‌44 - بَاب صَبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَضُوءَهُ عَلَى مُغْمى عَلَيْهِ

194 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قال: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ، فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ، فَعَقَلْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَنْ الْمِيرَاثُ إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ.

[الحديث 194 - أطرافه في: 7309، 6743، 6723، 5676، 5664، 5651، 4577]

قَوْلُهُ: (بَابُ صَبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَضُوءَهُ) بِفَتْحِ الْوَاوِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَاءُ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ، (وَالْمُغْمَى) بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ مَنْ أَصَابَهُ الْإِغْمَاءُ.

قَوْلُهُ: (يَعُودُنِي) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الطِّبِّ مَاشِيًا

قَوْلُهُ (لَا أَعْقِلُ)؛ أَيْ: لَا أَفْهَمُ، وَحَذَفَ مَفْعُولَهُ إِشَارَةً إِلَى عِظَمِ الْحَالِ؛ أَيْ: لَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَصَرَّحَ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَلَهُ فِي الطِّبِّ فَوَجَدَنِي قَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ وَضُوئِهِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَبَّ عَلَيَّ بَعْض الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ أَوْ مِمَّا بَقِيَ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ الْمُرَادُ، فَلِلْمُصَنِّفِ فِي الِاعْتِصَامِ ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ وَلِأَبِي دَاوُدَ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّهُ عَلَيَّ.

قَوْلُهُ: (لِمَنِ الْمِيرَاثُ) اللَّامُ بَدَلٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قال: مِيرَاثِي، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي الِاعْتِصَامِ أَنَّهُ قال: كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ وَالْمُرَادُ بِآيَةِ الْفَرَائِضِ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} كَمَا سَيَأْتِي مُبَيَّنًا فِي التَّفْسِيرِ، وَيُذْكَرُ هُنَاكَ بَقِيَّةَ مَبَاحِثِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌45 - بَاب الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِي الْمِخْضَبِ وَالْقَدَحِ وَالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ

195 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ، قال: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قال: حَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَقَامَ مَنْ كَانَ قَرِيبَ الدَّارِ إِلَى أَهْلِهِ وَبَقِيَ قَوْمٌ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ. قُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قال: ثَمَانِينَ وَزِيَادَةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِي الْمِخْضَبِ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، الْمَشْهُورُ أَنَّهُ الْإِنَاءُ الَّذِي يُغْسَلُ فِيهِ الثِّيَابُ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِنَاءِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا وَالْقَدَحُ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْخَشَبِ مَعَ ضِيقِ فَمِهِ، وَعَطْفُهُ الْخَشَبَ وَالْحِجَارَةَ عَلَى الْمِخْضَبِ وَالْقَدَحِ لَيْسَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فَقَطْ بَلْ بَيْنَ هَذَيْنِ وَهَذَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ) هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا يَاءٌ خَفِيفَةٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، لَكِنْ وَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ ابْنُ الْمُنِيرِ بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَقَدْ يَلْتَبِسُ بِابْنِ الْمُنَيَّرِ الَّذِي نَنْقُلُ عَنْهُ فِي هَذَا الشَّرْحِ لَكِنَّهُ بِتَثْقِيلِ الْيَاءِ وَنُونٍ مَفْتُوحَةٍ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ هَذَا الرَّاوِي بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ.

قَوْلُهُ: (حَضَرَتِ الصَّلَاةُ) هِيَ الْعَصْرُ.

قَوْلُهُ: (إِلَى أَهْلِهِ)؛ أَيْ: لِإِرَادَةِ الْوُضُوءِ (وَبَقِيَ قَوْمٌ)؛ أَيْ: عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ حِجَارَةٍ لِبَيَانِ الْجِنْسِ.

قَوْلُهُ: (فَصَغُرَ) بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ: لَمْ يَسَعْ بَسْطَ كَفِّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَبْسُطَ كَفَّهُ مِنْ صِغَرِ الْمِخْضَبِ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ إِنَّ الْمِخْضَبَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِنَاءِ الصَّغِيرِ، وَمَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ الْتِمَاسِ

ص: 301

الْوَضُوءِ، وَبَاقِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ يَأْتِي فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيرٍ أَيْضًا، لَكِنَّهُ قال: عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بَدَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ، فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخَيْنِ، حَدَّثَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِهِ عَنْ حُمَيْدٍ.

196 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ بُرَيْدٍ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ مُصَغَّرًا هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، وَالْقَدْرُ الْمَذْكُورُ مِنَ الْمَتْنِ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ مُعَلَّقًا فِي بَابِ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ، وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ الْقَدَحِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ.

197 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قال: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ، فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِهِ وَأَدْبَرَ، وَغَسَلَ.

قَوْلُهُ: (أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ أَيْضًا، فَاتَّفَقَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ وَفِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ثِقَةٌ حَافِظٌ فَقِيهٌ.

قَوْلُهُ: (أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ أَتَانَا.

قَوْلُهُ: (فَغَسَلَ وَجْهَهُ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ فَتَوَضَّأَ، وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بَاقِي الرِّوَايَاتِ، وَالْمَخْرَجُ مُتَّحِدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ، وَأَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ هَذَا زَادَ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ التَّوْرَ كَانَ مِنْ صُفْرٍ؛ أَيْ: نُحَاسٍ جَيِّدٍ.

198 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قال: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قال: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ؛ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَرَجُلٍ آخَرَ، قال عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الْآخَرُ؟ قُلْتُ: لَا. قال: هُوَ عَلِيٌّ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال بَعْدَمَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ: هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ. وَأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ تِلْكَ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ.

[الحديث 198 - أطرافه في: 7303، 5714، 4445، 4442، 3384، 3099، 2588، 716، 713، 712، 687، 683، 679، 665، 664]

ص: 302

قَوْلُهُ: (لَمَّا ثَقُلَ)؛ أَيْ: فِي الْمَرَضِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْقَافِ بِوَزْنِ صَغُرَ. قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ، وَفِي الْقَامُوسِ لِشَيْخِنَا: ثَقِلَ كَفَرِحَ فَهُوَ ثَاقِلٌ وَثَقِيلٌ اشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَلَعَلَّ فِي النُّسْخَةِ سَقْطًا

(1)

، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فِي أَنْ يُمَرَّضَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ؛ أَيْ: يُخْدَمَ فِي مَرَضِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَذِنَّ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ أَيَ: الْأَزْوَاجَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لَهُنَّ.

قَوْلُهُ: (قال عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ الرَّاوِي لَهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ بِغَيْرِ أَدَاةِ عَطْفٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ) هُوَ مَعْطُوفٌ أَيْضًا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ (هَرِيقُوا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ أَهْرِيقُوا بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ، قال ابْنُ التِّينِ: هُوَ بِإِسْكَانِ الْهَاءِ، وَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قال: أَهْرَاقَ يُهْرِيقُ أَهْرِيَاقًا؛ مِثْلَ أسْطَاعَ يُسْطِيعُ اسْطِيَاعًا بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَفَتْحِهَا فِي الْمَاضِي وَضَمِّ الْيَاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي أَطَاعَ يُطِيعُ فَجُعِلَتِ السِّينُ وَالْهَاءُ عِوَضًا مِنْ ذَهَابِ حَرَكَةِ عَيْنِ الْفِعْلِ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَاسْتَشْكَلَهُ، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّ الْهَاءَ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ هَرَاقَ أَرَاقَ ثُمَّ اجْتُلِبَتِ الْهَمْزَةُ فَتَحْرِيكُ الْهَاءِ عَلَى إِبْقَاءِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ وَلَهُ نَظَائِرُ، وَذَكَرَ لَهُ الْجَوْهَرِيُّ تَوْجِيهًا آخَرَ وَأَنَّ أَصْلَهُ أَأَرِيقُوا فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ هَاءً لِلْخِفَّةِ، وَجَزَمَ ثَعْلَبٌ فِي الْفَصِيحِ بِأَنَّ أَهَرِيقَهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ)، قال الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ خَصَّ السَّبْعَ تَبَرُّكًا بِهَذَا الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ لَهُ دُخُولًا فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الشَّرِيعَةِ وَأَصْلِ الْخِلْقَةِ. وَفِي رِوَايَةِ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ آبَارٍ شَتَّى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لِلتَّدَاوِي لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ: لَعَلِّي أَسْتَرِيحُ فَأَعْهَدُ؛ أَيْ: أُوصِي.

قَوْلُهُ: (وَأُجْلِسَ فِي مِخْضَبِ حَفْصَةَ) زَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ نُحَاسٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ الِاغْتِسَالَ فِيهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنَّمَا كَرِهَ مِنَ النُّحَاسِ رِيحَهُ.

قَوْلُهُ: (نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ)؛ أَيْ: الْقِرَبِ السَّبْعِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى طَفِقَ) يُقَالُ: طَفِقَ يَفْعَلُ كَذَا، إِذَا شَرَعَ فِي فِعْلٍ وَاسْتَمَرَّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ) زَادَ الْمُصَنِّفُ مِنْ طَرِيقِ عَقِيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ، وَهُوَ فِي بَابِ الْوَفَاةِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ مَبَاحِثِهِ هُنَاكَ، وَعَلَى مَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ فِي بَابِ حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌46 - بَاب الْوُضُوءِ مِن التَّوْرِ

199 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، قال: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، قال: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، قال: كَانَ عَمِّي يُكْثِرُ مِنْ الْوُضُوءِ، قال لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَخْبِرْنِي كَيْفَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاغْتَرَفَ بِهَا، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَدْبَرَ بِهِ وَأَقْبَلَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ.

قَوْلُهُ (بَابُ الْوُضُوءِ مِنَ التَّوْرِ) تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ حَدِيثِ الْبَابِ قَرِيبًا، وَأَنَّ التَّوْرَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ شِبْهُ الطَّسْتِ، وَقِيلَ: هُوَ الطَّسْتُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْمِعْرَاجِ. فَأُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ. وَظَاهِرُهُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا، وَيُحْتَمَلُ التَّرَادُفُ، وَكَأَنَّ الطَّسْتَ أَكْبَرُ مِنَ التَّوْرِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَالْإِسْنَادُ

(1)

ليس في القاموس سقط، فقد أورد الذى بوزن كرم، ثم أورد الذى بوزن فرح، وهذا غير ذلك

ص: 303

كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ عَمِّي) هُوَ عَمْرُو بْنُ أَبِي حَسَنٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ عَمُّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

قَوْلُهُ (ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا فَمَضْمَضَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ مَرَّةٍ مِنْ غَرْفَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَوَّلُ مُوَافِقٌ لِبَاقِي الرِّوَايَاتِ فَهُوَ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ)؛ أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ (هَكَذَا) هَذِهِ الزِّيَادَةُ صَرِيحَةٌ فِي رَفْعِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَيْهِ.

200 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، قال أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. قال أَنَسٌ: فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ وَلَمْ يَسْمَعْ مُسَدَّدٌ مِنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ.

قَوْلُهُ: (رَحْرَاحٌ) بِمُهْمَلَاتٍ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ بَعْدَهَا سُكُونٌ؛ أَيْ: مُتَّسِعُ الْفَمِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الرَّحْرَاحُ الْإِنَاءُ الْوَاسِعُ الصَّحْنُ الْقَرِيبُ الْقَعْرُ، وَمِثْلُهُ لَا يَسَعُ الْمَاءَ الْكَثِيرَ فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى عِظَمِ الْمُعْجِزَةِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ الصِّفَةُ شَبِيهَةٌ بِالطَّسْتِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ.

وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ بَدَلَ رَحْرَاحٍ زُجَاجٍ بِزَايٍ مَضْمُومَةٍ وَجِيمَيْنِ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ مِنْ آنِيَّةِ الزُّجَاجِ ضِدَّ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ أَنَّ ذَلِكَ إِسْرَافٌ لِإِسْرَاعِ الْكَسْرِ إِلَيْهِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تَفَرَّدَ بِهَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَقَالُوا رَحْرَاحٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاسِعُ الْفَمِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَاجِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى، وَإِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ كُلُّهُمْ عَنْ حَمَّادٍ، وَكَأَنَّهُ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى، وَصَرَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحُذَّاقِ بِأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدَةَ صَحَّفَهَا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى فِي رِوَايَتِهِ بِقَوْلِهِ أَحْسَبُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُتْقِنْهُ، فَإِنْ كَانَ ضَبَطَهُ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ رِوَايَتِهِ وَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا وَصَفُوا هَيْئَتَهُ وَذَكَرَ هُوَ جِنْسَهُ.

وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُقَوْقِسَ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدَحًا مِنْ زُجَاجٍ، لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ.

قَوْلُهُ فَحَزَرْتُ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ؛ أَيْ: قَدَّرْتُ، وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِينَ وَزِيَادَةً، وَهُنَا قال: مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَنَسًا لَمْ يَكُنْ يَضْبِطُ الْعِدَّةَ بَلْ كَانَ يَتَحَقَّقُ أَنَّهَا تُنِيفُ عَلَى السَّبْعِينَ، وَيَشُكُّ هَلْ بَلَغَتِ الْعَقْدَ الثَّامِنَ أَوْ تَجَاوَزَتْهُ، فَرُبَّمَا جَزَمَ بِالْمُجَاوَزَةِ حَيْثُ يَغْلِبُ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ قال مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ: إِنَّ الْوُضُوءَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرٍ مِنَ الْمَاءِ مُعَيَّنٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ اغْتَرَفُوا مِنْ ذَلِكَ الْقَدَحِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّابِعَ لَمْ يَكُنْ قَدْرُهُ مَعْلُومًا لَهُمْ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّقْدِيرِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْحَدِيثَ بِبَابِ الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ، وَالْمُدُّ إِنَاءٌ يَسَعُ رِطْلًا وَثُلُثًا بِالْبَغْدَادِيِّ، قَالَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخَالَفَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا الْمُدُّ رِطْلَانِ.

‌47 - بَاب الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ

201 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قال: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ جَبْرٍ، قال: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ - أَوْ كَانَ يَغْتَسِلُ - بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ.

ص: 304

قَوْلُهُ: (ابْنُ جَبْرٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَمَنْ قَالَهُ بِالتَّصْغِيرِ فَقَدْ صَحَّفَ؛ لِأَنَّ ابْنَ جُبَيْرٍ وَهُوَ سَعِيدٌ لَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ أَنَسٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَالرَّاوِي هُنَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرِ بْنِ عَتِيكٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، قال: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ جَبْرٍ. وَفِي الْإِسْنَادِ كُوفِيَّانِ أَبُو نُعَيْمٍ وَشَيْخُهُ، وَبَصْرِيَّانِ أَنَسٌ وَالرَّاوِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (يَغْسِلُ)؛ أَيْ: جَسَدَهُ، وَالشَّكُّ فِيهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ أَوْ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ لَمَّا حَدَّثَهُ بِهِ، فَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، فَقَالَ: يَغْتَسِلُ. وَلَمْ يَشُكَّ.

قَوْلُهُ: (بِالصَّاعِ) هُوَ إِنَاءٌ يَسَعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا بِالْبَغْدَادِيِّ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: ثَمَانِيَةً.

قَوْلُهُ: (إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ) أَيْ كَانَ رُبَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الصَّاعِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَى خَمْسَةٍ، فَكَأَنَّ أَنَسًا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي الْغَسْلِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا النِّهَايَةَ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ هُوَ الْفَرَقُ، قال ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ، وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ إِنَاءٍ يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالِ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَدَّرَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ بِمَا ذَكَرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ كَابْنِ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَا مَنْ قال بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ فِي مِقْدَارِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ قَدَّرَ وُضُوءَهُ وَغُسْلَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّحَابَةِ قَدَّرَهُمَا بِذَلِكَ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ سَفِينَةَ مِثْلُهُ، وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ جَابِرٍ مِثْلُهُ، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إِلَى الزِّيَادَةِ، وَهُوَ أَيْضًا فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ خَلْقُهُ مُعْتَدِلًا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوُضُوءِ بِقَوْلِهِ: وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْإِسْرَافَ فِيهِ، وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ -

صلى الله عليه وسلم.

‌48 - بَاب الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ

202 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ، عَنْ ابْنِ وَهْبٍ، قال: حَدَّثَنِي عَمْرُو، حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ؛ إِذَا حَدَّثَكَ سَعْدٌ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ.

وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: أَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعْدًا. . .، فَقَالَ عُمَرُ، لِعَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ) نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، قال: لَيْسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنِ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْهُمْ إِنْكَارُهُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ إِثْبَاتُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ رُوِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ السَّلَفِ إِنْكَارُهُ إِلَّا عَنْ مَالِكٍ، مَعَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ عَنْهُ مُصَرِّحَةٌ بِإِثْبَاتِهِ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَعْرُوفُ الْمُسْتَقِرُّ عِنْدَهُمُ الْآنَ قَوْلَانِ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، ثَانِيهُمَا لِلْمُسَافِرِ دُونَ الْمُقِيمِ. وَهَذَا الثَّانِي مقتضى مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَصَحَّحَ الْبَاجِيُّ الْأَوَّلَ وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَعَنِ ابْنِ نَافِعٍ فِي الْمَبْسُوطَةِ نَحْوَهُ وَأَنَّ مَالِكًا إِنَّمَا كَانَ يَتَوَقَّفُ فِيهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ مَعَ إِفْتَائِهِ بِالْجَوَازِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا صَحَّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الصَّحَابِيِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؛ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْ نَزْعُهُمَا وَغَسْلُ الْقَدَمَيْنِ؟

ص: 305

قال: وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ الْمَسْحَ أَفْضَلُ لِأَجْلِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ. قال: وَإِحْيَاءُ مَا طَعَنَ فِيهِ الْمُخَالِفُونَ مِنَ السُّنَنِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ اهـ.

وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: وَقَدْ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْأَصْحَابِ بِأَنَّ الْغَسْلَ أَفْضَلُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْمَسْحَ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ كَمَا قَالُوهُ فِي تَفْضِيلِ الْقَصْرِ عَلَى الْإِتْمَامِ، وَقَدْ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُتَوَاتِرٌ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ رُوَاتَهُ فَجَاوَزُوا الثَّمَانِينَ وَمِنْهُمُ الْعَشَرَةُ، وَفِي ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَصْبَغُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اخْتَارَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ؛ لِقَوْلِهِ الْمَسْحُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِهِ فِي الْحَضَرِ أَثْبَتُ عِنْدَنَا وَأَقْوَى مِنْ أَنْ نَتْبَعَ مَالِكًا عَلَى خِلَافِهِ. وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ وَمَنْ دُونَهُ ثَلَاثَةٌ مِصْرِيُّونَ، وَالَّذِينَ فَوْقَهُ ثَلَاثَةٌ مَدَنِيُّونَ، وَالْإِسْنَادُ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ: أَبُو النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَصَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ) هُوَ مَعْطُوفُ عَلَى قَوْلِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَهُوَ مَوْصُولٌ إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَإِلَّا فَأَبُو سَلَمَةَ لَمْ يُدْرِكِ الْقِصَّةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قال: رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْهِ بِالْعِرَاقِ حِينَ تَوَضَّأَ فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا عِنْدَ عُمَرَ، قال لِي سَعْدٌ: سَلْ أَبَاكَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ أَنَّ عُمَرَ، قال: كُنَّا وَنَحْنُ مَعَ نَبِيِّنَا نَمْسَحُ عَلَى خِفَافِنَا؛ لَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا.

قَوْلُهُ: (فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ) أَيْ: لِقُوَّةِ الْوُثُوقِ بِنَقْلِهِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصِّفَاتَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّرْجِيحِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِي الرَّاوِي كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْقَرَائِنِ الَّتِي إِذَا حَفَّتْ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَامَتْ مَقَامَ الْأَشْخَاصِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَقَدْ يُفِيدُ الْعِلْمَ عِنْدَ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَعَلَى أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقْبَلُ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَمَا نُقِلَ عَنْهُ مِنَ التَّوَقُّفِ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَ وُقُوعِ رِيبَةٍ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قال بِتَفَاوُتِ رُتَبِ الْعَدَالَةِ وَدُخُولِ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَيُمْكِنُ إِبْدَاءُ الْفَارِقِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَفِيهِ تَعْظِيمٌ عَظِيمٌ مِنْ عُمَرَ، لِسَعْدٍ، وَفِيهِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْقَدِيمَ الصُّحْبَةِ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْجَلِيَّةِ فِي الشَّرْعِ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَنْكَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَعَ قَدِيمِ صُحْبَتِهِ وَكَثْرَةِ رِوَايَتِهِ، وَقَدْ رَوَى قِصَّتَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَدِمَ الْكُوفَةَ عَلَى سَعْدٍ وَهُوَ أَمِيرُهَا فَرَآهُ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: سَلْ أَبَاكَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ إِنَّمَا أَنْكَرَ الْمَسْحَ فِي الْحَضَرِ لَا فِي السَّفَرِ لِظَاهِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْفَائِدَةُ بِحَالِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ عَلَى الْوِلَاءِ أَوَّلُهُمْ مُوسَى، وَمُوسَى، وَأَبُو النَّضْرِ قَرِينَانِ مَدَنِيَّانِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ سَعْدًا حَدَّثَهُ)؛ أَيْ: حَدَّثَ أَبَا سَلَمَةَ، وَالْمُحَدَّثُ بِهِ مَحْذُوفٌ تَبَيَّنَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْمَوْصُولَةِ أَنَّ لَفْظَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُقَدَّرِ.

قَوْلُهُ: (نَحْوَهُ) بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُ مَقُولُ الْقَوْلِ، وَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ لَا بِلَفْظِهَا. وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَلَفْظُهُ وَأَنَّ عُمَرَ قال لِعَبْدِ اللَّهِ - أَيِ: ابْنَهُ كَأَنَّهُ يَلُومُهُ - إِذَا حَدَّثَكَ سَعْدٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا تَبْتَغِ وَرَاءَ حَدِيثِهِ شَيْئًا.

203 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ، قال: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَافِعِ

ص: 306

بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بْنُ سَعْدٍ (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ فِي بَابِ الرَّجُلِ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ، وَأَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةً مِنَ التَّابِعِينَ عَلَى الْوِلَاءِ.

وَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ اللَّيْثِ؛ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بَدَلَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ، فَكَأَنَّ لِلَّيْثِ فِيهِ شَيْخَيْنِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ) فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ، وَفِي الْمَغَازِي أَنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ مِنْ رُوَاتِهِ. وَلِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِلَا تَرَدُّدَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ.

قَوْلُهُ: (فَاتَّبَعَهُ) بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ، وَزَادَ فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ فَتَوَضَّأَ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ أَخَذَهُ الْمُغِيرَةُ مِنْ أَعْرَابِيَّةٍ صَبَّتْهُ لَهُ مِنْ قِرْبَةٍ كَانَتْ جِلْدَ مَيْتَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال لَهُ: سَلْهَا فَإِنْ كَانَتْ دَبَغَتْهَا فَهُوَ طَهُورٌ وَأَنَّهَا قَالَتْ: إِي وَاللَّهِ لَقَدْ دَبَغْتُهَا.

قَوْلُهُ: (فَتَوَضَّأَ) زَادَ فِي الْجِهَادِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ صُوفٍ مِنْ جِبَابِ الرُّومِ، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي فِي بَابِ الرَّجُلِ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ: فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَالْفَاءُ فِي فَغَسَلَ تَفْصِيلِيَّةٌ، وَتَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَوَضَّأَ؛ أَيْ: بِالْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، لَا أَنَّهُ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى فُرُوضِ الْوُضُوءِ دُونَ سُنَنِهِ، لَا سِيَّمَا فِي حَالِ مَظِنَّةِ قِلَّةِ الْمَاءِ كَالسَّفَرِ، قال: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهَا فَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُغِيرَةُ، قال: وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ. قُلْتُ: بَلْ فَعَلَهَا وَذَكَرَهَا الْمُغِيرَةُ، فَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ زِيَادٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ غَسَلَ كَفَّيْهِ، وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَوِيٍّ فَغَسَلَهُمَا فَأَحْسَنَ غَسْلَهُمَا، قال: وَأَشُكُّ أَقَالَ دَلَكَهُمَا بِتُرَابٍ أَمْ لَا. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ، زَادَ أَحْمَدُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ، فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ وَلِأَحْمَدَ فَغَسَلَ يَدَهُ الْيَمنى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَدَهُ الْيُسْرَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلِلْمُصَنِّفِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ وَعَلَى الْخُفَّيْنِ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ إِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا.

وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ هَذَا ذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ سِتُّونَ رَجُلًا، وَقَدْ لَخَّصْتُ مَقَاصِدَ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ فِي هَذِهِ الْقِطْعَةِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْإِبْعَادُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَالتَّوَارِي عَنِ الْأَعْيُنِ، وَاسْتِحْبَابُ الدَّوَامِ عَلَى الطَّهَارَةِ لِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم الْمُغِيرَةَ أَنْ يَتْبَعَهُ بِالْمَاءِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَنْجِ بِهِ وَإِنَّمَا تَوَضَّأَ بِهِ حِينَ رَجَعَ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ كَمَا شُرِحَ فِي بَابِهِ، وَغَسْلُ مَا يُصِيبُ الْيَدَ مِنَ الْأَذَى عِنْدَ الِاسْتِجْمَارِ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي إِزَالَتُهُ بِغَيْرِ الْمَاءِ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى إِزَالَةِ الرَّائِحَةِ بِالتُّرَابِ وَنَحْوِهِ.

وَقَدْ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ مَا انْتَشَرَ عَنِ الْمُعْتَادِ لَا يُزَالُ إِلَّا بِالْمَاءِ، وَفِيهِ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ، وَالِانْتِفَاعُ بِثِيَابِ الْكُفَّارِ حَتَّى تَتَحَقَّقَ نَجَاسَتُهَا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَبِسَ الْجُبَّةَ الرُّومِيَّةَ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى أَنَّ الصُّوفَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْجُبَّةَ كَانَتْ شَامِيَّةً وَكَانَتِ الشَّامُ إِذْ ذَاكَ دَارَ كُفْرٍ وَمَأْكُولُ أَهْلِهَا الْمَيْتَاتِ، كَذَا قال. وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْوُضُوءِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي

ص: 307

غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ بَعْدَهَا بِاتِّفَاقٍ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ التَّشْمِيرُ فِي السَّفَرِ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ الضَّيِّقَةِ فِيهِ لِكَوْنِهَا أَعْوَنَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى سُنَنِ الْوُضُوءِ حَتَّى فِي السَّفَرِ، وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَمْ لَا، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَبِلَ خَبَرَ الْأَعْرَابِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِيهِ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى غَسْلِ مُعْظَمِ الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ لَا يُجْزِئُ لِإِخْرَاجِهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ وَلَمْ يَكْتَفِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُمَا بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ مَسْحِ الرَّأْسِ لِكَوْنِهِ كَمَّلَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْمَسْحِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ ذِرَاعَيْهِ.

204 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قال: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَتَابَعَهُ حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ وَأَبَانُ عَنْ يَحْيَى.

[الحديث 204 - طرفه في 205]

قَوْلُهُ: (شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ. وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ عَلَى الْوِلَاءِ أَوَّلُهُمْ يَحْيَى وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَجَعْفَرٌ قَرِينَانِ.

قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ) أَيْ تَابَعَ شَيْبَانَ (حَرْبٌ) وَهُوَ ابْنُ شَدَّادٍ، وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَأَبَانُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى حَرْبٍ، وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ.

205 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قال: أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو، عَنْ أَبِيهِ، قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرٍو، قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) وَلِأَحْمَدَ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى.

قَوْلُهُ: (عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ) هَكَذَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ. وَأَسْقَطَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُ جَعْفَرًا مِنَ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ خَطَأٌ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ)؛ أَيْ: تَابَعَ الْأَوْزَاعِيَّ (مَعْمَرٌ) ابْنُ رَاشِدٍ فِي الْمَتْنِ لَا فِي الْإِسْنَادِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي سِيَاقِ الْمُصَنِّفِ الْإِسْنَادَ ثَانِيًا لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ ذِكْرُ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ لَفْظَ الْمَتْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ وَخُفَّيْهِ وَسَقَطَ ذِكْرُ الْمَتْنِ مِنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ فِي الصَّحِيحِ، وَرَاوِيَةُ مَعْمَرٍ قَدْ أَخْرَجَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ بِدُونِ ذِكْرِ الْعِمَامَةِ، لَكِنْ أَخْرَجَهَا ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ بِإِثْبَاتِهَا، وَأَغْرَبَ الْأَصِيلِيُّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ؛ فَقَالَ: ذِكْرُ الْعِمَامَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ خَطَأِ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ شَيْبَانَ وَغَيْرَهُ رَوَوْهُ عَنْ يَحْيَى بِدُونِهَا، فَوَجَبَ تَغْلِيبُ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ، قال: وَأَمَّا مُتَابَعَةُ مَعْمَرٍ فَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْعِمَامَةِ، وَهِيَ أَيْضًا مُرْسَلَةٌ؛ لِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَمْرٍو.

قُلْتُ: سَمَاعُ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ عَمْرٍو مُمْكِنٌ، فَإِنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سِتِّينَ وَأَبُو سَلَمَةَ مَدَنِيٌّ وَلَمْ يُوصَفْ بِتَدْلِيسٍ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْ خَلْقٍ مَاتُوا قَبْلَ عَمْرٍو، وَقَدْ رَوَى بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ أَرْسَلَ جَعْفَرَ بْنَ عَمْرِو بْنَ أُمَيَّةَ إِلَى أَبِيهِ

ص: 308

يَسْأَلُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ بِهِ، فَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ أَبُو سَلَمَةَ اجْتَمَعَ بِعَمْرٍو بَعْدُ فَسَمِعَهُ مِنْهُ، وَيُقَوِّيهِ تَوَفُّرُ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ابْنَ مَنْدَهْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ بِإِثْبَاتِ ذِكْرِ الْعِمَامَةِ فِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَفَرُّدِ الْأَوْزَاعِيِّ بِذِكْرِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ تَخْطِئَتُهُ، لِأَنَّهَا تَكُونُ زِيَادَةً مِنْ ثِقَةٍ حَافِظٍ غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِرِوَايَةِ رُفْقَتِهِ فَتُقْبَلُ، وَلَا تَكُونُ شَاذَّةً، وَلَا مَعْنَى لِرَدِّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ بِهَذِهِ التَّعْلِيلَاتِ الْوَاهِيَةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ فَقِيلَ: إِنَّهُ كَمَّلَ عَلَيْهَا بَعْدَ مَسْحِ النَّاصِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَى عَدَمِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَسْحِ عَلَيْهَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فَرَضَ اللَّهُ مَسْحَ الرَّأْسِ، وَالْحَدِيثُ فِي مَسْحِ الْعِمَامَةِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ، فَلَا يُتْرَكُ الْمُتَيَقَّنُ لِلْمُحْتَمَلِ. قال: وَقِيَاسُهُ عَلَى مَسْحِ الْخُفِّ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ نَزْعُهُ بِخِلَافِهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِينَ أَجَازُوا الِاقْتِصَارَ عَلَى مَسْحِ الْعِمَامَةِ شَرَطُوا فِيهِ الْمَشَقَّةَ فِي نَزْعِهَا كَمَا فِي الْخُفِّ، وَطَرِيقُةُ أَنْ تَكُونَ مُحَنَّكَةً كَعَمَائِمِ الْعَرَبِ، وَقَالُوا عُضْوٌ يَسْقُطُ فَرْضُهُ فِي التَّيَمُّمِ فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَى حَائِلِهِ كَالْقَدَمَيْنِ، وَقَالُوا: الْآيَةُ لَا تَنْفِي ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَحْمِلُ الْمُشْتَرَكَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ قال: قَبَّلْتُ رَأْسَ فُلَانٍ يَصْدُقُ وَلَوْ كَانَ عَلَى حَائِلٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: إِنْ يُطِعِ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ يَرْشُدُوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌49 - بَاب إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ

206 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قال: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ، قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا؛ فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ. فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ) هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ أَبي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَسَنُبَيِّنُ مَا بَيْنَهُا وَبَيْنَ لَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ التَّفَاوُتِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا) هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ. (عَنْ عَامِرٍ) هُوَ الشَّعْبِيُّ، وَزَكَرِيَّا مُدَلِّسٌ وَلَمْ أَرَهُ مِنْ حَدِيثِهِ إِلَّا بِالْعَنْعَنَةِ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ زَكَرِيَّا، وَالْقَطَّانُ لَا يَحْمِلُ مِنْ حَدِيثِ شُيُوخِهِ الْمُدَلِّسِينَ إِلَّا مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَهُمْ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَأَهْوَيْتُ)؛ أَيْ: مَدَدْتُ يَدِيَ، قال الْأَصْمَعِيُّ: أَهْوَيْتُ بِالشَّيْءِ إِذَا أَوْمَأْتُ بِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَهْوَيْتُ؛ قَصَدْتُ الْهَوَاءَ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ. وَقِيلَ الْإِهْوَاءُ الْإِمَالَةُ، قال ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ خِدْمَةُ الْعَالِمِ، وَأَنَّ لِلْخَادِمِ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى مَا يَعْرِفُ مِنْ عَادَةِ مَخْدُومِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ، وَفِيهِ الْفَهْمُ عَنِ الْإِشَارَةِ، وَرَدُّ الْجَوَابِ عَمَّا يُفْهَمُ عَنْهَا لِقَوْلِهِ فَقَالَ دَعْهُمَا

قَوْلُهُ: (فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا) أَيِ: الْقَدَمَيْنِ (طَاهِرَتَيْنِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ وَلِأَبِي دَاوُدَ فَإِنِّي أَدْخَلْتُ الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ، وَلِلْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَمْسَحُ أَحَدُنَا عَلَى خُفَّيْهِ؟ قال: نَعَمْ؛ إِذَا أَدْخَلَهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهُمَا عَلَى طُهْرٍ ثَلَاثًا إِذَا سَافَرْنَا، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً إِذَا أَقَمْنَا، قال ابْنُ خُزَيْمَةَ: ذَكَرْتُهُ لِلْمُزَنِيِّ فَقَالَ لِي: حَدِّثْ بِهِ أَصْحَابَنَا، فَإِنَّهُ أَقْوَى حُجَّةً لِلشَّافِعِيِّ، انْتَهَى.

وَحَدِيثُ صَفْوَانَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، لَكِنَّ حَدِيثَ الْبَابِ مُوَافِقٌ لَهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ اللُّبْسِ، وَأَشَارَ الْمُزَنِيُّ بِمَا قال إِلَى الْخِلَافِ

ص: 309

فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَالْجُمْهُورَ حَمَلُوا الطَّهَارَةَ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، وَخَالَفَهُمْ دَاوُدُ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى رِجْلَيْهِ نَجَاسَةٌ عِنْدَ اللُّبْسِ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ، وَلَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ لَبِسَهُمَا لَمْ يُبَحْ لَهُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ مُبِيحٌ لَا رَافِعٌ، وَخَالَفَهُمْ أَصْبَغُ. وَلَوْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ ثُمَّ لَبِسَهُمَا ثُمَّ أَكْمَلَ بَاقِيَ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَبُحِ الْمَسْحُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى إِيجَابِ التَّرْتِيبِ، وَكَذَا عِنْدَ مَنْ لَا يُوجِبُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَتَبَعَّضُ.

لَكِنْ قال صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: شَرْطُ إِبَاحَةُ الْمَسْحِ لُبْسُهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، قال: وَالْمُرَادُ بِالْكَامِلَةِ وَقْتُ الْحَدَثِ لَا وَقْتُ اللُّبْسِ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِذَا كَمَّلَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ، لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَدَثِ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ. انْتَهَى.

وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الطَّهَارَةَ قَبْلَ لُبْسِ الْخُفِّ شَرْطًا لِجَوَازِ الْمَسْحِ، وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، وَقَدْ سَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ، وَلَوْ تَوَضَّأَ مُرَتِّبًا وَبَقِيَ غَسْلُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ فَلَبِسَ ثُمَّ غَسَلَ الثَّانِيَةَ، وَلَبِسَ لَمْ يَبُحْ لَهُ الْمَسْحُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَأَجَازَهُ الثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، وَمُطَرِّفٌ صَاحِبُ مَالِكٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ لِصِدْقِ أَنَّهُ أَدْخَلَ كُلًّا مِنْ رِجْلَيْهِ الْخُفَّيْنِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى التَّثْنِيَةِ غَيْرُ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الْوَحْدَةِ، وَاسْتَضْعَفَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ بَاقٍ. قال: لَكِنْ إِنْ ضُمَّ إِلَيْهِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَتَبَعَّضُ اتَّجَهَ.

(فَائِدَةٌ): الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ خَاصٌّ بِالْوُضُوءِ لَا مَدْخَلَ لِلْغُسْلِ فِيهِ بِإِجْمَاعٍ.

(فَائِدَةٌ أُخْرَى): لَوْ نَزَعَ خُفَّيْهِ بَعْدَ الْمَسْحِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ عِنْدَ مَنْ قال بِالتَّوْقِيتِ أَعَادَ الْوُضُوءَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا وَغَسَلَ قَدَمَيْهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَالْمُزَنِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَكَذَا قال مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ إِلَّا إِنْ تَطَاوَلَ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُ قَدَمَيْهِ، وَقَاسُوهُ عَلَى مَنْ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ حَلَقَهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْمَسْحِ، وَفِيهِ نَظَرٌ

(1)

.

(فَائِدَةٌ أُخْرَى): لَمْ يُخْرِجِ الْبُخَارِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى تَوْقِيتِ الْمَسْحِ، وَقَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَخَالَفَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، فَقَالَ: يَمْسَحُ مَا لَمْ يَخْلَعْ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ التَّوْقِيتَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَصَحَّحَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ.

‌50 - بَاب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيقِ وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ رضي الله عنهم فَلَمْ يَتَوَضَّئُوا

207 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

[الحديث 207 - طرفاه في: 5405، 5404]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ) نَصَّ عَلَى لَحْمِ الشَّاةِ لِيَنْدَرِجَ مَا هُوَ مِثْلُهَا وَمَا دُونَهَا بِالْأَوْلَى، وَأَمَّا مَا فَوْقَهَا فَلَعَلَّهُ يُشِيرُ إِلَى اسْتِثْنَاءِ لُحُومِ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ مَنْ خَصَّهُ مِنْ عُمُومِ الْجَوَازِ عَلَّلَهُ بِشِدَّةِ زُهُومَتِهِ فَلِهَذَا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِكَوْنِهِ مَطْبُوخًا، وَفِيهِ حَدِيثَانِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَالسَّوِيقُ)،

(1)

وجهه أن الرأس أصل يمسح مع وجود الشعر وعدمه، والمسح على الخف بدل من غسل القدم فافترقا. وبذلك يترجح القول ببطلان الوضوء إذا خلع الخفين، ولايكفي غسل القدمين لفوات الموالات. والله أعلم

ص: 310

قال ابْنُ التِّينِ: لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ ذِكْرُ السَّوِيقِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ دَخَلَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنَ اللَّحْمِ مَعَ دُسُومَتِهِ فَعَدَمُهُ مِنَ السَّوِيقِ أَوْلَى، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ. . . إِلَخْ) سَقَطَ قَوْلُهُ لَحْمًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِلَّا عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، قال: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ أَكَلُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَلَمْ يَتَوَضَّئُوا وَرُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى الثَّلَاثَةِ مُفَرَّقًا وَمَجْمُوعًا.

قَوْلُهُ: (أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ)؛ أَيْ: لَحْمَهُ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَطْعِمَةِ تَعَرَّقَ؛ أَيْ: أَكَلَ مَا عَلَى الْعَرْقِ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ - وَهُوَ الْعَظْمُ، وَيُقَالُ لَهُ الْعُرَاقُ بِالضَّمِّ أَيْضًا. وَأَفَادَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي بَيْتِ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهِيَ بِنْتُ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِهَا وَهِيَ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا أَنَّ ضُبَاعَةَ بِنْتُ عَمِّهِ. وَبَيَّنَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ الَّذِيَ دَعَاهُ إِلَى الصَّلَاةِ هُوَ بِلَالٌ.

208 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قال: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قال: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَى السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

[الحديث 208 - أطرافه في: 5462، 5422، 5408، 2923، 675]

قَوْلُهُ: (يَحْتَزُّ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ؛ أَيْ: يَقْطَعُ، زَادَ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ يَأْكُلُ مِنْهَا وَفِي الصلاة مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ يَأْكُلُ ذِرَاعًا يَحْتَزُّ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَلْقَى السِّكِّينَ) زَادَ فِي الْأَطْعِمَةِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ، وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: قال الزُّهْرِيُّ: فَذَهَبَتْ تِلْكَ - أَيِ: الْقِصَّةُ - فِي النَّاسِ، ثُمَّ أَخْبَرَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنِسَاءٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: تَوَضَّؤُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، قال: فَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ نَاسِخٌ لِأَحَادِيثِ الإباحة؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ سَابِقَةٌ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، قال: كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا، لَكِنْ قال: أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا الشَّأْنُ وَالْقِصَّةُ لَا مُقَابِلُ النَّهْيِ، وَأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَشْهُورِ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي صَنَعَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةً، فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا وَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارِ، وَأَنَّ وُضُوءَهُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ كَانَ عَنْ حَدَثٍ لَا بِسَبَبِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّاةِ.

وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ الدَّارِمِيِّ أَنَّهُ قال: لَمَّا اخْتَلَفَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَلَمْ يَتَبَيَّنِ الرَّاجِحُ مِنْهَا نَظَرْنَا إِلَى مَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَجَّحْنَا بِهِ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ، وَارْتَضَى النَّوَوِيُّ هَذَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. وَبِهَذَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ تَصْدِيرِ الْبُخَارِيِّ حَدِيثَ الْبَابِ بِالْأَثَرِ الْمَنْقُولِ عَنِ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ، قال النَّوَوِيُّ: كَانَ الْخِلَافُ فِيهِ مَعْرُوفًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا وُضُوءَ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ. وَجَمَعَ الْخَطَّابِيُّ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْأَمْرِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّلَاةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِتَقْدِيمِ الْعَشَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ خَاصٌّ بِغَيْرِ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ،

ص: 311

وَعَلَى جَوَازِ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ، وَفِي النَّهْيِ عَنْهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ فَإِنْ ثَبَتَ خُصَّ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ وَأَهْلِ التَّرَفِ، وَفِيهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ - إِذَا كَانَ مَحْصُورًا - تُقْبَلُ.

(فَائِدَةٌ): لَيْسَ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ رِوَايَةٌ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ وَالَّذِي مَضَى فِي الْمَسْحِ فَقَطْ.

‌51 - بَاب مَنْ مَضْمَضَ مِنْ السَّوِيقِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ

209 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

[الحديث 209 - أطرافه في: 5455، 5454، 5390، 5384، 4195، 4175، 2981، 215]

210 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قال: أَخْبَرَنِي عَمْرُو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ عِنْدَهَا كَتِفًا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ مَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ)، قال الدَّاوُدِيُّ: هُوَ دَقِيقُ الشَّعِيرِ أَوِ السُّلْتُ الْمَقْلِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَيَكُونُ مِنَ الْقَمْحِ. وَقَدْ وَصَفَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: عُدَّةُ الْمُسَافِرِ، وَطَعَامُ الْعَجْلَانِ، وَبُلْغَةُ الْمَرِيضِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَالْإِسْنَادُ مَدَنِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ. وَبُشَيْرٌ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرًا، وَيَسَارٌ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (بِالصَّهْبَاءِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ.

قَوْلُهُ: (وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ)؛ أَيْ: طَرَفُهَا مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةِ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَهِيَ عَلَى رَوْحَةٍ مِنْ خَيْبَرَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ: هِيَ عَلَى بَرِيدٍ. وَبَيَّنَ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعِ آخَرَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ قَوْلِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أُدْرِجَتْ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ قَرِيبًا بِدُونِ الزِّيَادَةِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ) فِيهِ جَمْعُ الرُّفَقَاءِ عَلَى الزَّادِ فِي السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ أَكْلًا، وَفِيهِ حَمْلُ الْأَزْوَادِ فِي الْأَسْفَارِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْمُهَلَّبُ أَنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ الْمُحْتَكِرِينَ بِإِخْرَاجِ الطَّعَامِ عِنْدَ قِلَّتِهِ لِيَبِيعُوهُ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ فَيَجْمَعُ الزَّادَ لِيُصِيبَ مِنْهُ مَنْ لَا زَادَ مَعَهُ.

قَوْلُهُ: (فَثُرِّيَ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا، أَيْ بُلَّ بِالْمَاءِ لِمَا لَحِقَهُ مِنَ الْيُبْسِ.

قَوْلُهُ: (وَأَكَلْنَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ وَشَرِبْنَا. وَفِي الْجِهَادِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ فَلُكْنَا وَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ)؛ أَيْ: قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، وَفَائِدَةُ الْمَضْمَضَةِ مِنَ السَّوِيقِ وَإِنْ كَانَ لَا دَسَمَ لَهُ أَنْ تَحْتَبِسَ بَقَايَاهُ بَيْنَ الْأَسْنَانِ وَنَوَاحِي الْفَمِ، فَيَشْغَلُهُ تَتَبُّعُهُ عَنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَتَوَضَّأْ)؛ أَيْ: بِسَبَبِ أَكْلِ السَّوِيقِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ وَخَيْبَرُ كَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ. قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَضَرَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَرَوَى الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ كَمَا فِي مُسْلِمٍ، وَكَانَ يُفْتِي بِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى جَوَازِ صَلَاتَيْنِ فَأَكْثَرَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الْمَضْمَضَةِ بَعْدَ الطَّعَامِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَبُكَيْرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَمَبَاحِثُ الْمَتْنِ تَقَدَّمَتْ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَنِصْفُ الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ مِصْرِيُّونَ وَنِصْفُهُ الْأَعْلَى مَدَنِيُّونَ، وَلِعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فِيهِ

ص: 312

إِسْنَادٌ آخَرُ إِلَى مَيْمُونَةَ ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مَقْرُونًا بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ ذِكْرُ الْمَضْمَضَةِ الَّتِي تَرْجَمَ بِهَا، فَقِيلَ: أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِدَلِيلِ تَرْكِهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، مَعَ أَنَّ الْمَأْكُولَ دَسَمٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَضْمَضَةِ مِنْهُ فَتَرَكَهَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَفَادَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي نُسْخَةِ الْفَرَبْرِيِّ الَّتِي بِخَطِّهِ تَقْدِيمَ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ هَذَا إِلَى الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَعَلَى هَذَا هُوَ مِنْ تَصَرُّفِ النُّسَّاخِ.

‌52 - بَاب هَلْ يُمَضْمِضُ مِن اللَّبَنِ

211 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، وَقُتَيْبَةُ قَالَا: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ، وَقَالَ: إِنَّ لَهُ دَسَمًا.

تَابَعَهُ يُونُسُ وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

[الحديث 211 - طرفه في: 5609]

قَوْلُهُ (بَابُ هَلْ يُمَضْمِضُ مِنَ اللَّبَنِ) وحَدِيثُ قُتَيْبَةَ هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ؛ وَهُمُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قُتَيْبَةُ.

قَوْلُهُ: (شَرِبَ لَبَنًا) زَادَ مُسْلِمٌ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ لَهُ دَسَمًا)، قال ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: فِيهِ بَيَانُ عِلَّةِ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَلِفُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِلَّةَ التَّنْظِيفِ فَأُمِرُوا بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، فَلَمَّا تَقَرَّرَتِ النَّظَافَةُ فِي الْإِسْلَامِ وَشَاعَتْ نُسِخَ. كَذَا قال وَلَا تَعَلُّقَ لِحَدِيثِ الْبَابِ بِمَا ذَكَرَ، إِنَّمَا فِيهِ بَيَانُ الْعِلَّةِ لِلْمَضْمَضَةِ مِنَ اللَّبَنِ فَيَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ دَسِمٍ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ لِلتَّنْظِيفِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ)؛ أَيْ: عُقَيْلًا (يُونُسُ) أَيِ: ابْنُ يَزِيدَ، وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ صَالِحٍ مَوْصُولٌ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّرَّاجِ فِي مُسْنَدِهِ. وَتَابَعَهُمْ أَيْضًا الْأَوْزَاعِيُّ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَطْعِمَةِ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَنْهُ بِلَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قال: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ فَذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مَضْمِضُوا مِنَ اللَّبَنِ الْحَدِيثَ، كَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ اللَّيْثِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مِثْلَهُ، وَإِسْنَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا حَسَنٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَمْرِ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَاوِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ شَرِبَ لَبَنًا، فَمَضْمَضَ ثُمَّ قال: لَوْ لَمْ أَتَمَضْمَضْ مَا بَالَيْتُ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا فَلَمْ يَتَمَضْمَضْ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَأَغْرَبَ ابْنُ شَاهِينَ فَجَعَلَ حَدِيثَ أَنَسٍ نَاسِخًا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ قال فِيهِ بِالْوُجُوبِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى دَعْوَى النَّسْخِ.

‌53 - بَاب الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنْ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ أَوْ الْخَفْقَةِ وُضُوءًا

212 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ)؛ أَيْ: هَلْ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ النُّعَاسَ يُسَمَّى نَوْمًا، وَالْمَشْهُورُ

ص: 313

التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ مَنْ قَرَّتْ حَوَاسُّهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَ جَلِيسِهِ وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ فَهُوَ نَاعِسٌ، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نَائِمٌ، وَمِنْ عَلَامَاتِ النَّوْمِ الرُّؤْيَا طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ، وَفِي الْعَيْنِ وَالْمُحْكَمِ النُّعَاسُ النَّوْمُ، وَقِيلَ مُقَارَبَتُهُ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنَ النَّعْسَةِ) هُوَ قَوْلُ الْمُعْظَمِ، وَيَتَخَرَّجُ مِنْ جَعْلِ النُّعَاسَ نَوْمًا أَنَّ مَنْ يَقُولُ النَّوْمُ حَدَثٌ بِنَفْسِهِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنَ النُّعَاسِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي قِصَّةِ صَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، قال: فَجَعَلْتُ إِذَا أَغْفَيْتُ أَخَذَ بِشَحْمَةِ أُذُنِي؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَغْرِقِ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قال: وَجَبَ الْوُضُوءُ عَلَى كُلِّ نَائِمٍ إِلَّا مَنْ خَفَقَ خَفْقَةً، وَالْخَفْقَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ بَعْدَهَا قَافٌ، قال ابْنُ التِّينِ: هِيَ النَّعْسَةُ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ، كَذَا قال. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، قال أَهْلُ اللُّغَةِ: خَفَقَ رَأْسُهُ إِذَا حَرَّكَهُ وَهُوَ نَاعِسٌ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: خَفَقَ بِرَأْسِهِ مِنَ النُّعَاسِ: أَمَالَهُ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَى تَخْفِقُ رُءُوسُهُمْ تَسْقُطُ أَذْقَانُهُمْ عَلَى صُدُورِهِمْ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فَيَنْعَسُونَ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤُوسُهُمْ، ثُمَّ يَقُومُونَ إِلَى الصَّلَاةِ. رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ ابْنِ عُرْوَةَ، وَالْإِسْنَادُ مَدَنِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (إِذَا نَعَسَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَغَلَّطُوا مَنْ ضَمَّهَا.

قَوْلُهُ (فَلْيَرْقُدْ) وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ هِشَامٍ فَلْيَنْصَرِفْ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّسْلِيمُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَحَمَلَهُ الْمُهَلَّبُ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرَهُ بِقَطْعِ الصَّلَاةِ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ النُّعَاسُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عُفِيَ عَنْهُ. قال: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ النَّوْمَ الْقَلِيلَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَخَالَفَ الْمُزَنِيُّ فَقَالَ: يَنْقُضُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ. فَخَرَقَ الْإِجْمَاعَ.

كَذَا قال الْمُهَلَّبُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ تَحَامَلُوا عَلَى الْمُزَنِيِّ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْمَصِيرَ إِلَى أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ يَنْقُضُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، قال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُولُ لِعُمُومِ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ يَعْنِي الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ، فَفِيهِ إِلَّا مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ نَوْمٍ فَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَالْمُرَادُ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ طُولُ زَمَانِهِ وَقِصَرُهُ لَا مَبَادِيهُ، وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ الْحَدَثِ اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَبَيْنَ الْمُضْطَجِعِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَبَيْنَ الْمُضْطَجِعِ وَالْمُسْتَنِدِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَبَيْنَهُمَا وَالسَّاجِدُ بِشَرْطِ قَصْدِهِ النَّوْمَ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقِيلَ لَا يَنْقُضُ نَوْمُ غَيْرِ الْقَاعِدِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَعَنْهُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ خَارِجِ الصَّلَاةِ فَيَنْقُضُ أَوْ دَاخِلِهَا فَلَا، وَفَصَّلَ فِي الْجَدِيدِ بَيْنَ الْقَاعِدِ الْمُتَمَكِّنِ فَلَا يَنْقُضُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيَنْقُضُ، وَفِي الْمُهَذَّبِ: وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ النَّوْمُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَمَحَلُّ الْحَدَثِ مِنْهُ مُتَمَكِّنٌ بِالْأَرْضِ، فَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ وُضُوؤهُ، وَقَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ: يُنْتَقَضُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، انْتَهَى.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ لَفْظَ الْبُوَيْطِيِّ لَيْسَ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قال: وَمَنْ نَامَ جَالِسًا أَوْ قَائِمًا فَرَأَى رُؤْيَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ. قال النَّوَوِيُّ: هَذَا قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ

(1)

.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ)، قال الْمُهَلَّبُ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِقَطْعِ الصَّلَاةِ، فَمَنْ صَارَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ فَقَدِ انْتَقَضَ وُضُوؤُهُ بِالْإِجْمَاعِ. كَذَا قال وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ إِنَّمَا هِيَ إِلَى جَوَازِ قَطْعِ الصَّلَاةِ أَوْ الِانْصِرَافِ إِذَا سَلَّمَ مِنْهَا، وَأَمَّا النَّقْضُ فَلَا يَتَبَيَّنُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ

(1)

الصواب في هذه المسألة أن النوم مظنة الحدث، فلا ينقض منه النعاس والشيء اليسير، إنما ينتقض منه ما أزال الشعور مطلقا، وبذلك تجتمع الأحاديث الواردة في الباب والله أعلم

ص: 314

جَرَيَانَ مَا ذُكِرَ عَلَى اللِّسَانِ مُمْكِنٌ مِنَ النَّاعِسِ، وَهُوَ الْقَائِلُ: إِنَّ قَلِيلَ النَّوْمِ لَا يَنْقُضُ فَكَيْفَ بِالنُّعَاسِ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ مُنْتَقِضٌ؛ فَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّوْمَ لَا يَنْقُضُ مُطْلَقًا، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَيَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ، فَحُمِلَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَهُمْ قُعُودٌ، لَكِنْ فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَيَضَعُونَ جُنُوبَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَنَامُ، ثُمَّ يَقُومُونَ إِلَى الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (فَيَسُبَّ) بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، وَمَعْنَى يَسُبُّ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ، وَصَرَّحَ بِهِ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ هِشَامٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ النَّهْيِ خَشْيَةَ أَنْ يُوَافِقَ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ قَالَهُ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ، وَفِيهِ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ عُلِّلَ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَالْحَثُّ عَلَى الْخُشُوعِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ لِلْعِبَادَةِ وَاجْتِنَابُ الْمَكْرُوهَاتِ فِي الطَّاعَاتِ وَجَوَازُ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ. (فَائِدَةٌ): هَذَا الْحَدِيثُ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامٍ فِي قِصَّةِ الْحَوْلَاءِ بِنْتِ تُوَيْتٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ.

213 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ؛ فَلْيَنَمْ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَأَيُّوبُ هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (إِذَا نَعَسَ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَحَدُكُمْ وَلِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ فَلْيَنْصَرِفْ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَنَمْ)، قال الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا هَذَا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ لَيْسَتْ فِي أَوْقَاتِ النَّوْمِ، وَلَا فِيهَا مِنَ التَّطْوِيلِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ، انْتَهَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ جَاءَ عَلَى سَبَبٍ، لَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَيُعْمَلُ بِهِ أَيْضًا فِي الْفَرَائِضِ إِنْ وَقَعَ مَا أَمِنَ بَقَاءَ الْوَقْتِ.

(تَنْبِيهٌ): أَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اضْطِرَابًا؛ فَقَالَ: رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ فَوَقَفَهُ وَقَالَ فِيهِ: عَنْ أَيُّوبَ قُرِئَ عَلَيَّ كِتَابٌ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ فَعَرَفْتُهُ، رَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَسًا، انْتَهَى. وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاضْطِرَابَ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْوَارِثِ أَرْجَحُ بِمُوَافَقَةِ وُهَيْبٍ، وَالطُّفَاوِيِّ لَهُ عَنْ أَيُّوبَ، وَقَوْلُ حَمَّادٍ عَنْهُ: قُرِئَ عَلَيَّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي قِلَابَةَ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْ أَبِي قِلَابَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌54 - بَاب الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ

214 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، قال: سَمِعْتُ أَنَسا. ح قال: وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قال: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، عَنْ أَنَسِ، قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قال: يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ) أَيْ مَا حُكْمُهُ، وَالْمُرَادُ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوُضُوءِ عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} وَأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَالُوا: التَّقْدِيرُ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثِينَ، وَاسْتَدَلَّ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ.

ص: 315

وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَمَّنْ لَقِيَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالَ: كَانَ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَاجِبًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ نُسِخَ أَوِ اسْتَمَرَّ حُكْمُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ فَلَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ أُمِرَ بِالسِّوَاكِ. وَذَهَبَ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْوُجُوبِ قَوْمٌ كَمَا جَزَمَ بِهِ الطَّحَاوِيُّ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِمَا، وَاسْتَبْعَدَهُ النَّوَوِيُّ وَجَنَحَ إِلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ عَنْهُمْ، وَجَزَمَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ اسْتَقَرَّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ.

وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي حَقِّ الْمُحْدِثِينَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ عَلَى النَّدْبِ، وَحَصَلَ بَيَانُ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ) هُوَ تَحْوِيلٌ إِلَى إِسْنَادٍ ثَانٍ قَبْلَ ذِكْرِ الْمَتْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَعْلَى لِتَصْرِيحِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ، وَعَمْرُو بْنُ عَامِرٍ كُوفِيٌّ أَنْصَارِيٌّ وَقِيلَ بَجَلِيٌّ، وَصَحَّحَ الْمِزِّيُّ أَنَّ الْبَجَلِيَّ رَاوٍ آخَرُ غَيْرُ هَذَا الْأَنْصَارِيِّ، وَلَيْسَ لِهَذَا فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ كُلُّهَا، عَنْ أَنَسٍ، وَلَيْسَ لِلْبَجَلِيِّ عِنْدَهُ رِوَايَةٌ، وَقَدْ يَلْتَبِسُ بِهِ عُمَرُ بْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ رَاوٍ آخَرُ بَصْرِيٌّ سُلَمِيٌّ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ: (عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ)؛ أَيْ: مَفْرُوضَةٍ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ طَاهِرًا أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ وَظَاهِرُهُ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ عَادَتَهُ، لَكِنَّ حَدِيثَ سُوَيْدٍ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْغَالِبُ، قال الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ خَاصَّةً، ثُمَّ نُسِخَ يَوْمَ الْفَتْحِ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ، يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ فَقَالَ: عَمْدًا فَعَلْتُهُ. وَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ اسْتِحْبَابًا، ثُمَّ خَشِيَ أَنْ يُظَنَّ وُجُوبُهُ فَتَرَكَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. قُلْتُ: وَهَذَا أَقْرَبُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَالنَّسْخُ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي خَيْبَرَ وَهِيَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِزَمَانٍ.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ كُنْتُمْ) الْقَائِلُ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَالْمُرَادُ الصَّحَابَةُ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرٍو أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسًا أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ؟ قال: نَعَمْ. وَلِابْنِ مَاجَهْ وَكُنَّا نَحْنُ نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ.

قَوْلُهُ: (يُجْزِئُ) بِالضَّمِّ مِنْ أَجْزَأَ أَيْ يَكْفِي، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ يَكْفِي.

215 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، قال: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، قال: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قال: أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ، قال: أَخْبَرَنِي سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ، قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ، فَلَمَّا صَلَّى دَعَا بِالْأَطْعِمَةِ فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَلَّى لَنَا الْمَغْرِبَ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ. وَمَبَاحِثُ الْمَتْنِ تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا، وَأَفَادَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ التَّصْرِيحَ بِالْإِخْبَارِ مِنْ يَحْيَى وَشَيْخِهِ، وَلَيْسَ لِسُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي مَوَاضِعَ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ حَارِثِيٌّ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ شَهِدَ قَبْلَ ذَلِكَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا.

ص: 316

‌55 - بَاب مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ لَا يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ

216 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، قال: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، ثُمَّ قال: بَلَى كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قال: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا أَوْ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا.

[الحديث 216 - أطرافه في: 6055، 6052، 1378، 1361، 218]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (مِنَ الْكَبَائِرِ)؛ أَيْ: الَّتِي وُعِدَ مَنِ اجْتَنَبَهَا بِالْمَغْفِرَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ) هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَمُجَاهِدٌ هُوَ ابْنُ جَبْرٍ صَاحِبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْهُ وَاشْتُهِرَ بِالْأَخْذِ عَنْهُ، لَكِنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ فَأَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، طَاوُسًا كَمَا أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ بَعْدَ قَلِيلٍ، وَإِخْرَاجُهُ لَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ يَقْتَضِي صِحَّتَهُمَا عِنْدَهُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مُجَاهِدًا سَمِعَهُ مِنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ سَمِعَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوِ الْعَكْسِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي سِيَاقِهِ عَنْ طَاوُسٍ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَصَرَّحَ ابْنُ حِبَّانَ بِصِحَّةِ الطَّرِيقَيْنِ مَعًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ أَصَحُّ.

قَوْلُهُ: (مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِحَائِطٍ)؛ أَيْ: بُسْتَانٍ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَعْضِ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْحَائِطَ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ غَيْرُ الْحَائِطِ الَّذِي مَرَّ بِهِ، وَفِي الْأَفْرَادِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ الْحَائِطَ كَانَ لِأُمِّ مُبَشِّرٍ الْأَنْصَارِيَّةِ، وَهُوَ يُقَوِّي رِوَايَةَ الْأَدَبِ لِجَزْمِهَا بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَالشَّكُّ فِي قَوْلِهِ أَوْ مَكَّةَ مِنْ جَرِيرٍ.

قَوْلُهُ: (فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا)، قال ابْنُ مَالِكٍ: فِي قَوْلِهِ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ شَاهِدٌ عَلَى جَوَازِ إِفْرَادِ الْمُضَافِ الْمُثَنَّى إِذَا كَانَ جُزْءَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ نَحْوَ أَكَلْتُ رَأْسَ شَاتَيْنِ، وَجَمْعُهُ أَجْوَدُ نَحْوَ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وَقَدِ اجْتَمَعَ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ:

ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ

فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُضَافُ جُزْءَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، فَالْأَكْثَرُ مَجِيئُهُ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، فَإِنْ أُمِنَ اللَّبْسُ جَازَ جَعْلُ الْمُضَافِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَقَوْلُهُ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا شَاهِدٌ لِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (يُعَذَّبَانِ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، زَادَ ابْنُ مَاجَهْ جَدِيدَيْنِ؛ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقَالَ أَعَادَهُ عَلَى الْقَبْرَيْنِ مَجَازًا وَالْمُرَادُ مَنْ فِيهِمَا.

قَوْلُهُ: (وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ. ثُمَّ قال: بَلَى)؛ أَيْ: إِنَّهُ لَكَبِيرٌ. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، فَقَالَ: وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ. وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ، وَهَذَا مِنْ زِيَادَاتِ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ عَلَى الْأَعْمَشِ وَلَمْ يُخْرِجْهَا مُسْلِمٌ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَلَى أَنَّ التَّعْذِيبَ لَا يَخْتَصُّ بِالْكَبَائِرِ بَلْ قَدْ يَقَعُ عَلَى الصَّغَائِرِ، قال: لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنَ الْبَوْلِ لَمْ يَرِدْ فِيهِ وَعِيدٌ، يَعْنِي قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَتُعُقِّبَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ وَلَفْظُهُ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، بَلَى، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِي قَوْلِهِ فِي كَبِيرٍ شَاهِدٌ عَلَى وُرُودِ فِي لِلتَّعْلِيلِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ، قال: وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ مَعَ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ

ص: 317

كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} وَفِي الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي الشِّعْرِ فَذَكَرَ شَوَاهِدَ، انْتَهَى.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَوْنِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ كَبِيرٍ، فَأُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ بِأَنَّهُ كَبِيرٌ، فَاسْتَدْرَكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا وَالنَّسْخُ لَا يَدْخُلُ الْخَبَرَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْخَبَرِ

(1)

، يَجُوزُ نَسْخُهُ فَقَوْلُهُ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ إِخْبَارٌ بِالْحُكْمِ، فَإِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَبِيرٌ فَأَخْبَرَ بِهِ كَانَ نَسْخًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ.

وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْعَذَابِ، لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُعَذَّبَانِ عَذَابًا شَدِيدًا فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ وَقِيلَ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى أَحَدِ الذَّنْبَيْنِ وَهُوَ النَّمِيمَةُ لِأَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ بِخِلَافِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَهَذَا مَعَ ضَعْفِهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِتَارَ الْمَنْفِيَّ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ كَشْفَ الْعَوْرَةِ فَقَطْ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَبِيرٌ الْمَنْفِيِّ بِمَعْنَى أَكْبَرَ، وَالْمُثْبَتُ وَاحِدُ الْكَبَائِرِ؛ أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ كَالْقَتْلِ مَثَلًا، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فِي الْجُمْلَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الدَّنَاءَةِ وَالْحَقَارَةِ، وَهُوَ كَبِيرُ الذَّنْبِ. وَقِيلَ لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي اعْتِقَادِهِمَا أَوْ فِي اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَبِيرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} وَقِيلَ لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي مَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ؛ أَيْ: كَانَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمَا الِاحْتِرَازُ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا الْأَخِيرُ جَزَمَ بِهِ الْبَغَوِيُّ، وَغَيْرُهُ وَرَجَّحَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَجَمَاعَةٌ، وَقِيلَ لَيْسَ بِكَبِيرٍ بِمُجَرَّدِهِ وَإِنَّمَا صَارَ كَبِيرًا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ، وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ السِّيَاقُ فَإِنَّهُ وَصَفَ كُلًّا مِنْهُمَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ مِنْهُ وَاسْتِمْرَارُهُ عَلَيْهِ لِلْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ بَعْدَ حَرْفِ كَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (لَا يَسْتَتِرُ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِمُثَنَّاتَيْنِ مِنْ فَوْقُ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ يَسْتَبْرِئُ بِمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ. وَلِمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ يَسْتَنْزِهُ بِنُونٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا زَايٌ ثُمَّ هَاءٌ، فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ مَعْنَى الِاسْتِتَارِ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَوْلِهِ سُتْرَةً يَعْنِي لَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ، فَتُوَافِقُ رِوَايَةَ لَا يَسْتَنْزِهُ لِأَنَّهَا مِنَ التَّنَزُّهِ وَهُوَ الْإِبْعَادُ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَانَ لَا يَتَوَقَّى وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ. وَأَجْرَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ لَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ. وَضُعِّفَ بِأَنَّ التَّعْذِيبَ لَوْ وَقَعَ عَلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ لَاسْتَقَلَّ الْكَشْفُ بِالسَّبَبِيَّةِ وَاطُّرِحَ اعْتِبَارُ الْبَوْلِ فَيَتَرَتَّبُ الْعَذَابُ عَلَى الْكَشْفِ سَوَاءٌ وُجِدَ الْبَوْلُ أَمْ لَا، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَسَيَأْتِي كَلَامُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ قَرِيبًا. وَأَمَّا رِوَايَةُ الِاسْتِبْرَاءِ فَهِيَ أَبْلَغُ فِي التَّوَقِّي. وَتَعَقَّبَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ رِوَايَةَ الِاسْتِتَارِ بِمَا يَحْصُلُ جَوَابُهُ مِمَّا ذَكَرْنَا، قال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَوْ حُمِلَ الِاسْتِتَارَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَلَزِمَ أَنَّ مُجَرَّدَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ كَانَ سَبَبَ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْبَوْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَذَابِ الْقَبْرِ خُصُوصِيَّةً، يُشِيرُ إِلَى مَا صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ؛ أَيْ: بِسَبَبِ تَرْكِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ.

قال: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ لَفْظَ مِنْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى الْبَوْلِ اقْتَضَى نِسْبَةَ الِاسْتِتَارِ الَّذِي عَدَمُهُ سَبَبُ الْعَذَابِ إِلَى الْبَوْلِ، بِمَعْنَى أَنَّ ابْتِدَاءَ سَبَبِ الْعَذَابِ مِنَ الْبَوْلِ، فَلَوْ حُمِلَ عَلَى مُجَرَّدِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى، فَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ لِتَجْتَمِعَ أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَهُ وَاحِدٌ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيُعَذَّبُ فِي الْبَوْلِ وَمِثْلُهُ لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْ بَوْلِهِ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ.

قَوْلُهُ:

(1)

لعله الخبر بالحكم

ص: 318

(يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)، قال: ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هِيَ نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا مَا كَانَ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ، فَأَمَّا مَا اقْتَضَى فِعْلَ مَصْلَحَةٍ أَوْ تَرْكَ مَفْسَدَةٍ فَهُوَ مَطْلُوبٌ، انْتَهَى. وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلنَّمِيمَةِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يُخَالِفُهُ كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ.

قال النَّوَوِيُّ: وَهِيَ نَقْلُ كَلَامِ الْغَيْرِ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ، وَهِيَ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ. وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: هَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى قَاعِدَةِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْكَبِيرَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ وَلَا حَدَّ عَلَى الْمَشْيِ بِالنَّمِيمَةِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الِاسْتِمْرَارُ هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ جَعْلَهُ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْكَبِيرَةِ. أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبِيرَةِ مَعْنًى غَيْرُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، انْتَهَى. وَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ جَمِيعِهِمْ، لَكِنَّ كَلَامَ الرَّافِعِيِّ يُشْعِرُ بِتَرْجِيحِهِ حَيْثُ حَكَى فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي مَا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ. قال: وَهُمْ إِلَى الْأَوَّلِ أَمْيَلُ. وَالثَّانِي أَوْفَقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ، انْتَهَى.

وَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يُعَدَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنَ الْكَبَائِرِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَدَّهُمَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعُرِفَ بِهَذَا الْجَوَابِ عَنِ اعْتِرَاضِ الْكِرْمَانِيِّ بِأَنَّ النَّمِيمَةَ قَدْ نُصَّ فِي الصَّحِيحِ عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ)، وَلِلْأَعْمَشِ فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ وَالْعَسِيبُ بِمُهْمَلَتَيْنِ بِوَزْنِ فَعِيلٍ هِيَ الْجَرِيدَةُ الَّتِي لَمْ يَنْبُتْ فِيهَا خُوصٌ، فَإِنْ نَبَتَ فَهِيَ السَّعَفَةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ خَصَّ الْجَرِيدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بَطِيءُ الْجَفَافِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّ الَّذِيَ أَتَاهُ بِالْجَرِيدَةِ بِلَالٌ، وَلَفْظُهُ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ إِذْ سَمِعَ شَيْئًا فِي قَبْرٍ، فَقَالَ لِبِلَالٍ: ائْتِنِي بِجَرِيدَةٍ خَضْرَاءَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (فَكَسَرَهَا)؛ أَيْ: فَأَتَى بِهَا فَكَسَرَهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ الَّذِي أَتَى بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ أَنَّهُ الَّذِي قَطَعَ الْغُصْنَيْنِ، فَهُوَ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ هَذِهِ، فَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَوْجُهٍ: مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةٌ، وَقِصَّةُ جَابِرٍ كَانَتْ فِي السَّفَرِ وَكَانَ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَتَبِعَهُ جَابِرٌ وَحْدَهُ.

وَمِنْهَا أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم غَرَسَ الْجَرِيدَةَ بَعْدَ أَنْ شَقَّهَا نِصْفَيْنِ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ جَابِرًا بِقَطْعِ غُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَتَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَتَرَ بِهِمَا عِنْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَ جَابِرًا فَأَلْقَى الْغُصْنَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَيْثُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، وَأَنَّ جَابِرًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرْفَعَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي قِصَّةِ جَابِرٍ أَيْضًا السَّبَبُ الَّذِي كَانَا يُعَذَّبَانِ بِهِ، وَلَا التَّرَجِّي الْآتِي فِي قَوْلِهِ لَعَلَّهُ، فَبَانَ تَغَايُرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ جَابِرٍ وَأَنَّهُمَا كَانَا فِي قِصَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَا يَبْعُدُ تَعَدُّدُ ذَلِكَ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: ائْتُونِي بِجَرِيدَتَيْنِ، فَجَعَلَ إِحْدَاهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْأُخْرَى عِنْدَ رِجْلَيْهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ قِصَّةً ثَالِثَةً، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَسَمِعَ شَيْئًا فِي قَبْرٍ وَفِيهِ فَكَسَرَهَا بِاثْنَيْنِ تَرَكَ نِصْفَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَنِصْفَهَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَفِي قِصَّةِ الْوَاحِدِ جعلَ نِصْفَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَنِصْفَهَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَفِي قِصَّةِ الِاثْنَيْنِ جَعَلَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ جَرِيدَةً.

قَوْلُهُ (كِسْرَتَيْنِ) بِكَسْرِ الْكَافِ، وَالْكِسْرَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ الْمَكْسُورِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ أَنَّهَا كَانَتْ نِصْفًا. وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ عَنْهُ بِاثْنَتَيْنِ، قال: النَّوَوِيُّ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ.

قَوْلُهُ: (فَوَضَعَ) وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ الْآتِيَةِ فَغَرَزَ وَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْأُولَى.

قَوْلُهُ: (فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً)

ص: 319

وَقَعَ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، ثُمَّ غَرَزَ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِطْعَةً.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لَهُ) ولِلْأَعْمَشِ قَالُوا أَيِ: الصَّحَابَةُ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ السَّائِلِ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (لَعَلَّهُ)، قال ابْنُ مَالِكٍ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَجَازَ تَفْسِيرُهُ بِأَنْ وَصِلَتِهَا لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ جُمْلَةٍ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مُسْنَدٍ وَمُسْنَدٍ إِلَيْهِ. قال: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنْ زَائِدَةً مَعَ كَوْنِهَا نَاصِبَةً كَزِيَادَةِ الْبَاءِ مَعَ كَوْنِهَا جَارَّةً، انْتَهَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بِحَذْفِ أَنْ فَقَوَّى الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: شَبَّهَ لَعَلَّ بِعَسَى فَأَتَى بِأَنْ فِي خَبَرِهِ.

قَوْلُهُ: (يُخَفَّفُ) بِالضَّمِّ وَفَتْحِ الْفَاءِ، أَيِ: الْعَذَابُ عَنِ الْمَقْبُورَيْنِ.

قَوْلُهُ: (مَا لَمْ تَيْبَسَا) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ؛ أَيْ: الْكِسْرَتَانِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَّا أَنْ تَيْبَسَا بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي إِلَى أَنْ يَيْبَسَا بِإِلَى الَّتِي لِلْغَايَةِ وَالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيِ: الْعُودَانِ، قال الْمَازِرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ الْعَذَابَ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا هَذِهِ الْمُدَّةَ، انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ، قال: وَلَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ غَيْرُ هَذَا. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْوَحْيُ لَمَا أَتَى بِحَرْفِ التَّرَجِّي، كَذَا قال. وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى التَّعْلِيلِ، قال الْقُرْطُبِيُّ: وَقِيلَ إِنَّهُ شَفَعَ لَهُمَا هَذِهِ الْمُدَّةَ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ. وَكَذَا رَجَّحَ النَّوَوِيُّ كَوْنَ الْقِصَّةِ وَاحِدَةً، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا أَوْضَحْنَا مِنَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ دَعَا لَهُمَا بِالتَّخْفِيفِ مُدَّةَ بَقَاءِ النَّدَاوَةِ، لَا أَنَّ فِي الْجَرِيدَةِ مَعْنًى يَخُصُّهُ، وَلَا أَنَّ فِي الرَّطْبِ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْيَابِسِ. قال: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يُسَبِّحُ مَا دَامَ رَطْبًا فَيَحْصُلُ التَّخْفِيفُ بِبَرَكَةِ التَّسْبِيحِ، وَعَلَى هَذَا فَيَطَّرِدُ فِي كُلِّ مَا فِيهِ رُطُوبَةٌ مِنَ الْأَشْجَارِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ فِيمَا فِيهِ بَرَكَةُ الذِّكْرِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِمَا مَا دَامَتَا رَطْبَتَيْنِ تَمْنَعَانِ الْعَذَابَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لَنَا كَعَدَدِ الزَّبَانِيَةِ. وَقَدِ اسْتَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَضْعَ النَّاسِ الْجَرِيدَ وَنَحْوَهُ فِي الْقَبْرِ عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ.

قال الطُّرْطُوشِيُّ: لِأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِبَرَكَةِ يَدِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لِأَنَّهُ عَلَّلَ غَرْزَهُمَا عَلَى الْقَبْرِ بِأَمْرٍ مُغَيَّبٍ وَهُوَ قَوْلُهُ لَيُعَذَّبَانِ. قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِنَا لَا نَعْلَمُ أَيُعَذَّبُ أَمْ لَا أَنْ لَا نَتَسَبَّبَ لَهُ فِي أَمْرٍ يُخَفِّفُ عَنْهُ الْعَذَابَ أَنْ لَوْ عُذِّبَ، كَمَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَنَا لَا نَدْرِي أَرُحِمَ أَمْ لَا أَنْ لَا نَدْعُوَ لَهُ بِالرَّحْمَةِ. وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ بَاشَرَ الْوَضْعَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِهِ.

وَقَدْ تَأَسَّى بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ الصَّحَابِيُّ بِذَلِكَ فَأَوْصَى أَنْ يُوضَعَ عَلَى قَبْرِهِ جَرِيدَتَانِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجَنَائِزِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ مِنْ غَيْرِهِ

(1)

.

(تَنْبِيهٌ): لَمْ يُعْرَفِ اسْمُ الْمَقْبُورَيْنِ وَلَا أَحَدُهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَمْدٍ مِنَ الرُّوَاةِ لِقَصْدِ السَّتْرِ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ عَمَلٌ مُسْتَحْسَنٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُبَالَغَ فِي الْفَحْصِ عَنْ تَسْمِيَةِ مَنْ وَقَعَ فِي حَقِّهِ مَا يُذَمُّ بِهِ. وَمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ وَضَعَّفَهُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَحَدَهُمَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ إِلَّا مَقْرُونًا بِبَيَانِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحِكَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَضَرَ دَفْنَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْمَقْبُورَيْنِ فَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم، قال لَهُمْ: مَنْ دَفَنْتُمُ الْيَوْمَ هَاهُنَا؟ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا ذَبًّا عَنْ هَذَا السَّيِّدِ الَّذِي سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَيِّدًا، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ وَقَالَ: إِنَّ حُكْمَهُ قَدْ وَافَقَ

(1)

الصواب في هذه المسألة ما قاله الخطابي من استنكار الجريد ونحوه على القبور، لأن الرسول صلى اله عليه وسلم لم يفعله إلا في قبور مخصوصة اطلع على تعذيب أهلها، ولو كان مشروعا لفعله في كل القبور. وكبار الصحابة - كالخلفاء- لم يفعلوه، وهم أعلم بالسنة من بريدة. رضي الله عن الجميع. فتنبه

ص: 320

حُكْمَ اللَّهِ وَقَالَ: إِنَّ عَرْشَ الرَّحْمَنِ اهْتَزَّ لِمَوْتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَاقِبِهِ الْجَلِيلَةِ، خَشْيَةَ أَنْ يَغْتَرَّ نَاقِصُ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فَيَعْتَقِدَ صِحَّةَ ذَلِكَ وَهُوَ بَاطِلٌ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَقْبُورَيْنِ فَقِيلَ كَانَا كَافِرَيْنِ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ هَلَكَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَمِعَهُمَا يُعَذَّبَانِ فِي الْبَوْلِ وَالنَّمِيمَةِ، قال أَبُو مُوسَى: هَذَا وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِقَوِيٍّ لَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ لَمَا كَانَ لِشَفَاعَتِهِ إِلَى أَنْ تَيْبَسَ الْجَرِيدَتَانِ مَعْنًى، وَلَكِنَّهُ لَمَّا رَآهُمَا يُعَذَّبَانِ لَمْ يَسْتَجِزْ لِلُطْفِهِ وَعَطْفِهِ حِرْمَانَهُمَا مِنْ إِحْسَانِهِ فَشَفَعَ لَهُمَا إِلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَجَزَمَ ابْنُ الْعَطَّارِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ بِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ لَمْ يَدْعُ لَهُمَا بِتَخْفِيفِ الْعَذَابِ وَلَا تَرَجَّاهُ لَهُمَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ لَبَيَّنَهُ، يَعْنِي كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ. قُلْتُ: وَمَا قَالَهُ أَخِيرًا هُوَ الْجَوَابُ، وَمَا طَالَبَ بِهِ مِنَ الْبَيَانِ قَدْ حَصَلَ، وَلَا يَلْزَمُ التَّنْصِيصُ عَلَى لَفْظِ الْخُصُوصِيَّةِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ أَبُو مُوسَى ضَعِيفٌ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ فِيهِ سَبَبُ التَّعْذِيبِ، فَهُوَ مِنْ تَخْلِيطِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ، وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِمَا كَافِرَيْنِ فِيهِ ظَاهِرٌ.

وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَجْمُوعِ طُرُقِهِ أَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ جَدِيدَيْنِ فَانْتَفَى كَوْنُهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالْبَقِيعِ فَقَالَ: مَنْ دَفَنْتُمُ الْيَوْمَ هَاهُنَا؟ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَقِيعَ مَقْبَرَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَتَوَلَّاهُ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ، وَيُقَوِّي كَوْنَهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ رِوَايَةُ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَبَلَى وَمَا يُعَذَّبَانِ إِلَّا فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ فَهَذَا الْحَصْرُ يَنْفِي كَوْنَهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ عُذِّبَ عَلَى تَرْكِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْكُفْرِ بِلَا خِلَافٍ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ التَّحْذِيرُ مِنْ مُلَابَسَةِ الْبَوْلِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ الْوُجُوبَ بِوَقْتِ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌56 - بَاب مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الْبَوْلِ

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِب الْقَبْرِ: كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ

217 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قال: حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، قال: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فَيَغْسِلُ بِهِ

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الْبَوْلِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِ الْقَبْرِ)؛ أَيْ: عَنْ صَاحِبِ الْقَبْرِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: اللَّامُ بِمَعْنَى لِأَجْلِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ) يُشِيرُ إِلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ)، قال ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ بَوْلُ النَّاسِ لَا بَوْلُ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي بَوْلِ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى الْخَطَّابِيِّ حَيْثُ قال: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَةِ الْأَبْوَالِ كُلِّهَا.

وَمُحَصَّلُ الرَّدِّ أَنَّ الْعُمُومَ فِي رِوَايَةِ مِنَ الْبَوْلِ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ؛

ص: 321

لِقَوْلِهِ مِنْ بَوْلِهِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ، لَكِنْ يَلْتَحِقُ بِبَوْلِهِ بَوْلُ مَنْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ النَّاسِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ، قال: وَكَذَا غَيْرُ الْمَأْكُولِ، وَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْ قال بِنَجَاسَةِ بَوْلِهِ، وَلِمَنْ قال بِطَهَارَتِهِ حُجَجٌ أُخْرَى، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ مِنَ الْبَوْلِ اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَلَوْ سَلِمَ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْأَدِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِطَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الدَّوْرَقِيُّ، قال: أَخْبَرَنَا وَلِلْأَكْثَرِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَلَيْسَ هُوَ أَخَا يَعْقُوبَ. وَرَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ وَالْقَابِسِيُّ أَنَّهُ قُرِئَ بِضَمِّهَا وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ الْمَتْنِ فِي بَابِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ هُنَا عَلَى غَسْلِ الْبَوْلِ أَعَمُّ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ فَلَا تَكْرَارَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَيُغْتَسَلُ بِهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ - بِوَزْنِ يُفْتَعَلُ - وَلِغَيْرِهِ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ السِّينِ، وَحَذْفِ مَفْعُولِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَوْ لِلْحَيَاءِ مِنْ ذِكْرِهِ.

قَوْلُهُ (بَابُ) كَذَا ثَبَتَ لِأَبِي ذَرٍ، وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى غَسْلِ الْبَوْلِ وَاضِحٌ، لَكِنْ ثَبْتَتِ الرُّخْصَةُ فِي حَقِّ الْمُسْتَجْمِرِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ مَا انْتَشَرَ عَلَى الْمَحَلِّ.

باب

218 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً.

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا.

قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ هُوَ أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ.

قَوْلُهُ: (فَغَرَزَ) وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ فِي الْأَدَبِ فَغَرَسَ وَهُمَا بِمَعْنًى، وَأَفَادَ سَعْدُ الدِّينِ الْحَارِثِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ. وَقَالَ: إِنَّهُ ثَبَتَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَقَدْ قَدَّمْنَا لَفْظَهُ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَرِيحًا.

قَوْلُهُ: (لِمَ فَعَلْتَ) سَقَطَ لَفْظُ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَثَبَتَتْ أَدَاةُ الْعَطْفِ فِيهِ لِلْأَصِيلِيِّ وَلِهَذَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى هَذَا عَنْ وَكِيعٍ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ، وَالْحِكْمَةُ فِي إِفْرَادِ الْبُخَارِيِّ لَهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ التَّصْرِيحَ بِسَمَاعِ الْأَعْمَشِ دُونَ الْآخَرِ. وَبَاقِي مَبَاحِثِ الْمَتْنِ تَقَدَّمَتْ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

‌57 - بَاب تَرْكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ الْأَعْرَابِيَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ

219 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى أَعْرَابِيًّا يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: دَعُوهُ. حَتَّى إِذَا فَرَغَ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ.

[الحديث 219 - طرفاه في: 6025، 221]

ص: 322

قَوْلُهُ: (بَابُ تَرْكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ الْأَعْرَابِيَّ) اللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ وَاحِدُ الْأَعْرَابِ وَهُمْ مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا، وَإِنَّمَا تَرَكُوهُ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ كَانَ شَرَعَ فِي الْمَفْسَدَةِ فَلَوْ مُنِعَ لَزَادَتْ إِذْ حَصَلَ تَلْوِيثُ جُزْءٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَوْ مُنِعَ لَدَارَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْطَعَهُ فَيَتَضَرَّرُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَقْطَعَهُ فَلَا يَأْمَنُ مِنْ تَنْجِيسِ بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ، أَوْ مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنَ الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (هَمَّامٌ) هُوَ ابْنُ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) وَلِمُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَنَسٌ.

قَوْلُهُ: (رَأَى أَعْرَابِيًّا) حَكَى أَبُو بَكْرٍ التَّارِيخِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعِ الْمُزَنِيِّ

(1)

أَنَّهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وَقِيلَ غَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ دَعُوهُ) كَانَ هَذَا الْأَمْرُ بِالتَّرْكِ عَقِبَ زَجْرِ النَّاسِ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (حَتَّى) أَيْ: فَتَرَكُوهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ أَيْ: فِي دَلْوٍ كَبِيرٍ (فَصَبَّهُ) أَيْ: فَأَمَرَ بِصَبِّهِ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ كُلُّهُ صَرِيحًا. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ إِسْحَاقَ فَسَاقَهُ مُطَوَّلًا بِنَحْوٍ مِمَّا شَرَحْنَاهُ، وَزَادَ فِيهِ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسَنَذْكُرُ فَوَائِدَهُ فِي الْبَابِ الْآتِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌58 - بَاب صَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْبَوْلِ فِي الْمَسْجِدِ

220 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ - أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ.

[الحديث 220 - طرفه في: 6128]

قَوْلُهُ: (بَابُ صَبِّ الْمَاءِ. أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ) كَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بَدَلَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَتَانِ.

قَوْلُهُ: (قَامَ أَعْرَابِيٌّ) زَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ صَلَّى ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا. فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ سَتَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مُفْرَدَةً فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ الْحَدِيثَ تَامًّا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ اطَّلَعَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ الْيَمَانِيُّ وَكَانَ رَجُلًا جَافِيًا فَذَكَرَهُ تَامًّا بِمَعْنَاهُ وَزِيَادَةً، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا مُبْهَمٌ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ أَحْمَدِ بْنِ خَالِدٍ الذَّهَبِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ فِي جَمْعِ مُسْنَدِ ابْنِ إِسْحَاقَ، لِأَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ مِنْ طَرِيقِ الشَّامِيِّينَ عَنْهُ بِهَذَا السَّنَدِ، لَكِنْ قَالَ فِي أَوَّلِهِ: اطَّلَعَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ وَكَانَ جَافِيًا وَالتَّمِيمِيُّ هُوَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ الَّذِي صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ، وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ

(1)

في مخطوطة الرياض: المدني

ص: 323

بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمَانِيِّ، لَكِنْ لَهُ أَصْلٌ أَصِيلٌ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ التَّارِيخِيِّ إِنَّهُ الْأَقْرَعُ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ فَارِسٍ أَنَّهُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ) أَيْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ فَقَامُوا إِلَيْهِ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فَأَرَادَ أَصْحَابُهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ فِي هَذَا الْبَابِ فَزَجَرَهُ النَّاسُ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَانَ شَيْخِ الْمُصَنِّفِ فِيهِ بِلَفْظِ فَصَاحَ النَّاسُ بِهِ وَكَذَا لِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ.

فَظَهَرَ أَنَّ تَنَاوُلَهُ كَانَ بِالْأَلْسِنَةِ لَا بِالْأَيْدِي. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ فَقَالَ الصَّحَابَةُ مَهْ مَهْ.

قَوْلُهُ: (وَهَرِيقُوا)، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ وَأَهْرِيقُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهَا فِي بَابِ الْغُسْلِ فِي الْمُخَضَّبِ.

قَوْلُهُ: (سَجْلًا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: هُوَ الدَّلْوُ مَلْأَى، وَلَا يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ وَهِيَ فَارِغَةٌ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: السَّجْلُّ دَلْوٌ وَاسِعَةٌ. وَفِي الصِّحَاحِ: الدَّلْوُ الضَّخْمَةُ.

قَوْلُهُ: (أَوْ ذَنُوبًا) قَالَ الْخَلِيلُ: الدَّلْوُ مَلْأَى مَاءً. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِيهَا مَاءٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمِلْءِ، وَلَا يُقَالُ لَهَا وَهِيَ فَارِغَةٌ ذَنُوبٌ، انْتَهَى. فَعَلَى التَّرَادُفِ أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، وَإِلَّا فَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَإِنَّ رِوَايَةَ أَنَسٍ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي أَنَّهَا ذَنُوبٌ. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: مِنْ مَاءٍ مَعَ أَنَّ الذَّنُوبَ مِنْ شَأْنِهَا ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَفْظٌ مُش تَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرَسِ الطَّوِيلِ وَغَيْرِهِمَا.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ) إِسْنَادُ الْبَعْثِ إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَبْعُوثُ صلى الله عليه وسلم بِمَا ذَكَرَ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا فِي مَقَامِ التَّبْلِيغِ عَنْهُ فِي حُضُورِهِ وَغَيْبَتِهِ أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، إِذْ هُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ قِبَلِهِ بِذَلِكَ، أَيْ مَأْمُورُونَ. وَكَانَ ذَلِكَ شَأْنَهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ بَعَثَهُ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ يَقُولُ: يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا.

221 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

بَابُ: يُهَرِيقُ الْمَاءَ عَلَى الْبَوْلِ وَحَدَّثَنَا خَالِدُ. قَالَ وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا خَالِدٌ) سَقَطَتِ الْوَاوُ مِنْ رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَالْعَطْفُ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَبَانَ لِيَ الْمَتْنُ عَلَى لَفْظِ رِوَايَتِهِ ; لِأَنَّ لَفْظَ عَبْدَانَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِسِيَاقِهِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَنَّهُ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ.

قَوْلُهُ: (فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ) أَيْ نَاحِيَتِهِ، وَالطَّائِفَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ.

قَوْلُهُ: (فَنَهَاهُمْ) فِي رِوَايَةِ عَبْدَانَ فَقَالَ اتْرُكُوهُ فَتَرَكُوهُ.

قَوْلُهُ: (فَهَرِيقَ عَلَيْهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِلْبَاقِينَ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُ الْهَاءِ وَفَتْحُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَضَبَطَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ بِفَتْحِ الْهَاءِ أَيْضًا.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنَ النَّجَاسَةِ كَانَ مُقَرَّرًا فِي نُفُوسِ الصَّحَابَةِ، وَلِهَذَا بَادَرُوا إِلَى الْإِنْكَارِ بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ اسْتِئْذَانِهِ، وَلِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَيْضًا مَنْ طَلَبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ الْخُصُوصُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّمَسُّكَ يَتَحَتَّمُ عِنْدَ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، وَلَا يَجِبُ التَّوَقُّفُ عَنِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ لِذَلِكَ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْأَمْصَارِ مَا بَرِحُوا يُفْتُونَ بِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الْبَحْثِ عَنِ التَّخْصِيصِ، وَلِهَذِهِ الْقِصَّةِ أَيْضًا إِذْ لَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَقُلْ

ص: 324

لَهُمْ لِمَ نَهَيْتُمُ الْأَعْرَابِيَّ؟ بَلْ أَمَرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَهُوَ دَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِمَا. وَتَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَرْكِ أَيْسَرِهِمَا. وَفِيهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِزَالَةِ الْمَفَاسِدِ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ لِأَمْرِهِمْ عِنْدَ فَرَاغِهِ بِصَبِّ الْمَاءِ. وَفِيهِ تَعْيِينُ الْمَاءِ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ; لِأَنَّ الْجَفَافَ بِالرِّيحِ أَوِ الشَّمْسِ لَوْ كَانَ يَكْفِي لَمَا حَصَلَ التَّكْلِيفُ بِطَلَبِ الدَّلْوِ.

وَفِيهِ أَنَّ غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةَ عَلَى الْأَرْضِ طَاهِرَةٌ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ غَيْرُ الْوَاقِعَةِ ; لِأَنَّ الْبَلَّةَ الْبَاقِيَةَ عَلَى الْأَرْضِ غُسَالَةُ نَجَاسَةٍ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ التُّرَابَ نُقِلَ وَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّطْهِيرُ تَعَيَّنَ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الْبَلَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً فَالْمُنْفَصِلَةُ أَيْضًا مِثْلُهَا لِعَدَمِ الْفَارِقِ، وَيُسْتَدَلُّ بِهِ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ نُضُوبِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ لَتَوَقَّفَتْ طَهَارَةُ الْأَرْضِ عَلَى الْجَفَافِ. وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ عَصْرُ الثَّوْبِ إِذْ لَا فَارِقَ.

قَالَ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي بَعْدَ أَنْ حَكَى الْخِلَافَ: الْأَوْلَى الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الصَّبِّ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ شَيْئًا. وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ وَتَعْلِيمُهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ عِنَادًا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْلَافِهِ. وَفِيهِ رَأْفَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُسْنُ خُلُقِهِ، قَالَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ - بَعْدَ أَنْ فُقِّهَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَامَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَلَمْ يُؤَنِّبْ وَلَمْ يَسُبَّ. وَفِيهِ تَعْظِيمُ الْمَسْجِدِ وَتَنْزِيهُهُ عَنِ الْأَقْذَارِ، وَظَاهِرُ الْحَصْرِ مِنْ سِيَاقِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ غَيْرُ مَا ذَكَرَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْحَصْرِ مِنْهُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِعْلَ غَيْرِ الْمَذْكُورَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا خِلَافُ الْأَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَرْضَ تَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَلَا يُشْتَرَطُ حَفْرُهَا، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لَا تَطْهُرُ إِلَّا بِحَفْرِهَا، كَذَا أَطْلَقَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ إِذَا كَانَتْ رَخْوَةً بِحَيْثُ يَتَخَلَّلُهَا الْمَاءُ حَتَّى يَغْمُرَهَا فَهَذِهِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى حَفْرٍ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ صُلْبَةً فَلَا بُدَّ مِنْ حَفْرِهَا وَإِلْقَاءِ التُّرَابِ ; لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَغْمُرْ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِحَدِيثٍ جَاءَ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ:

أَحَدُهَا مَوْصُولٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ قَالَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَالْآخَرَانِ مُرْسَلَانِ أَخْرَجَ أَحَدَهُمَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلِ ابْنِ مُقَرِّنٍ، وَالْآخَرُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ وَرُوَاتُهُمَا ثِقَاتٌ، وَهُوَ يَلْزَمُ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ مُطْلَقًا، وَكَذَا مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ إِذَا اعْتَضَدَ مُطْلَقًا، وَالشَّافِعِيُّ إِنَّمَا يَعْتَضِدُ عِنْدَهُ إِذَا كَانَ مِنْ رِوَايَةِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مَنْ أَرْسَلَ إِذَا سَمَّى لَا يُسَمِّي إِلَّا ثِقَةً، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي الْمُرْسَلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سَنَدَيْهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَسَيَأْتِي بَاقِي فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌59 - بَاب بَوْلِ الصِّبْيَانِ

222 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ.

[الحديث 222 - أطرافه في: 6355، 6002]

قَوْلُهُ: (بَابُ بَوْلِ الصِّبْيَانِ) بِكَسْرِ الصَّادِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا جَمْعُ صَبِيٍّ، أَيْ مَا حُكْمُهُ وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ بَوْلُ الصَّبَايَا - جَمْعُ صَبِيَّةٍ - أَمْ لَا، وَفِي الْفَرْقِ أَحَادِيثُ لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِ الْمُصَنِّفِ: مِنْهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا فِي بَوْلِ الرَّضِيعِ، يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ

ص: 325

أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْهُ، قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَا لَمْ يَطْعَمَا الطَّعَامَ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فَوَقَفَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ.

وَمِنْهَا حَدِيثُ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ مَرْفُوعًا إِنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي السَّمْحِ نَحْوُهُ بِلَفْظِ يُرَشُّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (بِصَبِيٍّ) يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ابْنُ أُمِّ قَيْسٍ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَوِ الْحُسَيْنَ، فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَتْ: بَالَ الْحَسَنُ - أَوِ الْحُسَيْنُ - عَلَى بَطْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَرَكَهُ حَتَّى قَضَى بَوْلَهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ. وَلِأَحْمَدَ، عَنْ أَبِي لَيْلَى نَحْوُهُ. وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ فَجِيءَ بِالْحَسَنِ وَلَمْ يَتَرَدَّدْ، وَكَذَا لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. وَإِنَّمَا رَجَّحْتُ أَنَّهُ غَيْرُهُ ; لِأَنَّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْعَقِيقَةِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ يُحَنِّكُهُ، وَفِي قِصَّتِهِ أَنَّهُ بَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْحَسَنِ فَفِي حَدِيثِ أَبِي لَيْلَى، وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ بَالَ عَلَى بَطْنِهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ جَاءَ وَهُوَ يَحْبُو وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَائِمٌ فَصَعِدَ عَلَى بَطْنِهِ وَوَضَعَ ذَكَرَهُ فِي سُرَّتِهِ فَبَالَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، فَظَهَرَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (فَأَتْبَعَهُ) بِإِسْكَانِ الْمُثَنَّاةِ أَيْ: أَتْبَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَوْلَ الَّذِي عَلَى الثَّوْبِ الْمَاءَ يَصُبُّهُ عَلَيْهِ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ فَأَتْبَعَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ. وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ فَصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ هِشَامٍ فَنَضَحَهُ عَلَيْهِ.

223 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ.

[الحديث 223 - طرفه في 5693]

قَوْلُهُ: (عَنْ أُمِّ قَيْسٍ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اسْمُهَا جُذَامَةُ يَعْنِي بِالْجِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: اسْمُهَا آمِنَةُ وَهِيَ أُخْتُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيِّ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ حَدِيثٍ آخَرَ فِي الطِّبِّ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا قِصَّةٌ لِابْنِهَا، وَمَاتَ ابْنُهَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَغِيرٌ كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ) الْمُرَادُ بِالطَّعَامِ مَا عَدَا اللَّبَنَ الَّذِي يَرْتَضِعُهُ وَالتَّمْرَ الَّذِي يُحَنَّكُ بِهِ وَالْعَطَلَ الَّذِي يَلْعَقُهُ لِلْمُدَاوَاةِ وَغَيْرِهَا، فَكَأنَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الِاغْتِذَاءُ بِغَيْرِ اللَّبَنِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، هَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَأَطْلَقَ فِي الرَّوْضَةِ - تَبَعًا لِأَصْلِهَا - أَنَّهُ لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ غَيْرَ اللَّبَنِ، وَقَالَ فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ غَيْرَ اللَّبَنِ وَغَيْرَ مَا يُحَنَّكُ بِهِ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَحَمَلَ الْمُوَفَّقُ الْحَمَوِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ قَوْلَهُ لَمْ يَأْكُلْ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: مَعْنَاهُ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِجَعْلِ الطَّعَامِ فِي فِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَبِهِ جَزَمَ الْمُوَفَّقُ بْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَوَّتْ بِالطَّعَامِ وَلَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ عَنِ الرَّضَاعِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَتْ بِهِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ لِيُحَنِّكَهُ صلى الله عليه وسلم فَيُحْمَلُ النَّفْيُ عَلَى عُمُومِهِ، وَيُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لِلْمُصَنِّفِ فِي الْعَقِيقَةِ.

قَوْلُهُ: (فَأَجْلَسَهُ) أَيْ وَضَعَهُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ لَمَّا وُلِدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجُلُوسُ حَصَلَ مِنْهُ عَلَى الْعَادَةِ إِنْ قُلْنَا كَانَ فِي سِنِّ مَنْ يَحْبُو كَمَا فِي قِصَّةِ الْحَسَنِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى ثَوْبِهِ) أَيْ ثَوْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 326

وَأَغْرَبَ ابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِهِ ثَوْبُ الصَّبِيِّ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ.

قَوْلُهُ: (فَنَضَحَهُ)، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ نَضَحَ بِالْمَاءِ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَرَشَّهُ زَادَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَلَيْهِ. وَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ - أَيْ بَيْنَ نَضَحَ وَرَشَّ - لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الِابْتِدَاءَ كَانَ بِالرَّشِّ وَهُوَ تَنْقِيطُ الْمَاءِ، وَانْتَهَى إِلَى النَّضْحِ وَهُوَ صَبُّ الْمَاءِ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ وَلِأَبِي عَوَانَةَ فَصَبَّهُ عَلَى الْبَوْلِ يُتْبِعُهُ إِيَّاهُ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَغْسِلْهُ) ادَّعَى الْأَصِيلِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ شِهَابٍ رَاوِي الْحَدِيثِ وَأَنَّ الْمَرْفُوعَ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ فَنَضَحَهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَى مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ فَرَشَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي سِيَاقِ مَعْمَرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِدْرَاجِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِنَحْوِ سِيَاقِ مَالِكٍ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَلَمْ يَغْسِلْهُ وَقَدْ قَالَهَا مَعَ مَالِكٍ، اللَّيْثُ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُمْ، وَهُوَ لِمُسْلِمٍ، عَنْ يُونُسَ وَحْدَهُ. نَعَمْ زَادَ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ يُرَشَّ بَوْلُ الصَّبِيِّ وَيُغْسَلَ بَوْلُ الْجَارِيَةِ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ الَّتِي زَادَهَا مَالِكٌ وَمَنْ تَبِعَهُ لَأَمْكَنَ دَعْوَى الْإِدْرَاجِ، لَكِنَّهَا غَيْرُهَا فَلَا إِدْرَاجَ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا عَنْ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَبَيَّنَّا أَنَّهَا غَيْرُ مُخَالِفَةٍ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: النَّدْبُ إِلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَالتَّوَاضُعُ، وَالرِّفْقُ بِالصِّغَارِ، وَتَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ، وَالتَّبَرُّكُ بِأَهْلِ الْفَضْلِ

(1)

، وَحَمْلُ الْأَطْفَالِ إِلَيْهِمْ حَالَ الْوِلَادَةِ وَبَعْدَهَا، وَحُكْمُ بَوْلِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَا وَهُوَ مَقْصُودُ الْبَابِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ هِيَ أَوْجُهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَصَحُّهَا الِاكْتِفَاءُ بِالنَّضْحِ فِي بَوْلِ الصَّبِيِّ لَا الْجَارِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِمْ وَرَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ أَصْحَابُهُ هِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ.

وَالثَّانِي: يَكْفِي النَّضْحُ فِيهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَخَصَّصَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ النَّقْلَ فِي هَذَا بِمَا إِذَا كَانَا لَمْ يَدْخُلْ أَجْوَافَهُمَا شَيْءٌ أَصْلًا.

وَالثَّالِثُ: هُمَا سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ الْقِيَاسَ وَقَالُوا الْمُرَادُ بِقَوْلِهَا وَلَمْ يَغْسِلْهُ أَيْ غَسْلًا مُبَالَغًا فِيهِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيُبْعِدُهُ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ - يَعْنِي الَّتِي قَدَّمْنَاهَا - مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ بَوْلِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَوْجُهٌ: مِنْهَا مَا هُوَ رَكِيكٌ، وَأَقْوَى ذَلِكَ مَا قِيلَ: إِنَّ النُّفُوسَ أَعْلَقُ بِالذُّكُورِ مِنْهَا بِالْإِنَاثِ، يَعْنِي فَحَصَلَتِ الرُّخْصَةُ فِي الذُّكُورِ لِكَثْرَةِ الْمَشَقَّةِ.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْغَسْلَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُجَرَّدِ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى الْمَحَلِّ. قُلْتُ: وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّضْحِ هُنَا الْغَسْلُ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ تَجْوِيزُ مَنْ جَوَّزَ النَّضْحَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَوْلَ الصَّبِيِّ غَيْرُ نَجِسٍ، وَلَكِنَّهُ لِتَخْفِيفِ نَجَاسَتِهِ، انْتَهَى. وَأَثْبَتَ الطَّحَاوِيُّ الْخِلَافَ فَقَالَ: قَالَ قَوْمٌ بِطَهَارَةِ بَوْلِ الصَّبِيِّ قَبْلَ الطَّعَامِ، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُمَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَلَا

(1)

هذا فيه نظر. والصواب أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ولايقاس عليه غيره لما جعل الله فيه من البركة وخصه به دون غيره؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلو ذلك مع غيره صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الناس بالشرع، فوجب التأسي بهم. ولأن جواز مثل هذا لغيره صلى الله عليه وسلم قد يفضي الى الشرك، فتنبه

ص: 327

الْحَنَابِلَةُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ حِكَايَةٌ بَاطِلَةٌ، انْتَهَى. وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ اللَّازِمِ، وَأَصْحَابُ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌60 - بَاب الْبَوْلِ قَائِمًا وَقَاعِدًا

224 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ.

[الحديث 224 - أطرافه في: 2471، 226، 225]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبَوْلِ قَائِمًا وَقَاعِدًا) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى الْقُعُودِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ; لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ قَائِمًا فَقَاعِدًا أَجْوَزُ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا فَإِنَّ فِيهِ: بَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، فَقُلْنَا انْظُرُوا إِلَيْهِ يَبُولُ كَمَا تَبُولُ الْمَرْأَةُ وَحَكَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ الْبَوْلُ قَائِمًا، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ قَعَدَ يَبُولُ كَمَا تَبُولُ الْمَرْأَةُ وَقَالَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ، وَدَلَّ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورُ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخَالِفُهُمْ فِي ذَلِكَ فَيَقْعُدُ لِكَوْنِهِ أَسْتَرَ وَأَبْعَدَ مِنْ مُمَاسَّةِ الْبَوْلِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا بَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا مُنْذُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي وَائِلٍ)، وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا وَائِلٍ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ.

قَوْلُهُ: (سُبَاطَةَ قَوْمٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هِيَ الْمَزْبَلَةُ وَالْكُنَاسَةُ تَكُونُ بِفِنَاءِ الدُّورِ مِرْفَقًا لِأَهْلِهَا وَتَكُونُ فِي الْغَالِبِ سَهْلَةً لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْبَوْلُ عَلَى الْبَائِلِ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى الْقَوْمِ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ لَا مِلْكٍ ; لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنِ النَّجَاسَةِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ إِيرَادُ مَنِ اسْتَشْكَلَهُ لِكَوْنِ الْبَوْلِ يُوهِي الْجِدَارَ فَفِيهِ إِضْرَارٌ، أَوْ نَقُولُ: إِنَّمَا بَالَ فَوْقَ السُّبَاطَةِ لَا فِي أَصْلِ الْجِدَارِ وَهُوَ صَرِيحُ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ إِذْنَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالتَّصْرِيحِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مِمَّا يَتَسَامَحُ النَّاسُ بِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِإِيثَارِهِمْ إِيَّاهُ بِذَلِكَ، أَوْ لِكَوْنِهِ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِ أُمَّتِهِ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ الْمَعْنَى لَكِنْ لَمْ يُعْهَدْ ذَلِكَ مِنْ سِيرَتِهِ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ) زَادَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ فَتَنَحَّيْتُ فَقَالَ: ادْنُهْ، فَدَنَوْتُ حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَتَبَاعَدْتُ مِنْهُ، فَأَدْنَانِي حَتَّى صِرْتُ قَرِيبًا مِنْ عَقِبَيْهِ فَبَالَ قَائِمًا، وَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَكَذَا زَادَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِيهِ ذِكْرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَهُوَ ثَابِتٌ أَيْضًا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَزَادَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ فِيهِ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَزَعَمَ فِي الِاسْتِذْكَارِ أَنَّ عِيسَى تَفَرَّدَ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَذَلِكَ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عِصْمَةَ بْنِ مَالِكٍ سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ فِي الْحَضَرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ اخْتَصَرَهُ لِتَفَرُّدِ الْأَعْمَشِ بِهِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَنَّ عَاصِمًا رَوَاهُ لَهُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا قَالَ عَاصِمٌ: وَهَذَا الْأَعْمَشُ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ وَمَا حَفِظَهُ، يَعْنِي أَنَّ رِوَايَتَهُ هِيَ الصَّوَابُ. قَالَ شُعْبَةُ: فَسَأَلْتُ عَنْهُ مَنْصُورًا فَحَدَّثَنِيهِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ

ص: 328

حُذَيْفَةَ يَعْنِي كَمَا قَالَ الْأَعْمَشُ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْمَسْحَ، فَقَدْ وَافَقَ مَنْصُورٌ، الْأَعْمَشَ عَلَى قَوْلِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ دُونَ الزِّيَادَةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ مُسْلِمٌ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ بَلْ ذَكَرَهَا فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ ; لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ حَافِظٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَصَحُّ، يَعْنِي مِنْ حَدِيثِهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ جَنَحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ إِلَى تَصْحِيحِ الرِّوَايَتَيْنِ لِكَوْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَافَقَ عَاصِمًا عَلَى قَوْلِهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَبُو وَائِلٍ سَمِعَهُ مِنْهُمَا فَيَصِحُّ الْقَوْلَانِ مَعًا، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ التَّرْجِيحُ رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ، وَمَنْصُورٍ لِاتِّفَاقِهِمَا أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ، وَحَمَّادٍ لِكَوْنِهِمَا فِي حِفْظِهِمَا مَقَالٌ.

‌61 - بَاب الْبَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَالتَّسَتُّرِ بِالْحَائِطِ

225 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُنِي أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُهُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ) أَيْ صَاحِبِ الْبَائِلِ.

قَوْلُهُ: (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ وَهُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ.

قَوْلُهُ: (رَأَيْتُنِي) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ.

قَوْلُهُ: (فَانْتَبَذْتُ) بِالنُّونِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ تَنَحَّيْتُ، يُقَالُ: جَلَسَ فُلَانٌ نُبْذَةً بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّهَا أَيْ نَاحِيَةً.

قَوْلُهُ: (فَأَشَارَ إِلَيَّ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ. وَإِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ: عَدَمِ مُشَاهَدَتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَسَمَاعِ نِدَائِهِ لَوْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ، أَوْ رُؤْيَةِ إِشَارَتِهِ إِذَا أَشَارَ لَهُ وَهُوَ مُسْتَدْبِرُهُ. وَلَيْسَتْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ فِي حَالِ الْبَوْلِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ادْنُهْ كَانَ بِالْإِشَارَةِ لَا بِاللَّفْظِ، وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ صلى الله عليه وسلم لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ مِنَ الْإِبْعَادِ - عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ - عَنِ الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ وَعَنْ أَعْيُنِ النَّظَّارَةِ، فَقَدْ قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَشْغُولًا بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَعَلَّهُ طَالَ عَلَيْهِ الْمَجْلِسُ حَتَّى احْتَاجَ إِلَى الْبَوْلِ، فَلَوْ أَبْعَدَ لَتَضَرَّرَ، وَاسْتَدْنَى حُذَيْفَةُ لِيَسْتُرَهُ مِنْ خَلْفِهِ مِنْ رُؤْيَةِ مَنْ لَعَلَّهُ يَمُرُّ بِهِ وَكَانَ قُدَّامُهُ مَسْتُورًا بِالْحَائِطِ، أَوْ لَعَلَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. ثُمَّ هُوَ فِي الْبَوْلِ وَهُوَ أَخَفُّ مِنَ الْغَائِطِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى زِيَادَةِ تَكَشُّفٍ، وَلِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الرَّائِحَةِ. وَالْغَرَضُ مِنَ الْإِبْعَادِ التَّسَتُّرُ وَهُوَ يَحْصُلُ بِإِرْخَاءِ الذَّيْلِ وَالدُّنُوِّ مِنَ السَّاتِرِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِصْمَةَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَانْتَهَى إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَقَالَ يَا حُذَيْفَةُ اسْتُرْنِي فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وَظَهَرَ مِنْهُ الْحِكْمَةَ فِي إِدْنَائِهِ حُذَيْفَةَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَكَانَ حُذَيْفَةُ لَمَّا وَقَفَ خَلْفَهُ عَنْدَ عَقِبِهِ اسْتَدْبَرَهُ، وَظَهَرَ أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْحَضَرِ لَا فِي السَّفَرِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ دَفْعُ أَشَدِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا وَالْإِتْيَانُ بِأَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ إِذَا لَمْ يُمْكِنَا مَعًا، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُطِيلُ الْجُلُوسَ لِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَيُكْثِرُ مِنْ زِيَارَةِ أَصْحَابِهِ وَعِيَادَتِهِمْ، فَلَّمَا حَضَرَهُ الْبَوْلُ وَهُوَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحَالَاتِ لَمْ يُؤَخِّرْهُ حَتَّى يَبْعُدَ كَعَادَتِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَأْخِيرِهِ مِنَ الضَّرَرِ، فَرَاعَى أَهَمَّ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدَّمَ الْمَصْلَحَةَ فِي تَقْرِيبِ حُذَيْفَةِ مِنْهُ لِيَسْتُرَهُ مِنَ الْمَارَّةِ عَلَى مَصْلَحَةِ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ إِذْ لَمْ يُمْكِنْ جَمْعُهُمَا.

‌62 - بَاب الْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ

226 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ

ص: 329

يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ وَيَقُولُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَيْتَهُ أَمْسَكَ، أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ) كَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ، بَيَّنَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَجْهَ هَذَا التَّشْدِيدِ فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مُوسَى وَرَأَى رَجُلًا يَبُولُ قَائِمًا فَقَالَ: وَيْحَكَ أَفَلَا قَاعِدًا ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مُطَابَقَةُ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ فِي تَعَقُّبِهِ عَلَى أَبِي مُوسَى.

قَوْلُهُ: (ثَوْبَ أَحَدِهِمْ) وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ جِلْدَ أَحَدِهِمْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مُرَادُهُ بِالْجِلْدِ وَاحِدُ الْجُلُودِ الَّتِي كَانُوا يَلْبَسُونَهَا، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنَ الْإِصْرِ الَّذِي حَمَلُوهُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ فَفِيهَا كَانَ إِذَا أَصَابَ جَسَدَ أَحَدِهِمْ لَكِنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ صَرِيحَةٌ فِي الثِّيَابِ فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (قَرَضَهُ) أَيْ قَطَعَهُ. زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِالْمِقْرَاضِ، وَهُوَ يَدْفَعُ حَمْلَ مَنْ حَمَلَ الْقَرْضَ عَلَى الْغَسْلِ بِالْمَاءِ.

قَوْلُهُ: (لَيْتَهُ أَمْسَكَ) وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ لَوَدِدْتُ أَنَّ صَاحِبَكُمْ لَا يُشَدِّدُ هَذَا التَّشْدِيدَ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ حُذَيْفَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ الْبَائِلَ عَنْ قِيَامٍ قَدْ يَتَعَرَّضُ لِلرَّشَاشِ، وَلَمْ يَلْتَفِتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّشْدِيدَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِمَالِكٍ فِي الرُّخْصَةِ فِي مِثْلِ رُؤُوسِ الْإِبَرِ مِنَ الْبَوْلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَصِلْ إِلَى بَدَنِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ حِبَّانَ فِي ذِكْرِ السَّبَبِ فِي قِيَامِهِ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا يَصْلُحُ لِلْقُعُودِ، فَقَامَ لِكَوْنِ الطَّرَفِ الَّذِي يَلِيهِ مِنَ السُّبَاطَةِ كَانَ عَالِيًا فَأَمِنَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ بَوْلِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ السُّبَاطَةَ رَخْوَةٌ يَتَخَلَّلُهَا الْبَوْلُ فَلَا يَرْتَدُّ إِلَى الْبَائِلِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقِيلَ إِنَّمَا بَالَ قَائِمًا ; لِأَنَّهَا حَالَةٌ يُؤْمَنُ مَعَهَا خُرُوجُ الرِّيحِ بِصَوْتٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ ; لِكَوْنِهِ قَرِيبًا مِنَ الدِّيَارِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ الْبَوْلُ قَائِمًا أَحْصَنُ لِلدُّبُرِ. وَقِيلَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَسْتَشْفِي لِوَجَعِ الصُّلْبِ بِذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ كَانَ بِهِ.

وَرَوَى الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّمَا بَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا لِجُرْحٍ كَانَ فِي مَأْبِضِهِ وَالْمَأْبِضُ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ مُعْجَمَةٌ بَاطِنُ الرُّكْبَةِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ لِأَجْلِهِ مِنَ الْقُعُودِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ فِيهِ غِنًى عَنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَكَانَ أَكْثَرُ أَحْوَالِهِ الْبَوْلَ عَنْ قُعُودٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسَلَكَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ شَاهِينَ فِيهِ مَسْلَكًا آخَرَ فَزَعَمَا أَنَّ الْبَوْلَ عَنْ قِيَامٍ مَنْسُوخٌ، وَاسْتَدَلَّا عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مَا بَالَ قَائِمًا مُنْذُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِحَدِيثِهَا أَيْضًا مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّهُ كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِدًا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ مُسْتَنَدٌ إِلَى عِلْمِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي الْبُيُوتِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ فَلَمْ تَطَّلِعْ هِيَ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَفِظَهُ حُذَيْفَةُ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَتَضَمَّنَ الرَّدَّ عَلَى مَا نَفَتْهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ بَالُوا قِيَامًا، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إِذَا أَمِنَ الرَّشَاشَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّهْيِ عَنْهُ شَيْءٌ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي أَوَائِلِ شَرْحِ التِّرْمِذِيَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌63 - بَاب غَسْلِ الدَّمِ

227 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: جَاءَتْ

ص: 330

امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ.

[الحديث 227 - طرفه في: 307]

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ الدَّمِ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ. وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَفَاطِمَةُ هِيَ زَوْجَتُهُ بِنْتُ عَمِّهِ الْمُنْذِرِ، وَأَسْمَاءُ هِيَ جَدَّتُهُمَا لِأَبَوَيْهِمَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.

قَوْلُهُ: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَسْمَاءَ هِيَ السَّائِلَةُ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَضَعَّفَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِلَا دَلِيلٍ، وَهِيَ صَحِيحَةُ الْإِسْنَادِ لَا عِلَّةَ لَهَا، وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُبْهِمَ الرَّاوِي اسْمَ نَفْسِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: (تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ) أَيْ يَصِلُ دَمُ الْحَيْضِ إِلَى الثَّوْبِ، وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ.

قَوْلُهُ: (تَحُتُّهُ) بِالْفَتْحِ وَضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ أَيْ تَحُكُّهُ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ إِزَالَةُ عَيْنِهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَقْرُصُهُ) بِالْفَتْحِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، كَذَا فِي رِوَايَتِنَا. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ فِيهِ الضَّمُّ وَفَتْحُ الْقَافِ وَتَشْدِيدُ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، أَيْ تُدَلِّكُ مَوْضِعَ الدَّمِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهَا لِيَتَحَلَّلَ بِذَلِكَ وَيَخْرُجَ مَا تَشَرَّبَهُ الثَّوْبُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَتَنْضَحُهُ) بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْحَاءِ أَيْ تَغْسِلَهُ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ الرَّشُّ ; لِأَنَّ غَسْلَ الدَّمِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا النَّضْحُ فَهُوَ لِمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنَ الثَّوْبِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَنْضَحُهُ يَعُودُ عَلَى الثَّوْبِ، بِخِلَافِ تَحُتُّهُ فَإِنَّهُ يَعُودُ عَلَى الدَّمِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلَافُ الضَّمَائِرِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. ثُمَّ إِنَّ الرَّشَّ عَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ طَاهِرًا فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَجِّسًا لَمْ يَطْهُرْ بِذَلِكَ، فَالْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَاتِ إِنَّمَا تُزَالُ بِالْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ ; لِأَنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ بِمَثَابَةِ الدَّمِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِجْمَاعًا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَيْ يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ قَالَتْ بِرِيقِهَا فَمَصَّتْهُ بِظُفُرِهَا وَلِأَبِي دَاوُدَ بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا، وَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الرِّيقُ لَا يُطَهِّرُ لَزَادَ النَّجَاسَةُ. وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ قَصَدَتْ بِذَلِكَ تَحْلِيلَ أَثَرِهِ ثُمَّ غَسَلَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فِي بَابِ هَلْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبٍ حَاضَتْ فِيهِ.

(فَائِدَةٌ): تُعُقِّبَ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى تَعْيِينِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ; وَلِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا الشَّرْطِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْخَبَرَ نَصَّ عَلَى الْمَاءِ، فَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ بِالْقِيَاسِ، وَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَنْقُصَ الْفَرْعُ عَنِ الْأَصْلِ فِي الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ مَا فِي الْمَاءِ مِنْ رِقَّتِهِ وَسُرْعَةِ نُفُوذِهِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ، وَسَيَأْتِي بَاقِي فَوَائِدِهِ فِي بَابِ غَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

228 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ ابْنَةُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ

ص: 331

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي قَالَ: وَقَالَ أَبِي ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ.

[الحديث 228 - أطرافه في: 331، 325، 320، 306،]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَلِلْأَصِيلِيِّ: ابْنُ سَلَّامٍ، وَلِأَبِي ذَرٍّ: هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ هُوَ الضَّرِيرُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ، ابْنُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ، اسْمُهُ قَيْسُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَهِيَ غَيْرُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الَّتِي طَلُقَتْ ثَلَاثًا.

قَوْلُهُ: (أُسْتَحَاضُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ يُقَالُ: اسْتُحِيضَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ بَعْدَ أَيَّامِهَا الْمُعْتَادَةِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَالِاسْتِحَاضَةُ جَرَيَانُ الدَّمِ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ.

قَوْلُهُ: (لَا) أَيْ لَا تَدَعِي الصَّلَاةَ.

قَوْلُهُ: (عِرْقٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَاذِلِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (حَيْضَتُكِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا. وَالْمُرَادُ بِالْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ هُنَا ابْتِدَاءُ دَمِ الْحَيْضِ وَانْقِطَاعُهُ.

قَوْلُهُ: (فَدَعِي الصَّلَاةَ) يَتَضَمَّنُ نَهْيَ الْحَائِضِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ وَيَقْتَضِي فَسَادَ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ.

قَوْلُهُ: (فَاغْتَسِلِي عَنْكِ الدَّمَ) أَيْ وَاغْتَسِلِي وَالْأَمْرُ بِالِاغْتِسَالِ مُسْتَفَادٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ) أَيْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ (وَقَالَ أَبِي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مُعَلَّقٌ، وَلَيْسَ بِصَوَابٍ، بَلْ هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَتِهِ. وَادَّعَى آخَرُ أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ تَوَضَّئِي مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَلَامَهُ لَقَالَ ثُمَّ تَتَوَضَّأُ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ، فَلَمَّا أَتَى بِهِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ شَاكَلَهُ الْأَمْرُ الَّذِي فِي الْمَرْفُوعِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَاغْسِلِي. وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌64 - بَاب غَسْلِ الْمَنِيِّ وَفَرْكِهِ، وَغَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ الْمَرْأَةِ

229 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْجَزَرِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ.

[الحديث 229 - أطرافه في: 232، 231، 230]

230 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلُ الْمَنِيِّ وَفَرْكُهُ) لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ الْفَرْكِ، بَلِ اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى عَادَتِهِ ; لِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَلَيْسَ بَيْنَ حَدِيثِ الْغَسْلِ وَحَدِيثِ الْفَرْكِ تَعَارُضٌ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ عَلَى الْقَوْلِ بِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ بِأَنْ يُحْمَلَ الْغَسْلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِلتَّنْظِيفِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّافِعِيِّ،

ص: 332

وَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَكَذَا الْجَمْعُ مُمْكِنٌ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهِ بِأَنْ يُحْمَلَ الْغَسْلُ عَلَى مَا كَانَ رَطْبًا وَالْفَرْكُ عَلَى مَا كَانَ يَابِسًا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَرْجَحُ ; لِأَنَّ فِيهَا الْعَمَلَ بِالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ مَعًا ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُوبَ غَسْلِهِ دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِفَرْكِهِ كَالدَّمِ وَغَيْرِهِ، وَهُمْ لَا يَكْتَفُونَ فِيمَا لَا يُعْفَى عَنْهُ مِنَ الدَّمِ بِالْفَرْكِ، وَيَرُدُّ الطَّرِيقَةَ الثَّانِيَةَ أَيْضًا مَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ كَانَتْ تَسْلِتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الْإِذْخِرِ ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ، وَتَحُكُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْغَسْلِ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَمْ يَعْرِفِ الْفَرْكَ وَقَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ عِنْدَهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْغَسْلِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَحَدِيثُ الْفَرْكِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَحَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْفَرْكَ عَلَى الدَّلْكِ بِالْمَاءِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا فِي إِحْدَى رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَحُكُّهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَابِسًا بِظُفُرِي وَبِمَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ

بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ عَلَى ضَيْفِهَا غَسْلَهُ الثَّوْبَ فَقَالَتْ: لِمَ أَفْسَدَ عَلَيْنَا ثَوْبَنَا؟ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَفْرُكَهُ بِأَصَابِعِهِ، فَرُبَّمَا فَرَكْتُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَصَابِعِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الثَّوْبُ الَّذِي اكْتَفَتْ فِيهِ بِالْفَرْكِ ثَوْبُ النَّوْمِ، وَالثَّوْبُ الَّذِي غَسَلَتْهُ ثَوْبُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ أَيْضًا بِمَا فِي إِحْدَى رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِهَا أَيْضًا لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرْكًا فَيُصَلِّي فِيهِ وَهَذَا التَّعْقِيبُ بِالْفَاءِ يَنْفِي احْتِمَالَ تَخَلُّلِ الْغَسْلِ بَيْنَ الْفَرْكِ وَالصَّلَاةِ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ رِوَايَةُ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحُكُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُرُودِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ ; لِأَنَّ غَسْلَهَا فِعْلٌ وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ بِمُجَرَّدِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ الْفَرْكِ عَلَى طَهَارَةِ الْمَنِيِّ بِأَنَّ مَنِيَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَاهِرٌ دُونَ غَيْرِهِ كَسَائِرِ فَضَلَاتِهِ. وَالْجَوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ كَوْنِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ أَنَّ مَنِيَّهُ كَانَ عَنْ جِمَاعٍ فَيُخَالِطُ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ كَانَ مَنِيُّهَا نَجِسًا لَمْ يُكْتَفَ فِيهِ بِالْفَرْكِ، وَبِهَذَا احْتَجَّ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ وَغَيْرُهُ عَلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِهَا قَالَ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْمَنِيَّ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْمَذْيِ فَيَتَنَجَّسُ بِهِ لَمْ يُصِبْ ; لِأَنَّ الشَّهْوَةَ إِذَا اشْتَدَّتْ خَرَجَ الْمَنِيُّ دُون الْمَذْيِ وَالْبَوْلِ كَحَالَةِ الِاحْتِلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَغَسْلُ مَا يُصِيبُ) أَيِ الثَّوْبَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ صَرِيحٌ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدُ فِي آخِرِ كِتَابِ الْغُسْلِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا، وَكَأَنَّهُ اسْتَنْبَطَهُ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَنِيَّ الْحَاصِلَ فِي الثَّوْبِ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ مُخَالَطَةِ مَاءِ الْمَرْأَةِ وَرُطُوبَتِهَا.

قَوْلُهُ: (عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْجَزَرِيُّ) كَذَا لِلْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالزَّايِ بَعْدَهَا رَاءٌ، مَنْسُوبٌ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَكَانَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَالِدُ عَمْرٍو نَزَلَهَا فَنُسِبَ إِلَيْهَا وَلَدُهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحَدَّهُ الْجَوْزِيُّ بِوَاوٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا زَايٌ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ) أَيْ أَثَرَ الْجَنَابَةِ فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ أُطْلِقَ اسْمُ الْجَنَابَةِ عَلَى الْمَنِيِّ مَجَازًا.

قَوْلُهُ: (بُقَعٌ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْقَافِ جَمْعُ بُقْعَةٍ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْبُقَعُ اخْتِلَافُ اللَّوْنَيْنِ.

قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي (حَدَّثَنَا يَزِيدُ) قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ: كَذَا هُوَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ فِي رِوَايَةِ الْفَرَبْرِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، وَيُقَالُ إِنَّهُ ابْنُ هَارُونَ وَلَيْسَ بِابْنِ زُرَيْعٍ وَجَمِيعًا قَدْ رُوِيَا - يَعْنِي عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ - وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ أَحَدِ الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْكِلَابَاذِيُّ وَرَجَّحَ الْقُطْبُ الْحَلِيمِيُّ فِي شَرْحِهِ أَنَّهُ ابْنُ هَارُونَ قَالَ: لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ رِوَايَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ زُرَيْعٍ.

قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْوِجْدَانِ عَدَمُ الْوُقُوعِ، كَيْفَ وَقَدْ جَزَمَ أَبُو مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ رَوَاهُ فَدَلَّ عَلَى وِجْدَانِهِ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. وَقَدْ خَرَّجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِلَفْظٍ مُخَالِفٍ لِلسِّيَاقِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا

ص: 333

مِنْ مُرَجِّحَاتِ كَوْنِهِ ابْنَ زُرَيْعٍ، وَأَيْضًا فَقُتَيْبَةُ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ دُونَ ابْنِ هَارُونَ قَالَهُ الْمِزِّيُّ، وَالْقَاعِدَةُ فِي مَنْ أُهْمِلَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ لِلرَّاوِي بِهِ خُصُوصِيَّةٌ كَالْإِكْثَارِ وَغَيْرِهِ، فَتَرَجَّحَ أَنَّهُ ابْنُ زُرَيْعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرٌو) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ يَعْنِي ابْنَ مَيْمُونٍ وَهُوَ ابْنُ مِهْرَانَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عَائِشَةَ) وَفِي الْإِسْنَادِ الَّذِي يَلِيهِ سَأَلْتُ عَائِشَةَ فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْبَزَّارِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ، عَلَى أَنَّ الْبَزَّارَ مَسْبُوقٌ بِهَذِهِ الدَّعْوَى، فَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ غَيْرِهِ، وَزَادَ أَنَّ الْحُفَّاظَ قَالُوا: إِنَّ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ غَلِطَ فِي رَفْعِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي فَتْوَى سُلَيْمَانَ، انْتَهَى. وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ تَصْحِيحِ الْبُخَارِيِّ لَهُ وَمُوَافَقَةِ مُسْلِمٍ لَهُ عَلَى تَصْحِيحِهِ صِحَّةُ سَمَاعِ سُلَيْمَانَ مِنْهَا وَأَنَّ رَفْعَهُ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ فَتْوَاهُ وَرِوَايَتِهِ تَنَافٍ، وَكَذَا لَا تَأْثِيرَ لِلِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ حَيْثُ وَقَعَ فِي إِحْدَاهُمَا أَنَّ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ سَأَلَ سُلَيْمَانَ، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّ سُلَيْمَانَ سَأَلَ عَائِشَةَ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَأَلَ شَيْخَهُ فَحَفِظَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَحْفَظْ بَعْضٌ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ، وَفِي طَبَقَتِهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ الْبَصْرِيُّ وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْمَنِيِّ) أَيْ عَنْ حُكْمِ الْمَنِيِّ هَلْ يُشْرَعُ غَسْلُهُ أَمْ لَا؟ فَحَصَلَ الْجَوَابُ بِأَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي إِيجَابَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (فَيَخْرُجُ) أَيْ مِنَ الْحُجْرَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (بُقَعُ الْمَاءِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ أَثَرُ الْغَسْلِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ جَوَازُ سُؤَالِ النِّسَاءِ عَمَّا يُسْتَحْيَى مِنْهُ لِمَصْلَحَةِ تَعَلُّمِ الْأَحْكَامِ، وَفِيهِ خِدْمَةُ الزَّوْجَاتِ لِلْأَزْوَاجِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ الْأَثَرِ بَعْدَ زَوَالِ الْعَيْنِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَغَيْرِهَا لَا يَضُرُّ فَلِهَذَا تَرْجَمَ بَابَ إِذَا غَسَلَ الْجَنَابَةَ أَوْ غَيْرَهَا فَلَمْ يَذْهَبْ أَثَرُهُ وَأَعَادَ الضَّمِيرَ مُذَكَّرًا عَلَى الْمَعْنَى أَيْ فَلَمْ يَذْهَبْ أَثَرُ الشَّيْءِ الْمَغْسُولِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ. وَذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ الْجَنَابَةِ وَأَلْحَقَ غَيْرَهَا بِهَا قِيَاسًا، أَوْ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ يَسَارٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَأَنَا أَحِيضُ، فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ إِذَا طَهُرْتِ فَاغْسِلِيهِ ثُمَّ صَلِّي فِيهِ قَالَتْ: فَإِنْ لَمْ يَخْرُجِ الدَّمُ؟ قَالَ يَكْفِيكِ الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْمُرَادُ بِالْأَثَرِ مَا تَعَسَّرَ إِزَالَتُهُ جَمْعًا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ أُمِّ قَيْسٍ حُكِّيهِ بِضِلْعٍ وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الْمُصَنِّفِ اسْتَنْبَطَ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي عَلَى شَرْطِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى كَعَادَتِهِ.

‌65 - بَاب إِذَا غَسَلَ الْجَنَابَةَ أَوْ غَيْرَهَا فَلَمْ يَذْهَبْ أَثَرُهُ

231 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمِنْقَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ فِي الثَّوْبِ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ الْمَاءِ.

قَوْلُهُ: (الْمِنْقَرِيُّ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَفَتْحِ الْقَافِ نِسْبَةً إِلَى بَنِي مِنْقَرٍ - بَطْنٍ مِنْ تَمِيمٍ - وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيُّ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ فِي الثَّوْبِ) أَيْ يَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ سَأَلْتُ سُلَيْمَانَ ابْنُ يَسَارٍ فِي الثَّوْبِ أَيْ قُلْتُ لَهُ مَا تَقُولُ فِي الثَّوْبِ أَوْ فِي بِمَعْنَى عَنْ.

قَوْلُهُ: (أَغْسِلُهُ)

ص: 334

أَيْ أَثَرَ الْجَنَابَةِ أَوِ الْمَنِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى أَثَرِ الْمَاءِ أَوْ إِلَى الثَّوْبِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ بُقَعُ الْمَاءِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ أَثَرُ الْغَسْلِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوِ الْمَعْنَى أَثَرُ الْجَنَابَةِ الْمَغْسُولَةِ بِالْمَاءِ فِيهِ مِنْ بُقَعِ الْمَاءِ الْمَذْكُورِ. وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ يَرْجَحُ هَذَا الِاحْتِمَالُ الْأَخِيرُ ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْمَنِيُّ.

232 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا.

قَوْلُهُ: (زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهَا كَانَتْ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا بِالْمَعْنَى مِنْ لَفْظِهَا، أَيْ قَالَتْ كُنْتُ أَغْسِلُ، لِيُشَاكِلَ قَوْلَهَا ثُمَّ أَرَاهُ أَوْ حَذَفَ لَفْظَ قَالَتْ قَبْلَ قَوْلِهَا ثُمَّ أَرَاهُ.

قَوْلُهُ: (بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِهَا وَيَنْزِلُ عَلَى حَالَتَيْنِ، أَوْ شَكًّا مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌66 - بَاب أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالْغَنَمِ وَمَرَابِضِهَا

وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي دَارِ الْبَرِيدِ وَالسِّرْقِينِ، وَالْبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: هَا هُنَا وَثَمَّ سَوَاءٌ

233 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ - أَوْ عُرَيْنَةَ - فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ.

قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا، وَقَتَلُوا، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

[الحديث 233 - أطرافه في: 6899، 6805، 6804، 6803، 6802، 5727، 5686، 5685، 4610، 4193، 4192، 3018، 1501]

قَوْلُهُ: (بَابُ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالْغَنَمِ) وَالْمُرَادُ بِالدَّوَابِّ مَعْنَاهُ الْعُرْفِيُّ وَهُوَ ذَوَاتُ الْحَافِرِ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ثُمَّ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَلِهَذَا سَاقَ أَثَرَ أَبِي مُوسَى فِي صَلَاتِهِ فِي دَارِ الْبَرِيدِ ; لِأَنَّهَا مَأْوَى الدَّوَابِّ الَّتِي تُرْكَبُ، وَحَدِيثَ الْعُرَنِيِّينَ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ، وَحَدِيثَ مَرَابِضَ الْغَنَمِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (وَمَرَابِضُهَا) جَمْعُ مِرْبَضٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَهِيَ لِلْغَنَمِ كَالْمَعَاطِنِ لِلْإِبِلِ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْغَنَمُ. وَلَمْ يُفْصِحِ الْمُصَنِّفُ بِالْحُكْمِ كَعَادَتِهِ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، لَكِنَّ ظَاهِرَ إِيرَادِهِ حَدِيثَ الْعُرَنِيِّينَ يُشْعِرُ بِاخْتِيَارِهِ الطَّهَارَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ صَاحِبِ الْقَبْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَدَاوُدُ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْلِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ مُطْلَقًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَصَلَّى أَبُو مُوسَى) هُوَ

ص: 335

الْأَشْعَرِيُّ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ - هُوَ السُّلَمِيُّ الْكُوفِيُّ - عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَلَّى بِنَا أَبُو مُوسَى فِي دَارِ الْبَرِيدِ، وَهُنَاكَ سِرْقِينُ الدَّوَابِّ، وَالْبَرِّيَّةِ عَلَى الْبَابِ، فَقَالُوا: لَوْ صَلَّيْتَ عَلَى الْبَابِ فَذَكَرَهُ. وَالسِّرْقِينُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ هُوَ الزِّبْلُ، وَحَكَى فِيهِ ابْنُ سِيدَهْ فَتْحَ أَوَّلِهِ وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَيُقَالُ لَهُ السِّرْجِينُ بِالْجِيمِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ حَرْفٌ بَيْنَ الْقَافِ وَالْجِيمِ يَقْرُبُ مِنَ الْكَافِ، وَالْبَرِّيَّةُ الصَّحْرَاءُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْبَرِّ، وَدَارُ الْبَرِيدِ الْمَذْكُورَةُ مَوْضِعٌ بِالْكُوفَةِ كَانَتِ الرُّسُلُ تَنْزِلُ فِيهِ إِذَا حَضَرَتْ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَفِي زَمَنِ عُثْمَانَ، وَكَانَتِ الدَّارُ فِي طَرَفِ الْبَلَدِ وَلِهَذَا كَانَتِ الْبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهَا. وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: الْبَرِيدُ فِي الْأَصْلِ الدَّابَّةُ الْمُرَتَّبَةُ فِي الرِّبَاطِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ الرَّسُولُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا: ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْمَسَافَةُ الْمَشْهُورَةُ.

(فَائِدَةٌ): ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: هَمْدَانُ بَرِيدُ عُمَرَ، وَهُوَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، وَلَهُ أَثَرٌ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ تَعْلِيقًا عَنْ عُمَيْرٍ كَمَا سَيَأْتِي تَخْرِيجُهُ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (سَوَاءً) يُرِيدُ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ عِنْدَ أَبِي مُوسَى ; لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا عَلَى ثَوْبٍ يَبْسُطُهُ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ بِسَنَدِهِ وَلَفْظِهِ صَلَّى بِنَا أَبُو مُوسَى عَلَى مَكَانٍ فِيهِ سِرْقِينٌ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الطِّنْفِسَةِ مُحْدَثٌ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. أَوْ لَعَلَّ أَبَا مُوسَى كَانَ لَا يَرَى الطَّهَارَةَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ بَلْ يَرَاهَا وَاجِبَةً بِرَأْسِهَا، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي صَلَّى بَعْدَ أَنْ جُرِحَ وَظَهَرَ عَلَيْهِ الدَّمُ الْكَثِيرُ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّوْثَ طَاهِرٌ، كَمَا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي ذَاكَ عَلَى أَنَّ الدَّمَ طَاهِرٌ، وَقِيَاسُ غَيْرِ الْمَأْكُولِ عَلَى الْمَأْكُولِ غَيْرُ وَاضِحٍ ; لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مُتَّجَهٌ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ رَوْثَ الْمَأْكُولِ طَاهِرٌ، وَسَنَذْكُرُ مَا فِيهِ قَرِيبًا. وَالتَّمَسُّكُ بِعُمُومِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي تَنَاوُلِ جَمِيعِ الْأَبْوَالِ

(1)

فَيَجِبُ اجْتِنَابُهَا لِهَذَا الْوَعِيدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) كَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَتَابَعَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ الْحَرَّانِيِّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ الْقَاضِي كُلُّهُمْ عَنْ سُلَيْمَانَ، وَخَالَفَهُمْ مُسْلِمٌ فَأَخْرَجَهُ عَنْ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَزَادَ بَيْنَ أَيُّوبَ، وَأَبِي قِلَابَةَ، أَبَا رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الطَّرَسُوسِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ: ثُبُوتُ أَبِي رَجَاءٍ وَحَذْفُهُ - فِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ - صَوَابٌ ; لِأَنَّ أَيُّوبَ حَدَّثَ بِهِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ بِقِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ خَاصَّةً، وَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْهُ مُقْتَصِرِينَ عَلَيْهَا، وَحَدَّثَ بِهِ أَيُّوبُ أَيْضًا عَنْ أَبِي رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَزَادَ فِيهِ قِصَّةً طَوِيلَةً لِأَبِي قِلَابَةَ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، فَالطَّرِيقَانِ جَمِيعًا صَحِيحَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(1)

هذا ليس بجيد، والصواب طهارة أبوال الإبل ونحوها مما يؤكل لحمه كما يأتي دليله في حديث العرنيين، و"ال"في قوله عليه السلام"استنزهو من البول" للعهد، والمعهود بينهم بول الناس كما قاله البخاري، وكما يدل عليه حديث القبرين وأثر أبي موسى المذكور. والله أعلم

ص: 336

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ ابْنِ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (قَدِمَ أُنَاسٌ) وَلِلْأَصِيلِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالسَّرْخَسِيِّ نَاسٌ أَيْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الدِّيَاتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ) الشَّكُّ فِيهِ مِنْ حَمَّادٍ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْمُحَارِبِينَ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادٍ أَنَّ رَهْطًا مَنْ عُكْلٍ أَوْ قَالَ مِنْ عُرَيْنَةَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ مَنْ عُكْلٍ، وَلَهُ فِي الْجِهَادِ عَنْ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ أَنَّ رَهْطًا مَنْ عُكْلٍ وَلَمْ يَشُكَّ، وَكَذَا فِي الْمُحَارِبِينَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَفِي الدِّيَاتِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَلَهُ فِي الزَّكَاةِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ وَلَمْ يَشُكَّ أَيْضًا، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَفِي الْمَغَازِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَةً مِنْ عُرَيْنَةَ وَثَلَاثَةً مِنْ عُكْلٍ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَفِي الدِّيَاتِ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الثَّامِنُ مِنْ غَيْرِ الْقَبِيلَتَيْنِ وَكَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ فَلَمْ يُنْسَبْ، وَغَفَلَ مَنْ نَسَبَ عِدَّتَهُمْ ثَمَانِيَةً لِرِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى وَهِيَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ تَبَعًا لِلدَّاوُدِيِّ أَنَّ عُرَيْنَةَ هُمْ عُكْلٌ، وَهُوَ غَلَطٌ، بَلْ هُمَا قَبِيلَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ: عُكْلٌ مِنْ عَدْنَانَ، وعُرَيْنَةُ مِنْ قَحْطَانَ.

وَعُكْلٌ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ قَبِيلَةٌ مِنْ تَيْمِ الرَّبَابِ، وعُرَيْنَةُ بِالْعَيْنِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالنُّونِ مُصَغَّرٌ حَيٌّ مِنْ قُضَاعَةَ وَحَيٌّ مِنْ بَجِيلَةَ، وَالْمُرَادُ هُنَا الثَّانِي، كَذَا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ سَاقِطٍ أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ. وَهُوَ غَلَطٌ ; لِأَنَّ بَنِي فَزَارَةَ مِنْ مُضَرَ لَا يَجْتَمِعُونَ مَعَ عُكْلٍ وَلَا مَعَ عُرَيْنَةَ أَصْلًا.

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي أَنَّ قُدُومَهُمْ كَانَ بَعْدَ غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ وَكَانَتْ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ. وَذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَتَبِعَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الصُّفَّةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُبُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْإِبِلِ.

قَوْلُهُ: (فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَبْلَ هَذَا فَأَسْلَمُوا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَجَاءٍ قَبْلَ هَذَا فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: اجْتَوَيْتُ الْبَلَدَ إِذَا كَرِهْتُ الْمُقَامَ فِيهِ وَإِنْ كُنْتُ فِي نِعْمَةٍ. وَقَيَّدَهُ الْخَطَّابِيُّ بِمَا إِذَا تَضَرَّرَ بِالْإِقَامَةِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقَالَ الْقَزَّازُ: اجْتَوَوْا أَيْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ طَعَامُهَا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْجَوَى دَاءٌ يَأْخُذُ مِنَ الْوَبَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَعْنِي رِوَايَةَ أَبِي رَجَاءٍ الْمَذْكُورَةَ اسْتَوْخَمُوا قَالَ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْجَوَى دَاءٌ يُصِيبُ الْجَوْفَ. وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ. وَلَهُ فِي الطِّبِّ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ إِنَّ نَاسًا كَانَ بِهِمْ سَقَمٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آوِنَا وَأَطْعِمْنَا، فَلَمَّا صَحُّوا قَالُوا: إِنَّ الْمَدِينَةَ وَخِمَةٌ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ قَدِمُوا سِقَامًا فَلَمَّا صَحُّوا مِنَ السَّقَمِ كَرِهُوا الْإِقَامَةَ بِالْمَدِينَةِ لِوَخَمِهَا، فَأَمَّا السَّقَمُ الَّذِي كَانَ بِهِمْ فَهُوَ الْهُزَالُ الشَّدِيدُ وَالْجَهْدُ مِنَ الْجُوعِ، فَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْلَانَ، عَنْ أَنَسٍ كَانَ بِهِمْ هُزَالٌ شَدِيدٌ وَعِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعْدٍ عَنْهُ مُصْفَرَّةٌ أَلْوَانُهُمْ. وَأَمَّا الْوَخْمُ الَّذِي شَكَوْا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ أَجْسَامُهُمْ فَهُوَ مِنْ حُمَّى الْمَدِينَةِ كَمَا عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ حُمَّى الْمَدِينَةِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الطِّبِّ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا اللَّهَ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى الْجُحْفَةِ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسٍ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ الْمُومُ أَيْ بِضَمِّ

ص: 337

الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ قَالَ: وَهُوَ الْبِرْسَامُ، أَيْ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ سُرْيَانِيٌّ مُعَرَّبٌ أُطْلِقَ عَلَى اخْتِلَالِ الْعَقْلِ وَعَلَى وَرَمِ الرَّأْسِ وَعَلَى وَرَمِ الصَّدْرِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَخِيرُ. فَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَعَظُمَتْ بُطُونُهُمْ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُمْ بِلِقَاحٍ) أَيْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْحَقُوا بِهَا، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ وَلَهُ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادٍ فَأَمَرَ لَهُمْ بِلِقَاحٍ ; بِزِيَادَةِ اللَّامِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً أَوْ لِلتَّعْلِيلِ أَوْ لِشِبْهِ الْمِلْكِ أَوْ لِلِاخْتِصَاصِ وَلَيْسَتْ لِلتَّمْلِيكِ، وَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ الَّتِي أَخْرَجَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا أَنَّهُمْ بَدَؤُوا بِطَلَبِ الْخُرُوجِ إِلَى اللِّقَاحِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَقَعَ هَذَا الْوَجَعُ، فَلَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَخَرَجْنَا إِلَى الْإِبِلِ وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْغِنَا رِسْلًا أَيِ اطْلُبْ لَنَا لَبَنًا قَالَ مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلَّا أَنْ تَلْحَقُوا بِالذَّوْدِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَجَاءٍ هَذِهِ نَعَمٌ لَنَا تَخْرُجُ فَاخْرُجُوا فِيهَا.

وَاللِّقَاحُ بِاللَّامِ الْمَكْسُورَةِ وَالْقَافِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ: النُّوقُ ذَوَاتُ الْأَلْبَانِ، وَاحِدُهَا لِقْحَةٌ بِكَسْرِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ هِيَ لَبُونٌ، وَظَاهِرُ مَا مَضَى أَنَّ اللِّقَاحَ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْمُحَارِبِينَ عَنْ مُوسَى، عَنْ وُهَيْبٍ بِسَنَدِهِ فَقَالَ إِلَّا أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَهُ فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِسَنَدِهِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ وَكَذَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِبِلَ الصَّدَقَةِ كَانَتْ تَرْعَى خَارِجَ الْمَدِينَةِ، وَصَادَفَ بَعْثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاحِهِ إِلَى الْمَرْعَى طَلَبَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ الْخُرُوجَ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِشُرْبِ أَلْبَانِ الْإِبِلِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَ رَاعِيهِ فَخَرَجُوا مَعَهُ إِلَى الْإِبِلِ فَفَعَلُوا مَا فَعَلُوا، وَظَهَرَ بِذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.

وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ عَدَدَ لِقَاحِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَأَنَّهُمْ نَحَرُوا مِنْهَا وَاحِدَةً يُقَالُ لَهَا الْحِنَّاءُ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُتَابِعٌ لِلْوَاقِدِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مُرْسَلٍ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْ يَشْرَبُوا) أَيْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا، وَلَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي رَجَاءٍ فَاخْرُجُوا فَاشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا الصَّدَقَةَ فَيَشْرَبُوا فَأَمَّا شُرْبُهُمْ أَلْبَانَ الصَّدَقَةِ فَلِأَنَّهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا شُرْبُهُمْ لَبَنَ لِقَاحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبِإِذْنِهِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا شُرْبُهُمْ الْبَوْلَ فَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ، أَمَّا مِنَ الْإِبِلِ فَبِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمَّا مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَوَافَقَهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْإِصْطَخْرِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ إِلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ كُلُّهَا مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ، وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ عَلَى الطَّهَارَةِ حَتَّى تَثْبُتَ النَّجَاسَةُ، قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ فَلَمْ يُصِبْ، إِذِ الْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، قَالَ: وَفِي تَرْكِ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْعَ النَّاسِ أَبْعَارَ الْغَنَمِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَاسْتِعْمَالَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ فِي أَدْوِيَتِهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَتِهَا.

قُلْتُ: وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ لَا يَجِبُ إِنْكَارُهُ، فَلَا يَدُلُّ تَرْكُ إِنْكَارِهِ عَلَى جَوَازِهِ فَضْلًا عَنْ طَهَارَتِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ الْأَبْوَالِ كُلِّهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: تَعَلَّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِطَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ، وَعُورِضُوا بِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي شُرْبِهَا لِلتَّدَاوِي، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ التَّدَاوِيَ لَيْسَ حَالَ ضَرُورَةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فَكَيْفَ يُبَاحُ الْحَرَامُ لِمَا لَا يَجِبُ؟ وَأُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّهُ لَيْسَ حَالَ ضَرُورَةٍ، بَلْ هُوَ حَالُ ضَرُورَةٍ إِذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى خَبَرِهِ، وَمَا أُبِيحُ لِلضَّرُورَةِ لَا يُسَمَّى حَرَامًا وَقْتَ تَنَاوُلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فَمَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ الْمَرْءُ فَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ

ص: 338

عَلَيْهِ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ مِنْ أَنَّ الْحَرَامَ لَا يُبَاحُ إِلَّا لِأَمْرٍ وَاجِبٍ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ حَرَامٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَيُبَاحُ لِأَمْرٍ جَائِزٍ كَالسَّفَرِ مَثَلًا. وَأَمَّا قَوْلُ غَيْرِهِ لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا جَازَ التَّدَاوِي بِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَسَتَأْتِي لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالنَّجَسُ حَرَامٌ فَلَا يُتَدَاوَى بِهِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ شِفَاءٍ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ فَلَا يَكُونُ حَرَامًا كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَلَا يَرِدُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَمْرِ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، إِنَّهَا دَاءٌ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ التَّدَاوِي بِهَا فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْخَمْرِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ غَيْرُهَا مِنَ الْمُسْكِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ أَنَّ الْحَدَّ يَثْبُتُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ دُونَ غَيْرِهِ ; وَلِأَنَّ شُرْبَهُ يَجُرُّ إِلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي الْخَمْرِ شِفَاءً فَجَاءَ الشَّرْعُ بِخِلَافِ مُعْتَقَدِهِمْ، قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ بِمَعْنَاهُ.

وَأَمَّا أَبْوَالُ الْإِبِلِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَنَّ فِي أَبْوَالِ الْإِبِلِ شِفَاءً لِذِرْبَةِ بُطُونِهِمْ وَالذَّرَبُ فَسَادُ الْمَعِدَةِ، فَلَا يُقَاسُ مَا ثَبَتَ أَنَّ فِيهِ دَوَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ نَفْيُ الدَّوَاءِ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ

(1)

، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا كُلِّهَا.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا صَحُّوا) فِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَلَمَّا صَحُّوا. وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي رَجَاءٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ وَسَمِنُوا وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ وَرَجَعَتْ إِلَيْهِمْ أَلْوَانُهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ) مِنَ السَّوْقِ وَهُوَ السَّيْرُ الْعَنِيفُ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَ الْخَبَرُ) فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ الصَّرِيخُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَيْ صَرَخَ بِالْإِعْلَامِ بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ، وَهَذَا الصَّارِخُ أَحَدُ الرَّاعِيَيْنِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهُ وَلَفْظُهُ فَقَتَلُوا أَحَدَ الرَّاعِيَيْنِ وَجَاءَ الْآخَرُ قَدْ جَزِعَ فَقَالَ: قَدْ قَتَلُوا صَاحِبِي وَذَهَبُوا بِالْإِبِلِ وَاسْمُ رَاعِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَقْتُولِ يَسَارٌ بِيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ بِإِسْنَادٍ صَالِحٍ قَالَ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ يَسَارٌ زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَصَابَهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي ثَعْلَبَةَ قَالَ سَلَمَةُ فَرَآهُ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ فَأَعْتَقَهُ وَبَعَثَهُ فِي لِقَاحٍ لَهُ بِالْحَرَّةِ فَكَانَ بِهَا فَذَكَرَ قِصَّةَ الْعُرَنِيِّينَ وَأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الرَّاعِي الْآتِي بِالْخَبَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رَاعِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ رِوَايَاتُ الْبُخَارِيُّ فِي أَنَّ الْمَقْتُولَ رَاعِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي ذِكْرِهِ بِالْإِفْرَادِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ لَكِنْ عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرُّعَاةِ فَقَتَلُوهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ إِبِلَ الصَّدَقَةِ كَانَ لَهَا رُعَاةٌ فَقُتِلَ بَعْضُهُمْ مَعَ رَاعِي اللِّقَاحِ، فَاقْتَصَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَلَى رَاعِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ

بَعْضُهُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الرُّوَاةِ ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى فَتَجُوزُ فِي الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَهَذَا أَرْجَحُ ; لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَغَازِي لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوا غَيْرَ يَسَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ الطَّلَبُ وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ خَيْلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَمِيرُهُمْ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فَبَعَثَ فِي

(1)

ليس بين الأدلة في هذا الباب بحمد الله اختلاف. والصواب طهارة أبوال مأكول اللحم من الإبل وغيرها كما تفدم في ص 336 وتقدم الجواب عما ذكره الشارح. ولو كانت الأبوال من الإبل ونحوها نجسة لأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم يغسل أفواههم عنها، وأوضح لهم حكمها، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز كما علم في الأصول. والله أعلم

ص: 339

طَلَبِهِمْ قَافَةً أَيْ جَمْعَ قَائِفٍ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ شَبَابٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ رَجُلًا وَبَعَثَ مَعَهُمْ قَائِفًا يَقْتَصُّ آثَارَهُمْ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْقَائِفِ وَلَا عَلَى اسْمِ وَاحِدٍ مِنَ الْعِشْرِينَ، لَكِنْ فِي مَغَازِي الْوَاقِدِيِّ أَنَّ السَّرِيَّةَ كَانَتْ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْأَنْصَارِ، بَلْ سَمَّى مِنْهُمْ جَمَاعَةً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ الْأَسْلَمِيَّانِ وَجُنْدَبٌ، وَرَافِعٌ ابْنَا مَكِيثٍ الْجُهَنِيَّانِ وَأَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيَّانِ وَبِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيَّانِ وَغَيْرُهُمْ، وَالْوَاقِدِيُّ لَا يَحْتَجُّ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ فَكَيْفَ إِذَا خَالَفَ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ الْوَاقِدِيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأُطْلِقَ الْأَنْصَارُ تَغْلِيبًا، أَوْ قِيلَ لِلْجَمِيعِ أَنْصَارٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ.

وَفِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ أَمِيرَ هَذِهِ السَّرِيَّةِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، كَذَا عِنْدَهُ بِزِيَادَةِ يَاءٍ وَالَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ سَعْدٌ بِسُكُونِ الْعَيْنِ ابْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ، وَهَذَا أَيْضًا أَنْصَارِيٌّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ رَأْسَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ كُرْزٌ أَمِيرَ الْجَمَاعَةِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ فِي آثَارِهِمْ، لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ جَرِيرًا تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ بِمُدَّةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا ارْتَفَعَ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَأُدْرِكُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَأُخِذُوا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ أَيْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُسَارَى.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ بِقَطْعِ) كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ، وَلِلْبَاقِينَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يَعْنِي قَطْعَ يَدَيْ كُلِّ وَاحِدٍ وَرِجْلَيْهِ. قُلْتُ: تَرُدُّهُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ خِلَافٍ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْفِرْيَابِيِّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِسَنَدِهِ، وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ أَيْضًا وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ أَيْ لَمْ يَكْوِ مَا قَطَعَ مِنْهُمْ بِالنَّارِ لِيَنْقَطِعَ الدَّمُ بَلْ تَرَكَهُ يَنْزِفُ.

قَوْلُهُ: (وَسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُمْ) بتَشْدِيدَ الْمِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَجَاءٍ وَسَمَرَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَلَمْ تَخْتَلِفْ رِوَايَاتُ الْبُخَارِيِّ فِي أَنَّهُ بِالرَّاءِ، وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَمَلَ بِالتَّخْفِيفِ وَاللَّامِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: السَّمْلُ فَقْءُ الْعَيْنِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:

وَالْعَيْنُ بَعْدَهُمْ كَأَنَّ حِدَاقَهَا

سُمِلَتْ بِشَوْكٍ فَهِيَ عُورٌ تَدْمَعُ

قَالَ: وَالسَّمْرُ لُغَةٌ فِي السَّمْلِ وَمَخْرَجُهُمَا مُتَقَارِبٌ. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْمِسْمَارِ يُرِيدُ أَنَّهُمْ كُحِّلُوا بِأَمْيَالٍ قَدْ أُحْمِيَتْ. قُلْتُ: قَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالْمُرَادِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ وَمِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَلَفْظُهُ ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِهَا فَهَذَا يُوَضِّحُ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ رِوَايَةَ السَّمْلِ ; لِأَنَّهُ فَقْءُ الْعَيْنِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ كَمَا مَضَى.

قَوْلُهُ: (وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ) هِيَ أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ مَعْرُوفَةٌ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا أُلْقُوا فِيهَا ; لِأَنَّهَا قُرْبُ الْمَكَانِ الَّذِي فَعَلُوا فِيهِ مَا فَعَلُوا.

قَوْلُهُ: (يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ) زَادَ وُهَيْبٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ حَتَّى مَاتُوا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَجَاءٍ ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِي الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ يَعَضُّونَ الْحِجَارَةَ وَفِي الطِّبِّ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ قَالَ أَنَسٌ فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَكْدُمُ الْأَرْضَ بِلِسَانِهِ حَتَّى يَمُوتَ وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَعَضُّ الْأَرْضَ لِيَجِدَ بَرْدَهَا مِمَّا يَجِدُ مِنَ الْحَرِّ وَالشِّدَّةِ. وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ صُلِبُوا، وَالرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ تَرُدُّهُ.

لَكِنْ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَقِيلٍ، عَنْ أَنَسٍ فَصَلَبَ اثْنَيْنِ وَقَطَعَ اثْنَيْنِ وَسَمَلَ اثْنَيْنِ كَذَا ذَكَرَ سِتَّةً فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَعُقُوبَتُهُمْ كَانَتْ مُوَزَّعَةً. وَمَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ ; لِمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ وَقَصَّرَ مَنِ اقْتَصَرَ فِي عَزْوِهِ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ الْمُثْلَةَ فِي حَقِّهِمْ وَقَعَتْ مِنْ جِهَاتٍ،

ص: 340

وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا السَّمْلُ فَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ الْبَقِيَّةِ. قُلْتُ: كَأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِمَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْمَغَازِي أَنَّهُمْ مَثَّلُوا بِالرَّاعِي، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، قَالَ ابْنُ شَاهِينَ عَقِبَ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ: هَذَا الْحَدِيثُ يَنْسَخُ كُلَّ مُثْلَةٍ.

وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ ادِّعَاءَ النَّسْخِ يَحْتَاجُ إِلَى تَارِيخٍ. قُلْتُ: يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ بَعْدَ الْإِذْنِ فِيهِ، وَقِصَّةُ الْعُرَنِيِّينَ قَبْلَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ حَضَرَ الْإِذْنَ ثُمَّ النَّهْيَ، وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ قِصَّتَهُمْ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ، وَلِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي: وَذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْمُثْلَةِ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْبُخَارِيُّ، وَحَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَشْكَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَدَمَ سَقْيِهِمُ الْمَاءَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ فَاسْتَسْقَى لَا يُمْنَعُ، وَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ عَنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا وَقَعَ مِنْهُ نَهْيٌ عَنْ سَقْيِهِمْ. انْتَهَى. وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ وَسُكُوتُهُ كَافٍ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ.

وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْمُحَارِبَ الْمُرْتَدَّ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي سَقْيِ الْمَاءِ وَلَا غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ مَاءٌ إِلَّا لِطَهَارَتِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَهُ لِلْمُرْتَدِّ وَيَتَيَمَّمَ، بَلْ يَسْتَعْمِلُهُ وَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَدُّ عَطَشًا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِمُ الْمَوْتَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَعْطِيشِهِمْ ; لِكَوْنِهِمْ كَفَرُوا نِعْمَة سَقْيِ أَلْبَانِ الْإِبِلِ الَّتِي حَصَلَ لَهُمْ بِهَا الشِّفَاءُ مِنَ الْجُوعِ وَالْوَخْمِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِالْعَطَشِ عَلَى مَنْ عَطَّشَ آلَ بَيْتِهِ فِي قِصَّةٍ رَوَاهَا النَّسَائِيُّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَنَعُوا إِرْسَالَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي كَانَ يُرَاحُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ لِقَاحِهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا) أَيْ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا اللِّقَاحَ مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهَا، وَهَذَا قَالَهُ أَبُو قِلَابَةَ اسْتِنْبَاطًا.

قَوْلُهُ: (وَقَتَلُوا) أَيِ الرَّاعِيَ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (وَكَفَرُوا) هُوَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْمَغَازِي، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ فِي الْجِهَادِ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي قِلَابَةَ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَحَارَبُوا ثَبَتَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ وَهَرَبُوا مُحَارِبِينَ وَسَتَأْتِي قِصَّةُ أَبِي قِلَابَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَسَامَةِ مِنْ كِتَابِ الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ: قُدُومُ الْوُفُودِ عَلَى الْإِمَامِ، وَنَظَرُهُ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الطِّبِّ وَالتَّدَاوِي بِأَلْبَانِ الْإِبِلِ وَأَبْوَالِهَا، وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ جَسَدٍ يُطَبُّ بِمَا اعْتَادَهُ، وَفِيهِ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ سَوَاءٌ قَتَلُوهُ غِيلَةً أَوْ حِرَابَةً إِنْ قُلْنَا إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ قِصَاصًا، وَفِيهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْمُثْلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْمُحَارَبَةِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَأَمَّا فِي الْقُرَى فَفِيهِ خِلَافٌ، وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ إِبِلَ الصَّدَقَةِ فِي الشُّرْبِ وَفِي غَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَفِيهِ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ، وَلِلْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ التَّامَّةُ.

234 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو التَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي - قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ - فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ.

[الحديث 234 - أطرافه في: 3932، 2779، 2774، 2771، 2106، 1868، 429، 428]

قَوْلُهُ: (أَبُو التَّيَّاحِ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ ثُمَّ التَّحْتَانِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، وَهَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ بِطَهَارَةِ أَبْوَالِهَا وَأَبْعَارِهَا، قَالُوا: لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا

ص: 341

يُبَاشِرُونَهَا فِي صَلَاتِهِمْ فَلَا تَكُونُ نَجِسَةً، وَنُوزِعَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ لِاحْتِمَالِ الْحَائِلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ عَلَى حَائِلٍ دُونَ الْأَرْضِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهَا شَهَادَةُ نَفْيٍ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إِنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى أَصْلٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى حَصِيرٍ فِي دَارِهِمْ، وَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ، فَاقْتَضَى أَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُطَيَّبَ وَتُنَظَّفَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ وَزَادَ وَأَنْ نُطَهِّرَهَا قَالَ: وَهَذَا بَعْدَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ. وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ النَّسْخِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ ثُمَّ الْمَنْعَ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ إِذْنَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ثَابِتٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.

نَعَمْ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى طَهَارَةِ الْمَرَابِضَ، لَكِنْ فِيهِ أَيْضًا النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ، فَلَو اقْتَضَى الْإِذْنُ الطِّهَارَةَ لَاقْتَضَى النَّهْيُ التَّنْجِيسَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالْفَرْقِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى فِي الْإِذْنِ وَالنَّهْيِ بِشَيْءٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّهَارَةِ وَلَا النَّجَاسَةِ وَهُوَ أَنَّ الْغَنَمَ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ وَالْإِبِلَ خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌67 - بَاب مَا يَقَعُ مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي السَّمْنِ وَالْمَاءِ

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أَوْ رِيحٌ أَوْ لَوْنٌ، وَقَالَ حَمَّادٌ: لَا بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي عِظَامِ الْمَوْتَى - نَحْوَ الْفِيلِ وَغَيْرِهِ - أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ بِهَا وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ: وَلَا بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي السَّمْنِ وَالْمَاءِ) أَيْ هَلْ يُنَجِّسُهُمَا أَمْ لَا، أَوْ لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ إِلَّا إِذَا تَغَيَّرَ دُونَ غَيْرِهِ؟ وَهَذَا الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ مِنْ أَثَرٍ وَحَدِيثٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) وَصَلَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ يُونُسَ عَنْهُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَمْرٍو وَهُوَ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (لَا بَأْسَ بِالْمَاءِ) أَيْ لَا حَرَجَ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ، فَهُوَ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أَيْ مِنْ شَيْءٍ نَجِسٍ أَوْ رِيحٍ مِنْهُ أَوْ لَوْنٍ، وَلَفْظُ يُونُسَ عَنْهُ كُلُّ مَا فِيهِ قُوَّةٌ عَمَّا يُصِيبُهُ مِنَ الْأَذَى حَتَّى لَا يُغَيِّرَ ذَلِكَ طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ وَلَا لَوْنَهُ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إِلَّا بِالْقُوَّةِ الْمَانِعَةِ لِلْمُلَاقِي أَنْ يُغَيِّرَ أَحَدٌ أَوْصَافَهُ، فَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُ بِالتَّغَيُّرِ وَعَدَمِهِ، وَمَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ هَذَا صَارَ إِلَيْهِ طَوَائِفُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الطَّهُورِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ بَالَ فِي إِبْرِيقٍ وَلَمْ يُغَيِّرْ لِلْمَاءِ وَصْفًا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّط هُّرُ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَبْشَعٌ، وَلِهَذَا نَصَرَ قَوْلَ التَّفْرِيقِ بِالْقُلَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ لِاخْتِلَافٍ وَقَعَ فِي إِسْنَادِهِ، لَكِنَّ رُوَاتَهُ ثِقَاتٌ. وَصَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، إِلَّا أَنَّ مِقْدَارَ الْقُلَّتَيْنِ لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهِ، وَاعْتَبَرَهُ الشَّافِعِيُّ بِخَمْسِ قِرَبٍ مِنْ قِرَبِ الْحِجَازِ احْتِيَاطًا، وَخَصَّصَ بِهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِلْقَوْلِ فِي هَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ هَذَا وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُثْبِتُ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِثْلَهُ، لَكِنْ لَا أَعْلَمُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا، يَعْنِي فِي تَنْجِيسِ الْمَاءِ إِذَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ بِالنَّجَاسَةِ، وَالْحَدِيثُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَفِيهِ اضْطِرَابٌ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَمَّادٌ) هُوَ

ص: 342

ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ الْفَقِيهُ الْكُوفِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَا بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ) أَيْ لَيْسَ نَجِسًا وَلَا يَنْجُسُ الْمَاءُ بِمُلَاقَاتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ رِيشَ مَأْكُولٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي عِظَامِ الْمَوْتَى نَحْوِ الْفِيلِ وَغَيْرِهِ) أَيْ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ (أَدْرَكْتُ نَاسًا) أَيْ كَثِيرًا وَالتَّنْوِينُ لِلتَّكْثِيرِ.

قَوْلُهُ: (وَيَدَّهِنُونَ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ، وَيَجُوزُ ضَمُّ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانُ الدَّالِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِطَهَارَتِهِ، وَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ فِيهِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمُ) لَمْ يَذْكُرِ السَّرْخَسِيُّ، إِبْرَاهِيمَ فِي رِوَايَتِهِ وَلَا أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَأَثَرُ ابْنِ سِيرِينَ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِالتِّجَارَةِ فِي الْعَاجِ بَأْسًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ طَاهِرًا ; لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ بَيْعَ النَّجِسِ وَلَا الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ بِدَلِيلِ قِصَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي الزَّيْتِ. وَالْعَاجُ هُوَ نَابُ الْفِيلِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: لَا يُسَمَّى غَيْرُهُ عَاجًا، وَقَالَ الْقَزَّازُ: أَنْكَرَ الْخَلِيلُ أَنْ يُسَمَّى غَيْرُ نَابِ الْفِيلِ عَاجًا، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ، وَالْجَوْهَرِيُّ: الْعَاجُ عَظْمُ الْفِيلِ، فَلَمْ يُخَصِّصَاهُ بِالنَّابِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ تَبَعًا لِابْنِ قُتَيْبَةَ: الْعَاجُ الذَّبْلُ وَهُوَ ظَهْرُ السُّلَحْفَاءِ الْبَحْرِيَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَفِي الصِّحَاحِ: الْمِسْكُ السِّوَارُ مِنْ عَاجٍ أَوْ ذَبْلٍ، فَغَايَرَ بَيْنَهُمَا. لَكِنْ قَالَ الْقَالِي: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ عَظْمٍ عَاجًا، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَلَا حُجَّةَ فِي الْأَثَرِ الْمَذْكُورِ عَلَى طَهَارَةِ عَظْمِ الْفِيلِ، لَكِنَّ إِيرَادَ الْبُخَارِيِّ لَهُ عَقِبَ أَثَرِ الزُّهْرِيِّ فِي عَظْمِ الْفِيلِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مَا قَالَ الْخَلِيلُ.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَظْمِ الْفِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَظْمَ هَلْ تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ أَمْ لَا، فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الشَّافِعِيُّ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعَظْمَ تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ، وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ بِطَهَارَةِ الْعِظَامِ مُطْلَقًا، وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ طَاهِرٌ إِنْ ذُكِّيَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ غَيْرَ الْمَأْكُولِ يَطْهُرُ بِالتَّذْكِيَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

235 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ: أَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ.

[الحديث 235 - أطرافه في: 5540، 5539، 5538، 136]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَيْمُونَةَ) هِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَالسَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ هِيَ مَيْمُونَةُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَجُوَيْرِيَةَ، عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَيْمُونَةَ اسْتَفْتَتْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ) زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيِّ عَنْ مَالِكٍ فِي سَمْنٍ جَامِدٍ، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الذَّبَائِحِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَمَاتَتْ.

قَوْلُهُ: (وَمَا حَوْلَهَا) أَيْ مِنَ السَّمْنِ.

236 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: خُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ. قَالَ مَعْنٌ:، حَدَّثَنَا مَالِكٌ مَا لَا أُحْصِيهِ يَقُولُ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَعْنٍ) هُوَ ابْنُ عِيسَى الْقَزَّازِ.

قَوْلُهُ: (خُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ) أَيْ الْجَمِيعَ وَكُلُوا الْبَاقِيَ كَمَا

ص: 343

دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُولَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ مَعْنٌ) هُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ كَلَامَ مَعْنٍ وَسَاقَ حَدِيثَهُ بِنُزُولٍ - بِالنِّسْبَةِ لِلْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ - مَعَ مُوَافَقَتِهِ لَهُ فِي السِّيَاقِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الِاخْتِلَافِ عَلَى مَالِكٍ فِي إِسْنَادِهِ، فَرَوَاهُ أَصْحَابُ الْمُوَطَّأِ عَنْهُ وَاخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُ عَنْهُ هَكَذَا كَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَيْمُونَةَ كَالْقَعْنَبِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، كَأَشْهَبَ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَلَا مَيْمُونَةَ كَيَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَأَبِي مُصْعَبٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَفْظَةَ جَامِدٍ إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ، وَكَذَا ذَكَرَهَا أَبُو دَاوُدُ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَرَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ وَالْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِدُونِهَا وَجَوَّدُوا إِسْنَادَهُ فَذَكَرُوا فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمَيْمُونَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُجَوَّدًا، وَلَهُ فِيهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ إِسْنَادٌ آخَرُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ، قَالَ: إِذَا كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ هَذِهِ: هِيَ خَطَأٌ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ: إِنَّهَا وَهْمٌ. وَأَشَارَ التِّرْمِذِيُّ إِلَى أَنَّهَا شَاذَّةٌ، وَقَالَ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ: الطَّرِيقَانِ عِنْدَنَا مَحْفُوظَانِ، لَكِنَّ طَرِيقَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَشْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ اسْتَشْكَلَ ابْنُ التِّينِ إِيرَادَ الْبُخَارِيِّ كَلَامَ مَعْنٍ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِرِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِتَجْوِيدِ إِسْنَادِهِ. وَظَهَرَ لِي وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ مَعْنٍ الْمَذْكُورَةَ وَقَعَتْ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ هَكَذَا، وَقَدْ رَوَاهَا فِي الْمُوَطَّأِ فَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَلَا مَيْمُونَةَ، كَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِهِ، فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَا يَضُرُّ ; لِأَنَّ مَالِكًا كَانَ يَصِلُهُ تَارَةً وَيُرْسِلُهُ تَارَةً، وَرِوَايَةُ الْوَصْلِ عَنْهُ مُقَدَّمَةٌ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ مَعْنُ بْنُ عِيسَى مِرَارًا وَتَابَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَائِدَةٌ): أَخَذَ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ مَعْمَرٍ الدَّالِّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالذَّائِبِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْجَامِدَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ مَيْتَةٌ طُرِحَتْ وَمَا حَوْلَهَا مِنْهُ إِذَا تُحُقِّقَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَجْزَائِهَا لَمْ يَصِلْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمَائِعُ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ كُلُّهُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَخَالَفَ فَرِيقٌ: مِنْهُمُ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الِانْتِفَاعِ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ أَوِ الْمُتَنَجِّسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ السَّمْنِ لِلْآثَارِ الَّتِي قَبْلَهُ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي التَّنْجِيسِ تَغَيُّرُ الصِّفَاتِ، فَلَمَّا كَانَ رِيشُ الْمَيْتَةِ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِهَا بِالْمَوْتِ وَكَذَا عَظْمُهَا فَكَذَلِكَ السَّمْنُ الْبَعِيدُ عَنْ مَوْقِعِ الْمَيْتَةِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا لَاقَتْهُ النَّجَاسَةُ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ.

237 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَمًا: اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ.

[الحديث 237 - طرفاه في 5533، 2803]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنُ أُبَيٍّ مُوسَى الْمَرْوَزِيُّ الْمَعْرُوفُ بِمَرْدُوَيْهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ

قَوْلُهُ: (كُلُّ كَلْمٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ (يُكْلَمُهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ وَفَتْحِ اللَّامِ، أَيْ كُلُّ جُرْحٍ يُجْرَحُهُ.

ص: 344

قَوْلُهُ: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَيْدٌ يُخْرِجُ مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ فِي غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَزَادَ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ خَلُصَتْ نِيَّتُهُ.

قَوْلُهُ: (تَكُونُ كَهَيْئَتِهَا) أَعَادَ الضَّمِيرَ مُؤَنَّثًا لِإِرَادَةِ الْجِرَاحَةِ، وَيُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ الْقَابِسِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ كُلُّ كَلْمَةٍ يُكْلَمُهَا وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ.

قَوْلُهُ: (تَفَجَّرُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ وَحَذْفِ التَّاءِ الْأُولَى إِذْ أَصْلُهُ تَتَفَجَّرُ.

قَوْلُهُ: (وَالْعَرْفُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الرِّيحُ، وَالْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ الدَّمِ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْئَتِهِ أَنَّهُ يَشْهَدُ لِصَاحِبِهِ بِفَضْلِهِ وَعَلَى ظَالِمِهِ بِفِعْلِهِ، وَفَائِدَةُ رَائِحَتِهِ الطَّيِّبَةِ أَنْ تَنْتَشِرَ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ إِظْهَارًا لِفَضِيلَتِهِ أَيْضًا، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُشْرَعْ غَسْلُ الشَّهِيدِ فِي الْمَعْرَكَةِ.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ إِيرَادُ الْمُصَنِّفِ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدْخُلُ فِي طَهَارَةِ الدَّمِ وَلَا نَجَاسَتِهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْمَطْعُونِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ بِإِيرَادِهِ تَأْكِيدُ مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الْمَاءَ لَا يَتَنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ تَبَدُّلَ الصِّفَةِ يُؤَثِّرُ فِي الْمَوْصُوفِ، فَكَمَا أَنَّ تَغَيُّرَ صِفَةِ الدَّمِ بِالرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ أَخْرَجَهُ مِنَ الذَّمِّ إِلَى الْمَدْحِ فَكَذَلِكَ تَغَيُّرُ صِفَةِ الْمَاءِ إِذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ يُخْرِجُهُ عَنْ صِفَةِ الطَّهَارَةِ إِلَى النَّجَاسَةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْغَرَضَ إِثْبَاتُ انْحِصَارِ التَّنْجِيسِ بِالتَّغَيُّرِ وَمَا ذَكَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّنْجِيسَ يَحْصُلُ بِالتَّغَيُّرِ وَهُوَ وِفَاقٌ، لَا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِ وَهُوَ مَوْضِعُ النِّزَاعِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَقْصُودُ الْبُخَارِيِّ أَنْ يُبَيِّنَ طَهَارَةَ الْمِسْكِ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهِ ; لِكَوْنِهِ دَمًا انْعَقَدَ فَلَمَّا تَغَيَّرَ عَنِ الْحَالَةِ الْمَكْرُوهَةِ مِنَ الدَّمِ وَهِيَ الزَّهَمُ وَقُبْحُ الرَّائِحَةِ إِلَى الْحَالَةِ الْمَمْدُوحَةِ وَهِيَ طِيبُ رَائِحَةِ الْمِسْكِ دَخَلَ عَلَيْهِ الْحِلُّ وَانْتَقَلَ مِنْ حَالَةِ النَّجَاسَةِ إِلَى حَالَةِ الطَّهَارَةِ، كَالْخَمْرَةِ إِذَا تَخَلَّلَتْ.

وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مُرَادُهُ أَنَّ انْتِقَالَ الدَّمِ إِلَى الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ مِنْ حَالَةِ الذَّمِّ إِلَى حَالَةِ الْمَدْحِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا تَغْلِيبُ وَصْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الرَّائِحَةُ عَلَى وَصْفَيْنِ وَهُمَا الطَّعْمُ وَاللَّوْنُ، فَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّهُ مَتَى تَغَيَّرَ أَحَدُ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ بِصَلَاحٍ أَوْ فَسَادٍ تَبِعَهُ الْوَصْفَانِ الْبَاقِيَانِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى رَدِّ مَا نُقِلَ عَنْ رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ تَغَيُّرَ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ لَا يُؤَثِّرُ حَتَّى يَجْتَمِعَ وَصْفَانِ، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ رِيحُهُ بِشَيْءٍ طَيِّبٍ لَا يَسْلُبُهُ اسْمَ الْمَاءِ، كَمَا أَنَّ الدَّمَ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنِ اسْمِ الدَّمِ مَعَ تَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ إِلَى رَائِحَةِ الْمِسْكِ ; لِأَنَّهُ قَدْ سَمَّاهُ دَمًا مَعَ تَغَيُّرِ الرِّيحِ، فَمَا دَامَ الِاسْمُ وَاقِعًا عَلَى الْمُسَمَّى فَالْحُكْمُ تَابِعٌ لَهُ. اهـ كَلَامُهُ. وَيَرُدُّ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا كَانَتْ أَوْصَافُهُ الثَّلَاثَةُ فَاسِدَةً ثُمَّ تَغَيَّرَتْ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهَا إِلَى صَلَاحٍ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِصَلَاحِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ. وَعَلَى الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يُسْلَبِ اسْمَ الْمَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تَمْنَعُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لَمَّا نَقَلَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الدَّمَ لَمَّا انْتَقَلَ بِطِيبِ رَائِحَتِهِ مِنْ حُكْمِ النَّجَاسَةِ إِلَى الطَّهَارَةِ وَمِنْ حُكْمِ الْقَذَارَةِ إِلَى الطِّيبِ لِتَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ حَتَّى حَكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الْمِسْكِ وَبِالطِّيبِ لِلشَّهِيدِ، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ يَنْتَقِلُ بِتَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ مِنَ الطَّهَارَةِ إِلَى النَّجَاسَةِ، قَالَ: هَذَا ضَعِيفٌ مَعَ تَكَلُّفِهِ.

‌68 - بَاب الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ

238 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الْأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ.

[الحديث 238 - أطرافه في: 7495، 7036، 68876624، 3486، 2956، 896، 876]

ص: 345

239 -

وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ: لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ) أَيْ السَّاكِنِ، يُقَالُ: دَوَّمَ الطَّائِرُ تَدْوِيمًا إِذَا صَفَّ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ فَلَمْ يُحَرِّكْهُمَا، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بَابُ لَا تَبُولُوا فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهِيَ بِالْمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (الْأَعْرَجُ) كَذَا رَوَاهُ شُعَيْبٌ وَوَافَقَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَرَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، والطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، وَالطَّرِيقَانِ مَعًا صَحِيحَانِ، وَلِأَبِي الزِّنَادِ فِيهِ شَيْخَانِ، وَلَفْظُهُمَا فِي سِيَاقِ الْمَتْنِ مُخْتَلِفٌ كَمَا سَنُشِيرُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ) اخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي تَقْدِيمِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَقْصُودِ، فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَا بَعْدَهُ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ فَحَدَّثَ بِهِمَا جَمِيعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَمَّامٌ فَعَلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ سَمِعَهُمَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مُنَاسَبَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ.

قُلْتُ: جَزَمَ ابْنُ التِّينِ بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَدِيثًا وَاحِدًا مَا فَصَّلَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَبِإِسْنَادِهِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ فِي ذِكْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَوْ رَاعَى الْبُخَارِيُّ مَا ادَّعَاهُ لَسَاقَ الْمَتْنَ بِتَمَامِهِ، وَأَيْضًا فَحَدِيثُ الْبَابِ مَرْوِيٌّ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي دَوَاوِينِ الْأَئِمَّةِ، وَلَيْسَ فِي طَرِيقٍ مِنْهَا فِي أَوَّلِهِ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِدُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَمَّامٌ وَهِمَ، تَبِعَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، وَلَيْسَ لِهَمَّامٍ ذِكْرٌ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَوْلُهُ إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مُنَاسَبَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ تَكَلَّفَ فَأَبْدَى بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةً كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ فِي الْغَالِبِ يَذْكُرُ الشَّيْءَ كَمَا سَمِعَهُ جُمْلَةً لِتَضَمُّنِهِ مَوْضِعَ الدَّلَالَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاقِيهِ مَقْصُودًا، كَمَا صَنَعَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ فِي شِرَاءِ الشَّاةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْجِهَادِ، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ كَثِيرَةٌ.

وَقَدْ وَقَعَ لِمَالِكٍ نَحْوُ هَذَا فِي الْمُوَطَّأِ إِذْ أَخْرَجَ فِي بَابِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَتَمَةِ مُتُونًا بِسَنَدٍ وَاحِدٍ أَوَّلُهَا مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَوْكٍ وَآخِرُهَا لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصُّبْحِ وَالْعَتَمَةِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَيْسَ غَرَضُهُ مِنْهَا إِلَّا الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ لَكِنَّهُ أَدَّاهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمِعَهُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَبَسِ: نَرَى الْجُهَّالَ يَتْعَبُونَ فِي تَأْوِيلِهَا، وَلَا تَعَلُّقَ لِلْأَوَّلِ مِنْهَا بِالْبَابِ أَصْلًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ آخِرُ مَنْ يُدْفَنُ مِنَ الْأُمَمِ فِي الْأَرْضِ وَأَوَّلُ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا ; لِأَنَّ الْوِعَاءَ آخِرُ مَا يُوضَعُ فِيهِ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ الرَّاكِدُ آخِرُ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْبَوْلِ أَوَّلُ مَا يُصَادِفُ أَعْضَاءَ الْمُتَطَهِّرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

وَقِيلَ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِنْ سَبَقُوا فِي الزَّمَانِ، لَكِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَبَقَتْهُمْ بِاجْتِنَابِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ إِذَا وَقَعَ الْبَوْلُ فِيهِ، فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا لَا يَجْتَنِبُونَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَشَدَّ مُبَالَغَةً فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ بِحَيْثُ كَانَتِ النَّجَاسَةُ إِذَا أَصَابَتْ جِلْدَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمُ التَّسَاهُلُ فِي هَذَا؟ وَهُوَ اسْتِبْعَادٌ لَا يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ، وَمَا قَرَّرْنَاهُ أَوْلَى، وَقَدْ وَقَعَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ - فِي حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ هَذَا - صَدَّرَهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ

قَالَ: وَبِإِسْنَادِهِ، وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ التَّكَلُّفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نُسْخَةَ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَنُسْخَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَلَّ حَدِيثٌ ي وجَدُ فِي هَذِهِ إِلَّا وَهُوَ فِي الْأُخْرَى،

ص: 346

وَقَدِ اشْتَمَلَتَا عَلَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ غَالِبَهَا وَابْتِدَاءُ كُلِّ نُسْخَةٍ مِنْهُمَا حَدِيثُ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ، فَلِهَذَا صَدَّرَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِيمَا أَخْرَجَهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَسَلَكَ مُسْلِمٌ فِي نُسْخَةِ هَمَّامٍ طَرِيقًا أُخْرَى فَيَقُولُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مِنْهَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَذْكُرُ الْحَدِيثَ الَّذِي يُرِيدُهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَثْنَاءِ النُّسْخَةِ لَا أَوَّلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (الَّذِي لَا يَجْرِي) قِيلَ: هُوَ تَفْسِيرٌ لِلدَّائِمِ وَإِيضَاحٌ لِمَعْنَاهُ، وَقِيلَ: احْتَرَزَ بِهِ عَنْ رَاكِدٍ يَجْرِي بَعْضُهُ كَالْبِرَكِ، وَقِيلَ: احْتَرَزَ بِهِ عَنِ الْمَاءِ الدَّائِمِ ; لِأَنَّهُ جَارٍ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ سَاكِنٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا حَيْثُ جَاءَ فِيهَا بِلَفْظِ الرَّاكِدِ بَدَلَ الدَّائِمِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الدَّائِمُ مِنْ حُرُوفِ الْأَضْدَادِ يُقَالُ لِلسَّاكِنِ وَالدَّائِرِ، وَمِنْهُ أَصَابَ الرَّأْسَ دُوَامٌ أَيْ دُوَارٌ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: الَّذِي لَا يَجْرِي صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لِأَحَدِ مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ، وَقِيلَ: الدَّائِمُ وَالرَّاكِدُ مُقَابِلَانِ لِلْجَارِي، لَكِنِ الدَّائِمُ الَّذِي لَهُ نَبْعٌ وَالرَّاكِدُ الَّذِي لَا نَبْعَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَغْتَسِلُ) بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: يَجُوزُ الْجَزْمُ عَطْفًا عَلَى يَبُولَنَّ ; لِأَنَّهُ مَجْزُومُ الْمَوْضِعِ بِلَا النَّاهِيَةِ، وَلَكِنَّهُ بُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ لِتَوْكِيدِهِ بِالنُّونِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ: لَوْ أَرَادَ النَّهْيَ لَقَالَ: ثُمَّ لَا يَغْتَسِلَنَّ، فَحِينَئِذٍ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا ; لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي تَوَارَدَا عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَاءُ، قَالَ: فَعُدُولُهُ عَنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْعَطْفَ، بَلْ نَبَّهَ عَلَى مَآلِ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا بَالَ فِيهِ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَضْرِبَنَّ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْأَمَةِ ثُمَّ يُضَاجِعُهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ بِالْجَزْمِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ الضَّرْبِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي مَآلِ حَالِهِ إِلَى مُضَاجَعَتِهَا فَتَمْتَنِعُ لِإِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا فَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ، وَتَقْدِيرُ اللَّفْظِ: ثُمَّ هُوَ يُضَاجِعُهَا، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ ثُمَّ هُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهُ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْكِيدِ النَّهْيِ أَنْ لَا يُعْطَفَ عَلَيْهِ نَهْيٌ آخَرُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ فِي أَحَدِهِمَا مَعْنًى لَيْسَ لِلْآخَرِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ، إِذْ لَا تُضْمَرُ أَنْ بَعْدَ ثُمَّ، وَأَجَازَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِإِعْطَاءِ ثُمَّ حُكْمَ الْوَاوِ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ دُونَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا، وَضَعَّفَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمُتَعَدِّدَةِ لَفْظٌ وَاحِدٌ، فَيُؤْخَذُ النَّهْيُ عَنِ

الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ النَّصْبِ، وَيُؤْخَذُ النَّهْيُ عَنِ الْإِفْرَادِ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ.

قُلْتُ: وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي السَّائِبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ

(1)

النَّهْيَ عَنْهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَلَفْظُهُ: لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ; لِأَنَّ الْبَوْلَ يُنَجِّسُ الْمَاءَ فَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا مَعًا وَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ فَيَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ فِيهِمَا، وَرُدَّ بِأَنَّهَا دَلَالَةُ اقْتِرَانٍ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهَا فَلَا يَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ، فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنَ الْبَوْلِ لِئَلَّا يُنَجِّسَهُ، وَعَنِ الِاغْتِسَالِ فِيهِ لِئَلَّا يَسْلُبَهُ الطَّهُورِيَّةَ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِانْغِمَاسِ فِيهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا فَيَمْتَنِعُ عَلَى الْغَيْرِ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَالصَّحَابِيُّ أَعْلَمُ بِمَوَارِدِ الْخِطَابِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ غَيْرُ طَهُورٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَدِلَّةُ

(1)

في مخطوطة الرياض: وابن حبان

ص: 347

عَلَى طَهَارَتِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَا يَجْرِي فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ بَوْلِ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَبُولَ فِي الْمَاءِ أَوْ يَبُولَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ يَصُبَّهُ فِيهِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ،

وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي حَدِّ الْقَلِيلِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ إِلَّا التَّغَيُّرَ وَعَدَمَهُ، وَهُوَ قَوِيٌّ، لَكِنَّ الْفَصْلَ بِالْقُلَّتَيْنِ أَقْوَى لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ اعْتَذَرَ عَنِ الْقَوْلِ بِهِ بِأَنَّ الْقُلَّةَ فِي الْعُرْفِ تُطْلَقُ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ كَالْجَرَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنَ الْحَدِيثِ تَقْدِيرُهُمَا فَيَكُونُ مُجْمَلًا فَلَا يُعْمَلُ بِهِ، وَقَوَّاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، لَكِنِ اسْتَدَلَّ لَهُ غَيْرُهُمَا فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: الْمُرَادُ الْقُلَّةُ الْكَبِيرَةُ، إِذْ لَوْ أَرَادَ الصَّغِيرَةَ لَمْ يَحْتَجْ لِذِكْرِ الْعَدَدِ، فَإِنَّ الصَّغِيرَتَيْنِ قَدْرُ وَاحِدَةٍ كَبِيرَةٍ، وَيُرْجَعُ فِي الْكَبِيرَةِ إِلَى الْعُرْفِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّارِعَ عليه السلام تَرَكَ تَحْدِيدَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْسِعَةِ، وَالْعِلْمُ مُحِيطٌ بِأَنَّهُ مَا خَاطَبَ الصَّحَابَةَ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُونَ فَانْتَفَى الْإِجْمَالُ، لَكِنْ لِعَدَمِ التَّحْدِيدِ وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي مِقْدَارِهِمَا عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ حَكَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْدِيدُهُمَا بِالْأَرْطَالِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا، وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ فِيمَا لَا يَتَغَيَّرُ وَهُوَ قَوْلُ الْبَاقِينَ فِي الْكَثِيرِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ مُطْلَقًا عَلَى قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ ; لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ) كَذَا هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، وَكُلٌّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ يُفِيدُ حُكْمًا بِالنَّصِّ وَحُكْمًا بِالِاسْتِنْبَاطِ قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الِانْغِمَاسِ بِالنَّصِّ وَعَلَى مَنْعِ التَّنَاوُلِ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَالرِّوَايَةَ بِلَفْظِ مِنْهُ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَكُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌69 - بَاب إِذَا أُلْقِيَ عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّي قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا وَهُوَ يُصَلِّي وَضَعَهُ وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ: إِذَا صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ تَيَمَّمَ صَلَّى ثُمَّ أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي وَقْتِهِ لَا يُعِيدُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أُلْقِيَ عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّي قَذَرٌ) بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ شَيْءٌ نَجِسٌ (أَوْ جِيفَةٌ) أَيْ مَيْتَةٌ لَهَا رَائِحَةٌ.

قَوْلُهُ: (لَمْ تَفْسُدْ) مَحَلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَتَمَادَى، وَيَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ مُطْلَقًا عَلَى قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ مَا يَطْرَأُ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْمُصَنِّفِ، وَعَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ صَنِيعُ الصَّحَابِيِّ الَّذِي اسْتَمَرَّ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ سَالَتْ مِنْهُ الدِّمَاءُ بِرَمْيِ مَنْ رَمَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْ جَابِرٍ بِذَلِكَ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلَّا مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) هَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ بُرْدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَرَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضَعَهُ وَضَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ خَرَجَ فَغَسَلَهُ ثُمَّ جَاءَ، فَيَبْنِي عَلَى مَا كَانَ صَلَّى، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُعِيدُ الصَّلَاةَ، وَقَيَّدَهَا مَالِكٌ بِالْوَقْتِ فَإِنْ خَرَجَ فَلَا قَضَاءَ، وَفِيهِ بَحْثٌ يَطُولُ، وَاسْتُدِلَّ لِلْأَوَّلِينَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ إِعَادَةً، وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ،

ص: 348

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْبِنَاءِ عَلَى مَا مَضَى فَتَأْتِي فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيُّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرْخَسِيِّ وَكَانَ فَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَإِفْرَادُ قَوْلِهِ: إِذَا صَلَّى عَلَى إِرَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمُرَادُ بِمَسْأَلَةِ الدَّمِ مَا إِذَا كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُصَلِّي، وَكَذَا الْجَنَابَةُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ، وَبِمَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ مَا إِذَا كَانَ عَنِ اجْتِهَادٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ، وَبِمَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ مَا إِذَا كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْآثَارِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ التَّابِعِينَ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ وَصَلَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ مُفَرَّقَةٍ أَوْضَحْتُهَا فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَسْأَلَةِ الدَّمِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ التَّيَمُّمِ فَعَدَمُ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَكْثَرِ السَّلَفِ، وَذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ التَّابِعِينَ - مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمَكْحُولٌ - إِلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ بَيَانِ الْخَطَأِ فِي الْقِبْلَةِ فَقَالَ الثَّلَاثَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: لَا يُعِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ أَيْضًا، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: تَجِبُ الْإِعَادَةُ، وَاسْتُدِلَّ لِلْأَوَّلِينَ بِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ حَسَنٌ: لَكِنْ ضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُرْوَى مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مُسْتَنَدُ الْجَدِيدِ أَنَّ خَطَأَ الْمُجْتَهِدِ يَبْطُلُ إِذَا وُجِدَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ، قَالَ: وَهَذَا لَا يَتِمُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَلَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ

بِالِاجْتِهَادِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِيمَا إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ يَقِينِ الْخَطَأِ إِلَى الظَّنِّ الْقَوِيِّ فَلَيْسَ فِيهِ نَقْضُ اجْتِهَادٍ بِاجْتِهَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

240 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ح. قَالَ وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَأَنَا أَنْظُرُ لَا أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثُمَّ سَمَّى: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ نَحْفَظْهُ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ.

[الحديث 240 - أطرافه في: 3960، 3854، 3185، 2934، 520]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) أَعَادَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَرَفْنَا مِنْ سِيَاقِهِ هُنَاكَ أَنَّ اللَّفْظَ هُنَا لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا قَرَنَهَا بِرِوَايَةِ عَبْدَانَ تَقْوِيَةً لَهَا ; لِأَنَّ فِي إِبْرَاهِيمَ

ص: 349

بْنِ يُوسُفَ مَقَالًا، وَأَحْمَدُ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ الْكُوفِيُّ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَلَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ جَمِيعًا كُوفِيُّونَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ، وَيُوسُفُ الرَّاوِي عَنْهُ هُوَ ابْنُ ابْنِهِ إِسْحَاقَ، وَأَفَادَتْ رِوَايَتُهُ التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ لِأَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، وَلِعَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَيَّنْتُ أَيْضًا عَبْدَ اللَّهِ بِأَنَّهُ ابْنُ مَسْعُودٍ،، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ هُوَ الْأَوْدِيُّ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مُخَضْرَمٌ، أَسْلَمَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرَهُ، ثُمَّ نَزَلَ الْكُوفَةَ، وَهُوَ غَيْرُ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْجَزَرِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بِإِسْنَادِ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، وَزُهَيْرٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَكُلُّهُمْ عَنْ أَبِي

إِسْحَاقَ، وَسَنَذْكُرُ مَا فِي اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ) بَقِيَّتُهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَانَ الْمَذْكُورِ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ) هُمْ السَّبْعَةُ الْمَدْعُوُّ عَلَيْهِمْ بَعْدُ، بَيَّنَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقٍ.

قَوْلُهُ: (إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ) هُوَ أَبُو جَهْلٍ، سَمَّاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا الْمَذْكُورَةِ وَزَادَ فِيهِ وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، وَالْجَزُورُ مِنَ الْإِبِلِ مَا يُجْزَرُ أَيْ يُقْطَعُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَالسَّلَى مَقْصُورٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ هِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْوَلَدُ، يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَأَمَّا مِنَ الْآدَمِيَّاتِ فَالْمَشِيمَةُ، وَحَكَى صَاحِبُ الْمُحْكَمِ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِنَّ أَيْضًا سَلًى.

قَوْلُهُ: (فَيَضَعُهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلَاهَا ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى يَسْجُدَ.

قَوْلُهُ: (فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالسَّرْخَسِيِّ أَشْقَى قَوْمٍ بِالتَّنْكِيرِ فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ، لَكِنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي الْأَوَّلَ ; لِأَنَّ الشَّقَاءَ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ فَقَطْ كَمَا سَنُقَرِّرُهُ بَعْدُ، وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا سَمَّاهُ شُعْبَةُ، وَفِي سِيَاقِهِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ اخْتِصَارٌ يُوهِمُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً.

وَقَدْ سَاقَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ نَحْوَ رِوَايَةِ يُوسُفَ هَذِهِ وَقَالَ فِيهِ: فَجَاءَ عُقْبَةَ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِهِ.

قَوْلُهُ: (لَا أُغْنِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي لَا أُغَيِّرُ، وَمَعْنَاهُمَا صَحِيحٌ، أَيْ لَا أُغْنِي فِي كَفِّ شَرِّهِمْ، أَوْ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ فِعْلِهِمْ.

قَوْلُهُ: (لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ) قَالَهُ النَّوَوِيُّ: الْمَنَعَةُ بِفَتْحِ النُّونِ الْقُوَّةُ، قَالَ وَحَكَى الْإِسْكَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ بِسُكُونِ النُّونِ قَالَ: وَيَجُوزُ الْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ مَانِعٌ كَكَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ، وَقَدْ رَجَّحَ الْقَزَّازُ، وَالْهَرَوِيُّ الْإِسْكَانَ فِي الْمُفْرَدِ، وَعَكَسَ ذَلِكَ صَاحِبُ إِصْلَاحِ الْمَنْطِقِ وَهُوَ مُعْتَمَدٌ النَّوَوِيُّ قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِمَكَّةَ عَشِيرَةٌ ; لِكَوْنِهِ هُذَلِيًّا حَلِيفًا وَكَانَ حُلَفَاؤُهُ إِذْ ذَاكَ كُفَّارًا، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: لَطَرَحْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَرَّحَ بِهِ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا، وَلِلْبَزَّارِ فَأَنَا أَرْهَبُ - أَيْ أَخَافُ - مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ) كَذَا هُنَا بِالْمُهْمَلَةِ مِنَ الْإِحَالَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَهَمْ يَنْسُبُ فِعْلَ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ بِالْإِشَارَةِ تَهَكُّمًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَالَ يَحِيلُ بِالْفَتْحِ إِذَا وَثَبَ عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ، أَيْ يَثِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْمَرَحِ وَالْبَطَرِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا وَيَمِيلُ بِالْمِيمِ، أَيْ مِنْ كَثْرَةِ الضَّحِكِ، وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ.

قَوْلُهُ: (فَاطِمَةُ) هِيَ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَادَ إِسْرَائِيلُ وَهِيَ جُوَيْرِيَةُ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا.

قَوْلُهُ: (فَطَرَحَتْهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، زَادَ إِسْرَائِيلُ وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتُمُهُمْ، زَادَ الْبَزَّارُ فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهَا شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (فَرَفَعَ رَأْسَهُ) زَادَ الْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:

ص: 350

أَمَّا بَعْدُ اللَّهُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: تَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ أَمَّا بَعْدُ زَيْدٌ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ) يُشْعِرُ بِمُهْلَةٍ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالدُّعَاءِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَفِي رِوَايَةِ الْأَجْلَحِ عِنْدَ الْبَزَّارِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ كَمَا كَانَ يَرْفَعُهُ عِنْدَ تَمَامِ سُجُودِهِ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ، وَلِمُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّ الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ وَقَعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، لَكِنْ وَقَعَ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْكَعْبَةَ كَمَا ثَبَتَ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ.

قَوْلُهُ: (عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ) أَيْ بِإِهْلَاكِ قُرَيْشٍ، وَالْمُرَادُ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ أَوْ مَنْ سَمَّى مِنْهُمْ، فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) كَرَّرَهُ إِسْرَائِيلُ فِي رِوَايَتِهِ لَفْظًا لَا عَدَدًا، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا.

قَوْلُهُ: (فَشَقَّ عَلَيْهِمْ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضَّحِكُ وَخَافُوا دَعْوَتَهُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانُوا يَرَوْنَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فِي رِوَايَتِنَا مِنَ الرَّأْيِ أَيْ يَعْتَقِدُونَ، وَفِي غَيْرِهَا بِالضَّمِّ أَيْ يَظُنُّونَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَلَدِ مَكَّةُ، وَوَقَعَ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الثَّالِثَةِ بَدَلَ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَيُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَمَّى) أَيْ فَصَّلَ مَنْ أَجْمَلَ.

قَوْلُهُ: (بِأَبِي جَهْلٍ) فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ وَهُوَ اسْمُ أَبِي جَهْلٍ، فَلَعَلَّهُ سَمَّاهُ وَكَنَّاهُ مَعًا.

قَوْلُهُ: (وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ) هُوَ وَلَدُ الْمَذْكُورِ بَعْدَ أَبِي جَهْلٍ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ فِي أَنَّهُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ، لَكِنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا بِالْقَافِ بَدَلَ الْمُثَنَّاةِ، وَهُوَ وَهْمٌ قَدِيمٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ سُفْيَانَ الرَّاوِي عَنْ مُسْلِمٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِ مُسْلِمٍ عَلَى الصَّوَابِ.

قَوْلُهُ: (وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ أَوْ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ شَكَّ شُعْبَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عُقَيْبَ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ فِي الْجِهَادِ وَقَالَ: الصَّحِيحُ أُمَيَّةُ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ هُنَاكَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ إِذْ حَدَّثَهُ فَقَدْ رَوَاهُ شَيْخُهُ أَبُو بَكْرٍ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ أُمَيَّةُ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ كَذَلِكَ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَأَطْبَقَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ بِبَدْرٍ أُمَيَّةُ، وَعَلَى أَنَّ أَخَاهُ أُبَيًّا قُتِلَ بِأُحُدٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي قَتْلُ أُمَيَّةَ بِبَدْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ نَحْفَظْهُ) وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا بِالنُّونِ وَهِيَ لِلْجَمْعِ، وَفِي غَيْرِهَا بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَاعِلُ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَفَاعِلُ فَلَمْ نَحْفَظْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، قُلْتُ: وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ تَهَيَّأَ لَهُ الْجَزْمُ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ فَلَمْ نَحْفَظْهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَلَفْظُهُ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَنَسِيتُ السَّابِعَ، وَعَلَى هَذَا فَفَاعِلُ عَدَّ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، عَلَى أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ قَدْ تَذَكَّرَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَسَمَّاهُ عُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ، كَذَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَسَمَاعُ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ ; لِأَنَّهُ جَدُّهُ، وَكَانَ خِصِّيصًا بِهِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: مَا فَاتَنِي الَّذِي فَاتَنِي مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِلَّا اتِّكَالًا عَلَى إِسْرَائِيلَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِهِ أَتَمَّ.

وَعَنْ إِسْرَائِيلَ قَالَ: كُنْتُ أَحْفَظُ حَدِيثَ أَبِي إِسْحَاقَ كَمَا أَحْفَظُ سُورَةَ الْحَمْدِ، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ عَدَّ عُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ فِي الْمَذْكُورِينَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ بِبَدْرٍ بَلْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي أَنَّهُ مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَلَهُ قِصَّةٌ مَعَ النَّجَاشِيِّ إِذْ تَعَرَّضَ لِامْرَأَتِهِ فَأَمَرَ النَّجَاشِيُّ سَاحِرًا فَنَفَخَ فِي إِحْلِيلِ عُمَارَةَ مِنْ سِحْرِهِ عُقُوبَةً لَهُ فَتَوَحَّشَ وَصَارَ مَعَ الْبَهَائِمِ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَنَّهُ رَآهُمْ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ لَمْ يُطْرَحْ فِي الْقَلِيبِ وَإِنَّمَا قُتِلَ صَبْرًا بَعْدَ أَنْ رَحَلُوا عَنْ بَدْرٍ مَرْحَلَةً، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لَمْ يُطْرَحْ فِي الْقَلِيبِ كَمَا هُوَ بَلْ

ص: 351

مُقَطَّعًا كَمَا سَيَأْتِي، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي كَيْفِيَّةُ مَقْتَلِ الْمَذْكُورِينَ بِبَدْرٍ وَزِيَادَةُ بَيَانٍ فِي أَحْوَالِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ) أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْمُرَادُ بِالْيَدِ هُنَا الْقُدْرَةُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَلِلنَّسَائِيِّ وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَكَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا.

قَوْلُهُ: (صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ) فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ الدُّعَاءِ الْمَاضِي، فَيَكُونُ فِيهِ عَلَمٌ عَظِيمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، وَزَادَ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ إِلَّا أُمَيَّةَ فَإِنَّهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ، زَادَ لِأَنَّهُ كَانَ بَادِنًا، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِلْقَائِهِمْ فِيهِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِرِيحِهِمْ، وَإِلَّا فَالْحَرْبِيُّ لَا يَجِبُ دَفْنُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبِئْرَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءٌ مَعِينٌ.

قَوْلُهُ: (قَلِيبِ بَدْرٍ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَالْقَلِيبُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ هُوَ الْبِئْرُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ وَقِيلَ: الْعَادِيَّةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا.

(فَائِدَةٌ): رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَجْلَحُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ قِصَّةَ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سُؤَالِهِ إِيَّاهُ عَنِ الْقِصَّةِ، وَضَرْبِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، أَبَا جَهْلٍ وَشَجِّهِ إِيَّاهُ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي السِّيرَةِ، وَأَخْرَجَهَا الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَشَارَ إِلَى تَفَرُّدِ الْأَجْلَحِ بِهَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَفِي الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ الدُّعَاءِ بِمَكَّةَ عِنْدَ الْكُفَّارِ، وَمَا ازْدَادَتْ عِنْد الْمُسْلِمِينَ إِلَّا تَعْظِيمًا، وَفِيهِ مَعْرِفَةُ الْكُفَّارِ بِصِدْقِهِ صلى الله عليه وسلم ; لِخَوْفِهِمْ مِنْ دُعَائِهِ، وَلَكِنْ حَمَلَهُمُ الْحَسَدُ عَلَى تَرْكِ الِانْقِيَادِ لَهُ، وَفِيهِ حِلْمُهُ صلى الله عليه وسلم عَمَّنْ آذَاهُ، فَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمْ أَرَهُ دَعَا عَلَيْهِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوا الدُّعَاءَ حِينَئِذٍ لِمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ صلى الله عليه وسلم حَالَ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ ثَلَاثًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ اسْتِحْبَابُ السَّلَامِ ثَلَاثًا وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَحَلُّهُ مَا إِذَا كَانَ كَافِرًا، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَيُسْتَحَبُّ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالدُّعَاءُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَوْ قِيلَ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الدُّعَاءِ عَلَى الْكَافِرِ لَمَا كَانَ بَعِيدًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اطَّلَعَ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُدْعَى لِكُلِّ حَيٍّ بِالْهِدَايَةِ، وَفِيهِ قُوَّةُ نَفْسِ

فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ مِنْ صِغَرِهَا لِشَرَفِهَا فِي قَوْمِهَا وَنَفْسِهَا ; لِكَوْنِهَا صَرَخَتْ بِشَتْمِهِمْ وَهُمْ رُؤُوسُ قُرَيْشٍ فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ آكَدُ مِنَ السَّبَبِ وَالْإِعَانَةِ لِقَوْلِهِ فِي عُقْبَةَ أَشْقَى الْقَوْمِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ وَهُوَ أَشَدُّ مِنْهُ كُفْرًا وَأَذًى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّ الشَّقَاءَ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ ; لِأَنَّهُمُ اشْتَرَكُوا فِي الْأَمْرِ وَالرِّضَا وَانْفَرَدَ عُقْبَةُ بِالْمُبَاشَرَةِ فَكَانَ أَشْقَاهُمْ، وَلِهَذَا قُتِلُوا فِي الْحَرْبِ وَقُتِلَ هُوَ صَبْرًا.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَدَثَ لَهُ فِي صِلَاتِهِ مَا يَمْنَعُ انْعِقَادَهَا ابْتِدَاءً لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَلَوْ تَمَادَى، وَعَلَى هَذَا يَنْزِلُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، فَلَوْ كَانَتْ نَجَاسَةً فَأَزَالَهَا فِي الْحَالِ وَلَا أَثَرَ لَهَا صَحَّتْ اتِّفَاقًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ فَرْثِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَعَلَى أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى مَا سَبَقَ أَوْلَى، وَتُعُقِّبَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْفَرْثَ لَمْ يُفْرَدْ بَلْ كَانَ مَعَ الدَّمِ كَمَا فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، وَالدَّمُ نَجِسٌ اتِّفَاقًا، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْفَرْثَ وَالدَّمَ كَانَا دَاخِلَ السَّلَى وَجِلْدَةُ السَّلَى الظَّاهِرَةُ طَاهِرَةٌ فَكَانَ كَحَمْلِ الْقَارُورَةِ الْمُرَصَّصَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا ذَبِيحَةُ وَثَنِيٍّ، فَجَمِيعُ أَجْزَائِهَا نَجِسَةٌ ; لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ التَّعَبُّدِ بِتَحْرِيمِ ذَبَائِحِهِمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَارِيخٍ وَلَا يَكْفِي فِيهِ الِاحْتِمَالُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْجَوَابُ الْمَرْضِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْلَمْ مَا وُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَاسْتَمَرَّ فِي سُجُودِهِ اسْتِصْحَابًا لِأَصْلِ الطَّهَارَةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى قَوْلِنَا بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْفَرِيضَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ فَالْوَقْتُ مُوَسَّعٌ فَلَعَلَّهُ أَعَادَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ أَعَادَ لَنُقِلَ وَلَمْ

ص: 352

يُنْقَلْ، وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُقِرُّهُ عَلَى التَّمَادِي فِي صَلَاةٍ فَاسِدَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ خَلَعَ نَعْلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ بِمَا أُلْقِيَ عَلَى ظَهْرِهِ أَنَّ فَاطِمَةَ ذَهَبَتْ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَعَقَّبَ هُوَ صَلَاتَهُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌70 - بَاب الْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ فِي الثَّوْبِ

قَالَ عُرْوَةُ عَنْ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ حُدَيْبِيَةَ .. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ: وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ.

241 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: بَزَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ثَوْبِهِ طَوَّلَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 241 - أطرافه 1214، 822، 532، 531، 417، 413، 412، 405]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبُصَاقِ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا، وَلِلْأَكْثَرِ بِالزَّايِ وَهِيَ لُغَةٌ فِيهِ، وَكَذَا السِّينُ وَضُعِّفَتْ.

قَوْلُهُ: (فِي الثَّوْبِ) أَيْ وَالْبَدَنِ وَنَحْوِهِ، وَدُخُولُ هَذَا فِي أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ لَوْ خَالَطَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُرْوَةُ) هُوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَرْوَانُ هُوَ ابْنُ الْحَكَمِ، وَأَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ إِلَى الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي الشُّرُوطِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ عَلَّقَ مِنْهُ مَوْضِعًا آخَرَ كَمَا مَضَى فِي بَابِ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وُضُوءِ النَّاسِ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ) يَعْنِي وَفِيهِ وَمَا تَنَخَّمَ، وَغَفَلَ الْكِرْمَانِيُّ فَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ وَمَا تَنَخَّمَ. . . إِلَخْ حَدِيثًا آخَرَ فَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي سَاقَ الْحَدِيثَيْنِ سَوْقًا وَاحِدًا، أَوْ يَكُونَ أَمْرُ التَّنَخُّمِ وَقَعَ بِالْحُدَيْبِيَةَ، انْتَهَى. وَلَوْ رَاجَعَ الْمَوْضِعَ الَّذِي سَاقَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ الْحَدِيثَ تَامًّا لَظَهَرَ لَهُ الصَّوَابُ.

وَالنُّخَامَةُ بِالضَّمِّ هِيَ النُّخَاعَةُ كَذَا فِي الْمُجْمَلِ وَالصِّحَاحِ، وَقِيلَ بِالْمِيمِ: مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ، وَبِالْعَيْنِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَلْقِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى طَهَارَةِ الرِّيقِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، لَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَاهِرٍ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: صَحَّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ اللُّعَابَ نَجِسٌ إِذَا فَارَقَ الْفَمَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ الْفِرْيَابِيِّ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (طَوَّلَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْحَكَمِ الْمِصْرِيُّ أَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَأَفَادَتْ رِوَايَتُهُ تَصْرِيحَ حُمَيْدٍ بِالسَّمَاعِ لَهُ مِنْ أَنَسٍ خِلَافًا لِمَا رَوَى يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْبُزَاقِ إِنَّمَا سَمِعَهُ مَنْ ثَابَتٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، فَظَهَرَ أَنَّ حُمَيْدًا لَمْ يُدَلِّسْ فِيهِ، وَمَفْعُولُ سَمِعْتُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَالْمَتْنِ الَّذِي قَبْلَهُ مَعَ زِيَادَاتٍ فِيهِ، وَقَدْ وَقَعَ مُطَوَّلًا أَيْضًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ حَكِّ الْبُزَاقِ بِالْيَدِ فِي الْمَسْجِدِ.

‌71 - بَاب لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ وَلَا الْمُسْكِرِ

وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ

وَقَالَ عَطَاءٌ: التَّيَمُّمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ

ص: 353

242 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ.

[الحديث 242 - طرفاه في: 5586، 5585]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ وَلَا الْمُسْكِرِ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، أَوِ الْمُرَادُ بِالنَّبِيذِ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِسْكَارِ.

قَوْلُهُ: (وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ) أَيِ الْبَصْرِيُّ، رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْهُ قَالَ: لَا تَوَضُّؤَ بِنَبِيذٍ وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، فَعَلَى هَذَا فَكَرَاهَتُهُ عِنْدَهُ عَلَى التَّنْزِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَبُو الْعَالِيَةِ) رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَلْدَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ عَنْ رَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَاءٌ أَيَغْتَسِلُ بِهِ؟ قَالَ: لَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ: فَكَرِهَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ الْوُضُوءَ بِالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ وَقَالَ: إِنَّ التَّيَمُّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِالْأَنْبِذَةِ كُلِّهَا، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُمَا، وَقَيَّدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَاشْتَرَطَ أَنْ لَا يَكُونَ بِحَضْرَةِ مَاءٍ وَأَنْ يَكُونَ خَارِجَ الْمِصْرِ أَوِ الْقَرْيَةِ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ، قِيلَ إِيجَابًا وَقِيلَ اسْتِحْبَابًا، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ: لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ بِحَالٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَذَكَرَ قَاضِيخَانَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، لَكِنْ فِي الْمُقَيَّدِ مِنْ كُتُبِهِمْ إِذَا أَلْقَى فِي الْمَاءِ تَمَرَاتٍ فَحَلَا وَلَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، يَعْنِي عِنْدَهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ: مَا فِي إِدَاوَتِكَ؟ قَالَ: نَبِيذٌ.

قَالَ: ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ فَتَوَضَّأَ بِهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَطْبَقَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ عَلَى تَضْعِيفِهِ، وَقِيلَ - عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ -: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَنُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خِلَافٍ، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَاءٍ أَلْقَيْتَ فِيهِ تَمَرَاتٍ يَابِسَةً لَمْ تُغَيِّرْ لَهُ وَصْفًا، وَإِنَّمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ غَالِبَ مِيَاهِهِمْ لَمْ تَكُنْ حُلْوَةً.

قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ) كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ) أَيْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الْإِسْكَارُ سَوَاءٌ حَصَلَ بِشُرْبِهِ السُّكْرُ أَمْ لَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَلِيلَ الْمُسْكِرِ وَكَثِيرَهُ حَرَامٌ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ ; لِأَنَّهَا صِيغَةُ عُمُومٍ أُشِيرَ بِهَا إِلَى جِنْسِ الشَّرَابِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ السُّكْرُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: كُلُّ طَعَامٍ أَشْبَعَ فَهُوَ حَلَالٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ دَالًّا عَلَى حِلِّ كُلِّ طَعَامٍ مِنْ شَأْنِهِ الْإِشْبَاعُ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الشِّبَعُ بِهِ لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَوَجْهُ احْتِجَاجِ الْبُخَارِيِّ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمُسْكِرَ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَمَا لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ اتِّفَاقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ شُرْبِ النَّبِيذِ فِي الْأَشْرِبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌72 - بَاب غَسْلِ الْمَرْأَةِ أَبَاهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: امْسَحُوا عَلَى رِجْلِي فَإِنَّهَا مَرِيضَةٌ

243 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَسَأَلَهُ النَّاسُ - وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَحَدٌ -: بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَانَ عَلِيٌّ يَجِيءُ

ص: 354

بِتُرْسِهِ فِيهِ مَاءٌ وَفَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَأُحْرِقَ، فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ.

[الحديث 243 - أطرافه في: 5722، 5248، 4075، 3037، 2911، 2903]

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ الْمَرْأَةِ أَبَاهَا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالدَّمَ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ إِمَّا اشْتِمَالٌ أَوْ بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ غَسْلُ الْمَرْأَةِ الدَّمَ عَنْ وَجْهِ أَبِيهَا وَهُوَ بِالْمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ وَجْهِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ وَجْهِهِ وعَنْ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ إِمَّا بِمَعْنَى مِنْ أَوْ ضُمِّنَ الْغَسْلُ مَعْنَى الْإِزَالَةِ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ وَنَحْوِهَا يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوُضُوءِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ أَثَرِ أَبِي الْعَالِيَةَ لِحَدِيثِ سَهْلٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ) هُوَ الرِّيَاحِيُّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ، وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ وَهُوَ وَجِعٌ فَوَضَّؤُوهُ، فَلَمَّا بَقِيَتْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ قَالَ: امْسَحُوا عَلَى هَذِهِ فَإِنَّهَا مَرِيضَةٌ، وَكَانَ بِهَا حُمْرَةٌ، وَزَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ إِنَّهَا كَانَتْ مَعْصُوبَةً.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: لَمْ يَنْسُبْهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ، وَهُوَ عِنْدِي ابْنُ سَلَّامٍ، قُلْتُ: وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ سَلَّامٍ.

قَوْلُهُ: (وَسَأَلَهُ النَّاسُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَحَدٌ أَيْ عِنْدَ السُّؤَالِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ سَمَاعِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (دُوِيَ) بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَحُذِفَتْ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ فِي الْكِتَابَةِ كَدَاوُدَ.

قَوْلُهُ: (مَا بَقِيَ أَحَدٌ) إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي النِّكَاحِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ اخْتَلَفَ النَّاسُ بِأَيِّ شَيْءٍ دُوِيَ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ هَذَا الْجُرْحِ وَتَسْمِيَةُ فَاعِلِهِ فِي الْمَغَازِي فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تَحْدِيثِ سَهْلٍ بِذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِينَ سَنَةً.

قَوْلُهُ: (فَأُخِذَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَلَهُ فِي الطِّبِّ فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى الْجُرْحِ فَرَقَأَ الدَّمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّدَاوِي، وَمُعَالَجَةِ الْجِرَاحِ، وَاتِّخَاذُ التُّرْسِ فِي الْحَرْبِ، وَأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ ; لِصُدُورِهِ مِنْ سَيِّدِ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَفِيهِ مُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ لِأَبِيهَا، وَكَذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا، وَمُدَاوَاتِهَا لِأَمْرَاضِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌73 - بَاب السِّوَاكِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِتُّ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَنَّ

244 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ يَقُولُ: أُعْ أُعْ، وَالسِّوَاكُ فِي فِيهِ كَأَنَّه يَتَهَوَّعُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السِّوَاكِ) هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ عَلَى الْأَفْصَحِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْآلَةِ وَعَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي قِصَّةِ مَبِيتِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ ; لِيُشَاهِدَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ طُرُقٍ: مِنْهَا بِلَفْظِهِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ وَاقْتَضَى كَلَامُ عَبْدِ الْحَقِّ أَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) هُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (يَسْتَنُّ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ مِنَ السِّنِّ بِالْكَسْرِ أَوِ الْفَتْحِ إِمَّا

ص: 355

لِأَنَّ السِّوَاكَ يَمُرُّ عَلَى الْأَسْنَانِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَسُنُّهَا أَيْ يُحَدِّدُهَا.

قَوْلُهُ: (يَقُولُ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوِ السِّوَاكُ مَجَازًا.

قَوْلُهُ: (أُعْ أُعْ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَشَارَ ابْنُ التِّينِ إِلَى أَنَّ غَيْرَهُ رَوَاهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ، عَنْ حَمَّادٍ بِتَقْدِيمِ الْعَيْنِ عَلَى الْهَمْزَةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، عَنْ عَارِمٍ - وَهُوَ أَبُو النُّعْمَانِ - شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ هَاءٍ، وَلِلْجَوْزَقِيِّ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ بَدَلَ الْهَاءِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَشْهَرُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ لِتَقَارُبِ مَخَارِجِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ، وَكُلِّهَا تَرْجِعُ إِلَى حِكَايَةِ صَوْتِهِ إِذْ جَعَلَ السِّوَاكَ عَلَى طَرَفِ لِسَانِهِ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْمُرَادُ طَرَفُهُ الدَّاخِلُ كَمَا عِنْدَ أَحْمَدَ يَسْتَنُّ إِلَى فَوْقُ وَلِهَذَا قَالَ هُنَا كَأَنَّهُ يَتَهَوَّعُ وَالتَّهَوُّعُ التَّقَيُّؤُ، أَيْ لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ الْمُتَقَيِّئِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ.

وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ السِّوَاكِ عَلَى اللِّسَانِ طُولًا، أَمَّا الْأَسْنَانُ فَالْأَحَبُّ فِيهَا أَنْ تَكُونَ عَرْضًا، وَفِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَلَهُ شَاهِدٌ مَوْصُولٌ عِنْدَ الْعُقَيْلِيِّ فِي الضُّعَفَاءِ وَفِيهِ تَأْكِيدُ السِّوَاكِ وَأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَسْنَانِ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّنْظِيفِ وَالتَّطَيُّبِ لَا مِنْ بَابِ إِزَالَةِ الْقَاذُورَاتِ ; لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَخْتَفِ بِهِ، وَبَوَّبُوا عَلَيْهِ اسْتِيَاكُ الْإِمَامِ بِحَضْرَةِ رَعِيَّتِهِ.

245 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ

[الحديث 245 - طرفاه في: 1136، 889]

قَوْلُهُ: (عَنْ حُذَيْفَةَ) هُوَ ابْنُ الْيَمَانِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (يَشُوصُ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَالشَّوْصُ بِالْفَتْحِ الْغَسْلُ وَالتَّنْظِيفُ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَفِي الْمُحْكَمِ الْغَسْلُ عَنْ كُرَاعٍ وَالتَّنْقِيَةُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَالدَّلْكُ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَقِيلَ الْإِمْرَارُ عَلَى الْأَسْنَانِ مِنْ أَسْفَلُ إِلَى فَوْقُ، وَاسْتَدَلَّ قَائِلُهُ بِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّوْصَةِ وَهِيَ رِيحٌ تَرْفَعُ الْقَلْبَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَعَكَسَهُ الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: هُوَ دَلْكُ الْأَسْنَانِ بِالسِّوَاكِ أَوِ الْأَصَابِعِ عَرْضًا، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ السِّوَاكِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ ; لِأَنَّ النَّوْمَ مُقْتَضٍ لِتَغَيُّرِ الْفَمِ لِمَا يَتَصَاعَدُ إِلَيْهِ مِنْ أَبْخِرَةِ الْمَعِدَةِ، وَالسِّوَاكُ آلَةُ تَنْظِيفِهِ فَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ مُقْتَضَاهُ، قَالَ: وَظَاهِرُ قَوْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ عَامٌّ فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُخَصَّ بِمَا إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ فِي الصَّلَاةِ بِلَفْظِ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَشْهَدُ لَهُ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ السِّرُّ فِي ذِكْرِهِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ السِّوَاكِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي الصِّيَامِ كَمَا سَتَأْتِي فِي أَمَاكِنِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌74 - بَاب دَفْعِ السِّوَاكِ إِلَى الْأَكْبَرِ

246 -

وَقَالَ عَفَّانُ: حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَرَانِي أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَاءَنِي رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الْأَصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الْأَكْبَرِ مِنْهُمَا، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: اخْتَصَرَهُ نُعَيْمٌ عَنْ ابْن الْمُبَارَكِ عَنْ أُسَامَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ دَفْعِ السِّوَاكِ إِلَى الْأَكْبَرِ) وَقَالَ عَفَّانُ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَا رِوَايَةٍ.

قُلْتُ: وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عَفَّانَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ.

ص: 356

قَوْلُهُ: (أَرَانِي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَوَهِمَ مَنْ ضَمَّهَا، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي رَآنِي بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ الْجَهْضَمِيِّ، عَنْ صَخْرٍ أَرَانِي فِي الْمَنَامِ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنَ الرُّؤْيَا.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لِي) قَائِلُ ذَلِكَ لَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام كَمَا سَيَذْكُرُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (كَبِّرْ) أَيْ قَدِّمِ الْأَكْبَرَ فِي السِّنِّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْبُخَارِيُّ (اخْتَصَرَهُ) أَيِ الْمَتْنَ (نُعَيْمٌ) هُوَ ابْنُ حَمَّادٍ، وَأُسَامَةُ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ الْمَدَنِيُّ، وَرِوَايَةُ نُعَيْمٍ هَذِهِ وَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ بَكْرِ بْنِ سَهْلٍ عَنْهُ بِلَفْظِ أَمَرَنِي جِبْرِيلُ أَنْ أُكَبِّرَ وَرَوَيْنَاهَا فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نُعَيْمٍ بِلَفْظِ أَنْ أُقَدِّمَ الْأَكَابِرَ، وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِصَارٍ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُمْ بِلَفْظِ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَنُّ، فَأَعْطَاهُ أَكْبَرَ الْقَوْمِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي أَنْ أُكَبِّرَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ وَقَعَتْ فِي الْيَقَظَةِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ صَخْرٍ أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا وَقَعَ فِي الْيَقَظَةِ أَخْبَرَهُمْ صلى الله عليه وسلم بِمَا رَآهُ فِي النَّوْمِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِذَلِكَ بِوَحْيٍ مُتَقَدِّمٍ، فَحَفِظَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَحْفَظْ بَعْضٌ.

وَيَشْهَدُ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَنُّ وَعِنْدَهُ رَجُلَانِ، فَأُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ أَعْطِ السِّوَاكَ الْأَكْبَرَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ تَقْدِيمُ ذِي السِّنِّ فِي السِّوَاكِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْمَشْيُ وَالْكَلَامُ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذَا مَا لَمْ يَتَرَتَّبِ الْقَوْمُ فِي الْجُلُوسِ، فَإِذَا تَرَتَّبُوا فَالسُّنَّةُ حِينَئِذٍ تَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ فِيهِ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَفِيهِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ سِوَاكَ الْغَيْرِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، إِلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَغْسِلَهُ ثُمَّ يَسْتَعْمِلَهُ، وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ عَائِشَةَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي السِّوَاكَ لِأَغْسِلَهُ فَأَبْدَأُ بِهِ فَأَسْتَاكُ ثُمَّ أَغْسِلُهُ ثُمَّ أَدْفَعُهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى عَظِيمِ أَدَبِهَا وَكَبِيرِ فِطْنَتِهَا ; لِأَنَّهَا لَمْ تَغْسِلْهُ ابْتِدَاءً حَتَّى لَا يَفُوتَهَا الِاسْتِشْفَاءُ بِرِيقِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ غَسَلَتْهُ تَأَدُّبًا وَامْتِثَالًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَمْرِهَا بِغَسْلِهِ تَطْيِيبَهُ وَتَلْيِينَهُ بِالْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌75 - بَاب فَضْلِ مَنْ بَاتَ عَلَى الْوُضُوءِ

247 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ، قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ: لَا وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ.

[الحديث 247 - أطرافه في: 7488، 6315، 6313، 6311]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ بَاتَ عَلَى الْوُضُوءِ) وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ عَلَى وُضُوءٍ

(1)

.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ

(1)

في شرح القسطلاني"باب من بات على الوضوء" بالألف واللام ولأبي ذر وأبي الوقت والأصيلي "وضوء" بالتنكير

ص: 357

الْمُبَارَكِ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ.

قَوْلُهُ: (فَتَوَضَّأْ) ظَاهِرُهُ اسْتِحْبَابُ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ النَّوْمَ وَلَوْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَنْ كَانَ مُحْدِثًا، وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ مِتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ السُّنَّةُ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مَنْ طُرُقٍ عَنِ الْبَرَاءِ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْوُضُوءِ إِلَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَدِيثٌ عَنْ عَلِيٍّ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْمَتْنِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ)

(1)

فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ آخِرِ وَهِيَ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُنَّ شَيْئًا مِمَّا شُرِعَ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَ النَّوْمِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ لَا وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ مَنَعَ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ عَلَى الْمَعْنَى، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَنَبِيِّكَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ وَصْفٌ زَائِدٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ لَيْسَ بِمَعْنَى لَفْظِ النَّبِيِّ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَنْعِ إِذَا اخْتَلَفَ الْمَعْنَى، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ الْوَصْفَيْنِ صَرِيحًا وَإِنْ كَانَ وَصْفُ الرِّسَالَةِ يَسْتَلْزِمُ وَصْفَ النُّبُوَّةِ، أَوْ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْأَذْكَارِ تَوْقِيفِيَّةٌ فِي تَعْيِينِ اللَّفْظِ وَتَقْدِيرِ الثَّوَابِ، فَرُبَّمَا كَانَ فِي اللَّفْظِ سِرٌّ لَيْسَ فِي الْآخَرِ وَلَوْ كَانَ يُرَادِفُهُ فِي الظَّاهِرِ، أَوْ لَعَلَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَرَأَى أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ، أَوْ ذَكَرَهُ احْتِرَازًا مِمَّنْ أُرسِلَ مِنْ غَيْرِ نُبُوَّةٍ كَجِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ; لِأَنَّهُمْ رُسُلٌ لَا أَنْبِيَاءُ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَخْلِيصَ الْكَلَامِ مِنَ اللَّبْسِ، أَوْ لِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ أَمْدَحُ مِنْ لَفْظِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّهُ مُشْتَرِكٌ فِي الْإِطْلَاقِ عَلَى كُلِّ مَنْ أُرْسِلَ بِخِلَافِ لَفْظِ النَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ عُرْفًا، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: كُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ، وَأَمَّا مَنْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْدَالُ لَفْظِ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ مَثَلًا فِي الرِّوَايَةِ، بِلَفْظِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَذَا عَكْسُهُ وَلَوْ أَجَزْنَا الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَكَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ أَجَازَ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي لِكَوْنِ

الْأَوَّلِ أَخَصَّ مِنَ الثَّانِي ; لِأَنَّا نَقُولُ: الذَّاتُ الْمُخْبَرُ عَنْهَا فِي الرِّوَايَةِ وَاحِدَةٌ فَبِأَيِّ وَصْفٍ وَصَفْتَ بِهِ تِلْكَ الذَّاتَ مِنْ أَوْصَافِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا عُلِمَ الْقَصْدُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ وَلَوْ تَبَايَنَتْ مَعَانِي الصِّفَاتِ، كَمَا لَوْ أَبْدَلَ اسْمًا بِكُنْيَةٍ أَوْ كُنْيَةً بِاسْمٍ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي مَثَلًا: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ أَوْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوْجُهِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا مِنْ إِرَادَةِ التَّوْقِيفِ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): النُّكْتَةُ فِي خَتْمِ الْبُخَارِيِّ كِتَابَ الْوُضُوءِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ آخِرُ وُضُوءٍ أُمِرَ بِهِ الْمُكَلَّفُ فِي الْيَقَظَةِ، وَلِقَوْلِهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ: وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ فَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِخَتْمِ الْكِتَابِ وَاللَّهُ الْهَادِي لِلصَّوَابِ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْوُضُوءِ وَمَا مَعَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ وَالِاسْتِطَابَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ حَدِيثًا، الْمَوْصُولُ مِنْهَا مِائَةٌ وَسِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْمَذْكُورُ مِنْهَا بِلَفْظِ الْمُتَابَعَةِ وَصِيغَةِ التَّعْلِيقِ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا، فَالْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ مِنْهَا أَحَدٌ وَثَمَانُونَ حَدِيثًا، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا مُعَلَّقَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى تِسْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُعَلَّقَةُ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ وَحَدِيثُهُ: تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: ابْغِنِي أَحْجَارًا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْحَجَرَيْنِ وَالرَّوْثَةِ،

(1)

الرواية التى شرح عليها القسطلاني "واجعلهن آخر ما تتكلم به"

ص: 358

وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي ادِّخَارِ شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي سَقَى الْكَلْبَ وَحَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدٍ فِي خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، وَحَدِيثُ سَعْدٍ، وَعُمَرَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ فِيهِ، وَحَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ فِي الْمَضْمَضَةِ مِنَ السَّوِيقِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ: إِذَا نَعَسَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُتِمَّ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ فِي فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْبُزَاقِ فِي الثَّوْبِ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَثَرًا الْمَوْصُولُ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مُعَلَّقَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌5 - كِتَاب الْغُسْل

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ الْغُسْلِ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا بِتَقْدِيمِ الْبَسْمَلَةِ، وَلِلْأَكْثَرِ بِالْعَكْسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ ذَلِكَ، وَحُذِفَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَعِنْدَهُ بَابُ الْغُسْلِ وَهُوَ بِضَمِّ الْغَيْنِ اسْمٌ لِلِاغْتِسَالِ، وَقِيلَ: إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَاءُ فَهُوَ مَضْمُومٌ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَيَجُوزُ فِيهِ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ الْمَصْدَرُ بِالْفَتْحِ وَالِاغْتِسَالُ بِالضَّمِّ، وَقِيلَ: الْغَسْلُ بِالْفَتْحِ فِعْلُ الْمُغْتَسِلِ وَبِالضَّمِّ الْمَاءُ الَّذِي يَغْتَسِلُ بِهِ وَبِالْكَسْرِ مَا يُجْعَلُ مَعَ الْمَاءِ كَالْأُشْنَانِ.

وَحَقِيقَةُ الْغَسْلِ جَرَيَانُ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدَّلْكِ فَلَمْ يُوجِبْهُ الْأَكْثَرُ، وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمُزَنِيِّ وُجُوبُهُ، وَاحْتَجَّ ابْنُ بَطَّالٍ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ إِمْرَارِ الْيَدِ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عِنْدَ غَسْلِهَا قَالَ: فَيَجِبُ ذَلِكَ فِي الْغَسْلِ قِيَاسًا لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ لَمْ يُوجِبِ الدَّلْكَ أَجَازُوا غَمْسَ الْيَدِ فِي الْمَاءِ لِلْمُتَوَضِّئِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَارٍ فَبَطَلَ الْإِجْمَاعُ وَانْتَفَتِ الْمُلَازَمَةُ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: غَرَضُهُ بَيَانُ أَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ عَلَى الْجُنُبِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: وَقَدَّمَ الْآيَةَ الَّتِي مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ لِدَقِيقَةٍ، وَهِيَ أَنَّ لَفْظَ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ:{فَاطَّهَّرُوا} فَفِيهَا إِجْمَالٌ، وَلَفْظُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ:{حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فَفِيهَا تَصْرِيحٌ بِالِاغْتِسَالِ وَبَيَانٌ لِلتَّطْهِيرِ الْمَذْكُورِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاطَّهَّرُوا} فَاغْتَسِلُوا، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحَائِضِ:{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَيِ اغْتَسَلْنَ اتِّفَاقًا،

ص: 359

وَدَلَّتْ آيَةُ النِّسَاءِ عَلَى أَنَّ اسْتِبَاحَةَ الْجُنُبِ لِلصَّلَاةِ - وَكَذَا اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ - يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاغْتِسَالِ، وَحَقِيقَةُ الِاغْتِسَالِ غَسْلُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مَعَ تَمْيِيزِ مَا لِلْعِبَادَةِ عَمَّا لِلْعَادَةِ بِالنِّيَّةِ.

‌1 - بَاب الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ

248 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ، هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ، فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ.

[الحديث 248 - طرفاه في: 272، 262]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ) أَيِ اسْتِحْبَابِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْأُمِّ: فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْغُسْلَ مُطْلَقًا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ شَيْءٍ، فَكَيْفَمَا جَاءَ بِهِ الْمُغْتَسِلُ أَجْزَأَهُ إِذَا أَتَى بِغَسْلِ جَمِيعِ بَدَنِهِ. وَالِاخْتِيَارُ فِي الْغُسْلِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ الْبَابِ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ كَذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ مِنْ أَحْسَنِ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي ذَلِكَ، قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ وَهُوَ ابْنُ عُرْوَةَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ غَيْرُ مَالِكٍ كَمَا سَنُشِيرُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ) أَيْ شَرَعَ فِي الْفِعْلِ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ سَبَبِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَسْلُهُمَا لِلتَّنْظِيفِ مِمَّا بِهِمَا مِنْ مُسْتَقْذَرٍ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ تَقْوِيَةُ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْغَسْلُ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ زِيَادَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ هِشَامٍ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ أَيْضًا ثُمَّ يَغْسِلُ فَرْجَهُ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، وَهِيَ زِيَادَةٌ جَلِيلَةٌ ; لِأَنَّ بِتَقْدِيمِ غَسْلِهِ يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ مَسِّهِ فِي أَثْنَاءِ الْغُسْلِ.

قَوْلُهُ: (كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ) فِيهِ احْتِرَازٌ عَنِ الْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ سُنَّةً مُسْتَقِلَّةً بِحَيْثُ يَجِبُ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مَعَ بَقِيَّةِ الْجَسَدِ فِي الْغُسْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِغَسْلِهَا فِي الْوُضُوءِ عَنْ إِعَادَتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ فِي أَوَّلِ عُضْوٍ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ غَسْلَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ تَشْرِيفًا لَهَا وَلِتَحْصُلَ لَهُ صُورَةُ الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الدَّاوُدِيُّ شَارِحُ الْمُخْتَصَرِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: يُقَدِّمُ غَسْلَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ عَلَى تَرْتِيبِ الْوُضُوءِ، لَكِنْ بِنِيَّةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ.

وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ مَعَ الْغُسْلِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، فَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ وَغَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّ الْغُسْلَ لَا يَنُوبُ عَنِ الْوُضُوءِ لِلْمُحْدِثِ.

قَوْلُهُ: (فَيُخَلِّلُ بِهَا) أَيْ بِأَصَابِعِهِ الَّتِي أَدْخَلَهَا فِي الْمَاءِ، وَلِمُسْلِمٍ ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُيَيْنَةَ ثُمَّ يُشَرِّبُ شَعْرَهُ الْمَاءَ.

قَوْلُهُ: (أُصُولَ الشَّعْرِ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أُصُولُ شَعْرِهِ أَيْ شَعْرِ رَأْسِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ يُخَلِّلُ بِهَا شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ فَيُتْبِعُ بِهَا أُصُولَ الشَّعْرِ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْسَرِ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى تَخْلِيلِ شَعْرِ الْجَسَدِ فِي الْغُسْلِ إِمَّا لِعُمُومِ قَوْلِهِ: أُصُولَ الشَّعْرِ، وَإِمَّا بِالْقِيَاسِ عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ.

وَفَائِدَةُ التَّخْلِيلِ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ، وَمُبَاشَرَةُ الشَّعْرِ بِالْيَدِ لِيَحْصُلَ تَعْمِيمُهُ بِالْمَاءِ، وَتَأْنِيسُ الْبَشَرَةِ لِئَلَّا يُصِيبَهَا بِالصَّبِّ مَا تَتَأَذَّى بِهِ، ثُمَّ هَذَا التَّخْلِيلُ غَيْرُ وَاجِبٍ اتِّفَاقًا إِلَّا إِنْ كَانَ الشَّعْرُ مُلَبَّدًا بِشَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَ الْمَاءِ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى أُصُولِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ:

ص: 360

(ثُمَّ يُدْخِلُ) إِنَّمَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَمَا قَبْلَهُ مَذْكُورٌ بِلَفْظِ الْمَاضِي - وَهُوَ الْأَصْلُ - لِإِرَادَةِ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ لِلسَّامِعِينَ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَ غُرَفٍ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ غُرْفَةٍ وَهِيَ قَدْرُ مَا يُغْرَفُ مِنَ الْمَاءِ بِالْكَفِّ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ ثَلَاثَ غُرُفَاتٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّثْلِيثِ فِي الْغُسْلِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إِلَّا مَا تَفَرَّدَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُسْتَحَبُّ التَّكْرَارُ فِي الْغُسْلِ، قُلْتُ: وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ الْفُرُوعِ وَكَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَحَمَلَ التَّثْلِيثَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا فَإِنَّ مُقْتَضَاهَا أَنَّ كُلَّ غُرْفَةٍ كَانَتْ فِي جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الرَّأْسِ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ مَيْمُونَةَ زِيَادَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُفِيضُ) أَيْ يُسِيلُ، وَالْإِفَاضَةُ الْإِسَالَةُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الدَّلْكَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ أَفَاضَ بِمَعْنَى غَسَلَ، وَالْخِلَافُ فِي الْغَسْلِ قَائِمٌ، قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي وُضُوءِ الْغُسْلِ ذِكْرُ التَّكْرَارِ، قُلْتُ: بَلْ وَرَدَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا وَصَفَتْ غُسْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجَنَابَةِ .. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ ثُمَّ يَتَمَضْمَضُ ثَلَاثًا وَيَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا.

قَوْلُهُ: (عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ) هَذَا التَّأْكِيدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَمَّمَ جَمِيعَ جَسَدِهِ بِالْغُسْلِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ أَنَّ الْوُضُوءَ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْوِي الْمُغْتَسِلُ الْوُضُوءَ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَإِلَّا فَسُنَّةُ الْغُسْلِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ إِكْمَالِ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَلَا يُؤَخِّرُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ إِلَى فَرَاغِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهَا كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَكِنْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ فَقَالَ فِي آخِرِهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَفَرَّدَ بِهَا أَبُو مُعَاوِيَةَ دُونَ أَصْحَابِ هِشَامٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ هِيَ غَرِيبَةٌ صَحِيحَةٌ، قُلْتُ: لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ مَقَالٌ، نَعَمْ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدُ الطَّيَالِسِيُّ فَذَكَرَ حَدِيثَ الْغُسْلِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: فَإِذَا فَرَغَ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فإَمَّا أَنْ تُحْمَلَ الرِّوَايَاتُ عَنْ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ أَيْ أَكْثَرُهُ وَهُوَ مَا سِوَى الرِّجْلَيْنِ، أَوْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيُسْتَدَلُّ بِرِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَلَى جَوَازِ تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ أَيْ أَعَادَ غَسْلَهُمَا لِاسْتِيعَابِ الْغَسْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ غَسَلَهُمَا فِي الْوُضُوءِ فَيُوَافِقُ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ.

249 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ مِنْ الْأَذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، هَذِهِ غُسْلُهُ مِنْ الْجَنَابَةِ.

[الحديث 249 - أطرافه 281، 276، 274، 266، 265، 260، 259، 257]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَجَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ هُوَ الْبِيكَنْدِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ) فِيهِ التَّصْرِيحُ بِتَأْخِيرِ الرِّجْلَيْنِ فِي وُضُوءِ الْغُسْلِ إِلَخْ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ رِوَايَةِ عَائِشَةَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِمَّا بِحَمْلِ رِوَايَةِ عَائِشَةَ

ص: 361

عَلَى الْمَجَازِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِمَّا بِحَمْلِهِ عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ اخْتَلَفَ نَظَرُ الْعُلَمَاءِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْغُسْلِ، وَعَنْ مَالِكٍ إِنْ كَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ نَظِيفٍ فَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُمَا وَإِلَّا فَالتَّقْدِيمُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ، قَالَ النَّوَوِيُّ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا وَمُخْتَارُهُمَا أَنَّهُ يُكْمِلُ وُضُوءَهُ، قَالَ: لِأَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ كَذَلِكَ، انْتَهَى، كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، بَلْ هِيَ إِمَّا مُحْتَمَلَةٌ كَرِوَايَةِ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ أَوْ ظَاهِرَةٌ تَأْخِيرُهُمَا كَرِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَشَاهِدُهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، وَيُوَافِقُهَا أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَيْمُونَةَ، أَوْ صَرِيحَةٌ فِي تَأْخِيرِهِمَا كَحَدِيثِ الْبَابِ، وَرَاوِيهَا مُقَدَّمٌ فِي الْحِفْظِ وَالْفِقْهِ عَلَى جَمِيعِ مَنْ رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً لِبَيَانِ الْجَوَازِ مُتَعَقَّبٌ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ، وَلَفْظُهُ: كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ يَتَنَحَّى فَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لِيَحْصُلَ

الِافْتِتَاحُ وَالِاخْتِتَامُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.

قَوْلُهُ: (وَغَسَلَ فَرْجَهُ) فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ; لِأَنَّ غَسْلَ الْفَرْجِ كَانَ قَبْلَ الْوُضُوءِ إِذِ الْوَاوُ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ السَّتْرِ فِي الْغُسْلِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا غَسْلَ الْيَدَيْنِ ثُمَّ غَسْلَ الْفَرْجِ ثُمَّ مَسْحَ يَدَهُ بِالْحَائِطِ ثُمَّ الْوُضُوءَ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَأَتَى بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (هَذِهِ غُسْلُهُ) الْإِشَارَةُ إِلَى الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ، أَوِ التَّقْدِيرُ هَذِهِ صِفَةُ غُسْلِهِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ هَذَا غُسْلُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ مُدْرَجَةٌ مِنْ قَوْلِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، وَأَنَّ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ هَذَا عَلَى جَوَازِ تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِفْرَاغِ بِالْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ لِلْمُغْتَرِفِ مِنَ الْمَاءِ لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، وَحَفْصٍ وَغَيْرِهِمَا: ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ لِقَوْلِهِ فِيهَا ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَتَمَسَّكَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ لِلْقَوْلِ بِوُجُوبِهِمَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُجَرَّدَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إِلَّا إِذَا كَانَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ

(1)

قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَعَلَى اسْتِحْبَابِ مَسْحِ الْيَدِ بِالتُّرَابِ مِنَ الْحَائِطِ أَوِ الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ أَوْ بِالْحَائِطِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الِاكْتِفَاءُ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّكْرَارِ وَفِيهِ خِلَافٌ. انْتَهَى.

وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ، لَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْظِيفِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، وَأَمَّا دَلْكُ الْيَدِ بِالْأَرْضِ فَلِلْمُبَالَغَةِ فِيهِ لِيَكُونَ أَنْقَى كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَأَبْعَدَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ أَوْ عَلَى نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ ; لِأَنَّ الْغُسْلَ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَمَا أَصَابَهُ مِنْ أَذًى لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِي النَّجَاسَةِ أَيْضًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَعَلَى أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ أَكْمَلَ بَاقِيَ أَعْضَاءِ بَدَنِهِ لَا يُشْرَعُ لَهُ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ، وَعَلَى جَوَازِ نَفْضِ الْيَدَيْنِ مِنْ مَاءِ الْغُسْلِ وَكَذَا الْوُضُوءِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَوْرَدَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَفْظُهُ لَا تَنْفُضُوا أَيْدِيَكُمْ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهَا مَرَاوِحُ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ ابْنُ

(1)

فيه نظر والصواب وجوبهما، ودخول هذه المسألة تحت القاعدة المذكورة، لأن غسله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل المأمور به في قوله تعالي {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُو}

ص: 362

الصَّلَاحِ: لَمْ أَجِدْهُ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ التَّسَتُّرِ فِي الْغُسْلِ وَلَوْ كَانَ فِي الْبَيْتِ.

وَقَدْ عَقَدَ الْمُصَنِّفُ لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ بَابًا وَأَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِيهِ بِمُغَايَرَةِ الطُّرُقِ وَمَدَارُهَا عَلَى الْأَعْمَشِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الرُّوَاةِ عَنْهُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ، وَقَدْ جَمَعْتُ فَوَائِدَهَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَصَرَّحَ فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِسَمَاعِ الْأَعْمَشِ مِنْ سَالِمٍ فَأُمِنَ تَدْلِيسُهُ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ عَلَى الْوَلَاءِ: الْأَعْمَشُ، وَسَالِمٌ، وَكُرَيْبٌ، وَصَحَابِيَّانِ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَخَالَتُهُ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ.

وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ بِإِحْضَارِ مَاءِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ لِقَوْلِهَا فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ وَغَيْرِهِ وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُسْلًا وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ مَا يَغْتَسِلُ بِهِ وَفِيهِ خِدْمَةُ الزَّوْجَاتِ لِأَزْوَاجِهِنَّ، وَفِيهِ الصَّبُّ بِالْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ لِغَسْلِ الْفَرْجِ بِهَا، وَفِيهِ تَقْدِيمُ غَسْلِ الْكَفَّيْنِ عَلَى غَسْلِ الْفَرْجِ لِمَنْ يُرِيدُ الِاغْتِرَافَ لِئَلَّا يُدْخِلَهُمَا فِي الْمَاءِ وَفِيهِمَا مَا لَعَلَّهُ يُسْتَقْذَرُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ فِي إِبْرِيقٍ مَثَلًا فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ غَسْلِ الْفَرْجِ لِتَوَالِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ التَّنْصِيصُ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ فِي هَذَا الْوُضُوءِ، وَتَمَسَّكَ بِه الْمَالِكِيَّةُ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ وُضُوءَ الْغُسْلِ لَا يُمْسَحُ فِيهِ الرَّأْسُ بَلْ يُكْتَفَى عَنْهُ بِغَسْلِهِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ وَغَيْرِهِ فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا فَلَمْ يَأْخُذْهُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْشِيفِ بَعْدَ الْغُسْلِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْأَخْذِ لِأَمْرٍ آخَرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِكَرَاهَةِ التَّنْشِيفِ بَلْ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْخِرْقَةِ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ مُسْتَعْجِلًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: يُحْتَمَلُ تَرْكُهُ الثَّوْبَ ; لِإِبْقَاءِ بَرَكَةِ الْمَاءِ أَوْ لِلتَّوَاضُعِ أَوْ لِشَيْءٍ رَآهُ فِي الثَّوْبِ مِنْ حَرِيرٍ أَوْ وَسَخٍ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِالْمِنْدِيلِ، وَإِنَّمَا رَدَّهُ مَخَافَةَ أَنْ يَصِيرَ عَادَةً.

وَقَالَ التَّيْمِيُّ فِي شَرْحِهِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَنَشَّفُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَأْتِهِ بِالْمِنْدِيلِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نَفْضُهُ الْمَاءَ بِيَدِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا كَرَاهَةَ فِي التَّنْشِيفِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِزَالَةٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أَشْهَرُهَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَرْكُهُ، وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ: مُبَاحٌ، وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ، وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ فِي الصَّيْفِ مُبَاحٌ فِي الشِّتَاءِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُتَقَاطِرِ مِنْ أَعْضَاءِ الْمُتَطَهِّرِ خِلَافًا لِمَنْ غَلَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ بِنَجَاسَتِهِ.

‌2 - بَابُ غُسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ

250 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ: الْفَرَقُ.

[الحديث 250 - أطرافه في: 7239، 5956، 299، 273263، 261]

قَوْلُهُ: (بابُ غُسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ. عَنْ عُرْوَةَ) أَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ كَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَخَالَفَهُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ فَرَوَاهُ عَنْهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَرَجَّحَ أَبُو زُرْعَةَ الْأَوَّلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلزُّهْرِيِّ شَيْخَانِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ مَحْفُوظٌ عَنْ عُرْوَةَ، وَالْقَاسِمِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (أَنَا وَالنَّبِيُّ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَغْلِيبِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى الْغَائِبِ لِكَوْنِهَا هِيَ السَّبَبَ فِي

ص: 363

الِاغْتِسَالِ، فَكَأَنَّهَا أَصْلٌ فِي الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ) مِنَ الْأُولَى: ابْتِدَائِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ: بَيَانِيَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدَحٌ بَدَلًا مِنْ إِنَاءٍ بِتَكْرَارِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: كَانَ هَذَا الْإِنَاءُ مِنْ شَبَهٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَوْضِيحُهُ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ وَلَفْظُهُ تَوْرٌ مِنْ شَبَهٍ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ لَهُ الْفَرَقُ)، وَلِمَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: هُوَ الْفَرْقُ، وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ أَيْ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَذَلِكَ الْقَدَحُ يَوْمَئِذٍ يُدْعَى الْفَرَقَ قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْفَرْقُ بِتَسْكِينِ الرَّاءِ وَرُوِّينَاهُ بِفَتْحِهَا وَجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الْأَمْرَيْنِ، وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ بِالْفَتْحِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، وَزَعَمَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ الصَّوَابُ قَالَ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ هُمَا لُغَتَانِ، قُلْتُ: لَعَلَّ مُسْتَنَدَ الْبَاجِيِّ مَا حَكَاهُ الْأَزْهَرِيُّ، عَنْ ثَعْلَبٍ وَغَيْرِهِ: الْفَرَقُ بِالْفَتْحِ وَالْمُحَدِّثُونَ يُسَكِّنُونَهُ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ بِالْفَتْحِ.

انْتَهَى، وَقَدْ حَكَى الْإِسْكَانَ أَبُو زَيْدٍ، وَابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالَّذِي فِي رِوَايَتِنَا هُوَ الْفَتْحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ الْفَرَقَ بِالْفَتْحِ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا وَبِالْإِسْكَانِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي آخِرِ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي ابْنَ عُيَيْنَةَ: الْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَذَا قَالَ الْجَمَاهِيرُ، وَقِيلَ: الْفَرَقُ صَاعَانِ، لَكِنْ نَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْفَرَقَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ، وَعَلَى أَنَّ الْفَرَقَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ اتِّفَاقَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَإِلَّا فَقَدَ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ الصَّاعَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَتَمَسَّكُوا بِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ حَزَرَ الْإِنَاءَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الْحَزْرَ لَا يُعَارَضُ بِهِ التَّحْدِيدُ، وَأَيْضًا فَلِمَ صَرَّحَ مُجَاهِدٌ بِأَنَّ الْإِنَاءَ الْمَذْكُورَ صَاعٌ فَيُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَوَانِي مَعَ تَقَارُبِهَا، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ الْفَرَقِ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ قَدْرُ سِتَّةِ أَقْسَاطٍ وَالْقِسْطُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ نِصْفُ صَاعٍ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْفَرَقَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا فَصَحَّ أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، وَتَوَسَّطَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: الصَّاعُ الَّذِي لِمَاءِ الْغُسْلِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَالَّذِي لِزَكَاةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِهَا خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَمَبَاحِثُ الْمَتْنِ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الدَّاوُدِيُّ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى عَوْرَةِ امْرَأَتِهِ وَعَكْسِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً فَقَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَذَكَرَتْ هَذَا الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌3 - بَاب الْغُسْلِ بِالصَّاعِ وَنَحْوِهِ

251 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَخُو عَائِشَةَ عَلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلَهَا أَخُوهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ نَحْوٍ مِنْ صَاعٍ، فَاغْتَسَلَتْ وَأَفَاضَتْ عَلَى رَأْسِهَا، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَابٌ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَبَهْزٌ، وَالْجُدِّيُّ، عَنْ شُعْبَةَ: قَدْرِ صَاعٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْغُسْلِ بِالصَّاعِ) أَيْ بِمِلْءِ الصَّاعِ (وَنَحْوِهِ) أَيْ مَا يُقَارِبُهُ، وَالصَّاعُ تَقَدَّمَ أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ

ص: 364

بِرِطْلِ بَغْدَادَ، وَهُوَ عَلَى مَا قَالَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ سَبَبَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ فِي الْأَصْلِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعٍ، ثُمَّ زَادُوا فِيهِ مِثْقَالًا لِإِرَادَةِ جَبْرِ الْكَسْرِ فَصَارَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ، قَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ تَقْدِيرِ الْعُلَمَاءِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، شَارَكَ شَيْخَهُ أَبَا سَلَمَةَ - وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - فِي كَوْنِهِ زُهْرِيًّا مَدَنِيًّا مَشْهُورًا بِالْكُنْيَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اسْمَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَبْدُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَخُو عَائِشَةَ) زَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَخُوهَا لِأُمِّهَا وَهُوَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَلَا يَصِحُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ; لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، مُعْتَمِدِينَ عَلَى مَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الْجَنَائِزِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيعِ عَائِشَةَ عَنْهَا فَذَكَرَ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عِنْدِي أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا ; لِأَنَّ لَهَا أَخًا آخَرَ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَهُوَ كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ رَضِيعُ عَائِشَةَ رَوَى عَنْهَا أَيْضًا وَحَدِيثُهُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِهِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بَصْرِيٌّ، وَكَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ كُوفِيٌّ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْهَمُ هُنَا أَحَدَهُمَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ نَحْوٍ) بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ صِفَةٌ لِإِنَاءٍ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ نَحْوًا بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَجْرُورِ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ أَوْ بِإِضْمَارِ أَعْنِي.

قَوْلُهُ: (وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَابٌ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا رَأَيَا عَمَلَهَا فِي رَأْسِهَا وَأَعَالِي جَسَدِهَا مِمَّا يَحِلُّ نَظَرُهُ لِلْمَحْرَمِ ; لِأَنَّهَا خَالَةُ أَبِي سَلَمَةَ مِنَ الرَّضَاعِ أَرْضَعَتْهُ أُخْتُهَا أُمُّ كُلْثُومٍ، وَإِنَّمَا سَتَرَتْ أَسَافِلَ بَدَنِهَا مِمَّا لَا يَحِلُّ لِلْمَحْرَمِ النَّظَرُ إِلَيْهِ قَالَ: وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِاغْتِسَالِهَا بِحَضْرَتِهِمَا مَعْنًى، وَفِي فِعْلِ عَائِشَةَ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّعْلِيمِ بِالْفِعْلِ ; لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ، وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ مُحْتَمِلًا لِلْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ ثَبَتَ لَهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا: أَمَّا الْكَيْفِيَّةُ فَبِالِاقْتِصَارِ عَلَى إِفَاضَةِ الْمَاءِ وَأَمَّا الْكَمِّيَّةُ فَبِالِاكْتِفَاءِ بِالصَّاعِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْبُخَارِيُّ الْمُصَنِّفُ (قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا.

قَوْلُهُ: (وَبَهْزٌ) بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ ابْنُ أَسَدٍ وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِمَا مِنَ الْجَنَابَةِ، وَعِنْدَهُمَا أَيْضًا عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثًا وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَالْجُدِّيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ نِسْبَةً إِلَى جُدَّةَ سَاحِلِ مَكَّة، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْهَا لَكِنَّهُ سَكَنَ الْبَصْرَةَ.

قَوْلُهُ: (قَدْرِ صَاعٍ) بِالْكَسْرِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الِاغْتِسَالَ وَقَعَ بِمِلْءِ الصَّاعِ مِنَ الْمَاءِ تَقْرِيبًا لَا تَحْدِيدًا.

252 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ وَأَبُوهُ، وَعِنْدَهُ قَوْمٌ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الْغُسْلِ، فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِي، فَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ شَعَرًا وَخَيْرٌ مِنْكَ. ثُمَّ أَمَّنَا فِي ثَوْبٍ.

[الحديث 252 - طرفاه في: 256، 255]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَيَّانِيُّ: ثَبَتَ لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ

ص: 365

- إِلَّا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ فَسَقَطَ مِنْ رِوَايَتِهِ يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَهُوَ وَهْمٌ - فَلَا يَتَّصِلُ السَّنَدُ إِلَّا بِهِ.

قَوْلُهُ: (زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَعْرُوفُ بِالْبَاقِرِ.

قَوْلُهُ: (هُوَ وَأَبُوهُ) أَيْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (وَعِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (قَوْمٌ) كَذَا فِي النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَوَقَعَ فِي الْعُمْدَةِ وَعِنْدَهُ قَوْمُهُ بِزِيَادَةِ الْهَاءِ وَجَعَلَهَا شُرَّاحُهَا ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى جَابِرٍ وَفِيهِ مَا فِيهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي مُسْلِمٍ أَصْلًا، وَذَلِكَ وَارِدٌ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ يُخَرِّجُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَسَأَلُوهُ عَنِ الْغُسْلِ) أَفَادَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ مُتَوَلِّيَ السُّؤَالِ هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّاوِي، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ.

وَبَيَّنَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ سَبَبَ السُّؤَالِ فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: تَمَارَيْنَا فِي الْغُسْلِ عِنْدَ جَابِرٍ، فَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ تَوَلَّى السُّؤَالَ وَنَسَبَ السُّؤَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِلَى الْجَمِيعِ مَجَازًا ; لِقَصْدِهِمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا أَفْرَدَ جَابِرٌ الْجَوَابَ فَقَالَ: يَكْفِيكَ، وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْهُمْ أَيْ مِنَ الْقَوْمِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ثَبَتَ فِي رِوَايَتِنَا ; لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ هُوَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي يُعْرَفُ أَبُوهُ بِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَوْمِ جَابِرٍ ; لِأَنَّهُ هَاشِمِيٌّ وَجَابِرٌ أَنْصَارِيٌّ.

قَوْلُهُ: (أَوْفَى) يَحْتَمِلُ الصِّفَةَ وَالْمِقْدَارَ أَيْ أَطْوَلَ وَأَكْثَرَ.

قَوْلُهُ: (وَخَيْرٌ مِنْكَ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى أَوْفَى الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْ هُوَ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ أَوْ خَيْرًا بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْمَوْصُولِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَمَّنَا) فَاعِلُ أَمَّنَا هُوَ جَابِرٌ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ وَاضِحًا مِنْ فِعْلِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ مِنْ مَقُولِهِ وَالْفَاعِلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالِانْقِيَادِ إِلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ جَوَازُ الرَّدِّ بِعُنْفٍ عَلَى مَنْ يُمَارِي بِغَيْرِ عِلْمٍ إِذَا قَصَدَ الرَّادُّ إِيضَاحَ الْحَقِّ وَتَحْذِيرَ السَّامِعِينَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَفِيهِ كَرَاهِيَةُ التَّنَطُّعِ وَالْإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ.

253 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَيْمُونَةَ كَانَا يَغْتَسِلَانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَبَهْزٌ، وَالْجُدِّيُّ، عَنْ شُعْبَةَ: قَدْرِ صَاعٍ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ أَخِيرًا: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَفِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّعْثَاءِ وَهُوَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ الْمَذْكُورُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.

قَوْلُهُ: (كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) كَذَا رَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا، وَإِنَّمَا رَجَّحَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ أَبِي نُعَيْمٍ جَرْيًا عَلَى قَاعِدَةِ الْمُحَدِّثِينَ ; لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرَجِّحَاتِ عِنْدَهُمْ قِدَمَ السَّمَاعِ ; لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ قُوَّةِ حِفْظِ الشَّيْخِ، وَلِرِوَايَةِ الْآخَرِينَ جِهَةٌ أُخْرَى مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ وَهِيَ كَوْنُهُمْ أَكْثَرَ عَدَدًا وَمُلَازَمَةً لِسُفْيَانَ، وَرَجَّحَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهِيَ كَوْنُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَالَةِ اغْتِسَالِهِ مَعَ مَيْمُونَةَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْهَا.

وَقَدْ أَخْرَجَ الرِّوَايَةَ الْمَذْكُورَةَ الشَّافِعِيُّ، وَالْحُمَيْدِيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ فِي مَسَانِيدِهِمْ عَنْ سُفْيَانَ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يَرَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ عَنْ فُلَانٍ وَبَيْنَ إِنَّ فُلَانًا وَفِي ذَلِكَ بَحْثٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ وَقَدْ حَقَّقْتُهُ فِيمَا كَتَبْتُهُ عَلَى كِتَابِ ابْنِ الصَّلَاحِ.

وَادَّعَى بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ

ص: 366

حَدِيثَ مَيْمُونَةَ هَذَا لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ بِالتَّرْجَمَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَدْرَ الْإِنَاءِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ أَوَانِيَهُمْ كَانَتْ صِغَارًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، فَيَدْخُلُ هَذَا الْحَدِيثُ تَحْتَ قَوْلِهِ وَنَحْوِهِ أَيْ نَحْوِ الصَّاعِ، أَوْ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ فِيهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَهُوَ الْفَرَقُ ; لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا زَوْجَةً لَهُ وَاغْتَسَلَتْ مَعَهُ، فَتَكُونُ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَزْيَدَ مِنْ صَاعٍ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ بِالتَّقْرِيبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌4 - بَاب مَنْ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا

254 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثًا، وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا) تَقَدَّمَ حَدِيثُ مَيْمُونَةَ وَعَائِشَةَ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ وَقَدْ عَلَا عَنْهُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، وَنَزَلَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ أَيْضًا، وَسُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ خُزَاعِيٌّ وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ، وَأَبُوهُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَشَيْخُهُ مِنْ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ، فَفِيهِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ.

قَوْلُهُ: (أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَقَسِيمُ أَمَّا مَحْذُوفٌ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ سَبَبَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَوَّلُهُ عِنْدَهُ ذَكَرُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابَةِ فَذَكَرَهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ تَمَارَوْا فِي الْغُسْلِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَمَّا أَنَا فَأَغْسِلُ رَأْسِي بِكَذَا وَكَذَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهَذَا هُوَ الْقَسِيمُ الْمَحْذُوفُ، وَدَلَّ قَوْلُهُ ثَلَاثًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَذَا وَكَذَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الَّذِينَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ هُمْ وَفْدُ ثَقِيفٍ، وَالسِّيَاقُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُفِيضُ إِلَّا ثَلَاثًا، وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِأَنْ تَكُونَ لِلتَّكْرَارِ، وَمُحْتَمِلَةٌ لِأَنْ تَكُونَ لِلتَّوْزِيعِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، لَكِنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي آخِرِ الْبَابِ يُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ وَسَنَذْكُرُ مَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (كِلْتَيْهِمَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ كِلَاهُمَا وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كِلْتَاهُمَا وَهِيَ مُخَرَّجَةٌ عَلَى مَنْ يَرَاهَا تَثْنِيَةً وَيَرَى أَنَّ التَّثْنِيَةَ لَا تَتَغَيَّرُ كَقَوْلِهِ:

قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا

وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ فِي كِلَا خِلَافًا لِلْبَصْرِيِّينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ الرَّفْعُ فِيهِمَا عَلَى الْقَطْعِ.

255 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مِخْوَلِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُفْرِغُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي) وَلِلْأَصِيلِيِّ حَدَّثَنَا (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) هُوَ بُنْدَارٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ حَيْثُ أَخْرَجَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ عَنْهُ، وَأَبُوهُ بِالْمُوَحَّدَةِ وَتَثْقِيلِ الْمُعْجَمَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ غَيْرُهُ قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ وَجَمَاعَةٌ بَعْدَهُ، وَغَفَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَضَبَطَهُ بِمُثَنَّاةٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ.

قَوْلُهُ: (مِخْوَلِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ وَبِوَزْنِ مُحَمَّدٍ أَيْضًا، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَوَّلُ لِلْأَكْثَرِ، وَالثَّانِي لِابْنِ عَسَاكِرَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ شَيْخُهُ هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَعْرُوفُ بِالْبَاقِرِ.

قَوْلُهُ: (يُفْرِغُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثًا) أَيْ

ص: 367

غُرُفَاتٍ. زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ قَالَ شُعْبَةُ: أَظُنُّهُ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَفِيهِ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: إِنَّ شَعْرِي كَثِيرٌ، فَقَالَ جَابِرٌ: شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرَ مِنْ شَعْرِكَ وَأَطْيَبَ.

256 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَامٍ، حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ لِي جَابِرُ: وَأَتَانِي ابْنُ عَمِّكَ - يُعَرِّضُ بِالْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ - قَالَ: كَيْفَ الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ؟ فَقُلْتُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَكُفٍّ، وَيُفِيضُهَا عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، فَقَالَ لِي الْحَسَنُ: إِنِّي رَجُلٌ كَثِيرُ الشَّعَرِ، فَقُلْتُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ مِنْكَ شَعَرًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ) بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَبِهِ جَزَمَ الْمِزِّيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ بِوَزْنِ مُحَمَّدٍ وَبِهِ جَزَمَ الْحَاكِمُ، وَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ سَامٍ فَيُقَالُ: مَعْمَرُ بْنُ سَامٍ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ عَمِّكَ) فِيهِ تَجَوُّزٌ، فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّ وَالِدِهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَنَفِيَّةُ كَانَتْ زَوْجَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ فَاطِمَةَ رضي الله عنها فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا فَاشْتُهِرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا. وَقَوْلُ جَابِرٍ أَتَانِي يُشْعِرُ بِأَنَّ سُؤَالَ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ كَانَ فِي غَيْبَةِ أَبِي جَعْفَرٍ فَهُوَ غَيْرُ سُؤَالِ أَبِي جَعْفَرٍ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَنِ الْكَمِّيَّةِ كَمَا أَشْعَرَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْجَوَابِ يَكْفِيكَ صَاعٌ وَهَذَا عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ كَيْفَ الْغُسْلُ، وَلَكِنَّ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا هُوَ الْمُنَازِعُ لِجَابِرٍ فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِي جَوَابِ الْكَمِّيَّةِ مَا يَكْفِينِي أَيِ الصَّاعُ وَلَمْ يُعَلِّلْ، وَقَالَ فِي جَوَابِ الْكَيْفِيَّةِ إِنِّي كَثِيرُ الشَّعْرِ أَيْ فَأَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ غُرُفَاتٍ، فَقَالَ لَهُ جَابِرٌ فِي جَوَابِ الْكَيْفِيَّةِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ شَعْرًا مِنْكَ وَأَطْيَبَ أَيْ وَاكْتَفَى بِالثَّلَاثِ فَاقْتَضَى أَنَّ الْإِنْقَاءَ يَحْصُلُ بِهَا، وَقَالَ فِي جَوَابِ الْكَمِّيَّةِ مَا تَقَدَّمَ، وَنَاسَبَ ذِكْرَ الْخَيْرِيَّةِ ; لِأَنَّ طَلَبَ الِازْدِيَادِ مِنَ الْمَاءِ يُلْحَظُ فِيهِ التَّحَرِّي فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الْجَسَدِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم سَيِّدَ الْوَرِعِينَ وَأَتْقَى النَّاسِ لِلَّهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِهِ. وَقَدِ اكْتَفَى بِالصَّاعِ، فَأَشَارَ جَابِرٌ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا اكْتَفَى بِهِ تَنَطُّعٌ قَدْ يَكُونُ مَثَارُهُ الْوَسْوَسَةَ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَ أَكُفٍّ) وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ ثَلَاثَةَ أَكُفٍّ وَهِيَ جَمْعُ كَفٍّ وَالْكَفُّ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْخُذُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ كَفَّيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَبَسَطَ يَدَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ الَّذِي فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَالْكَفُّ اسْمُ جِنْسٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الِاثْنَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْغُرُفَاتِ الثَّلَاثُ لِلتَّكْرَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ جِهَةٍ مِنَ الرَّأْسِ غُرْفَةٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَرِيبًا.

‌5 - بَاب الْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً

257 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَاءً لِلْغُسْلِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ.

ص: 368

قَوْلُهُ: (بَابُ الْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيَّدْ بِعَدَدٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ مَا يُسَمَّى وَهُوَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَبَاقِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ.

قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (فَغَسَلَ يَدَهُ)، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ يَدَيْهِ (مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا) الشَّكُّ مِنَ الْأَعْمَشِ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْهُ، وَغَفَلَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: الشَّكُّ مِنْ مَيْمُونَةَ.

قَوْلُهُ: (مَذَاكِيرَهُ) هُوَ جَمْعُ ذَكَرٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقِيلَ وَاحِدُهُ مِذْكَارٌ، وَكَأَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْعُضْوِ وَبَيْنَ خِلَافِ الْأُنْثَى، قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا وَاحِدَ لَهُ، وَقِيلَ وَاحِدُهُ مِذْكَارٌ، وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: إِنَّمَا جَمْعُهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَسَدِ إِلَّا وَاحِدٌ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ، وَأَطْلَقَ عَلَى الْكُلِّ اسْمَهُ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْمَجْمُوعِ كَالذَّكَرِ فِي حُكْمِ الْغَسْلِ.

‌6 - بَاب مَنْ بَدَأَ بِالْحِلَابِ أَوْ الطِّيبِ عِنْدَ الْغُسْلِ

258 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلَابِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ بَدَأَ بِالْحِلَابِ أَوْ الطِّيبِ عِنْدَ الْغُسْلِ) مُطَابَقَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِحَدِيثِ الْبَابِ أَشْكَلَ أَمْرُهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ نَسَبَ الْبُخَارِيَّ فِيهَا إِلَى الْوَهْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَ لَفْظَ الْحِلَابِ عَلَى غَيْرِ الْمَعْرُوفِ فِي الرِّوَايَةِ لِتَتَّجِهَ الْمُطَابَقَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّفَ لَهَا تَوْجِيهًا مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ.

فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَأَوَّلُهُمُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - مَنْ ذَا الَّذِي يَسْلَمُ مِنَ الْغَلَطِ، سَبَقَ إِلَى قَلْبِهِ أَنَّ الْحِلَابَ طِيبٌ وَأَيُّ مَعْنًى لِلطِّيبِ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَإِنَّمَا الْحِلَابُ إِنَاءٌ وَهُوَ مَا يُحْلَبُ فِيهِ يُسَمَّى حِلَابًا وَمِحْلَبًا، قَالَ: وَفِي تَأَمُّلِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ ذَلِكَ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ حِلَابٍ. انْتَهَى.

وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي شَرْحِ أَبِي دَاوُدَ: الْحِلَابُ إِنَاءٌ يَسَعُ قَدْرَ حَلْبِ نَاقَةٍ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَتَأَوَّلَهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي الطَّهُورِ، وَأَحْسَبُهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْمِحْلَبُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي غَسْلِ الْأَيْدِي، وَلَيْسَ الْحِلَابُ مِنَ الطِّيبِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا فَسَّرْتُ لَكَ، قَالَ: وَقَالَ الشَّاعِرُ:

صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ

رَدَّ فِي الضَّرْعِ مَا فَرَى فِي الْحِلَابِ

وَتَبِعَ الْخَطَّابِيَّ، ابْنُ قُرْقُولٍ فِي الْمَطَالِعِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَجَمَاعَةٌ، وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَأَوَّلُهُمُ الْأَزْهَرِيُّ، قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: الْحِلَابُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضَبَطَهُ جَمَاعَةٌ بِالْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ الْخَفِيفَةِ أَيْ مَا يُحْلَبُ فِيهِ كَالْمِحْلَبِ فَصَحَّفُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْجُلَّابُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَهُوَ مَاءُ الْوَرْدِ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ عَلَى الْأَزْهَرِيِّ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الرِّوَايَةِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّخْفِيفِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَيْضًا، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: لِأَنَّ الطِّيبَ يُسْتَعْمَلُ بَعْدَ الْغُسْلِ أَلْيَقُ مِنْهُ قَبْلَهُ وَأَوْلَى ; لِأَنَّهُ إِذَا بَدَأَ بِهِ ثُمَّ اغْتَسَلَ أَذْهَبَهُ الْمَاءُ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى غَرِيبِ الصَّحِيحَيْنِ: ضَمَّ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مَعَ حَدِيثِ الْفَرَقِ وَحَدِيثِ قَدْرِ الصَّاعِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّهُ تَأَوَّلَهَا عَلَى الْإِنَاءِ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَرُبَّمَا

ص: 369

ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ يَكُونُ قَبْلَ الْغُسْلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي التَّرْجَمَةِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. انْتَهَى.

فَجَعَلَ الْحُمَيْدِيُّ كَوْنَ الْبُخَارِيِّ أَرَادَ ذَلِكَ احْتِمَالًا، أَيْ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يُفْصِحْ بِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْحِلَابُ وَالْمِحْلَبُ بِكَسْرِ الْمِيمِ إِنَاءٌ يَمْلَؤُهُ قَدْرَ حَلْبِ النَّاقَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَيْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَحْلَبُ الطِّيبِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ قَالَ: وَتَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْتَفَتَ إِلَى التَّأْوِيلَيْنِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ الْجُلَّابُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، يُشِيرُ إِلَى مَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْ أَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ عَلَى الْأَزْهَرِيِّ مَا قَالَهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحِلَابُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ لَا يَصِحُّ غَيْرُهَا، وَقَدْ وَهِمَ مَنْ ظَنَّهُ مِنَ الطِّيبِ وَكَذَا مَنْ قَالَهُ بِضَمِّ الْجِيمِ. انْتَهَى.

وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ فَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: لَمْ يُرِدِ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ الطِّيبُ مَا لَهُ عَرْفٌ طَيِّبٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَطْيِيبَ الْبَدَنِ بِإِزَالَةِ مَا فِيهِ مِنْ وَسَخٍ وَدَرَنٍ وَنَجَاسَةٍ إِنْ كَانَتْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْحِلَابِ الْإِنَاءَ الَّذِي يَغْتَسِلُ مِنْهُ يَبْدَأُ بِهِ فَيُوضَعُ فِيهِ مَاءُ الْغُسْلِ، قَالَ: وَأَوْ فِي قَوْلِهِ أَوِ الطِّيبُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَكَذَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَمُحَصَّلُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى إِعْدَادِ مَاءِ الْغُسْلِ ثُمَّ الشُّرُوعِ فِي التَّنْظِيفِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْغُسْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْبَدَاءَةُ بِشِقِّ الرَّأْسِ ; لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ شَعَثًا مِنْ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ مِنْ أَجْلِ الشَّعْرِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ بِخِطْمِيٍّ وَيَكْتَفِي بِذَلِكَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا عَنْ عَائِشَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا يُنَقِّي الْبَدَنَ كَالسِّدْرِ وَغَيْرِهِ.

وَيُقَوِّي ذَلِكَ مَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ بِالْحِلَابِ أَوِ الطِّيبِ فَقَوْلُهُ: أَوْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطِّيبَ قَسِيمُ الْحِلَابِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَجَمِيعُ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ فَلِذَلِكَ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْحِلَابِ عَلَى هَذَا الْمَاءِ الَّذِي فِي الْحِلَابِ فَأَطْلَقَ عَلَى الْحَالِّ اسْمَ الْمَحَلِّ مَجَازًا، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْحِلَابِ الْإِنَاءَ الَّذِي فِيهِ الطِّيبُ فَالْمَعْنَى بَدَأَ تَارَةً بِطَلَبِ ظَرْفِ الطِّيبِ وَتَارَةً بِطَلَبِ نَفْسِ الطِّيبِ فَدَلَّ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. انْتَهَى، وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِكَايَتِهِ لِكَلَامِ الْخَطَّابِيِّ: وَأَظُنُّ الْبُخَارِيَّ جَعَلَ الْحِلَابَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ ضَرْبًا مِنَ الطِّيبِ قَالَ: فَإِنْ كَانَ ظَنَّ ذَلِكَ فَقَدْ وَهِمَ، وَإِنَّمَا الْحِلَابُ الْإِنَاءُ الَّذِي كَانَ فِيهِ طِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ عِنْدَ الْغُسْلِ. قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ عِنْدَ الْغُسْلِ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. انْتَهَى كَلَامُهُ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ فَأَخَذَ بِكَفِّهِ أَيْ مِنَ الطِّيبِ الَّذِي فِي الْإِنَاءِ فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ أَيْ فَطَيَّبَهُ إِلَخْ.

وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ صِفَةُ التَّطْيِيبِ لَا الِاغْتِسَالِ، وَهُوَ تَوْجِيهٌ حَسَنٌ بِالنِّسْبَةِ لِظَاهِرِ لَفْظِ الرِّوَايَةِ الَّتِي سَاقَهَا الْبُخَارِيُّ، لَكِنْ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَ الْحَدِيثِ كَمَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَرَفَ أَنَّ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ لِلْغُسْلِ لَا لِلتَّطَيُّبِ، فَرَوَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حَنْظَلَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَانَ يَغْتَسِلُ بِقَدَحٍ بَدَلَ قَوْلِهِ بِحِلَابٍ وَزَادَ فِيهِ كَانَ يَغْسِلُ يَدَيْهِ ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ الْحَدِيثَ.

وَلِلْجَوْزَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَمْدَانَ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ اغْتَسَلَ فَأُتِيَ بِحِلَابٍ فَغَسَلَ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ الْحَدِيثَ، فَقَوْلُهُ: اغْتَسَلَ وَيَغْسِلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَاءُ الْمَاءِ لَا إِنَاءُ الطِّيبِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ بِلَفْظِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ دُونَ الْحِلَابِ فَأَخَذَ بِكَفِّهِ فَبَدَأَ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ مَاءً فَأَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ، فَلَوْلَا قَوْلُهُ مَاءٌ لَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى التَّطَيُّبِ قَبْلَ الْغُسْلِ، لَكِنْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ بِلَفْظِ

ص: 370

كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ حِلَابٍ فَيَأْخُذُ غُرْفَةً بِكَفَّيْهِ فَيَجْعَلُهَا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ يَغْتَسِلُ وَقَوْلُهُ غُرْفَةٌ أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَاءُ الْمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيِّ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى شِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ وَالتَّطَيُّبِ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالصَّبِّ، فَهَذَا كُلُّهُ يُبْعِدُ تَأْوِيلَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّطَيُّبِ، وَرَأَيْتَ عَنْ بَعْضِهِمْ - وَلَا أَحْفَظُهُ الْآنَ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالطِّيبِ فِي التَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْإِحْرَامِ، قَالَ: وَالْغُسْلُ مِنْ سُنَنِ الْإِحْرَامِ وَكَأَنَّ الطِّيبَ حَصَلَ عِنْدَ الْغُسْلِ، فَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ هُنَا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِرًّا مِنْ عَادَتِهِ.

انْتَهَى، وَيُقَوِّيهِ تَبْوِيبُ الْبُخَارِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبْعَةِ أَبْوَابٍ بَابُ مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَبَقِيَ أَثَرُ الطِّيبِ ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَهَا كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ - أَيْ لَمَعَانِهِ - فِي مَفْرِقِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُ قُبَيْلَ هَذَا الْبَابِ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا فَاسْتُنْبِطَ الِاغْتِسَالُ بَعْدَ التَّطَيُّبِ مِنْ قَوْلِهَا ثُمَّ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ ; لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ وَمِنْ لَازِمِهِ الِاغْتِسَالُ، فَعُرِفَ أَنَّهُ اغْتَسَلَ بَعْدَ أَنْ تَطَيَّبَ وَبَقِيَ أَثَرُ الطِّيبِ بَعْدَ الْغُسْلِ لِكَثْرَتِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الطِّيبَ وَيُكْثِرُ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ هُنَا: مَنْ بَدَأَ بِالْحِلَابِ أَيْ بِإِنَاءِ الْمَاءِ الَّذِي لِلْغُسْلِ فَاسْتَدْعَى بِهِ لِأَجْلِ الْغُسْلِ أَوْ مَنْ بَدَأَ بِالطِّيبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْغُسْلِ، فَالتَّرْجَمَةُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَدَلَّ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى مُدَاوَمَتِهِ عَلَى الْبَدَاءَةِ بِالْغُسْلِ، وَأَمَّا التَّطَيُّبُ بَعْدَهُ فَمَعْرُوفٌ مِنْ شَأْنِهِ، وَأَمَّا الْبَدَاءَةُ بِالطِّيبِ قَبْلَ الْغُسْلِ فَبِالْإِشَارَةِ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ عِنْدِي وَأَلْيَقُهَا بِتَصَرُّفَاتِ الْبُخَارِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَعُرِفَ مِنْ هَذَ أَنَّ قَوْلَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَيُّ مَعْنًى لِلطِّيبِ عِنْدَ الْغُسْلِ مُعْتَرَضٌ، وَكَذَا قَوْلُ ابْنِ الْأَثِيرِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَفِي كَلَامِ غَيْرِهِمَا مِمَّا تَقَدَّمَ مُؤَاخَذَاتٌ لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهَا لِظُهُورِهَا، وَاللَّهُ الْهَادِي لِلصَّوَابِ.

(تَكْمِيلٌ): أَبُو عَاصِمٍ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ النَّبِيلُ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ أَكْثَرَ عَنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ لَكِنَّهُ نَزَلَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ فَأَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةً، وَحَنْظَلَةُ هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ، وَالْقَاسِمُ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُهُ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ أَيْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَقَوْلُهُ دَعَا أَيْ طَلَبَ، وَقَوْلُهُ نَحْوَ الْحِلَابِ أَيْ إِنَاءٍ قَرِيبٍ مِنَ الْإِنَاءِ الَّذِي يُسَمَّى الْحِلَابَ، وَقَدْ وَصَفَهُ أَبُو عَاصِمٍ بِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ شِبْرٍ فِي شِبْرٍ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ وَأَشَارَ أَبُو عَاصِمٍ بِكَفَّيْهِ فَكَأَنَّهُ حَلَّقَ بِشِبْرَيْهِ يَصِفُ بِهِ دَوْرَهُ الْأَعْلَى، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ كَقَدْرِ كُوزٍ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ بَعْدَ قَوْلِهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ بِكَفَّيْهِ فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ إِلَى الْغُرْفَةِ الثَّالِثَةِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ رِوَايَةُ أَبِي عَوَانَةَ، وَقَوْلُهُ بِكَفِّهِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِكَفَّيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ وَقَوْلُهُ عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كُلُّ مَوْضِعٍ صَلَحَ فِيهِ بَيْنَ فَهُوَ وَسْطٌ بِالسُّكُونِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ فَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ.

وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الْبَدَاءَةِ بِالْمَيَامِنِ فِي التَّطَهُّرِ، وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ عَلَيْهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَفِيهِ الِاجْتِزَاءُ بِالْغُسْلِ بِثَلَاثِ غُرُفَاتٍ، وَتَرْجَمَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ، وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِ فَقَالَ بِهِمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌7 - بَاب الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْجَنَابَةِ

259 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ، عَنْ

ص: 371

كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنَا مَيْمُونَةُ قَالَتْ: صَبَبْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غُسْلًا، فَأَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ، ثُمَّ غَسَلَهَا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ فَلَمْ يَنْفُضْ بِهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْجَنَابَةِ) أَيْ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَالْمُرَادُ هَلْ هُمَا وَاجِبَانِ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ اسْتَنْبَطَ عَدَمَ وُجُوبِهِمَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لِلْوُضُوءِ، وَقَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَالْمَضَمْضَمَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ مِنْ تَوَابِعِ الْوُضُوءِ فَإِذَا سَقَطَ الْوُضُوءُ سَقَطَتْ تَوَابِعُهُ، وَيُحْمَلُ مَا رُوِيَ مِنْ صِفَةِ غُسْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْكَمَالِ وَالْفَضْلِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ) أَيِ ابْنُ غِيَاثٍ كَمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ.

قَوْلُهُ: (غُسْلًا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ مَاءَ الِاغْتِسَالِ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْغُسْلِ مَرَّةً.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا، وَلِلْأَكْثَرِ بِيَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَدْ وَقَعَ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى الْقَوْلِ فِي حَدِيثِ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، قَالَ فِيهِ فِي الَّذِي يَتْلُو الْقُرْآنَ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ نَفْضِ الْيَدَيْنِ قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَيُفَسَّرُ قَالَ هُنَا بِضَرَبَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَنَحَّى) أَيْ تَحَوَّلَ إِلَى نَاحِيَةٍ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَنْفُضُ بِهَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي لَمْ يَتَمَسَّحْ وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ عَلَى إِرَادَةِ الْخِرْقَةِ ; لِأَنَّ الْمِنْدِيلَ خِرْقَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ مَنْ أَفْرَغَ عَلَى يَمِينِهِ قَالَتْ مَيْمُونَةُ فَنَاوَلْتُهُ خِرْقَةً، وَبَقِيَّةُ مَبَاحِثِ الْحَدِيثِ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ.

‌8 - بَاب مَسْحِ الْيَدِ بِالتُّرَابِ لِتَكُونَ أَنْقَى

260 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ، فَغَسَلَ فَرْجَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ دَلَكَ بِهَا الْحَائِطَ ثُمَّ غَسَلَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَسْحِ الْيَدِ بِالتُّرَابِ لِتَكُونَ أَنْقَى) أَيْ ; لِتَصِيرَ الْيَدُ أَنْقَى مِنْهَا قَبْلَ الْمَسْحِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا، وَاقْتَصَرَ الْأَكْثَرُ عَلَى حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (فَغَسَلَ فَرْجَهُ) هَذِهِ الْفَاءُ تَفْسِيرِيَّةٌ وَلَيْسَتْ تَعَقُّبِيَّةً ; لِأَنَّ غَسْلَ الْفَرْجِ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الِاغْتِسَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا.

وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا السِّيَاقِ الْإِتْيَانُ فِيهِ بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ صِفَةِ الْغُسْلِ.

‌9 - بَاب هَلْ يُدْخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ غَيْرُ الْجَنَابَةِ؟

وَأَدْخَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَدَهُ فِي الطَّهُورِ وَلَمْ يَغْسِلْهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ بَأْسًا بِمَا يَنْتَضِحُ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ.

ص: 372

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُدْخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ) أَيِ الَّذِي فِيهِ مَاءُ الْغُسْلِ (قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا) أَيْ خَارِجَ الْإِنَاءِ (إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ) أَيْ مِنْ نَجَاسَةٍ وَغَيْرِهَا (غَيْرِ الْجَنَابَةِ) أَيْ حُكْمِهَا ; لِأَنَّ أَثَرَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ قَذَرٌ، وَأَمَّا حُكْمُهَا فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ يَدَ الْجُنُبِ إِذَا كَانَتْ نَظِيفَةً جَازَ لَهُ إِدْخَالُهَا الْإِنَاءَ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَعْضَائِهِ نَجِسًا بِسَبَبِ كَوْنِهِ جُنُبًا.

قَوْلُهُ: (وَأَدْخَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَدَهُ) أَيْ أَدْخَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي الْوَقْتِ يَدَيْهِمَا بِالتَّثْنِيَةِ.

قَوْلُهُ: (فِي الطَّهُورِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيِ الْمَاءِ الْمُعَدِّ لِلِاغْتِسَالِ، وَأَثَرُ ابْنِ عُمَرَ وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِمَعْنَاهُ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ يَدَهُ قَبْلَ التَّطَهُّرِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَنْزِلَا عَلَى حَالَيْنِ: فَحَيْثُ لَمْ يَغْسِلْ كَانَ مُتَيَقِّنًا أَنْ لَا قَذَرَ فِي يَدِهِ، وَحَيْثُ غَسَلَ كَانَ ظَانًّا أَوْ مُتَيَقِّنًا أَنَّ فِيهَا شَيْئًا، أَوْ غَسَلَ لِلنَّدْبِ وَتَرَكَ لِلْجَوَازِ.

وَأَثَرُ الْبَرَاءِ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْمَطْهَرَةِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُدْخِلُونَ أَيْدِيَهُمُ الْمَاءَ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلُوهَا وَهُمْ جُنُبٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ) أَمَّا أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِمَعْنَاهُ، وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا عَنْهُ، وَتَوْجِيهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْجَنَابَةَ الْحُكْمِيَّةَ لَوْ كَانَتْ تُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ لَامْتَنَعَ الِاغْتِسَالُ مِنَ الْإِنَاءِ الَّذِي تَقَاطَرَ فِيهِ مَا لَاقَى بَدَنُ الْجُنُبِ مِنْ مَاءِ اغْتِسَالِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَرَ الصَّحَابِيُّ بِذَلِكَ بَأْسًا ; لِأَنَّهُ مِمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَكَانَ فِي مَقَامِ الْعَفْوِ، كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: وَمَنْ يَمْلِكُ انْتِشَارَ الْمَاءِ؟ إِنَّا لَنَرْجُوَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا.

261 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَخْبَرَنَا أَفْلَحُ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) زَادَ مُسْلِمٌ ابْنُ قَعْنَبٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا) وَلِكَرِيمَةَ أَخْبَرَنَا أَفْلَحُ وَهُوَ ابْنُ حُمَيْدٍ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَفْلَحَ بْنِ سَعِيدٍ شَيْئًا، وَالْقَاسِمُ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَتْنُ فِي بَابِ غُسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مَعَ مُغَايَرَةٍ فِي آخِرِهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ أَيْ لِأَجْلِ الْجَنَابةِ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَفْلَحَ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ. . فَذَكَرَهُ وَزَادَ فِيهِ وَتَلْتَقِي بَعْدَ قَوْلِهِ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَفْلَحَ تَخْتَلِفُ فِيهِ أَيْدِينَا يَعْنِي حَتَّى تَلْتَقِيَ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ يَعْنِي وَتَلْتَقِي، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَتَلْتَقِي مُدْرَجٌ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ تَخْلِيلِ الشَّعْرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهَا كُنَّا نَغْتَسِلُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْتَرِفُ مِنْهُ جَمِيعًا، فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ قَالَ وَتَلْتَقِي بِالْمَعْنَى، وَمَعْنَى تَخْتَلِفُ أَنَّهُ كَانَ يَغْتَرِفُ تَارَةً قَبْلَهَا وَتَغْتَرِفُ هِيَ تَارَةً قَبْلَهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَيُبَادِرُنِي حَتَّى أَقُولَ دَعْ لِي، زَادَ النَّسَائِيُّ وَأُبَادِرُهُ حَتَّى يَقُولَ دَعِي لِي وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ اغْتِرَافِ الْجُنُبِ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّطَهُّرِ بِذَلِكَ الْمَاءِ وَلَا بِمَا يَفْضُلُ مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ انْغِمَاسِ الْجُنُبِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّنْزِيهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُسْتَقْذَرَ، لَا لِكَوْنِهِ يَصِيرُ نَجِسًا بِانْغِمَاسِ الْجُنُبِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ جَمِيعِ بَدَنِ الْجُنُبِ وَبَيْنَ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ.

وَأَمَّا تَوْجِيهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِلتَّرْجَمَةِ فَلِأَنَّ الْجُنُبَ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ لِيَغْتَرِفَ بِهَا قَبْلَ ارْتِفَاعِ حَدَثِهِ لِتَمَامِ الْغُسْلِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِغَسْلِ يَدِهِ

ص: 373

قَبْلَ إِدْخَالِهَا لَيْسَ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْجَنَابَةِ، بَلْ إِلَى مَا لَعَلَّهُ يَكُونُ بِيَدِهِ مِنْ نَجَاسَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ أَوْ مَظْنُونَةٌ.

262 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (غَسْلُ يَدِهِ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ تَامًّا عَنْ مُسَدَّدٍ بِهَذَا السَّنَدِ لَكِنْ قَالَ يَدَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَزَادَ يَصُبُّ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى أَيْ مِنَ الْإِنَاءِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ يُفْرِغُ عَلَى شِمَالِهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ الْحَدِيثَ. وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَسَيَأْتِي نَحْوُهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنْ هِشَامٍ فِي بَابِ تَخْلِيلِ الشَّعْرِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: حَمَلَ الْبُخَارِيُّ أَحَادِيثَ الْبَابِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا غَسْلَ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا عَلَى حَالِ تَيَقُّنِ نَظَافَةِ الْيَدِ، وَحَدِيثَ هِشَامٍ - يَعْنِي هَذَا - عَلَى مَا إِذَا خَشِيَ أَنْ يَكُونَ عَلِقَ بِهَا شَيْءٌ، فَاسْتَعْمَلَ مِنِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثَيْنِ مَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَنَفَى التَّعَارُضَ عَنْهُمَا. انْتَهَى.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الْفِعْلُ عَلَى النَّدْبِ، وَالتَّرْكُ عَلَى الْجَوَازِ، أَوْ يُقَالُ: حَدِيثُ التَّرْكِ مُطْلَقٌ وَحَدِيثُ الْفِعْلِ مُقَيَّدٌ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ ; لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ الْفِعْلِ زِيَادَةً لَمْ تُذْكَرْ فِي الْأُخْرَى.

263 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ.

قَوْلُهُ: (مِنْ جَنَابَةٍ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ مِنَ الْجَنَابَةِ أَيْ لِأَجْلِ الْجَنَابَةِ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ فَلِشُعْبَةَ فِيهِ إِسْنَادَانِ إِلَى عَائِشَةَ حَدَّثَهُ أَحَدُ شَيْخَيْهِ بِهِ عَنْ عُرْوَةَ وَالْآخَرُ عَنِ الْقَاسِمِ، وَقَدْ وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُعَلَّقَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا أَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْوَلِيدِ بِالْإِسْنَادَيْنِ وَقَالَا: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ بِالْإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ فِي الْأَطْرَافِ.

قَوْلُهُ: (مِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ الْمَتْنِ الْمَذْكُورِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ بِمِثْلِهِ بِزِيَادَةِ مُوَحَّدَةٍ فِي أَوَّلِهِ.

264 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ يَغْتَسِلَانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ. زَادَ مُسْلِمٌ وَوَهْبُ عَنْ شُعْبَةَ: مِنْ الْجَنَابَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ أَيْضًا، وَهَذَا إِسْنَادٌ ثَالِثٌ لَهُ عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَتْنِ، لَكِنْ مِنْ طَرِيقِ صَحَابِيٍّ آخَرَ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ بِعَيْنِهِ تَقَدَّمَ لِمَتْنٍ آخَرَ فِي بَابِ عَلَامَةِ الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (وَالْمَرْأَةُ) يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعَ عَلَى الْعَطْفِ وَالنَّصْبَ عَلَى الْمَعِيَّةِ وَاللَّامُ فِيهَا لِلْجِنْسِ.

قَوْلُهُ: (زَادَ مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَوَهْبٌ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ وَأَبُو الْوَقْتِ بْنُ جَرِيرٍ أَيِ ابْنُ حَازِمٍ وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَوُهَيْبٍ بِالتَّصْغِيرِ، وَأَظُنُّهُ وَهْمًا فَإِنَّ الْحَدِيثَ وُجِدَ بَعْدَ تَتَبُّعِ كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ وَلَمْ نَجِدْهُ مِنْ رِوَايَةِ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْ شُعْبَةَ، وَأَمَّا وُهَيْبٌ فَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَمُرَادُ

ص: 374

الْبُخَارِيِّ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَوَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ رَوَيَا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو الْوَلِيدِ فَزَادَا فِي آخِرِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌10 - بَاب تَفْرِيقِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ

وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ بَعْدَ مَا جَفَّ وَضُوؤُهُ

265 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَغَسَلَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَفْرِيقِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ) أَيْ جَوَازُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ غَسْلَ أَعْضَائِهِ، فَمَنْ غَسَلَهَا فَقَدْ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَرَّقَهَا أَوْ نَسَقَهَا. ثُمَّ أَيَّدَ ذَلِكَ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ.

وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ: مَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَمَنْ نَسِيَ فَلَا، وَعَنْ مَالِكٍ: إِنْ قَرُبَ التَّفْرِيقُ بَنَى وَإِنْ طَالَ أَعَادَ، وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُعِيدُ إِلَّا إِنْ جَفَّ، وَأَجَازَهُ النَّخَعِيُّ مُطْلَقًا فِي الْغُسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ، ذَكَرَ جَمِيعَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ: لَيْسَ مَعَ مَنْ جَعَلَ الْجَفَافَ حَدًّا لِذَلِكَ حُجَّةٌ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْجَفَافُ لَيْسَ بِحَدَثٍ فَيَنْقُضُ كَمَا لَوْ جَفَّ جَمِيعُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لَمْ تَبْطُلِ الطَّهَارَةُ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) هَذَا الْأَثَرُ رَوَيْنَاهُ فِي الْأُمِّ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ، لَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي السُّوقِ دُونَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثُمَّ صَلَّى، وَالْإِسْنَادُ صَحِيحٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بِهِ ; لِكَوْنِهِ بِالْمَعْنَى، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَعَلَّهُ قَدْ جَفَّ وُضُوءُهُ ; لِأَنَّ الْجَفَافَ قَدْ يَحْصُلُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَيْنَ السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ) هُوَ الْبَصْرِيُّ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَتْنُ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ فِي بَابِ الْغُسْلِ مَرَّةً وَسِيَاقُهُمَا وَاحِدٌ غَالِبًا، إِلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ وَفِي هَذَا تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ وَهُمَا بِمَعْنًى، وَأَبْدَى الْكِرْمَانِيُّ مِنْ هَذَا احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ اغْتَسَلَ قَائِمًا.

‌11 - بَاب مَنْ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فِي الْغُسْلِ

266 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُسْلًا وَسَتَرْتُهُ، فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ فَغَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - قَالَ سُلَيْمَانُ: لَا أَدْرِي أَذَكَرَ الثَّالِثَةَ أَمْ لَا - ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ أَوْ بِالْحَائِطِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ، وَغَسَلَ رَأْسَهُ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، فَنَاوَلْتُهُ خِرْقَةً، فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَلَمْ يُرِدْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَفْرَغَ) هَذَا الْبَابُ مُقَدَّمٌ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ، وَابْنِ عَسَاكِرَ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ

ص: 375

بِأَنَّ الدَّعْوَى أَعَمُّ مِنَ الدَّلِيلِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ فِي غَسْلِ الْفَرْجِ بِالنَّصِّ وَفِي غَيْرِهِ بِمَا عُرِفَ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَحَلُّهُ هُنَا فِيمَا إِذَا كَانَ يَغْتَرِفُ مِنَ الْإِنَاءِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ: فَأَمَّا إِذَا كَانَ ضَيِّقًا كَالْقُمْقُمِ فَإِنَّهُ يَضَعُهُ عَنْ يَسَارِهِ وَيَصُبُّ الْمَاءَ مِنْهُ عَلَى يَمِينِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَتِهِ أَيْضًا فِي بَابِ الْغُسْلِ مَرَّةً، لَكِنَّ شَيْخَهُ هُنَاكَ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَهُنَا أَبُو عَوَانَةَ وَهُوَ الْوَضَّاحُ الْبَصْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَسَتَرْتُهُ) زَادَ ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِثَوْبٍ وَالْوَاوُ فِيهِ حَالِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (فَصَبَّ) قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ فَأَرَادَ الْغُسْلَ فَكَشَفَ رَأْسَهُ فَأَخَذَ الْمَاءَ فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَضْعُ مُعَقَّبًا بِالصَّبِّ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْإِرَادَةُ وَالْكَشْفُ يُمْكِنُ كَوْنُهُمَا وَقَعَا قَبْلَ الْوَضْعِ، وَالْأَخْذُ هُوَ عَيْنُ الصَّبِّ هُنَا، وَالْمَعْنَى وَضَعَتْ لَهُ مَاءً فَشَرَعَ فِي الْغُسْلِ، ثُمَّ شَرَحَتِ الصِّفَةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُلَيْمَانُ) أَيِ الْأَعْمَشُ، وَقَائِلُ ذَلِكَ أَبُو عَوَانَةَ، وَفَاعِلُ أَذَكَرَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَلِابْنِ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَصَبَّ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا وَلَمْ يَشُكَّ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، فَكَأَنَّ الْأَعْمَشَ كَانَ يَشُكُّ فِيهِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَجَزَمَ ; لِأَنَّ سَمَاعَ ابْنِ فُضَيْلٍ مِنْهُ مُتَأَخِّرٌ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَمَضْمَضَ) وَلِلْأَصِيلِيِّ مَضْمَضَ بِغَيْرِ تَاءٍ.

قَوْلُهُ: (وَغَسَلَ قَدَمَيْهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْأَكْثَرِ فَغَسَلَ بِالْفَاءِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ بِيَدِهِ) أَيْ أَشَارَ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُرِدْهَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ مِنَ الْإِرَادَةِ، وَالْأَصْلُ يُرِيدُهَا لَكِنْ جُزِمَ بِلَمْ، وَمَنْ قَالَهَا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ فَقَدْ صَحَّفَ وَأَفْسَدَ الْمَعْنَى، وَقَدْ حَكَى فِي الْمَطَالِعِ أَنَّهَا رِوَايَةُ ابْنِ السَّكَنِ قَالَ: وَهِيَ وَهْمٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَقَالَ هَكَذَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ لَا أُرِيدَهَا وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا فَلَمْ يَأْخُذْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌12 - بَاب إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَادَ. وَمَنْ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ

267 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَدِيٍّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَكَرْتُهُ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا.

[267 - طرفه في: 270]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَادَ) أَيْ مَا حُكْمُهُ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ عَاوَدَ أَيِ الْجِمَاعَ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِتِلْكَ الْمُجَامَعَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ بَيْنَهُمَا لَا يَجِبُ، وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ حَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدُ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَافَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى نِسَائِهِ يَغْتَسِلُ عِنْدَ هَذِهِ وَعِنْدَ هَذِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَجْعَلُهُ غُسْلًا وَاحِدًا؟ قَالَ: هَذَا أَزْكَى وَأَطْيَبُ وَأَطْهَرُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْوُضُوءِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُسْتَحَبُّ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُسْتَحَبُّ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: يَجِبُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَفْصٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْهُ.

وَأَشَارَ ابْنُ خُزَيْمَةَ إِلَى أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ حَمَلَهُ عَلَى الْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ

ص: 376

فَقَالَ: الْمُرَادُ بِهِ غَسْلُ الْفَرْجِ، ثُمَّ رَدَّهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: فَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، وَأَظُنُّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِ الْفَرْجِ إِذَا أَرَادَ الْعَوْدَ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ كَرِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَزَادَ: فَإِنَّهُ أَنْشَطُ لِلْعَوْدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِرْشَادِ أَوْ لِلنَّدْبِ.

وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لِغَيْرِ الْوُجُوبِ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُجَامِعُ ثُمَّ يَعُودُ وَلَا يَتَوَضَّأُ.

قَوْلُهُ: (وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْقَطَّانُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ فِي الْقِرَاءَةِ قَبْلَ قَوْلِهِ عَنْ شُعْبَةَ لَفْظُ كِلَاهُمَا ; لِأَنَّ كُلًّا مِنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، وَيَحْيَى رَوَاهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَحَذْفُ كِلَاهُمَا مِنَ الْخَطِّ اصْطِلَاحٌ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرْتُهُ) أَيْ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ بَعْدَ بَابٍ وَهُوَ قَوْلُهُ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا وَقَدْ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنِ الرَّجُلِ يَتَطَيَّبُ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا فَذَكَرَهُ وَزَادَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ; لَأَنْ أُطْلَى بِقَطْرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ وَكَذَا سَاقَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِتَمَامِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَصَرَهُ لِكَوْنِ الْمَحْذُوفِ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ حَدَّثَهُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ مُخْتَصَرًا.

قَوْلُهُ: (أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ اسْتَرْحَمَتْ لَهُ عَائِشَةُ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ قَدْ سَهَا فِيمَا قَالَهُ إِذْ لَوِ اسْتَحْضَرَ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَيَطُوفُ) كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ تَجْدِيدُ الْعَهْدِ بِهِنَّ. قُلْتُ: وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ يُرَجِّحُهُ الْحَدِيثُ الثَّانِي ; لِقَوْلِهِ فِيهِ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاثِينَ وَيَطُوفُ فِي الْأَوَّلِ مِثْلُ يَدُورُ فِي الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (يَنْضَخُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: النَّضْخُ بِالْمُعْجَمَةِ أَكْثَرُ مِنَ النَّضْحِ بِالْمُهْمَلَةِ. وَسَوَّى بَيْنَهُمَا أَبُو زَيْدٍ وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهُ بِالْمُعْجَمَةِ لِمَا ثَخُنَ وَبِالْمُهْمَلَةِ ; لِمَا رَقَّ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ عَيْنَ الطِّيبِ بَقِيَتْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: بِحَيْثُ إنَّهُ صَارَ كَأَنَّهُ يَتَسَاقَطُ مِنْهُ الشَّيْءُ بَعْدَ الشَّيْءِ. وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

268 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ قَالَ قُلْتُ لِأَنَسٍ أَوَكَانَ يُطِيقُهُ قَالَ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاثِينَ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ إِنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ تِسْعُ نِسْوَةٍ.

[الحديث 268 - أطرافه في: 5215، 5068، 284]

قَوْلُهُ: (مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ) الْمُرَادُ بِهَا قَدْرٌ مِنَ الزَّمَانِ لَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ.

قَوْلُهُ: (مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ جَزَمَ بِهِ الْكِرْمَانِيُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى بَابِهَا بِأَنْ تَكُونَ تِلْكَ السَّاعَةُ جُزْءًا مِنْ آخِرِ أَحَدِهِمَا وَجُزْءًا مِنْ أَوَّلِ الْآخَرِ.

قَوْلُهُ: (وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ) قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: تَفَرَّدَ بِذَلِكَ مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ فَقَالُوا تِسْعُ نِسْوَةٍ. انْتَهَى.

وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ فَعَلَّقَهَا هُنَا وَوَصَلَهَا

ص: 377

بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ بَابًا بِلَفْظِ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى حَالَتَيْنِ لَكِنَّهُ وَهِمَ فِي قَوْلِهِ أَنَّ الْأُولَى كَانَتْ فِي أَوَّلِ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ حَيْثُ كَانَ تَحْتَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ وَالْحَالَةَ الثَّانِيَةَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ حَيْثُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً وَمَوْضِعُ الْوَهْمِ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ سِوَى سَوْدَةَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فِي الْخَامِسَةِ ثُمَّ جُوَيْرِيَةَ فِي السَّادِسَةِ ثُمَّ صَفِيَّةَ وَأُمَّ حَبِيبَةَ، وَمَيْمُونَةَ فِي السَّابِعَةِ وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ بِهِنَّ مِنَ الزَّوْجَاتِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَاخْتُلِفَ فِي رَيْحَانَةَ وَكَانَتْ مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَجَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ فَاخْتَارَتِ الْبَقَاءَ فِي مِلْكِهِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَهُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَكَذَا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ بَعْدَ دُخُولِهَا عَلَيْهِ بِقَلِيلٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَكَثَتْ عِنْدَهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. فَعَلَى هَذَا لَمْ يَجْتَمِعْ عِنْدَهُ مِنَ الزَّوْجَاتِ أَكْثَرُ مِنْ تِسْعٍ مَعَ أَنَّ سَوْدَةَ كَانَتْ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ، فَرَجَحَتْ رِوَايَةُ سَعِيدٍ.

لَكِنْ تُحْمَلُ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَلَى أَنَّهُ ضَمَّ مَارِيَةَ وَرَيْحَانَةَ إِلَيْهِنَّ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِنَّ لَفْظَ نِسَائِهِ تَغْلِيبًا. وَقَدْ سَرَدَ الدِّمْيَاطِيُّ - فِي السِّيرَةِ الَّتِي جَمَعَهَا - مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَزْوَاجِهِ مِمَّنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا فَقَطْ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ خَطَبَهَا وَلَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا فَبَلَغَتْ ثَلَاثِينَ، وَفِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ تَزَوَّجَ خَمْسَ عَشْرَةَ: دَخَلَ مِنْهُنَّ بِإِحْدَى عَشْرَةَ وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ. وَسَرَدَ أَسْمَاءَهُنَّ أَيْضًا أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمُرِيُّ ثُمَّ مُغَلْطَايْ، فَزِدْنَ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِي ذَكَرَهُ الدِّمْيَاطِيُّ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ ذَلِكَ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْكَثْرَةَ الْمَذْكُورَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ، وَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ تَنْقُصُ الْعِدَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَوَ كَانَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ هُوَ مَقُولُ قَتَادَةَ وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَمُمَيَّزُ ثَلَاثِينَ مَحْذُوفٌ أَيْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى عنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ أَرْبَعِينَ بَدَلَ ثَلَاثِينَ وَهِيَ شَاذَّةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ فِي مَرَاسِيلِ طَاوُسٍ مِثْلُ ذَلِكَ وَزَادَ فِي الْجِمَاعِ وَفِي صِفَةِ الْجَنَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ وَزَادَ مِنْ رِجَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَرَفَعَهُ أُعْطِيتُ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ فِي الْبَطْشِ وَالْجِمَاعِ وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَفَعَهُ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَالشَّهْوَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حِسَابُ قُوَّةِ نَبِيِّنَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ كَذَا لِلْجَمِيعِ إِلَّا أَنَّ الْأَصِيلِيَّ قَالَ: إِنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ شُعْبَةَ بَدَلَ سَعِيدٍ قَالَ وَفِي عَرْضِنَا عَلَى أَبِي زَيْدٍ بِمَكَّةَ سَعِيدٌ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ وَصَلَ رِوَايَةَ سَعِيدٍ وَأَمَّا رِوَايَةُ شُعْبَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ قَتَادَةَ فَقَدْ وَصَلَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ دَوَرَانِهِ عَلَى نِسَائِهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّرْجَمَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ طَافَ عَلَيْهِنَّ وَاغْتَسَلَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ فِعْلَةٍ غُسْلًا. قَالَ وَالِاحْتِمَالُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْلَةِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي السَّاعَةِ. قُلْتُ: التَّقْيِيدُ بِاللَّيْلَةِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَحَيْثُ جَاءَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِاللَّيْلَةِ قَيَّدَ الِاغْتِسَالَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَاتٍ لِلنَّسَائِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ وَوَقَعَ التَّقْيِيدُ بِالْغُسْلِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّيْلَةِ فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى لَهُمْ، وَلِمُسْلِمٍ وَحَيْثُ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ التَّقْيِيدُ بِالسَّاعَةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْيِيدِ الْغُسْلِ بِالْمَرَّةِ ; لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ، وَحَيْثُ جَاءَ فِيهَا تَكْرَارُ الْمُبَاشَرَةِ وَالْغُسْلِ مَعًا وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ فِي التَّرْجَمَةِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا فِيمَا أَخْرَجَهُ كَمَا جَرَتْ بِهِ

ص: 378

عَادَتُهُ، وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ لِيَتَوَافَقَا، وَمِنْ لَازِمِ جِمَاعِهِنَّ فِي السَّاعَةِ أَوِ اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ عَوْدُ الْجِمَاعِ كَمَا تَرْجَمَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ النِّسَاءِ وَأَشَارَ فِيهِ إِلَى أَنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ جَزَمَ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّة وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ الْوُجُوبُ وَيَحْتَاجُ مَنْ قَالَ بِهِ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِرِضَا صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ كَمَا اسْتَأْذَنَهُنَّ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ يَحْصُلُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِسْمَةِ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْقِسْمَةَ، وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ إِقْبَالِهِ مِنْ سَفَرٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا سَافَرَ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرُ بِمَنْ يَخْرُجُ سَهْمُهَا فَإِذَا انْصَرَفَ اسْتَأْنَفَ وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَكَذَا الثَّانِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ يَقَعُ قَبْلَ وُجُوبِ الْقِسْمَةِ ثُمَّ تَرَكَ بَعْدَهَا. وَأَغْرَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَصَّ نَبِيَّهُ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّهُ أَعْطَاهُ سَاعَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ لَا يَكُونُ لِأَزْوَاجِهِ فِيهَا حَقٌّ يَدْخُلُ فِيهَا عَلَى جَمِيعِهِنَّ، فَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ثُمَّ يَسْتَقِرُّ عِنْدَ مَنْ لَهَا النَّوْبَةُ، وَكَانَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ بَعْدَ الْعَصْرِ فَإِنْ اشْتَغَلَ عَنْهَا كَانَتْ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ مَا ذَكَرَهُ مُفَصَّلًا.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مَا أُعْطِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجِمَاعِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الْبِنْيَةِ وَصِحَّةِ الذُّكُورِيَّةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي كَثْرَةِ أَزْوَاجِهِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي لَيْسَتْ ظَاهِرَةً يَطَّلِعْنَ عَلَيْهَا فَيَنْقُلْنَهَا، وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ، وَمِنْ ثَمَّ فَضَّلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَاقِيَاتِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ التِّينِ لِقَوْلِ مَالِكٍ بِلُزُومِ الظِّهَارِ مِنَ الْإِمَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّائِدَتَيْنِ عَلَى التِّسْعِ مَارِيَةُ وَرَيْحَانَةُ، وَقَدْ أَطْلَقَ عَلَى الْجَمِيعِ لَفْظَ نِسَائِهِ وتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْإِطْلَاقَ الْمَذْكُورَ لِلتَّغْلِيبِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَا ادَّعَى، وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْحُرَّةِ بَعْدَ الْأَمَةِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ بَيْنَهُمَا وَلَا غَيْرِهِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَتَأَكَّدُ الِاسْتِحْبَابُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ.

‌13 - بَاب غَسْلِ الْمَذْيِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ

269 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَأَمَرْتُ رَجُلًا أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِمَكَانِ ابْنَتِهِ فَسَأَلَ فَقَالَ تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ الْمَذْيِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ) أَيْ بِسَبَبِهِ وَفِي الْمَذْيِ لُغَاتٌ أَفْصَحُهَا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ ثُمَّ بِكَسْرِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ لَزِجٌ يَخْرُجُ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ أَوْ تَذَكُّرِ الْجِمَاعِ أَوْ إِرَادَتِهِ وَقَدْ لَا يُحِسُّ بِخُرُوجِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ السُّلَمِيُّ.

قَوْلُهُ: (مَذَّاءٌ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْمَذْيِ يُقَالُ مَذَى يَمْذِي مِثْلُ مَضَى يَمْضِي ثُلَاثِيًّا وَيُقَالُ أَيْضًا أَمْذَى يُمْذِي بِوَزْنِ أَعْطَى يُعْطِي رُبَاعِيًّا.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرْتُ رَجُلًا) هُوَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَزَادَ فِيهِ فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ.

قَوْلُهُ: (لِمَكَانِ ابْنَتِهِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيٍّ مِنْ أَجْلِ فَاطِمَةَ رضي الله عنهما.

قَوْلُهُ: (تَوَضَّأْ) هَذَا الْأَمْرُ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمِقْدَادَ سَأَلَ لِنَفْسِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ لِمُبْهَمٍ أَوْ لِعَلِيٍّ فَوَجَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخِطَابَ إِلَيْهِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ حَاضِرَ السُّؤَالِ فَقَدْ أَطْبَقَ أَصْحَابُ الْمَسَانِيدِ وَالْأَطْرَافِ عَلَى إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُسْنَدِ عَلِيٍّ وَلَوْ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ لَأَوْرَدُوهُ فِي مُسْنَدِ الْمِقْدَادِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا

ص: 379

فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ فَقُلْتُ لِرَجُلٍ جَالِسٍ إِلَى جَنْبِي سَلْهُ فَسَأَلَهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ بِلَفْظِ الْغَائِبِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ الْمِقْدَادِ وَقَعَ عَلَى الْإِبْهَامِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا فَسَأَلَهُ عَنِ الْمَذْيِ يَخْرُجُ مِنَ الْإِنْسَانِ.

وَفِي الْمُوَطَّأِ نَحْوُهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ ذِكْرُ سَبَبِ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ قَبِيصَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَجَعَلْتُ أَغْتَسِلُ مِنْهُ فِي الشِّتَاءِ حَتَّى تَشَقَّقَ ظَهْرِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَفْعَلْ وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ نَحْوُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ أَمَرْتُ عَمَّارًا أَنْ يَسْأَلَ وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ سَأَلْتُ.

وَجَمَعَ ابْنُ حِبَّانَ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ عَمَّارًا أَنْ يَسْأَلَ ثُمَّ أَمَرَ الْمِقْدَادَ بِذَلِكَ ثُمَّ سَأَلَ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ جَمْعٌ جَيِّدٌ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخِرِهِ ; لِكَوْنِهِ مُغَايِرًا لِقَوْلِهِ إِنَّهُ اسْتَحْيَى مِنَ السُّؤَالِ بِنَفْسِهِ لِأَجْلِ فَاطِمَةَ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ بِأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ أَطْلَقَ أَنَّهُ سَأَلَ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِذَلِكَ وَبِهَذَا جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ ثُمَّ النَّوَوِيُّ، وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُ أَمَرَ كُلًّا مِنَ الْمِقْدَادِ، وَعَمَّارٍ بِالسُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ تَذَاكَرَ عَلِيٌّ، وَالْمِقْدَادُ، وَعَمَّارٌ الْمَذْيَ فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّنِي رَجُلٌ مَذَّاءٌ فَاسْأَلَا عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ وَصَحَّحَ ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ الْمِقْدَادُ، وَعَلَى هَذَا فَنِسْبَةُ عَمَّارٍ إِلَى أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَجَازِ أَيْضًا ; لِكَوْنِهِ قَصَدَهُ لَكِنْ تَوَلَّى الْمِقْدَادُ الْخِطَابَ دُونَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأْ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ بِخُرُوجِ الْمَذْيِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ وَعَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ كَالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنَ الْبَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ اسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ بِهِ فِي بَابِ: مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلَّا مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَذْيِ فَقَالَ فِيهِ الْوُضُوءُ وَفِي الْمَنِيِّ الْغُسْلُ، فَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ حُكْمَ الْمَذْيِ حُكْمُ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ لَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ بِمُجَرَّدِهِ.

قَوْلُهُ: (وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ تَقْدِيمُ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ عَلَى غَسْلِهِ، وَوَقَعَ فِي الْعُمْدَةِ نِسْبَةُ إِلَى الْبُخَارِيِّ بِالْعَكْسِ لَكِنَّ الْوَاوَ لَا تُرَتِّبُ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ غَسْلِهِ عَلَى الْوُضُوءِ وَهُوَ أَوْلَى، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ عَلَى غَسْلِهِ لَكِنْ مَنْ يَقُولُ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّهِ يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَائِلٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى تَعَيُّنِ الْمَاءِ فِيهِ دُونَ الْأَحْجَارِ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يُعَيِّنُ الْغَسْلَ، وَالْمُعَيَّنُ لَا يَقَعُ الِامْتِثَالُ إِلَّا بِهِ، وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَصَحَّحَ فِي بَاقِي كُتُبِهِ جَوَازَ الِاقْتِصَارِ إِلْحَاقًا بِالْبَوْلِ

(1)

. وَحَمْلًا لِلْأَمْرِ بِغَسْلِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَهَذَا الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى إِيجَابِ اسْتِيعَابِهِ بِالْغَسْلِ عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ نَظَرُوا إِلَى الْمَعْنَى فَإِنَّ الْمُوجوبَ لِغَسْلِهِ إِنَّمَا هُوَ خُرُوجُ الْخَارِجِ فَلَا تَجِبُ الْمُجَاوَزَةُ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي رِوَايَةِ فَقَالَ تَوَضَّأْ وَاغْسِلْهُ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْمَذْيِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ فَإِنَّ النَّقْضَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَسِّ جَمِيعِهِ.

وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ غَسْلِ جَمِيعِهِ هَلْ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى أَوْ لِلتَّعَبُّدِ؟ فَعَلَى الثَّانِي تَجِبُ

(1)

الصواب ماقاله ابن دقيق العيد من تعيين الماء في غسل المذي عملا بظاهر الحديث. ويؤيده ماثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغسل ذكره وأنثييه. وهذاحكم يخص المذي دون البول. والله أعلم

ص: 380

النِّيَّةُ فِيهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِغَسْلِهِ لِوُجُوبِ غَسْلِهِ كُلِّهِ بَلْ لِيَتَقَلَّصَ فَيَبْطُلَ خُرُوجُهُ كَمَا فِي الضَّرْعِ إِذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ يَتَفَرَّقُ لَبَنُهُ إِلَى دَاخِلِ الضَّرْعِ فَيَنْقَطِعُ بِخُرُوجِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى نَجَاسَةِ الْمَذْيِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمَذْيَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنِيِّ رِوَايَةً بِطَهَارَتِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنِيًّا لَوَجَبَ الْغُسْلُ مِنْهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ بِهِ سَلَسُ الْمَذْيِ ; لِلْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مَعَ الْوَصْفِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ الْكَثْرَةَ هُنَا نَاشِئَةٌ عَنْ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ مَعَ صِحَّةِ الْجَسَدِ بِخِلَافِ صَاحِبِ السَّلَسِ فَإِنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ عِلَّةٍ فِي الْجَسَدِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَمَرَ الشَّارِعُ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَعَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْخَبَرِ الْمَظْنُونِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَقْطُوعِ، وَفِيهِمَا نَظَرٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ بِحَضْرَةِ عَلِيٍّ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ فِي غَيْبَتِهِ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى الْمُدَّعَى لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَحُفُّ الْخَبَرَ فَتُرَقِّيهِ عَنِ الظَّنِّ إِلَى الْقَطْعِ قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ أَنَّهُ صُورَةٌ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي تَدُلُّ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِجُمْلَتِهَا لَا بِفَرْدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا.

وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِنَابَةِ فِي الِاسْتِفْتَاءِ وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ دَعْوَى الْوَكِيلِ بِحَضْرَةِ مُوَكِّلِهِ، وَفِيهِ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ حُرْمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَوْقِيرِهِ.

وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْأَدَبِ فِي تَرْكِ الْمُوَاجَهَةِ بِمَا يُسْتَحيى مِنْهُ عُرْفًا. وَحُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَصْهَارِ. وَتَرْكُ ذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِجِمَاعِ الْمَرْأَةِ وَنَحْوِهِ بِحَضْرَةِ أَقَارِبِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ بِهِ فِي الْعِلْمِ لِمَنِ اسْتَحْيَى فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالسُّؤَالِ ; لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ: اسْتِعْمَالِ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ التَّفْرِيطِ فِي مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ.

‌14 - بَاب مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَبَقِيَ أَثَرُ الطِّيبِ

270 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَذَكَرْتُ لَهَا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا.

271 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ.

[الحديث 271 - أطرافه في 5923، 5918، 1538]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ قَبْلَ بَابٍ، وَمَوْضِعُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ قَوْلَهَا طَافَ فِي نِسَائِهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ وَمِنْ لَازِمِهِ الِاغْتِسَالُ. وَقَدْ ذَكَرَتْ أَنَّهَا طَيَّبَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ أَصْبَحَ مُحْرِمًا. وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا وُقُوعُ رَدِّ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَلَى بَعْضٍ بِالدَّلِيلِ وَاطِّلَاعُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ، وَخِدْمَةُ الزَّوْجَاتِ لِأَزْوَاجِهِنَّ، وَالتَّطَيُّبُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَجِّ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ اتِّخَاذُ الطِّيبِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عِنْدَ الْجِمَاعِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَكَمُ) هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ هُوَ وَشَيْخُهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَشَيْخُهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ فُقَهَاءُ كُوفِيُّونَ تَابِعِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (وَبِيصَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا

ص: 381

يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ صَادٌ مُهْمَلَةٌ هُوَ الْبَرِيقُ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَبِيصُ الطِّيبِ تَلَأْلُؤُهُ، وَذَلِكَ لِعَيْنٍ قَائِمَةٍ لَا لِلرِّيحِ فَقَطْ.

قَوْلُهُ: (مَفْرِقِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا. وَدَلَالَةُ هَذَا الْمَتْنِ عَلَى التَّرْجَمَةِ إِمَّا لِكَوْنِهَا قِصَّةً وَاحِدَةً وَإِمَّا لِأَنَّ مِنْ سُنَنِ الْإِحْرَامِ الْغُسْلَ عِنْدَهُ وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَعُهُ.

وَفِيهِ أَنَّ بَقَاءَ الطِّيبِ عَلَى بَدَنِ الْمُحْرِمِ لَا يَضُرُّ بِخِلَافِ ابْتِدَائِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ.

‌15 - بَاب تَخْلِيلِ الشَّعَرِ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ

272 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيْهِ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اغْتَسَلَ ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدِهِ شَعَرَهُ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ.

273 -

وَقَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْرِفُ مِنْهُ جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَخْلِيلِ الشَّعْرِ) أَيْ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا اغْتَسَلَ) أَيْ أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ.

قَوْلُهُ: (إِذَا ظَنَّ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ، وَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْغَلَبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَلِمَ.

قَوْلُهُ: (أَرْوَى) هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْإِرْوَاءِ، يُقَالُ أَرْوَاهُ إِذَا جَعَلَهُ رَيَّانًا، وَالْمُرَادُ بِالْبَشَرَةِ هُنَا مَا تَحْتَ الشَّعْرِ.

قَوْلُهُ: (أَفَاضَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى شَعْرِهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ) أَيْ بَقِيَّةَ جَسَدِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْغُسْلِ هُنَا عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ سَائِرَ هُنَا بِمَعْنَى الْجَمِيعِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. وَبَقِيَّةُ مَبَاحِثِ الْحَدِيثِ تَقَدَّمَتْ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ) أَيْ عَائِشَةُ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (نَغْرِفُ) بإِسْكَانُ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ مَكْسُورَةٌ وَلَهُ فِي الِاعْتِصَامِ نَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي بَابِ: هَلْ يُدْخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ فِي الطَّهُورِ.

‌16 - بَاب مَنْ تَوَضَّأَ فِي الْجَنَابَةِ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مَرَّةً أُخْرَى

274 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالَ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضُوء الِجَنَابَةٍ فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ ضَرَبَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ أَوْ الْحَائِطِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ قَالَتْ فَأَتَيْتُهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا فَجَعَلَ يَنْفُضُ بِيَدِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَوَضَّأَ فِي الْجَنَابَةِ) سَقَطَ مِنْ أَوَاخِرِ التَّرْجَمَةِ لَفْظُ مِنْهُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا) وَلِأَبِي ذَرٍّ (حَدَّثَنَا الْفَضْلُ).

قَوْلُهُ: (وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُضُوءَ الْجَنَابَةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْإِضَافَةِ، وَلِكَرِيمَةَ

ص: 382

وُضُوءًا بِالتَّنْوِينِ لِجَنَابَةٍ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ للجَنَابَةٌ وَلِرَفِيقَيْهِ وُضِعَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ لِرَسُولِ اللَّهِ بِزِيَادَةِ اللَّامِ أَيْ لِأَجْلِهِ وُضُوءٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ.

قَوْلُهُ: (فَكَفَأَ) وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فَأَكْفَأَ أَيْ قَلَبَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى يَسَارِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْمُسْتَمْلِي وَكَرِيمَةَ عَلَى شِمَالِهِ.

قَوْلُهُ: (ضَرَبَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ ضَرْبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَلْيَقُ بِالتَّرْجَمَةِ ; لِأَنَّ فِيهِ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَفِيهِ ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ فَدَخَلَ فِي عُمُومِهِ مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ فَلَا يُطَابِقُ قَوْلُهُ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ وَالْعُرْفِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ يَخُصُّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ فَإِنَّ تَقْدِيمَ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَعُرْفُ النَّاسِ مِنْ مَفْهُومِ الْجَسَدِ إِذَا أُطْلِقَ بَعْدَهُ يُعْطِي ذَلِكَ اهـ. وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ. وَأَجَابَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ أَيْ مَا بَقِيَ مِنْ جَسَدِهِ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ تِلْكَ الْقِصَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي أَوَائِلِ الْغُسْلِ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَفْظُ جَسَدِهِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، أَوِ الْمُرَادُ هُنَا بِسَائِرِ جَسَدِهِ أَيْ بَاقِيهِ بَعْدَ الرَّأْسِ لَا أَعْضَاءُ الْوُضُوءِ. قُلْتُ: وَمِنْ لَازِمِ هَذَا التَّقْريرِ أَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلتَّرْجَمَةِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ حَمَلَ قَوْلُهُ ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ عَلَى الْمَجَازِ أَيْ مَا بَقِيَ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِذْ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ غَسَلَ جَسَدَهُ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ لَمْ يَحْتَجْ لِغَسْلِ رِجْلَيْهِ ثَانِيًا ; لِأَنَّ غَسْلَهُمَا كَانَ يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِتَصَرُّفَاتِ الْبُخَارِيِّ إِذْ مِنْ شَأْنِهِ الِاعْتِنَاءُ بِالْأَخْفَى أَكْثَرَ مِنَ الْأَجْلَى. وَاسْتَنْبَطَ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يُعِدْ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ إِجْزَاءَ غُسْلِ الْجُمْعَةِ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَإِجْزَاءَ الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ الْمُجَدَّدِ لِمَنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ التَّجْدِيدِ مُحْدِثًا.

وَالِاسْتِنْبَاطُ الْمَذْكُورُ مَبْنِيٌّ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْوَاقِعَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ سُنَّةٌ وَأَجْزَأَ مَعَ ذَلِكَ عَنْ غَسْلِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ بَعْدَهُ. وَهِيَ دَعْوَى مَرْدُودَةٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ، فَمَنْ نَوَى غَسْلَ الْجَنَابَةِ وَقَدَّمَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ لِفَضِيلَتِهِ ثُمَّ غَسَلَهُ وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ الْمَذْكُورُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ) سَقَطَ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَلِلْأَصِيلِيِّ فَجَعَلَ يَنْفُضُ بِيَدِهِ. وَبَاقِي مَبَاحِثِ الْمَتْنِ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْغُسْلِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

‌17 - بَاب إِذَا ذَكَرَ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ خرج كَمَا هُوَ وَلَا يَتَيَمَّمُ

275 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَعُدِّلَتْ الصُّفُوفُ قِيَامًا فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَقَالَ لَنَا: مَكَانَكُمْ ثُمَّ رَجَعَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ تَابَعَهُ عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

[الحديث 275 - طرفاه في: 640، 639]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا ذَكَرَ) أَيْ تَذَكَّرَ الرَّجُلُ وَهُوَ (فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ خَرَجَ)، وَلِأَبِي ذَرٍّ، وَكَرِيمَةَ يَخْرُجُ (كَمَا هُوَ أَيْ عَلَى حَالِهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَتَيَمَّمُ) إِشَارَةٌ إِلَى رَدِّ مَنْ يُوجِبُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ،

ص: 383

وكَذَا قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَنْ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَاحْتَلَمَ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ. وَوَرَدَ ذَكَرَ بِمَعْنَى تَذَكَّرَ مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ كَثِيرًا وَإِنْ كَانَ الْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ مِنَ الذِّكْرِ بِكَسْرِهَا. وَقَوْلُهُ خَرَجَ كَمَا هُوَ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذِهِ الْكَافُ كَافُ الْمُقَارَنَةِ لَا كَافُ التَّشْبِيهِ كَذَا قَالَ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالتَّشْبِيهُ هُنَا لَيْسَ مُمْتَنِعًا لِأَنْ يَتَعَلَّقَ بِحَالَتِهِ أَيْ خَرَجَ فِي حَالَةٍ شَبِيهَةٍ بِحَالَتِهِ الَّتِي قَبْلَ خُرُوجِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُحْدِثِ لَمْ يَفْعَلْ مَا يَرْفَعُهُ مِنْ غَسْلٍ أَوْ مَا يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ التَّيَمُّمِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.

قَوْلُهُ: (وَعُدِّلَتْ) أَيْ سُوِّيَتْ وَكَانَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُكَبِّرَ حَتَّى تَسْتَوِيَ الصُّفُوفُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ ذَكَرَ) أَيْ تَذَكَّرَ لَا أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَفْظًا وَعِلْمُ الرَّاوِي بِذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ أَوْ بِإِعْلَامِهِ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَنَا: مَكَانَكُمْ) بِالنَّصْبِ أَيْ: الْزَمُوا مَكَانَكُمْ. وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ مَكَانَكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَعَ بَيْنَ الْكَلَامِ وَالْإِشَارَةِ.

قَوْلُهُ: (وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ) أَيْ مِنْ مَاءِ الْغُسْلِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فَكَبَّرَ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِقَامَةِ السَّابِقَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ التَّخَلُّلِ الْكَثِيرِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، وَسَيَأْتِي مَعَ بَقِيَّةِ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قُبَيْلَ أَبْوَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ أَبْوَابِ الْأَذَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبْدُ الْأَعْلَى) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْبَصْرِيُّ وَرِوَايَتُهُ مَوْصُولَةٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْهُ، وَقَدْ تَابَعَ عُثْمَانَ بْنَ عُمَرَ رَاوِيَهُ عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَهَذِهِ مُتَابَعَةٌ تَامَّةٌ.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ) رِوَايَتُهُ مَوْصُولَةٌ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ السَّبَبَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَابَعَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ رَوَاهُ كَوْنُ الْمُتَابَعَةِ وَقَعَتْ بِلَفْظِهِ وَالرِّوَايَةِ بِمَعْنَاهُ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، بَلْ هُوَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ.

‌18 - بَاب نَفْضِ الْيَدَيْنِ مِنْ الْغُسْلِ عَنْ الْجَنَابَةِ

276 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ، عَنْ سَالِمِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غُسْلًا فَسَتَرْتُهُ بِثَوْبٍ وَصَبَّ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ فَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَمَسَحَهَا ثُمَّ غَسَلَهَا فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ ثُمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ وَأَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَانْطَلَقَ وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ نَفْضِ الْيَدَيْنِ مِنَ الْغُسْلِ عَنِ الْجَنَابَةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَكَرِيمَةَ. وَلِلْبَاقِينَ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ) هُوَ السُّكَّرِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَ وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ نَفْضِ مَاءِ الْغَسِيلِ وَالْوُضُوءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْغُسْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ مَرْوَزِيَّانِ: عَبْدَانُ وَشَيْخُهُ، وَكُوفِيَّانِ: الْأَعْمَشُ وَشَيْخُهُ، وَمَدَنِيَّانِ: كُرَيْبٌ وَشَيْخُهُ، وَفِيمَا قَبْلَهُ بِبَابٍ كَذَلِكَ لِأَنَّ يُوسُفَ بْنَ عِيسَى وَشَيْخَهُ مَرْوَزِيَّانِ، وَفِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ بَصْرِيَّانِ: مُوسَى، وَأَبُو عَوَانَةَ وَكَذَا مُوسَى، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ، وَكَذَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ، وَفِيمَا قَبْلُ أَيْضًا مَكِّيَّانِ: الْحُمَيْدِيُّ، وَسُفْيَانُ، وَكُلُّهُمْ رَوَوْهُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

‌19 - بَاب مَنْ بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ فِي الْغُسْلِ

277 -

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ

ص: 384

عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا إِذَا أَصَابَتْ إِحْدَانَا جَنَابَةٌ أَخَذَتْ بِيَدَيْهَا ثَلَاثًا فَوْقَ رَأْسِهَا ثُمَّ تَأْخُذُ بِيَدِهَا عَلَى شِقِّهَا الْأَيْمَنِ وَبِيَدِهَا الْأُخْرَى عَلَى شِقِّهَا الْأَيْسَرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ فِي الْغُسْلِ) تَقَدَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي بَابِ مَنْ بَدَأَ بِالْحِلَابِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى) هَذَا مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ كُوفِيٌّ سَكَنَ مَكَّةَ، وَمَنْ فَوْقَهُ إِلَى عَائِشَةَ مَكِّيُّونَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَفِيَّةَ) وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ صَفِيَّةَ وَهِيَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَأَبُوهَا شَيْبَةُ هُوَ ابْنُ عُثْمَانَ الْحَجَبِيُّ الْعَبْدَرِيُّ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ.

قَوْلُهُ: (أَصَابَ) وَلِكَرِيمَةَ أَصَابَتْ (إِحْدَانَا) أَيْ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِلْحَدِيثِ حُكْمُ الرَّفْعِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَصِيرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا حُكْمَ الرَّفْعِ سَوَاءٌ صَرَّحَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم أَمْ لَا، وَبِهِ جَزَمَ الْحَاكِمُ.

قَوْلُهُ: (أَخَذَتْ بِيَدَيْهَا) وَلِكَرِيمَةَ بِيَدِهَا أَيِ الْمَاءَ، وَصَرَّحَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَوْقَ رَأْسِهَا) أَيْ فَصَبَّتْهُ فَوْقَ رَأْسِهَا وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ أَخَذَتْ بِيَدَيْهَا الْمَاءَ ثُمَّ صَبَّتْ عَلَى رَأْسِهَا.

قَوْلُهُ: (وَبِيَدِهَا الْأُخْرَى) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ ثُمَّ أَخَذَتْ بِيَدِهَا وَهِيَ أَدَلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْأُخْرَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أُولَى وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى تَقْدِيمِ أَيْمَنِ الشَّخْصِ لَا أَيْمَنِ رَأْسِهِ، فَكَيْفَ يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ؟ أَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَيْمَنِ الشَّخْصِ أَيَمْنُهُ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمِهِ، فَيُطَابِقُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ حَمَلَ الثَّلَاثَ فِي الرَّأْسِ عَلَى التَّوْزِيعِ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ: مَنْ بَدَأَ بِالْحِلَابِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌20 - بَاب مَنْ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِي الْخَلْوَةِ وَمَنْ تَسَتَّرَ فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ

وَقَالَ بَهْزُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ مِنْ النَّاسِ

278 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَكَانَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ ثَوْبِي يَا حَجَرُ حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ.

[الحديث 278 - طرفاه في: 4799، 3404]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِي خَلْوَةٍ) أَيْ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ وَحْدَهُ وَدَلَّ قَوْلُهُ أَفْضَلُ عَلَى الْجَوَازِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَكَأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ مَرْفُوعًا إِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ قَالَهُ لِرَجُلٍ رَآهُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا وَحْدَهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلِلْبَزَّارِ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَهْزٌ) زَادَ الْأَصِيل يُّ ابْنُ حَكِيمٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَدِّهِ) هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ

ص: 385

وَيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ صَحَابِيٌّ مَعْرُوفٌ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ وَلِلسَّرَخْسِيِّ أَحَقُّ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنْهُ وَهَذَا بِالْمَعْنَى وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ بَهْزٍ وَحَسَّنَهَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدُنَا إِذَا كَانَ خَالِيًا؟ قَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ فَالْإِسْنَادُ إِلَى بَهْزٍ صَحِيحٌ وَلِهَذَا جَزَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَأَمَّا بَهْزٌ وَأَبُوهُ فَلَيْسَا مِنْ شَرْطِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا عَلَّقَ فِي النِّكَاحِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِ جَدِّ بَهْزٍ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ بَلْ قَالَ وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ فَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ مُجَرَّدَ جَزْمِهِ بِالتَّعْلِيقِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْإِسْنَادِ إِلَّا إِلَى مَنْ عَلَّقَ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا فَوْقَهُ فَلَا يَدُلُّ، وَقَدْ حَقَّقْتُ ذَلِكَ فِيمَا كَتَبْتُهُ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ وَذَكَرْتُ لَهُ أَمْثِلَةً وَشَوَاهِدَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا.

وَعُرِفَ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَارِدٌ فِي كَشْفِ الْعَوْرَةِ بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو عَبْدُ الْمَلِكِ الْبَوْنِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ أَيْ فَلَا يُعْصَى. وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى ذَلِكَ مِنْهُ، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ لِغَيْرِ مَنِ اسْتَثْنَى، وَمِنْهُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةُ لِلْمَرْأَةِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.

ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ بَهْزٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعَرِّيَ فِي الْخَلْوَةِ غَيْرُ جَائِزٍ مُطْلَقًا، لَكِنِ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْغُسْلِ بِقِصَّةِ مُوسَى وَأَيُّوبَ عليهما السلام، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ - عَلَى مَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ - أَنَّهُمَا مِمَّنْ أُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَأْتِي عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَصَّ الْقِصَّتَيْنِ وَلَمْ يَتَعَقَّبْ شَيْئًا مِنْهُمَا، فَدَلَّ عَلَى مُوَافَقَتِهِمَا لِشَرْعِنَا، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ فِيهِمَا شَيْءٌ غَيْرُ مُوَافِقٍ لَبَيَّنَهُ فَعَلَى هَذَا فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِحَمْلِ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَلَى الْأَفْضَلِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَرَجَّحَ بَعْض الشَّافِعِيَّةِ تَحْرِيمَهُ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مُتَقَدِّمِيهِمْ كَغَيْرِهِمْ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ.

قَوْلُهُ: (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ) أَيْ جَمَاعَتُهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا}

قَوْلُهُ: (يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً) ظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِمْ، وَإِلَّا لَمَا أَقَرَّهُمْ مُوسَى عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ عليه السلام يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ أَخْذًا بِالْأَفْضَلِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عُصَاةً لَهُ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فَأَطَالَ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (آدَرُ) بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأُدْرَةُ نَفْخَةٌ فِي الْخُصْيَةِ، وَهِيَ بِفَتَحَاتٍ، وَحُكِيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ.

قَوْلُهُ: (فَجَمَحَ مُوسَى) أَيْ جَرَى مُسْرِعًا، وَفِي رِوَايَةٍ فَخَرَجَ.

قَوْلُهُ: (ثَوْبِي يَا حَجَرُ) أَيْ أَعْطِنِي، وَإِنَّمَا خَاطَبَهُ ; لِأَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى مَنْ يَعْقِلُ لِكَوْنِهِ فَرَّ بِثَوْبِهِ فَانْتَقَلَ عِنْدَهُ مِنْ حُكْمِ الْجَمَادِ إِلَى حُكْمِ الْحَيَوَانِ فَنَادَاهُ، فَلَمَّا لَمْ يُعْطِهِ ضَرَبَهُ. وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أَرَادَ بِضَرْبِهِ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَةِ بِتَأْثِيرِ ضَرْبِهِ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَحْيٍ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى نَظَرَتْ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ رَأَوْا جَسَدَهُ وَبِهِ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى جَوَازِ النَّظْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمُدَاوَاةٍ وَشَبَهِهَا، وَأَبْدَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ كَانَ عَلَيْهِ مِئْزَرٌ ; لِأَنَّهُ يُظْهِرُ مَا تَحْتَهُ بَعْدَ الْبَلَلِ، وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ نَاقِلًا لَهُ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

قَوْلُهُ: (فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْحَمَوِيِّ فَطَفِقَ الْحَجْرَ ضَرْبًا وَالْحَجْرُ عَلَى هَذَا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ طَفِقَ يَضْرِبُ الْحَجَرَ ضَرْبًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ مَقُولِ هَمَّامِ وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ.

قَوْلُهُ: (لَنَدَبٌ) بِالنُّونِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ وَهُوَ الْأَثَرُ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 386

279 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى وَعِزَّتِكَ وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ، وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا.

[الحديث 279 - طرفاه في: 7493، 3391]

قَوْلُهُ: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ وَجَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ فَأَخْطَأَ فَإِنَّ الْحَدِيثَيْنِ ثَابِتَانِ فِي نُسْخَةِ هَمَّامٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الثَّانِيَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.

قَوْلُهُ: (يَحْتَثِي) بِإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، وَالْحَثْيَةُ هِيَ الْأَخْذُ بِالْيَدِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ يَحْتَثِنُ بِنُونٍ فِي آخِرِهِ بَدَلَ الْيَاءِ.

قَوْلُهُ: (لَا غِنَى) بالْقَصْرُ بِلَا تَنْوِينٍ، وَرَوَيْنَاهُ بِالتَّنْوِينِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لَا بِمَعْنَى لَيْسَ.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ) هُوَ ابْنُ طَهْمَانَ، وَرِوَايَتُهُ مَوْصُولَةٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاتَبَهُ عَلَى جَمْعِ الْجَرَادِ وَلَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى الِاغْتِسَالِ عُرْيَانًا، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا.

‌21 - باب التَّسَتُّرِ فِي الْغُسْلِ عِنْدَ النَّاسِ

280 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ أَنَا أُمُّ هَانِئٍ.

[الحديث 280 - أطرافه في 6158، 3171، 357]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّسَتُّرِ) لَمَّا فَرَغَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ لِأَحَدِ الشِّقَّيْنِ وَهُوَ التَّعَرِّي فِي الْخَلْوَةِ أَوْرَدَ الشِّقَّ الْآخَرَ.

قَوْلُهُ: (مَوْلَى عُمَرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ التَّيْمِيُّ، وَأُمُّ هَانِئٍ بِهَمْزَةٍ مُنَوَّنَةٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ مَنْ هَذِهِ؟) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّتْرَ كَانَ كَثِيفًا، وَعَرَفَ أَنَّهَا امْرَأَةٌ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِيهِ الرِّجَالُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ حَيْثُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ تَامًّا.

281 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: سَتَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ، ثُمَّ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى الْحَائِطِ أَوْ الْأَرْضِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ الْمَاءَ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَابْنُ فُضَيْلٍ فِي السَّتْرِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي أَوَّلِ الْغُسْلِ لِلْمُصَنِّفِ

ص: 387

عَالِيًا إِلَى الثَّوْرِيِّ، وَنَزَلَ فِيهِ هُنَا دَرَجَةً. وَكَذَلِكَ نَزَلَ فِيهِ شَيْخُهُ عَبْدَانُ دَرَجَةً ; لِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ اعْتِنَاؤُهُ بِمُغَايَرَةِ الطُّرُقِ عِنْدَ تَغَايُرِ الْأَحْكَامِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ) أَيْ عَنِ الْأَعْمَشِ بِإِسْنَادِهِ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمُتَابَعَةُ مَوْصُولَةً عِنْدَهُ فِي بَابِ: مَنْ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ.

قَوْلُهُ: (وَابْنُ فُضَيْلٍ) أَيِ عن الْأَعْمَشُ أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَرِوَايَتُهُ مَوْصُولَةٌ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ الْأسْفِرَايِنِيِّ نَحْوُ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ الْبَصْرِيِّ، وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُ السَّتْرِ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَمِنْ رِوَايَةِ زَائِدَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَسَبَقَتْ مَبَاحِثُ الْحَدِيثِ فِي أَوَّلِ الْغُسْلِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

‌22 - بَاب إِذَا احْتَلَمَتْ الْمَرْأَةُ

282 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا احْتَلَمَتِ الْمَرْأَةُ) إِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالْمَرْأَةِ مَعَ أَنَّ حُكْمَ الرَّجُلِ كَذَلِكَ لِمُوَافَقَةِ صُورَةِ السُّؤَالِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ مَنَعَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيُّ، وَاسْتَبْعَدَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ صِحَّتَهُ عَنْهُ، لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَنُسِبَتْ هُنَاكَ إِلَى أُمِّهَا وَهُنَا إِلَى أَبِيهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ لَكِنْ قَالَ عَنْ عَائِشَةَ وَفِيهِ أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ أُمِّ سُلَيْمٍ وَعَائِشةَ.

وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ لِأُمِّ سَلَمَةَ لَا لِعَائِشَةَ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ رِوَايَةِ هِشَامٍ وَهُوَ ظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ، لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ الذُّهْلِيِّ أَنَّهُ صَحَّحَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَأَشَارَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى تَقْوِيَةِ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ ; لِأَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ تَابَعَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا رِوَايَةَ نَافِعٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ وَعَائِشَةُ عِنْدَهُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ سُلَيْمٍ وَكَانَتْ مُجَاوِرَةً لِأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ هِيَ الَّتِي رَاجَعَتْهَا، وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَةَ هِشَامٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ جَمِيعًا أَنْكَرَتَا عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ حُضُورُ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَائِشَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ أَنَسًا، وَعَائِشَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ حَضَرُوا الْقِصَّةَ. انْتَهَى.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَنَسًا لَمْ يَحْضُرِ الْقِصَّةَ وَإِنَّمَا تَلَقَّى ذَلِكَ مِنْ أُمِّهِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَإِنَّمَا تَلَقَّى ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَقَدْ سَأَلَتْ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ وَفِي آخِرِهِ كَمَا لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ غُسْلٌ إِذَا رَأَى ذَلِكَ فَلَمْ يُنْزِلْ وَسَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَبُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) قَدَّمَتْ هَذَا الْقَوْلَ تَمْهِيدًا لِعُذْرِهَا فِي ذِكْرِ مَا يُسْتَحْيى مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاءِ هُنَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ،

ص: 388

إِذِ الْحَيَاءُ الشَّرْعِيُّ خَيْرٌ كُلُّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَنَّ الْحَيَاءَ لُغَةً: تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُحْمَلُ هُنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْحَيَاءِ فِي الْحَقِّ، أَوْ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذِكْرِ الْحَقِّ. وَقَدْ يُقَالُ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي الْإِثْبَاتِ

(1)

. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي النَّفْيِ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَحْيِي مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ عَادَ إِلَى جَانِبِ الْإِثْبَاتِ فَاحْتِيجَ إِلَى تَأْوِيلِهِ. قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.

قَوْلُهُ: (هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلِ) مِنْ زَائِدَةٌ وَقَدْ سَقَطَتْ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ.

قَوْلُهُ: (احْتَلَمَتْ) الِاحْتِلَامُ افْتِعَالٌ مِنَ الْحُلْمِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَهُوَ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ فِي نَوْمِهِ يُقَالُ مِنْهُ حَلَمَ بِالْفَتْحِ وَاحْتَلَمَ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَمْرٌ خَاصٌّ مِنْهُ وَهُوَ الْجِمَاعُ. وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا يُجَامِعُهَا فِي الْمَنَامِ أَتَغْتَسِلُ؟.

قَوْلُهُ: (إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ) أَيِ الْمَنِيَّ بَعْدَ الِاسْتِيقَاظِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامٍ إِذَا رَأَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَاءَ فَلْتَغْتَسِلْ، وَزَادَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَهَلْ تَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ وَكَذَلِكَ رَوَى هَذِهِ الزِّيَادَةَ أَصْحَابُ هِشَامٍ عَنْهُ غَيْرَ مَالِكٍ فَلَمْ يَذْكُرْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ فِي بَابِ الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ، وَفِيهِ أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَيْ أَتَرَى الْمَرْأَةُ الْمَاءَ وَتَحْتَلِمُ؟ وَفِيهِ فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَجْهَهَا وَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ هِشَامٍ فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا تَبَسَّمَتْ تَعَجُّبًا، وَغَطَّتْ وَجْهَهَا حَيَاءً، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ فَقَالَتْ لَهَا: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَضَحْتِ النِّسَاءَ وَكَذَا لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كِتْمَانَ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِنَّ ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ شَهْوَتِهِنَّ لِلرِّجَالِ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ النِّسَاءِ يَحْتَلِمْنَ، وَعَكَسَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ لَا يَحْتَلِمْنَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ بَطَّالٍ الْجَوَازُ لَا الْوُقُوعُ أَيْ فِيهِنَّ قَابِلِيَّةُ ذَلِكَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْإِنْزَالِ، وَنَفَى ابْنُ بَطَّالٍ الْخِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ عَنِ النَّخَعِيِّ. وَكَأَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ لَمْ تَسْمَعْ حَدِيثَ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ أَوْ سَمِعَتْهُ، وَقَامَ عِنْدَهَا مَا يُوهِمُ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ نُدُورُ بُرُوزِ الْمَاءِ مِنْهَا.

وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ لِلْمَرْأَةِ مَاءٌ؟ فَقَالَ: هُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِذَا رَأَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَاءَ كَمَا يَرَاهُ الرَّجُلُ وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ لَيْسَ عَلَيْهَا غُسْلٌ حَتَّى تُنْزِلَ كَمَا يُنْزِلُ الرَّجُلُ

وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَاءَ الْمَرْأَةِ لَا يَبْرُزُ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ إِنْزَالُهَا بِشَهْوَتِهَا وَحُمِلَ قَوْلُهُ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ أَيْ عَلِمَتْ بِهِ ; لِأَنَّ وُجُودَ الْعِلْمِ هُنَا مُتَعَذِّرٌ ; لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ بِهِ عِلْمَهَا بِذَلِكَ وَهِيَ نَائِمَةٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ رَأَى أَنَّهُ جَامَعَ وَعَلِمَ أَنَّهُ أَنْزَلَ فِي النَّوْمِ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَلَمْ يَرَ بَلَلًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْغُسْلُ اتِّفَاقًا، فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ عِلْمَهَا بِذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتَيْقَظَتْ فَلَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ فِي الْيَقَظَةِ مَا كَانَ فِي النَّوْمِ إِنْ كَانَ مُشَاهَدًا، فَحَمْلُ الرُّؤْيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا هُوَ الصَّوَابُ، وَفِيهِ اسْتِفْتَاءُ الْمَرْأَةِ بِنَفْسِهَا وَسِيَاقُ صُوَرِ الْأَحْوَالِ فِي الْوَقَائِعِ الشَّرْعِيَّةِ لِمَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ. وَفِيهِ جَوَازُ التَّبَسُّمِ فِي التَّعَجُّبِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(1)

الصواب أنه لحاجة إلى التأويل مطلقا، فإن الله يوصف بالحياء الذي يليق به ولايشابه فيه خلقه كسائر صفاته. وقد ورد وصفه بذلك في نصوص كثيرة فوجب إثباته له على الوجه الذي يليق به. وهذا قول أهل السنة في جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة، وهو طريق النجاة، فتنبه واحذر، والله أعلم.

ص: 389

‌23 - بَاب عَرَقِ الْجُنُبِ وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ

283 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ كُنْتُ جُنُبًا فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ.

[الحديث 283 - طرفه في: 285]

قَوْلُهُ: (بَابُ عَرَقِ الْجُنُبِ وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ) كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الْخِلَافِ فِي عَرَقِ الْكَافِرِ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ نَجِسٌ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ كَمَا سَيَأْتِي، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ بَيَانُ حُكْمِ عَرَقِ الْجُنُبِ وَبَيَانُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ، وَإِذَا كَانَ لَا يَنْجُسُ فَعَرَقُهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْكَافِرَ يَنْجُسُ فَيَكُونُ عَرَقُهُ نَجِسًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَحُمَيْدٌ هُوَ الطَّوِيلُ، وَبَكْرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، وَأَبُو رَافِعٍ هو الصَّائِغُ وَهُوَ مَدَنِيٌّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَمَنْ دُونَهُ فِي الْإِسْنَادِ بَصْرِيُّونَ أَيْضًا، وَحُمَيْدٌ، وَبَكْرٌ، وَأَبُو رَافِعٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ.

قَوْلُهُ: (فِي بَعْضِ طريقٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَالْأَصِيلِيِّ طُرُقٌ وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ لَقِيتُهُ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ تُوَافِقُ رِوَايَةَ الْأَصِيلِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ جُنُبٌ) يَعْنِي نَفْسَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَأَنَا جُنُبٌ.

قَوْلُهُ: (فَانْخَنَسْتُ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْحَمَوِيِّ، وَكَرِيمَةَ بِنُونٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَقَالَ الْقَزَّازُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ فَانْبَخَسْتُ يَعْنِي بِنُونٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ. قَالَ: وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فَانْخَنَسْتُ يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ: وَالْمَعْنَى مَضَيْتُ عَنْهُ مُسْتَخْفِيًا وَلِذَلِكَ وُصِفَ الشَّيْطَانُ بِالْخَنَّاسِ، وَيُقَوِّيهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فَانْسَلَلْتُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَقَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فَانْبخَسْتُ يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ: وَلِابْنِ السَّكَنِ بِالْجِيمِ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} أَيْ جَرَتْ وَانْدَفَعَتْ، وَهَذِهِ أَيْضًا رِوَايَةُ الْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَابْنِ عَسَاكِرَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فَانْتَجَسْتُ بِنُونٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ ثُمَّ جِيمٍ أَيِ اعْتَقَدْتُ نَفْسِي نَجِسًا. وُوُجِّهَتِ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْقَزَّازُ بِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْبَخْسِ وَهُوَ النَّقْصُ أَيِ اعْتَقَدَ نُقْصَانَ نَفْسِهِ بِجَنَابَتِهِ عَنْ مُجَالَسَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، وَقَالَ: مَعْنَى انْبَخَسْتُ مِنْهُ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِي مِنْ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، وَأَشْبَهُهَا بِالصَّوَابِ الْأُولَى ثُمَّ هَذِهِ.

وَقَدْ نَقَلَ الشُّرَّاحُ فِيهَا أَلْفَاظًا مُخْتَلِفَةً مِمَّا صَحَّفَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ لَا مَعْنَى لِلتَّشَاغُلِ بِذِكْرِهِ كَانْتَجَشْتُ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مِنَ النَّجْشِ وَبِنُونٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ مِنَ الِانْحِبَاسِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ) تَمَسَّكَ بِمَفْهُومِهِ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ فَقَالَ: إِنَّ الْكَافِرَ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَقَوَّاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ طَاهِرُ الْأَعْضَاءِ لِاعْتِيَادِهِ مُجَانَبَةَ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِ ; لِعَدَمِ تَحَفُّظِهِ عَنِ النَّجَاسَةِ وَعَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ نَجَسٌ فِي الِاعْتِقَادِ وَالِاسْتِقْذَارِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَرَقَهُنَّ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ مَنْ يُضَاجِعُهُنَّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُجِبْ عَلَيْهِ مِنْ غُسْلِ الْكِتَابِيَّةِ إِلَّا مِثْلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ غُسْلِ الْمُسْلِمَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآدَمِيَّ الْحَيَّ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. وَأَغْرَبَ الْقُرْطُبِيُّ فِي

ص: 390

الْجَنَائِزِ مِنْ شَرْحِ مُسْلِمٍ، فَنَسَبَ الْقَوْلَ بِنَجَاسَةِ الْكَافِرِ إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَيِّتِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ مُلَابَسَةِ الْأُمُورِ الْمُعَظَّمَةِ وَاسْتِحْبَابُ احْتِرَامِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَتَوْقِيرِهِمْ وَمُصَاحَبَتِهِمْ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَهَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا لَقِيَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ مَاسَحَهُ وَدَعَا لَهُ هَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، فَلَمَّا ظَنَّ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ الْجُنُبَ يَنْجُسُ بِالْحَدَثِ خَشِيَ أَنْ يُمَاسِحَهُ صلى الله عليه وسلم كَعَادَتِهِ، فَبَادَرَ إِلَى الِاغْتِسَالِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ.

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَ اللَّهِ تَعَجَّبَ مِنِ اعْتِقَادِ أَبِي هُرَيْرَةَ التَّنَجُّسَ بِالْجَنَابَةِ أَيْ كَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا الظَّاهِرُ؟. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ اسْتِئْذَانِ التَّابِعِ لِلْمَتْبُوعِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُفَارِقَهُ ; لِقَوْلِهِ أَيْنَ كُنْتَ؟ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ حَتَّى يُعْلِمَهُ.

وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَنْبِيهِ الْمَتْبُوعِ لِتَابِعِهِ عَلَى الصَّوَابِ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ. وَفِيهِ جَوَازُ تَأْخِيرِ الِاغْتِسَالِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ وُجُوبِهِ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْنُ حِبَّانَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ فَنَوَى الِاغْتِسَالَ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ يَنْجُسُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى طَهَارَةِ عَرَقِ الْجُنُبِ ; لِأَنَّ بَدَنَهُ لَا يَنْجُسُ بِالْجَنَابَةِ، فَكَذَلِكَ مَا تَحَلَّبَ مِنْهُ. وَعَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ الْجُنُبِ فِي حَوَائِجِهِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ فقال:

‌24 - بَاب الْجُنُبُ يَخْرُجُ وَيَمْشِي فِي السُّوقِ وَغَيْرِهِ

وَقَالَ عَطَاءٌ يَحْتَجِمُ الْجُنُبُ وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ

284 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ (بَابُ الْجُنُبِ يَخْرُجُ وَيَمْشِي فِي السُّوقِ) قَوْلُهُ:(وَغَيْرِهِ) بِالْجَرِّ أَيْ وَغَيْرِ السُّوقِ وَيُحْتَمَلُ الرَّفْعُ عَطْفًا عَلَى يَخْرُجُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ) هذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ وَزَادَ وَيَطْلِي بِالنُّورَةِ وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ هِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ وَغَيْرِهِ بِالرَّفْعِ فِي التَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ كَذَا لَهُمْ إِلَّا الْأَصِيلِيَّ فَقَالَ شُعْبَةُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ) وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَكَرِيمَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِرَقْمِ 268 فِي بَابِ إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَادَ، وَإِيرَادُهُ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ يُقَوِّي رِوَايَةَ وَغَيْرِهِ بِالْجَرِّ ; لِأَنَّ حُجَرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ مُتَقَارِبَةً، فَهُوَ مُحْتَاجٌ فِي الدُّخُولِ من هَذِهِ إِلَى هَذِهِ إِلَى الْمَشْيِ، وَعَلَى هَذَا فَمنَاسَبَة إِيرَادُ أَثَرِ عَطَاءٍ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ فِي جَوَازِ تَشَاغُلِ الْجُنُبِ بِغَيْرِ غُسْلٍ، وَقَدْ خَالَفَ عَطَاءٌ غَيْرَهُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ، فَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ يُقَوِّي اخْتِيَارَ عَطَاءٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَوْرَدَهُ لِيَسْتَدِلَّ لَهُ لَا لِيَسْتَدِلَّ بِهِ.

285 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قال:، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جُنُبٌ فَأَخَذَ بِيَدِي فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ فَانْسَلَلْتُ فَأَتَيْتُ الرَّحْلَ فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَقَالَ أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هِرٍّ فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أَبَا هِرٍّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ.

ص: 391

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ) بِيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ هُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ الرَّقَّامُ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَالْإِسْنَادُ أَيْضًا إِلَى أَبِي رَافِعٍ بَصْرِيُّونَ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (فَانْسَلَلْتُ) أَيْ ذَهَبْتُ فِي خُفْيَةٍ، وَالرَّحْلُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ أَيِ الْمَكَانُ الَّذِي يَأْوِي فِيهِ، وَقَوْلُهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ يَا أَبَا هِرٍّ بِالتَّرْخِيمِ.

‌25 - بَاب كَيْنُونَةِ الْجُنُبِ فِي الْبَيْتِ إِذَا تَوَضَّأَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ

286 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، وَشَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْقُدُ وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَيَتَوَضَّأُ.

[الحديث 286 - طرفه في: 288]

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْنُونَةِ الْجُنُبِ فِي الْبَيْتِ) أَيْ اسْتِقْرَارِهِ فِيهِ، وَكَيْنُونَةٌ مَصْدَرُ كَانَ يَكُونُ كَوْنًا وَكَيْنُونَةً، وَلَمْ يَجِئْ عَلَى هَذَا إِلَّا أَحْرُفٌ مَعْدُودَةٌ مِثْلُ دَيْمُومَةٍ مِنْ دَامَ.

قَوْلُهُ: (إِذَا تَوَضَّأَ) زَادَ أَبُو الْوَقْتِ، وَكَرِيمَةُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَسَقَطَ الْجَمِيعُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَالْحَمَوِيِّ قِيلَ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى تَضْعِيفِ مَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ وَلَا جُنُبٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ نُجَيٌّ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْجِيمِ الْحَضْرَمِيُّ مَا رَوَى عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ عَبْدُ اللَّهِ، فَهُوَ مَجْهُولٌ، لَكِنْ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَصَحَّحَ حَدِيثَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، فَيُحْتَمَلُ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُنُبِ مَنْ يَتَهَاوَنُ بِالِاغْتِسَالِ، وَيَتَّخِذُ تَرْكَهُ عَادَةً لَا مَنْ يُؤَخِّرُهُ لِيَفْعَلَهُ قَالَ: وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلْبِ غَيْرُ مَا أُذِنَ فِي اتِّخَاذِهِ، وَبِالصُّورَةِ مَا فِيهِ رُوحٌ، وَمَا لَا يُمْتَهَنُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي الْكَلْبِ نَظَرٌ. انْتَهَى.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجُنُبِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مَنْ لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ كُلُّهُ وَلَا بَعْضُهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ مُنَافَاةٌ ; لِأَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ ارْتَفَعَ بَعْضُ حَدَثِهِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَيَأْتِي تَصْوِيرُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَشَيْبَانُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَصَرَّحَ بِتَحْدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ لَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ. وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ نَعَمْ وَيَتَوَضَّأُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَدَّ لَفْظُ نَعَمْ مَسَدَّهُ، أَيْ يَرْقُدُ وَيَتَوَضَّأُ، وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَالْمَعْنَى يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَرْقُدُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِلَفْظِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَهَذَا السِّيَاقُ أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ. وَلِلْمُصَنِّفِ مِثْلُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِزِيَادَةِ غَسَلَ الفَرْج وَزَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامٍ نَحْوُهُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ حَمَلَ الْوُضُوءَ هُنَا عَلَى التَّنْظِيفِ.

‌26 - بَاب نَوْمِ الْجُنُبِ

287 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ.

[الحديث 287 - طرفاه في: 290، 289]

ص: 392

قَوْلُهُ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَضَرَ هَذَا السُّؤَالَ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ مُسْنَدِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ. وَمُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ جَوَازَ رُقَادِ الْجُنُبِ فِي الْبَيْتِ يَقْتَضِي جَوَازَ اسْتِقْرَارِهِ فِيهِ يَقْظَانَ لِعَدَمِ الْفَرْقِ أَوْ لِأَنَّ نَوْمَهُ يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ لِحُصُولِ الْيَقَظَةِ بَيْنَ وُضُوئِهِ وَنَوْمِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ قَبْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَر بَابُ نَوْمِ الْجُنُبِ وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ زَائِدَةٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِبَابِ الْجُنُبِ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَنَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَرْجَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَعَلَى التَّقْيِيدِ فَلَا تَكُونُ زَائِدَةً.

‌27 - بَاب الْجُنُبِ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَنَامُ

288 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ أَبُو الْأَسْوَدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ يَتِيمُ عُرْوَةَ. وَنِصْفُ هَذَا الْإِسْنَادِ الْمُبْتَدَأِ بِهِ بَصْرِيُّونَ، وَنِصْفُهُ الْأَعْلَى مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ) أَيْ تَوَضَّأَ وُضُوءًا كَمَا لِلصَّلَاةِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَوَضَّأَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَوَضَّأَ وُضُوءًا شَرْعِيًّا لَا لُغَوِيًّا.

289 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: اسْتَفْتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ) بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ مُصَغَّرًا، وَهُوَ اسْمُ رَجُلٍ، وَاسْمُ أَبِيهِ أَسْمَاءُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَقَدْ سَمِعَ جُوَيْرِيَةُ هَذَا مِنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ لِيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لِيَنَمْ.

290 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ مِنْ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نَمْ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بِاتِّفَاقٍ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَرَوَاهُ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ بَدَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، عَنْ نَافِعٍ بَدَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَكَانَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ إِلَّا أَنَّهُ ضَرَبَ عَلَى نَافِعٍ وَكَتَبَ فَوْقَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ لِمَالِكٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْحَدِيثُ لِمَالِكٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا، لَكِنَّ الْمَحْفُوظَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَحَدِيثُ نَافِعٍ غَرِيبٌ. انْتَهَى. وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ كَذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ فَلَا غَرَابَةَ، وَإِنْ سَاقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي

ص: 393

غَرَائِبِ مَالِكٍ، فَمُرَادُهُ مَا رَوَاهُ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ، فَهِيَ غَرَابَةٌ خَاصَّةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُوَطَّأِ، نَعَمْ رِوَايَةُ الْمُوَطَّأِ أَشْهَرُ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) مُقْتَضَاهُ أَيْضًا أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَرَوَاهُ أَبُو نُوحٍ، عَنْ مَالِكٍ فَزَادَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّسَائِيُّ سَبَبَ ذَلِكَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَصَابَ ابْنُ عُمَرَ جَنَابَةً فَأَتَى عُمَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْمَرَهُ فَقَالَ لِيَتَوَضَّأْ وَيَرْقُدْ، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ تُصِيبُهُ يَعُودُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ لَا عَلَى عُمَرَ، وَقَوْلُهُ فِي الْجَوَابِ تَوَضَّأْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ كَانَ حَاضِرًا فَوَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بِأَنَّهُ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ وَلِلْبَاقِينَ أَنَّهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ) سَقَطَ لَفْظُ لَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ.

قَوْلُهُ: (تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي نُوحٍ اغْسِلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ تَوَضَّأْ ثُمَّ نَمْ وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ عَلَى غَسْلِ الذَّكَرِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوُضُوءٍ يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّعَبُّدِ إِذِ الْجَنَابَةُ أَشَدُّ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، فَتَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي نُوحٍ أَنَّ غَسْلَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوُضُوءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤخر عَنْهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمَسَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَسَّهُ يَنْقُضُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: جَاءَ الْحَدِيثُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ، وَهُوَ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى إِيجَابِهِ وَهُوَ شُذُوذٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَاسْتَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هَذَا النَّقْلَ، وَقَالَ: لَمْ يَقُلِ الشَّافِعِيُّ بِوُجُوبِهِ، وَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْإِبَاحَةِ الْمُسْتَوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ لَا إِثْبَاتَ الْوُجُوبِ، أَوْ أَرَادَ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ وُجُوبَ سُنَّةٍ، أَيْ مُتَأَكَّدُ الِاسْتِحْبَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَابَلَهُ بِقَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ: هُوَ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عِبَارَةِ الْمَالِكِيَّةِ كَثِيرًا، وَأَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى تَقْوِيَةِ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ إِيجَابَ الْوُضُوءِ عَنِ الْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَادَ. وَقَدْ قَدَحَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ ابْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ وَهُوَ وَاضِحٌ.

وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ، وَتَمَسَّكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُجْنِبُ ثُمَّ يَنَامُ وَلَا يَمَسُّ مَاءً رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحُفَّاظَ قَالُوا: إِنَّ أَبَا إِسْحَاقٍ غَلِطَ فِيهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَ الْوُضُوءَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ لِئَلَّا يُعْتَقَدَ وُجُوبُهُ، أَوْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَمَسُّ مَاءً أَيْ لِلْغُسْلِ، وَأَوْرَدَ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ جَنَحَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُضُوءِ التَّنْظِيفُ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَاوِيَ الْحَدِيثِ وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ كَانَ يَتَوَضَّأُ وَهُوَ جُنُبٌ وَلَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ ثَبَتَ تَقْيِيدُ الْوُضُوءِ بِالصَّلَاةِ مِنْ رِوَايَتِهِ وَمِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُعْتَمَدُ وَيُحْمَلُ تَرْكُ ابْنِ عُمَرَ لِغَسْلِ رِجْلَيْهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِعُذْرٍ.

وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ هُنَا الشَّرْعِيُّ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ يُخَفِّفُ الْحَدَثَ وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الْغُسْلِ فَيَنْوِيهِ، فَيَرْتَفِعُ الْحَدَثُ عَنْ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ الصَّحَابِيِّ قَالَ: إِذَا أَجْنَبَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ، فَإِنَّهُ نِصْفُ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِحْدَى الطِّهَارَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَقُومُ التَّيَمُّمُ مَقَامَهُ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَجْنَبَ فَأَرَادَ أَنْ يَنَامَ تَوَضَّأَ أَوْ تَيَمَّمَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ هُنَا عِنْدَ عُسْرِ وُجُودِ الْمَاءِ، وَقِيلَ:

ص: 394

الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ يَنْشَطُ إِلَى الْعَوْدِ أَوْ إِلَى الْغُسْلِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ ; لِأَنَّهَا لَوِ اغْتَسَلَتْ لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهَا بِخِلَافِ الْجُنُبِ، لَكِنْ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا اسْتُحِبَّ لَهَا ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ وَاسْتِحْبَابِ التَّنْظِيفِ عِنْدَ النَّوْمِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَبْعُدُ عَنِ الْوَسَخِ وَالرِّيحِ الْكَرِيهَةِ، بِخِلَافِ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهَا تَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌28 - بَاب إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ

291 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ ح.

وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ. تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ شُعْبَةَ مِثْلَهُ، وَقَالَ مُوسَى: حَدَّثَنَا أَبَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ) الْمُرَادُ بِهَذِهِ التَّثْنِيَةِ خِتَانُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْخَتْنُ قَطْعُ جِلْدَةِ كَمَرَتِهِ وَخِفَاضُ الْمَرْأَةِ، وَالْخَفْضُ قَطْعُ جُلَيْدَةً فِي أَعْلَى فَرْجِهَا تُشْبِهُ عُرْفَ الدِّيكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا ثُنِّيَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ تَغْلِيبًا، وَلَهُ نَظَائِرُ، وَقَاعِدَتُهُ رَدُّ الْأَثْقَلِ إِلَى الْأَخَفِّ وَالْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى.

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِنَّمَا فَرَّقَهُمَا ; لِأَنَّ مُعَاذًا قَالَ حَدَّثَنَا وَأَبَا نُعَيْمٍ قَالَ عَنْ وَطَرِيقِ مُعَاذٍ إِلَى الصَّحَابِيِّ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (إِذَا جَلَسَ) الِضَمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ جَهِدَ لِلرَّجُلِ وَالضَّمِيرَانِ الْبَارِزَانِ فِي قَوْلِهِ شُعَبِهَا وجَهَدَهَا لِلْمَرْأَةِ، وَتَرَكَ إِظْهَارَ ذَلِكَ لِلْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا غَشِيَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَقَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا

الْحَدِيثَ، وَالشُّعَبُ جَمْعُ شُعْبَةٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ الشَّيْءِ. قِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا يَدَاهَا وَرِجْلَاهَا، وَقِيلَ: رِجْلَاهَا وَفَخِذَاهَا، وَقِيلَ: سَاقَاهَا وَفَخِذَاهَا، وَقِيلَ: فَخِذَاهَا وَإِسْكَتَاهَا وَقِيلَ فَخِذَاهَا وَشَفْرَاهَا، وَقِيلَ: نَوَاحِي فَرْجِهَا الْأَرْبَعُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْإِسْكَتَانِ نَاحِيَتَا الْفَرْجِ، وَالشَّفْرَانِ طَرَفُ النَّاحِيَتَيْنِ، وَرَجَّحَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْأَخِيرَ، وَاخْتَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْأَوَّلَ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجُلُوسِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، فَاكْتَفَى بِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ جَهَدَهَا) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَاءِ، يُقَالُ جَهَدَ وَأَجْهَدَ أَيْ بَلَغَ الْمَشَقَّةَ، قِيلَ مَعْنَاهُ كَدُّهَا بِحَرَكَتِهِ أَوْ بَلَغَ جَهْدَهُ فِي الْعَمَلِ بِهَا، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ ثُمَّ اجْتَهَدَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَهِشَامٍ مَعًا عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِ وَأَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ بَدَلَ قَوْلِهِ ثُمَّ جَهَدَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَهْدَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ مُعَالَجَةِ الْإِيلَاجِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ، وَهَذَا مُطَابِقٌ لِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَعَادَتِهِ فِي التَّبْوِيبِ بِلَفْظِ إِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَرُوِيَ أَيْضًا بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْهَا، وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهَا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْهَا بِلَفْظِ: وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسِّ وَالِالْتِقَاءِ الْمُحَاذَاةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ إِذَا جَاوَزَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَسِّ حَقِيقَتَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ غَيْبَةِ الْحَشَفَةِ، وَلَوْ حَصَلَ الْمَسُّ

ص: 395

قَبْلَ الْإِيلَاجِ لَمْ يَجِبِ الْغُسْلُ بِالْإِجْمَاعِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ إِيجَابَ الْغُسْلِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِنْزَالِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْجَهْدِ الْإِنْزَالُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْأَمْرِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّصْرِيحَ بِعَدَمِ

التَّوَقُّفِ عَلَى الْإِنْزَالِ قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَانْتَفَى الِاحْتِمَالُ، فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةِ أَيْضًا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَفَّانَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، وَأَبَانُ قَالَا: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ بِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَفَّانَ، وَكَذَا ذَكَرَهَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَمْرٌو) أَيِ ابْنُ مَرْزُوقٍ وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَقَدْ رَوَيْنَا حَدِيثَهُ مَوْصُولًا فِي فَوَائِدِ عُثْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ السَّمَّاكِ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ فَذَكَرَ مِثْلَ سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنْ قَالَ: وَأَجْهَدَهَا وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ شُعْبَةَ رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ لَا عَنِ الْحَسَنِ نَفْسِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي تَابَعَهُ يَعُودُ عَلَى هِشَامٍ لَا عَلَى قَتَادَةَ.

وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الشَّيْخِ مُغَلْطَايْ أَنَّ رِوَايَةَ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ هَذِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جِبِلَّةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ أَبِي عَدِيٍّ كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَتَبِعَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ ذِكْرَ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ فِي إِسْنَادِ مُسْلِمٍ زِيَادَةٌ، بَلْ لَمْ يُخَرِّجْ مُسْلِمٌ، لِعَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُوسَى) أَيِ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ (حَدَّثَنَا) وَلِلْأَصِيلِيِّ أَخْبَرَنَا (أَبَانُ) وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، وَأَفَادَتْ رِوَايَتُهُ التَّصْرِيحَ بِتَحْدِيثِ الْحَسَنِ لِقَتَادَةَ، وَقَرَأْتُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ أَيْضًا أَنَّ رِوَايَةَ مُوسَى هَذِهِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ أَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ، وَهَمَّامٍ كِلَاهُمَا عَنْ مُوسَى، عَنْ أَبَانَ، وَهُوَ تَخْلِيطٌ تَبِعَهُ عَلَيْهِ أَيْضًا بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ، وَأَبَانَ جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ، فَهَمَّامٌ شَيْخُ عَفَّانَ لَا رَفِيقُهُ، وَأَبَانُ رَفِيقُ هَمَّامٍ لَا شَيْخُ شَيْخِهِ، وَلَا ذِكْرَ لِمُوسَى فِيهِ أَصْلًا، بَلْ عَفَّانُ رَوَاهُ عَنْ أَبَانَ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ مُوسَى فَهُوَ رَفِيقُهُ لَا شَيْخُهُ، وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ.

(تَنْبِيهٌ): زَادَ هُنَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: هَذَا أَجْوَدُ وَأَوْكَدُ وَإِنَّمَا بَيَّنَّا. . إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ الْآتِي فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌29 - بَاب غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ

292 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَن الْحُسَيْنِ قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ، قَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنهم، فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ، قَالَ يَحْيَى: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ مَا يُصِيبُ) أَيِ الرَّجُلُ (مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ) أَيْ مِنْ رُطُوبَةٍ وَغَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحُسَيْنِ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ الْمُعَلِّمِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَيْ قَالَ الْحُسَيْنُ قَالَ يَحْيَى وَلَفْظُ قَالَ الْأُولَى تُحْذَفُ فِي الْخَطِّ عُرْفًا.

قَوْلُهُ: (وَأَخْبَرَنِي) هُوَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ أَخْبَرَنِي بِكَذَا، وَأَخْبَرَنِي بِكَذَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِحَذْفِ الْوَاوِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمْ يَسْمَعْهُ الْحُسَيْنُ مِنْ يَحْيَى؛ فَلِهَذَا قَالَ قَالَ يَحْيَى كَذَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَأْتِ بِدَلِيلٍ. وَقَدْ

ص: 396

وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَحْيَى، وَلَيْسَ الْحُسَيْنُ بِمُدَلِّسٍ، وَعَنْعَنَةُ غَيْرِ الْمُدَلِّسِ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَاعِ إِذَا لَقِيَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِي رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَحْيَى بِالتَّحْدِيثِ وَلَفْظُهُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَلَمْ يَنْفَرِدِ الْحُسَيْنُ مَعَ ذَلِكَ بِهِ، فَقَدْ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى أَيْضًا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ شَاهِينَ، وَشَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ، وَسَبَقَ الْكَلَامُ هُنَاكَ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْإِسْنَادِ وَأَلْفَاظِ الْمَتْنِ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ) فِيهِ الْتِفَاتٌ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَقُولَ فَأَمَرُونِي أَوْ هُوَ مَقُولُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ فَيَكُونُ مُرْسَلًا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْجَامِعِ الَّذِي فِي ضِمْنِ إِذَا جَامَعَ وَجَزَمَ أَيْضًا بِأَنَّهُ عَنْ عُثْمَانَ إِفْتَاءٌ وَرِوَايَةٌ مَرْفُوعَةٌ، وَعَنِ الْبَاقِينَ إِفْتَاءٌ فَقَطْ.

قُلْتُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ أَمَرُوهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ عُثْمَانُ، فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي عَدَمِ الرَّفْعِ لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ الرَّفْعُ ; لِأَنَّ عُثْمَانَ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ وَحَدَّثَهُ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَالْمِثْلِيَّةُ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَيْضًا أَفْتَوْهُ وَحَدَّثُوهُ، وَقَدْ صَرَّحَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِالرَّفْعِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ وَلَفْظُهُ: فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ غَيْرُ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِلْبَاقِينَ قَالَ يَحْيَى: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ وَهُوَ الْمُرَادُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ مُعَلَّقًا، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَبِيهِ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ وَهْمٌ ; لِأَنَّ أَبَا أَيُّوبَ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَمَا قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ سَمِعَهُ مِنْهُمَا لِاخْتِلَافِ السِّيَاقِ ; لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قِصَّةً لَيْسَتْ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَكْبَرُ قَدْرًا وَسِنًّا وَعِلْمًا مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ عُرْوَةَ مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ ; لِأَنَّهُمَا تَابِعِيَّانِ فَقِيهَانِ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ; لِأَنَّهُمَا فَقِيهَانِ صَحَابِيَّانِ كَبِيرَانِ وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَدْ حَكَى الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْبَابِ مَعْلُولٌ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ الْفَتْوَى بِخِلَافِ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ حَكَى يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ شَاذٌّ.

وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ اتِّصَالِ إِسْنَادِهِ وَحِفْظِ رُوَاتِهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ نَحْوَ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، فَلَيْسَ هُوَ فَرْدًا، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ أَفْتَوْا بِخِلَافِهِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ نَاسِخُهُ، فَذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ مَنْسُوخٍ وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةِ الْحَدِيثِيَّةِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِالْوُضُوءِ إِذَا لَمْ يُنْزِلِ الْمُجَامِعُ مَنْسُوخٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ الْمَذْكُورَانِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى النَّسْخِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ الْفُتْيَا الَّتِي كَانُوا يَقُولُونَ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ رُخْصَةٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ بَعْدُ. صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى عِلَّتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعَهُ مِنْ سَهْلٍ.

نَعَمْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ، وَلِهَذَا الْإِسْنَادِ أَيْضًا عِلَّةٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَفِي الْجُمْلَةِ هُوَ إِسْنَادٌ صَالِحٌ لِأَنْ يُحْتَجَّ بِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي النَّسْخِ. عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الْغُسْلِ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ أَرْجَحُ مِنْ حَدِيثِ الْمَاءِ مِنَ الْمَاءِ ; لِأَنَّهُ بِالْمَنْطُوقِ، وَتَرْكُ الْغُسْلِ مِنْ حَدِيثِ الْمَاءِ

ص: 397

بِالْمَفْهُومِ أَوْ بِالْمَنْطُوقِ أَيْضًا، لَكِنَّ ذَاكَ أَصْرَحُ مِنْهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَ الْمَاءِ مِنَ الْمَاءِ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ مَا يَقَعُ فِي الْمَنَامِ مِنْ رُؤْيَةِ الْجِمَاعِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ.

(تَنْبِيهٌ): فِي قَوْلِهِ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ جِنَاسٌ تَامٌّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ الْأَوَّلِ مَاءُ الْغُسْلِ وَبِالثَّانِي الْمَنِيُّ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ يَقْتَضِي أَنَّ الْجَنَابَةَ تُطْلَقُ بِالْحَقِيقَةِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِنْزَالٌ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ خُوطِبَ بِأَنَّ فُلَانًا أَجْنَبَ مِنْ فُلَانَةَ، عَقِلَ أَنَّهُ أَصَابَهَا، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ، قَالَ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ أَنَّ الزِّنَا الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ هُوَ الْجِمَاعُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِنْزَالٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِيجَابُ الْغُسْلِ بِالْإِيلَاجِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْزَالِ نَظِيرُ إِيجَابِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُرُوجِ الْبَوْلِ

(1)

فَهُمَا مُتَّفِقَانِ دَلِيلًا وَتَعْلِيلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

293 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَلَمْ يُنْزِلْ قَالَ يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْغَسْلُ أَحْوَطُ، وَذَاكَ الْآخِرُ، وَإِنَّمَا بَيَّنَّا لِاخْتِلَافِهِمْ قَوْلُهُ:(عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي) يَعْنِي أَبَاهُ عُرْوَةَ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ نَظِيرُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، لِكَوْنِهِ ذُكِرَ فِي الْإِسْنَادِ.

قَوْلُهُ: (مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ) أَيْ يَغْسِلُ الرَّجُلُ الْعُضْوَ الَّذِي مَسَّ فَرْجَ الْمَرْأَةِ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ رُطُوبَةُ فَرْجِهَا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَتَوَضَّأُ) صرِيحٌ فِي تَأْخِيرِ الْوُضُوءِ عَنْ غَسْلِ الذَّكَرِ، زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ فِيهِ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَيُصَلِّي) هُوَ أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَرْكِ الْغُسْلِ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هوَ الْمُصَنِّفُ، وَقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ الرَّاوِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (الْغُسْلُ أَحْوَطُ) أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَثْبُتَ النَّاسِخُ وَلَا يَظْهَرُ التَّرْجِيحُ، فَالِاحْتِيَاطُ لِلدِّينِ الِاغْتِسَالُ.

قَوْلُهُ: (الْأَخِيرُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ الْآخَرُ بِالْمَدِّ بِغَيْرِ يَاءٍ أَيْ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الشَّارِعِ أَوْ مِنِ اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ، فَعَلَى هَذَا الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَذَاكَ إِلَى حَدِيثِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا بَيَّنَّا لِاخْتِلَافِهِمْ) وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِنَّمَا بَيَّنَّا اخْتِلَافَهُمْ وَلِلْأَصِيلِيِّ إِنَّمَا بَيَّنَّاهُ لِاخْتِلَافِهِمْ وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ إِنَّمَا بَيَّنَّا الْحَدِيثَ الْآخَرَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَالْمَاءُ أَنْقَى وَاللَّامُ تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْ حَتَّى لَا يُظَنَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ إِجْمَاعًا.

وَاسْتَشْكَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ كَلَامَ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: إِيجَابُ الْغُسْلِ أَطْبَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمَا خَالَفَ فِيهِ إِلَّا دَاوُدُ، وَلَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ الصَّعْبُ مُخَالَفَةُ الْبُخَارِيِّ وَحُكْمُهُ بِأَنَّ الْغُسْلَ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَأَجِلَّةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِي تَضْعِيفِ حَدِيثِ الْبَابِ بِمَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِقَوْلِهِ الْغُسْلُ أَحْوَطُ أَيْ فِي الدِّينِ، وَهُوَ بَابٌ مَشْهُورٌ فِي الْأُصُولِ، قَالَ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِإِمَامَةِ الرَّجُلِ وَعِلْمِهِ.

قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُتَرْجِمْ بِجَوَازِ تَرْكِ الْغُسْلِ، وَإِنَّمَا تَرْجَمَ بِبَعْضِ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إِيجَابِ الْوُضُوءِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا نَفْيُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْخِلَافَ فَمُعْتَرَضٌ، فَإِنَّهُ مَشْهُورٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ثَبَتَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ لَكِنِ ادَّعَى ابْنُ الْقَصَّارِ أَنَّ الْخِلَافَ ارْتَفَعَ بَيْنَ التَّابِعِينَ، وَهُوَ

(1)

في مخطوطة الرياض "المذى"

ص: 398

مُعْتَرَضٌ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إنَّهُ قَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةٌ، فَسَمَّى بَعْضَهُمْ قَالَ: وَمِنَ التَّابِعِينَ الْأَعْمَشُ، وَتَبِعَهُ عِيَاضٌ، لَكِنْ قَالَ: لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بَعْدَ الصَّحَابَةِ غَيْرُهُ، وَهُوَ مُعْتَرَضٌ أَيْضًا، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَطِيبُ نَفْسِي إِذَا لَمْ أُنْزِلَ حَتَّى أَغْتَسِلَ مِنْ أَجْلِ اخْتِلَافِ النَّاسِ لِأَخْذِنَا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ: حَدِيثُ الْمَاءِ مِنَ الْمَاءِ ثَابِتٌ لَكِنَّهُ مَنْسُوخٌ إِلَى أَنْ قَالَ: فَخَالَفَنَا بَعْضُ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا - يَعْنِي مِنَ الْحِجَازِيِّينَ - فَقَالُوا: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ حَتَّى يُنْزِلَ اهـ.

فَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ الْخِلَافَ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى إِيجَابِ الْغُسْلِ، وَهُوَ الصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْغُسْلِ - وَمَا مَعَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْجَنَابَةِ - مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ حَدِيثًا الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا، الْمَوْصُولُ مِنْهَا أحد وَعِشْرُونَ، وَالْبَقِيَّةُ تَعْلِيقٌ وَمُتَابَعَةٌ، وَالْخَالِصُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْهَا وَاحِدٌ مُعَلَّقٌ، وَهُوَ حَدِيثُ بَهْزٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جِدِّهِ، وَقَدْ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَاهُ وَسِوَى حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الِاكْتِفَاءِ فِي الْغُسْلِ بِصَاعٍ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ كَانَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَحَدِيثِهِ فِي الِاغْتِسَالِ مَعَ الْمَرْأَةِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صِفَةِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَشَرَةٌ الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سَبْعَةٌ، وَالْمَوْصُولُ ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ الْأَخِيرِ، فَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا عَنْهُمْ فَتَزِيدُ عِدَّةُ الْخَالِصِ مِنَ الْمَرْفُوعِ ثَلَاثَةً، وَهِيَ أَيْضًا مِنْ أَفْرَادِهِ عَنْ مُسْلِمٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌6 - كِتَاب الْحَيْضِ

وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [222 البقرة]

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ الْحَيْضِ) أَصْلُهُ السَّيَلَانُ، وَفِي الْعُرْفِ جَرَيَانُ دَمِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْحَيْضِ، وَالْمَحِيضُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ الْحَيْضُ، وَقِيلَ زَمَانُهُ، وَقِيلَ مَكَانُهُ.

قَوْلُهُ: (أَذًى) قَالَ الطِّيبِيُّ: سُمِّيَ الْحَيْضُ أَذًى لِنَتَنِهِ وَقَذَرِهِ وَنَجَاسَتِهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْأَذَى الْمَكْرُوهُ الَّذِي لَيْسَ بِشَدِيدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَحِيضَ أَذًى يَعْت زِلُ مِنَ الْمَرْأَةِ مَوْضِعَهُ، وَلَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى بَقِيَّةِ بَدَنِهَا.

قَوْلُهُ: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ أَخْرَجُوهَا مِنَ الْبَيْتِ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَقَالَ اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ، فَأَنْكَرَتِ الْيَهُودُ ذَلِكَ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُجَامِعُهُنَّ فِي الْحَيْضِ؟ يَعْنِي خِلَافًا لِلْيَهُودِ، فَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الَّذِي سَأَلَ أَوَّلًا عَنْ ذَلِكَ هُوَ ثَابِتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ.

ص: 399

‌1 - بَاب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْحَيْضِ

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ أَوَّلُ مَا أُرْسِلَ الْحَيْضُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْحَيْضِ) أَيِ ابْتِدَاؤُهُ، وَفِي إِعْرَابِ بَابٍ الْأَوْجُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَوَّلَ الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا شَيْءٌ) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ عَقِبَهُ، لَكِنْ بِلَفْظِ هَذَا أَمْرٌ وَقَدْ وَصَلَهُ بِلَفْظِ شَيْءٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ أَوْ سِتَّةٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الْحَيْضِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ أَوَّلُ) بِالرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ اسْمُ كَانَ وَالْخَبَرُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ عَلَى نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُصَلُّونَ جَمِيعًا، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَتَشَرَّفُ لِلرَّجُلِ، فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِنَّ الْحَيْضَ، وَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ، وَعِنْدَهُ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ.

قَوْلُهُ: (وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ) قِيلَ مَعْنَاهُ أَشْمَلُ ; لِأَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ بَنَاتِ آدَمَ، فَيَتَنَاوَلُ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَمَنْ قَبْلَهُنَّ، أَوِ الْمُرَادُ أَكْثَرُ شَوَاهِدَ أَوْ أَكْثَرُ قُوَّةً، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَيْسَ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةٌ، فَإِنَّ نِسَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: بَنَاتُ آدَمَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا مَعَ الْقَوْلِ بِالتَّعْمِيمِ بِأَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ عَلَى نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ طُولُ مُكْثِهِ بِهِنَّ عُقُوبَةً لَهُنَّ لَا ابْتِدَاءُ وُجُودِهِ.

وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} أَيْ حَاضَتْ. وَالْقِصَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِلَا رَيْبٍ، وَرَوَى الْحَاكِمُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَيْضِ كَانَ عَلَى حَوَّاءَ بَعْدَ أَنْ أُهْبِطَتْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَبَنَاتُ آدَمَ بَنَاتُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

باب الأمر بالنفساء إذا نفسن

294 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: خَرَجْنَا لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي قَالَ: مَا لَكِ أَنُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ، قَالَتْ: وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ.

[الحديث 249 - أطرافه في: 7229، 6257، 5559، 5548، 5329، 4408، 4401، 4395، 2984، 2952، 1788، 1787، 1786، 1783، 1772، 1771، 1762، 1757، 1733، 172، 1709، 1650، 1638، 1562، 1560، 1556، 1518، 1516، 328، 319، 317، 316، 305]

قولُهُ: (بَابُ الْأَمْرِ بِالنُّفَسَاءِ) أَيِ الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالنُّفَسَاءِ، وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ:(إِذَا نَفَسْنَ) بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، وَسَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مِنْ أَكْثَرِ الرُّوَايَاتِ غَيْرَ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي الْوَقْتِ، وَتَرْجَمَ بِالنُّفَسَاءِ إِشْعَارًا بِأَنَّ ذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْحَائِضِ لِقِوْلِ عَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ (حِضْتُ) وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَهَا (أَنُفِسْتِ) وَهُوَ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِ الْفَاءِ فِيهِمَا، وَقِيْلَ بِالضَّمِّ فِي الْوِلَادَةِ وَبِالْفَتْحِ فِي الْحَيْضِ، وَأَصْلُهُ خُرُوجُ الدَّمِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نَفْسًا، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ لِذَلِكَ بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ الْقَاسِمَ) يَعْنِي أَبَاهُ، وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.

قَوْلُهُ: (لَا نُرَى) بِالضَّمِّ أَيْ لَا نَظُنُّ. وسَرِفُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ بَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ عَشْرَةِ أَمْيَالٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ

ص: 400

الصَّرْفِ وَقَدْ يُصْرَفُ.

قَوْلُهُ: (فَاقْضِي) الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ هُنَا الْأَدَاءُ، وَهُمَا فِي اللُّغَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

قَوْلُهُ: (غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ) زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ حَتَّى تَطْهُرِي وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُخْتَصٌّ بِأَحْوَالِ الْحَجِّ لَا بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَرْأَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌2 - بَاب غَسْلِ الْحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِهَا وَتَرْجِيلِهِ

295 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا حَائِضٌ.

[الحديث 295 - أطرافه في: 2925، 2046، 2031، 2029، 2028، 301، 296]

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ الْحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِهَا وَتَرْجِيلِهِ) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى غَسْلٍ، أَيْ تَسْرِيحِ شَعْرِ رَأْسِهِ.

والْحَدِيثُ مُطَابِقٌ لِمَا تُرْجِمَ لَهُ مِنْ جِهَةِ التَّرْجِيلِ، وَأُلْحِقَ بِهِ الْغَسْلُ قِيَاسًا، أَوْ إِشَارَةً إِلَى الطَّرِيقِ الْآتِيَةِ فِي بَابِ مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَاتَ الْحَائِضِ طَاهِرَةٌ، وَعَلَى أَنَّ حَيْضَهَا لَا يَمْنَعُ مُلَامَسَتَهَا.

296 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ سُئِلَ أَتَخْدُمُنِي الْحَائِضُ أَوْ تَدْنُو مِنِّي الْمَرْأَةُ وَهِيَ جُنُبٌ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: كُلُّ ذَلِكَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَخْدُمُنِي وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِي ذَلِكَ بَأْسٌ، أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ تَعْنِي رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ يُدْنِي لَهَا رَأْسَهُ وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا، فَتُرَجِّلُهُ وَهِيَ حَائِضٌ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا هِشَامٌ) وَفِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ اتِّفَاقُ اسْمِ شَيْخِ الرَّاوِي وَتِلْمِيذِهِ، مِثَالُهُ هَذَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ هِشَامٍ وَعَنْهُ هِشَامٌ، فَالْأَعْلَى ابْنُ عُرْوَةَ وَالْأَدْنَى ابْنُ يُوسُفَ، وَهُوَ نَوْعٌ أَغْفَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ.

قَوْلُهُ: (مُجَاوِرٌ) أَيْ مُعْتَكِفٌ، وَثَبَتَ هَذَا التَّفْسِيرُ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيُّ فِي الْأَصْلِ، وَحُجْرَةُ عَائِشَةُ كَانَتْ مُلَاصِقَةً لِلْمَسْجِدِ، وَأَلْحَقَ عُرْوَةُ الْجَنَابَةَ بِالْحَيْضِ قِيَاسًا، وَهُوَ جَلِيٌّ ; لِأَنَّ الِاسْتِقْذَارَ بِالْحَائِضِ أَكْثَرُ مِنَ الْجُنُبِ، وَأَلْحَقَ الْخِدْمَةَ بِالتَّرْجِيلِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى طَهَارَةِ بَدَنِ الْحَائِضِ وَعَرَقِهَا، وَأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْمَمْنُوعَةَ لِلْمُعْتَكِفِ هِيَ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ، وَأَنَّ الْحَائِضَ لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ إنَّ الْمُبَاشَرَةَ مُطْلَقًا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، كَذَا قَالَ. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوُضُوءُ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِالصَّلَاةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَمَسُّ الشَّعْرِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌3 - بَاب قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حَجْرِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ

وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ يُرْسِلُ خَادِمَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إِلَى أَبِي رَزِينٍ فَتَأْتِيهِ بِالْمُصْحَفِ فَتُمْسِكُهُ بِعِلَاقَتِهِ

297 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ سَمِعَ زُهَيْرًا، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ، أَنَّ أُمَّهُ حَدَّثَتْهُ، أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَّكِئُ فِي حَجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ.

[الحديث 297 - طرفه في: 7549]

ص: 401

قَوْلُهُ: (بَابُ قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حِجْرِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ) الْحِجْرُ بِفَتْحِ الْمُهْملَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَيَجُوزُ كَسْرُ أَوَّلِهِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ) هُوَ التَّابِعِيُّ الْمَشْهُورُ صَاحِبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَوْلُهُ: (يُرْسِلُ خَادِمَهُ) أَيْ جَارِيَتَهُ، وَالْخَادِمُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.

قَوْلُهُ: (إِلَى أَبِي رَزِينٍ) هُوَ التَّابِعِيُّ الْمَشْهُورُ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (بِعِلَاقَتِهِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ، أَيِ الْخَيْطِ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ كِيسُهُ، وَذَلِكَ مَصِيرٌ مِنْهُمَا إِلَى جَوَازِ حَمْلِ الْحَائِضِ الْمُصْحَفَ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ مَسِّهِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ نَظَّرَ حَمْلَ الْحَائِضِ الْعِلَاقَةَ الَّتِي فِيهَا الْمُصْحَفُ بِحَمْلِ الْحَائِضِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَحْفَظُ الْقُرْآنَ ; لِأَنَّهُ حَامِلُهُ فِي جَوْفِهِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنَعَ الْجُمْهُورُ ذَلِكَ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ الْحَمْلَ مُخِلُّ بِالتَّعْظِيمِ، وَالِاتِّكَاءَ لَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ حَمْلًا.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ زُهَيْرًا) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، وَمَنْصُورُ ابْنُ صَفِيَّةَ مَنْسُوبٌ إِلَى أُمِّهِ لِشُهْرَتِهَا، وَهُوَ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَجَبِيُّ، وَأُمُّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) وَلِلْمُصَنِّفِ فِي التَّوْحِيدِ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ فَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالِاتِّكَاءِ وَضْعُ رَأْسِهِ فِي حِجْرِهَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي هَذَا الْفِعْلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ; لِأَنَّ قِرَاءَتَهَا لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً لَمَا تُوُهِّمَ امْتِنَاعُ الْقِرَاءَةِ فِي حِجْرِهَا حَتَّى احْتِيجَ إِلَى التَّنْصِيصِ عَلَيْهَا، وَفِيهِ جَوَازُ مُلَامَسَةِ الْحَائِضِ، وَأَنَّ ذَاتَهَا وَثِيَابَهَا عَلَى الطَّهَارَةِ مَا لَمْ يَلْحَقْ شَيْئًا مِنْهَا نَجَاسَةٌ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَقْذَرَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْقِرَاءَةِ بِقُرْبِ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِنَادِ الْمَرِيضِ فِي صَلَاتِهِ إِلَى الْحَائِضِ إِذَا كَانَتْ أَثْوَابُهَا طَاهِرَةً، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

‌4 - بَاب مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا

298 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّ زَيْنَبَ ابنة أُمِّ سَلَمَةَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهَا، قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيصَةٍ إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي، قَالَ أَنُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ.

[الحديث 298 - أطرافه 322، 323، 1929]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا) قِيلَ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَقْلُوبَةٌ ; لِأَنَّ حَقَّهَا أَنْ يَقُولَ مَنْ سَمَّى الْحَيْضَ نِفَاسًا، وَقِيلَ يُحْمَلُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرَ: مَنْ سَمَّى حَيْضًا النِّفَاسَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَنْ سَمَّى مَنْ أَطْلَقَ لَفْظَ النِّفَاسِ عَلَى الْحَيْضِ فَيُطَابِقُ مَا فِي الْخَبَرِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ.

وَقَالَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ لَمَّا لَمْ يَجِدِ الْمُصَنِّفُ نَصًّا عَلَى شَرْطِهِ فِي النُّفَسَاءِ وَوَجَدَ تَسْمِيَةَ الْحَيْضِ نِفَاسًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ حُكْمَ دَمِ النِّفَاسِ حُكْمُ دَمِ الْحَيْضِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ التَّرْجَمَةَ فِي التَّسْمِيَةِ لَا فِي الْحُكْمِ، وَقَدْ نَازَعَ الْخَطَّابِيُّ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهمَا مِنْ حَيْثُ الِاشْتِقَاقُ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ وَغَيْرُهُ: مُرَادُ الْبُخَارِيُّ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ النِّفَاسَ هُوَ الْأَصْلُ فِي تَسْمِيَةِ الدَّمِ الْخَارِجِ، وَالتَّعْبِيرُ بِهِ تَعْبِيرٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْحَيْضِ تَعْبِيرٌ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ. فَعَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَوَّلِ، وَعَبَّرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بِالثَّانِي، فَالتَّرْجَمَةُ عَلَى هَذَا مُطَابِقَةٌ لِمَا عَبَّرَتْ بِهِ أُمُّ سَلَمَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (مُضْطَجِعَةٌ) بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ.

قَوْلُهُ: (فِي خَمِيصَةٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ: كِسَاءٌ أَسْوَدُ لَهُ أَعْلَامٌ يَكُونُ مِنْ صُوفٍ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ

ص: 402

طُرُقِهِ بِلَفْظِ خَمِيصَةٍ إِلَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَأَصْحَابُ يَحْيَى ثُمَّ أَصْحَابُ هِشَامٍ كُلُّهُمْ قَالُوا: خَمِيلَةٌ بِاللَّامِ بَدَلَ الصَّادِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، قِيلَ: الْخَمِيلَةُ الْقَطِيفَةُ، وَقِيلَ الطِّنْفِسَةُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْخَمِيلَةُ ثَوْبٌ لَهُ خَمْلٌ أَيْ هُدْبٌ، وَعَلَى هَذَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْخَمِيصَةِ وَالْخَمِيلَةِ، فَكَأَنَّهَا كَانَتْ كِسَاءً أَسْوَدَ لَهَا أَهْدَابٌ.

قَوْلُهُ: (فَانْسَلَلْتُ) بِلَامَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ، أَيْ ذَهَبْتُ فِي خُفْيَةٍ. زَادَ الْمُصَنِّفُ مِنْ رِوَايَةِ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فَخَرَجْتُ مِنْهَا أَيْ مِنَ الْخَمِيصَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ: كَأَنَّهَا خَافَتْ وُصُولَ شَيْءٍ مِنْ دَمِهَا إِلَيْهِ، أَوْ خَافَتْ أَنْ يَطْلُبَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا فَذَهَبَتْ لِتَتَأَهَّبَ لِذَلِكَ، أَوْ تَقَذَّرَتْ نَفْسُهَا وَلَمْ تَرْضَهَا لِمُضَاجَعَتِهِ، فَلِذَلِكَ أَذِنَ لَهَا فِي الْعَوْدِ.

قَوْلُهُ: (ثِيَابُ حَيْضَتِي) وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا الْحَاءُ وَكَسْرُهَا مَعًا، وَمَعْنَى الْفَتْحِ أَخَذْتُ ثِيَابِي الَّتِي أَلْبَسُهَا زَمَنَ الْحَيْضِ ; لِأَنَّ الْحَيْضَةَ بِالْفَتْحِ هِيَ الْحَيْضُ. وَمَعْنَى الْكَسْرِ أَخَذْتُ ثِيَابِي الَّتِي أَعْدَدْتُهَا لِأَلْبَسَهَا حَالَةَ الْحَيْضِ، وَجَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِرِوَايَةِ الْكَسْرِ وَرَجَّحَهَا النَّوَوِيُّ، وَرَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ رِوَايَةَ الْفَتْحِ لِوُرُودِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِلَفْظِ حَيْضِي بِغَيْرِ تَاءٍ.

قَوْلُهُ: (أَنُفِسْتِ)؟ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ الدَّمُ، إِلَّا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ بِنَاءِ الْفِعْلِ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فَقَالُوا فِي الْحَيْضِ نَفِسَتْ بِفَتْحِ النُّونِ، وَفِي الْوِلَادَةِ بِضَمِّهَا. انْتَهَى، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، لَكِنْ حَكَى أَبُو حَاتِمٍ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: يُقَالُ نُفِسَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْحَيْضِ وَالْوِلَادَةِ، بِضَمِّ النُّونِ فِيهِمَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَتِنَا بِالْوَجْهَيْنِ فَتْحِ النُّونِ وَضَمِّهَا، وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ النَّوْمِ مَعَ الْحَائِضِ فِي ثِيَابِهَا، وَالِاضْطِجَاعِ مَعَهَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَاسْتِحْبَابُ اتِّخَاذِ الْمَرْأَةِ ثِيَابًا لِلْحَيْضِ غَيْرَ ثِيَابِهَا الْمُعْتَادَةِ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مُبَاشَرَتِهَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

‌5 - بَاب مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ

299 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ كِلَانَا جُنُبٌ.

300 -

وَكَانَ يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ.

[الحديث 300 - طرفاه في: 2030، 302]

301 -

وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إِلَيَّ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ.

302 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ - هُوَ الشَّيْبَانِيُّ -، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرُهَا. قَالَتْ وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟ تَابَعَهُ خَالِدٌ وَجَرِيرٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ) الْمُرَادُ بِالْمُبَاشَرَةِ هُنَا الْتِقَاءُ الْبَشَرَتَيْنِ، لَا الْجِمَاعُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ) بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ إِلَى عَائِشَةِ كُوفِيُّونَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اغْتِسَالِهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ فِي كِتَابِ الْغُسْلِ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَّزِرُ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا،

ص: 403

وَغَيْرِهَا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَأَصْلُهُ فَأَءتَزِرُ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ ثُمَّ الْمُثَنَّاةِ بِوَزْنِ أَفْتَعِلُ، وَأَنْكَرَ أَكْثَرُ النُّحَاةِ الْإِدْغَامَ، حَتَّى قَالَ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ: إِنَّهُ خَطَأٌ، لَكِنْ نَقَلَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَحَكَاهُ الصَّغَانِيُّ فِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: إِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ ابْنُ مَحِيصٍ {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} بِالتَّشْدِيدِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَشُدُّ إِزَارَهَا عَلَى وَسَطِهَا، وَحَدَّدَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَمَلًا بِالْعُرْفِ الْغَالِبِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ قَبْلُ بِبَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَكَرِيمَةَ، وَلِغَيْرِهِمَا الْخَلِيلُ. وَالْإِسْنَادُ أَيْضًا إِلَى عَائِشَةَ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (إِحْدَانَا) أَيْ إِحْدَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (أَنْ تَتَّزِرَ) بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهَا، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْ تَأْتَزِرَ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَهِيَ أَفْصَحُ.

قَوْلُهُ: (فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فَوْرُ الْحَيْضِ أَوَّلُهُ وَمُعْظَمُهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَوْرُ الْحَيْضَةِ مُعْظَمُ صَبِّهَا، مِنْ فَوَرَانِ الْقِدْرِ وَغَلَيَانِهَا.

قَوْلُهُ: (يَمْلِكُ إِرْبَهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، قِيلَ الْمُرَادُ عُضْوُهُ الَّذِي يَسْتَمْتِعُ بِهِ، وَقِيلَ حَاجَتُهُ، وَالْحَاجَةُ تُسَمَّى إِرْبًا بِالْكَسْرِ ثُمَّ السُّكُونِ، وَأَرَبًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي شَرْحِهِ أَنَّهُ رُوِيَ هُنَا بِالْوَجْهَيْنِ، وَأَنْكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ رِوَايَةَ الْكَسْرِ، وَكَذَا أَنْكَرَهَا النَّحَّاسُ. وَقَدْ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ الْكَسْرِ، وَتَوْجِيهُهَا ظَاهِرٌ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَمْلَكَ النَّاسِ لِأَمْرِهِ، فَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ مَا يُخْشَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنْ يَحُومَ حَوْلَ الْحِمَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يُبَاشِرُ فَوْقَ الْإِزَارِ تَشْرِيعًا لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ.

وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُمْتَنَعُ من الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَائِضِ الْفَرْجُ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرَجَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصَبْغَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ الْأَرْجَحُ دَلِيلًا لِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي مُسْلِمٍ: اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعِ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ الْبَابِ وَشَبَهَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مَا يَقْتَضِي مَنْعَ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ ; لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ. انْتَهَى.

وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ مِنَ الْحَائِضِ شَيْئًا أَلْقَى عَلَى فَرْجِهَا ثَوْبًا، وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ عَلَى الْجَوَازِ بِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ تَحْتَ الْإِزَارِ دُونَ الْفَرْجِ لَا تُوجِبُ حَدًّا وَلَا غُسْلًا، فَأَشْبَهَتِ الْمُبَاشَرَةَ فَوْقَ الْإِزَارِ. وَفَصَّلَ بَعْض الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَضْبِطُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ عَنِ الْفَرْجِ وَيَثِقُ مِنْهَا بِاجْتِنَابِهِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَاسْتَحْسَنَهُ النَّوَوِيُّ. وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُ وَجْهٍ مُفَرِّقٍ بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ وَمَا بَعْدَهُ لِظَاهِرِ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهَا فَوْرِ حَيْضَتِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَّقِي سَوْرَةَ الدَّمِ ثَلَاثًا ثُمَّ يُبَاشِرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْمُبَاشَرَةِ عَلَى اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ خَالد) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، أَيْ تَابَعَا عَلِيَّ بْنَ مُسْهِرٍ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَلِلشَّيْبَانِيِّ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ كَمَا سَيَأْتِي عَقِبَهُ، وَمُتَابَعَةُ خَالِدٍ وَصَلَهَا أَبُو الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ عَنْهُ، وَقَدْ أَوْرَدْتُ إِسْنَادَهَا فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ، وَمُتَابَعَةُ جَرِيرٍ وَصَلَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ. وَهَذَا مِمَّا وَهِمَ فِي اسْتِدْرَاكِهِ لِكَوْنِهِ مُخَرَّجًا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الشَّيْبَانِيِّ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ بِسَنَدِهِ هَذَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ. أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ.

ص: 404

303 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ تَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أَمَرَهَا فَاتَّزَرَتْ وَهِيَ حَائِضٌ. وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ) هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ عَارِمٌ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ) أَيِ ابْنُ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ الصَّحَابَةِ، لَهُ رُؤْيَةٌ.

قَوْلُهُ: (أَمَرَهَا) أَيْ بِالِاتِّزَارِ (فَاتَّزَرَتْ) وَهُوَ فِي رِوَايَتِنَا بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ سُفْيَانُ) يَعْنِي الثَّوْرِيَّ (عَنِ الشَّيْبَانِيِّ) يَعْنِي بِسَنَدِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ نَحْوُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْفَعُ عَنْهُ تَوَهُّمَ الِاضْطِرَابِ، وَكَأَنَّ الشَّيْبَانِيَّ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً مِنْ مُسْنَدِ عَائِشَةَ وَتَارَةً مِنْ مُسْنَدِ مَيْمُونَةَ، فَسَمِعَهُ مِنْهُ جَرِيرٌ، وَخَالِدٌ بِالْإِسْنَادَيْنِ، وَسَمِعَهُ غَيْرُهُمَا بِأَحَدِهِمَا. وَرَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا - بِإِسْنَادِ مَيْمُونَةَ - حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ بِإِسْنَادِ عَائِشَةَ.

‌6 - بَاب تَرْكِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ

304 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَضْحَى - أَوْ فِطْرٍ - إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ. فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ. قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا. أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا.

[الحديث 304 - أطرافه في: 2658، 1951، 1462]

قَوْلُهُ: (بَابُ تَرْكِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ وَغَيْرُهُ: جَرَى الْبُخَارِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي إِيضَاحِ الْمُشْكِلِ دُونَ الْجَلِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ تَرْكَهَا الصَّلَاةَ وَاضِحٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الطَّهَارَةَ مُشْتَرَطَةٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَهِيَ غَيْرُ طَاهِر، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ، فَكَانَ تَرْكُهَا لَهُ تَعَبُّدًا مَحْضًا، فَاحْتَاجَ إِلَى التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ الْمِصْرِيُّ الْجُمَحِيُّ، لَقِيَهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَخُو إِسْمَاعِيلَ، وَالْإِسْنَادُ مِنْهُ فَصَاعِدًا مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ تَابِعِيٌّ عَنْ تَابِعِيٍّ، زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيُّ، لِأَبِيهِ صُحْبَةٌ.

قَوْلُهُ: (فِي أَضْحى أَوْ فِطْرٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي.

قَوْلُهُ: (إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ) اخْتَصَرَهُ الْمُؤَلِّفُ هُنَا، وَقَدْ سَاقَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ تَامًّا وَلَفْظُهُ: إِلَى الْمُصَلَّى فَوَعَظَ

ص: 405

النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ كَانَ وَعَدَ النِّسَاءَ بِأَنْ يُفْرِدَهُنَّ بِالْمَوْعِظَةِ، فَأَنْجَزَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَفِيهِ أَنَّهُ وَعَظَهُنَّ وَبَشَّرَهُنَّ.

قَوْلُهُ: (يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ) الْمَعْشَرُ كُلُّ جَمَاعَةٍ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَنُقِلَ عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالرِّجَالِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، إِلَّا إِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِالتَّخْصِيصِ حَالَةَ إِطْلَاقِ الْمَعْشَرِ لَا تَقْيِيدَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (أُرِيتُكُنَّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَاهُنَّ لَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِلَفْظِ: أُرِيتُ النَّارَ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الْمَذْكُورَةَ وَقَعَتْ فِي حَالِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا فِي بَابِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ جَمَاعَةً.

قَوْلُهُ: (وَبِمَ؟) الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ وَالْبَاءُ تَعْلِيلِيَّةٌ وَالْمِيمُ أَصْلُهَا مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، فَحُذِفَتْ مِنْهَا الْأَلِفُ تَخْفِيفًا.

قَوْلُهُ: (وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) أَيْ تَجْحَدْنَ حَقَّ الْخَلِيطِ - وَهُوَ الزَّوْجُ - أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ نَاقِصَاتِ) صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتٍ إِلَخْ زِيَادَةٌ عَلَى الْجَوَابِ تُسَمَّى الِاسْتِتْبَاعَ، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ كَوْنِهِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ; لِأَنَّهُنَّ إِذَا كُنَّ سَبَبًا لِإِذْهَابِ عَقْلِ الرَّجُلِ الْحَازِمِ حَتَّى يَفْعَلَ أَوْ يَقُولَ مَا لَا يَنْبَغِي، فَقَدْ شَارَكْنَهُ فِي الْإِثْمِ وَزِدْنَ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (أَذْهَبَ) أَيْ أَشَدَّ إِذْهَابًا، وَاللُّبُّ أَخَصُّ مِنَ الْعَقْلِ، وَهُوَ الْخَالِصُ مِنْهُ، (الْحَازِمِ) الضَّابِطِ لِأَمْرِهِ، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِنَّ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الضَّابِطَ لِأَمْرِهِ إِذَا كَانَ يَنْقَادُ لَهُنَّ فَغَيْرُ الضَّابِطِ أَوْلَى، وَاسْتِعْمَالُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مِنَ الْإِذْهَابِ جَائِزٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ حَيْثُ جَوَّزَهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَالْمَزِيدِ.

قَوْلُهُ: (قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا)؟ كَأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ حَتَّى سَأَلْنَ عَنْهُ، وَنَفْسُ السُّؤَالِ دَالٌّ عَلَى النُّقْصَانِ ; لِأَنَّهُنَّ سَلَّمْنَ مَا نُسِبَ إِلَيْهِنَّ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ - الْإِكْثَارِ وَالْكُفْرَانِ وَالْإِذْهَابِ - ثُمَّ اسْتَشْكَلْنَ كَوْنَهُنَّ نَاقِصَاتٍ. وَمَا أَلْطَفَ مَا أَجَابَهُنَّ بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ وَلَا لَوْمٍ، بَلْ خَاطَبَهُنَّ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِنَّ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: مِثْلُ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} لِأَنَّ الِاسْتِظْهَارَ بِأُخْرَى مُؤْذِنٌ بِقِلَّةِ ضَبْطِهَا، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِنَقْصِ عَقْلِهَا، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ حَمَلَ الْعَقْلَ هُنَا عَلَى الدِّيَةِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، قُلْتُ: بَلْ سِيَاقُ الْكَلَامِ يَأْبَاهُ.

قَوْلُهُ: (فَذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ خِطَابًا الَّتِي تَوَلَّتِ الْخِطَابَ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا عَلَى أَنَّهُ لِلْخِطَابِ الْعَامِّ.

قَوْلُهُ: (لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَنْعِ الْحَائِضِ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ كَانَ ثَابِتًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ قَبْلَ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: مَشْرُوعِيَّةُ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى فِي الْعِيدِ، وَأَمْرُ الْإِمَامِ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ فِيهِ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ جَوَازَ الطَّلَبِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ وَلَهُ شُرُوطٌ، وَفِيهِ حُضُورُ النِّسَاءِ الْعِيدَ، لَكِنْ بِحَيْثُ يَنْفَرِدْنَ عَنِ الرِّجَالِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ عِظَةِ الْإِمَامِ النِّسَاءَ عَلَى حِدَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ، وَفِيهِ أَنَّ جَحْدَ النِّعَمِ حَرَامٌ، وَكَذَا كَثْرَةُ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ كَاللَّعْنِ وَالشَّتْمِ، اسْتَدَلَّ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ بِالتَّوَعُّدِ عَلَيْهَا بِالنَّارِ، وَفِيهِ ذَمُّ اللَّعْنِ وَهُوَ الدُّعَاءُ بِالْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ فِي مُعَيَّنٍ، وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْكُفْرِ عَلَى الذُّنُوبِ الَّتِي لَا تُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ تَغْلِيظًا عَلَى فَاعِلِهَا؛ لِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِكُفْرِهِنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ كَإِطْلَاقِ نَفْيِ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ الْإِغْلَاظُ فِي النُّصْحِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِزَالَةِ الصِّفَةِ الَّتِي تُعَابُ، وَأَنْ لَا يُوَاجَهُ بِذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ ; لِأَنَّ فِي التَّعْمِيمَ تَسْهِيلًا عَلَى السَّامِعِ، وَفِيهِ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ الْعَذَابَ، وَأَنَّهَا قَدْ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ الَّتِي بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَنَّ الْعَقْلَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ النَّقْصِ فِي النِّسَاءِ لَوْمَهُنَّ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، لَكِنَّ التَّنْبِيهَ عَلَى ذَلِكَ تَحْذِيرٌ مِنَ الِافْتِتَانِ بِهِنَّ،

ص: 406

وَلِهَذَا رَتَّبَ الْعَذَابَ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الْكُفْرَانِ وَغَيْرِهِ لَا عَلَى النَّقْصِ، وَلَيْسَ نَقْصُ الدِّينِ مُنْحَصِرًا فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ

الْإِثْمُ بَلْ فِي أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ قَالَهُ النَّوَوِيُّ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَالْكَامِلُ مَثَلًا نَاقِصٌ عَنِ الْأَكْمَلِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحَائِضُ لَا تَأْثَمُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ زَمَنَ الْحَيْضِ لَكِنَّهَا نَاقِصَةٌ عَنِ الْمُصَلِّي، وَهَلْ تُثَابُ عَلَى هَذَا التَّرْكِ لِكَوْنِهَا مُكَلَّفَةً بِهِ كَمَا يُثَابُ الْمَرِيضُ عَلَى النَّوَافِلِ الَّتِي كَانَ يَعْمَلُهَا فِي صِحَّتِهِ وَشُغِلَ بِالْمَرَضِ عَنْهَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِري أَنَّهَا لَا تُثَابُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَرِيضِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهَا بِنِيَّةِ الدَّوَامِ عَلَيْهَا مَعَ أَهْلِيَّتِهِ، وَالْحَائِضُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَعِنْدِي - فِي كَوْنِ هَذَا الْفَرْقِ مُسْتَلْزِمًا لِكَوْنِهَا لَا تُثَابُ - وَقْفَةٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مُرَاجَعَةُ الْمُتَعَلِّمِ لِمُعَلِّمِهِ وَالتَّابِعِ لِمَتْبُوعِهِ فِيمَا لَا يَظْهَرُ لَهُ مَعْنَاهُ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ وَالصَّفْحِ الْجَمِيلِ وَالرِّفْقِ وَالرَّأْفَةِ، زَادَهُ اللَّهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا.

‌7 - بَاب تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ أَنْ تَقْرَأَ الْآيَةَ. وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ بَأْسًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ في كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ يَخْرُجَ الْحُيَّضُ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} الْآيَةَ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ: حَاضَتْ عَائِشَةُ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَا تُصَلِّي، وَقَالَ الْحَكَمُ: إِنِّي لَأَذْبَحُ وَأَنَا جُنُبٌ، وَقَالَ اللَّهُ تعالى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}

305 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمِثْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قُلْتُ: لَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنِّي لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ. قَالَ: لَعَلَّكِ نُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكِ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَقْضِي الْحَائِضُ) أَيْ تُؤَدِّي (الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ) قِيلَ: مَقْصُودُ الْبُخَارِيِّ بِمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ أَنَّ الْحَيْضَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْجَنَابَةِ لَا يُنَافِي جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ، بَلْ صَحَّتْ مَعَهُ عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ مِنْ أَذْكَارٍ وَغَيْرِهَا، فَمَنَاسِكُ الْحَجِّ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يُنَافِيهَا إِلَّا الطَّوَافَ فَقَطْ.

وَفِي كَوْنِ هَذَا مُرَادَهُ نَظَرٌ ; لِأَنَّ كَوْنَ مَنَاسِكِ الْحَجِّ كَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالنَّصِّ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَالْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ ابْنُ رَشِيدٍ تَبَعًا لِابْنِ بَطَّالٍ وَغَيْرِهِ: إِنَّ مُرَادَهُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ جَمِيعِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ إِلَّا الطَّوَافَ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَاهُ لِكَوْنِهِ صَلَاةً مَخْصُوصَةً، وَأَعْمَالُ الْحَجِّ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرٍ وَتَلْبِيَةٍ وَدُعَاءٍ، وَلَمْ تُمْنَعِ الْحَائِضُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْجُنُبُ ; لِأَنَّ حَدَثَهَا أَغْلَظُ مِنْ حَدَثِهِ، وَمَنْعُ الْقِرَاءَةِ إِنْ كَانَ

ص: 407

لِكَوْنِهِ ذِكْرًا لِلَّهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ، وَإِنْ كَانَ تَعَبُّدًا فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ، وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ شَيْءٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عِنْدَ غَيْرِهِ، لَكِنَّ أَكْثَرَهَا قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ كَمَا سَنُشِيرُ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا تَمَسَّكَ الْبُخَارِيُّ وَمَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ غَيْرُهُ كَالطَّبَرِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُدَ بِعُمُومِ حَدِيثِ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ ; لِأَنَّ الذِّكْرَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ بِالْعُرْفِ.

وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ أَثَرَ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ النَّخَعِيُّ بِأَنَّ مَنْعَ الْحَائِضِ مِنَ الْقِرَاءَةِ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ بِلَفْظِ أَرْبَعَةٌ لَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ: الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَعِنْدَ الْخَلَاءِ وَفِي الْحَمَّامِ، إِلَّا الْآيَةَ وَنَحْوَهَا لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ نَحْوُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَرُوِيَ عَنْهُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَرُوِيَ عَنْهُ الْجَوَازُ لِلْحَائِضِ دُونَ الْجُنُبِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، ثُمَّ أَوْرَدَ أَثَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِلَفْظِ إِنَّ عَبَّاسًا كَانَ يَقْرَأُ وِرْدَهُ وَهُوَ جُنُبٌ وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فَوَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْعِيدَيْنِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ وَيَدْعُونَ كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ يَدْعِينَ بِيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ بَدَلَ الْوَاوِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ وَهُوَ مَوْصُولٌ عِنْدَهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى الرُّومِ وَهُمْ كُفَّارٌ وَالْكَافِرُ جُنُبٌ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا جَازَ مَسُّ الْكِتَابِ لِلْجُنُبِ مَعَ كَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى آيَتَيْنِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ قِرَاءَتُهُ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ رَشِيدٍ.

وَتَوْجِيهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ إِنَّمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِنَّمَا كَتَبَ إِلَيْهِمْ لِيَقْرَءُوهُ، فَاسْتَلْزَمَ جَوَازَ الْقِرَاءَةِ بِالنَّصِّ لَا بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَقَدْ أجيبَ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - بِأَنَّ الْكِتَابَ اشْتَمَلَ عَلَى أَشْيَاءَ غَيْرِ الْآيَتَيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَكَرَ بَعْضَ الْقُرْآنِ فِي كِتَابٍ فِي الْفِقْهِ أَوْ فِي التَّفْسِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ قِرَاءَتَهُ وَلَا مَسَّهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ التِّلَاوَةُ، وَنَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبَةِ لِمَصْلَحَةِ التَّبْلِيغِ، وَقَالَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْجَوَازَ بِالْقَلِيلِ كَالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعَلِّمَ الرَّجُلُ النَّصْرَانِيَّ الْحَرْفَ مِنَ الْقُرْآنِ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ، وَأَكْرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ الْآيَةَ هُوَ كَالْجُنُبِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: أَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَعَنْهُ إِنْ رَجَا مِنْهُ الْهِدَايَةَ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ بَعْضُ مَنْ مَنَعَ: لَا دَلَالَةَ فِي الْقِصَّةِ عَلَى جَوَازِ تِلَاوَةِ الْجُنُبِ الْقُرْآنَ ; لِأَنَّ الْجُنُبَ إِنَّمَا مُنِعَ التِّلَاوَةَ إِذَا قَصَدَهَا وَعَرَفَ أَنَّ الَّذِي يَقْرَؤُهُ قُرْآنٌ، أَمَّا لَوْ قَرَأَ فِي وَرَقَةٍ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَعَبْدُوسٍ هُنَا (وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ) بِزِيَادَةِ وَاوٍ قَالَ: وَسَقَطَتْ لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ. قُلْتُ: فَأَفْهَمَ أَنَّ الْأُولَى خَطَأٌ لِكَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِلتِّلَاوَةِ، وَلَيْسَتْ خَطَأً، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ إِثْبَاتِ الْوَاوِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مَوْصُولٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَفِي آخِرِهِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَا تُصَلِّي، وَأَمَّا أَثَرُ الْحَكَمِ - وَهُوَ الْفَقِيهُ الْكُوفِيُّ - فَوَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْهُ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الذَّبْحَ مُسْتَلْزِمٌ لِذِكْرِ اللَّهِ بِحُكْمِ الْآيَةِ الَّتِي سَاقَهَا، وَفِي جَمِيعِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ نِزَاعٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَصَرُّفِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَحْجُبُهُ عَنِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ، لَيْسَ الْجَنَابَةُ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ رُوَاتِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ، لَكِنْ قِيلَ: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَدَاهُ،

ص: 408

وَأَجَابَ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْمَلِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَضَعِيفٌ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَيْضِ، وَقَوْلُهَا طَمَثْتُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ حِضْتُ، وَيَجُوزُ كَسْرُ الْمِيمِ، يُقَالُ: طَمِثَتِ الْمَرْأَةُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي، تَطْمُثُ بِالضَّمِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

‌8 - بَاب الِاسْتِحَاضَةِ

306 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ، وَصَلِّي.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِحَاضَةِ) تقَدَّمَ أَنَّهَا جَرَيَانُ الدَّمِ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ عِرْقٍ يُقَالُ لَهُ: الْعَاذِلُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ.

قَوْلُهُ: (إِنِّي لَا أَطْهُرُ) تَقَدَّمَ فِي بَابِ غَسْلِ الدَّمِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ وَهُوَ ابْنُ عُرْوَةَ. فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِبَيَانِ السَّبَبِ وَهُوَ قَوْلُهَا إِنِّي أُسْتَحَاضُ وَكَانَ عِنْدَهَا أَنَّ طَهَارَةَ الْحَائِضِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، فَكَنَّتْ بِعَدَمِ الطُّهْرِ عَنِ اتِّصَالِهِ، وَكَانَتْ قد عَلِمَتْ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي فَظَنَّتْ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُقْتَرِنٌ بِجَرَيَانِ الدَّمِ مِنَ الْفَرْجِ، فَأَرَادَتْ تَحَقُّقَ ذَلِكَ فَقَالَتْ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ، وَزَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فَقَالَ لَا.

قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ كَمَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ أَوْ كُلِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اخْتَارَ الْكَسْرَ عَلَى إِرَادَةِ الْحَالَةِ، لَكِنَّ الْفَتْحَ هُنَا أَظْهَرُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ أَوْ قَرِيبٌ مِنَ الْمُتَعَيَّنِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ إِثْبَاتَ الِاسْتِحَاضَةِ وَنَفْيَ الْحَيْضِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَيَجُوزُ فِيهِ الْوَجْهَانِ مَعًا جَوَازًا حَسَنًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالَّذِي فِي رِوَايَتِنَا بِفَتْحِ الْحَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي) أَيْ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي بَابِ إِذَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي وَلَمْ يَذْكُرْ غَسْلَ الدَّمِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ بَيْنَ أَصْحَابِ هِشَامٍ، مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ غَسْلَ الدَّمِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاغْتِسَالَ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الِاغْتِسَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ غَسْلَ الدَّمِ، وكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَأَحَادِيثُهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ اخْتَصَرَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لِوُضُوحِهِ عِنْدَهُ. وَفِيهِ اخْتِلَافٌ ثَالِثٌ أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي بَابِ غَسْلِ الدَّمِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَزَادَ: ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَرَدَدْنَا هُنَاكَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَدْرَجٌ، وَقَوْلَ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُرْوَةَ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ أَبُو مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ، فَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ وَادَّعَى أَنَّ حَمَّادًا تَفَرَّدَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَأَوْمَأَ مُسْلِمٌ أَيْضًا إِلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَالسَّرَّاجِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا مَيَّزَتْ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ تَعْتَبِرُ دَمَ الْحَيْضِ وَتَعْمَلُ عَلَى إِقْبَالِهِ وَإِدْبَارِهِ، فَإِذَا انْقَضَى قَدْرُهُ اغْتَسَلَتْ عَنْهُ ثُمَّ صَارَ حُكْمُ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ حُكْمَ الْحَدَثِ فَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، لَكِنَّهَا لَا تُصَلِّي

ص: 409

بِذَلِكَ الْوُضُوءِ أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ مُؤَدَّاةٍ أَوْ مَقْضِيَّةٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْوُضُوءَ مُتَعَلِّقٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، فَلَهَا أَنْ تُصَلّ يَ بِهِ الْفَرِيضَةَ الْحَاضِرَةَ وَمَا شَاءَتْ مِنَ الْفَوَائِتِ مَا لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ، وَعَلَى قَوْلِهِمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ أَيْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، فَفِيهِ مَجَازُ الْحَذْفِ وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُسْتَحَبُّ لَهَا الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا بِحَدِيثٍ آخَرَ، وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: إِنِ اغْتَسَلَتْ لِكُلِّ فَرْضٍ فَهُوَ أَحْوَطُ.

وَفِيهِ جَوَازًا اسْتِفْتَاءُ الْمَرْأَةِ بِنَفْسِهَا وَمُشَافَهَتِهَا لِلرَّجُلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ النِّسَاءِ، وَجَوَازُ سَمَاعِ صَوْتِهَا لِلْحَاجَةِ. وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ أَنَّ مُدَّةَ أَقَلِّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ لِقَوْلِهِ: قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ; لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ أَيَّامٌ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ، فَأَمَّا دُونَ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّمَا يُقَالُ يَوْمَانِ وَيَوْمٌ، وَأَمَّا فَوْقَ عَشَرَةٍ فَإِنَّمَا يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَكَذَا إِلَى عِشْرِينَ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ.

‌9 - بَاب غَسْلِ دَمِ الْمَحِيضِ

307 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلَتْ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ ثُمَّ لِتُصَلِّي فِيهِ.

(بَابُ غَسْلِ دَمِ الْمَحِيضِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنَ التَّرْجَمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ، وَهِيَ غَسْلُ الدَّمِ.

وقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ هُنَاكَ عَلَى حَدِيثِ أَسْمَاءَ هَذَا، أَخْرَجَهُ هُنَاكَ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ هِشَامٍ، وَإِسْنَادُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَالَّتِي قَبْلَهَا مَدَنِيُّونَ سِوَى شَيْخِهِ. وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَجَوَازُ سُؤَالِ الْمَرْأَةِ عَمَّا يُسْتَحَيى مِنْ ذِكْرِهِ، وَالْإِفْصَاحُ بِذِكْرِ مَا يُسْتَقْذَرُ لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ كَغَيْرِهِ مِنَ الدِّمَاءِ فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ فَرْكِ النَّجَاسَةِ الْيَابِسَةِ لِيَهُونَ غَسْلُهَا.

308 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ ثُمَّ تَقْتَرِصُ الدَّمَ مِنْ ثَوْبِهَا عِنْدَ طُهْرِهَا فَتَغْسِلُهُ وَتَنْضَحُ عَلَى سَائِرِهِ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَصْبَغُ) هُوَ وَشَيْخُهُ وَشَيْخُ شَيْخِهِ الثَّلَاثَةُ مِصْرِيُّونَ، وَالْبَاقُونَ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ أَيْضًا مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (كَانَتْ إِحْدَانَا) أَيْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُنَّ كُنَّ يَصْنَعْنَ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِهَذَا يَلْتَحِقُ هَذَا الْحَدِيثُ بِحُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَسْمَاءَ الَّذِي قَبْلَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَدِيثُ عَائِشَةَ يُفَسِّرُ حَدِيثَ أَسْمَاءَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّضْحِ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ الْغَسْلُ، وَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ وَتَنْضَحُ عَلَى سَائِرِهِ فَإِنَّمَا فَعَلَتْ ذَلِكَ دَفْعًا لِلْوَسْوَسَةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ بَانَ سِيَاقُ حَدِيثِهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ الدَّمَ لَا بَعْضَهُ، وَفِي قَوْلِهَا ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَقْتَرِصُ الدَّمَ) بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بِوَزْنِ تَفْتَعِلُ، أَيْ تَغْسِلُهُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَعْنَاهُ

ص: 410

تَقْتَطِعُ كَأَنَّهَا تَحُوزُهُ دُونَ بَاقِي الْمَوَاضِعِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِحَدِيثِ أَسْمَاءَ.

قَوْلُهُ: (عِنْدَ طُهْرِهَا) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ عِنْدَ طُهْرِهِ أَيِ الثَّوْبِ، وَالْمَعْنَى عِنْدَ إِرَادَةِ تَطْهِيرِهِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَرْكِ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى تَطْهِيرِهِ.

‌10 - بَاب الاعْتِكَافِ للْمُسْتَحَاضَةِ

309 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ مَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ تَرَى الدَّمَ، فَرُبَّمَا وَضَعَتْ الطَّسْتَ تَحْتَهَا مِنْ الدَّمِ، وَزَعَمَ أَنَّ عَائِشَةَ رَأَتْ مَاءَ الْعُصْفُرِ فَقَالَتْ: كَأَنَّ هَذَا شَيْءٌ كَانَتْ فُلَانَةُ تَجِدُهُ

[الحديث 309 - أطرافه في: 2037، 311، 310]

310 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي.

311 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ بَعْضَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ اعْتَكَفَتْ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ اعْتِكَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ) أَيْ جَوَازِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الطَّحَّانُ الْوَاسِطِيُّ، وَشَيْخُهُ خَالِدٌ هُوَ ابْنُ مِهْرَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْحَذَّاءُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُثَقَّلَةِ، وَمَدَارُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، وَعِكْرِمَةُ هُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (بَعْضُ نِسَائِهِ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا عَرَفْنَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً، قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَائِشَةَ أَشَارَتْ بِقَوْلِهَا مِنْ نِسَائِهِ أَيِ النِّسَاءِ الْمُتَعَلِّقَاتِ بِهِ، وَهِيَ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ جَحْشٍ أُخْتُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، قُلْتُ: يَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَقَدْ ذَكَرَهَا الْحُمَيْدِيُّ عَقِبَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، فَمَا أَدْرِي كَيْفَ غَفَلَ عَنْهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ بَعْضُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ تَعْتَكِفَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ غَيْرُ زَوْجَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا بِهِ تَعَلُّقٌ.

وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ بَنَاتِ جَحْشٍ الثَّلَاثَ كُنَّ مُسْتَحَاضَاتٍ: زَيْنَبَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَمْنَةَ زَوْجَ طَلْحَةَ، وَأُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ مِنْهُنَّ بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُهَا فِي ذَلِكَ. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ اسْتُحِيضَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اغْتَسِلِي لِكُلِّ صَلَاةٍ وَكَذَا وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ اسْتُحِيضَتْ، وَجَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ خَطَأٌ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إِنَّمَا هِيَ أُمُّ حَبِيبَةَ أُخْتُهَا.

وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْبُلْقِينِيُّ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ اسْتُحِيضَتْ وَقْتًا بِخِلَافِ أُخْتِهَا فَإِنَّ اسْتِحَاضَتَهَا دَامَتْ. قُلْتُ: وَكَذَا يُحْمَلُ عَلَى مَا سَأَذْكُرُهُ فِي حَقِّ سَوْدَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَرَأْتُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ فِي عَدِّ الْمُسْتَحَاضَاتِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ذَكَرَهَا الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَلَعَلَّهَا هِيَ الْمَذْكُورَةُ. قُلْتُ: وَهُوَ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ

ص: 411

مِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَعْلِيقًا، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ

(1)

أَنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ أَخْرَجَهُ مَوْصُولًا. قُلْتُ: لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ ; لِأَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ تَابِعِيٌّ وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ.

وَقَرَأْتُ فِي السُّنَنِ لِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ مُعْتَكِفَةً وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ قَالَ: وَحَدَّثَنَا بِهِ خَالِدٌ مَرَّةً أُخْرَى عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةِ كَانَتْ عَاكِفَةً وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَرُبَّمَا جَعَلَتِ الطَّسْتَ تَحْتَهَا. قُلْتُ: وَهَذَا أَوْلَى مَا فَسَّرَتْ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لِاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ. وَقَدْ أَرْسَلَهُ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَوَصَلَهُ خَالِدٌ الطَّحَّانُ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ وَغَيْرُهُمَا بِذِكْرِ عَائِشَةَ فِيهِ، وَرَجَّحَ الْبُخَارِيُّ الْمَوْصُولَ فَأَخْرَجَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، هَذَا الْحَدِيثَ، كَمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِدُونِ تَسْمِيَةِ أُمِّ سَلَمَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الدَّمِ) أَيْ لِأَجْلِ الدَّمِ.

قَوْلُهُ: (وَزَعَمَ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْنَى الْعَنْعَنَةِ أَيْ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ بِكَذَا وَزَعَمَ كَذَا، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّ) بِالْهَمْزِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ.

قَوْلُهُ: (فُلَانَةُ) الِظَاهِرِ أَنَّهَا تَعْنِي الْمَرْأَةَ الَّتِي ذَكَرَتْهَا قَبْلُ. وَرَأَيْتُ عَلَى حَاشِيَةِ نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْ أَصْلِ أَبِي ذَرٍّ مَا نَصُّهُ فُلَانَةُ هِيَ رَمْلَةُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي تَفْسِيرِ الْمُبْهَمَةِ، وَعَلَى مَا زَعَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ اسْتُحِيضَتْ، رَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي جَمْعِهِ حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حِكَايَةِ زَيْنَبَ عَنْ غَيْرِهَا وَهُوَ أَشْبَهُ، فَإِنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم صَغِيرَةً ; لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أُمِّهَا فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَزَيْنَبُ تُرْضِعُ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا.

قُلْتُ: وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ عَلَى التَّرَدُّدِ هَلْ هُوَ عَنْ أَسْمَاءَ أَوْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ، وَهَاتَانِ لَهُمَا بِهِ صلى الله عليه وسلم تَعَلُّقٌ ; لِأَنَّ زَيْنَبَ رَبِيبَتُهُ وَأَسْمَاءَ أُخْتُ امْرَأَتِهِ مَيْمُونَةَ لِأُمِّهَا، وَكَذَا لِحَمْنَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ بِهِ تَعَلُّقٌ، وَحَدِيثُهُمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعٌ يُمْكِنُ أَنْ تُفَسَّرَ الْمُبْهَمَةُ بِإِحْدَاهُنَّ.

وَأَمَّا مَنِ اسْتُحِيضَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّحَابِيَّاتِ غَيْرُهُنَّ فَسَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، ذَكَرهَا أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ مَرْثَدٍ ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ ذَكَرَهَا ابْنُ مَنْدَهْ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ وَقِصَّتُهَا عَنْ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَوَقَعَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا الْقُرَشِيَّةُ الْفِهْرِيَّةُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ، وَاسْمُ أَبِي حُبَيْشٍ قَيْسٌ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَيْضًا وَقَدْ كَمَّلْنَ عَشْرًا بِحَذْفِ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ مُكْثِ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَصِحَّةُ اعْتِكَافِهَا وَصَلَاتِهَا وَجَوَازُ حَدَثِهَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدِ أَمْنِ التَّلْوِيثِ، وَيَلْتَحِقُ بِهَا دَائِمُ الْحَدَثِ وَمَنْ بِهِ جُرْحٌ يَسِيلُ.

‌11 - بَاب هَلْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبٍ حَاضَتْ فِيهِ؟

312 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبٍ حَاضَتْ فِيهِ) قِيلَ مُطَابَقَةُ التَّرْجَمَةِ لِحَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا تُصَلِّي فِيهِ لَكِنْ بَعْدَ تَطْهِيرِهِ.

وفِي الْجَمْعِ بَيْنَه وَبَيْنَ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَاضِي الدَّالِّ عَلَى

(1)

في طبعة بولاق: كذا في نسخ، وفي نسخ أخرى"السهيلى"بدله

ص: 412

أَنَّهُ كَانَ لَهَا ثَوْبٌ مُخْتَصٌّ بِالْحَيْضِ أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ بَعْدَ اتِّسَاعِ الْحَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ عَائِشَةَ بِقَوْلِهَا ثَوْبٌ وَاحِدٌ مُخْتَصٌّ بِالْحَيْضِ، وَلَيْسَ فِي سِيَاقِهَا مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لَهَا غَيْرُهُ فِي زَمَنِ الطُّهْرِ فَيُوَافِقُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهَا صَلَّتْ فِيهِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا أَزَالَتِ الدَّمَ بِرِيقِهَا لِيَذْهَبَ أَثَرُهُ وَلَمْ تَقْصِدْ تَطْهِيرَهُ، وَقَدْ مَضَى قَبْلُ بِبَابٍ عَنْهَا ذِكْرُ الْغُسْلِ بَعْدَ الْقَرْصِ قَالَتْ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ كَانَتْ تَغْسِلُهُ. وَقَوْلُهَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ قَالَتْ بِرِيقِهَا مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَوْلِهَا فَمَصَعَتْهُ بِالصَّادِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ أَيْ حَكَّتْهُ وَفَرَكَتْهُ بِظُفْرِهَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِالْقَافِ بَدَلَ الْمِيمِ، وَالْقَصْعُ الدَّلْكُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ بِمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ تَرَى فِيهِ قَطْرَةً مِنْ دَمٍ فَتَقْصَعُهُ بِظُفْرِهَا فَعَلَى هَذَا فَيُحْمَلُ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ دَمٌ يَسِيرٌ يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ، وَالتَّوْجِيهُ الْأَوَّلُ أَقْوَى.

(فَائِدَةٌ): طَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ دَعْوَى الِانْقِطَاعِ، وَمِنْ جِهَةِ دَعْوَى الِاضْطِرَابِ. فَأَمَّا الِانْقِطَاعُ فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ يَسْمَعْ مُجَاهِدٌ مِنْ عَائِشَةَ، وَهَذَا مَرْدُودٌ، فَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ مِنْهَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي غَيْرِ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَثْبَتَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ نَفَاهُ. وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ فَلِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ لَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ نَافِعٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ بَدَلَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ لَا يُوجِبُ الِاضْطِرَابَ ; لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ نَافِعٍ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَأَبُو نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ أَحْفَظُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ شَيْخِ أَبِي دَاوُدَ فِيهِ، وَقَدْ تَابَعَ أَبَا نُعَيْمٍ، خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو حُذَيْفَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَرَجَحَتْ رِوَايَتُهُ، وَالرِّوَايَةُ الْمَرْجُوحَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌12 - بَاب الطِّيبِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ

313 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ - قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: أَوْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ حَفْصَةَ -، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا نَكْتَحِلَ وَلَا نَتَطَيَّبَ وَلَا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ. وَكُنَّا نُنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ. قَالَ: ورَوَاهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 313 - أطرافه في: 5343، 5342، 5341، 5340، 1279، 1278]

قَوْلُهُ: (بَابُ الطِّيبِ لِلْمَرْأَةِ) الْمُرَادُ بِالتَّرْجَمَةِ أَنْ تُطَيَّبَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ مُتَأَكِّدٌ بِحَيْثُ إنَّهُ رَخَّصَ لِلْحَادَّةِ الَّتِي حَرَّمَ عَلَيْهَا اسْتِعْمَالَ الطِّيبِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ مَخْصُوصٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) زَادَ الْمُسْتَمْلِي، وَكَرِيمَةَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَيِ الْمُصَنِّفُ أَوْ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ كَأَنَّهُ شَكَّ فِي شَيْخِ حَمَّادٍ أَهُوَ أَيُّوبُ أَوْ هِشَامٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ بَاقِي الرُّوَاةِ وَلَا أَصْحَابُ الْمُسْتَخْرَجَاتِ وَلَا الْأَطْرَافِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا نُنْهَى) بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَفَاعِلُ النَّهْيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ هِشَامٍ الْمُعَلَّقَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدُ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي ذِكْرِهَا.

قَوْلُهُ: (نُحِدَّ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ

ص: 413

الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْإِحْدَادِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الزِّينَةِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا عَلَى زَوْجٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ إِلَّا عَلَى زَوْجِهَا وَالْأُولَى مُوَافِقَةٌ لِلَفْظِ نُحِدَّ وَتَوْجِيهُ الثَّانِيَةِ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْوَاحِدَةِ الْمُنْدَرِجَةِ فِي قَوْلِهَا كُنَّا نُنْهَى أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ.

قَوْلُهُ: (وَلَا نَكْتَحِلُ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ أَيْضًا عَلَى الْعَطْفِ، ولَا زَائِدَةٌ، وَأَكَّدَ بِهَا ; لِأَنَّ فِي النَّهْيِ مَعْنَى النَّفْيِ.

قَوْلُهُ: (ثَوْبُ عَصْبٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، قَالَ فِي الْمُحْكَمِ: هُوَ ضَرْبٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ يُعْصَبُ غَزْلُهُ أَيْ يُجْمَعُ ثُمَّ يُصْبَغُ ثُمَّ يُنْسَجُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى أَحْكَامِ الْحَادَّةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فِي نُبْذَةٍ) أَيْ قِطْعَةٍ.

قَوْلُهُ: (كُسْتِ أَظْفَارٍ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ ابْنُ التِّينِ صَوَابُهُ قِسْطُ ظِفَارٍ كَذَا قَالَ، وَلَمْ أَرَ هَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لَكِنْ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى ظِفَارٍ مَدِينَةٍ مَعْرُوفَةٍ بِسَوَاحِلِ الْيَمَنِ يُجْلَبُ إِلَيْهَا الْقِسْطُ الْهِنْدِيُّ، وَحَكَى فِي ضَبْطِ ظِفَارٍ وَجْهَيْنِ كَسْرَ أَوَّلِهِ وَصَرْفَهُ أَوْ فَتْحَهُ وَالْبِنَاءَ بِوَزْنِ قَطَامَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ قِسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ بِإِثْبَاتِ أَوْ وَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ، قَالَ فِي الْمَشَارِقِ: الْقِسْطُ بَخُورٌ مَعْرُوفٌ وَكَذَلِكَ الْأَظْفَارُ، قَالَ فِي الْبَارِعِ: الْأَظْفَارُ ضَرْبٌ مِنَ الْعِطْرِ يُشْبِهُ الظُّفْرَ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: الظُّفْرُ ضَرْبٌ مِنَ الْعِطْرِ أَسْوَدُ مُغَلَّفٌ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى شَكْلِ ظُفْرِ الْإِنْسَانِ يُوضَعُ فِي الْبَخُورِ وَالْجَمْعُ أَظْفَارٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنُ: لَا وَاحِدَ لَهُ. وَالْكُسْتُ بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ هُوَ الْقِسْطُ، قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّلَاقِ، وَكَذَا قَالَهُ غَيْرُهُ، وَحَكَى الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَّهُ يُقَالُ بِالْكَافِ وَالطَّاءِ أَيْضًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ الْقِسْطُ وَالظُّفْرُ مِنْ مَقْصُودِ التَّطَيُّبِ، وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِيهِ لِلْحَادَّةِ إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنَ الْحَيْضِ لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: رَخَّصَ لَهَا فِي التَّبَخُّرِ لِدَفْعِ رَائِحَةِ الدَّمِ عَنْهَا لِمَا تَسْتَقْبِلُهُ مِنَ الصَّلَاةِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَرُوِيَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ وَرَوَاهُ أَيِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ يَقَعْ هَذَا التَّعْلِيقُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ وَرَوَاهُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ فَلَا يَكُونَ تَعْلِيقًا.

‌13 - بَاب دَلْكِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إِذَا تَطَهَّرَتْ مِنْ الْمَحِيضِ

وَكَيْفَ تَغْتَسِلُ

وَتَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَتَّبِعُ أَثَرَ الدَّمِ

314 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، قَالَ خُذِي فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ؟ قَالَ تَطَهَّرِي بِهَا، قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، تَطَهَّرِي، فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَيَّ، فَقُلْتُ تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ.

[الحديث 314 - طرفاه في: 7357، 315]

قَوْلُهُ: (بَابُ دَلْكِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا. . إِلَى آخِرِ التَّرْجَمَةِ) قِيلَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَيْفِيَّةُ الْغُسْلِ وَلَا الدَّلْكِ. وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِأَنَّ تَتَبُّعَ أَثَرِ الدَّمِ يَسْتَلْزِمُ الدَّلْكَ، وَبِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ الصِّفَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِغُسْلِ الْمَحِيضِ وَهِيَ التَّطَيُّبِ لَا نَفْسُ الِاغْتِسَالِ. انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ كُلْفَةٍ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي التَّرْجَمَةِ بِمَا تَضَمَّنَهُ بَعْضُ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مَنْصُوصًا فِيمَا

ص: 414

سَاقَهُ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ الَّتِي أَخْرَجَهُ مِنْهَا الْمُصَنِّفُ، فَذَكَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ كَيْفَ تَغْتَسِلُ ثُمَّ تَأْخُذُ زَادَ ثُمَّ الدَّالَّةَ عَلَى تَرَاخِي تَعْلِيمِ الْأَخْذِ عَنْ تَعْلِيمِ الِاغْتِسَالِ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَفِيهَا شَرْحُ كَيْفِيَّةِ الِاغْتِسَالِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، وَلَفْظُهُ فَقَالَ تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطَّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا - أَيْ أُصُولَهُ - ثُمَّ تَصُبَّ عَلَيْهَا الْمَاءَ، ثُمَّ تَأْخُذَ فِرْصَةً، فَهَذَا مُرَادُ التَّرْجَمَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ وَالدَّلْكِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجِ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الطَّرِيقَ لِكَوْنِهَا مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ صَفِيَّةَ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ مُوسَى الْبَلْخِيُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ السَّكَنِ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورِ ابْنِ صَفِيَّةَ) هِيَ بِنْتُ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيِّ، نُسِبَ إِلَيْهَا لِشُهْرَتِهَا، وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ، وَهُوَ مِنْ رَهْطِ زَوْجَتِهِ صَفِيَّةَ، وَشَيْبَةُ لَهُ صُحْبَةٌ وَلَهَا أَيْضًا، وَقُتِلَ الْحَارِثُ بْنُ طَلْحَةَ بِأُحُدٍ، وَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ رُؤْيَةٌ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ فِي جَمِيعِ السَّنَدِ عِنْدَ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ امْرَأَةً) زَادَ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَسَمَّاهَا مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرِ أَسْمَاءَ بِنْتَ شَكَلٍ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْكَافِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ اللَّامِ، وَلَمْ يُسَمِّ أَبَاهَا فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ الْأَنْصَارِيَّةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا خَطِيبَةُ النِّسَاءِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّلْقِيحِ وَالدِّمْيَاطِيُّ وَزَادَ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ تَصْحِيفٌ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَنْصَارِ مَنْ يُقَالُ لَهُ شَكَلٌ، وَهُوَ رَدٌّ لِلرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَكَلٌ لَقَبًا لَا اسْمًا، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَسَانِيدِ وَالْجَوَامِعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَسْمَاءُ بِنْتُ شَكَلٍ كَمَا فِي مُسْلِمٍ، أَوْ أَسْمَاءُ لِغَيْرِ نَسَبٍ كَمَا فِي أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهُ مِنْهَا الْخَطِيبُ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْوَجْهَيْنِ بِغَيْرِ تَرْجِيحٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ: خُذِي) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهَا أَمَرَهَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ بَيَانًا لِلِاغْتِسَالِ، وَالِاغْتِسَالُ صَبُّ الْمَاءِ لَا أَخْذُ الْفِرْصَةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يَكُنْ عَنْ نَفْسِ الِاغْتِسَالِ ; لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، بَلْ كَانَ لِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ أَبِي جَمْرَةَ وُقُوفًا مَعَ هَذَا اللَّفْظِ الْوَارِدِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ اخْتَصَرَ أَوْ اقْتَصَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فِرْصَةٌ) بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَحَكَى ابْنُ سِيدَهْ تَثْلِيثَهَا، وَبِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَإِهْمَالِ الصَّادِ: قِطْعَةٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ جِلْدَةٍ عَلَيْهَا صُوفٌ حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ قَرْصَةٌ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَوَجَّهَهُ الْمُنْذِرِيُّ فَقَالَ: يَعْنِي شَيْئًا يَسِيرًا مِثْلَ الْقَرْصَةِ بِطَرَفِ الْإِصْبَعَيْنِ. انْتَهَى. وَوَهِمَ مَنْ عَزَى هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِلْبُخَارِيِّ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هِيَ قَرْضَةٌ بِفَتْحِ الْقَافِ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ.

وَقَوْلُهُ: مِنْ مَسْكٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُرَادُ قِطْعَةُ جِلْدٍ، وَهِيَ رِوَايَةٌ

(1)

مَنْ قَالَهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي ضِيقٍ يَمْتَنِعُ مَعَهُ أَنْ يَمْتَهِنُوا الْمِسْكَ مَعَ غَلَاءِ ثَمَنِهِ. وَتَبِعَهُ ابْنُ بَطَّالٍ. وَفِي الْمَشَارِقِ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْكَسْرَ وَقَالَ: إِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ فِرْصَةٌ مُمَسَّكَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ;

(1)

كذافي النسخ ولعله"وهي كرواية"

ص: 415

لِأَنَّ الْخَطَّابِيَّ قَالَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مُمَسَّكَةٌ أَيْ مَأْخُوذَةٌ بِالْيَدِ، يُقَالُ أَمْسَكْتُهُ وَمَسَّكْتُهُ. لَكِنْ يَبْقَى الْكَلَامُ ظَاهِرَ الرِّكَّةِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ هَكَذَا: خُذِي قِطْعَةً مَأْخُوذَةً.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ عِنْدَهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ حَيْثُ جَعَلَ لِلْأَمْرِ بِالطِّيبِ بَابًا مُسْتَقِلًّا. انْتَهَى. وَاقْتِصَارُ الْبُخَارِيِّ فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى بَعْضِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَيُقَوِّي رِوَايَةَ الْكَسْرِ وَأَنَّ الْمُرَادَ التَّطَيُّبُ مَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ حَيْثُ وَقَعَ عِنْدَهُ مِنْ ذَرِيرَةَ، وَمَا اسْتَبْعَدَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنِ امْتِهَانِ الْمِسْكِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْحِجَازِ مِنْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمَقْصُودُ بِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ دَفْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ لِكَوْنِهِ أَسْرَعَ إِلَى الْحَبَلِ. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ: فَعَلَى الْأَوَّلِ إِنْ فَقَدَتِ الْمِسْكَ اسْتَعْمَلَتْ مَا يَخْلُفُهُ فِي طِيبِ الرِّيحِ، وَعَلَى الثَّانِي مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي إِسْرَاعِ الْعُلُوقِ. وَضَعَّفَ النَّوَوِيُّ الثَّانِيَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَاخْتَصَّتْ بِهِ الْمُزَوَّجَةُ. قَالَ: وَإِطْلَاقُ الْأَحَادِيثِ يَرُدُّهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ مُغْتَسِلَةٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ لِلْقَادِرَةِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِسْكًا فَطِيبًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَمُزِيلًا كَالطِّينِ وَإِلَّا فَالْمَاءُ كَافٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَنَّ الْحَادَّةَ تَتَبَخَّرُ بِالْقِسْطِ فَيَجْزِيهَا.

قَوْلُهُ: (فَتَطَهَّرِي) قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا تَوَضَّئِي أَيْ تَنَظَّفِي.

قَوْلُهُ: (سُبْحَانَ اللَّهِ) زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ اسْتَحْيَى وَأَعْرَضَ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ اسْتَحْيَى عَلَّمْتُهَا وَزَادَ الدَّارِمِيُّ وَهُوَ يَسْمَعُ فَلَا يُنْكِرُ.

قَوْلُهُ: (أَثَرُ الدَّمِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْفَرْجُ، وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ: يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تُطَيِّبَ كُلَّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ الدَّمُ مِنْ بَدَنِهَا، قَالَ: وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لَهُ. قُلْتُ: وَيُصَرِّحُ بِهِ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ تَتَبَّعِي بِهَا مَوَاضِعَ الدَّمِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ التَّسْبِيحُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ، وَمَعْنَاهُ هُنَا كَيْفَ يَخْفَى هَذَا الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ فِي فَهْمِهِ إِلَى فِكْرٍ؟ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْكِنَايَاتِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَوْرَاتِ. وَفِيهِ سُؤَالُ الْمَرْأَةِ الْعَالِمَ عَنْ أَحْوَالِهَا الَّتِي يُحْتَشَمُ مِنْهَا، وَلِهَذَا كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ فِي نِسَاءِ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ. كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مُعَلَّقًا. وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ بِالتَّعْرِيضِ وَالْإِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَهْجَنَةِ، وَتَكْرِيرُ الْجَوَابِ لِإِفْهَامِ السَّائِلِ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ مَعَ كَوْنِهَا لَمْ تَفْهَمْهُ أَوَّلًا ; لِأَنَّ الْجَوَابَ بِهِ يُؤْخَذُ مِنْ إِعْرَاضِهِ بِوَجْهِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَوَضَّئِي أَيْ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَسْتَحْيى مِنْ مُوَاجَهَةِ الْمَرْأَةِ بِالتَّصْرِيحِ بِهِ، فَاكْتَفَى بِلِسَانِ الْحَالِ عَنْ لِسَانِ الْمَقَالِ، وَفَهِمَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها ذَلِكَ عَنْهُ فَتَوَلَّتْ تَعْلِيمَهَا. وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي الِاعْتِصَامِ الْأَحْكَامُ الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ. وَفِيهِ تَفْسِيرُ كَلَامِ الْعَالِمِ بِحَضْرَتِهِ لِمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ إِذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ يُعْجِبُهُ. وَفِيهِ الْأَخْذُ عَنِ الْمَفْضُولِ بِحَضْرَةِ الْفَاضِلِ. وَفِيهِ صِحَّةُ الْعَرْضِ عَلَى الْمُحَدِّثِ إِذَا أَقَرَّهُ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ عَقِبَهُ نَعَمْ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّحَمُّلِ فَهْمُ السَّامِعِ لِجَمِيعِ مَا يَسْمَعُهُ.

وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْمُتَعَلِّمِ وَإِقَامَةُ الْعُذْرِ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ مَطْلُوبٌ بِسَتْرِ عُيُوبِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا جُبِلَ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ أَمْرِ الْمَرْأَةِ بِالتَّطَيُّبِ لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ. وَفِيهِ حُسْنُ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم وَعَظِيمُ حِلْمِهِ وَحَيَائِهِ. زَادَهُ اللَّهُ شَرَفًا.

‌14 - بَاب غَسْلِ الْمَحِيضِ

315 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِنْ الْمَحِيضِ؟ قَالَ: خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِي ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

ص: 416

اسْتَحْيَى فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ، أَوْ قَالَ: تَوَضَّئِي بِهَا، فَأَخَذْتُهَا، فَجَذَبْتُهَا، فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ غُسْلِ الْمَحِيضِ) تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمُ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ صَفِيَّةَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَتَوَضَّئِي ثَلَاثًا) يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ ثَلَاثًا بِتَوَضَّئِي أَيْ كَرِّرِي الْوُضُوءَ ثَلَاثًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَالَ وَيُؤَيِّدُهُ السِّيَاقُ الْمُتَقَدِّمُ، أَيْ قَالَ لَهَا ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَوْلُهُ: (أَوْ قَالَ) كَذَا وَقَعَ بِالشَّكِّ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ وَقَالَ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَالْأُولَى أَظْهَرُ، وَمَحَلُّ التَّرَدُّدِ فِي لَفْظِ بِهَا هَلْ هُوَ ثَابِتٌ أَمْ لَا، أَوِ التَّرَدُّدُ وَاقِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَفْظِ ثَلَاثًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌15 - بَاب امْتِشَاطِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ

316 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَهْلَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكُنْتُ مِمَّنْ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ وَلَمْ تَطْهُرْ حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ لَيْلَةُ عَرَفَةَ، وَإِنَّمَا كُنْتُ تَمَتَّعْتُ بِعُمْرَةٍ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ، فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْتُ الْحَجَّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ فَأَعْمَرَنِي مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي نَسَكْتُ قَوْلُهُ:(بَابُ امْتِشَاطِ الْمَرْأَةِ. حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ) هوَ ابْنُ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (انْقُضِي رَأْسَكِ) أَيْ حُلِّي ضَفْرَهُ (وَامْتَشِطِي) قِيلَ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّرْجَمَةِ، قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، قَالُوا: لِأَنَّ أَمْرَهَا بِالِامْتِشَاطِ كَانَ لِلْإِهْلَالِ وَهِيَ حَائِضٌ لَا عِنْدَ غُسْلِهَا، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِهْلَالَ بِالْحَجِّ يَقْتَضِي الِاغْتِسَالَ ; لِأَنَّهُ مِنْ سُنَّةِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالِاغْتِسَالِ صَرِيحًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ وَلَفْظُهُ: فَاغْتَسِلِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ بَعْضُ طُرُقِ الْحَدِيثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا فِيمَا سَاقَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدَّاوُدِيُّ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا عِنْدَ غُسْلِهَا أَيْ مِنَ الْحَيْضِ وَلَمْ يُرِدْ نَفْيَ الِاغْتِسَالِ مُطْلَقًا، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عَائِشَةَ إِنَّمَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا يَوْمَ النَّحْرِ فَلَمْ تَغْتَسِلْ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَّا لِلْإِحْرَامِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفَ وَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غُسْلِ الْإِحْرَامِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَهَا إِذْ ذَاكَ كَانَ لِلْإِحْرَامِ اسْتُفِيدَ مَعْنَى التَّرْجَمَةِ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ ; لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ لَهَا الِامْتِشَاطُ فِي غُسْلِ الْإِحْرَامِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ كَانَ جَوَازُهُ لِغُسْلِ الْمَحِيضِ وَهُوَ وَاجِبٌ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (أَمَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) يَعْنِي ابْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَلَيْلَةُ الْحَصْبَةِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي نَزَلُوا فِيهَا فِي الْمُحَصَّبِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي نَزَلُوهُ بَعْدَ النَّفْرِ مِنْ مِنًى خَارِجَ مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (الَّتِي نَسَكْتُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، مَأْخُوذٌ مِنَ النُّسُكِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ سَكَتُّ بِحَذْفِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ أَيْ عَنْهَا، وَالْقَابِسِيِّ بِمُعْجَمَةٍ وَالتَّخْفِيفِ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى عَائِشَةَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، وَفِي السِّيَاقِ الْتِفَاتٌ آخَرُ بَعْدَ الْتِفَاتٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ.

‌16 - بَاب نَقْضِ الْمَرْأَةِ شَعَرَهَا عِنْدَ غُسْلِ الْمَحِيضِ

317 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا

ص: 417

مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهْلِلْ، فَإِنِّي لَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ، فَأَهَلَّ بَعْضُهُمْ بِعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ بَعْضُهُمْ بِحَجٍّ، وَكُنْتُ أَنَا مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: دَعِي عُمْرَتَكِ وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِحَجٍّ. فَفَعَلْتُ، حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي أَخِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي. قَالَ هِشَامٌ: وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَوْمٌ وَلَا صَدَقَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ نَقْضِ الْمَرْأَةِ شَعْرَهَا عِنْدَ غُسْلِ الْمَحِيضِ) أَيْ هَلْ يَجِبُ أَمْ لَا؟ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ فِي الْحَائِضِ دُونَ الْجُنُبِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ فِيهِمَا. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِهِ فِيهِمَا إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. قُلْتُ: وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ عَنْهُ، وَفِيهِ إِنْكَارُ عَائِشَةَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِذَلِكَ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ كَانَ يُوجِبُهُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنِ النَّخَعِيِّ، وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: لَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَةِ وَحَمَلُوا الْأَمْرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، أَوْ يُجْمَعُ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ مَنْ لَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالنَّقْضِ فَيَلْزَمُ وَإِلَّا فَلَا.

قَوْلُهُ: (فَلْيُهْلِلْ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فَلْيُهِلَّ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ.

قَوْلُهُ: (لَأَحْلَلْتُ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَالْحَمَوِيِّ لَأَهْلَلْتُ بِالْهَاءِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌17 - بَاب {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}

318 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ وَالْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.

[الحديث 318 - طرفاه- في: 6595، 3333]

قَوْلُهُ: (بَابُ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) رَوَيْنَاهُ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ بَابُ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} وَبِالتَّنْوِينِ، وَتَوْجِيهُهُ ظَاهِرٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ ابْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا بِالتَّخْفِيفِ، يُقَالُ وَكَلَهُ بِكَذَا إِذَا اسْتَكْفَاهُ إِيَّاهُ وَصَرَفَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، وَلِلْأَكْثَرِ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}

قَوْلُهُ: (يَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ) بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، أَيْ وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ نُطْفَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ بِالنَّصْبِ أَيْ خَلَقْتَ يَا رَبِّ نُطْفَةً، وَنِدَاءُ الْمَلَكِ بِالْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ بَيْنَ كُلِّ حَالَةٍ وَحَالَةٍ مُدَّةٌ تَبَيَّنَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي فِي كِتَابِ الْقَدَرِ أَنَّهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ هُنَاكَ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ، وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مُفَسِّرٌ لِلْآيَةِ.

وَأَوْضَحُ مِنْهُ سِيَاقًا مَا رَوَاهُ

ص: 418

الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فَقَالَ: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ مَجَّهَا الرَّحِمُ دَمًا، وَإِنْ قَالَ مُخَلَّقَةٌ قَالَ: يَا رَبِّ فَمَا صِفَةُ هَذِهِ النُّطْفَةِ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ لَفْظًا مَرْفُوعٌ حُكْمًا، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا وَقَالَ: الصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ قَالَ الْمُخَلَّقَةُ الْمُصَوَّرَةُ خَلْقًا تَامًّا، وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ السِّقْطُ قَبْلَ تَمَامِ خَلْقِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُ الْبُخَارِيُّ بِإِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَبْوَابِ الْحَيْضِ تَقْوِيَةُ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَدَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَحِيضُ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ. قُلْتُ: وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحِيضُ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَامِلِ هُوَ السِّقْطَ الَّذِي لَمْ يُصَوَّرْ أَنْ لَا يَكُونَ

(1)

الدَّمُ الَّذِي تَرَاهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي يَسْتَمِرُّ حَمْلُهَا لَيْسَ بِحَيْضٍ. وَمَا ادَّعَاهُ الْمُخَالِفُ مِنْ أَنَّهُ رَشْحٌ مِنَ الْوَلَدِ أَوْ مِنْ فَضْلَةِ غِذَائِهِ أَوْ دَمُ فِسَادٍ لِعِلَّةٍ فَمُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ. وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ خَبَرٍ أَوْ أَثَرٍ لَا يَثْبُتُ ; لِأَنَّ هَذَا دَمٌ بِصِفَاتِ دَمِ الْحَيْضِ وَفِي زَمَنِ إِمْكَانِهِ، فَلَهُ حُكْمُ دَمِ الْحَيْضِ، فَمَنِ ادَّعَى خِلَافَهُ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ.

وَأَقْوَى حُجَجِهِمْ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ اعْتُبِرَ بِالْمَحِيضِ لِتَحَقُّقِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنَ الْحَمْلِ، فَلَوْ كَانَتِ الْحَامِلُ تَحِيضُ لَمْ تَتِمَّ الْبَرَاءَةُ بِالْحَيْضِ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِدَمِ حَيْضٍ بِأَنَّ الْمَلَكَ مُوَكَّلٌ بِرَحِمِ الْحَامِلِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ قَذَرٌ وَلَا يُلَائِمُهَا ذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَلَكِ مُوَكَّلًا بِهِ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فِيهِ، ثُمَّ هُوَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ ; لِأَنَّ الدَّمَ كُلَّهُ قَذِرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌18 - بَاب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

319 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيُحْلِلْ وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يُحِلُّ حَتَّى يُحِلَّ بِنَحْرِ هَدْيِهِ، وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ، قَالَتْ، فَحِضْتُ، فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَمْ أُهْلِلْ إِلَّا بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي وَأَمْتَشِطَ وَأُهِلَّ بِحَجٍّ وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ حَتَّى قَضَيْتُ حَجِّي، فَبَعَثَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مَكَانَ عُمْرَتِي مِنْ التَّنْعِيمِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) مُرَادُهُ بَيَانُ صِحَّةَ إِهْلَالِ الْحَائِضِ، وَمَعْنَى كَيْفَ فِي التَّرْجَمَةِ الْإِعْلَامُ بِالْحَالِ بِصُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ لَا الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الصِّفَةُ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلتَّرْجَمَةِ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ صِفَةِ الْإِهْلَالِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِحَجَّةٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَكَذَا لِلْحَمَوِيِّ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ فَحِضْتُ) أَيْ بِسَرِفَ قَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى قَضَيْتُ حَجَّتِي) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَبِي الْوَقْتِ حَجِّي، وَالْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ الْحَدِيثِ يَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(1)

كذا في النسخ ولعله"أن يكون"باسقاط حرف النفي ليستقيم المعنى فتأمل

ص: 419

‌19 - بَاب إِقْبَالِ الْمَحِيضِ وَإِدْبَارِهِ

وَكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدُّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ فَتَقُولُ لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ، تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضَةِ، وَبَلَغَ ابنة زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ نِسَاءً يَدْعُونَ بِالْمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ، فَقَالَتْ: مَا كَانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا، وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ.

320 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِقْبَالِ الْمَحِيضِ وَإِدْبَارِهِ) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ إِقْبَالَ الْمَحِيضِ يُعْرَفُ بِالدُّفْعَةِ مِنَ الدَّمِ فِي وَقْتِ إِمْكَانِ الْحَيْضِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِدْبَارِهِ فَقِيلَ: يُعْرَفُ بِالْجُفُوفِ، وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ مَا يُحْتَشَى بِهِ جَافًّا، وَقِيلَ بِالْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْمُصَنِّفِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ.

قَوْلُهُ: (وَكُنَّ) هُوَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ، وَنِسَاءٌ بِالرَّفْعِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ نَحْوَ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَالتَّنْكِيرُ فِي نِسَاءٍ لِلتَّنْوِيعِ، أَيْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ نَوْعٍ مِنَ النِّسَاءِ لَا مِنْ كُلِّهِنَّ. وَهَذَا الْأَثَرُ قَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ الْمَدَنِيِّ عَنْ أُمِّهِ - وَاسْمُهَا مَرْجَانَةُ مَوْلَاةُ عَائِشَةَ - قَالَتْ كَانَ النِّسَاءُ.

قَوْلُهُ: (بِالدِّرَجَةِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَالْجِيمِ جَمْعُ دُرْجٍ بِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُونِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَذَا يَرْوِيهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَضَبَطَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْمُوَطَّأِ بِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُونِ وَقَالَ: إِنَّهُ تَأْنِيثُ دُرْجٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَحْتَشِي بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ قُطْنَةٍ وَغَيْرِهَا لِتَعْرِفَ هَلْ بَقِيَ مِنْ أَثَرِ الْحَيْضِ شَيْءٌ أَمْ لَا.

قَوْلُهُ: (الْكُرْسُفُ) بِضَمِّ الْكَافِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ هُوَ الْقُطْنُ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ الصُّفْرَةُ) زَادَ مَالِكٌ مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ.

قَوْلُهُ: (فَتَقُولُ) أَيْ عَائِشَةُ. وَالْقَصَّةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ هِيَ النُّورَةُ، أَيْ حَتَّى تَخْرُجَ الْقُطْنَةُ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا يُخَالِطُهَا صُفْرَةٌ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ إِنْ شَاءَ تَعَالَى.

وَفِيهِ أَنَّ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ عَلَامَةٌ لِانْتِهَاءِ الْحَيْضِ وَيَتَبَيَّنُ بِهَا ابْتِدَاءُ الطُّهْرِ، وَاعْتُرِضَ عَلَى مَنْ ذَهبَ إِلَى أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْجُفُوفِ بِأَنَّ الْقُطْنَةَ قَدْ تَخْرُجُ جَافَّةً فِي أَثْنَاءِ الْأَمْرِ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى انْقِطَاعِ الْحَيْضِ، بِخِلَافِ الْقَصَّةِ وَهِيَ مَاءٌ أَبْيَضُ يَدْفَعُهُ الرَّحِمُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ. قَالَ مَالِكٌ: سَأَلْتُ النِّسَاءَ عَنْهُ فَإِذَا هُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَهُنَّ يَعْرِفْنَهُ عِنْدَ الطُّهْرِ.

قَوْلُهُ: (وَبَلَغَ ابْنةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) كَذَا وَقَعَتْ مُبْهَمَةً هُنَا، وَكَذَا فِي الْمُوَطَّأِ حَيْثُ رُوِيَ هَذَا الْأَثَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ

(1)

بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمَّتِهِ عَنْهَا، وَقَدْ ذَكَرُوا لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنَ الْبَنَاتِ حَسَنَةَ وَعَمْرَةَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ وَغَيْرَهُنَّ، وَلَمْ أَرَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رِوَايَةً إِلَّا لِأُمِّ كُلْثُومٍ - وَكَانَتْ زَوْجَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - فَكَأَنَّهَا هِيَ الْمُبْهَمَةُ هُنَا. وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهَا أُمُّ سَعْدٍ قَالَ: لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ ذَكَرَهَا فِي الصَّحَابَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ لَهَا دَلِيلُ على الْمُدَّعِي ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِنَّهَا صَاحِبَةُ هَذِهِ الْقِصَّةِ، بَلْ لَمْ يَأْتِ لَهَا ذِكْرٌ عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَ غَيْرِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ عَنْبَسَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

(1)

في هامش طبعة بولاق: في نسخة"ابن أبي محمد"

ص: 420

وَقَدْ كَذَّبُوهُ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَضْطَرِبُ فِيهَا، فَتَارَةً يَقُولُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَتَارَةً يَقُولُ امْرَأَةُ زَيْدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّسَبِ فِي أَوْلَادِ زَيْدٍ مَنْ يُقَالُ لَهَا أُمُّ سَعْدٍ، وَأَمَّا عَمَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ ابْنُ الْحَذَّاءِ: هِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ حَزْمٍ عَمَّةُ جَدِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَقِيلَ لَهَا عَمَّتُهُ مَجَازًا. قُلْتُ: لَكِنَّهَا صَحَابِيَّةٌ قَدِيمَةٌ رَوَى عَنْهَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّحَابِيُّ، فَفِي رِوَايَتِهَا عَنْ بِنْتِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بُعْدٌ، فَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً فَرِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهَا مُنْقَطِعَةٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُرَادَةُ عَمَّتَهُ الْحَقِيقِيَّةَ وَهِيَ أُمُّ عَمْرٍو أَوْ أُمُّ كُلْثُومٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (يَدْعُونَ) أَيْ يَطْلُبْنَ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَدْعِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهَا فِي بَابِ تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: دَعَيْتُ لُغَةً فِي دَعَوْتُ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَلَا الْمَطَالِعِ.

قَوْلُهُ: (إِلَى الطُّهْرِ) أَيْ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الطُّهْرِ وَاللَّامِ فِي قَوْلِهَا مَا كَانَ النِّسَاءُ لِلْعَهْدِ أَيْ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا عَابَتْ عَلَيْهِنَّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْحَرَجَ وَالتَّنَطُّعَ وَهُوَ مَذْمُومٌ، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ لِكَوْنِ ذَلِكَ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ جَوْفُ اللَّيْلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ لِكَوْنِ اللَّيْلِ لَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْبَيَاضُ الْخَالِصُ مِنْ غَيْرِهِ فَيَحْسِبْنَ أَنَّهُنَّ طَهُرْنَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَيُصَلِّينَ قَبْلَ الطُّهْرِ.

وحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَسُفْيَانُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ ; لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْمُسْنَدِيُّ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الثَّوْرِيِّ.

‌20 - بَاب لَا تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ

وَقَالَ جَابِرُ، وَأَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَدَعُ الصَّلَاةَ

321 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي مُعَاذَةُ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: أَتَجْزِي إِحْدَانَا صَلَاتَهَا إِذَا طَهُرَتْ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ، كُنَّا نَحِيضُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَأْمُرُنَا بِهِ، أَوْ قَالَتْ: فَلَا نَفْعَلُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ) نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوجِبُونَهُ، وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِ فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سَلَمَةَ، لَكِنِ اسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ كَمَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو سَعِيدٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ عَنْ هَذَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ بِالْمَعْنَى، فَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ حَيْضِ عَائِشَةَ فِي الْحَجِّ وَفِيهِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ وَلَا تُصَلِّي، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي بَابِ تَرْكِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ وَفِيهِ أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟. فَإِنْ قِيلَ: التَّرْجَمَةُ لِعَدَمِ الْقَضَاءِ، وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ لِعَدَمِ الْإِيقَاعِ، فَمَا وَجْهُ الْمُطَابَقَةِ؟ أَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ التَّرْكَ فِي قَوْلِهِ تَدَعُ الصَّلَاةَ مُطْلَقُ أَدَاءٍ وَقَضَاءٍ. انْتَهَى. وَهُوَ غَيْرُ مُتَّجَهٍ ; لِأَنَّ مَنْعَهَا إِنَّمَا هُوَ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ فَقَطْ، وَقَدْ وَضَحَ ذَلِكَ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثَيْنِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى التَّرْكِ أَوَّلًا بِالتَّعْلِيقِ الْمَذْكُورِ، وَعَلَى عَدَمِ الْقَضَاءِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، فَجَعَلَ الْمُعَلَّقُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْحَدِيثِ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَتْنِي مُعَاذَةُ) هِيَ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيَّةُ، وَهِيَ مَعْدُودَةٌ فِي فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهَا بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ) كَذَا أَبْهَمَهَا هَمَّامٌ، وَبَيَّنَ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا هِيَ مُعَاذَةُ الرَّاوِيَةُ. أَخْرَجَهُ

ص: 421

الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ مُعَاذَةَ.

قَوْلُهُ: (أَتَجْزِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ أَتَقْضِي. وَصَلَاتَهَا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَيُرْوَى أَتُجْزِئُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالْهَمْزِ، أَيْ أَتَكْفِي الْمَرْأَةَ الصَّلَاةُ الْحَاضِرَةُ وَهِيَ طَاهِرَةٌ وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ؟ فَصَلَاتُهَا عَلَى هَذَا بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَالْأُولَى أَشْهَرُ.

قَوْلُهُ: (أَحَرُورِيَّةٌ) الْحَرُورِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى حَرُورَاءَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبَعْدَ الْوَاوِ السَّاكِنَةِ رَاءٌ أَيْضًا، بَلْدَةٌ عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ الْكُوفَةِ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهَا بِالْمَدِّ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: النِّسْبَةُ إِلَيْهَا حَرُورَاوِيُّ، وَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ فِي آخِرِهِ أَلِفُ تَأْنِيثٍ مَمْدُودَةٌ، وَلَكِنْ قِيلَ الْحَرُورِيُّ بِحَذْفِ الزَّوَائِدِ، وَيُقَالُ لِمَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الْخَوَارِجِ حَرُورِيٌّ ; لِأَنَّ أَوَّلَ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ بِالْبَلْدَةِ الْمَذْكُورَةِ فَاشْتُهِرُوا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَهُمْ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ، لَكِنْ مِنْ أُصُولِهِمُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَهُمُ الْأَخْذُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَرَدُّ مَا زَادَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا اسْتَفْهَمَتْ عَائِشَةُ مُعَاذَةَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ عَنْ مُعَاذَةَ فَقُلْتُ: لَا وَلَكِنِّي أَسْأَلُ، أَيْ سُؤَالًا مُجَرَّدًا لِطَلَبِ الْعِلْمِ لَا لِلتَّعَنُّتِ، وَفَهِمَتْ عَائِشَةُ عَنْهَا طَلَبَ الدَّلِيلِ فَاقْتَصَرَتْ فِي الْجَوَابِ عَلَيْهِ دُونَ التَّعْلِيلِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ أَنَّ الصَّلَاةَ تَتَكَرَّرُ فَلَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهَا لِلْحَرَجِ بِخِلَافِ الصِّيَامِ، وَلِمَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْحَائِضَ مُخَاطَبَةٌ بِالصِّيَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بِأَنَّهَا لَمْ تُخَاطَبْ بِالصَّلَاةِ أَصْلًا.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اكْتِفَاءُ عَائِشَةَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ بِكَوْنِهَا لَمْ تُؤْمَرْ بِهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أَخَذَتْ إِسْقَاطَ الْقَضَاءِ مِنْ إِسْقَاطِ الْأَدَاءِ، فَيُتَمَسَّكُ بِهِ حَتَّى يُوجَدَ الْمُعَارِضُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ كَمَا فِي الصَّوْمِ، ثَانِيهُمَا - قَالَ وَهُوَ أَقْرَبُ - أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى بَيَانِ هَذَا الْحُكْمِ لِتَكَرُّرِ الْحَيْضِ مِنْهُنَّ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم وَحَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ كَمَا فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ عَنْ مُعَاذَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَأْمُرُنَا بِهِ، أَوْ قَالَتْ: فَلَا نَفْعَلُهُ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالشَّكِّ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَلَمْ نَكُنْ نَقْضِي وَلَمْ نُؤْمَرْ بِهِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهَا فَلَمْ نَكُنْ نَقْضِي أَوْضَحُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهَا فَلَمْ نُؤْمَرْ بِهِ ; لِأَنَّ عَدَمَ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ هُنَا قَدْ يُنَازَعُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، لِاحْتِمَالِ الِاكْتِفَاءِ بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌21 - بَاب النَّوْمِ مَعَ الْحَائِضِ وَهِيَ فِي ثِيَابِهَا

322 -

حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: حِضْتُ وَأَنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَمِيلَةِ، فَانْسَلَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْهَا، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي فَلَبِسْتُهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَدَعَانِي فَأَدْخَلَنِي مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ. قَالَتْ: وَحَدَّثَتْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ. وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ الْجَنَابَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ النَّوْمِ مَعَ الْحَائِضِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الصَّغَانِيِّ وَهِيَ فِي ثِيَابِهَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابُ مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا.

ويَحْيَى الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ وَحَدَّثَتْنِي) هُوَ مَقُولُ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَفَاعِلُ حَدَّثَتْنِي أُمُّهَا أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.

قَوْلُهُ: (وَكُنْتُ) مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ الْغُسْلِ.

ص: 422

‌22 - بَاب مَنْ اتَّخَذَ ثِيَابَ الْحَيْضِ سِوَى ثِيَابِ الطُّهْرِ

323 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيلَةٍ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي، فَقَالَ أَنُفِسْتِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَدَعَانِي فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اتَّخَذَ ثِيَابَ الْحَيْضِ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَنْ أَعَدَّ بِالْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وهِشَامٌ الْمَذْكُورُ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَالْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا.

‌23 - بَاب شُهُودِ الْحَائِضِ الْعِيدَيْنِ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى

324 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - هُوَ ابْنُ سَلَامٍ - قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ، فَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ، فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا - وَكَانَ زَوْجُ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثِنْتَيْ عَشَرَةَ غَزْوَةً، وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتٍّ - قَالَتْ: كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى، وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى، فَسَأَلَتْ أُخْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لَا تَخْرُجَ؟ قَالَ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْتَشْهَد الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ سَأَلْتُهَا: أَسَمِعْتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: بِأَبِي نَعَمْ - وَكَانَتْ لَا تَذْكُرُهُ إِلَّا قَالَتْ بِأَبِي - سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ - أَوْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ - وَالْحُيَّضُ وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى، قَالَتْ حَفْصَةُ: فَقُلْتُ: الْحُيَّضُ؟ فَقَالَتْ أَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَكَذَا وَكَذَا.

[الحديث 324 - أطرافه في: 1652، 981، 980، 974، 971، 351]

قَوْلُهُ: (بَابُ شُهُودِ الْحَائِضِ الْعِيدَيْنِ وَدَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْتَزِلْنَ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ وَاعْتِزَالِهِنَّ الْمُصَلَّى وَالْجَمْعُ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ اسْمُ جِنْسٍ، أَوْ فِيهِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَعْتَزِلْنَ الْحُيَّضُ كَمَا سَيُذْكَرُ بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ، وَلِكَرِيمَةَ، مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ الثَّقَفِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَوَاتِقُنَا) الْعَوَاتِقُ جَمْعُ عَاتِقٍ وَهِيَ مَنْ بَلَغَتِ الْحُلُمَ أَوْ قَارَبَتْ، أَوِ اسْتَحَقَّتِ التَّزْوِيجَ، أَوْ هِيَ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَهْلِهَا، أَوِ الَّتِي عَتَقَتْ عَنِ الِامْتِهَانِ فِي الْخُرُوجِ لِلْخِدْمَةِ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَ الْعَوَاتِقَ مِنَ الْخُرُوجِ لِمَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَسَادِ، وَلَمْ تُلَاحِظِ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ بَلْ رَأَتِ اسْتِمْرَارَ الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهَا. وَقَصْرُ بَنِي خَلَفٍ كَانَ بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيِّ الْمَعْرُوفِ بِطَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ وَقَدْ وَلِيَ إِمْرَةَ سِجِسْتَانَ.

قَوْلُهُ: (فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا) قِيلَ هِيَ أُمُّ عَطِيَّةَ، وَقِيلَ غَيْرُهَا، وَعَلَيْهِ مَشَى الْكِرْمَانِيُّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أُمُّ عَطِيَّةَ فَلَمْ نَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ زَوْجِهَا أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (ثِنْتَيْ عَشْرَةَ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ غَزْوَةً.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ أُخْتِي) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ قَالَتِ الْمَرْأَةُ وَكَانَتْ أُخْتِي.

قَوْلُهُ:

ص: 423

(قَالَتْ) أَيِ الْأُخْتُ، وَالْكَلْمَى بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ: جَمْعُ كَلِيمٍ أَيْ جَرِيحِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ جِلْبَابِهَا) قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ تُعِيرُهَا مِنْ ثِيَابِهَا مَا لَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ تُشْرِكُهَا مَعَهَا فِي لُبْسِ الثَّوْبِ الَّذِي عَلَيْهَا، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى تَفْسِيرِ الْجِلْبَابِ - وَهُوَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَبِمُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ - قِيلَ: هُوَ الْمُقَنَّعَةُ أَوِ الْخِمَارُ أَوْ أَعْرَضُ مِنْهُ، وَقِيلَ الثَّوْبُ الْوَاسِعُ يَكُونُ دُونَ الرِّدَاءِ، وَقِيلَ الْإِزَارُ، وَقِيلَ الْمِلْحَفَةُ، وَقِيلَ الْمُلَاءَةُ، وَقِيلَ الْقَمِيصُ.

قَوْلُهُ: (وَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ) - فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ أُمِّ عَطِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ) أَيْ أُمُّ عَطِيَّةَ (لَا تَذْكُرُهُ) أَيِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (إِلَّا قَالَتْ: بِأَبِي) أَيْ هُوَ مُفَدًّى بِأَبِي، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدُوسٍ بِيَبِي بِبَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ قَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً - كَعَبْدُوسٍ - لَكِنْ فَتَحَ مَا بَعْدَهَا كَأَنَّهُ جَعَلَهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَاحِدًا، وَنُقِلَ عَنِ الْأَصِيلِيِّ أَيْضًا كَالْأَصْلِ لَكِنَّهُ فَتَحَ الثَّانِيَةَ أَيْضًا، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فِي شَوَاهِدِ التَّوْضِيحِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: قَوْلُهُ بَأْبَأَ أَصْلُهُ بِأَبِي هُوَ، يُقَالُ بَأْبَأْتُ الصَّبِيَّ إِذَا قُلْتُ لَهُ أَفْدِيكَ بِأَبِي فَقَلَبُوا الْيَاءَ أَلِفًا كَمَا فِي وَيْلَتَا.

قَوْلُهُ: (وَذَوَاتُ الْخُدُورِ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ خِدْرٍ بِكَسْرِهَا وَسُكُونِ الدَّالِ، وَهُوَ سِتْرٌ يَكُونُ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَقْعُدُ الْبِكْرُ وَرَاءَهُ، وَلِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوِ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ عَلَى الشَّكِّ، وَبَيْنَ الْعَاتِقِ وَالْبِكْرِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.

قَوْلُهُ: (وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى) بِضَمِّ اللَّامِ هُوَ خَبَرٌ. بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَيَعْتَزِلْنَ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى وَهُوَ نَحْو أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ. وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ عَلَى النَّدْبِ ; لِأَنَّ الْمُصَلَّى لَيْسَ بِمَسْجِدٍ فَيَمْتَنِعُ الْحُيَّضُ مِنْ دُخُولِهِ، وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: الِاعْتِزَالُ وَاجِبٌ، وَالْخُرُوجُ وَالشُّهُودُ مَنْدُوبٌ، مَعَ كَوْنِهِ نَقَلَ عَنِ النَّوَوِيِّ تَصْوِيبَ عَدَمِ وُجُوبِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْحِكْمَةُ فِي اعْتِزَالِهِنَّ أَنَّ فِي وُقُوفِهِنَّ وَهُنَّ لَا يُصَلِّينَ مَعَ الْمُصَلِّيَاتِ إِظْهَارَ اسْتِهَانَةٍ بِالْحَالِ. فَاسْتُحِبَّ لَهُنَّ اجْتِنَابُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: آلْحُيَّضُ) بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ، كَأَنَّهَا تَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ (فَقَالَتْ) أَيْ أُمُّ عَطِيَّةَ:(أَلَيْسَ تَشْهَدُ) أَيِ الْحُيَّضُ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَلَيْسَتْ وَلِلْأَصِيلِيِّ أَلَيْسَ يَشْهَدْنَ.

قَوْلُهُ: (وَكَذَا وَكَذَا) أَيْ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَغَيْرَهُمَا. وَفِيهِ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تَهْجُرُ ذِكْرَ اللَّهِ وَلَا مَوَاطِنَ الْخَيْرِ كَمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ سِوَى الْمَسَاجِدِ، وَفِيهِ امْتِنَاعُ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ جِلْبَابٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي اسْتِيفَاؤُهُ فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌24 - بَاب إِذَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَمَا يُصَدَّقُ النِّسَاءُ فِي الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ فِيمَا يُمْكِنُ مِنْ الْحَيْضِ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ: أن امْرَأَةٌ جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثًا فِي شَهْرٍ صُدِّقَتْ، وَقَالَ عَطَاءٌ أَقْرَاؤُهَا مَا كَانَتْ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْحَيْضُ يَوْمٌ إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَالَ مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ: سَأَلْتُ ابْنَ سِيرِينَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى الدَّمَ بَعْدَ قُرْئِهَا بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ؟ قَالَ: النِّسَاءُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَمَا يُصَدَّقُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمَفْتُوحَةِ.

قَوْلُهُ: (فِيمَا يُمْكِنُ مِنَ الْحَيْضِ) أيْ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ لَمْ تُصَدَّقْ.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) يُشِيرُ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا خَلَقَ فِي أَرْحَامِهِنَّ

ص: 424

الْحَمْلُ أَوِ الْحَيْضُ، فَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ذَلِكَ لِتَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَلَا يَمْلِكَ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ إِذَا كَانَتْ لَهُ. وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهَا إِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَنْ تَكْتُمَ حَيْضَهَا، وَلَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا أَنْ تَكْتُمَ حَمْلَهَا.

وَعَنْ مُجَاهِدٍ لَا تَقُولُ إِنِّي حَائِضٌ وَلَيْسَتْ بِحَائِضٍ، وَلَا لَسْتُ بِحَائِضٍ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَا فِي الْحَبَلِ. وَمُطَابَقَةُ التَّرْجَمَةِ لِلْآيَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِظْهَارُ، فَلَوْ لَمْ تُصَدَّقْ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ) وَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ كَمَا سَيَأْتِي وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بِهِ لِلتَّرَدُّدِ فِي سَمَاعِ الشَّعْبِيِّ مِنْ عَلِيٍّ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ شُرَيْحٍ فَيَكُونُ مَوْصُولًا.

قَوْلُهُ: (أنْ جَاءَتْ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِنِ امْرَأَةٌ جَاءَتْ بِكَسْرِ النُّونِ.

قَوْلُهُ: (بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا) أَيْ خَوَاصِّهَا. قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَشْهَدَ النِّسَاءُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا نَرَى أَنْ يَشْهَدْنَ أَنَّ هَذَا يَكُونُ، وَقَدْ كَانَ فِي نِسَائِهِنَّ. قُلْتُ: وَسِيَاقُ الْقِصَّةِ يَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ - هُوَ الشَّعْبِيُّ - قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا فَقَالَتْ: حِضْتُ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ، لِشُرَيْحٍ: اقْضِ بَيْنَهُمَا. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ هَاهُنَا؟ قَالَ: اقْضِ بَيْنَهُمَا. قَالَ: إِنْ جَاءَتْ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ تَزْعُمُ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ تَطْهُرُ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَتُصَلِّي جَازَ لَهَا وَإِلَّا فَلَا. قَالَ عَلِيٌّ: قَالُونُ قَالَ وَقَالُونُ بِلِسَانِ الرُّومِ أَحْسَنْتَ. فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَشْهَدْنَ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِسْمَاعِيلُ رَدَّ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى مُوَافَقَةِ مَذْهَبِهِ، وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ إِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ عَادَتُهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:(أَقْرَاؤُهَا) وَهُوَ بِالْمَدِّ جَمْعُ قُرْءٍ أَيْ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ (مَا كَانَتْ) أَيْ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَلَوِ ادَّعَتْ فِي الْعِدَّةِ مَا يُخَالِفُ مَا قَبْلَهَا لَمْ يُقْبَلْ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ.

قَوْلُهُ: (وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ) يَعْنِي النَّخَعِيَّ، أَيْ قَالَ بِمَا قَالَ عَطَاءٌ، وَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ نَحْوَهُ. وَرَوَى الدَّارِمِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى إِبْرَاهِيمَ قَالَ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِي شَهْرٍ أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثَلَاثَ حِيَضٍ فَذَكَرَ نَحْوَ أَثَرِ شُرَيْحٍ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِ الْبُخَارِيِّ وَبِهِ يَعُودُ عَلَى أَثَرِ شُرَيْحٍ، أَوْ فِي النُّسْخَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَوْ لِإِبْرَاهِيمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ أَقْصَى الْحَيْضِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَأَدْنَى الْحَيْضِ يَوْمٌ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ أَدْنَى وَقْتِ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَ عَشْرَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُعْتَمِرٌ) يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مُعْتَمِرٍ.

325 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: لَا إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ) بِفَتْحِ الْيَاءِ جَمْعُ حَيْضَةٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَيُّوبَ الْهَرَوِيُّ يُكَنَّى أَبَا الْوَلِيدِ، وَهُوَ حَنَفِيُّ النَّسَبِ لَا الْمَذْهَبِ، وَقِصَّةُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا فَوَكَّلَ ذَلِكَ إِلَى أَمَانَتِهَا وَرَدَّهُ إِلَى عَادَتِهَا، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَقَلِّ الطُّهْرِ، وَنَقَلَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْتَمِعُ أَقَلُّ الطُّهْرِ وَأَقَلُّ الْحَيْضِ مَعًا. فَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ عِنْدَهُ سِتُّونَ يَوْمًا، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: تَنْقَضِي فِي تِسْعَةٍ

ص: 425

وَثَلَاثِينَ يَوْمًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءِ الْحَيْضُ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقُرْءُ الطُّهْرُ وَأَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَتَنْقَضِي عِنْدَهُ فِي اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقِصَّةِ عَلِيٍّ، وَشُرَيْحٍ الْمُتَقَدِّمَةِ إِذَا حَمَلَ ذِكْرَ الشَّهْرِ فِيهَا عَلَى إِلْغَاءِ الْكَسْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ هُشَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ فِيهَا بِلَفْظِ: حَاضَتْ فِي شَهْرِ أَوْ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا

‌25 - بَاب الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ

326 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا لَا نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ) يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهَا حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءِ وَبَيْنَ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا رَأَتِ الصُّفْرَةَ أَوِ الْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَعَلَى مَا قَالَتْهُ أُمُّ عَطِيَّةَ.

قَوْلُهُ: (أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ) هوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَكَذَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَرَوَاهُ وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَنُقِلَ عَنِ الذُّهْلِيِّ أَنَّهُ رَجَّحَ رِوَايَةَ وُهَيْبٍ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ تَصْحِيحِ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ أَرْجَحُ لِمُوَافَقَةِ مَعْمَرٍ لَهُ، وَلِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ أَحْفَظُ لِحَدِيثِ أَيُّوبَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنَّ أَيُّوبَ سَمِعَهُ مِنْهُمَا.

قَوْلُهُ: (كُنَّا لَا نَعُدُّ) أَيْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَبِهَذَا يُعْطَى الْحَدِيثُ حُكْمَ الرَّفْعِ، وَهُوَ مَصِيرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصِّيغَةِ تُعَدُّ فِي الْمَرْفُوعِ وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحِ الصَّحَابِيُّ بِذِكْرِ زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهَذَا جَزَمَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ خِلَافًا لِلْخَطِيبِ.

قَوْلُهُ: (الْكُدْرَةُ وَالصُّفْرَةُ) أَيِ الْمَاءُ الَّذِي تَرَاهُ الْمَرْأَةُ كَالصَّدِيدِ يَعْلُوهُ اصْفِرَارٌ.

قَوْلُهُ: (شَيْئًا) أَيْ مِنَ الْحَيْضِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ كُنَّا لَا نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا تَرْجَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌26 - بَاب عِرْقِ الِاسْتِحَاضَةِ

327 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، وَعَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فَقَالَ: هَذَا عِرْقٌ، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ عِرْقِ الِاسْتِحَاضَةِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الِاسْتِحَاضَةِ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ عَمْرَةَ) يَعْنِي كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ وَابْنِ عَسَاكِرَ بِحَذْفِ الْوَاوِ، فَصَارَ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ، وَكَذَا ذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ الْحَسَنِ الصُّوفِيَّ حَدَّثَهُمْ بِهِ عَنْ خَلَفِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ مَعْنٍ، وَالْمَحْفُوظُ إِثْبَاتُ الْوَاوِ، وَأَنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَاهُ عَنْ شَيْخَيْنِ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ كِلَاهُمَا

ص: 426

عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ وَحْدَهُ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ وَحْدَهَا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ صَحِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ) هِيَ بِنْتُ جَحْشٍ أُخْتُ زَيْنَبَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ بِكُنْيَتِهَا، وَقَدْ قِيلَ اسْمُهَا حَبِيبَةُ وَكُنْيَتُهَا أُمُّ حَبِيبٍ بِغَيْرِ هَاءٍ قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَتَبِعَهُ الْحَرْبِيُّ وَرَجَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أُمُّ حَبِيبَةَ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ، وَكَانَتْ زَوْجَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَمَا ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ.

وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ الْحَدِيثَ، فَقِيلَ هُوَ وَهْمٌ، وَقِيلَ بَلْ صَوَابٌ وَأَنَّ اسْمَهَا زَيْنَبُ وَكُنْيَتَهَا أُمُّ حَبِيبَةَ، وَأَمَّا كَوْنُ اسْمِ أُخْتِهَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ زَيْنَبَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنِ اسْمَهَا الْأَصْلِيَّ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَغَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ أَنَّ تَغْيِيرَ اسْمِهَا كَانَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهَا بِاسْمِ أُخْتِهَا لِكَوْنِ أُخْتِهَا غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْكُنْيَةُ فَأُمِنَ اللَّبْسُ، وَلَهُمَا أُخْتٌ أُخْرَى اسْمُهَا حَمْنَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ، وَهِيَ إِحْدَى الْمُسْتَحَاضَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَعَسَّفَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَزَعَمَ أَنَّ اسْمَ كُلٍّ مِنْ بَنَاتِ جَحْشٍ زَيْنَبُ قَالَ: فَأَمَّا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، فَاشْتُهِرَتْ بِاسْمِهَا، وَأَمَّا أُمُّ حَبِيبَةَ فَاشْتُهِرَتْ بِكُنْيَتِهَا، وَأَمَّا حَمْنَةُ فَاشْتُهِرَتْ بِلَقَبِهَا، وَلَمْ يَأْتِ بِدَلِيلٍ عَلَى دَعْوَاهُ بِأَنَّ حَمْنَةَ لَقَبٌ. وَلَمْ يَنْفَرِدِ الْمُوَطَّأُ بِتَسْمِيَةِ أُمِّ حَبِيبَةَ زَيْنَبَ، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ حَدِيثَ الْبَابِ فَقَالَ أنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ.

قَوْلُهُ: (اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ) قِيلَ فِيهِ حُجَّةٌ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي إِسْقَاطِهِ عَنِ الْمُسْتَحَاضَةِ قَضَاءَ الصَّلَاةِ إِذَا تَرَكَتْهَا ظَانَّةً أَنَّ ذَلِكَ حَيْضٌ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْإِعَادَةِ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهَا سَبْعَ سِنِينَ بَيَانَ مُدَّةِ اسْتِحَاضَتِهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ هَلْ كَانَتِ الْمُدَّةُ كُلُّهَا قَبْلَ السُّؤَالِ أَوْ لَا فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَا ذُكِرَ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَتُصَلِّي وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ بِالِاغْتِسَالِ مُطْلَقٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ، فَلَعَلَّهَا فَهِمَتْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهَا بِقَرِينَةٍ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَهَا صلى الله عليه وسلم أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ تَطَوُّعًا، وَكَذَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ شِهَابٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ فَعَلَتْهُ هِيَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ قَالُوا: لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ الْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، إِلَّا الْمُتَحَيِّرَةَ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ فَأَمَرَهَا صلى الله عليه وسلم أَنْ تَنْتَظِرَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ، فَإِذَا رَأَتْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ. وَاسْتَدَلَّ الْمُهَلَّبِيُّ بِقَوْلِهِ لَهَا هَذَا عِرْقٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا الْغُسْلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ; لِأَنَّ دَمَ الْعِرْقِ لَا يُوجِبُ غُسْلًا.

وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَأَمَرَهَا بِالْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَقَدْ طَعَنَ الْحُفَّاظُ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ ; لِأَنَّ الْأَثْبَاتَ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ لَمْ يَذْكُرُوهَا، وَقَدْ صَرَّحَ اللَّيْثُ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَذْكُرْهَا، لَكِنْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى النَّدْبِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، هَذِهِ وَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ.

وَقَدْ حَمَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُتَحَيِّرَةً، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَنْتَظِرَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُرْوَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ لَهَا امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ وَلِأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ

ص: 427

الْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ نَحْوُهُ، لَكِنِ اسْتَنْكَرَ أَبُو دَاوُدَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، وَأَجَابَ بَعْضُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ بِأَنَّ قَوْلَهُ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَيْ مِنَ الدَّمِ الَّذِي أَصَابَهَا ; لِأَنَّهُ مِنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَهِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ، أَيْ لِأَنَّ فِيهِ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَا الْغُسْلِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِحَمْلِ الْأَمْرِ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ عَلَى النَّدْبِ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌27 - بَاب الْمَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ

328 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ قَدْ حَاضَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا، أَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ مَعَكُنَّ؟ فَقَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَاخْرُجِي.

329 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا حَاضَتْ.

[الحديث 329 - طرفاه في: 1760، 1755]

330 -

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ إِنَّهَا لَا تَنْفِرُ ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ تَنْفِرُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لَهُنَّ.

[الحديث 330 - طرفه في: 1761]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ) أَيْ هَلْ تُمْنَعُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ أَمْ لَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ - سِوَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ - مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ وَهُمْ مِنْ بَيْنِ مَالِكٍ، وَعَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ صَفِيَّةَ) أَيْ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (قَالُوا: بَلَى) أَيِ النِّسَاءُ وَمَنْ مَعَهُنَّ مِنَ الْمَحَارِمِ.

قَوْلُهُ: (فَاخْرُجِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْإِفْرَادِ خِطَابًا لِصَفِيَّةَ مِنْ بَابِ الْعُدُولِ عَنِ الْغَيْبَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ أَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ إِلَى الْخِطَابِ، أَوْ هُوَ خِطَابٌ لِعَائِشَةَ، أَيْ فَاخْرُجِي فَهِيَ تَخْرُجُ مَعَكِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ فَاخْرُجْنَ وَهُوَ عَلَى وَفْقِ السِّيَاقِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي بَعْدَهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ فِيهِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ مَقُولُ طَاوُسٍ لَا ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَأَخَّرَ إِلَى أَنْ تَطْهُرَ مِنْ أَجَلِ طَوَافِ الْوَدَاعِ، ثُمَّ بَلَغَتْهُ الرُّخْصَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُنَّ فِي تَرْكِهِ فَصَارَ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ نَسِيَ ذَلِكَ فَتَذَكَّرَهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا تَطُوفُ.

‌28 - بَاب إِذَا رَأَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ الطُّهْرَ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَلَوْ سَاعَةً، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا إِذَا صَلَّتْ، الصَّلَاةُ أَعْظَمُ.

331 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

ص: 428

إِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا رَأَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الطُّهْرَ) أَيْ تَمَيَّزَ لَهَا دَمُ الْعِرْقِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، فَسُمِّيَ زَمَنُ الِاسْتِحَاضَةِ طُهْرًا ; لِأَنَّهُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَنِ الْحَيْضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ انْقِطَاعَ الدَّمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ لِلسِّيَاقِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَلَوْ سَاعَةً) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ سَاعَةً ثُمَّ عَاوَدَهَا دَمٌ فَإِنَّهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي. وَالتَّعْلِيقُ الْمَذْكُورُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالدَّارِمِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْمُسْتَحَاضَةِ فَقَالَ: أَمَّا مَا رَأَتِ الدَّمَ الْبَحْرَانِيَّ فَلَا تُصَلِّي، وَإِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ وَلَوْ سَاعَةً فَلْتَغْتَسِلْ وَتُصَلِّي وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا ; لِأَنَّ الدَّمَ الْبَحْرَانِيَّ هُوَ دَمُ الْحَيْضِ.

قَوْلُهُ: (وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا) هَذَا أَثَرٌ آخَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ قَالَ الْمُسْتَحَاضَةُ لَا بَأْسَ أَنْ يَأْتِيَهَا زَوْجُهَا وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ كَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ تُسْتَحَاضُ وَكَانَ زَوْجُهَا يَغْشَاهَا وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ إِنْ كَانَ عِكْرِمَةُ سَمِعَهُ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (إِذَا صَلَّتْ) شَرْطٌ مَحْذُوفُ الْجَزَاءِ أَوْ جَزَاؤُهُ مُقَدَّمٌ، وَقَوْلُهُ الصَّلَاةُ أَعْظَمُ أَيْ مِنَ الْجِمَاعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا بَحْثٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْمُلَازَمَةِ، أَيْ إِذَا جَازَتِ الصَّلَاةُ فَجَوَازُ الْوَطْءِ أَوْلَى ; لِأَنَّ أَمْرَ الصَّلَاةِ أَعْظَمُ مِنْ أَمْرِ الْجِمَاعِ، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُخْتَصَرِ مِنْ قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ الْمُصَرَّحِ بِأَمْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ بِالصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي بَابِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَزُهَيْرٌ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ تَامًّا، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِمَا ذَكَرَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ مَنَعَ وَطْءَ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ ظَاهِرٌ فِيهِ.

وَذَكَرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ قَوْلَهُ الصَّلَاةُ أَعْظَمُ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَزَاهُ إِلَى تَخْرِيجِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَلَيْسَ هُوَ فِيهِ، نَعَمْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالدَّارِمِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ الْمُسْتَحَاضَةِ أَتُجَامَعُ؟ قَالَ الصَّلَاةُ أَعْظَمُ مِنَ الْجِمَاعِ

‌29 - بَاب الصَّلَاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ وَسُنَّتِهَا

332 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَبَابَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: أَنَّ امْرَأَةً مَاتَتْ فِي بَطْنٍ فَصَلَّى عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ وَسَطَهَا.

[الحديث 332 - طرفاه في: 1332، 1331]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ وَسُنَّتِهَا) أَيْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ، وَاسْمُهُ الصَّبَّاحُ، وَقِيلَ إِنَّ أَحْمَدَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي سُرَيْجٍ فَكَأَنَّهُ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ امْرَأَةً) هِيَ أُمُّ كَعْبٍ سَمَّاهَا مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ أَنَّهَا أَنْصَارِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (مَاتَتْ فِي بَطْنٍ) أَيْ بِسَبَبِ بَطْنٍ يَعْنِي الْحَمْلَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ قَالَ ابْنُ التَّيْمِيِّ: قِيلَ وَهِمَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ مَاتَتْ فِي بَطْنٍ مَاتَتْ فِي الْوِلَادَةِ، قَالَ: وَمَعْنَى مَاتَتْ فِي بَطْنٍ مَاتَتْ مَبْطُونَةً. قُلْتُ: بَلِ الْمُوَهِّمُ لَهُ هُوَ الْوَاهِمُ، فَإِنَّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا وَكَذَا لِمُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ وَسَطَهَا) بِفَتْحِ السِّينِ فِي رِوَايَتِنَا، وَكَذَا ضَبَطَهُ ابْنُ التِّينِ، وَضَبَطَهُ غَيْرُهُ بِالسُّكُونِ،

ص: 429

وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَامَ عِنْدَ وَسَطِهَا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ قَصَدَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ النُّفَسَاءَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُصَلِّي لَهَا حُكْمُ غَيْرِهَا أَيْ فِي طَهَارَةِ الْعَيْنِ، لِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، قَالَ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ ابْنَ آدَمَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ; لِأَنَّ النُّفَسَاءَ جَمَعَتِ الْمَوْتَ، وَحَمْلَ النَّجَاسَةِ بِالدَّمِ اللَّازِمِ لَهَا، فَلَمَّا لَمْ يَضُرَّهَا ذَلِكَ كَانَ الْمَيِّتُ الَّذِي لَا يَسِيلُ مِنْهُ نَجَاسَةٌ أَوْلَى. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ هَذَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ مَقْصُودِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنَّهَا وَإِنْ وَرَدَ أَنَّهَا مِنَ الشُّهَدَاءِ فَهِيَ مِمَّنْ يُصَلَّى عَلَيْهَا كَغَيْرِ الشُّهَدَاءِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ رَشِيدٍ بِأَنَّهُ أَيْضًا أَجْنَبِيٌّ عَنْ أَبْوَابِ الْحَيْضِ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِلَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ اقْتَضَتْ أَنَّ الْمُسْتَقْبِلَ فِيهَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا بِطَهَارَتِهِ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهَا - أَيْ إِلَيْهَا - لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِطَهَارَةِ عَيْنِهَا، وَحُكْمُ النُّفَسَاءِ وَالْحَائِضِ وَاحِدٌ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مَقْصُودُهُ إِدْخَالُ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ فِي الْبَابِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ قَبْلَ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ:

(بَابٌ) غَيْرُ مُتَرْجَمٍ، وَكَذَا فِي نُسْخَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَعَادَتُهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمُنَاسَبَتُهُ لَهُ أَنَّ عَيْنَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ طَاهِرَةٌ لَأَنَّ ثَوْبَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصِيْبُهَا إِذَا سَجَدَ، وَهِيَ حَائِضٌ وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ.

‌30 - باب

333 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ اسْمُهُ الْوَضَّاحُ مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالَتِي مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ حَائِضًا لَا تُصَلِّي وَهِيَ مُفْتَرِشَةٌ بِحِذَاءِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى خُمْرَتِهِ إِذَا سَجَدَ أَصَابَنِي بَعْضُ ثَوْبِهِ.

[الحديث 333 - أطرافه في: 518، 517، 381، 379،]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ) هُوَ الطَّحَّانُ الْبَصْرِيُّ أَحَدُ الْحُفَّاظِ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، بَلِ الْبُخَارِيُّ أَقْدَمُ مِنْهُ، وَقَدْ شَارَكَهُ فِي شَيْخِهِ يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَكَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فَاتَهُ فَاعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى الْحَسَنِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْ كِتَابِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَبَا عَوَانَةَ حَدَّثَ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ لَا مِنْ حِفْظِهِ، وَكَانَ إِذَا حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ أَتْقَنَ مِمَّا إِذَا حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: كِتَابُ أَبِي عَوَانَةَ أَثْبَتُ مِنْ حِفْظِ هُشَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (كَانَتْ تَكُونُ) أَيْ تَحْصُلُ أَوْ تَسْتَقِرُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ تَكُونُ لَا تُصَلِّي خَبَرٌ لِكَانَتْ، وَقَوْلُهُ حَائِضًا حَالٌ نَحْوُ {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (بِحِذَاءِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ وَمَدَّةٌ أَيْ بِجَنْبِ مَسْجِدٍ وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ مَكَانُ سُجُودِهِ، وَالْخُمْرَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ قَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ مُصَلًّى صَغِيرٌ يُعْمَلُ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَتْرِهَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ مِنْ حَرِّ الْأَرْضِ وَبَرْدِهَا، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً سُمِّيَتْ حَصِيرًا، وَكَذَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ وَصَاحِبُهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ بَعْدَهُمْ، وَزَادَ فِي النِّهَايَةِ: وَلَا تَكُونُ خُمْرَةً إِلَّا فِي هَذَا الْمِقْدَارِ قَالَ: وَسُمِّيَتْ خُمْرَةً ; لِأَنَّ خُيُوطَهَا مَسْتُورَةٌ بِسَعَفِهَا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هِيَ السَّجَّادَةُ يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْمُصَلِّي. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْفَأْرَةِ الَّتِي جَرَّتِ الْفَتِيلَةَ حَتَّى أَلْقَتْهَا عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا عَلَيْهَا. . الْحَدِيثَ قَالَ: فَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِإِطْلَاقِ الْخُمْرَةِ عَلَى مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْوَجْهِ، قَالَ: وَسُمِّيَتْ خُمْرَةً ; لِأَنَّهَا تُغَطِّي الْوَجْهَ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 430

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْحَيْضِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى اثْنَانِ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا الْمَوْصُولُ مِنْهَا عَشَرَةُ أَحَادِيثَ، وَالْبَقِيَّةُ تَعْلِيقٌ وَمُتَابَعَةٌ، وَالْخَالِصُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا مِنْهَا وَاحِدٌ مُعَلَّقٌ وَهُوَ حَدِيثُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ. وَقَدْ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عَائِشَةَ كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ ثُمَّ تَقْتَرِصُ الدَّمَ وَحَدِيثِهَا فِي اعْتِكَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَحَدِيثِهَا مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ كُنَّا لَا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَثَرًا كُلُّهَا مُعَلَّقَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌7 - كتاب التَّيَمُّمِ

قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}

1 -

باب

334 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.

[الحديث 334 - أطرافه في: 6845، 6844، 5882، 5250، 5164، 4608، 4607، 4583، 3773، 3672، 336]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّيَمُّمِ) الْبَسْمَلَةُ قَبْلَهُ لِكَرِيمَةَ وَبَعْدَهُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ. وَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

تَيَمَّمْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتٍ وَأَهْلُهَا

بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي

أَيْ قَصَدْتُهَا. وَفِي الشَّرْعِ الْقَصْدُ إِلَى الصَّعِيدِ لِمَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.

وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَوْلُهُ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} أَيِ اقْصِدُوا الصَّعِيدَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ حَتَّى صَارَ التَّيَمُّمُ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِالتُّرَابِ

ص: 431

اهـ. فَعَلَى هَذَا هُوَ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ.

وَاخْتُلِفَ فِي التَّيَمُّمِ هَلْ هُوَ عَزِيمَةٌ أَوْ رُخْصَةٌ؟ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: هُوَ لِعَدَمِ الْمَاءِ عَزِيمَةٌ، وَلِلْعُذْرِ رُخْصَةٌ.

قَوْلُهُ: (قَوْلُ اللَّهِ)، فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَقَوْلُ اللَّهِ بِزِيَادَةِ وَاوٍ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلنَّسَفِيِّ، وَعَبْدُوسٍ، وَالْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كَذَا فِي رِوَايَتِنَا، وَالتِّلَاوَةُ {فَلَمْ تَجِدُوا} قَالَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ. قُلْتُ: ظَهَرَ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْمُبْهَمَةِ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ أَنَّهَا آيَةُ الْمَائِدَةِ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّتِهَا الْمَذْكُورَةِ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا الْحَدِيثَ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءةً شَاذَّةً لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ وَهْمًا مِنْهُ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهَا عَنَتْ آيَةَ الْمَائِدَةِ وَأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ قَدْ تَرْجَمَ لَهَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ وَأَوْرَدَ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَيْضًا وَلَمْ يُرِدْ خُصُوصَ نُزُولِهَا فِي قِصَّتِهَا، بَلِ اللَّفْظُ الَّذِي عَلَى شَرْطِهِ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ، وَالْعُمْدَةُ عَلَى رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهَا عَيَّنَتْ فَفِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى غَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَأَيْدِيكُمْ) إِلَى هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الشَّبُّوِيِّ وَكَرِيمَةَ مِنْهُ، وَهِيَ تُعَيِّنُ آيَةَ الْمَائِدَةِ دُونَ آيَةِ النِّسَاءِ، وَإِلَى ذَلِكَ نَحَا الْبُخَارِيُّ فَأَخْرَجَ حَدِيثَ الْبَابِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ: فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {تَشْكُرُونَ}

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ) أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَرِجَالُهُ سِوَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ فِي غَزَاةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ فِي الِاسْتِذْكَارِ وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ حِبَّانَ. وَغَزَاةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ هِيَ غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ، وَفِيهَا وَقَعَتْ قِصَّةُ الْإِفْكِ لِعَائِشَةَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ بِسَبَبِ وُقُوعِ عِقْدِهَا أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ مَا جَزَمُوا بِهِ ثَابِتًا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ سَقَطَ مِنْهَا فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ مَرَّتَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْقِصَّتَيْنِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي سِيَاقِهِمَا، وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ شُيُوخِنَا ذَلِكَ قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَيْسِيعَ مِنْ نَاحِيَةِ مَكَّةَ بَيْنَ قُدَيْدٍ وَالسَّاحِلِ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ كَانَتْ مِنْ نَاحِيَةِ خَيْبَرَ لِقَوْلِهَا فِي الْحَدِيثِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ وَهُمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ.

قُلْتُ: وَمَا جَزَمَ بِهِ مُخَالِفٌ لِمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ التِّينِ فَإِنَّهُ قَالَ: الْبَيْدَاءُ هِيَ ذُو الْحُلَيْفَةِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ، قَالَ: وَذَاتُ الْجَيْشِ وَرَاءَ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ فِي مُعْجَمِهِ: الْبَيْدَاءُ أَدْنَى إِلَى مَكَّةَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا. ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ قَالَ بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ فِيهَا، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ الْحَدِيثَ. قَالَ: وَالْبَيْدَاءُ هُوَ الشَّرَفُ الَّذِي قُدَّامَ ذِي الْحُلَيْفَةِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ. وَقَالَ أَيْضًا: ذَاتُ الْجَيْشِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى بَرِيدٍ، قَالَ: وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَقِيقِ سَبْعَةُ أَمْيَالٍ، وَالْعَقِيقُ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ لَا مِنْ طَرِيقِ خَيْبَرَ، فَاسْتَقَامَ مَا قَالَ ابْنُ التِّينِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ فِيهِ إِنَّ الْقِلَادَةَ سَقَطَتْ لَيْلَةَ الْأَبْوَاءِ اهـ، وَالْأَبْوَاءُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ هِشَامٍ قَالَ.

وَكَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ يُقَالُ لَهُ الصُّلْصُلُ رَوَاهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ لَهُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَالصُّلْصُلُ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَضْمُومَتَيْنِ وَلَامَيْنِ الْأُولَى سَاكِنَةٌ بَيْنَ الصَّادَيْنِ، قَالَ الْبَكْرِيُّ: هُوَ جَبَلٌ عِنْدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي حَرْفِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَوَهِمَ مُغَلْطَايْ فِي فَهْمِ كَلَامِهِ فَزَعَمَ أَنَّهُ ضَبَطَهُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَلَّدَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وَتَصَرَّفَ فِيهِ فَزَادَهُ وَهْمًا عَلَى وَهْمٍ، وَعُرِفَ مِنْ تَضَافُرِ هَذِهِ

ص: 432

الرِّوَايَاتِ تَصْوِيبُ مَا قَالَهُ ابْنُ التِّينِ، وَاعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ فِي تَعَدُّدِ السَّفَرِ عَلَى رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ صَرِيحَةٍ فِي ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عِقْدٌ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ كُلُّ مَا يُعْقَدُ وَيُعَلَّقُ فِي الْعُنُقِ، وَيُسَمَّى قِلَادَةً كَمَا سَيَأْتِي، وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ سَقَطَتْ قِلَادَةٌ لِي بِالْبَيْدَاءِ وَنَحْنُ دَاخِلُونَ الْمَدِينَةَ، فَأَنَاخَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلَ وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ قُرْبِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْتِمَاسِهِ) أَيْ لِأَجْلِ طَلَبِهِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْمَبْعُوثَ فِي طَلَبِهِ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَسَقَطَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْإِقَامَةِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي لَا مَاءَ فِيهِ، وَكَذَا سُلُوكُ الطَّرِيقِ الَّتِي لَا مَاءَ فِيهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْهُمْ وَهُمْ عَلَى قَصْدِ دُخُولِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْلَمْ بِعَدَمِ الْمَاءِ مَعَ الرَّكْبِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِأَنَّ الْمَكَانَ لَا مَاءَ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ أَيْ لِلْوُضُوءِ، وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِلشُّرْبِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ، وَالْأَوَّلُ مُحْتَمَلٌ لِجَوَازِ إِرْسَالِ الْمَطَرِ أَوْ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا وَقَعَ فِي مَوَاطِنَ أُخْرَى.

وَفِيهِ اعْتِنَاءُ الْإِمَامِ بِحِفْظِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ قَلَّتْ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ ثَمَنَ الْعِقْدِ الْمَذْكُورِ كَانَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَيَلْتَحِقُ بِتَحْصِيلِ الضَّائِعِ الْإِقَامَةُ لِلُحُوقِ الْمُنْقَطِعِ وَدَفْنُ الْمَيِّتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ إِضَاعَةِ الْمَالِ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ) فِيهِ شَكْوَى الْمَرْأَةِ إِلَى أَبِيهَا وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، وَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا شَكَوْا إِلَى أَبِي بَكْرٍ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ نَائِمًا وَكَانُوا لَا يُوقِظُونَهُ. وَفِيهِ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَى مَنْ كَانَ سَبَبًا فِيهِ لِقَوْلِهِمْ: صَنَعَتْ وَأَقَامَتْ، وَفِيهِ جَوَازُ دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى ابْنتِهِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عِنْدَهَا إِذَا عَلِمَ رِضَاهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ حَالَةَ مُبَاشَرَةٍ.

قَوْلُهُ: (فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ) فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فَقَالَ: حَبَسْتِ النَّاسَ فِي قِلَادَةٍ، أَيْ بِسَبَبِهَا. وَسَيَأْتِي مِنَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَاتَبَهَا بِهِ قَوْلُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ تَكُونِينَ عَنَاءً. وَالنُّكْتَةُ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ تَقُلْ أَبِي ; لِأَنَّ قَضِيَّةَ الْأُبُوَّةِ الْحُنُوُّ، وَمَا وَقَعَ مِنَ الْعِتَابِ بِالْقَوْلِ وَالتَّأْنِيبِ بِالْفِعْلِ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ، فَلِذَلِكَ أَنْزَلَتْهُ مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ فَلَمْ تَقُلْ أَبِي.

قَوْلُهُ: (يَطْعُنُنِي) هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَكَذَا فِي جَمِيعِ مَا هُوَ حِسِّيٌّ، وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَيُقَالُ يَطْعَنُ بِالْفَتْحِ، هَذَا الْمَشْهُورُ فِيهِمَا، وَحُكِيَ فِيهِمَا الْفَتْحُ مَعًا فِي الْمَطَالِعِ وَغَيْرِهَا، وَالضَّمُّ فِيهِمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ. وَفِيهِ تَأْدِيبُ الرَّجُلِ ابْنتَهُ وَلَوْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً كَبِيرَةً خَارِجَةً عَنْ بَيْتِهِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ تَأْدِيبُ مَنْ لَهُ تَأْدِيبُهُ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الصَّبْرِ لِمَنْ نَالَهُ مَا يُوجِبُ الْحَرَكَةَ أَوْ يَحْصُلُ بِهِ تَشْوِيشٌ لِنَائِمٍ، وَكَذَا لِمُصَلٍّ أَوْ قَارِئٍ أَوْ مُشْتَغِلٍ بِعِلْمٍ أَوْ ذِكْرٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ حِينَ أَصْبَحَ) كَذَا أَوْرَدَهُ هُنَا، وَأَوْرَدَهُ فِي فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ فَنَامَ حَتَّى أَصْبَحَ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ وَرَوَاهُ الْمُوَطَّأُ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا مُتَقَارِبٌ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُ مِنْ نَوْمِهِ كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ حَتَّى أَصْبَحَ بَيَانَ غَايَةِ النَّوْمِ إِلَى الصَّبَاحِ، بَلْ بَيَانُ غَايَةِ فَقْدِ الْمَاءِ إِلَى الصَّبَاحِ ; لِأَنَّهُ قَيَّدَ قَوْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ بِقَوْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ أَيْ آلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فَلَفْظُهَا ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ وَحَضَرَتِ الصُّبْحُ فَإِنْ أُعْرِبَتِ الْوَاوُ حَالِيَّةً كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِيقَاظَ وَقَعَ حَالَ وُجُودِ الصَّبَاحِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ التَّهَجُّدِ فِي السَّفَرِ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ التَّهَجُّدَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ طَلَبَ الْمَاءِ لَا يَجِبُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَحَضَرَتِ الصُّبْحُ فَالْتَمَسَ الْمَاءَ فَلَمْ يُوجَدْ وَعَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الوضوء وَلِهَذَا

ص: 433

اسْتَعْظَمُوا نُزُولَهُمْ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ. وَوَقَعَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ فِي حَقِّ عَائِشَةَ مَا وَقَعَ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ مُنْذُ افْتُرِضَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِلَّا بِوُضُوءٍ، وَلَا يَدْفَعُ ذَلِكَ إِلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ. قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ آيَةُ التَّيَمُّمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي طَرَأَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ حِينَئِذٍ حُكْمُ التَّيَمُّمِ لَا حُكْمُ الْوُضُوءِ. قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي نُزُولِ آيَةِ الْوُضُوءِ - مَعَ تَقَدُّمِ الْعَمَلِ بِهِ - لِيَكُونَ فَرْضُهُ مَتْلُوًّا بِالتَّنْزِيلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ آيَةِ الْوُضُوءِ نَزَلَ قَدِيمًا فَعَلِمُوا بِهِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ نَزَلَ بَقِيَّتُهَا وَهُوَ ذِكْرُ التَّيَمُّمِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَإِطْلَاقُ آيَةِ التَّيَمُّمِ عَلَى هَذَا مِنْ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْبَعْضِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الَّتِي قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخْرَجَهَا فِي التَّفْسِيرِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَمِيعًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ مُعْضِلَةٌ مَا وَجَدْتُ لِدَائِهَا مِنْ دَوَاءٍ ; لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَيَّ الْآيَتَيْنِ عَنَتْ عَائِشَةُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هِيَ آيَةُ النِّسَاءِ أَوْ آيَةُ الْمَائِدَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ آيَةُ النِّسَاءِ. وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ تُسَمَّى آيَةَ الْوُضُوءِ وَآيَةُ النِّسَاءِ لَا ذِكْرَ فِيهَا لِلْوُضُوءِ فَيُتَّجَهُ تَخْصِيصُهَا بِآيَةِ التَّيَمُّمِ. وَأَوْرَدَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ ذِكْرِ آيَةِ النِّسَاءِ أَيْضًا، وَخَفِيَ عَلَى الْجَمِيعِ مَا ظَهَرَ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا آيَةُ الْمَائِدَةِ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ إِذْ صَرَّحَ فِيهَا بِقَوْلِهِ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (فَتَيَمَّمُوا) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ، أَيْ فَتَيَمَّمَ النَّاسُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِبَعْضِ الْآيَةِ وَهُوَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} بَيَانًا لِقَوْلِهِ آيَةُ التَّيَمُّمِ أَوْ بَدَلًا. وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ ; لِأَنَّ مَعْنَى (فَتَيَمَّمُوا) اقْصِدُوا كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَّا الْأَوْزَاعِيَّ، وَعَلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَقْلُ التُّرَابِ وَلَا يَكْفِي هُبُوبُ الرِّيحِ بِهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ كَمَا لَوْ أَصَابَهُ مَطَرٌ فَنَوَى الْوُضُوءَ بِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ، وَالْأَظْهَرُ الْإِجْزَاءُ لِمَنْ قَصَدَ التُّرَابَ مِنَ الرِّيحِ الْهَابَّةِ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ.

وَعَلَى تَعْينِ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ لِلتَّيَمُّمِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ قَرِيبًا، وَعَلَى أَنَّهُ يَجِبُ التَّيَمُّمُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ، وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَهُ وَمَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.

(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ، وَقَدْ رَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ قِصَّتَهَا هَذِهِ فَبَيَّنَ ذَلِكَ، لَكِنِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَلَى عَمَّارٍ فِي الْكَيْفِيَّةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَنُبَيِّنُ الْأَصَحَّ مِنْهُ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أُسَيْدٌ) هُوَ بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ الْحُضَيْرِ) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ مُصَغَّرٌ أَيْضًا، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْأَنْصَارِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي الْمَنَاقِبِ. وَإِنَّمَا قَالَ مَا قَالَ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ رَأْسَ مَنْ بُعِثَ فِي طَلَبِ الْعِقْدِ الَّذِي ضَاعَ.

قَوْلُهُ: (مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ) أَيْ بَلْ هِيَ مَسْبُوقَةٌ بِغَيْرِهَا مِنَ الْبَرَكَاتِ، وَالْمُرَادُ بِآلِ أَبِي بَكْرٍ نَفْسُهُ وَأَهْلُهُ وَأَتْبَاعُهُ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ عَائِشَةَ وَأَبِيهَا وَتَكْرَارِ الْبَرَكَةِ مِنْهُمَا. وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيكُمْ وَفِي تَفْسِيرِ إِسْحَاقَ الْبُسْتِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا مَا كَانَ أَعْظَمَ بَرَكَةَ قِلَادَتِكِ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْآتِيَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ مِنْ أَمْرٍ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا وَفِي النِّكَاحِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا، وَجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةً وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ قِصَّةِ الْإِفْكِ، فَيَقْوَى قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَعَدُّدِ ضَيَاعِ الْعِقْدِ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ الْإِخْبَارِيُّ فَقَالَ: سَقَطَ عِقْدُ عَائِشَةَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَفِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَغَازِي فِي أَيِّ هَاتَيْنِ الْغَزَاتَيْنِ كَانَتْ أَوَّلًا. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: كَانَتْ قِصَّةُ التَّيَمُّمِ فِي غَزَاةِ الْفَتْحِ. ثُمَّ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ،

ص: 434

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ لَمْ أَدْرِ كَيْفَ أَصْنَعُ. . . الْحَدِيثَ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِهَا عَنْ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ ; لِأَنَّ إِسْلَامَ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ وَهِيَ بَعْدَهَا بِلَا خِلَافٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ يَرَى أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ بَعْدَ قُدُومِ أَبِي مُوسَى، وَقُدُومُهُ كَانَ وَقْتَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ الْقِصَّةِ أَيْضًا عَنْ قِصَّةِ الْإِفْكِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ عِقْدِي مَا كَانَ، وَقَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى فَسَقَطَ أَيْضًا عِقْدِي حَتَّى حَبَسَ النَّاسَ عَلَى الْتِمَاسِهِ. فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ: يَا بُنَيَّةُ فِي كُلِّ سَفْرَةٍ تَكُونِينَ عَنَاءً وَبَلَاءً عَلَى النَّاسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل الرُّخْصَةَ فِي التَّيَمُّمِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكِ لَمُبَارَكَةٌ، ثَلَاثًا. وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، وَفِيهِ مَقَالٌ. وَفِي سِيَاقِهِ مِنَ الْفَوَائِدِ بَيَانُ عِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أُبْهِمَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَالتَّصْرِيحُ بِأَنَّ ضَيَاعَ الْعِقْدِ كَانَ مَرَّتَيْنِ فِي غَزْوَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَبَعَثْنَا) أَيْ أَثَرْنَا (الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتِ عَلَيْهِ) أَيْ حَالَةَ السَّفَرِ.

قَوْلُهُ: (فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا فِي طَلَبِهِ أَوَّلًا لَمْ يَجِدُوهُ. وَفِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا فَوَجَدَهَا أَيِ الْقِلَادَةَ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي فَضْلِ عَائِشَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ فَبَعَثَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا وَلِأَبِي دَاوُدَ فَبَعَثَ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَنَاسًا مَعَهُ وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ أُسَيْدًا كَانَ رَأْسَ مَنْ بُعِثَ لِذَلِكَ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَذَا أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى وَاحِدٍ مُبْهَمٍ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا الْعِقْدَ أَوَّلًا. فَلَمَّا رَجَعُوا وَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ وَأَرَادُوا الرَّحِيلَ وَأَثَارُوا الْبَعِيرَ وَجَدَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ الْآتِيَةِ: فَوَجَدَهَا أَيْ بَعْدَ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْتِيشِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ وَجَدَهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ بَالَغَ الدَّاوُدِيُّ فِي تَوْهِيمِ رِوَايَةِ عُرْوَةَ، وَنُقِلَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي أَنَّهُ حَمَلَ الْوَهْمَ فِيهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَقَدْ بَانَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ لَا تَخَالُفَ بَيْنَهُمَا وَلَا وَهْمَ.

وَفِي الْحَدِيثَيْنِ اخْتِلَافٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي وَقَالَتْ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ سَقَطَتْ قِلَادَةٌ لِي وَفِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ الْآتِيَةِ عَنْهَا أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ قِلَادَةً مِنْ أَسْمَاءَ يَعْنِي أُخْتَهَا فَهَلَكَتْ أَيْ ضَاعَتْ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِضَافَةَ الْقِلَادَةِ إِلَى عَائِشَةَ لِكَوْنِهَا فِي يَدِهَا وَتَصَرُّفِهَا، وَإِلَى أَسْمَاءَ لِكَوْنِهَا مِلْكَهَا لِتَصْرِيحِ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ بِأَنَّهَا اسْتَعَارَتْهَا مِنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى اتِّحَادِ الْقِصَّةِ. وَقَدْ جَنَحَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى تَعَدُّدِهَا حَيْثُ أَوْرَدَ حَدِيثَ الْبَابِ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ وَحَدِيثَ عُرْوَةَ فِي تَفْسِيرِ النِّسَاءِ، فَكَانَ نُزُولُ آيَةِ الْمَائِدَةِ بِسَبَبِ عِقْدِ عَائِشَةَ، وَآيَةِ النِّسَاءِ بِسَبَبِ قِلَادَةِ أَسْمَاءَ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنِ اتِّحَادِ الْقِصَّةِ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَائِدَةٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمَّارٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْعِقْدَ الْمَذْكُورَ كَانَ مِنْ جَزْعِ ظِفَارٍ، وَكَذَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْجَزْعُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ خَرَزٌ يَمَنِيٌّ. وَظِفَارٌ مَدِينَةٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي بَابِ الطِّيبِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ جَوَازُ السَّفَرِ بِالنِّسَاءِ وَاتِّخَاذِهِنَّ الْحُلِيَّ تَجَمُّلًا لِأَزْوَاجِهِنَّ، وَجَوَازُ السَّفَرِ بِالْعَارِيَةِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى رِضَا صَاحِبِهَا.

335 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ح. قَالَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ الْفَقِيرُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

ص: 435

أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً.

[الحديث 335 - طرفاه في: 3122، 438]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ، قَالَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ) إِنَّمَا لَمْ يَجْمَعِ الْبُخَارِيُّ بَيْنَ شَيْخَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ كَوْنِهِمَا حَدَّثَاهُ بِهِ عَنْ هُشَيْمٍ ; لِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمَا مُتَفَرِّقَيْنِ، وَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ مَعَ غَيْرِهِ فَلِهَذَا جَمَعَ فَقَالَ حَدَّثَنَا وَسَمِعَهُ مِنْ سَعِيدٍ وَحْدَهُ فَلِهَذَا أَفْرَدَ فَقَالَ حَدَّثَنِي. وَكَأَنَّ مُحَمَّدًا سَمِعَهُ مِنْ لَفْظِ هُشَيْمٍ فَلِهَذَا قَالَ حَدَّثَنَا وَكَأَنَّ سَعِيدًا قَرَأَهُ أَوْ سَمِعَهُ يَقْرَأُ عَلَى هُشَيْمٍ فَلِهَذَا قَالَ أَخْبَرَنَا وَمُرَاعَاةُ هَذَا كُلِّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاصْطِلَاحِ. ثُمَّ إِنَّ سِيَاقَ الْمَتْنِ لَفْظُ سَعِيدٍ، وَقَدْ ظَهَرَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ إِذَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ فَإِنَّ اللَّفْظَ يَكُونُ لِلْأَخِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ) بِمُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ وَآخِرُهُ رَاءٌ، هُوَ أَبُو الْحَكَمِ الْعَنْزِيُّ الْوَاسِطِيُّ الْبَصْرِيُّ وَاسْمُ أَبِيهِ وَرْدَانُ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَيُكَنَّى أَبَا سَيَّارٍ، اتَّفَقُوا عَلَى تَوْثِيقِ سَيَّارٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ أَدْرَكَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَكِنْ لَمْ يَلْقَ أَحَدًا مِنْهُمْ فَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. وَلَهُمْ شَيْخٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ سَيَّارٌ، لَكِنَّهُ تَابِعِيٌّ شَامِيٌّ أَخْرَجَ لَهُ التِّرْمِذِيٌّ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ ; لِأَنَّهُ رَوَى مَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَمْ يُنْسَبْ فِي الرِّوَايَةِ كَمَا لَمْ يُنْسَبْ سَيَّارٌ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَرُبَّمَا ظَنَّهُمَا بَعْضُ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَاحِدًا فَيَظُنُّ أَنَّ فِي الْإِسْنَادِ اخْتِلَافًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ) هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ يُكَنَّى أَبَا عُثْمَانَ، تَابِعِيُّ مَشْهُورٌ، قِيلَ لَهُ الْفَقِيرُ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَشْكُوُ فَقَارِ ظَهْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فَقِيرًا مِنَ الْمَالِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: رَجُلٌ فَقِيرٌ مَكْسُورُ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَيُقَالُ لَهُ فَقِّيرٌ بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا.

(فَائِدَةٌ): مَدَارُ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا عَلَى هُشَيْمٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَأَبِي ذَرٍّ، مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، رَوَاهَا كُلَّهَا أَحْمَدُ بِأَسَانِيدَ حِسَانٍ.

قَوْلُهُ: (أُعْطِيتُ خَمْسًا) بَيَّنَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي) زَادَ فِي الصَّلَاةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا أَقُولُهُنَّ فَخْرًا وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَصَّ بِغَيْرِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ فَذَكَرَ أَرْبَعًا مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ وَزَادَ ثِنْتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّهُ اطَّلَعَ أَوَّلًا عَلَى بَعْضِ مَا اخْتُصَّ بِهِ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى الْبَاقِي، وَمَنْ لَا يَرَى مَفْهُومَ الْعَدَدِ حُجَّةً يَدْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ مِنْ أَصْلِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَاتِ لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَا يُعْتَرَضُ بِأَنَّ نُوحًا عليه السلام كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ الطُّوفَانِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مَعَهُ وَقَدْ كَانَ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ بَعْثَتِهِ وَإِنَّمَا اتَّفَقَ بِالْحَادِثِ الَّذِي وَقَعَ وَهُوَ انْحِصَارُ الْخَلْقِ فِي الْمَوْجُودِينَ بَعْدَ هَلَاكِ سَائِرِ النَّاسِ، وَأَمَّا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم فَعُمُومُ رِسَالَتِهِ مِنْ أَصْلِ الْبَعْثَةِ فَثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِنُوحٍ كَمَا صَحَّ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ عُمُومَ بَعْثَتِهِ بَلْ إِثْبَاتُ أَوَّلِيَّةِ إِرْسَالِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِتَنْصِيصِهِ سبحانه وتعالى فِي عِدَّةِ آيَاتٍ عَلَى أَنَّ إِرْسَالَ

ص: 436

نُوحٍ كَانَ إِلَى قَوْمِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِعُمُومِ بَعْثَتِهِ بِكَوْنِهِ دَعَا عَلَى

جَمِيعِ مَنْ فِي الْأَرْضِ فَأُهْلِكُوا بِالْغَرَقِ إِلَّا أَهْلَ السَّفِينَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمْ لَمَا أُهْلِكُوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَوَّلُ الرُّسُلِ، وَأُجِيبَ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ نُوحٍ وَعَلِمَ نُوحٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَدَعَا عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ فَأُجِيبَ. وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ، لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ نُبِّئَ فِي زَمَنِ نُوحٍ غَيْرُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْخُصُوصِيَّةِ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ بَقَاءَ شَرِيعَتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَنُوحٌ وَغَيْرُهُ بِصَدَدِ أَنْ يُبْعَثَ نَبِيٌّ فِي زَمَانِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَيَنْسَخَ بَعْضَ شَرِيعَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُ قَوْمَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ بَلَغَ بَقِيَّةَ النَّاسِ فَتَمَادَوْا عَلَى الشِّرْكِ فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ، وَإِلَى هَذَا نَحَا ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ قَالَ: وَغَيْرُ مُمْكِنٍ أَنْ تَكُونَ نُبُوَّتُهُ لَمْ تَبْلُغِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ لِطُولِ مُدَّتِهِ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ كَانَ الْتِزَامُ فُرُوعِ شَرِيعَتِهِ لَيْسَ عَامًّا ; لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَاتَلَ غَيْرَ قَوْمِهِ عَلَى الشِّرْكِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ التَّوْحِيدُ لَازِمًا لَهُمْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ إِرْسَالِ نُوحٍ إِلَّا قَوْمُ نُوحٍ

(1)

. فَبَعْثَتُهُ خَاصَّةٌ لِكَوْنِهَا إِلَى قَوْمِهِ فَقَطْ وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الصُّورَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِمْ، لَكِنْ لَوِ اتَّفَقَ وُجُودُ غَيْرِهِمْ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمْ.

وَغَفَلَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ غَفْلَةً عَظِيمَةً فَقَالَ: قَوْلُهُ لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ يَعْنِي لَمْ تُجْمَعْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ ; لِأَنَّ نُوحًا بُعِثَ إِلَى كَافَّةِ النَّاسِ، وَأَمَّا الْأَرْبَعُ فَلَمْ يُعْطَ أَحَدٌ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ. وَكَأَنَّهُ نَظَرَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ وَغَفَلَ عَنْ آخِرِهِ ; لِأَنَّهُ نَصَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خُصُوصِيَّتِهِ بِهَذِهِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ. . . إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ) زَادَ أَبُو أُمَامَةَ يُقْذَفُ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

قَوْلُهُ: (مَسِيرَةَ شَهْرٍ) مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لِغَيْرِهِ النَّصْرُ بِالرُّعْبِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَا فِي أَكْثَرَ مِنْهَا، أَمَّا مَا دُونَهَا فَلَا، لَكِنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَنُصِرْتُ عَلَى الْعَدُوِّ بِالرُّعْبِ وَلَوْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَالظَّاهِرُ اخْتِصَاصُهُ بِهِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْغَايَةَ شَهْرًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ بَلَدِهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِهِ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ حَاصِلَةٌ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى لَوْ كَانَ وَحْدَهُ بِغَيْرِ عَسْكَرٍ، وَهَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ لِأُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ.

قَوْلُهُ: (وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا) أَيْ مَوْضِعَ سُجُودٍ، لَا يَخْتَصُّ السُّجُودُ مِنْهَا بِمَوْضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنِ الْمَكَانِ الْمَبْنِيِّ لِلصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الصَّلَاةُ فِي جَمِيعِهَا كَانَتْ كَالْمَسْجِدِ فِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ

(2)

: قِيلَ الْمُرَادُ جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَجُعِلَتْ لِغَيْرِي مَسْجِدًا وَلَمْ تُجْعَلْ لَهُ طَهُورًا ; لِأَنَّ عِيسَى كَانَ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ وَيُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، كَذَا قَالَ. وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ، وَقِيلَ إِنَّمَا أُبِيحَتْ لَهُمْ فِي مَوْضِعٍ يَتَيَقَّنُونَ طَهَارَتَهُ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَأُبِيحَ لَهَا فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ إِلَّا فِيمَا تَيَقَّنُوا نَجَاسَتَهُ. وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَبْلَهُ إِنَّمَا أُبِيحَتْ لَهُمُ الصَّلَوَاتُ فِي أَمَاكِنَ مَخْصُوصَةٍ كَالْبِيَعِ وَالصَّوَامِعِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِلَفْظِ وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ. وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ فَثَبَتَتِ الْخُصُوصِيَّةُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ

(1)

هذا الاحتمال الأخير أظهر مما قبله، لقول الله تعالى {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْآمَنَ} وقوله تعالى {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} والله أعلم

(2)

في مخطوطة الرياض"ابن التين" وفي هامش طبعة بولاق: وجد بهامش بعض النسخ: "في الأصل المقابل على المؤلف أخيرا لفظ "التين" مصلح ب"التيمي"مع بقاء لفظة "ابن" قبلها، ولعل الكاتب نسي أن يضرب عليها"

ص: 437

عَبَّاسٍ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ وَفِيهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَحَدٌ يُصَلِّي حَتَّى يَبْلُغَ مِحْرَابَهُ.

قَوْلُهُ: (وَطَهُورًا) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ الطَّهُورَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّاهِرَ لَمْ تَثْبُتِ الْخُصُوصِيَّةُ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا سِيقَ لِإِثْبَاتِهَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْجَارُودِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا جُعِلَتْ لِيَ كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ مَسْجِدًا وَطَهُورًا. وَمَعْنَى طَيِّبَةٍ طَاهِرَةٌ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى طَهُورًا طَاهِرًا لَلَزِمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَالْمَاءِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي هَذَا الْوَصْفِ، وَفِيهِ نَظَرٌ

(1)

. وَعَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ جَائِزٌ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَقَدْ أَكَّدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ بِقَوْلِهِ وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا وَلِأُمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَأَيُّمَا رَجُلٍ) أَيْ مُبْتَدَأٌ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَهَذِهِ صِيغَةُ عُمُومٍ يَدْخُلُ تَحْتَهَا مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا وَوَجَدَ شَيْئًا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ بِهِ، وَلَا يُقَالُ هُوَ خَاصٌّ بِالصَّلَاةِ ; لِأَنَّا نَقُولُ: لَفْظُ حَدِيثِ جَابِرٍ مُخْتَصَرٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَتَى الصَّلَاةَ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً وَجَدَ الْأَرْضَ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَعِنْدَ أَحْمَدَ فَعِنْدَهُ طَهُورُهُ وَمَسْجِدُهُ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ وَاحْتَجَّ مَنْ خَصَّ التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ. وَهَذَا خَاصٌّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْعَامٌّ عَلَيْهِ فَتَخْتَصٌّ الطَّهُورِيَّةُ بِالتُّرَابِ، وَدَلَّ الِافْتِرَاقُ فِي اللَّفْظِ حَيْثُ حَصَلَ التَّأْكِيدُ فِي جَعْلِهَا مَسْجِدًا دُونَ الْآخَرِ عَلَى افْتِرَاقِ الْحُكْمِ وَإِلَّا لَعُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ نَسَقًا كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ. وَمَنَعَ بَعْضُهُمُ الِاسْتِدْلَالَ بِلَفْظِ التُّرْبَةِ عَلَى خُصُوصِيَّةِ التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ بِأَنْ قَالَ: تُرْبَةُ كُلِّ مَكَانٍ مَا فِيهِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ التُّرَابِ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَجُعِلَ التُّرَابُ لِيَ طَهُورًا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَيُقَوِّي الْقَوْلَ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالتُّرَابِ أَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ لِإِظْهَارِ التَّشْرِيفِ وَالتَّخْصِيصِ، فَلَوْ كَانَ جَائِزًا بِغَيْرِ التُّرَابِ لَمَا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيُصَلِّ) عُرِفَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَ أَنْ يَتَيَمَّمَ.

قَوْلُهُ: (وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ الْمَغَانِمُ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى ضَرْبَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْجِهَادِ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَغَانِمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُذِنَ لَهُ فِيهِ لَكِنْ كَانُوا إِذَا غَنِمُوا شَيْئًا لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ وَجَاءَتْ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ خُصَّ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْغَنِيمَةِ يَصْرِفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَضَى لَمْ تَحِلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمُ أَصْلًا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْأَقْرَبُ أَنَّ اللَّامَ فِيهَا لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى فِي إِرَاحَةِ النَّاسِ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُقُوعِهَا. وَكَذَا جَزَمَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ الشَّفَاعَةُ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا أَنَّهُ لَا يُرَدُّ فِيمَا يَسْأَلُ. وَقِيلَ الشَّفَاعَةُ لِخُرُوجِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ ; لِأَنَّ شَفَاعَةَ غَيْرِهِ تَقَعُ فِيمَنْ فِي قَلْبِهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَهُ عِيَاضٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذِهِ مُرَادَةٌ مَعَ الْأُولَى ; لِأَنَّهُ يَتْبَعُهَا بِهَا كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ

(2)

: يُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الَّتِي يُخْتَصُّ بِهَا أَنَّهُ يَشْفَعُ لِأَهْلِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ،

(1)

ليس للنظر المذكور وجه، والصواب أن التيمم رافع للحدث كالماء، عملا بظاهر الحديث المذكور وما جاء في معناه وهو قول جم غفير من أهل العلم. والله أعلم

(2)

في هامش طبعة بولاق عن هامش نسخة "في بعض النسخ: في الشعب"اهـ. أي في كتاب"شعب الإيمان"

ص: 438

وَغَيْرُهُ إِنَّمَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ.

وَنَقَلَ عِيَاضٌ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ شَفَاعَةٌ لَا تُرَدُّ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ فَأَخَّرْتُهَا لِأُمَّتِي، فَهِيَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّفَاعَةِ الْمُخْتَصَّةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِخْرَاجُ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ إِلَّا التَّوْحِيدَ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ أَيْضًا بِالشَّفَاعَةِ الْأُولَى، لَكِنْ جَاءَ التَّنْوِيهُ بِذِكْرِ هَذِهِ ; لِأَنَّهَا غَايَةُ الْمَطْلُوبِ مِنْ تِلْكَ لِاقْتِضَائِهَا الرَّاحَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الشَّفَاعَةُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فِي الرَّابِعَةِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَبْلَ قَوْلِهِ وَعِزَّتِي فَيَقُولُ لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَعِزَّتِي. . إِلَخْ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ الْإِخْرَاجَ كَمَا فِي الْمَرَّاتِ الْمَاضِيَةِ، بَلْ كَانَتْ شَفَاعَتُهُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً فِي أَوَائِلِ الْبَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةٍ فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأَحْمَرِ الْعَجَمُ وَبِالْأَسْوَدِ الْعَرَبُ، وَقِيلَ الْأَحْمَرُ الْإِنْسُ وَالْأَسْوَدُ الْجِنُّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ التَّنْصِيصُ عَلَى الْإِنْسِ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى ; لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى الْجَمِيعِ، وَأَصْرَحُ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ وَأَشْمَلُهَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً.

(تَكْمِيلٌ): أَوَّلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ فَذَكَرَ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ إِلَّا الشَّفَاعَةَ وَزَادَ خَصْلَتَيْنِ وَهُمَا وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ فَتَحْصُلُ مِنْهُ وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ سَبْعَ خِصَالٍ. وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثِ خِصَالٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَذَكَرَ خَصْلَةَ الْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ: وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى، وَهَذِهِ الْخَصْلَةُ الْمُبْهَمَةُ بَيَّنَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالنَّسَائِيُّ وَهِيَ وَأُعْطِيتُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. يُشِيرُ إِلَى مَا حَطَّهُ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِهِ مِنَ الْإِصْرِ وَتَحْمِيلِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَرَفْعِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، فَصَارَتِ الْخِصَالُ تِسْعًا. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أُعْطِيتُ أَرْبَعًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ: أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ وَذَكَرَ خَصْلَةَ التُّرَابِ فَصَارَتِ الْخِصَالُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَصْلَةً، وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: غُفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ، وَأُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ، وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ لَصَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ وَذَكَرَ ثِنْتَيْنِ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِخَصْلَتَيْنِ: كَانَ شَيْطَانِي كَافِرًا فَأَعَانَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ قَالَ وَنَسِيتُ الْأُخْرَى. قُلْتُ: فَيَنْتَظِمُ بِهَذَا سَبْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ أَمْعَنَ التَّتَبُّعَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فِيهَا. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ النَّيْسَابُورِيُّ

(1)

: فِي كِتَابِ شَرَفِ الْمُصْطَفَى أَنَّ عَدَدَ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنِ الْأَنْبِيَاءِ سِتُّونَ خَصْلَةً. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مَشْرُوعِيَّةُ تَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ، وَإِلْقَاءِ الْعِلْمِ قَبْلَ السُّؤَالِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْضِ الطَّهَارَةُ، وَأَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْمَبْنِيِّ لِذَلِكَ. وَأَمَّا حَدِيثُ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ فَضَعِيفٌ

(2)

.

(1)

في النسخ المطبوعة "أبو سعد" وفي مخطوطة الرياض أبو سعيد. قال صاحب كشف الظنون: أبو سعيد عبد الملك ابن محمد النيسابوري الخركوشي المتوفى سنة 406، كتابه شرف المصطفى ثمان مجلدات

(2)

لكن يغني عنه ما رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم باسناد حسن عن ابن عباس مرفوعا "من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر" وما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة "أن رجلا أعمى سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم قال: فأجب" وهذا في الفرائض كما هو معلوم. أما النافلة فلا تختص بالمسجد، بل هي في البيت أفضل، إلا مادل الشرع على استثنائه. والله أعلم

ص: 439

أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى إِظْهَارِ كَرَامَةِ الْآدَمِيِّ وَقَالَ: لِأَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ وَتُرَابٍ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَهُورٌ، فَفِي ذَلِكَ بَيَانُ كَرَامَتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

‌2 - بَاب إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا

336 -

حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا فَوَجَدَهَا، فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَصَلَّوْا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، لِعَائِشَةَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكِ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ نَزَّلَ فَقْدَ شَرْعِيَّةِ التَّيَمُّمِ مَنْزِلَةَ فَقْدِ التُّرَابِ بَعْدَ شَرْعِيَّةِ التَّيَمُّمِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: حُكْمُهُمْ فِي عَدَمِ الْمُطَهِّرِ - الَّذِي هُوَ الْمَاءُ خَاصَّةً - كَحُكْمِنَا فِي عَدَمِ الْمُطَهِّرَيْنِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ. وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ فَقَدُوا التُّرَابَ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ فَقَدُوا الْمَاءَ فَقَطْ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ لِفَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ صَلَّوْا مُعْتَقِدِينَ وُجُوبَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ مَمْنُوعَةً لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وُجُوبُهَا، وَصَحَّحَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ فَلَمْ يُسْقِطِ الْإِعَادَةَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ، وَسَحْنُونٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ لَا تَجِبُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْبَابِ ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَبَيَّنَهَا لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ

(1)

، فَلَمْ يَتَأَخَّرِ الْبَيَانُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا: لَا يُصَلِّي، لَكِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ.

وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْمَدَنِيُّونَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنِ الْقَدِيمِ: تُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ، وَبِهَذَا تَصِيرُ الْأَقْوَالُ خَمْسَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى) هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَكَذَا فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ أَوْرَدَهَا فِي الصَّلَاةِ وَالْهِجْرَةِ وَالْمَغَازِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْهُ وَلَمْ يَنْسُبْهُ، وَأَعَادَهُ فِي التَّفْسِيرِ تَامًّا، وَمِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ حَدِيثُ مُرُ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَكَذَا سَبَقَ فِي بَابِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْبَرَازِ لَكِنْ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ لَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَعَادَهُ فِي التَّفْسِيرِ تَامًّا، وَمِثْلُهُ فِي التَّفْسِيرِ حَدِيثُ عَائِشَةَ كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ وَفِي صِفَةِ إِبْلِيسَ حَدِيثُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ الْحَدِيثَ. وَجَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ بِأَنَّهُ اللُّؤْلُؤيُّ الْبَلْخِيُّ،

(1)

ليس هذا التعقيب بجيد، والصواب وجوب الإعادة علي الفور عند وجود مقتضيها، فلما لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة دل على عدم وجوبها

ص: 440

وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هُوَ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ; لِأَنَّهُ كُوفِيٌّ، وَكَذَا الشَّيْخَانِ الْمَذْكُورَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْعِيدَيْنِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى، عَنِ الْمُحَارِبِيِّ لَكِنْ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى أَبُو السُّكَيْنِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُهْمَلَ فِي الْمَوَاضِعِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّهُ كُوفِيٌّ وَشَيْخُهُ كُوفِيٌّ أَيْضًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّهُ رَوَى عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبِي أُسَامَةَ أَيْضًا، وَجَزَمَ صَاحِبُ الزَّهْرَةِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْ أَبِي السُّكَيْنِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، وَهُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ الْمُرَادَ كَمَا جَوَّزْنَاهُ، وَإِلَى ذَلِكَ مَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَصَلَّوْا) زَادَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ فِي فَضْلِ عَائِشَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فَادَّعَى أَنَّ عَبْدَةَ تَفَرَّدَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ الْحَدِيثِ وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ رِوَايَةِ عُرْوَةَ، وَالْقَاسِمِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

‌3 - بَاب التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ إِذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَخَافَ فَوْتَ الصَّلَاةِ،

وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الْمَرِيضِ عِنْدَهُ الْمَاءُ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ: يَتَيَمَّمُ

وَأَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ أَرْضِهِ بِالْجُرُفِ فَحَضَرَتْ الْعَصْرُ بِمَرْبَدِ النَّعَمِ فَصَلَّى، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ فَلَمْ يُعِدْ

337 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ الْأَعْرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ فَقَالَ أَبُو الْجُهَيْمِ الْأَنْصَارِيُّ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عليه السلام.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وَخَافَ فَوْتَ الصَّلَاةِ) جَعَلَهُ مُقَيَّدًا بِشَرْطَيْنِ: خَوْفِ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَفَقْدِ الْمَاءِ، وَيَلْتَحِقُ بِفَقْدِهِ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ) أَيْ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَيْسَ فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُ تَعَرُّضٌ لِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ) وَصَلَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ قَالَا: لَا يَتَيَمَّمُ مَا رَجَا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ. وَمَفْهُومُهُ يُوَافِقُ مَا قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ) قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الْجُرُفِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمِرْبَدِ تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَصَلَّى الْعَصْرَ، وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْخَبَرِ كَمَا عَلَّقَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي سَبَبُ حَذْفِهِ مِنْهُ ذِكْرَ التَّيَمُّمِ مَعَ أَنَّهُ مَقْصُودُ الْبَابِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ مُخْتَصَرًا، لَكِنْ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ مَرْفُوعًا لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ.

وَالْجُرُفُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ مَوْضِعٌ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ كَانُوا يُعَسْكِرُونَ بِهِ إِذَا أَرَادُوا الْغَزْوَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالْمِرْبَدُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رُوِيَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مِيلٍ.

ص: 441

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْحَاضِرِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُسَمَّى سَفَرًا، وَبِهَذَا يُنَاسِبُ التَّرْجَمَةَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يُرَاعِ خُرُوجَ الْوَقْتِ ; لِأَنَّهُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ تَيَمَّمَ لَا عَنْ حَدَثٍ بَلْ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ اسْتِحْبَابًا فَلَعَلَّهُ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ فَأَرَادَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ كَعَادَتِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَى التَّيَمُّمِ بَدَلَ الْوُضُوءِ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ مُطَابِقًا لِلتَّرْجَمَةِ إِلَّا بِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَمْ يُعِدْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ أَسْقَطَ الْإِعَادَةَ عَنِ الْمُتَيَمِّمِ فِي الْحَضَرِ ; لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ تَيَمَّمَ فِي الْحَضَرِ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ لِإِدْرَاكِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيَلْتَحِقُ بِهِمَا الْحَاضِرُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَاءِ قِيَاسًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِنُدُورِ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ: لَا يُصَلِّي إِلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، وَنِصْفُ هَذَا الْإِسْنَادِ مِصْرِيُّونَ وَنِصْفُهُ الْأَعْلَى مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهِلَالِيُّ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ وَالِدَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَإِذَا كَانَ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ فَهُوَ مَوْلَى أَوْلَادِهَا. وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ لَهِيعَةَ، وَأَبُو الْحُوَيْرِثِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي الْجُهَيْمِ وَلَمْ يَذْكُرُوا بَيْنَهُمَا عُمَيْرًا وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثٌ آخَرُ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ، وَرِوَايَةُ الْأَعْرَجِ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ.

قَوْلُهُ: (أَقْبَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَسَارٍ) هُوَ أَخُو عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ التَّابِعِيِّ الْمَشْهُورِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَسَارٍ وَهُوَ وَهْمٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رِوَايَةٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى أَبِي جُهَيْمٍ) قِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يُقَالُ هُوَ الْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ، فَعَلَى هَذَا لَفْظَةُ ابْنٍ زَائِدَةٌ بَيْنَ أَبِي جُهَيْمٍ، وَالْحَارِثِ، لَكِنْ صَحَّحَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ الْحَارِثَ اسْمُ أَبِيهِ لَا اسْمُهُ، وَفَرَّقَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُهَيْمٍ يُكَنَّى أَيْضًا أَبَا جُهَيْمٍ، وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ فَجَعَلَ الْحَارِثَ اسْمَ جَدِّهِ، وَلَمْ يُوَافِقْ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ الْأَقْوَالَ الْمُخْتَلِفَةَ فِيهِ. وَالصِّمَّةُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ عَتِيكٍ الْخَزْرَجِيُّ، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ دَخَلْنَا عَلَى أَبِي الْجَهْمِ بِإِسْكَانِ الْهَاءِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي الصَّحَابَةِ شَخْصٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْجَهْمِ وَهُوَ صَاحِبُ الْإِنْبِجَانِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ هَذَا ; لِأَنَّهُ قُرَشِيٌّ وَهَذَا أَنْصَارِيٌّ، وَيُقَالُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَبِإِثْبَاتِهِمَا.

قَوْلُهُ: (مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعْرَفُ بِذَاكَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ، وَفِي النَّسَائِيِّ بِئْرُ الْجَمَلِ وَهُوَ مِنَ الْعَقِيقِ.

قَوْلُهُ: (فَلَقِيَهُ رَجُلٌ) هُوَ أَبُو الْجُهَيْمِ الرَّاوِي، بَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنِ الْأَعْرَجِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ) وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَعْرَجِ حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْجِدَارِ وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فَحَتَّهُ بِعَصًا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْجِدَارَ كَانَ مُبَاحًا، أَوْ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ يَعْرِفُ رِضَاهُ.

قَوْلُهُ: (فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ) وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وكَذَا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، لَكِنْ خَطَّأَ الْحُفَّاظُ رِوَايَتَهُ فِي رَفْعِهِ وَصَوَّبُوا وَقْفَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَالِكًا أَخْرَجَهُ مَوْقُوفًا بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالثَّابِتُ فِي حَدِيثِ أَبِي جُهَيْمٍ أَيْضًا بِلَفْظِ يَدَيْهِ لَا ذِرَاعَيْهِ فَإِنَّهَا رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ مَعَ مَا فِي

ص: 442

أَبِي الْحُوَيْرِثِ، وَأَبِي صَالِحٍ مِنَ الضَّعْفِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي إِيجَابِ مَسْحِ الذِّرَاعَيْنِ بَعْدُ بِبَابٍ وَاحِدٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ حَالَ التَّيَمُّمِ. قَالَ: وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ، لَكِنْ تُعُقِّبَ اسْتِدْلَالُهُ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ بِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ إِرَادَةُ ذِكْرِ اللَّهِ ; لِأَنَّ لَفْظَ السَّلَامِ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا تَيَمَّمَ فِي الْحَضَرِ لِرَدِّ السَّلَامِ - مَعَ جَوَازِهِ بِدُونِ الطَّهَارَةِ - فَمَنْ خَشِيَ فَوْتَ الصَّلَاةِ فِي الْحَضَرِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِعَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ رَفْعَ الْحَدَثِ، وَلَا اسْتِبَاحَةَ مَحْظُورٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّشَبُّهَ بِالْمُتَطَهِّرِينَ كَمَا يُشْرَعُ الْإِمْسَاكُ فِي رَمَضَانَ لِمَنْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ، أَوْ أَرَادَ تَخْفِيفَ الْحَدَثِ بِالتَّيَمُّمِ كَمَا يُشْرَعُ تَخْفِيفُ حَدَثِ الْجُنُبِ بِالْوُضُوءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ التُّرَابِ قَالَ: لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ مِنَ الْجِدَارِ تُرَابٌ، وَنُوقِضَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ سِيقَ مِنْ رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْجِدَارِ تُرَابٌ، وَلِهَذَا احْتَاجَ إِلَى حَتِّهِ بِالْعَصَا.

‌4 - بَاب الْمُتَيَمِّمُ هَلْ يَنْفُخُ فِيهِمَا

338 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبْ الْمَاءَ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.

[الحديث 338 - أطرافه في: 347، 346، 345، 343، 341، 340، 339]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُتَيَمِّمِ هَلْ يَنْفُخُ فِيهِمَا) أَيْ فِي يَدَيْهِ، وَزَعَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَابُ هَلْ يَنْفُخُ فِي يَدَيْهِ بَعْدَمَا يَضْرِبُ بِهِمَا الصَّعِيدَ لِلتَّيَمُّمِ وَإِنَّمَا تَرْجَمَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ فِيهِ احْتِمَالًا كَعَادَتِهِ ; لِأَنَّ النَّفْخَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ عَلِقَ بِيَدِهِ خَشِيَ أَنْ يُصِيبَ وَجْهَهُ الْكَرِيمَ، أَوْ عَلِقَ بِيَدِهِ مِنَ التُّرَابِ شَيْءٌ لَهُ كَثْرَةٌ فَأَرَادَ تَخْفِيفَهُ لِئَلَّا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ فِي وَجْهِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ التَّشْرِيعِ، وَمِنْ ثَمَّ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَجَازَ التَّيَمُّمَ بِغَيْرِ التُّرَابِ زَاعِمًا أَنَّ نَفْخَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرَطَ فِي التَّيَمُّمِ الضَّرْبُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مُحْتَمِلًا لِمَا ذَكَرَ أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِيَعْرِفَ النَّاظِرُ أَنَّ لِلْبَحْثِ فِيهِ مَجَالًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَكَمُ) هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ. الْفَقِيهُ الْكُوفِيُّ، وَذَرٌّ بِالْمُعْجَمَةِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْهَبِيُّ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ الْآتِيَةِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبْزَى شَهِدَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ، فَقَالَ عَمَّارٌ) هَذِهِ الرِّوَايَةُ اخْتَصَرَ فِيهَا جَوَابَ عُمَرَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنِ الْمُصَنِّفِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ أَيْضًا بِدُونِهَا، وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ رِوَايَةِ سِتَّةِ أَنْفُسٍ أَيْضًا عَنْ شُعْبَةَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَلَمْ يَسُقْهُ تَامًّا مِنْ رِوَايَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، نَعَمْ ذَكَرَ جَوَابَ عُمَرَ، مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُمَا فَقَالَ لَا تُصَلِّ زَادَ السَّرَّاجُ حَتَّى تَجِدَ الْمَاءَ وَلِلنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ. وَهَذَا مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ عَنْ عُمَرَ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَجَرَتْ فِيه مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ أَبِي مُوسَى، وَابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابٌ التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ، وَقِيلَ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَسَنَذْكُرُ هُنَاكَ تَوْجِيهَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ فِي ذَلِكَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (فِي سَفَرٍ)

ص: 443

وَلِمُسْلِمٍ فِي سَرِيَّةٍ وَزَادَ فَأَجْنَبْنَا وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ مِثْلُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (فَتَمَعَّكْتُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بَعْدُ فَتَمَرَّغْتُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ تَقَلَّبْتُ، وَكَأَنَّ عَمَّارًا اسْتَعْمَلَ الْقِيَاسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ التَّيَمُّمَ إِذَا وَقَعَ بَدَلَ الْوُضُوءِ وَقَعَ عَلَى هَيْئَةِ الْوُضُوءِ رَأَى أَنَّ التَّيَمُّمَ عَنِ الْغُسْلِ يَقَعُ عَلَى هَيْئَةِ الْغُسْلِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وُقُوعُ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ إِذَا بَذَلَ وُسْعَهُ وَإِنْ لَمْ يُصِبِ الْحَقَّ، وَأَنَّهُ إِذَا عَمِلَ بِالِاجْتِهَادِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَفِي تَرْكِهِ أَمْرَ عُمَرَ أَيْضًا بِقَضَائِهَا مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ قَالَ إِنَّ فَاقِدَ الطَّهُورَيْنِ لَا يُصَلِّي وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ

(1)

.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي التَّيَمُّمِ هِيَ الصِّفَةُ الْمَشْرُوحَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَتْ بِالْأَمْرِ دَلَّتْ عَلَى النَّسْخِ وَلَزِمَ قَبُولُهَا، لَكِنْ إِنَّمَا وَرَدَتْ بِالْفِعْلِ فَتُحْمَلُ عَلَى الْأَكْمَلِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ.

قَوْلُهُ: (وَنَفَخَ فِيهِمَا) وَفِي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ الْآتِيَةِ ثُمَّ أَدْنَاهُمَا مِنْ فِيهِ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّفْخِ، وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ نَفْخًا خَفِيفًا، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ تَفَلَ فِيهِمَا وَالتَّفْلُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ دُونَ الْبَزْقِ، وَالنَّفْثُ دُونَهُ. وَسِيَاقُ هَؤُلَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيمَ وَقَعَ بِالْفِعْلِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِ - كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ - أَنَّ التَّعْلِيمَ وَقَعَ بِالْقَوْلِ، وَلَفْظُهُمْ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ زَادَ يَحْيَى ثُمَّ تَنْفُخُ ثُمَّ تَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ وَاسْتُدِلَّ بِالنَّفْخِ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَخْفِيفِ التُّرَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى سُقُوطِ اسْتِحْبَابِ التَّكْرَارِ فِي التَّيَمُّمِ ; لِأَنَّ التَّكْرَارَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ التَّخْفِيفِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ غَسَلَ رَأْسَهُ بَدَلَ الْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ أَخْذًا مِنْ كَوْنِ عَمَّارٍ تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ لِلتَّيَمُّمِ وَأَجْزَأَهُ ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا يُؤْخَذُ جَوَازُ الزِّيَادَةِ عَلَى الضَّرْبَتَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ، وَسُقُوطُ إِيجَابِ التَّرْتِيبِ فِي التَّيَمُّمِ عَنِ الْجَنَابَةِ.

‌5 - بَاب التَّيَمُّمُ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ

339 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ عَمَّارٌ بِهَذَا، وَضَرَبَ شُعْبَةُ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ أَدْنَاهُمَا مِنْ فِيهِ، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.

وَقَالَ النَّضْرُ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ ذَرًّا يَقُولُ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَ الْحَكَمُ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَمَّارٌ.

340 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ شَهِدَ عُمَرَ وَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ: كُنَّا فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا. وَقَالَ: تَفَلَ فِيهِمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ) أَيْ هُوَ الْوَاجِبُ الْمُجْزِئُ، وَأَتَى بِذَلِكَ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ مَعَ شُهْرَةِ الْخِلَافِ فِيهِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي جُهَيْمٍ، وَعَمَّارٍ، وَمَا عَدَاهُمَا فَضَعِيفٌ أَوْ مُخْتَلَفٌ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَالرَّاجِحُ عَدَمُ رَفْعِهِ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي جُهَيْمٍ فَوَرَدَ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ مُجْمَلًا، وَأَمَّا

(1)

لكنه قول ساقط مخالف لقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ولحديث عائشة المتقدم في قصة القلادة. والله أعلم

ص: 444

حَدِيثُ عَمَّارٍ فَوَرَدَ بِذِكْرِ الْكَفَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبِذِكْرِ الْمِرْفَقَيْنِ فِي السُّنَنِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى الْآبَاطِ. فَأَمَّا رِوَايَةُ الْمَرْفِقَيْنِ وَكَذَا نِصْفُ الذِّرَاعِ فَفِيهِمَا مَقَالٌ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْآبَاطِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَقَعَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكُلُّ تَيَمُّمٍ صَحَّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ وَقَعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْحُجَّةُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ.

وَمِمَّا يُقَوِّي رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ كَوْنُ عَمَّارٍ كَانَ يُفْتِي بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَرَاوِي الْحَدِيثِ أَعْرَفُ بِالْمُرَادِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا سِيَّمَا الصَّحَابِيَّ الْمُجْتَهِدَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ الِاقْتِصَارِ عَلَى ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ) هُوَ ابْنُ مِنْهَالٍ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِغَيْرِ هَذَا السِّيَاقِ، وَلَمْ يَسْمَعِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ، وَخَالَفَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ الْبَصْرِيُّ عَنْهُ فَقَالَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ. قُلْتُ: سَقَطَتْ مِنْ رِوَايَتِهِ لَفْظَةُ ابْنٍ وَلَا بُدَّ مِنْهَا ; لِأَنَّ أَبْزَى وَالِدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا رِوَايَةَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَكَمِ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَالْأَصِيلِيِّ أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

قَوْلُهُ: (بِهَذَا) أَشَارَ إِلَى سِيَاقِ الْمَتْنِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ وَهُوَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ قِصَّةُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّضْرُ) هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ مَوْصُولٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ النَّضْرِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ عَنْهُ وَأَفَادَ النَّضْرُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحَكَمَ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِ شَيْخِهِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ ذَرٍّ، عَنْ سَعِيدٍ ثُمَّ لَقِيَ سَعِيدًا فَأَخَذَهُ عَنْهُ، وَكَأَنَّ سَمَاعَهُ لَهُ مِنْ ذَرٍّ كَانَ أَتْقَنَ وَلِهَذَا أَكْثَرُ مَا يَجِيءُ فِي الرِّوَايَاتِ بِإِثْبَاتِهِ، وَأَفَادَتْ رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنَّ عُمَرَ أَيْضًا كَانَ قَدْ أَجْنَبَ فَلِهَذَا خَالَفَ اجْتِهَادُهُ اجْتِهَادَ عَمَّارٍ.

341 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ عَمَّارٌ لِعُمَرَ: تَمَعَّكْتُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَكْفِيكَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّانِ.

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ (يَكْفِيكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَكَرِيمَةَ يَكْفِيكَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ إِمَّا بِإِضْمَارِ أَعْنِي أَوِ التَّقْدِيرُ يَكْفِيكَ أَنْ تَمْسَحَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، أَوْ بِالرَّفْعِ فِي الْوَجْهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَبِالنَّصْبِ فِي الْكَفَّيْنِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَقِيلَ إِنَّهُ رُوِيَ بِالْجَرِّ فِيهِمَا وَوَجَّهَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّ الْأَصْلَ يَكْفِيكَ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَبَقِيَ الْمَجْرُورُ بِهِ عَلَى مَا كَانَ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْكَفَّيْنِ لَيْسَ بِفَرْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْجَهْمِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَنَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: رَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ: وَهُوَ إِنْكَارٌ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّ أَبَا ثَوْرٍ إِمَامٌ ثِقَةٌ. قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا فَهُوَ الْقَوِيُّ فِي الدَّلِيلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ.

وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيَانُ صُورَةِ الضَّرْبِ لِلتَّعْلِيمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ بَيَانَ جَمِيعِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّيَمُّمُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سِيَاقَ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيَانُ جَمِيعِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرُ

ص: 445

مِنْ قَوْلِهِ إِنَّمَا يَكْفِيكَ ; وَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنِ اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الْمَسْحِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ مُشْتَرَطٌ فِي الْوُضُوءِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، فَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ وَقَدْ عَارَضَهُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ آخَرَ، وَهُوَ الْإِطْلَاقُ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ، وَلَا حَاجَةَ لِذَلِكَ مَعَ وُجُودِ هَذَا النَّصِّ.

342 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: شَهِدْتُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ. . وَسَاقَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَسُقِ الْمَتْنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَلْ قَالَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَظَاهِرُهُ أَنَّ لَفْظَهُ يُوَافِقُ اللَّفْظَ الَّذِي قَبْلَهُ. ثُمَّ سَاقَهُ نَازِلًا مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَأَظُنُّهُ قَصَدَ بِإِيرَادِ هَذِهِ الطُّرُقِ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ النَّضْرَ تَفَرَّدَ بِزِيَادَتِهِ، وَأَنَّ الْحَكَمَ سَمِعَهُ مِنْ سَعِيدٍ بِلَا وَاسِطَةٍ.

343 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَمَّارٌ: فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ الْأَرْضَ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.

واخْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ سِيَاقَ غُنْدَرٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ عُمَرَ وَذَكَرَ فِيهِ النَّفْخَ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌6 - بَاب الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ يَكْفِيهِ مِنْ الْمَاءِ

وَقَالَ الْحَسَنُ: يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ مَا لَمْ يُحْدِثْ. وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّبَخَةِ وَالتَّيَمُّمِ بِهَا.

344 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ، قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّا أَسْرَيْنَا حَتَّى إذا كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَقَعْنَا وَقْعَةً وَلَا وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْهَا، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ اسْتَيْقَظَ فُلَانٌ، ثُمَّ فُلَانٌ، ثُمَّ فُلَانٌ، يُسَمِّيهِمْ أَبُو رَجَاءٍ، فَنَسِيَ عَوْفٌ، ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الرَّابِعُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَامَ لَمْ يُوقَظْ حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَسْتَيْقِظُ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ فِي نَوْمِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ، وَكَانَ رَجُلًا جَلِيدًا، فَكَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ بِصَوْتِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ، قَالَ: لَا ضَيْرَ، أَوْ لَا يَضِيرُ، ارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلَ، فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ نَزَلَ فَدَعَا بِالْوَضُوءِ فَتَوَضَّأَ، وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِالنَّاس، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ، قَالَ: مَا مَنَعَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ، ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ الْعَطَشِ، فَنَزَلَ فَدَعَا فُلَانًا كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ نَسِيَهُ عَوْفٌ، وَدَعَا عَلِيًّا فَقَالَ: اذْهَبَا فَابْتَغِيَا الْمَاءَ، فَانْطَلَقَا فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى

بَعِيرٍ لَهَا، فَقَالَا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ قَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ، وَنَفَرُنَا خُلُوفًا، قَالَا لَهَا: انْطَلِقِي إِذًا، قَالَتْ إِلَى أَيْنَ؟ قَالَا: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ؟ قَالَا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ، فَانْطَلِقِي، فَجَاءَا بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا، وَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ السَطِيحَتَيْنِ، وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا وَأَطْلَقَ الْعَزَالى، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْقُوا وَاسْتَقُوا، فَسَقَى مَنْ شَاءَ وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ، وَكَانَ آخِرُ ذَاكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ، وَهِيَ قَائِمَةٌ تَنْظُرُ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلْأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اجْمَعُوا لَهَا، فَجَمَعُوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا فَجَعَلُوهَا فِي ثَوْبٍ، وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا، وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، قَالَ لَهَا: تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا، فَأَتَتْ أَهْلَهَا وَقَدْ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ، قَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلَانَةُ؟ قَالَتْ: الْعَجَبُ، لَقِيَنِي رَجُلَانِ فَذَهَبَا بِي إِلَى هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ، فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَسْحَرُ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ وَهَذِهِ، وَقَالَتْ بِإِصْبَعَيْهَا الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ فَرَفَعَتْهُمَا إِلَى السَّمَاءِ تَعْنِي السَّمَاءَ

وَالْأَرْضَ، أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يُصِيبُونَ الصِّرْمَ الَّذِي هِيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ يَوْمًا لِقَوْمِهَا: مَا أُرَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا، فَهَلْ لَكُمْ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَأَطَاعُوهَا فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: صَبَأَ: خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى غَيْرِهِ.

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الصَّابِئِينَ - وفي نسخة الصابئون - فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، لَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ الصَّوَابَ إِرْسَالُهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ - وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ - أَبِي ذَرٍّ نَحْوَهُ، وَلَفْظُهُ إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ. وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَلَفْظُهُ يُجْزِئُ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ مَا لَمْ يُحْدِثْ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَلَفْظُهُ لَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ إِلَّا الْحَدَثُ وَسَعِيدُ ابْنُ مَنْصُورٍ وَلَفْظُهُ التَّيَمُّمُ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ، إِذَا تَيَمَّمْتَ فَأَنْتَ عَلَى وُضُوءٍ حَتَّى تُحْدِثَ وَهُوَ أَصْرَحُ فِي مَقْصُودِ الْبَابِ. وَكَذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ تُصَلِّي الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ مِثْلَ الْوُضُوءِ مَا لَمْ تُحْدِثْ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ إِذَا خَافَ الْجُنُبُ لِعَمْرِوِ بْنِ الْعَاصِ مِثْلُهُ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَقُومُ مَقَامَ الْوُضُوءِ وَلَوْ كَانَتِ الطَّهَارَةُ بِهِ ضَعِيفَةً لَمَا أَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ مَنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَافَقَ فِيهَا الْبُخَارِيُّ الْكُوفِيِّينَ وَالْجُمْهُورَ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ - مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ - إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلِذَلِكَ أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي أَجْنَبَ فَلَمْ يُصَلِّ الْإِنَاءَ مِنَ الْمَاءِ لِيَغْتَسِلَ بِهِ بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ ; لِأَنَّهُ وَجَدَ الْمَاءَ فَبَطَلَ تَيَمُّمُهُ.

وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَةٍ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ نَظَرٌ، وَقَدْ أُبِيحَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ بِالتَّيَمُّمِ

ص: 446

الْوَاحِدِ النَّوَافِلُ مَعَ الْفَرِيضَةِ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا رحمه الله يَشْتَرِطُ تَقَدُّمَ الْفَرِيضَةِ. وَشَذَّ شُرَيْحٌ الْقَاضِي فَقَالَ: لَا يُصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِذَا صَحَّتِ النَّوَافِلُ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ صَحَّتِ الْفَرَائِضُ ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يُشْتَرَطُ لِلْفَرَائِضِ مُشْتَرَطٌ لِلنَّوَافِلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. انْتَهَى.

وَقَدِ اعْتَرَفَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ. قَالَ: لَكِنْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِيجَابُ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَتُعُقِّبَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَاحْتَجَّ الْمُصَنِّفُ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ أَيْ مَا لَمْ تُحْدِثْ أَوْ تَجِدِ الْمَاءَ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْفَرِيضَةِ الَّتِي تَيَمَّمَ مِنْ أَجْلِهَا وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ، فَإِذَا حَضَرَتْ فَرِيضَةٌ أُخْرَى وَجَبَ طَلَبُ الْمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَيَمَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ. وَالسَّبَخَةُ بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَاتٍ هِيَ الْأَرْضُ الْمَالِحَةُ الَّتِي لَا تَكَادُ تُنْبِتُ، وَإِذَا وَصَفْتَ الْأَرْضَ قُلْتَ هِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ. وَهَذَا الْأَثَرُ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ أَيْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّيِّبِ الطَّاهِرُ، وَأَمَّا الصَّعِيدُ فَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ وَأَنَّ الْأَظْهَرَ اشْتِرَاطُ التُّرَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَإِنْ قِيلَ لَا يُقَالُ مَسَحَ مِنْهُ إِلَّا إِذَا أَخَذَ مِنْهُ جُزْءًا، وَهَذِهِ صِفَةُ التُّرَابِ لَا صِفَةُ الصَّخْرِ مَثَلًا الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِالْيَدِ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَ: فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مِنْهُ صِلَةً. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ تَعَسُّفٌ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ مَسَحْتُ بِرَأْسِي مِنَ الدُّهْنِ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا مَعْنَى التَّبْعِيضِ. قُلْتُ: هُوَ كَمَا تَقُولُ، وَالْإِذْعَانُ لِلْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ الْمِرَاءِ. انْتَهَى. وَاحْتَجَّ ابْنُ خُزَيْمَةَ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ بِالسَّبِخَةِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ أَنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ سَبِخَةً ذَاتَ نَخْلٍ يَعْنِي الْمَدِينَةَ قَالَ: وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ طَيِّبَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّبِخَةَ دَاخِلَةٌ فِي الطَّيِّبِ، وَلَمْ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلَّا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.

344 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: "كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّا أَسْرَيْنَا حَتَّى كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَقَعْنَا وَقْعَةً وَلَا وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْهَا فَمَا أَيْقَظَنَا إِلاَّ حَرُّ الشَّمْسِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ اسْتَيْقَظَ فُلَانٌ ثُمَّ فُلَانٌ ثُمَّ فُلَانٌ يُسَمِّيهِمْ أَبُو رَجَاءٍ فَنَسِيَ عَوْفٌ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الرَّابِعُ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَامَ لَمْ يُوقَظْ حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَسْتَيْقِظُ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ فِي نَوْمِهِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ وَكَانَ رَجُلًا جَلِيدًا فَكَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ بِصَوْتِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ قَالَ "لَا ضَيْرَ" أَوْ لَا يَضِيرُ ارْتَحِلُوا فَارْتَحَلَ فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ نَزَلَ فَدَعَا بِالْوَضُوءِ فَتَوَضَّأَ وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى بِالنَّاس فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ قَالَ "مَا مَنَعَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ" قَالَ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ قَالَ "عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ" ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ الْعَطَشِ فَنَزَلَ فَدَعَا فُلَانًا كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ نَسِيَهُ عَوْفٌ وَدَعَا

ص: 447

عَلِيًّا فَقَالَ: اذْهَبَا فَابْتَغِيَا الْمَاءَ فَانْطَلَقَا فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا فَقَالَا لَهَا أَيْنَ الْمَاءُ قَالَتْ عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ وَنَفَرُنَا خُلُوفًا قَالَا لَهَا انْطَلِقِي إِذًا قَالَتْ إِلَى أَيْنَ قَالَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ قَالَا هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ فَانْطَلِقِي فَجَاءَا بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ قَالَ فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا وَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ سَطِيحَتَيْنِ وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا وَأَطْلَقَ الْعَزَالِيَ وَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْقُوا وَاسْتَقُوا فَسَقَى مَنْ شَاءَ وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ وَكَانَ آخِرُ ذَاكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ قَالَ اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ وَهِيَ قَائِمَةٌ تَنْظُرُ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلْأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجْمَعُوا لَهَا" فَجَمَعُوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا فَجَعَلُوهَا فِي ثَوْبٍ وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا قَالَ لَهَا تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا فَأَتَتْ أَهْلَهَا وَقَدْ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ قَالُوا مَا حَبَسَكِ يَا فُلَانَةُ قَالَتْ الْعَجَبُ لَقِيَنِي رَجُلَانِ فَذَهَبَا بِي إِلَى هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَاسْحَرُ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ وَهَذِهِ وَقَالَتْ بِإِصْبَعَيْهَا الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ فَرَفَعَتْهُمَا إِلَى السَّمَاءِ تَعْنِي السَّمَاءَ وَالأَرْضَ أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يُصِيبُونَ الصِّرْمَ الَّذِي هِيَ مِنْهُ فَقَالَتْ يَوْمًا لِقَوْمِهَا مَا أُرَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا فَهَلْ لَكُمْ فِي الإِسْلَامِ فَأَطَاعُوهَا فَدَخَلُوا فِي الإِسْلَامِ".

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: صَبَأَ خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى غَيْرِهِ

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "الصَّابِئِينَ- وفي نسخة الصابئون- فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ".

[الحديث 344 - طرفاه في 3571، 348]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ ابْنُ مُسَرْهَدٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْقَطَّانُ، وَعَوْفٌ بِالْفَاءِ هُوَ الْأَعْرَابِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ هُوَ الْعُطَارِدِيُّ، وَعِمْرَانُ هُوَ ابْنُ حُصَيْنٍ كُلُّهمْ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ هَذَا السَّفَرِ: فَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ خَيْبَرَ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَفِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ لَيْلًا فَنَزَلَ فَقَالَ مَنْ يَكْلَؤُنَا؟ فَقَالَ بِلَالٌ أَنَا الْحَدِيثَ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا عَرَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَوَكَّلَ بِلَالًا، وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ تَبُوكَ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ مُطَوَّلًا وَالْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا فِي الصَّلَاةِ قِصَّةَ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَيْضًا فِي السَّفَرِ لَكِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ جَيْشِ الْأُمَرَاءِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ غَزْوَةَ جَيْشِ الْأُمَرَاءِ هِيَ غَزْوَةُ مُؤْتَةَ وَلَمْ يَشْهَدْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِغَزْوَةِ جَيْشِ الْأُمَرَاءِ غَزْوَةً أُخْرَى غَيْرَ غَزْوَةِ

ص: 448

مُؤْتَةَ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ كَانَ ذَلِكَ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ، أَعْنِي نَوْمَهُمْ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَجَزَمَ الْأَصِيلِيُّ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَتَعَقَّبَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَنَّ قِصَّةَ أَبِي قَتَادَةَ مُغَايِرَةٌ لِقِصَّةِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإنَّ قِصَّةَ أَبِي قَتَادَةَ فِيهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ لَمْ يَكُونَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَامَ، وَقِصَّةُ عِمْرَانَ فِيهَا أَنَّهُمَا كَانَا مَعَهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَأَيْضًا فَقِصَّةُ عِمْرَانَ فِيهَا أَنَّ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَسْتَيْقِظِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَيْقَظَهُ عُمَرُ بِالتَّكْبِيرِ، وَقِصَّةُ أَبِي قَتَادَةَ فِيهَا أَنَّ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي الْقِصَّتَيْنِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمُغَايَرَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ لَا سِيَّمَا مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَبَاحٍ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ذَكَرَ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ سَمِعَهُ وَهُوَ يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ بِطُولِهِ فَقَالَ لَهُ: انْظُرْ كَيْفَ تُحَدِّثُ، فَإِنِّي كُنْتُ شَاهِدًا الْقِصَّةَ. قَالَ فَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ شَيْئًا. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِهَا. لَكِنْ لِمُدَّعِي التَّعَدُّدِ أَنْ يَقُولَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِمْرَانُ حَضَرَ الْقِصَّتَيْنِ فَحَدَّثَ بِإِحْدَاهُمَا وَصَدَّقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَبَاحٍ لَمَّا حَدَّثَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بِالْأُخْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ اخْتِلَافُ مَوَاطِنِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَحَاوَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ زَمَانَ رُجُوعِهِمْ مِنْ خَيْبَرَ قَرِيبٌ مِنْ زَمَانِ رُجُوعِهِمْ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّ اسْمَ طَرِيقِ مَكَّةَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمَا. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِتَعْيِينِ غَزْوَةِ تَبُوكَ تَرُدُّ عَلَيْهِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ شَبِيهًا بِقِصَّةِ عِمْرَانَ، وَفِيهِ أَنَّ الَّذِي كَلَأَ لَهُمُ الْفَجْرَ ذُو مِخْبَرٍ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ذِي مِخْبَرٍ أَيْضًا وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ بِلَالًا هُوَ الَّذِي كَلَأَ لَهُمُ الْفَجْرَ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظًا كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي قَتَادَةَ. وَلِابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَلَأ لَهُمُ الْفَجْرَ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَسْرَيْنَا) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: تَقُولُ سَرَيْتُ وَأَسْرَيْتُ بِمَعْنَى إِذَا سِرْتُ لَيْلًا، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ السُّرَى سَيْرُ عَامَّةُ اللَّيْلِ وَقِيلَ سَيْرُ اللَّيْلِ كُلِّهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يُخَالِفُ الْقَوْلَ الثَّانِيَ.

قَوْلُهُ: (وَقَعْنَا وَقْعَةً) فِي رِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهِمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَهُوَ سُؤَالُ بَعْضِ الْقَوْمِ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ بِلَالٌ أَنَا أُوقِظُهُمْ

قَوْلُهُ: (فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ فُلَانٌ) بِنَصْبِ أَوَّلَ ; لِأَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَقَوْلُهُ الرَّابِعُ هُوَ فِي رِوَايَتِنَا بِالرَّفْعِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى خَبَرِ كَانَ أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنَ عَوْفٌ أَنَّهُ نَسِيَ تَسْمِيَةَ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ شَيْخَهُ كَانَ يُسَمِّيهِمْ، وَقَدْ شَارَكَهُ فِي رِوَايَتِهِ عِنْدُهُ سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ فَسَمَّى أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظُهُ فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ أَبُو بَكْرٍ. وَيُشْبِهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي عِمْرَانَ رَاوِيَ الْقِصَّةِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِهِ أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُهُ مُشَاهَدَتُهُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيقَاظِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الثَّالِثُ مَنْ شَارَكَ عِمْرَانَ فِي رِوَايَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ ذُو مِخْبَرٍ: فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ، فَجِئْتُ أَدْنَى الْقَوْمِ فَأَيْقَظْتُهُ، وَأَيْقَظَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ) بِضَمِّ الدَّالِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ أَيْ مِنَ الْوَحْيِ، كَانُوا يَخَافُونَ مِنْ إِيقَاظِهِ قَطْعَ الْوَحْيِ فَلَا يُوقِظُونَهُ لِاحْتِمَالِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّمَسُّكُ بِالْأَمْرِ الْأَعَمِّ احْتِيَاطًا.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ رَجُلًا جَلِيدًا) هُوَ مِنَ الْجَلَادَةِ بِمَعْنَى الصَّلَابَةِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ هُنَا أَجْوَفُ أَيْ رَفِيعُ الصَّوْتِ، يَخْرُجُ صَوْتُهُ مِنْ جَوْفِهِ بِقُوَّةٍ. وَفِي اسْتِعْمَالِهِ التَّكْبِيرَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْأَدَبِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ، وَخَصَّ التَّكْبِيرَ ; لِأَنَّهُ أَصْلُ الدُّعَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (الَّذِي أَصَابَهُمْ) أَيْ مِنْ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا.

قَوْلُهُ: (لَا ضَيْرَ) أَيْ لَا ضَرَرَ، وَقَوْلُهُ أَوْ لَا يُضِيرُ شَكٌّ مِنْ عَوْفٍ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَتِهِ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ لَا يَسُوءُ

ص: 449

وَلَا يُضِيرُ وَفِيهِ تَأْنِيسٌ لِقُلُوبِ الصَّحَابَةِ لِمَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الْأَسَفِ عَلَى فَوَاتِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا بِأَنَّهُمْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (ارْتَحِلُوا) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْفَائِتَةِ عَنْ وَقْتِ ذِكْرِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ تَغَافُلٍ أَوْ اسْتِهَانَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّبَبَ فِي الْأَمْرِ بِالِارْتِحَالِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ وَلَفْظُهُ فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ تَحَوَّلُوا عَنْ مَكَانِكُمُ الَّذِي أَصَابَتْكُمْ فِيهِ الْغَفْلَةُ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ كَوْنُ ذَلِكَ كَانَ وَقْتَ الْكَرَاهَةِ، بَلْ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَيْقِظُوا حَتَّى وَجَدُوا حَرَّ الشَّمْسِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَذْهَبَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَحْوَالِهَا، وَقِيلَ تَحَرُّزًا مِنَ الْعَدُوِّ، وَقِيلَ انْتِظَارًا لِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ، وَقِيلَ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ غَفْلَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَقِيلَ لِيَسْتَيْقِظَ مَنْ كَانَ نَائِمًا وَيَنْشَطَ مَنْ كَانَ كَسْلَانًا.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ تَأْخِيرَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَالْحَدِيثَ مَدَنِيٌّ فَكَيْفَ يَنْسَخُ الْمُتَقَدِّمُ الْمُتَأَخِّرَ؟ وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ النَّوْمِ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي قَالَ النَّوَوِيُّ: لَهُ جَوَابَانِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَلْبَ إِنَّمَا يُدْرِكُ الْحِسِّيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ كَالْحَدَثِ وَالْأَلَمِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا يُدْرِكُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ ; لِأَنَّهَا نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ. وَالثَّانِي أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَالَانِ: حَالٌ كَانَ قَلْبُهُ فِيهِ لَا يَنَامُ وَهُوَ الْأَغْلَبُ، وَحَالٌ يَنَامُ فِيهِ قَلْبُهُ وَهُوَ نَادِرٌ، فَصَادَفَ هَذَا أَيْ قِصَّةَ النَّوْمِ عَنِ الصَّلَاةِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي ضَعِيفٌ. وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَلَا يُقَالُ الْقَلْبُ وَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ مِنْ رُؤْيَةِ الْفَجْرِ مَثَلًا لَكِنَّهُ يُدْرِكُ إِذَا كَانَ يَقْظَانًا مُرُورَ الْوَقْتِ الطَّوِيلِ، فَإِنَّ مِنِ ابْتِدَاءِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى أَنْ حَمِيَتِ الشَّمْسُ مُدَّةً طَوِيلَةً لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا ; لِأَنَّا نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ كَانَ قَلْبُهُ صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَاكَ مُسْتَغْرِقًا بِالْوَحْيِ، وَلَا يَلْزَمُ مَعَ ذَلِكَ وَصْفُهُ بِالنَّوْمِ، كَمَا كَانَ يَسْتَغْرِقُ صلى الله عليه وسلم حَالَةَ إِلْقَاءِ الْوَحْيِ فِي الْيَقَظَةِ، وَتَكُونُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ بَيَانَ التَّشْرِيعِ بِالْفِعْلِ ; لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ كَمَا فِي قَضِيَّةِ سَهْوِهِ فِي الصَّلَاةِ.

وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا جَوَابُ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ السَّهْوُ فِي الْيَقَظَةِ لِمَصْلَحَةِ التَّشْرِيعِ، فَفِي النَّوْمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، أَوْ عَلَى السَّوَاءِ. وَقَدْ أُجِيبَ عَلَى أَصْلِ الْإِشْكَالِ بِأَجْوِبَةٍ أُخْرَى ضَعِيفَةٍ، مِنْهَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَنَامُ قَلْبِي أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالَةُ انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَسْتَغْرِقُ بِالنَّوْمِ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ الْحَدَثُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: كَأَنَّ قَائِلَ هَذَا أَرَادَ تَخْصِيصَ يَقَظَةِ الْقَلْبِ بِإِدْرَاكِ حَالَةِ الِانْتِقَاضِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي خَرَجَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ عَائِشَةَ: أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ وَهَذَا كَلَامٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِانْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْوِتْرِ فَتُحْمَلُ يَقَظَتُهُ عَلَى تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْيَقَظَةِ لِلْوِتْرِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ شَرَعَ فِي النَّوْمِ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ بِهِ وَبَيْنَ مَنْ شَرَعَ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِالْيَقَظَةِ. قَالَ: فَعَلَى هَذَا فَلَا تَعَارُضَ وَلَا إِشْكَالَ فِي حَدِيثِ النَّوْمِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ; لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اطْمَأَنَّ فِي نَوْمِهِ لِمَا أَوْجَبَهُ تَعَبُ السَّيْرِ مُعْتَمِدًا عَلَى مَنْ وَكَّلَهُ بِكِلَاءَةِ الْفَجْرِ. اهـ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمُحَصَّلُهُ تَخْصِيصُ الْيَقَظَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي بِإِدْرَاكِهِ وَقْتَ الْوِتْرِ إِدْرَاكًا مَعْنَوِيًّا لِتَعَلُّقِهِ بِهِ، وَأَنَّ نَوْمَهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ كَانَ نَوْمًا مُسْتَغْرِقًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ بِلَالٍ لَهُ أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَوْمَ بِلَالٍ كَانَ مُسْتَغْرِقًا. وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا قَالَهُ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ خُصُوصِ السَّبَبِ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ السِّيَاقُ، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ.

وَمِنَ الْأَجْوِبَةِ

ص: 450

الضَّعِيفَةِ أَيْضًا قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَانَ قَلْبُهُ يَقْظَانًا وَعَلِمَ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لَكِنْ تَرَكَ إِعْلَامَهُمْ بِذَلِكَ عَمْدًا لِمَصْلَحَةِ التَّشْرِيعِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِنَفْيِ النَّوْمِ عَنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ كَمَا يَطْرَأُ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ حَقٌّ وَوَحْيٌ. فَهَذِهِ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ أَقْرَبُهَا إِلَى الصَّوَابِ الْأَوَّلُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

(فَائِدَةٌ): قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَخَذَ بِهَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ: مَنِ انْتَبَهَ مِنْ نَوْمٍ عَنْ صَلَاةِ فَاتَتْهُ فِي سَفَرٍ فَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَإِنْ كَانَ وَادِيًا فَيَخْرُجُ عَنْهُ. وَقِيلَ إِنَّمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ الْوَادِي بِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنْ حَالِ ذَلِكَ الْوَادِي وَلَا غَيْرِهِ ذَلِكَ إِلَّا هُوَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ غَفْلَةٌ فِي مَكَانٍ عَنْ عِبَادَةٍ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّحَوُّلُ مِنْهُ، وَمِنْهُ أَمْرُ النَّاعِسِ فِي سَمَاعِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ.

قَوْلُهُ: (فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِارْتِحَالَ الْمَذْكُورَ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ سَيْرِهِمُ الْمُعْتَادِ.

قَوْلُهُ: (وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْأَذَانِ لِلْفَوَائِتِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النِّدَاءَ أَعَمُّ مِنَ الْأَذَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ هُنَا الْإِقَامَةُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ التَّصْرِيحُ بِالتَّأْذِينِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَاخِرِ الْمَوَاقِيتِ. وَتَرْجَمَ لَهُ خَاصَّةً بِذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (فَصَلَّى بِالنَّاسِ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَوَائِتِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ لِلشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ بْنِ الْمُلَقِّنِ مَا نَصُّهُ: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ خَلَّادُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ أَخُو رِفَاعَةَ، شَهِدَ بَدْرًا، قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَهُ رِوَايَةٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ صَاحِبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِتَقَدُّمِ وَقْعَةَ بَدْرٍ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ بِلَا خِلَافٍ، فَكَيْفَ يَحْضُرُ هَذِهِ الْقِصَّةَ بَعْدَ قَتْلِهِ؟ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ غَيْرِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَهُ رِوَايَةٌ أَنْ يَكُونَ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْهُ مُنْقَطِعَةً، أَوْ مُتَّصِلَةً لَكِنْ نَقَلَهَا عَنْهُ صَحَابِيٌّ آخَرُ وَنَحْوُهُ.

وَعَلَى هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ قُتِلَ بِبَدْرٍ إِلَّا أَنْ تَجِيءَ رِوَايَةٌ عَنْ تَابِعِيٍّ غَيْرِ مُخَضْرَمٍ وَصَرَّحَ فِيهَا بِسَمَاعِهِ مِنْهُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ صَاحِبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، إِلَّا إِنْ وَرَدَتْ رِوَايَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِذَلِكَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا إِلَى الْآنَ.

قَوْلُهُ: (أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءٌ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ مَعِي أَوْ مَوْجُودٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي إِقَامَةِ عُذْرِهِ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَشْرُوعِيَّةُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَفِيهَا جَوَازُ الِاجْتِهَادِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، لَكِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْآيَةِ عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلَامَسَةِ مَا دُونَ الْجِمَاعِ، وَأَمَّا الْحَدَثُ الْأَكْبَرُ فَلَيْسَتْ صَرِيحَةً فِيهِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَتَيَمَّمُ، فَعَمِلَ بِذَلِكَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْلَمُ مَشْرُوعِيَّةَ التَّيَمُّمِ أَصْلًا فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ لِلْعَالِمِ إِذَا رَأَى فِعْلًا مُحْتَمَلًا أَنْ يَسْأَلَ فَاعِلَهُ عَنِ الْحَالِ فِيهِ لِيُوَضِّحَ لَهُ وَجْهَ الصَّوَابِ. وَفِيهِ التَّحْرِيضُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَأَنَّ تَرْكَ الشَّخْصِ الصَّلَاةَ بِحَضْرَةِ الْمُصَلِّينَ مَعِيبٌ عَلَى فَاعِلِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَفِيهِ حُسْنُ الْمُلَاطَفَةِ، وَالرِّفْقُ فِي الْإِنْكَارِ.

قَوْلُهُ: (عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ) وَفِي رِوَايَةِ سَلْمِ بْنِ زَرِيرٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالصَّعِيدِ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الِاكْتِفَاءُ فِي الْبَيَانِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِفْهَامِ ; لِأَنَّهُ أَحَالَهُ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الْآيَةِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِهَا. وَدَلَّ قَوْلُهُ يَكْفِيكَ عَلَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمرَادُ بِقَوْلِهِ يَكْفِيكَ أَيْ لِلْأَدَاءِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْقَضَاءِ.

قَوْلُهُ: (فَدَعَا فُلَانًا) هُوَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ سَلْمِ بْنِ

ص: 451

زَرِيرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ ثُمَّ عَجَّلَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَكْبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ نَطْلُبُ الْمَاءَ وَدَلَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَعَلِيٌّ فَقَطْ ; لِأَنَّهُمَا خُوطِبَا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ لَهُمَا فَيُتَّجَهُ إِطْلَاقُ لَفْظِ رَكْبٍ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَخُصَّا بِالْخِطَابِ ; لِأَنَّهُمَا الْمَقْصُودَانِ بِالْإِرْسَالِ.

قَوْلُهُ: (فَابْتَغِيَا) لِلْأَصِيلِيِّ فَابْغِيَا وَلِأَحْمَدَ فَأَبْغِيَانَا وَالْمُرَادُ الطَّلَبُ يُقَالُ ابْتَغِ الشَّيْءَ أَيْ تَطَلَّبْهُ، وَابْغِ الشَّيْءَ أَيِ اطْلُبْهُ، وَأَبْغِنِي أَيِ اطْلُبْ لِي. وَفِيهِ الْجَرْيُ عَلَى الْعَادَةِ فِي طَلَبِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ دُونَ الْوُقُوفِ عِنْدَ خَرْقِهَا، وَأَنَّ التَّسَبُّبَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي التَّوَكُّلِ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ) الْمَزَادَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالزَّايِ قِرْبَةٌ كَبِيرَةٌ يُزَادُ فِيهَا جِلْدٌ مِنْ غَيْرِهَا، وَتُسَمَّى أَيْضًا السَّطِيحَةَ، وَأَوْ هُنَا شَكٌّ مِنْ عَوْفٍ لِخُلُوِّ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْهَا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَإِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ سَادِلَةٍ - أَيْ مُدَلِّيَةٍ - رِجْلَيْهَا بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِمَا الرَّاوِيَةُ.

قَوْلُهُ: (أَمْسِ) خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ، وَهَذِهِ السَّاعَةَ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: أَصْلُهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ أَيْ بَعْدَ حَذْفِ فِي.

قَوْلُهُ: (وَنَفَرْنَا) قَالَ ابْنُ سِيدَهْ النَّفَرُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ النَّفَرُ النَّاسُ عَنْ كَرَاعٍ. قُلْتُ: وَهُوَ اللَّائِقُ هُنَا ; لِأَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّ رِجَالَهَا تَخَلَّفُوا لِطَلَبِ الْمَاءِ. وَخُلُوفٌ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ جَمْعُ خَالِفٍ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْخَالِفُ الْمُسْتَقِي، وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ غَابَ، وَلَعَلَّهُ الْمُرَادُ هُنَا، أَيْ أَنَّ رِجَالَهَا غَابُوا عَنِ الْحَيِّ، وَيَكُونُ قَوْلُهَا وَنَفَرْنَا خُلُوفٌ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً زَائِدَةً عَلَى جَوَابِ السُّؤَالِ. وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ وَنَفَرْنَا خُلُوفًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ السَّادَّةِ مَسَدَّ الْخَبَرِ.

قَوْلُهُ: (الصَّابِي) بِلَا هَمْزٍ أَيِ الْمَائِلُ، وَيُرْوَى بِالْهَمْزِ مِنْ صَبَأَ صُبُوءًا، أَيْ خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ. وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ لِلْمُصَنِّفِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ) فِيهِ أَدَبٌ حَسَنٌ، وَلَوْ قَالَا لَهَا لَا لَفَاتَ الْمَقْصُودُ، أَوْ نَعَمْ لَمْ يَحْسُنْ بِهِمَا إِذْ فِيهِ تَقْرِيرٌ ذَلِكَ، فَتَخَلَّصَا أَحْسَنَ تَخَلُّصٍ. وَفِيهِ جَوَازُ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ

(1)

عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا) قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّمَا أَخَذُوهَا وَاسْتَجَازُوا أَخْذَ مَائِهَا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ كَافِرَةً حَرْبِيَّةً، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَهْدٌ فَضَرُورَةُ الْعَطَشِ تُبِيحُ لِلْمُسْلِمِ الْمَاءَ الْمَمْلُوكَ لِغَيْرِهِ عَلَى عِوَضٍ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الشَّارِعِ تُفْدَى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ.

قَوْلُهُ: (فَفَرَّغَ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَفْرَغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ زَادَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَتَمَضْمَضَ فِي الْمَاءِ وَأَعَادَهُ فِي أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ تَتَّضِحُ الْحِكْمَةُ فِي رَبْطِ الْأَفْوَاهِ بَعْدَ فَتْحِهَا، وَإِطْلَاقِ الْأَفْوَاهِ هُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مَزَادَةٍ سِوَى فَمٍ وَاحِدٍ، وَعُرِفَ مِنْهَا أَنَّ الْبَرَكَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِمُشَارَكَةِ رِيقِهِ الطَّاهِرِ الْمُبَارَكِ لِلْمَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَأَوْكَأَ) أَيْ رَبَطَ، وَقَوْلُهُ:(وَأَطْلَقَ) أَيْ فَتَحَ وَالْعَزَالِي بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا جَمْعُ عَزْلَاءَ بِإِسْكَانِ الزَّايِ. قَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ مَصَبُّ الْمَاءِ مِنَ الرَّاوِيَةِ، وَلِكُلِّ مَزَادَةٍ عِزَالَانِ مِنْ أَسْفَلِهَا.

قَوْلُهُ: (أَسْقُوا) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ مِنْ أَسْقَى، أَوْ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَكْسُورَةٍ مِنْ سَقَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَقَوْا غَيْرَهَمْ كَالدَّوَابِّ وَنَحْوِهَا وَاسْتَقَوْا هُمْ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنْ أَعْطَى) بِنَصْبِ آخِرَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَأَنْ أَعْطَى اسْمُ كَانَ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى أَنْ أَعْطَى الْخَبَرُ ; لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مَعْرِفَةٌ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَالْأَوَّلُ أَقْوَى، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} الْآيَةَ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ شُرْبِ الْآدَمِيِّ وَالْحَيَوَانِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَصْلَحَةِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ لِتَأْخِيرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا عَمَّنْ سَقَى وَاسْتَقَى، وَلَا يُقَالُ قَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَلْمِ بْنِ زَرِيرٍ غَيْرِ أَنَّا لَمْ نَسْقِ بَعِيرًا ; لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْإِبِلَ لَمْ تَكُنْ

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: إنهما اثنان، ولاتحصل معهما الخلوة المحرمة. وتأمل بقية سياق الحديث

ص: 452

مُحْتَاجَةً إِذْ ذَاكَ إِلَى السَّقْيِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ فَسَقَى عَلَى غَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (وَايْمُ اللَّهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَالْمِيمُ مَضْمُومَةٌ أَصْلُهُ ايْمُنُ اللَّهِ وَهُوَ اسْمٌ وُضِعَ لِلْقَسَمِ هَكَذَا ثُمَّ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ تَخْفِيفًا وَأَلِفُهُ أَلِفُ وَصْلٍ مَفْتُوحَةٌ وَلَمْ يَجِئْ كَذَلِكَ غَيْرُهَا، وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ ايْمُ اللَّهِ قَسَمِي، وَفِيهَا لُغَاتٌ جَمَعَ مِنْهَا النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَبَلَغَ بِهَا غَيْرُهُ عِشْرِينَ، وَسَيَكُونُ لَنَا إِلَيْهَا عَوْدَةٌ لِبَيَانِهَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ التَّوْكِيدِ بِالْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ.

قَوْلُهُ: (أَشَدُّ مِلْأَةً) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ لِلْبَيْهَقِيِّ أَمْلَأُ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا بَقِيَ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ أَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (اجْمَعُوا لَهَا) فِيهِ جَوَازُ الْأَخْذِ لِلْمُحْتَاجِ بِرِضَا الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهُ إِنْ تَعَيَّنَ، وَفِيهِ جَوَازُ الْمُعَاطَاةِ فِي مِثْلِ هَذَا مِنَ الْهِبَاتِ وَالْإِبَاحَاتِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ مِنَ الْمُعْطِي وَالْآخِذِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَسَوِيقَةٍ) الْعَجْوَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالسَّوِيقَةَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَذَا الدَّقِيقَةُ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِضَمِّهَا مُصَغَّرًا مُثَقَّلًا.

قَوْلُهُ: (حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا) زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ كَثِيرًا وَفِيهِ إِطْلَاقُ لَفْظِ الطَّعَامِ عَلَى غَيْرِ الْحِنْطَةِ وَالذُّرَةِ خِلَافًا لِمَنْ أَبَى ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا أَيْ غَيْرَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْعَجْوَةِ وَغَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ لَهَا تَعَلَّمِينَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ اعْلَمِي، وَلِلْأَصِيلِيِّ قَالُوا وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْأَصِيلِيِّ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا لَهَا ذَلِكَ بِأَمْرِهِ. وَقَدِ اشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلَى عَلَمٍ عَظِيمٍ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ.

قَوْلُهُ: (مَا رَزِئْنَا) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ - وَيَجُوزُ فَتْحُهَا - وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ أَيْ نَقَصْنَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْمَاءِ مِمَّا زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَوْجَدَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِطْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَائِهَا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُخْتَلِطًا، وَهَذَا أَبْدَعُ وَأَغْرَبُ فِي الْمُعْجِزَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا نَقَصْنَا مِنْ مِقْدَارِ مَائِكِ شَيْئًا. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ فِيهَا النَّجَاسَةَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَعْطَاهَا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ عَنْ مَائِهَا بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّكَرُّمِ وَالتَّفَضُّلِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ بِإِصْبَعَيْهَا) أَيْ أَشَارَتْ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ.

قَوْلُهُ: (يُغِيرُونَ) بِالضَّمِّ مِنْ أَغَارَ أَيْ دَفَعَ الْخَيْلَ فِي الْحَرْبِ.

قَوْلُهُ: (الصِّرْمَ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ أَبْيَاتًا مُجْتَمِعَةً مِنَ النَّاسِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ يَوْمًا لِقَوْمِهَا: مَا أَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا) هَذِهِ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: مَا مَوْصُولَةٌ، وَأَرَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى أَعْلَمُ، وَالْمَعْنَى الَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَتْرُكُونَكُمْ عَمْدًا لَا غَفْلَةً وَلَا نِسْيَانًا، بَلْ مُرَاعَاةً لِمَا سَبَقَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَهَذِهِ الْغَايَةُ فِي مُرَاعَاةِ الصُّحْبَةِ الْيَسِيرَةِ، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ سَبَبًا لِرَغْبَتِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ مَا أَرَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ أَيْضًا: وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَا أَدْرِي يَعْنِي رِوَايَةَ الْأَصِيلِيِّ. قَالَ: وَمَا مَوْصُولَةٌ وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا نَافِيَةٌ وَأَنَّ بِمَعْنَى لَعَلَّ. وَقِيلَ: مَا نَافِيَةٌ وَإِنَّ بِالْكَسْرِ، وَمَعْنَاهُ لَا أَعْلَمُ حَالَكُمْ فِي تَخَلُّفِكُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا.

وَمُحَصَّلُ الْقِصَّةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ صَارُوا يُرَاعُونَ قَوْمَهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْلَافِ لَهُمْ حَتَّى كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ. وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْكُفَّارِ بِمُجَرَّدِهِ يُوجِبُ رِقَّ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَتِ الْمَرْأَةُ فِي الرِّقِّ بِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَيْهَا فَكَيْفَ وَقَعَ إِطْلَاقُهَا وَتَزْوِيدُهَا كَمَا تَقَدَّمَ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: أُطْلِقَتْ لِمَصْلَحَةِ الِاسْتِئْلَافِ الَّذِي جَرَّ دُخُولَ قَوْمِهَا أَجْمَعِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَ لَهَا أَمَانٌ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ لَهُمْ عَهْدٌ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِثَمَنٍ إِنْ كَانَ لَهُ ثَمَنٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَرْأَةِ وَأَنَّهَا كَانَتْ مَعْصُومَةَ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَيَحْتَاجُ

ص: 453

إِلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قَدَّمْنَاهُ احْتِمَالًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ بِثَمَنٍ فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ إِعْطَائِهَا مَا ذَكَرَ، وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ ; لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ مُتَقَوَّمَةٌ، وَالْمَاءَ مِثْلِيٌّ، وَضَمَانُ الْمِثْلِيِّ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ. وَيَنْعَكِسُ مَا قَالَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ فَضْلِ الْمَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا يَجِبُ الْعِوَضُ عَنْهُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ جَوَازُ طَعَامِ الْمُخَارَجَةِ ; لِأَنَّهُمْ تَخَارَجُوا فِي عِوَضِ الْمَاءِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَفِيهِ أَنَّ الْخَوَارِقَ لَا تُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: صَبَأَ. . . إِلَخْ) هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: صَبَأَ فُلَانٌ: انْخَلَعَ. وَأَصْبَأَ، أَيْ كَذَلِكَ. وَكَذَا قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ. . . إِلَخْ وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُمْ مَنْسُوبُونَ إِلَى صَابِئِ بْنِ مُتَوَشْلِخَ عَمِّ نُوحٍ عليه السلام. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الصَّابِئُونَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ. انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ أُصِبْ أَمَلْ وَهَذَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذَا هُنَا لِيُبَيِّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّابِئِ الْمُرَادِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالصَّابِئِ الْمَنْسُوبِ لِلطَّائِفَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌7 - بَاب إِذَا خَافَ الْجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ الْمَرَضَ أَوْ الْمَوْتَ أَوْ خَافَ الْعَطَشَ تَيَمَّمَ

وَيُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَجْنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، فَتَيَمَّمَ وَتَلَا:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُعَنِّفْ

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا خَافَ الْجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ الْمَرَضَ. . . إِلَخْ) مُرَادُهُ إِلْحَاقُ خَوْفِ الْمَرَضِ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِخَوْفِ الْعَطَشِ وَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فَأَشْفَقْتُ أَنْ أَغْتَسِلَ فَأَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ. فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.

وَرَوَيَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، لَكِنْ زَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَجُلًا وَهُوَ أَبُو قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَالَ فِي الْقِصَّةِ فَغَسَلَ مَغَابِنَهُ وَتَوَضَّأَ وَلَمْ يَقُلْ تَيَمَّمَ، وَقَالَ فِيهِ لَوِ اغْتَسَلْتُ مِتُّ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ رَوَى عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةِ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ فِيهَا فَتَيَمَّمَ. انْتَهَى. وَرَوَاهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّيَمُّمَ، وَالسِّيَاقُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِمُرَادِ الْمُصَنِّفِ وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، لَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ لِكَوْنِهِ اخْتَصَرَهُ، وَقَدْ أَوْهَمَ ظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ تَلَا الْآيَةَ لِأَصْحَابِهِ وَهُوَ جُنُبٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَلَاهَا بَعْدَ أَنْ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَّرَهُ عَلَى غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي.

وَوَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِالْآيَةِ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ تَيَمَّمَ عَنِ الْبَاقِي، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يُعَنِّفْ) حَذَفَ الْمَفْعُولَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ لَمْ يَلُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْرًا، فَكَانَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا دَالًّا عَلَى الْجَوَازِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَلَمْ يُعَنِّفْهُ بِزِيَادَةِ هَاءِ الضَّمِيرِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّيَمُّمِ لِمَنْ يَتَوَقَّعُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْهَلَاكَ، سَوَاءٌ كَانَ لِأَجْلِ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَجَوَازُ صَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ بِالْمُتَوَضِّئِينَ، وَجَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 454

345 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ غُنْدَرٌ، عن شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ لَا يُصَلِّي، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ رَخَّصْتُ لَهُمْ فِي هَذَا كَانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمْ الْبَرْدَ قَالَ هَكَذَا، يَعْنِي تَيَمَّمَ وَصَلَّى، قَالَ: قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُ عَمَّارٍ، لِعُمَرَ؟ قَالَ: إِنِّي لَمْ أَرَ عُمَرَ قَنِعَ بِقَوْلِ عَمَّارٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ غُنْدَرٌ) لَمْ يَقُلِ الْأَصِيلِيُّ هُوَ غُنْدَرٌ فَكَأَنَّهَا مَقُولٌ مَنْ دُونِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ شُعْبَةَ) لِلْأَصِيلِيِّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ الْأَعْمَشُ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ لَا تُصَلِّي) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَفْظُهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ نَعَمْ إِنْ لَمْ أَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا لَا أُصَلِّي وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْجُنُبُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) زَادَ ابْنُ عَسَاكِرَ نَعَمْ.

قَوْلُهُ: (أَحَدُهُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْحَمَوِيِّ أَحَدُكُمْ.

قَوْلُهُ: (قَالَ هَكَذَا) فِيهِ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَى الْعَمَلِ، وَقَوْلُهُ يَعْنِي تَيَمَّمَ وَصَلَّى شَرْحٌ لِقَوْلِهِ هَكَذَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَقُولُ أَبِي مُوسَى.

قَوْلُهُ: (فَأَيْنَ قَوْلُ عَمَّارٍ، لِعُمَرَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ مُخْتَصَرًا، وَبَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ الْآتِيَةِ ثُمَّ رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَهِيَ أَتَمُّ.

346 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: أَرَأَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِذَا أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا يُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِ عَمَّارٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْفِيكَ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَدَعْنَا مِنْ قَوْلِ عَمَّارٍ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ فَمَا دَرَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ: إِنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي هَذَا لَأَوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَى أَحَدِهِمْ الْمَاءُ أَنْ يَدَعَهُ وَيَتَيَمَّمَ، فَقُلْتُ لِشَقِيقٍ: فَإِنَّمَا كَرِهَ عَبْدُ اللَّهِ لِهَذَا؛ قَالَ: نَعَمْ.

قُوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ) أَيِ ابْنُ غَيَّاثٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ ((عَنِ الْأَعْمَشِ)) وَأَفَادَتْ رُوَايَةُ حَفْصٍ التَّصْرِيحَ بِسَمَاعِ الْأَعْمَشِ مِنْ شَقِيقٍ.

قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) وَهِيَ كُنْيَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَجْنَبَ) أَيِ الرَّجُلُ.

قَوْلُهُ: (حِيْنَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْفِيكَ) كَذَا اخْتَصَرَ الْمَتْنَ وَأَبْهَمَ الْآيَةَ، وَسَيَأْتِي الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (فَدَعْنَا مِنْ قَوْلِ عَمَّارٍ) فِيهِ جَوَازُ الِانْتِقَالِ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ أَوْضَحَ مِنْهُ، وَمِمَّا فِيهِ الِاخْتِلَافُ إِلَى مَا فِيهِ الِاتِّفَاقُ. وَفِيهِ جَوَازُ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ بِخِلَافِ مَا نُقِلَ عَنْ عَمْرٍو، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى ثُبُوتِ حُجَّةِ أَبِي مُوسَى لِقَوْلِهِ:(فَمَا دَرَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ) وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى السَّبَبِ فِي كَوْنِ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ.

‌8 - بَاب التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ

347 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ

ص: 455

عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ شَهْرًا أَمَا كَانَ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي، فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ رُخِّصَ لَهُمْ فِي هَذَا لَأَوْشَكُوا إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمْ الْمَاءُ أَنْ يَتَيَمَّمُوا الصَّعِيدَ، قُلْتُ: وَإِنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ، لِعُمَرَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِد الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا، فَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ؟ وَزَادَ يَعْلَى عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي مُوسَى فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ، لِعُمَرَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي أَنَا وَأَنْتَ، فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ بِالصَّعِيدِ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا: وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ وَاحِدَةً.

قَوْلُهُ: (بَابٌ التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ) رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ بِتَنْوِينِ بَابٍ، وَقَوْلُهُ التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ بِالرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَضَرْبَةٌ بِالنَّصْبِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ) وَلِلْأَصِيلِيِّ مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ.

قَوْلُهُ: (مَا كَانَ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي) وَلِكَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ أَمَا كَانَ بِزِيَادَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلِمُسْلِمٍ كَيْفَ يَصْنَعُ بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَتَيَمَّمُ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا وَنَحْوُهُ لِأَبِي دَاوُدَ قَالَ فَقَالَ أَبُو مُوسَى فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: (فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ) ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَسَقَطَ لَفْظُ الْآيَةِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ.

قَوْلُهُ: {فَلَمْ تَجِدُوا} هُوَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا وَهُوَ مُغَايِرٌ لِلتِّلَاوَةِ وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ ثُمَّ أَصْلَحَهَا عَلَى وَفْقِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا عَيَّنَ سُورَةَ الْمَائِدَةِ لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ مِنْ آيَةِ النِّسَاءِ لِتَقَدُّمِ حُكْمِ الْوُضُوءِ فِي الْمَائِدَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يَرَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلَامَسَةِ الْجِمَاعُ فَلِهَذَا لَمْ يَدْفَعْ دَلِيلَ أَبِي مُوسَى وَإِلَّا لَكَانَ يَقُولُ لَهُ الْمُرَادُ مِنَ الْمُلَامَسَةِ الْتِقَاءُ الْبَشَرَتَيْنِ فِيمَا دُونَ الْجِمَاعِ، وَجَعْلُ التَّيَمُّمِ بَدَلًا مِنَ الْوُضُوءِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَعْلَهُ بَدَلًا مِنَ الْغُسْلِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا بَرَدَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ ضَمَّهَا.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ وَإِنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ شَقِيقٌ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُوَ الْأَعْمَشُ وَالْمَقُولُ لَهُ شَقِيقٌ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو مُوسَى أَلَمْ تَسْمَعْ) ظَاهِرُهُ أَنَّ ذِكْرَ أَبِي مُوسَى لِقِصَّةِ عَمَّارٍ مُتَأَخِّرٌ عَنِ احْتِجَاجِهِ بِالْآيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ حَفْصٍ الْمَاضِيَةِ احْتِجَاجُهُ بِالْآيَةِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ احْتِجَاجِهِ بِحَدِيثِ عَمَّارٍ، وَرِوَايَةُ حَفْصٍ أَرْجَحُ ; لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةً تَدُلُّ عَلَى ضَبْطِ ذَلِكَ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَدَعْنَا مِنْ قَوْلِ عَمَّارٍ كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: (كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَأَصْلُهُ تَتَمَرَّغُ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ) فِيهِ أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ مُجْزِئَةٌ فَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ زَائِدًا عَلَيْهَا عَلَى الْأَكْمَلِ.

قَوْلُهُ: (ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ تَحْرِيرُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ أَيْضًا وَلَفْظُهُ ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ وَبِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ عَلَى الْكَفَّيْنِ ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ.

وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي التَّيَمُّمِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ

ص: 456

جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ. وَفِيهِ أَنَّ التَّرْتِيبَ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ فِي التَّيَمُّمِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اخْتُلِفَ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ فَوَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ ثُمَّ وَفِي سِيَاقِهِ اخْتِصَارٌ وَلِمُسْلِمٍ بِالْوَاوِ وَلَفْظُهُ ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرِ كَفَّيْهِ وَوَجْهِهِ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مَا هُوَ أَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَلَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ الْحَمَّالِ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَنْفُضَهُمَا ثُمَّ تَمْسَحَ بِيَمِينِكَ عَلَى شِمَالِكَ وَشِمَالِكَ عَلَى يَمِينِكَ ثُمَّ تَمْسَحَ عَلَى وَجْهِكَ.

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِشْكَالٌ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا الضَّرْبَةُ الْوَاحِدَةُ، وَفِي الطُّرُقِ الْأُخْرَى

(1)

ضَرْبَتَانِ، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ ضَرْبَتَانِ. قُلْتُ: مُرَادُ النَّوَوِيِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِنَقْلِ الْمَذْهَبِ.

قَوْلُهُ: (أَلَمْ تَرَ عُمَرَ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَكَرِيمَةَ أَفَلَمْ بِزِيَادَةِ فَاءٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْنَعْ عُمَرُ بِقَوْلِ عَمَّارٍ لِكَوْنِهِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَحَضَرَ مَعَهُ تِلْكَ الْقِصَّةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ ذَلِكَ عُمَرُ أَصْلًا، وَلِهَذَا قَالَ لِعَمَّارٍ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى: اتَّقِ اللَّهَ يَا عَمَّارُ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ فَقَالَ عُمَرُ: نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ اتَّقِ اللَّهَ يَا عَمَّارُ أَيْ فِيمَا تَرْوِيهِ وَتَثَبَّتْ فِيهِ، فَلَعَلَّكَ نَسِيتَ أَوِ اشْتَبَهَ عَلَيْكَ، فَإِنِّي كُنْتُ مَعَكَ وَلَا أَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَمَعْنَى قَوْلِ عَمَّارٍ: إِنْ رَأَيْتُ الْمَصْلَحَةَ فِي الْإِمْسَاكِ عَنِ التَّحْدِيثِ بِهِ رَاجِحَةً عَلَى التَّحْدِيثِ بِهِ وَافَقْتُكَ وَأَمْسَكْتُ فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُهُ فَلَمْ يَبْقَ عَلَيَّ فِيهِ حَرَجٌ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ، أَيْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِي لَا أَتَذَكَّرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَيْسَ لِي مَنْعُكَ مِنَ التَّحْدِيثِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (زَادَ يَعْلَى) هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، وَالَّذِي زَادَهُ يَعْلَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَوْلُ عَمَّارٍ، لِعُمَرَ بَعَثَنِي أَنَا وَأَنْتَ وَبِهِ يَتَّضِحُ عُذْرُ عُمَرَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّوَقُّفِ عَنْ قَبُولِ حَدِيثِ عَمَّارٍ، فَلِهَذَا جَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْفُتْيَا بِذَلِكَ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ انْقِطَاعٌ عَنْهُ، وَرِوَايَةُ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَصَلَهَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا) لِلْكُشْمِيهَنِيِّ هَذَا.

قَوْلُهُ: (وَاحِدَةٌ) أَيْ مَسْحَةٌ وَاحِدَةٌ.

‌9 - باب

348 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ الْخُزَاعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ). كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَا تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ أَصْلًا، فَعَلَى رِوَايَتِهِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ التَّرْجَمَةِ الْمَاضِيَةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ كَنَظَائِرِهِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَحَدِيثُهُ هَذَا مُخْتَصَرٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمَاضِي فِي بَابِ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ وَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِكَوْنِ الضَّرْبَةِ فِي التَّيَمُّمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ أَخَذَهُ مِنْ عَدَمِ التَّقْيِيدِ ; لِأَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ أَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِامْتِثَالُ، وَوُجُوبُهَا مُتَيَقَّنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ التَّيَمُّمِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا عَشَرَةٌ، مِنْهَا اثْنَانِ مُعَلَّقَانِ وَالْخَالِصُ سَبْعَةٌ مِنْهَا وَاحِدٌ مُعَلَّقٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمُعَلَّقِ، وَفِيهِ مِنَ الْمَوْقُوفَاتِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَشَرَةُ آثَارٍ، مِنْهَا ثَلَاثَةٌ مَوْصُولَةٌ وَهِيَ فَتْوَى عُمَرَ، وَأَبِي مُوسَى،

(1)

في مخطوطة الرياض "الطريق الأخرى".

ص: 457

وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ بَرَاعَةِ الْخِتَامِ الْوَاقِعَةِ لِلْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْكِتَابِ خَتْمُهُ كِتَابَ التَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكِفَايَةِ بِمَا أَوْرَدَهُ تَحْصُلُ لِمَنْ تَدَبَّرَ وَتَفَهَّمَ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌8 - كِتَاب الصَّلَاةِ

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كِتَابُ الصَّلَاةِ)

تَقَدَّمَ فِي مُقَدَّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ ذِكْرُ مُنَاسَبَةِ كَتْبِ هَذَا الصَّحِيحِ فِي التَّرْتِيبِ مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ شَيْخِنَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَفِي أَوَائِلهَا مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ الطَّهَارَةِ بِالصَّلَاةِ لِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَالْوَسِيلَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَقَدْ تَأَمَّلْت. كِتَابَ الصَّلَاةِ مِنْهُ فَوَجَدْتُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَنْوَاعٍ تَزِيدُ عَلَى الْعِشْرِينَ، فَرَأَيْتُ أَنْ أَذْكُرَ مُنَاسَبَتَهَا فِي تَرْتِيبِهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي شَرْحِهَا، فَأَقُولُ: بَدَأَ أَوَّلًا بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ الطَّهَارَةُ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَدُخُولُ الْوَقْتِ، وَلَمَّا كَانَتِ الطَّهَارَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ أَفْرَدَهَا بِكِتَابٍ، وَاسْتَفْتَحَ كِتَابَ الصَّلَاةِ بِذِكْرِ فَرْضِيَّتِهَا لِتَعَيُّنِ وَقْتِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ فَبَدَأَ بِهِ لِعُمُومِهِ ثُمَّ ثَنَّى بِالِاسْتِقْبَالِ لِلُزُومِهِ فِي الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى كَشِدَّةِ الْخَوْفِ وَنَافِلَةِ السَّفَرِ، وَكَانَ الِاسْتِقْبَالُ يَسْتَدْعِي مَكَانًا فَذَكَرَ الْمَسَاجِدَ، وَمِنْ تَوَابِعِ الِاسْتِقْبَالِ سُتْرَةُ الْمُصَلِّي فَذَكَرَهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّرْطَ الْبَاقِيَ وَهُوَ دُخُولُ الْوَقْتِ وَهُوَ خَاصٌّ بِالْفَرِيضَةِ، وَكَانَ الْوَقْتُ يُشْرَعُ الْإِعْلَامُ بِهِ فَذَكَرَ الْأَذَانَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ حَقُّ الْوَقْتِ، وَكَانَ الْأَذَانُ إِعْلَامًا بِالِاجْتِمَاعِ إِلَى الصَّلَاةِ فَذَكَرَ الْجَمَاعَةَ، وَكَانَ أَقَلُّهَا إِمَامًا وَمَأْمُومًا فَذَكَرَ الْإِمَامَةَ.

وَلَمَّا انْقَضَتِ الشُّرُوطُ وَتَوَابِعُهَا ذَكَرَ صِفَةَ الصَّلَاةِ وَلَمَّا كَانَتِ الْفَرَائِضُ فِي الْجَمَاعَةِ قَدْ تَخْتَصُّ بِهَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ ذَكَرَ الْجُمُعَةَ وَالْخَوْفَ، وَقَدَّمَ الْجُمُعَةَ لِأَكْثَرِيَّتِهَا. ثُمَّ تَلَا ذَلِكَ بِمَا يُشْرَعُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّوَافِلِ فَذَكَرَ الْعِيدَيْنِ وَالْوِتْرَ وَالِاسْتِسْقَاءَ وَالْكُسُوفَ وَأَخَّرَهُ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ زِيَادَةُ الرُّكُوعِ، ثُمَّ تَلَاهُ بِمَا فِيهِ زِيَادَةُ سُجُودٍ فَذَكَرَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَ إِذَا وَقَعَ اشْتَمَلَتِ الصَّلَاةُ عَلَى زِيَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَتَلَاهُ بِمَا يَقَعُ فِيهِ نَقْصٌ مِنْ عَدَدِهَا وَهُوَ قَصْرُ الصَّلَاةِ، وَلَمَّا انْقَضَى مَا يُشْرَعُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ ذَكَرَ مَا لَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ وَهُوَ سَائِرُ التَّطَوُّعَاتِ.

ثُمَّ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ تَرْكُ الْكَلَامِ وَتَرْكُ الْأَفْعَالِ الزَّائِدَةِ وَتَرْكُ الْمُفْطِرِ فَتَرْجَمَ لِذَلِكَ، ثُمَّ بُطْلَانُهَا يَخْتَصُّ بِمَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ ذِكْرَ أَحْكَامِ السَّهْوِ، ثُمَّ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِصَلَاةٍ لَا رُكُوعَ فِيهَا وَلَا سُجُودَ وَهِيَ الْجِنَازَةُ.

هَذَا آخِرُ مَا ظَهَرَ مِنْ مُنَاسَبَةِ تَرْتِيبِ كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْجَامِعِ الصَّحِيحِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنَ الشُّرَّاحِ لِذَلِكَ. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَلْهَمَ وَعَلَّمَ.

‌1 - بَاب كَيْفَ فُرِضَتْ الصَّلَوات فِي الْإِسْرَاءِ؟

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:، حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ فَقَالَ: يَأْمُرُنَا يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ

349 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي،

ص: 458

ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ.

وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَال: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، حَتَّى عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنِهَا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُ، فَفَتَحَ، قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ.

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعني فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ.

[الحديث 349 - طرفاه في 3342، 1636]

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ فُرِضَتْ الصَّلَاةُ)، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِيِّ الصَّلَوَاتُ. (فِي الْإِسْرَاءِ) أَيْ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَهَذَا مَصِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ إِلَى أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ فَقِيلَ: كَانَا فِي لَيْلَةٍ

ص: 459

وَاحِدَةٍ فِي يَقَظَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: كَانَا جَمِيعًا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَنَامِهِ، وَقِيلَ: وَقَعَا جَمِيعًا مَرَّتَيْنِ فِي لَيْلَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا يَقَظَةً وَالْأُخْرَى مَنَامًا، وَقِيلَ كَانَ الْإِسْرَاءُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَاصَّةً فِي الْيَقَظَةِ وَكَانَ الْمِعْرَاجُ مَنَامًا إِمَّا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْرِيَ فِيهِ الْخِلَافُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلِكَوْنِ قُرَيْشٍ كَذَّبَتْهُ فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمْ تُكَذِّبْهُ فِيهِ وَلَا فِي أَبْعَدَ مِنْهُ.

وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لَكِنَّ طُرُقَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ تَدُورُ عَلَى أَنَسٍ مَعَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، فَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ كَمَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَرَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَرَوَاهُ شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَا وَاسِطَةٍ، وَفِي سِيَاقِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَنْهُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ.

وَالْغَرَضُ مِنْ إِيرَادِهِ هُنَا ذِكْرُ فَرْضِ الصَّلَاةِ فَلْيَقَعِ الِاقْتِصَارُ هُنَا عَلَى شَرْحِهِ، وَنَذْكُرُ الْكَلَامَ عَلَى اخْتِلَافِ طُرُقِهِ وَتَغَايُرِ أَلْفَاظِهَا وَكَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا فِي الْمَوْضِعِ اللَّائِقِ بِهِ وَهُوَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْحِكْمَةُ فِي وُقُوعِ فَرْضِ الصَّلَاةِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ لَمَّا قُدِّسَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حِينَ غُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ بِالْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ، وَمِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا الطَّهُورُ نَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلِيَظْهَرَ شَرَفُهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَيُصَلِّي بِمَنْ سَكَنَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَبِالْمَلَائِكَةِ، وَلِيُنَاجِيَ رَبَّهُ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ جَلَّ وَعَلَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ الْمُتَقَدِّمِ مَوْصُولًا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَالْقَائِلُ يَأْمُرنَا هُوَ أَبُو سُفْيَانَ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ ; لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ بِهِرَقْلَ لِقَاءً يَتَهَيَّأُ لَهُ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ آمِرًا لَهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَالْإِسْرَاءُ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَبَيَانُ الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مُقَدِّمَاتِهَا كَمَا وَقَعَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ وَسَاقَ فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَعَلِّقِ بِذَلِكَ فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ.

قَوْلُهُ: (فُرِجَ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَبِالْجِيمِ أَيْ فُتِحَ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْمَلَكَ انْصَبَّ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ انْصِبَابَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ مُبَالَغَةً فِي الْمُنَاجَاةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الطَّلَبَ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ التَّمْهِيدَ لِمَا وَقَعَ مِنْ شَقِّ صَدْرِهِ، فَكَأَنَّ الْمَلَكَ أَرَاهُ بِانْفِرَاجِ السَّقْفِ وَالْتِئَامِهِ فِي الْحَالِ كَيْفِيَّةَ مَا سَيَصْنَعُ بِهِ لُطْفًا بِهِ وَتَثْبِيتًا لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَفَرَجَ صَدْرِي) هُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَبِالْجِيمِ أَيْضًا أَيْ شَقَّهُ، وَرَجَّحَ عِيَاضٌ أَنَّ شَقَّ الصَّدْرِ كَانَ وَهُوَ صَغِيرٌ عِنْدَ مُرْضِعَتِهِ حَلِيمَةَ، وَتَعَقَّبَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ شَرِيكٍ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ الشَّقَّ الْأَوَّلَ كَانَ لِاسْتِعْدَادِهِ لِنَزْعِ الْعَلَقَةِ الَّتِي قِيلَ لَهُ عِنْدَهَا هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ. وَالشَّقُّ الثَّانِي كَانَ لِاسْتِعْدَادِهِ لِلتَّلَقِّي الْحَاصِلِ لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَقَدْ رَوَى الطَّيَالِسِيُّ، وَالْحَارِثُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ الشَّقَّ وَقَعَ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَ مَجِيءِ جِبْرِيلَ لَهُ بِالْوَحْيِ فِي غَارِ حِرَاءٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمُنَاسَبَتُهُ ظَاهِرَةٌ. وَرُوِيَ الشَّقُّ أَيْضًا وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ أَوْ نَحْوِهَا فِي قِصَّةٍ لَهُ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَخْرَجَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ. وَرُوِيَ مَرَّةً أُخْرَى خَامِسَةً وَلَا تَثْبُتُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَبِكَسْرِهَا إِنَاءٌ مَعْرُوفٌ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِي الْوُضُوءِ، وَخُصَّ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ آلَةُ الْغَسْلِ عُرْفًا وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ ; لِأَنَّهُ أَعْلَى أَوَانِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ أَبْعَدَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ بِالذَّهَبِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَعْمِلَ لَهُ الْمَلَكُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ كَوْنِهِمْ مُكَلَّفِينَ بِمَا كُلِّفْنَا بِهِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ كَانَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّ تَحْرِيمَ الذَّهْبِ إِنَّمَا وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا فِي اللِّبَاسِ.

قَوْلُهُ: (مُمْتَلِئٌ) كَذَا وَقَعَ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى مَعْنَى الْإِنَاءِ

ص: 460

لَا عَلَى لَفْظِ الطَّسْتِ ; لِأَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ، وَ (حِكْمَةً وَإِيمَانًا) بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الطَّسْتَ جُعِلَ فِيهَا شَيْءٌ يَحْصُلُ بِهِ كَمَالُ الْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ فَسُمِّيَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا مَجَازًا، أَوْ مَثَلًا لَهُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَمْثِيلِ الْمَعَانِي كَمَا يُمَثَّلُ الْمَوْتُ كَبْشًا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ مُضْطَرِبَةٌ صَفَا لَنَا مِنْهَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعِلْمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ مَعَ نَفَاذِ الْبَصِيرَةِ وَتَهْذِيبِ النَّفْسِ وَتَحْقِيقِ الْحَقِّ لِلْعَمَلِ بِهِ وَالْكَفِّ عَنْ ضِدِّهِ، وَالْحَكِيمُ مَنْ حَازَ ذَلِكَ. اهـ مُلَخَّصًا.

وَقَدْ تُطْلَقُ الْحِكْمَةُ عَلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَعَلَى النُّبُوَّةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْعِلْمِ فَقَطْ، وَعَلَى الْمَعْرِفَةِ فَقَطْ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي) اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمِعْرَاجَ وَقَعَ غَيْرَ مَرَّةٍ لِكَوْنِ الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يُذْكَرْ هُنَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مِنِ اخْتِصَارِ الرَّاوِي، وَالْإِتْيَانُ بِثُمَّ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرَاخِي لَا يُنَافِي وُقُوعَ أَمْرِ الْإِسْرَاءِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُمَا الْإطْبَاقُ وَالْعُرُوجُ بَلْ يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ تَرْجَمَةُ الْمُصَنِّفِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (فَعَرَجَ) بِالْفَتْحِ أَيِ الْمَلَكُ (بِي) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِهِ عَلَى الِالْتِفَاتِ أَوِ التَّجْرِيدِ.

قَوْلُهُ: (افْتَحْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَابَ كَانَ مُغْلَقًا. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ حِكْمَتُهُ التَّحَقُّقُ أَنَّ السَّمَاءَ لَمْ تُفْتَحْ إِلَّا مِنْ أَجْلِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَهُ مَفْتُوحًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ جِبْرِيلُ) فِيهِ مِنْ أَدَبِ الِاسْتِئْذَانِ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ يُسَمِّي نَفْسَهُ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (أَأُرْسِلَ إِلَيْهِ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَوَأُرْسِلَ إِلَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيَ عَلَيْهِ أَصْلُ إِرْسَالِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِعِبَادَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَفْهَمَ عَنِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِ لِلْعُرُوجِ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ إِلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ رَسُولَ الرَّجُلِ يَقُومُ مَقَامَ إِذْنِهِ ; لِأَنَّ الْخَازِنَ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَنِ الْفَتْحِ لَهُ عَلَى الْوَحْيِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، بَلْ عَمِلَ بِلَازِمِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ أَوَقَدْ بُعِثَ لَكِنَّهَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُعُقِّبَتْ كَمَا سَيَأْتِي تَحْرِيرُهَا فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَسْوِدَةٌ) وَزْنُ أَزْمِنَةٍ وَهِيَ الْأَشْخَاصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَذَا) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ آدَمُ مَرْحَبًا، وَرِوَايَةُ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ بِعَكْسِ ذَلِكَ وَهِيَ الْمُعْتَمَدَةُ فَتُحْمَلُ هَذِهِ عَلَيْهَا إِذْ لَيْسَ فِي هَذِهِ أَدَاةُ تَرْتِيبٍ.

قَوْلُهُ: (نَسَمُ بَنِيهِ) النَّسَمُ بِالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ جَمْعُ نَسَمَةٍ وَهِيَ الرُّوحُ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رَوَاهُ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْيَاءِ آخِرَ الْحُرُوفِ بَعْدَهَا مِيمٌ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ أَرْوَاحَ بَنِي آدَمَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَدْ جَاءَ أَنَّ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ فِي سِجِّينٍ وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ مُنَعَّمَةٌ فِي الْجَنَّةِ، يَعْنِي فَكَيْفَ تَكُونُ مُجْتَمِعَةً فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُعْرَضُ عَلَى آدَمَ أَوْقَاتًا فَصَادَفَ وَقْتَ عَرْضِهَا مُرُورُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَدُلُّ - عَلَى أَنَّ كَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إِنَّمَا هُوَ فِي أَوْقَاتٍ دُونَ أَوْقَاتٍ - قَوْلُهُ تَعَالَى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ لَا تُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ كَمَا هُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا أَبْدَاهُ هُوَ احْتِمَالًا أَنَّ الْجَنَّةَ كَانَتْ فِي جِهَةِ يَمِينِ آدَمَ وَالنَّارَ فِي جِهَةِ شِمَالِهِ، وَكَانَ يُكْشَفُ لَهُ عَنْهُمَا، اهـ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّسَمَ الْمَرْئِيَّةَ هِيَ الَّتِي لَمْ تَدْخُلِ الْأَجْسَادَ بَعْدُ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْأَجْسَادِ وَمُسْتَقَرُّهَا عَنْ يَمِينِ آدَمَ وَشِمَالِهِ. وَقَدْ أُعْلِمَ بِمَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَسْتَبْشِرُ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَحْزَنُ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ عَنْ يَسَارِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي فِي الْأَجْسَادِ فَلَيْسَتْ مُرَادَةً قَطْعًا، وَبِخِلَافِ الَّتِي انْتَقَلَتْ مِنَ الْأَجْسَادِ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ فَلَيْسَتْ مُرَادَةً أَيْضًا فِيمَا يَظْهَرُ. وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الْإِيرَادُ وَيُعْرَفُ أَنَّ قَوْلَهُ نَسَمُ بَنِيهِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ.

وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فَإِذَا بِآدَمَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ

ص: 461

ذُرِّيَّتِهُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ وَنَفْسٌ طَيِّبَةٌ اجْعَلُوهَا فِي عِلِّيِّينَ، ثُمَّ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرِّيَّتِهِ الْفُجَّارِ فَيَقُولُ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَنَفْسٌ خَبِيثَةٌ اجْعَلُوهَا فِي سِجِّينٍ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْبَزَّارِ فَإِذَا عَنْ يَمِينِهِ بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحٌ خَبِيثَةٌ، إِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ اسْتَبْشَرَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ حَزِنَ فَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَنَسٌ فَذَكَرَ) أَيْ أَبُو ذَرٍّ (أَنَّهُ وَجَدَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُثْبِتْ) أَيْ أَبُو ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (وَإِبْرَاهِيمُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ) هُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ شَرِيكٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَالثَّابِتُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ غَيْرِ هَاتَيْنِ أَنَّهُ فِي السَّابِعَةِ. فَإِنْ قُلْنَا بِتَعَدُّدِ الْمِعْرَاجِ فَلَا تَعَارُضَ، وَإِلَّا فَالْأَرْجَحُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ فِيهَا: إِنَّهُ رَآهُ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَهُوَ فِي السَّابِعَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ فِي السَّادِسَةِ عِنْدَ شَجَرَةِ طُوبَى فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ الْبَيْتُ الَّذِي فِي السَّادِسَةِ بِجَانِبِ شَجَرَةِ طُوبَى ; لِأَنَّهُ جَاءَ عَنْهُ أَنَّ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتًا يُحَاذِي الْكَعْبَةَ وَكُلٌّ مِنْهَا مَعْمُورٌ بِالْمَلَائِكَةِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا جَاءَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَوَّلِ بَيْتٍ يُحَاذِي الْكَعْبَةَ مِنْ بُيُوتِ السَّمَاوَاتِ وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الضُّرَاحُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، وَيُقَالُ: بَلْ هُوَ اسْمُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّهُ قَالَ هُنَا: إِنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ فَرِوَايَةُ مَنْ أَثْبَتَهَا أَرْجَحُ، وَسَأَذْكُرُ مَزِيدًا لِهَذَا فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا مَرَّ) ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْقِطْعَةَ لَمْ يَسْمَعْهَا أَنَسٌ مِنْ أَبِي ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِدْرِيسَ) الْبَاءُ الْأُولَى لِلْمُصَاحَبَةِ وَالثَّانِيَةُ لِلْإِلْصَاقِ أَوْ بِمَعْنَى عَلَى.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى) لَيْسَتْ ثُمَّ عَلَى بَابِهَا فِي التَّرْتِيبِ، إِلَّا إِنْ قِيلَ بِتَعَدُّدِ الْمِعْرَاجِ، إِذِ الرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرُورَ بِهِ كَانَ قَبْلَ الْمُرُورِ بِمُوسَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ) أَيْ أَبُو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ. وَأَمَّا أَبُوهُ مُحَمَّدٌ فَلَمْ يَسْمَعِ الزُّهْرِيُّ مِنْهُ لِتَقَدُّمِ مَوْتِهِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَبَّةَ مُنْقَطِعَةٌ ; لِأَنَّهُ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ قَبْلَ مَوْلِدِ أَبِي بَكْرٍ بِدَهْرٍ وَقَبْلَ مَوْلِدِ أَبِيهِ مُحَمَّدٍ أَيْضًا، وَأَبُو حَبَّةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَعِنْدَ الْقَابِسِيِّ بِمُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ بِالنُّونِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى ظَهَرْتُ) أَيِ ارْتَفَعْتُ، وَ (الْمُسْتَوَى) الْمِصْعَدُ وَ (صَرِيفُ الْأَقْلَامِ) بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ تَصْوِيتُهَا حَالَةَ الْكِتَابَةِ، وَالْمُرَادُ مَا تَكْتُبُهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَقْضِيَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ حَزْمٍ) أَيْ عَنْ شَيْخِهِ (وَأَنَسٌ) أَيْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ كَذَا جَزَمَ بِهِ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا مِنْ جِهَةِ ابْنِ حَزْمٍ وَمِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ بِلَا وَاسِطَةٍ.

قَوْلُهُ: (فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً) فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِي كُلٍّ مِنْ رِوَايَةِ الْبَابِ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى اخْتِصَارٌ، أَوْ يُقَالُ: ذِكْرُ الْفَرْضِ عَلَيْهِ يَسْتَلْزِمُ الْفَرْضَ عَلَى الْأُمَّةِ وَبِالْعَكْسِ إِلَّا مَا يُسْتَثْنَى مِنْ خَصَائِصِهِ.

قَوْلُهُ: (فَرَاجَعَنِي) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَرَاجَعْتُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.

قَوْلُهُ: (فَوَضَعَ شَطْرَهَا) فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا وَمِثْلُهُ لِشَرِيكٍ، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: ذِكْرُ الشَّطْرِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ وَقَعَ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ. قُلْتُ: وَكَذَا الْعَشْرُ فَكَأَنَّهُ وَضَعَ الْعَشْرَ فِي دُفْعَتَيْنِ وَالشَّطْرَ فِي خَمْسِ دُفُعَاتٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِالشَّطْرِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الْبَعْضُ وَقَدْ حَقَقْتُ رِوَايَةَ ثَابِتٍ أَنَّ التَّخْفِيفَ كَانَ خَمْسًا خَمْسًا وَهِيَ زِيَادَةٌ مُعْتَمَدَةٌ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ بَاقِي الرِّوَايَاتِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا قَوْلُ الْكِرْمَانِيِّ الشَّطْرُ هُوَ النِّصْفُ فَفِي الْمُرَاجَعَةِ الْأُولَى وَضَعَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَفِي الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَعْنِي نِصْفَ الْخَمْسَةِ وَالْعِشْرِينَ بِجَبْرِ الْكَسْرِ وَفِي الثَّالِثَةِ سَبْعًا، كَذَا قَالَ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فِي الْمُرَاجَعَةِ الثَّالِثَةِ ذِكْرُ وَضْعِ شَيْءٍ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ حُذِفَ ذَلِكَ اخْتِصَارًا فَيُتَّجَهُ، لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ

ص: 462

يَأْبَى هَذَا الْحَمْلَ، فَالْمُعْتَمَدُ مَا تَقَدَّمَ. وَأَبْدَى ابْنُ الْمُنِيرِ هُنَا نُكْتَةً لَطِيفَةً فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِمُوسَى عليه السلام لَمَّا أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ خَمْسًا فَقَالَ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَفَرَّسَ مِنْ كَوْنِ التَّخْفِيفِ وَقَعَ خَمْسًا خَمْسًا أَنَّهُ لَوْ سَأَلَ التَّخْفِيفَ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ خَمْسًا لَكَانَ سَائِلًا فِي رَفْعِهَا فَلِذَلِكَ اسْتَحْيَى اهـ.

وَدَلَّتْ مُرَاجَعَتُهُ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ فِي طَلَبِ التَّخْفِيفِ تِلْكَ الْمَرَّاتِ كُلَّهَا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ، بِخِلَافِ الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ فَفِيهَا مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ وقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الِاسْتِحْيَاءِ أَنَّ الْعَشَرَةَ آخِرُ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَأَوَّلَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، فَخَشِيَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِلْحَاحِ فِي السُّؤَالِ لَكِنَّ الْإِلْحَاحَ فِي الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ مَطْلُوبٌ، فَكَأَنَّهُ خَشِيَ مِنْ عَدَمِ الْقِيَامِ بِالشُّكْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ زِيَادَةٌ فِي هَذَا وَمُخَالَفَةٌ. وَأَبْدَى بَعْضُ الشُّيُوخِ حِكْمَةً لِاخْتِيَارِ مُوسَى تَكْرِيرَ تَرْدَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَمَّا كَانَ مُوسَى قَدْ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ فَمُنِعَ وَعَرَفَ أَنَّهَا حَصَلَتْ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَصَدَ بِتَكْرِيرِ رُجُوعِهِ تَكْرِيرَ رُؤْيَتِهِ لِيَرَى مَنْ رَأَى، كَمَا قِيلَ: لَعَلِّي أَرَاهُمْ أَوْ أَرَى مَنْ رَآهُمْ

(1)

. قُلْتُ: وَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ تَجَدُّدِ الرُّؤْيَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.

قَوْلُهُ: (هُنَّ خَمْسٌ وَهُنَّ خَمْسُونَ) وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ هِيَ بَدَلُ هُنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْمُرَادُ هُنَّ خَمْسٌ عَدَدًا بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ وَخَمْسُونَ اعْتِدَادًا بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّةِ مَا زَادَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَالْوِتْرِ، وَعَلَى دُخُولِ النَّسْخِ فِي الْإِنْشَاءَاتِ وَلَوْ كَانَتْ مُؤَكَّدَةً، خِلَافًا لِقَوْمٍ فِيمَا أُكِّدَ، وَعَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ عز وجل نَسَخَ الْخَمْسِينَ بِالْخَمْسِ قَبْلَ أَنْ تُصَلَّى، ثُمَّ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَكْمَلَ لَهُمُ الثَّوَابَ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرُ فَقَالَ: هَذَا ذَكَرَهُ طَوَائِفُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالشُّرَّاحِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ النَّسْخَ قَبْلَ الْفِعْلِ كَالْأَشَاعِرَةِ أَوْ مَنَعَهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ، لِكَوْنِهِمُ اتَّفَقُوا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْبَلَاغِ، وَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ وَقَعَ فِيهِ النَّسْخُ قَبْلَ الْبَلَاغِ، فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا. قَالَ: وَهَذِهِ نُكْتَةٌ مُبْتَكَرَةٌ. قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ قَبْلَ الْبَلَاغِ لِكُلِّ أَحَدٍ فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ أَرَادَ قَبْلَ الْبَلَاغِ إِلَى الْأُمَّةِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: لَيْسَ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ نَسْخًا، لَكِنْ هُوَ نَسْخٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّهُ كُلِّفَ بِذَلِكَ قَطْعًا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ أَنْ بُلِّغَهُ وَقَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ، فَالْمَسْأَلَةُ صَحِيحَةُ التَّصْوِيرِ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدٌ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ) كَذَا وَقَعَ لِجَمِيعِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ لَامٌ، وَذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ وَإِنَّمَا هُوَ جَنَابِذُ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ ذَالٌ مُعْجَمَةٌ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ عَنْ يُونُسَ، وَكَذَا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ.

وَوَجَدْتُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَنَابِذُ عَلَى الصَّوَابِ وَأَظُنُّهُ مِنْ إِصْلَاحِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي أَجْوِبَتِهِ عَلَى مَوَاضِعَ مِنَ الْبُخَارِيِّ: فَتَّشْتُ عَلَى هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ فَلَمْ أَجِدْهُمَا وَلَا وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَا وَقَفْتُ عَلَى مَعْنَاهُمَا. انْتَهَى. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الْجَنَابِذَ شَبَهُ الْقِبَابِ وَاحِدُهَا جُنْبُذَةٌ بِالضَّمِّ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْبِنَاءِ، فَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَأَصْلُهُ بِلِسَانِهِمْ كُنْبُذَةٌ بِوَزْنِهِ لَكِنَّ الْمُوَحَّدَةَ مَفْتُوحَةٌ وَالْكَافُ لَيْسَتْ خَالِصَةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ

(1)

هذه الحكمة التي أبداها بعض الشيوخ ليست بشيء، والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذلما سأله عن ذلك"رأيت نورا" وفي رواية" نور أنى أراه" والظاهر من السياق ان الذى حمل موسى عليه السلام على ماذكر من طلب تكرار المراجعة هو رحمة أمة محمد والشفقة عليهم، فجزاه الله خيرا. والله أعلم

ص: 463

وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ فِي الْحَبَائِلِ قِيلَ: هِيَ الْقَلَائِدُ وَالْعُقُودُ، أَوْ هِيَ مِنْ حِبَالِ الرَّمْلِ أَيْ فِيهَا لُؤْلُؤٌ مِثْلُ حِبَالِ الرَّمْلِ جَمْعُ حَبْلٍ وَهُوَ مَا اسْتَطَالَ مِنَ الرَّمْلِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَبَائِلَ لَا تَكُونُ إِلَّا جَمْعَ حِبَالَةٍ أَوْ حَبِيلَةٍ بِوَزْنِ عَظِيمَةٍ، وَقَالَ بَعْضُ مَنِ اعْتَنَى بِالْبُخَارِيِّ: الْحَبَائِلُ جَمْعُ حِبَالَةٍ وَحِبَالَةٌ جَمْعُ حَبْلٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ فِيهَا عُقُودًا وَقَلَائِدَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ.

350 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ.

[الحديث 350 - طرفاه في: 3935، 1090]

قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) كَرَّرَتْ لَفْظَ رَكْعَتَيْنِ لِتُفِيدَ عُمُومَ التَّثْنِيَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَلَاثًا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْهِجْرَةِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا فَعَيَّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي قَوْلِهِ هُنَا وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَقَعَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ الْحَنَفِيَّةُ وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ، وَاحْتَجَّ مُخَالِفُوهُمْ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} لِأَنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَزِيمَةِ، وَالْقَصْرُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ شَيْءٍ أَطْوَلَ مِنْهُ.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ أَيْضًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ غَيْرُ مَرْفُوعٍ، وَبِأَنَّهَا لَمْ تَشْهَدْ زَمَانَ فَرْضِ الصَّلَاةِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَهُوَ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّهَا لَمْ تُدْرِكِ الْقِصَّةَ يَكُونُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ وَهُوَ حُجَّةٌ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَخَذَتْهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ أَدْرَكَ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَنُقِلَ مُتَوَاتِرًا فَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ ; لِأَنَّ التَّوَاتُرَ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ، وَقَالُوا أَيْضًا: يُعَارِضُ حَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا سَيَأْتِي فَلَا تَعَارُضَ، وَأَلْزَمُوا الْحَنَفِيَّةَ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِيمَا إِذَا عَارَضَ رَأْيُ الصَّحَابِيِّ رِوَايَتَهُ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْعِبْرَةُ بِمَا رَأَى لَا بِمَا رَوَى، وَخَالَفُوا ذَلِكَ هُنَا، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهَا غَيْرُ ثَابِتٍ، وَالْجَوَابُ عَنْهُمْ أَنَّ عُرْوَةَ الرَّاوِيَ عَنْهَا قَدْ قَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ إِتْمَامِهَا فِي السَّفَرِ: إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَ رِوَايَتِهَا وَبَيْنَ رَأْيِهَا، فَرِوَايَتُهَا صَحِيحَةٌ وَرَأْيُهَا مَبْنِيُّ عَلَى مَا تَأَوَّلَتْ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي - وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَدِلَّةُ السَّابِقَةُ - أَنَّ الصَّلَوَاتَ فُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ، ثُمَّ زِيدَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَقِبَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الصُّبْحَ، كَمَا رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ فُرِضَتْ صَلَاةُ الْحَضَرَ وَالسَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَاطْمَأَنَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ، وَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ ; لِأَنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ اهـ. ثُمَّ بَعْدَ أَنْ اسْتَقَرَّ فَرْضُ الرُّبَاعِيَّةِ خُفِّفَ مِنْهَا فِي السَّفَرِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ

ص: 464

تَعَالَى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ كَانَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِمَّا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ أَنَّ نُزُولَ آيَةِ الْخَوْفِ كَانَ فِيهَا، وَقِيلَ كَانَ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. ذَكَرَهُ الدُّولَابِيُّ وَأَوْرَدَهُ السُّهَيْلِيُّ بِلَفْظِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِعَامٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَقِيلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِ عَائِشَةَ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ أَيْ بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنَ التَّخْفِيفِ، لَا أَنَّهَا اسْتَمَرَّتْ مُنْذُ فُرِضَتْ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْخَوْفُ رَكْعَةٌ فَالْبَحْثُ فِيهِ يَجِيءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ.

(فَائِدَةٌ): ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ إِلَّا مَا كَانَ وَقَعَ الْأَمْرُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَذَهَبَ الْحَرْبِيُّ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ مَفْرُوضَةً رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعَشِيِّ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ مَفْرُوضَةً ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فَصَارَ الْفَرْضُ قِيَامَ بَعْضِ اللَّيْلِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَاسْتَنْكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ ذَلِكَ وَقَالَ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} إِنَّمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَالْقِتَالُ إِنَّمَا وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ لَا بِمَكَّةَ، وَالْإِسْرَاءُ كَانَ بِمَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ، اهـ.

وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ غَيْرُ وَاضِحٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَكَأَنَّهُ سبحانه وتعالى امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِتَعْجِيلِ التَّخْفِيفِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي عَلِمَ أَنَّهَا سَتَقَعُ لَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌2 - بَاب وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَمَنْ صَلَّى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ

وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ. فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ.

وَمَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَا لَمْ يَرَ أَذًى وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ

قَوْلُهُ: (بَابُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَةً الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَنَزَلَتْ {خُذُوا زِينَتَكُمْ} وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ طَاوُسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ} قَالَ: الثِّيَابُ، وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَنَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ صَلَّى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) هَكَذَا ثَبَتَ لِلْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ هُنَا، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ هُنَا فَلَهُ تَعَلُّقٌ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ الْمُعَلَّقِ بَعْدَهُ كَمَا سَيَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِهِ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَةَ) قَدْ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي تَرْكِ جَزْمِهِ بِهِ بِقَوْلِهِ: (وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ). وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَارِيخِهِ وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ أَتَصَيَّدُ، أَفَأُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، زُرَّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَلَمَةَ، زَادَ فِي الْإِسْنَادِ رَجُلًا، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ. فَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ بَيْنَ مُوسَى، وَسَلَمَةَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ أَبِي أُوَيْسٍ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، أَوْ

ص: 465

يَكُونَ التَّصْرِيحُ فِي رِوَايَةِ عَطَّافٍ وَهْمًا. فَهَذَا وَجْهُ النَّظَرِ فِي إِسْنَادِهِ.

وَأَمَّا مَنْ صَحَّحَهُ فَاعْتَمَدَ رِوَايَةَ الدَّرَاوَرْدِيِّ وَجَعَلَ رِوَايَةَ عَطَّافٍ شَاهِدَةً لِاتِّصَالِهَا، وَطَرِيقُ عَطَّافٍ أَخْرَجَهَا أَيْضًا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْقَطَّانِ: إِنَّ مُوسَى هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ الْمُضَعَّفُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ وَأَنَّهُ نُسِبَ هُنَا إِلَى جَدِّهِ فَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ ; لِأَنَّهُ نُسِبَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مَخْزُومِيًّا وَهُوَ غَيْرُ التَّيْمِيِّ بِلَا تَرَدُّدٍ. نَعَمْ وَقَعَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا رَوَيَا الْحَدِيثَ وَحَمَلَهُ عَنْهُمَا الدَّرَاوَرْدِيُّ وَإِلَّا فَذِكْرُ مُحَمَّدٍ فِيهِ شَاذٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (يَزُرُّهُ) بِضَمِّ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيْ يَشُدُّ إِزَارَهُ وَيَجْمَعُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ لِئَلَّا تَبْدُوَ عَوْرَتُهُ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ يَغْرِزَ فِي طَرَفَيْهِ شَوْكَةً يَسْتَمْسِكُ بِهَا. وَذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ حَدِيثَ سَلَمَةَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَخْذِ الزِّينَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لُبْسُ الثِّيَابِ لَا تَحْسِينُهَا.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ سَأَلَ أُخْتَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ؟ قَالَتْ نَعَمْ، إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِ أَذًى. وَهَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا تَرَاجِمُ هَذَا الْكِتَابِ بِغَيْرِ صِيغَةِ رِوَايَةٍ حَتَّى وَلَا التَّعْلِيقِ.

قَوْلُهُ: (مَا لَمْ يَرَ فِيهِ أَذًى) سَقَطَ لَفْظُ فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي بَعْثِ عَلِيٍّ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، وَقَدْ وَصَلَهُ بَعْدَ قَلِيلٍ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْأَمْرِ، وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَفْسَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ الْحَدِيثَ.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِلْبَابِ أَنَّ الطَّوَافَ إِذَا مُنِعَ فِيهِ التَّعَرِّي فَالصَّلَاةُ أَوْلَى، إِذْ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الطَّوَافِ وَزِيَادَةٌ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الذَّاكِرِ وَالنَّاسِي، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ كَوْنَهُ سُنَّةً لَا يُبْطِلُ تَرْكُهَا الصَّلَاةَ. وَاحْتُجَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ لَاخْتَصَّ بِهَا وَلَافْتَقَرَ إِلَى النِّيَّةِ، وَلَكَانَ الْعَاجِزُ الْعُرْيَانُ يَنْتَقِلُ إِلَى بَدَلٍ كَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْقُعُودِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ النَّقْضُ بِالْإِيمَانِ فَهُوَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا، وَعَنِ الثَّانِي بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ لِلنِّيَّةِ، وَعَنِ الثَّالِثِ عَلَى مَا فِيهِ بِالْعَاجِزِ عَنِ الْقِرَاءَةِ ثُمَّ عَنِ التَّسْبِيحِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي سَاكِتًا.

351 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ عَنْ مُصَلَّاهُنَّ، قَالَتْ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ، قَالَ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، حَدَّثَتْنَا أُمُّ عَطِيَّةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ التُّسْتَرِيُّ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَكَذَا الْمُعَلَّقُ بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (أُمِرْنَا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الطَّهَارَةِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي بَابِ شُهُودِ الْحَائِضِ الْعِيدَيْنِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ثَمَّ.

قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْعِيدَيْنِ) وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ يَوْمَ الْعِيدِ بِالْإِفْرَادِ.

قَوْلُهُ: (وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ عَنْ مُصَلَّاهُنَّ) أَيِ النِّسَاءُ اللَّاتِي لَسْنَ بِحُيَّضٍ، وَلِلْمُسْتَمْلِي عَنْ مُصَلَّاهُمْ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ عَنِ الْمُصَلَّى وَالْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعُ

ص: 466

الصَّلَاةِ. وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِاللُّبْسِ حَتَّى بِالْعَارِيَةِ لِلْخُرُوجِ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لِلْفَرِيضَةِ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ) هُوَ الْغُدَانِيُّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ نُونٌ، هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ فِي عَرْضِهِ عَلَى أَبِي زَيْدٍ بِمَكَّةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ قَالَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ كَمَا قَالَ الْبَاقُونَ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ وَالْكَلَامِ عَلَى رِجَالِ هَذَا الْكِتَابِ، وَعِمْرَانُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْقَطَّانُ، وَفَائِدَةُ التَّعْلِيقِ عَنْهُ تَصْرِيحُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِتَحْدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ لَهُ، فَبَطَلَ مَا تَخَيَّلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ. وَقَدْ رَوَيْنَاهُ مَوْصُولًا فِي الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌3 - بَاب عَقْدِ الْإِزَارِ عَلَى الْقَفَا فِي الصَّلَاةِ

وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ: صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ

352 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: صَلَّى جَابِرٌ فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ. قَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ. وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟.

[الحديث 352 - أطرافه في: 370، 361، 353]

قَوْلُهُ: (بَابُ عَقْدِ الْإِزَارِ عَلَى الْقَفَا) هُوَ بِالْقَصْرِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ بِتَمَامِهِ مَوْصُولًا بَعْدَ قَلِيلٍ.

قَوْلُهُ: (صَلَّوْا) بِلَفْظِ الْمَاضِي أَيِ الصَّحَابَةُ وَ (عَاقِدِي) جَمْعُ عَاقِدٍ وَحُذِفَتِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَاقِدُو وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَهُمْ عَاقِدُو، وَإِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَرَاوِيلَاتٌ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَعْقِدُ إِزَارَهُ فِي قَفَاهُ لِيَكُونَ مَسْتُورًا إِذَا رَكَعَ وَسَجَدَ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ أَهْلِ الصُّفَّةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ نَوْمِ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي وَاقِدٌ) هُوَ أَخُو عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّاوِي عَنْهُ، وَمُحَمَّدٌ أَبُوهُمَا هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَوَاقِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ مَدَنِيَّانِ تَابِعِيَّانِ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْ قِبَلِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ قَفَاهُ.

قَوْلُهُ: (الْمِشْجَبُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، هُوَ عِيدَانٌ تُضَمُّ رُءُوسُهَا وَيُفَرَّجُ بَيْنَ قَوَائِمِهَا تُوضَعُ عَلَيْهَا الثِّيَابُ وَغَيْرُهَا، وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْمِشْجَبُ وَالشِّجَابُ خَشَبَاتٌ ثَلَاثٌ يُعَلِّقُ عَلَيْهَا الرَّاعِي دَلْوَهُ وَسِقَاءَهُ، وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ فُلَانٌ كَالْمِشْجَبِ مِنْ حَيْثُ قَصَدْتُهُ وَجَدْتُهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْحَارِثِ سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَعَلَّهُمَا جَمِيعًا سَأَلَاهُ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ رِدَاءٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَيْضًا فَقُلْنَا يَا أَبَا عَبْدَ اللَّهِ فَلَعَلَّ السُّؤَالَ تَعَدَّدَ، وَقَالَ فِي جَوَابِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَرَانِي الْجُهَّالُ مِثْلُكُمْ وَعُرِفَ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هُنَا أَحْمَقُ أَيْ جَاهِلٌ.

وَالْحُمْقُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُبْحِهِ، قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَالْغَرَضُ بَيَانُ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبَيْنِ أَفْضَلَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: صَنَعْتُهُ عَمْدًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ إِمَّا لِيَقْتَدِيَ بِيَ الْجَاهِلُ ابْتِدَاءً أَوْ يُنْكِرَ عَلَيَّ فَأُعَلِّمَهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَإِنَّمَا أَغْلَظَ لَهُمْ فِي

ص: 467

الْخِطَابِ زَجْرًا عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَلِيُحِثَّهُمْ عَلَى الْبَحْثِ عَنِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ) أَيْ كَانَ أَكْثَرُنَا فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْلِكُ إِلَّا الثَّوْبَ الْوَاحِدَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُكَلَّفْ تَحْصِيلَ ثَوْبٍ ثَانٍ لِيُصَلِّيَ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ.

وَعَقَّبَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَهُ هَذَا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ بَيَانُ الْجَوَازِ بِهِ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ، لِكَوْنِهِ أَصْرَحَ فِي الرَّفْعِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْكِرْمَانِيِّ فَقَالَ: دَلَالَتُهُ - أَيِ الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ - عَلَى التَّرْجَمَةِ وَهِي عَقْدُ الْإِزَارِ عَلَى الْقَفَا إِمَّا لِأَنَّهُ مَخْرُومٌ مِنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ - أَيْ هُوَ طَرَفٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ - وَإِمَّا لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْغَالِبِ إِذْ لَوْلَا عَقْدُهُ عَلَى الْقَفَا لَمَا سَتَرَ الْعَوْرَةَ غَالِبًا، اهـ. وَلَوْ تَأَمَّلَ لَفْظَهُ وَسِيَاقَهُ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ لَعَرَفَ انْدِفَاعَ احْتِمَالَيْهِ فَإِنَّهُ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ لَا مِنَ السَّابِقِ، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْغَلَبَةِ، فَإِنَّ لَفْظَهُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ مُلْتَحِفًا بِهِ وَهِيَ قِصَّةٌ أُخْرَى فِيمَا يَظْهَرُ كَانَ الثَّوْبُ فِيهَا وَاسِعًا فَالْتَحَفَ بِهِ، وَكَانَ فِي الْأُولَى ضَيِّقًا فَعَقَدَهُ، وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْصِيلَ قَرِيبًا.

(فَائِدَةٌ): كَانَ الْخِلَافُ فِي مَنْعِ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ قَدِيمًا، رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَا تُصَلِّينَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ أَوْسَعَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَنَسَبَ ابْنُ بَطَّالٍ ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ ثُمَّ قَالَ: لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الْجَوَازِ.

353 -

حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَصَمُّ صَاحِبُ مَالِكٍ، مَدَنِيٌّ هُوَ وَبَاقِي رِجَالِ إِسْنَادِهِ وَقَدْ شَارَكَ أَبَا مُصْعَبٍ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الزُّهْرِيَّ فِي صُحْبَةِ مَالِكٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ عَنْهُ، وَفِي كُنْيَتِهِ. لَكِنَّ أَحْمَدَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمِهِ، وَمُطَرِّفٌ بِالْعَكْسِ.

‌4 - بَاب الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ مُلْتَحِفًا بِهِ

قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: الْمُلْتَحِفُ الْمُتَوَشِّحُ وَهُوَ الْمُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَهُوَ الِاشْتِمَالُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ. قَالَ: قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ الْتَحَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِثَوْبٍ وَخَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ مُلْتَحِفًا بِهِ) لَمَّا كَانَتِ الْأَحَادِيثُ الْمَاضِيَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الثَّوْبِ الْوَاحِدِ مُطْلَقَةً أَرْدَفَهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِحَالِ الضِّيقِ، أَوْ بِحَالِ بَيَانِ الْجَوَازِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ) أَيِ الَّذِي رَوَاهُ فِي الِالْتِحَافِ، وَالْمُرَادُ إِمَّا حَدِيثُهُ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ:(وَهُوَ الْمُخَالِفُ. . . إِلَخْ) مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ) سَيَأْتِي حَدِيثُهَا مَوْصُولًا فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ وَخَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي مُرَّةَ عَنْهَا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ بِلَفْظِ الْمُعَلَّقِ.

354 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ.

[الحديث 354 - طرفاه في: 356، 355]

ص: 468

355 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ وقَدْ أَلْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.

356 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلًا بِهِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) هَذَا الْإِسْنَادُ لَهُ حُكْمُ الثُّلَاثِيَّاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ صُورَتُهَا ; لِأَنَّ أَعْلَى مَا يَقَعُ لِلْبُخَارِيِّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحَابِيِّ فِيهِ اثْنَانِ، فَإِنْ كَانَ الصَّحَابِيُّ يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَحِينَئِذٍ تُوجَدُ فِيهِ صُورَةُ الثُّلَاثِيِّ، وَإِنْ كَانَ يَرْوِيهِ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ فَلَا، لَكِنَّ الْحُكْمَ مِنْ حَيْثُ الْعُلُوِّ وَاحِدٍ لِصِدْقِ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحَابِيِّ اثْنَيْنِ. وَهَكَذَا تَقُولُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّابِعِيِّ إِذَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِلَّا وَاحِدٌ، فَإِنْ رَوَاهُ التَّابِعِيُّ عَنْ صَحَابِيٍّ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ رَوَاهُ عَنْ تَابِعِيٍّ آخَرَ فَلَهُ حُكْمُ الْعُلُوِّ لَا صُورَةُ الثُّلَاثِيِّ كَهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ مِنَ التَّابِعِينَ، لَكِنَّهُ حَدَّثَ هُنَا عَنْ تَابِعِيٍّ آخَرَ وَهُوَ أَبُوهُ، فَلَوْ رَوَاهُ عَنْ صَحَابِيٍّ وَرَوَاهُ ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكَانَ ثُلَاثِيًّا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْعُلُوِّ النِّسْبِيِّ لَا الْمُطْلَقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ بِنُزُولِ دَرَجَةٍ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ هِشَامٍ وَهُوَ ابْنُ عُرْوَةَ الْمَذْكُورُ، وَفَائِدَتُهُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الصَّحَابِيَّ شَاهَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ مَا نَقَلَ عَنْهُ أَوَّلًا بِالصُّورَةِ الْمُحْتَمَلَةِ، وَفِيهِ تَعْيِينُ الْمَكَانِ وَهُوَ بَيْتُ أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ وَالِدَةُ الصَّحَابِيِّ الْمَذْكُورِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ زِيَادَةُ كَوْنِ طَرَفَيِ الثَّوْبِ عَلَى عَاتِقَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ قَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى وَفِيهِ جَمِيعُ الزِّيَادَةِ فَكَأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيَّ مُخْتَصَرًا.

وَفَائِدَةُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ ثَالِثًا بِالنُّزُولِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ تَصْرِيحُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ بِأَنَّ عُمَرَ أَخْبَرَهُ. وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْمَاضِيَتَيْنِ بِالْعَنْعَنَةِ. وَفِيهِ أَيْضًا ذِكْرُ الِاشْتِمَالِ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (مُشْتَمِلًا بِهِ) بِالنَّصْبِ لِلْأَكْثَرِ عَلَى الْحَالِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ بِالْجَرِّ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ أَوِ الرَّفْعِ عَلَى الْحَذْفِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَائِدَةُ الِالْتِحَافِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا يَنْظُرَ الْمُصَلِّي إِلَى عَوْرَةِ نَفْسِهِ إِذَا رَكَعَ، وَلِئَلَّا يَسْقُطَ الثَّوْبُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.

357 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ. قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أَجَرْتُهُ فُلَانَ بْنَ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ، قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: وَذَاكَ ضُحًى.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي النَّضْرِ) هُوَ الْمَدَنِيُّ، وَأَبُو مُرَّةَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْعِلْمِ، وَعُرِفَ هُنَا بِأَنَّهُ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ وَهُنَاكَ بِأَنَّهُ مَوْلَى عَقِيلٍ، وَهُوَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ حَقِيقَةً، وَأَمَّا عَقِيلٌ فَلِكَوْنِهِ أَخَاهَا فَنُسِبَ إِلَى وَلَائِهِ مَجَازًا بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَوْ

ص: 469

لِكَوْنِهِ كَانَ يُكْثِرُ مُلَازَمَةَ عَقِيلٍ كَمَا وَقَعَ لِمِقْسَمٍ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَوَائِلِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْغُسْلِ فِي بَابِ التَّسَتُّرِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي صَلَاةِ الضُّحَى: وَمَوْضِعُ الْحَاجَةِ مِنْهُ هُنَا أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ وَصَفَتْ الِالْتِحَافَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ الْمَوْصُولَةِ بِأَنَّهُ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ طَرَفَيِ الثَّوْبِ عَلَى الْعَاتِقَيْنِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ قَبْلُ، فَطَابَقَ التَّفْسِيرَ الْمُتَقَدِّمَ فِي التَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (زَعَمَ ابْنُ أُمِّي) هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ ابْنُ أَبِي وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّهُ شَقِيقُهَا، وَزَعَمَ هُنَا بِمَعْنَى ادَّعَى، وَقَوْلُهَا (قَاتَلَ رَجُلًا) فِيهِ إِطْلَاقُ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى مَنْ عَزَمَ عَلَى التَّلَبُّسِ بِالْفَعْلَةِ.

قَوْلُهُ: (فُلَانَ بْنَ هُبَيْرَةَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ أَوِ الرَّفْعِ عَلَى الْحَذْفِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي مُرَّةَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ إِنِّي أَجَرْتُ حَمَوَيْنِ لِي قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: هُمَا جَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ كَانَا فِيمَنْ قَاتَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَلَمْ يَقْبَلَا الْأَمَانَ، فَأَجَارَتْهُمَا أُمُّ هَانِئٍ وَكَانَا مِنْ أَحْمَائِهَا.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنْ كَانَ ابْنُ هُبَيْرَةَ مِنْهُمَا فَهُوَ جَعْدَةُ كَذَا قَالَ، وَجَعْدَةُ مَعْدُودٌ فِيمَنْ لَهُ رُؤْيَةٌ وَلَمْ تَصِحَّ لَهُ صُحْبَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ فِي التَّابِعِينَ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا، فَكَيْفَ يَتَهَيَّأُ لِمَنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ فِي صِغَرِ السِّنِّ أَنْ يَكُونَ عَامَ الْفَتْحِ مُقَاتِلًا حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى الْأَمَانِ؟ ثُمَّ لَوْ كَانَ وَلَدَ أُمِّ هَانِئٍ لَمْ يَهْتَمَّ عَلِيٌّ بِقَتْلِهِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ وَهَرَبَ زَوْجُهَا وَتَرَكَ وَلَدَهَا عِنْدَهَا، وَجَوَّزَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِهُبَيْرَةَ مِنْ غَيْرِهَا، مَعَ نَقْلِهِ عَنْ أَهْلِ النَّسَبِ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا لِهُبَيْرَةَ وَلَدًا مِنْ غَيْرِ أُمِّ هَانئٍ، وَجَزَمَ ابْنُ هِشَامٍ فِي تَهْذِيبِ السِّيرَةِ بِأَنَّ اللَّذَيْنِ أَجَارَتْهُمَا أُمُّ هَانِئٍ هُمَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيَّانِ.

وَرَوَى الْأَزْرَقُ بِسَنَدٍ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ فِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ هَذَا أَنَّهُمَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُمَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ هُبَيْرَةَ هَرَبَ عِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَى نَجْرَانَ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا مُشْرِكًا حَتَّى مَاتَ، كَذَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ فَلَا يَصِحُّ ذِكْرُهُ فِيمَنْ أَجَارَتْهُ أُمُّ هَانِئٍ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: فُلَانُ بْنُ هُبَيْرَةَ هُوَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ. انْتَهَى. وَقَدْ تُصُرِّفَ فِي كَلَامِ الزُّبَيْرِ وَإِنَّمَا وَقَعَ عِنْدَ الزُّبَيْرِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَوْضِعُ فُلَانِ بْنِ هُبَيْرَةَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ حَذْفًا، كَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ فُلَانُ ابْنُ عَمِّ هُبَيْرَةَ فَسَقَطَ لَفْظُ عَمٍّ أَوْ كَانَ فِيهِ فُلَانُ قَرِيبُ هُبَيْرَةَ فَتَغَيَّرَ لَفْظُ قَرِيبٍ بِلَفْظِ ابْنِ، وَكُلٌّ مِنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَزُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ ابْنُ عَمِّ هُبَيْرَةَ وَقَرِيبُهُ، لِكَوْنِ الْجَمِيعِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمَانِ الْمَرْأَةِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

358 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ.

[الحديث 358 - طرفه في: 365]

قَوْلُهُ: (أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، لَكِنْ ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَبْسُوطِ أَنَّ السَّائِلَ ثَوْبَانُ.

قَوْلُهُ: (أَوَلِكُلِّكُمْ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَفْظُهُ اسْتِخْبَارٌ وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قِلَّةِ الثِّيَابِ، وَوَقَعَ فِي ضِمْنِهِ الْفَتْوَى مِنْ طَرِيقِ الْفَحْوَى، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ وَالصَّلَاةَ لَازِمَةٌ وَلَيْسَ لِكُلِّ واحَدٍ مِنْكُمْ ثَوْبَانِ فَكَيْفَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ جَائِزَةٌ؟ أَيْ مَعَ مُرَاعَاةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ بِهِ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: مَعْنَاهُ لَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مَكْرُوهَةً فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَكُرِهَتْ لِمَنْ لَا يَجِدْ إِلَّا ثَوْبًا وَاحِدًا. انْتَهَى. وَهَذِهِ الْمُلَازَمَةُ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْقَادِرِ وَغَيْرِهِ، وَالسُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ عَنِ الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ لَا عَنِ الْكَرَاهَةِ.

ص: 470

(فَائِدَةٌ): رَوَى ابْنُ حِبَّانَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، لَكِنْ قَالَ فِي الْجَوَابِ لِيَتَوَشَّحْ بِهِ ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا حَدِيثَيْنِ، أَوْ حَدِيثًا وَاحِدًا فَرَّقَهُ الرُّوَاةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى هَذَا لِذِكْرِهِ التَّوَشُّحَ فِي التَّرْجَمَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌5 - بَاب إِذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَلْيَجْعَلْ عَلَى عَاتِقَيْهِ

359 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ.

[الحديث 359 - طرفه في: 360]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَلْيَجْعَلْ عَلَى عَاتِقَيْهِ) أَيْ بَعْضَهُ، فِي رِوَايَةٍ عَاتِقِهِ بِالْإِفْرَادِ. وَالْعَاتِقُ هُوَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ إِلَى أَصْلِ الْعُنُقِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَحُكِيَ تَأْنِيثُهُ.

قَوْلُهُ: (لَا يُصَلِّي) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: كَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لَا نَافِيَةٌ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ. قُلْتُ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ لَا يُصَلِّ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ لَا يُصَلِّيَنَّ بِزِيَادَةِ نُونِ التَّأْكِيدِ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ مِنْهُ شَيْءٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَتَّزِرُ فِي وَسَطِهِ وَيَشُدُّ طَرَفَيِ الثَّوْبِ فِي حَقْوَيْهِ بَلْ يَتَوَشَّحُ بِهِمَا عَلَى عَاتِقَيْهِ لِيَحْصُلَ السَّتْرُ لِجُزْءٍ مِنْ أَعَالِي الْبَدَنِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، أَوْ لِكَوْنِ ذَلِكَ أَمْكَنَ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ.

360 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَمِعْتُهُ، أَوْ كُنْتُ سَأَلْتُهُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُهُ) أَيْ قَالَ يَحْيَى سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، ثُمَّ تَرَدَّدَ هَلْ سَمِعَهُ ابْتِدَاءً أَوْ جَوَابُ سُؤَالٍ مِنْهُ. هَذَا ظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ مَكِّيِّ بْنِ عَبْدَانَ، عَنْ حَمْدَانَ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِلَفْظِ سَمِعْتُهُ أَوْ كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ فَحَصَلَ التَّرَدُّدَ بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْكِتَابَةِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ فِيهِ سَمَاعَ يَحْيَى مِنْ عِكْرِمَةَ، يَعْنِي بِالْجَزْمِ. قَالَ: وَقَدْ رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شَيْبَانَ بِالتَّرَدُّدِ فِي السَّمَاعِ أَوِ الْكِتَابَةِ أَيْضًا. قُلْتُ: قَدْ رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ شَيْبَانَ نَحْوَ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُهُ أَوْ كُنْتُ سَأَلْتُهُ فَسَمِعْتُهُ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.

قَوْلُهُ: (أَشْهَدُ) ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا لِحِفْظِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ وَاحِدٌ. وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ لَا تَتَيَسَّرُ إِلَّا بِجَعْلِ شَيْءٍ مِنَ الثَّوْبِ عَلَى الْعَاتِقِ، كَذَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ. وَأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِالْمُرَادِ فَأَشَارَ إِلَيْهِ الْمُصَنِّفُ كَعَادَتِهِ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى فِيهِ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ

ص: 471

وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ، عَنْ شَيْبَانَ، وَقَدْ حَمَلَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالنَّهْيَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ عَلَى التَّنْزِيهِ.

وَعَنْ أَحْمَدَ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَتَرَكَهُ جَعَلَهُ مِنَ الشَّرَائِطِ، وَعَنْهُ تَصِحُّ وَيَأْثَمُ جَعَلَهُ وَاجِبًا مُسْتَقْبِلًا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: ظَاهِرُ النَّهْيِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ تَرْكِهِ. كَذَا قَالَ وَغَفَلَ عَمَّا ذَكَرَهُ بَعْدَ قَلِيلٍ عَنِ النَّوَوِيِّ مِنْ حِكَايَةِ مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَدَمَ الْجَوَازِ، وَكَلَامُ التِّرْمِذِيِّ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْخِلَافِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ قَبْلُ بِبَابٍ، وَعَقَدَ الطَّحَاوِيُّ لَهُ بَابًا فِي شَرْحِ الْمَعَانِي وَنَقَلَ الْمَنْعَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ عَنْ طَاوُسٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَجَمَعَ الطَّحَاوِيُّ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُصَلِّيَ مُشْتَمِلًا فَإِنْ ضَاقَ اتَّزَرَ.

وَنَقَلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ وُجُوبَ ذَلِكَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ، لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافُهُ. وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي ثَوْبٍ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ وَهِيَ نَائِمَةٌ، قَالَ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّرَفَ الَّذِي هُوَ لَابِسُهُ مِنَ الثَّوْبِ غَيْرُ مُتَّسِعٍ لِأَنْ يَتَّزِرَ بِهِ وَيَفْضُلُ مِنْهُ مَا كَانَ لِعَاتِقِهِ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَالظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمُصَنِّفِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا فَيَجِبُ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ ضَيِّقًا فلا يَجِبُ وَضْعُ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْعَاتِقِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مناسبةُ تَعْقِيبِهِ بِبَابٍ إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا.

‌6 - بَاب إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا

361 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أَمْرِي فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَاشْتَمَلْتُ بِهِ وَصَلَّيْتُ إِلَى جَانِبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَا السُّرَى يَا جَابِرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ قَالَ: مَا هَذَا الِاشْتِمَالُ الَّذِي رَأَيْتُ؟ قُلْتُ: كَانَ ثَوْبٌ، يَعْنِي ضَاقَ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ.

قَوْلُهُ: (فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ) عَيَّنَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ جَابِرٍ غَزْوَةُ بُوَاطٍ وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَهِيَ مِنْ أَوَائِلِ مَغَازِيهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (لِبَعْضِ أَمْرِي) أَيْ حَاجَتِي، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَرْسَلَهُ هُوَ وَجَبَّارَ بْنَ صَخْرٍ لِتَهْيِئَةِ الْمَاءِ فِي الْمَنْزِلِ.

قَوْلُهُ: (مَا السُّرَى) أَيْ مَا سَبَبُ سُرَاكَ أَيْ سَيْرِكَ فِي اللَّيْلِ.

قَوْلُهُ: (مَا هَذَا الِاشْتِمَالُ) كَأَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الِاشْتِمَالُ الَّذِي أَنْكَرَهُ هُوَ أَنْ يُدِيرَ الثَّوْبَ عَلَى بَدَنِهِ كُلِّهِ لَا يُخْرِجُ مِنْهُ يَدَهُ. قُلْتُ: كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ تَفْسِيرِ الصَّمَّاءِ عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ، لَكِنْ بَيَّنَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ الْإِنْكَارَ كَانَ بِسَبَبِ أَنَّ الثَّوْبَ كَانَ ضَيِّقًا وَأَنَّهُ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ وَتَوَاقَصَ - أَيِ انْحَنَى - عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ طَرَفَيِ الثَّوْبِ لَمْ يَصِرْ سَاتِرًا فَانْحَنَى لِيَسْتَتِرَ، فَأَعْلَمَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ ضَيِّقًا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَّزِرَ بِهِ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ الْأَصْلِيَّ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالِائْتِزَارِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّوَاقُصِ الْمُغَايِرِ لِلِاعْتِدَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ ثَوْبٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَكَرِيمَةَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَلِغَيْرِهِمَا بِالنَّصْبِ أَيْ كَانَ الْمُشْتَمِلُ بِهِ ثَوْبًا، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: ضَيِّقًا.

ص: 472

362 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ، وَقَال لِلنِّسَاءِ: لَا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا.

[الحديث 362 - طرفاه في: 814، 1215]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَسَهْلٌ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (كَانَ رِجَالٌ) التَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّنْوِيعِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ رَأَيْتُ الرِّجَالِ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ فَهُوَ فِي حُكْمِ النَّكِرَةِ.

قَوْلُهُ: (عَاقِدِي أُزُرَهُمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ: عَاقِدِي أُزُرِهِمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ مِنْ ضِيقِ الْأُزُرِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الثَّوْبَ إِذَا أَمْكَنَ الِالْتِحَافُ بِهِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الِائْتِزَارِ ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّسَتُّرِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِلنِّسَاءِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَاعِلُ قَالَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَا جَزَمَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ فَقَالَ قَائِلٌ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مَنْ يَقُولُ لَهُنَّ ذَلِكَ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ بِلَالٌ، وَإِنَّمَا نَهَى النِّسَاءَ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْمَحْنَ عِنْدَ رَفْعِ رُءُوسِهِنَّ مِنَ السُّجُودِ شَيْئًا مِنْ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ بِسَبَبِ ذَلِكَ عِنْدَ نُهُوضِهِمْ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَلَفْظُهُ فَلَا تَرْفَعْ رَأْسَهَا حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ رُءُوسَهُمْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَيْنَ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّسَتُّرُ مِنْ أَسْفَلُ.

‌7 - بَاب الصَّلَاةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ

وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الثِّيَابِ: يَنْسُجُهَا الْمَجُوسِيُّ لَمْ يَرَ بِهَا بَأْسًا وَقَالَ مَعْمَرٌ: رَأَيْتُ الزُّهْرِيَّ يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ مَا صُبِغَ بِالْبَوْلِ وَصَلَّى عَلِيُّ فِي ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ

363 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَالَ: يَا مُغِيرَةُ، خُذْ الْإِدَاوَةَ، فَأَخَذْتُهَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، فَقَضَى حَاجَتَهُ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ، فَذَهَبَ لِيُخْرِجَ يَدَهُ مِنْ كُمِّهَا فَضَاقَتْ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي ثِيَابِ الْكُفَّارِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالشَّامِيَّةِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَكَانَتِ الشَّامُ إِذْ ذَاكَ دَارَ كُفْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ الْجُبَّةَ كَانَتْ صُوفًا وَكَانَتْ مِنْ ثِيَابِ الرُّومِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَبِسَهَا وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَرَاهِيَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا إِلَّا بَعْدَ الْغَسْلِ، وَعَنْ مَالِكٍ إِنْ فَعَلَ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ) أَيِ الْبَصْرِيُّ، وَيَنْسِجُهَا بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّهَا وَبِضَمِّ الْجِيمِ.

قَوْلُهُ: (الْمَجُوسِيُّ) كَذَا لِلْحَمَوِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ. وَلِلْبَاقِينَ الْمَجُوسُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَرَ) أَيِ الْحَسَنُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ، أَوْ هُوَ مَقُولُ الرَّاوِي، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمِ بْنُ حَمَّادٍ فِي نُسْخَتِهِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ مُعْتَمِرٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ لَا بَأْسَ

ص: 473

بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي يَنْسِجُهُ الْمَجُوسِيُّ قَبْلَ أَنْ يُغْسَلَ وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنِ الرَّبِيعِ عَنِ الْحَسَنِ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي رِدَاءِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ سِيرِينَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَعْمَرٌ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ بِالْبَوْلِ إِنْ كَانَ لِلْجِنْسِ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُهُ قَبْلَ لُبْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَهْدِ فَالْمُرَادُ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِطَهَارَتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَصَلَّى عَلِيٌّ فِي ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ) أَيْ خَامٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ جَدِيدًا لَمْ يُغْسَلْ، رَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا صَلَّى وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ كَرَابِيسُ غَيْرُ مَغْسُولٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ مُوسَى الْبَلْخِيُّ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ وَفِي الْجَنَائِزِ وَفِي تَفْسِيرِ الدُّخَانِ عَنْ يَحْيَى - غَيْرِ مَنْسُوبٍ - عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَنَسَبُ ابْنِ السَّكَنِ الَّذِي فِي الْجَنَائِزِ يَحْيَى بْنُ مُوسَى قَالَ: وَلَمْ أَجِدِ الْآخَرَيْنِ مَنْسُوبَيْنِ لِأَحَدٍ. قُلْتُ: فَيَنْبَغِي حَمْلُ مَا أُهْمِلَ عَلَى مَا بُيِّنَ، قَدْ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ بِأَنَّ الَّذِي فِي الْجَنَائِزِ هُوَ يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ الْبِيكَنْدِيُّ، وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا مِثْلَهُ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ ; لِأَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ شَبُّوَيْهِ وَافَقَ ابْنَ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْجَنَائِزِ وَهُنَا أَيْضًا، وَرَأَيْتُ بِخَطِّ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَحْيَى هُوَ ابْنُ بُكَيْرٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ هُوَ شَيْبَانُ النَّحْوِيُّ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَلَيْسَ لِيَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ شَيْبَانَ رِوَايَةٌ.

وَبَعْدَ أَنْ رَدَّدَ الْكِرْمَانِيُّ، يَحْيَى بَيْنَ ابْنِ مُوسَى أَوِ ابْنِ جَعْفَرٍ أَوِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: وَأَبُو مُعَاوِيَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَيْبَانَ النَّحْوِيَّ. وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ شَيْبَانَ الْمَذْكُورِ، وَجَزَمَ أَبُو مَسْعُودٍ وَكَذَا خَلَفٌ فِي الْأَطْرَافِ وَتَبِعَهُمَا الْمِزِّيُّ بِأَنَّ الَّذِي فِي الْجَنَائِزِ هُوَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ ابْنِ السَّكَنِ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَافَقَهُ ابْنُ شَبُّوَيْهِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ هُنَا هُوَ الضَّرِيرُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُسْلِمٍ) هُوَ أَبُو الضُّحَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ فِي بَابِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

‌8 - بَاب كَرَاهِيَةِ التَّعَرِّي فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا

364 -

حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ. قَالَ: فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 364 - طرفاه في: 1582، 3839]

قَوْلُهُ: (بَابُ كَرَاهِيَةِ التَّعَرِّي فِي الصَّلَاةِ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ، وَالْحَمَوِيُّ وَغَيْرُهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا رَوْحٌ) هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ) أَيْ مَعَ قُرَيْشٍ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَرِوَايَةُ جَابِرٍ لِذَلِكَ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ الْعَبَّاسُ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ عَنِ الْعَبَّاسِ أَيْضًا ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ فَقَامَ فَأَخَذَ إِزَارَهُ وَقَالَ نُهِيتُ أَنْ أَمْشِيَ عُرْيَانًا وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مَعَ بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي بَابِ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلْتُ) أَيِ الْإِزَارَ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَجَعَلْتُهُ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ إِنْ كَانَتْ

ص: 474

شَرْطِيَّةً وَتَقْدِيرُهُ: لَكَانَ أَسْهَلَ عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّمَنِّي فَلَا حَذْفَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ فَحَلَّهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقُولَ جَابِرٍ أَوْ مَقُولَ مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (فَمَا رُئِيَ) بِضَمِّ الرَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ، وَيَجُوزُ كَسْرُ الرَّاءِ بَعْدَهَا مَدَّةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَلَمْ يَتَعَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَمُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ ; لِأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ مَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَيَتِمُّ بِذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ.

وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَصُونًا عَمَّا يُسْتَقْبَحُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا. وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ التَّعَرِّي بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْوَةِ بَعْدَ قَلِيلٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَعَرَّى وَهُوَ صَغِيرٌ عِنْدَ حَلِيمَةَ فَلَكَمَهُ لَاكِمٌ فَلَمْ يَعُدْ يَتَعَرَّى. وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى نَفْيِ التَّعَرِّي بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ عَادِيَّةٍ، وَالَّذِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى الضَّرُورَةِ الْعَادِيَّةِ، وَالنَّفْيُ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ يَتَقَيَّدُ بِالضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَحَالَةِ النَّوْمِ مَعَ الْأَهْلِ أَحْيَانًا.

‌9 - بَاب الصَّلَاةِ فِي الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالتُّبَّانِ وَالْقَبَاءِ

365 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ: أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ، ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ) قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: السَّرَاوِيلُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَلَمْ يَعْرِفْ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ التَّذْكِيرَ، وَالْأَشْهَرُ عَدَمُ صَرْفِهِ.

قَوْلُهُ: (وَالتُّبَّانُ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةٍ، وَهُوَ عَلَى هَيْئَةِ السَّرَاوِيلِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رِجْلَانِ. وَقَدْ يُتَّخَذُ مِنْ جِلْدِ.

قَوْلُهُ: (وَالْقَبَاءُ) بِالْقَصْرِ وَبِالْمَدِّ قِيلَ هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَقِيلَ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنْ قَبَوْتُ الشَّيْءَ إِذَا ضَمَمْتُ أَصَابِعَكَ عَلَيْهِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْضِمَامِ أَطْرَافِهِ. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ لَبِسَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدٍ) هُوَ ابْنُ سِيرِينَ.

قَوْلُهُ: (قَامَ رَجُلٌ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَرْفُوعِ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ) أَيْ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُسَمَّ أَيْضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ مَسْعُودٍ ; لِأَنَّهُ اخْتَلَفَ هُوَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أُبَيٌّ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ يَعْنِي لَا تُكْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ وَفِي الثِّيَابِ قِلَّةٌ، فَقَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: الْقَوْلُ مَا قَالَ أُبَيٌّ، وَلَمْ يَأْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ. أَيْ لَمْ يُقَصِّرْ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.

قَوْلُهُ: (جَمَعَ رَجُلٌ) هُوَ بَقِيَّةُ قَوْلِ عُمَرَ، وَأَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَمُرَادُهُ الْأَمْرُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَعْنِي لِيَجْمَعْ وَلْيُصَلِّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَلَامٌ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ فَحَسَنٌ. ثُمَّ فَصَّلَ الْجَمْعَ بِصُوَرٍ عَلَى مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ.

وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثَ فَائِدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: وُرُودِ الْفِعْلِ الْمَاضِي بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى وَالْمَعْنَى لِيُصَلِّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمُ اتَّقَى اللَّهَ عَبْدٌ وَالْمَعْنَى لِيَتَّقِ. ثَانِيهُمَا: حَذْفُ حَرْفِ الْعَطْفِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَفِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم تَصَدَّقَ امْرُؤٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ. انْتَهَى، فَحَصَلَ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ تَوْجِيهَانِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: وَأَحْسَبُهُ) قَائِلُ ذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالضَّمِيرُ فِي أَحْسَبُهُ رَاجِعٌ إِلَى عُمَرَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْصُلِ الْجَزْمُ بِذَلِكَ لِإِمْكَانِ أَنَّ عُمَرَ أَهْمَلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ التُّبَّانَ لَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ كُلَّهَا

ص: 475

بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَخِذَ مِنَ الْعَوْرَةِ فَالسَّتْرُ بِهِ حَاصِلٌ مَعَ الْقَبَاءِ وَمَعَ الْقَمِيصِ، وَأَمَّا مَعَ الرِّدَاءِ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ. وَرَأَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ انْحِصَارَ الْقِسْمَةِ يَقْتَضِي ذِكْرَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَأَنَّ السَّتْرَ قَدْ يَحْصُلُ بِهَا إِذَا كَانَ الرِدَاءُ سَابِغًا، وَمَجْمُوعُ مَا ذَكَرَ عُمَرُ مِنَ الْمَلَابِسِ سِتَّةٌ، ثَلَاثَةٌ لِلْوَسَطِ وَثَلَاثَةٌ لِغَيْرِهِ، فَقَدَّمَ مَلَابِسَ الْوَسَطِ ; لِأَنَّهَا مَحَلُّ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَقَدَّمَ أَسْتَرَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا اسْتِعْمَالًا لَهُمْ، وَضَمَّ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدًا، فَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ تِسْعُ صُوَرٍ مِنْ ضَرْبِ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْحَصْرَ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا يَقُومُ مَقَامُهُ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَنَّ الِاقْتِصَارِ عَلَى الثَّوْبِ الْوَاحِدِ كَانَ لِضِيقِ الْحَالِ. وَفِيهِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَصَرَّحَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِنَفْيِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّ عِبَارَةَ ابْنِ الْمُنْذِرِ قَدْ تُفْهِمُ إِثْبَاتَهُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنِ الْأَئِمَّةِ جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ قَالَ: وَقَدِ اسْتَحَبَّ بَعْضُهُمُ الصَّلَاةَ فِي ثَوْبَيْنِ. وَعَنْ أَشْهَبَ فِيمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي السَّرَاوِيلِ مَعَ الْقُدْرَةِ: يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، إِلَّا إِنْ كَانَ صَفِيقًا. وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ.

(فَائِدَةٌ): رَوَى ابْنُ حِبَّانَ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ فَأَدْرَجَ الْمَوْقُوفَ فِي الْمَرْفُوعِ وَلَمْ يَذْكُرْ عُمَرَ، وَرِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ هَذِهِ الْمُفَصَّلَةُ أَصَحُّ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فَرَوَاهُ عَنْ أَيُّوبَ، وَهِشَامٍ، وَحَبِيبٍ، وَعَاصِمٍ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ ابْنِ عُلَيَّةَ فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَى رَفْعِهِ وَحَذَفَ الْبَاقِيَ، وَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ تَصَرُّفِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

366 -

حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا وَرْسٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.

وَعَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ) هُوَ الْوَاسِطِيُّ.

قَوْلُهُ: (سَأَلَ رَجُلٌ) تَقَدَّمَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ، وَأَخَّرْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ إِلَى مَوْضِعِهِ فِي الْحَجِّ. وَمَوْضِعُ الْحَاجَةِ مِنْهُ هُنَا أَنَّ الصَّلَاةَ تَجُوزُ بِدُونِ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَخِيطِ لِأَمْرِ الْمُحْرِمِ بِاجْتِنَابِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَكُونَا) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي حَتَّى يَكُونَ بِالْإِفْرَادِ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ نَافِعٍ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ هُنَاكَ عَنْ آدَمَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، فَقَدَّمَ طَرِيقَ نَافِعٍ وَعَطَفَ عَلَيْهَا طَرِيقَ الزُّهْرِيِّ، عَكْسُ مَا هُنَا. وَزَعَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ وَعَنْ نَافِعٍ تَعْلِيقٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّجْوِيزَاتِ الْعَقْلِيَّةَ لَا يَلِيقُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

‌10 - بَاب مَا يَسْتُرُ مِنْ الْعَوْرَةِ

367 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَيْثٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى

ص: 476

فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.

[الحديث 367 - أطرافه في: 6284، 5822، 5820، 2147، 2144، 1991،]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُسْتَرُ مِنَ الْعَوْرَةِ) أَيْ خَارِجَ الصَّلَاةِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ سَتْرُ السَّوْأَتَيْنِ فَقَطْ، وَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَأَوَّلُ أَحَادِيثِ الْبَابِ يَشْهَدُ لَهُ فَإِنَّهُ قَيَّدَ النَّهْيَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْفَرْجِ شَيْءٌ أَيْ يَسْتُرْهُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْفَرْجَ إِذَا كَانَ مَسْتُورًا فَلَا نَهْيَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ. عَنْ (أَبِي سَعِيدٍ) هَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَوَافَقَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ كَمَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي اللِّبَاسِ، وَرَوَاهُ فِي اللِّبَاسِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ اللَّيْثِ أَيْضًا عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ. وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ أَيْضًا، وَفِيهِ تَفْسِيرُ جَمِيعِ ذَلِكَ. وَرَوَاهُ فِي الِاسْتِئْذَانِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ ابْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِنَحْوِ رِوَايَةِ يُونُسَ لَكِنْ بِدُونِ التَّفْسِيرِ، وَالطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ صَحِيحَةٌ، وَابْنُ شِهَابٍ سَمِعَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَحَدَّثَ بِهِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ بِمُفْرَدِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ) وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ أَنْ يُخَلِّلَ جَسَدَهُ بِالثَّوْبِ لَا يَرْفَعُ مِنْهُ جَانِبًا وَلَا يُبْقِي مَا يُخْرِجُ مِنْهُ يَدَهُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَتْ صَمَّاءَ ; لِأَنَّهُ يَسُدُّ الْمَنَافِذَ كُلَّهَا فَتَصِيرُ كَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خَرْقٌ. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: هُوَ أَنْ يَلْتَحِفَ بِالثَّوْبِ ثُمَّ يَرْفَعَهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ فَيَضَعَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَيَصِيرَ فَرْجُهُ بَادِيًا. قَالَ النَّوَوِيُّ فَعَلَى تَفْسِيرِ أَهْلِ اللُّغَةِ يَكُونُ مَكْرُوهًا لِئَلَّا يَعْرِضُ لَهُ حَاجَةً فَيَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ يَدِهِ فَيَلْحَقَهُ الضَّرَرُ، وَعَلَى تَفْسِيرِ الْفُقَهَاءِ يَحْرُمُ لِأَجْلِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ. قُلْتُ: ظَاهِرُ سِيَاقِ الْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ فِي اللِّبَاسِ أَنَّ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ فِيهَا مَرْفُوعٌ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ. وَلَفْظُهُ: وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُوَ أَحَدُ شِقَّيْهِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي لَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْخَبَرِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْ يَحْتَبِيَ) الِاحْتِبَاءُ أَنْ يَقْعُدَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَيَلُفَّ عَلَيْهِ ثَوْبًا، وَيُقَالُ لَهُ الْحُبْوَةُ، وَكَانَتْ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ. وَفَسَّرَهَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ الْمَذْكُورَةِ بِنَحْوِ ذَلِكَ.

368 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ

صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ: عَنْ اللِّمَاسِ وَالنِّبَاذِ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ.

[الحديث 368 - أطرافه في: 5821، 5819، 2146، 2145، 1992، 588، 584]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ بَيْعَتَيْنِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا عَلَى إِرَادَةِ الْهَيْئَةِ. وَ (اللِّمَاسُ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَكَذَا (النِّبَاذُ) وَأَوَّلُهُ نُونٌ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ خَفِيفَةٌ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُمَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمُطْلَقُ فِي الِاحْتِبَاءِ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ.

369 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ نُؤَذِّنُ بِمِنًى: أَلا لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ

ص: 477

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْل مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.

[الحديث 369 - أطرافه في: 4657، 4656، 4655، 4363، 3177، 1622]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٌ، وَرَدَّدَهُ الْحُفَّاظُ بَيْنَ ابْنِ مَنْصُورٍ وَبَيْنَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ. وَوَقَعَ فِي نُسْخَتِي مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرْوِ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ. وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ شَيْئًا وَلَا عَنِ الصَّوَّافِ وَهُوَ دُونَهُمَا فِي الطَّبَقَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ ابْنُ سَعْدٍ وَرُوَاةُ هَذَا الْإِسْنَادِ سِوَى صَحَابِيِّهِ وَشَيْخِ الْمُصَنِّفِ زُهْرِيُّونَ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ.

قَوْلُهُ: (أَنْ لَا يَحُجَّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَلَا لَا يَحُجَّ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ قَبْلَ حَرْفِ النَّهْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ مَبَاحِثِهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌11 - بَاب الصَّلَاةِ بِغَيْرِ رِدَاءٍ

370 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الْمَوَالِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ مُلْتَحِفًا بِهِ وَرِدَاؤُهُ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْنَا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، تُصَلِّي وَرِدَاؤُكَ مَوْضُوعٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَحْبَبْتُ أَنْ يَرَانِي الْجُهَّالُ مِثْلُكُمْ. رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي هَكَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ رِدَاءٍ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ فِي بَابِ عَقْدِ الْإِزَارِ عَلَى الْقَفَا وَقَوْلُهُ هُنَا (مُلْتَحِفًا بِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ مُلْتَحِفٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الْحَذْفِ، وَفِي نُسْخَتِي عَنْهُمَا بِالْجَرِّ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ يُصَلِّي كَذَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يُصَلِّي هَكَذَا وَقَوْلُهُ:(الْجُهَّالُ مِثْلَكُمْ) لَفْظُ الْمِثْلِ مُفْرَدٌ لَكِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَلِذَلِكَ طَابَقَ لَفْظَ الْجُهَّالِ وَهُوَ جَمْعٌ، أَوِ اكْتَسَبَ الْجَمْعِيَّةَ مِنَ الْإِضَافَةِ.

‌12 - بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ،

وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَرْهَدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْفَخِذُ عَوْرَةٌ وَقَالَ أَنَسُ: حَسَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَخِذِهِ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ حَتَّى يُخْرَجَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: غَطَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رُكْبَتَيْهِ حِينَ دَخَلَ عُثْمَانُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ) أَيْ فِي حُكْمِ الْفَخِذِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ مِنَ الْفَخِذِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ.

قَوْلُهُ: (وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو يَحْيَى الْقَتَّاتُ بِقَافٍ وَمُثَنَّاتَيْنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ أَوْ سَبْعَةٍ أَشْهَرُهَا دِينَارٌ.

قَوْلُهُ: (وَجَرْهَدٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنِ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ، وَضَعَّفَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ لِلِاضْطِرَابِ فِي إِسْنَادِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ كَثِيرًا مِنْ طُرُقِهِ فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ.

ص: 478

قَوْلُهُ: (وَمُحَمَّدُ بْنُ جَحْشٍ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، لَهُ وَلِأَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ صُحْبَةٌ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ عَمَّتُهُ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ صَغِيرًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ حَفِظَ عَنْهُ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي حَدِيثِهِ هَذَا، فَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ مَوْلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ عَنْهُ وَقَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ عَلَى مَعْمَرٍ وَفَخِذَاهُ مَكْشُوفَتَانِ، فَقَالَ: يَا مَعْمَرُ غَطِّ عَلَيْكَ فَخِذَيْكَ، فَإِنَّ الْفَخِذَيْنِ عَوْرَةٌ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، غَيْرَ أَبِي كَثِيرٍ فَقَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ لَكِنْ لَمْ أَجِدْ فِيهِ تَصْرِيحًا بِتَعْدِيلٍ، وَمَعْمَرٌ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَضْلَةَ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ قَانِعٍ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا، وَوَقَعَ لِي حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ مُسَلْسَلًا بِالْمُحَمَّدِيِّينَ مِنِ ابْتِدَائِهِ إِلَى انْتِهَائِهِ، وَقَدْ أَمْلَيْتُهُ فِي الْأَرْبَعِينَ الْمُتَبَايِنَةِ،

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ: حَسَرَ) بِمُهْمَلَاتٍ مَفْتُوحَاتٍ، أَيْ كَشَفَ. وَقَدْ وَصَلَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي الْبَابِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ) أَيْ أَصَحُّ إِسْنَادًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ حَدِيثَ جَرْهَدٍ وَلَوْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ فَهُوَ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ) أَيْ وَمَا مَعَهُ (أَحْوَطُ) أَيْ لِلدِّينِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالِاحْتِيَاطِ الْوُجُوبَ أَوِ الْوَرَعَ وَهُوَ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ:(حَتَّى يَخْرُجَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ) وَيَخْرُجُ فِي رِوَايَتِنَا مَضْبُوطَةٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَفِي غَيْرِهَا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُوسَى) أَيِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمَذْكُورُ هُنَا مِنْ حَدِيثِهِ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةٍ أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَاعِدًا فِي مَكَانٍ فِيهِ مَاءٌ قَدِ انْكَشَفَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ أَوْ رُكْبَتِهِ فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ غَطَّاهَا وَعُرِفَ بِهَذَا الرَّدِّ عَلَى الدَّاوُدِيِّ الشَّارِحِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمُعَلَّقَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَهْمٌ، وَأَنَّهُ دَخَلَ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَأَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ جَلَسَ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِلَفْظِ كَاشِفًا عَنْ فَخِذِهِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ مِثْلُهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ الْمَدَنِيِّ حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدِي يَوْمًا وَقَدْ وَضَعَ ثَوْبَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الْحَدِيثَ. وَقَدْ بَانَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْبُخَارِيِّ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ بَلْ هُمَا قِصَّتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ فِي إِحْدَاهُمَا كَشْفُ الرُّكْبَةِ وَفِي الْأُخْرَى كَشْفُ الْفَخِذِ، وَالْأُولَى مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى وَهِيَ الْمُعَلَّقَةُ هُنَا وَالْأُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ وَوَافَقَتْهَا حَفْصَةُ وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا الْبُخَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) هُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مَوْصُولٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ، وَقَدِ اعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِعَدَمِ الْحَائِلِ، قَالَ: وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَائِلِ ; لِأَنَّا نَقُولُ الْعُضْوُ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَعْرُوفُ الْمَوْضِعِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ. انْتَهَى.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تَرُضَّ) أَيْ تَكْسِرَ، وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَيَجُوزُ عَكْسُهُ.

371 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ، فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ

ص: 479

أَبِي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَسَرَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ، حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} قَالَهَا ثَلَاثًا، قَالَ: وَخَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَالْخَمِيسُ، يَعْنِي الْجَيْشَ، قَالَ: فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً، فَجُمِعَ السَّبْيُ، فَجَاءَ دِحْيَةُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ، قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً، فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ، بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، قَالَ: ادْعُوهُ بِهَا، فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خُذْ جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ غَيْرَهَا، قَالَ: فَأَعْتَقَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، مَا أَصْدَقَهَا؟ قَالَ: نَفْسَهَا، أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ فَأَهْدَتْهَا لَهُ مِنْ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا، فَقَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَجِئْ بِهِ وَبَسَطَ نِطَعًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَدْ ذَكَرَ السَّوِيقَ، قَالَ: فَحَاسُوا حَيْسًا فَكَانَتْ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 271 أطرافه في: 610، 947، 2228، 2235، 2889، 2943، 2944، 2945، 2991، 3085، 3086، 3267، 3647، 4083، 4197، 4199، 4200، 4201، 4201، 4211، 4212، 4313، 5085، 5159، 5169، 5387، 5425، 5968، 6180، 6363، 6369، 7333]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الدَّوْرَقِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا) أَيْ خَارِجًا مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (صَلَاةُ الْغَدَاةِ) فِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ)

فِيهِ جَوَازُ الْإِرْدَافِ، وَمَحَلُّهُ مَا إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ مُطِيقَةً.

قَوْلُهُ: (فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ مَرْكُوبَهُ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ حَسَرَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ) وَفْي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَأَنْظُرَ (إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم). هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ أَنَّهُ حَسَرَ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عِنْدَهُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيقُهُ الْمَاضِي فِي أَوَائِلِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ وَقَالَ أَنَسٌ: حَسَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَانْحَسَرَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَقِيمٍ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِهِ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنْ لَا يَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَلَى خِلَافِهِ، وَيَكْفِي فِي كَوْنِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِفَتْحَتَيْنِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْلِيقِ.

وَقَدْ وَافَقَ مُسْلِمًا عَلَى رِوَايَتِهِ بِلَفْظِ فَانْحَسَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ يَعْقُوبَ الْمَذْكُورِ وَلَفْظُهُ فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ إِذْ خَرَّ الْإِزَارُ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَكَذَا وَقَعَ عِنْدِي خَرَّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَتُهُ هِيَ الْمَحْفُوظَةَ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ. انْتَهَى.

وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ بِفَتْحَتَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، أَيْ كَشَفَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ عِنْدَ سَوْقِ مَرْكُوبِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَدِيثُ أَنَسٍ وَمَا مَعَهُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا مِنِ احْتِمَالِ الْخُصُوصِيَّةِ أَوِ الْبَقَاءِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ مَا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى

ص: 480

حَدِيثِ جَرْهَدٍ وَمَا مَعَهُ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِعْطَاءَ حُكْمٍ كُلِّيٍّ وَإِظْهَارَ شَرْعٍ عَامٍّ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ، وَمَالكٍ فِي رِوَايَةٍ: الْعَوْرَةُ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْإِصْطَخْرِيُّ. قُلْتُ: فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ نَظَرٌ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي تَهْذِيبِهِ وَرَدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ، وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ قَوْلُ أَنَسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَسَّ كَانَ بِدُونِ الْحَائِلِ، وَمَسُّ الْعَوْرَةِ بِدُونِ حَائِلٍ لَا يَجُوزُ. وَعَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي أَنَّ الْإِزَارَ لَمْ يَنْكَشِفْ بِقَصْدٍ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ مِنْ جِهَةِ اسْتِمْرَارِهِ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ وُقُوعُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَكِنْ لَوْ كَانَتْ عَوْرَةً لَمْ يُقَرَّ عَلَى ذَلِكَ لِمَكَانِ عِصْمَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لِبَيَانِ التَّشْرِيعِ لِغَيْرِ الْمُخْتَارِ لَكَانَ مُمْكِنًا، لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ الْبَيَانُ عَقِبَهُ كَمَا فِي قَضِيَّةِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، وَسِيَاقُهُ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَالْجَوْزَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ظَاهِرٌ فِي اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ فَأَجْرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي لَأَرَى بَيَاضَ فَخِذَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ) قِيلَ مُنَاسَبَةُ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَنَّهُمُ اسْتَقْبَلُوا النَّاسَ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، وَهِيَ مِنْ آلَاتِ الْهَدْمِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ) هُوَ الرَّاوِي عَنْ أَنَسٍ (وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَنَسٍ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، بَلْ سَمِعَ مِنْهُ (فَقَالُوا مُحَمَّدٌ) وَسَمِعَ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ (وَالْخَمِيسُ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، وَالْجَوْزَقِيِّ الْمَذْكُورَةِ فَقَالُوا مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَدَلَّتْ رِوَايَةُ ابْنِ عُلَيَّةَ هَذِهِ عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةَ عَبْدِ الْوَارِثِ إِدْرَاجًا، وَكَذَا وَقَعَ لِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَثَابِتٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَبَعْضُ أَصْحَابِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، أَوْ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (يَعْنِي الْجَيْشَ) تَفْسِيرٌ مِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَأَدْرَجَهَا عَبْدُ الْوَارِثِ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا، وَسُمِّيَ خَمِيسًا ; لِأَنَّهُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: مُقَدِّمَةٌ، وَسَاقَةٌ، وَقَلْبٌ، وَجَنَاحَانِ. وَقِيلَ مِنْ تَخْمِيسِ الْغَنِيمَةِ، وَتَعَقَّبَهُ الْأَزْهَرِيُّ بِأَنَّ التَّخْمِيسَ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمُّونَ الْجَيْشَ خَمِيسًا فَبَانَ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (عَنْوَةً) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ قَهْرًا.

قَوْلُهُ: (أَعْطِنِي جَارِيَةً) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِذْنُهُ لَهُ فِي أَخْذِ الْجَارِيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ لَهُ إِمَّا مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ بَعْدَ أَنْ مُيِّزَ، أَوْ قَبْلُ عَلَى أَنْ تُحْسَبَ مِنْهُ إِذَا مُيِّزَ، أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي أَخْذِهَا لِتَقُومَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَتُحْسَبَ مِنْ سَهْمِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ) أَيْ فَذَهَبَ فَأَخَذَ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا) ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ أُخْتَ كِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ. انْتَهَى. وَكَانَ كِنَانَةُ زَوْجَ صَفِيَّةَ، فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَيَّبَ خَاطِرَهُ لَمَّا اسْتَرْجَعَ مِنْهُ صَفِيَّةَ بِأَنْ أَعْطَاهُ أُخْتَ زَوْجِهَا، وَاسْتِرْجَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةَ مِنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي أَخْذِ جَارِيَةٍ مِنْ حَشْوِ السَّبْيِ لَا فِي أَخْذِ أَفْضَلِهِنَّ، فَجَازَ اسْتِرْجَاعُهَا مِنْهُ لِئَلَّا يَتَمَيَّزُ بِهَا عَلَى بَاقِي الْجَيْشِ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى صَفِيَّةَ مِنْهُ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، وَإِطْلَاقُ الشِّرَاءِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ سَبْعَةُ أَرْؤُسٍ مَا يُنَافِي قَوْلَهُ هُنَا خُذْ جَارِيَةً إِذْ لَيْسَ هُنَا دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الزِّيَادَةِ. وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَالْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ) أَيْ لِأَنَسٍ، وَثَابِتٌ هُوَ الْبُنَانِيُّ،

ص: 481

وَأَبُو حَمْزَةَ كُنْيَةُ أَنَسٍ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ وَالِدَةُ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَهْدَتْهَا) أَيْ زَفَّتْهَا.

قَوْلُهُ: (وَأَحْسَبُهُ) أَيْ أَنَسًا (قَدْ ذَكَرَ السَّوِيقَ)، وَجَزَمَ عَبْدُ الْوَارِثِ فِي رِوَايَتِهِ بِذِكْرِ السَّوِيقِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَحَاسُوا) بِمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ خَلَطُوا، وَالْحَيْسُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ خَلِيطُ السَّمْنِ وَالتَّمْرِ وَالْأَقِطِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

التَّمْرُ وَالسَّمْنُ جَمِيعًا وَالْأَقِطُ

الْحَيْسُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِطْ

وَقَدْ يَخْتَلِطُ مَعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُهَا كَالسَّوِيقِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ فَوَائِدِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْوَلِيمَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌13 - بَاب فِي كَمْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي الثِّيَابِ

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَوْ وَارَتْ جَسَدَهَا فِي ثَوْبٍ لَأَجَزْتُهُ

372 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْفَجْرَ فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ.

[الحديث 372 - أطرافه في: 872، 867، 578]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (فِي كَمْ) بِحَذْفِ الْمُمَيَّزِ أَيْ كَمْ ثَوْبًا (تُصَلِّي الْمَرْأَةُ) مِنَ الثِّيَابِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ تَغْطِيَةُ بَدَنِهَا وَرَأْسِهَا، فَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا فَغَطَّتْ رَأْسَهَا بِفَضْلِهِ جَازَ. قَالَ: وَمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ تُصَلِّي فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَإِزَارٍ وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ مِثْلُهُ وَزَادَ وَمِلْحَفَةٌ فَإِنِّي أَظُنُّهُ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عِكْرِمَةُ) يَعْنِي مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (جَازَ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَأَجَزْتُهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ، وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَلَفْظُهُ لَوْ أَخَذَتِ الْمَرْأَةُ ثَوْبًا فَتَقَنَّعَتْ بِهِ حَتَّى لَا يُرَى مِنْ شَعْرِهَا شَيْءٌ أَجْزَأَ عَنْهَا.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ) اللَّامُ فِي لَقَدْ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ.

قَوْلُهُ: (مُتَلَفِّعَاتٍ) قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: التَّلَفُّعُ أَنْ تَشْتَمِلَ بِالثَّوْبِ حَتَّى تُجَلِّلَ بِهِ جَسَدَكِ، وَفِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ لِابْنِ حَبِيبٍ: التَّلَفُّعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَالتَّلَفُّفُ يَكُونُ بِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَكَشْفِهِ، وَ (الْمُرُوطُ) جَمْعُ مِرْطٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، كِسَاءٌ مِنْ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ أَوْ غَيْرِهِ.

وَعَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ مَا يُقْتَضَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِلُبْسِ النِّسَاءِ. وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَى اسْتِدْلَالِ الْمُصَنِّفِ بِهِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ بِأَنَّ الِالْتِفَاعَ الْمَذْكُورَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ ثِيَابٍ أُخْرَى. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِشَيْءٍ إِلَّا أَنَّ اخْتِيَارَهُ يُؤْخَذُ فِي الْعَادَةِ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي يُودِعُهَا فِي التَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ) زَادَ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنَ الْغَلَسِ وَهُوَ يُعَيِّنُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ: هَلْ عَدَمُ الْمَعْرِفَةِ بِهِنَّ لِبَقَاءِ الظُّلْمَةِ أَوْ لِمُبَالَغَتِهِنَّ فِي التَّغْطِيَةِ؟ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ مَبَاحِثِهِ فِي الْمَوَاقِيتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌14 - بَاب إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلَامٌ وَنَظَرَ إِلَى عَلَمِهَا

373 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَائتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: قَالَ

ص: 482

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِي.

[الحديث 374 - طرفه في: 5959]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلَامٌ وَنَظَرَ إِلَى عَلَمِهَا) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِي رِوَايَةٍ وَنَظَرَ إِلَى عَلَمِهِ وَالتَّأْنِيثُ فِي عَلَمِهَا بِاعْتِبَارِ الْخَمِيصَةِ.

قَوْلُهُ: (خَمِيصَةٌ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، كِسَاءٌ مُرَبَّعٌ لَهُ عَلَمَانِ، وَالْأَنْبِجَانِيَّةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَبَعْدَ النُّونِ يَاءُ النِّسْبَةِ: كِسَاءٌ غَلِيظٌ لَا عَلَمَ لَهُ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: يَجُوزُ فَتْحُ هَمْزَتِهِ وَكَسْرِهَا، وَكَذَا الْمُوَحَّدَةُ، يُقَالُ كَبْشٌ أَنْبِجَانِيٌّ إِذَا كَانَ مُلْتَفًّا، كَثِيرَ الصُّوفِ.

وَكِسَاءٌ أَنْبِجَانِيٌّ كَذَلِكَ، وَأَنْكَرَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى مَنْبِجَ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ بِالشَّامِ.

قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: إِذَا نَسَبْتَ إِلَى مَنْبِجَ فَتَحْتَ الْبَاءَ فَقُلْتَ: كِسَاءٌ مَنْبَجَانِيٌّ أَخْرَجُوهُ مَخْرَجَ مَنْظَرَانِيٍّ.

وَفِي الْجَمْهَرَةِ: مَنْبِجُ مَوْضِعٌ أَعْجَمِيٌّ تَكَلَّمَتْ بِهِ الْعَرَبُ وَنَسَبُوا إِلَيْهِ الثِّيَابَ الْمَنْبِجَانِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: لَا يُقَالُ كِسَاءٌ أَنْبِجَانِيٌّ وَإِنَّمَا يُقَالُ مَنْبِجَانِيٌّ، قَالَ: وَهَذَا مِمَّا تُخْطِئُ فِيهِ الْعَامَّةُ. وَتَعَقَّبَهُ أَبُو مُوسَى كَمَا تَقَدَّمَ فَقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ أَنْبِجَانُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (إِلَى أَبِي جَهْمٍ) هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ - وَيُقَالُ عَامِرُ - بْنُ حُذَيْفَةَ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ صلى الله عليه وسلم بِإِرْسَالِ الْخَمِيصَةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَهْدَاهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَهْدَى أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمِيصَةً لَهَا عَلَمٌ فَشَهِدَ فِيهَا الصَّلَاةَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: رُدِّي هَذِهِ الْخَمِيصَةَ إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَوَقَعَ عِنْدِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ مِنْ وَجْهٍ مُرْسَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِخَميصَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ فَلَبِسَ إِحْدَاهُمَا وَبَعَثَ الْأُخْرَى إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَأَخَذَ كُرْدِيًّا لِأَبِي جَهْمٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَمِيصَةُ كَانَتْ خَيْرًا مِنَ الْكُرْدِيِّ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا طَلَبَ مِنْهُ ثَوْبًا غَيْرَهَا لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ هَدِيَّتَهُ اسْتِخْفَافًا بِهِ، قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا رُدَّتْ عَلَيْهِ عَطِيَّتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّاجِعَ فِيهَا فَلَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. قُلْتُ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَرِوَايَةُ الزُّبَيْرِ وَالَّتِي بَعْدَهَا تُصَرِّحُ بِالتَّعَدُّدِ.

قَوْلُهُ: (أَلْهَتْنِي) أَيْ شَغَلَتْنِي، يُقَالُ لَهِيَ بِالْكَسْرِ إِذَا غَفَلَ، وَلَهَا بِالْفَتْحِ إِذَا لَعِبَ.

قَوْلُهُ: (آنِفًا) أَيْ قَرِيبًا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنِ ائْتِنَافِ الشَّيْءِ أَيِ ابْتِدَائِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَلَاتِي) أَيْ عَنْ كَمَالِ الْحُضُورِ فِيهَا، كَذَا قِيلَ، وَالطَّرِيقُ الْآتِيَةُ الْمُعَلَّقَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا خَشِيَ أَنْ يَقَعَ لِقَوْلِهِ فَأَخَافُ. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فَكَادَ فَلْتُؤَوَّلِ الرِّوَايَةُ الْأُولَى.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ مُبَادَرَةُ الرَّسُولِ إِلَى مَصَالِحِ الصَّلَاةِ، وَنَفْيُ مَا لَعَلَّهُ يَخْدِشُ فِيهَا. وَأَمَّا بَعْثُهُ بِالْخَمِيصَةِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي الصَّلَاةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ حَيْثُ بَعَثَ بِهَا إِلَى عُمَرَ إِنِّي لَمْ أَبْعَثُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ كَرَاهِيَةُ كُلِّ مَا يَشْغَلُ عَنِ الصَّلَاةِ مِنَ الْأَصْبَاغِ وَالنُّقُوشِ وَنَحْوِهَا. وَفِيهِ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنَ الْأَصْحَابِ وَالْإِرْسَالُ إِلَيْهِمْ وَالطَّلَبُ مِنْهُمْ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبَاجِيُّ عَلَى صِحَّةِ الْمُعَاطَاةِ لِعَدَمِ ذِكْرِ الصِّيغَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ لِلصُّوَرِ وَالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ تَأْثِيرًا فِي الْقُلُوبِ الطَّاهِرَةِ وَالنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ، يَعْنِي فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِمْ هَذَا اللَّفْظَ. نَعَمِ اللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْمُوَطَّأِ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْمُعَلَّقِ، وَلَفْظُهُ: فَإِنِّي نَظَرْتُ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلَاةِ فَكَادَ يَفْتِنُنِي وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِحَمْلِ قَوْلِهِ: أَلْهَتْنِي عَلَى قَوْلِهِ: كَادَتْ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْأُولَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقُرْبِ لَا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِ الْإِلْهَاءِ.

ص: 483

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنني فِي رِوَايَتِنَا بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ بِإِظْهَارِ النُّونِ الْأُولَى وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ.

‌15 - بَاب إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أَوْ تَصَاوِيرَ هَلْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؟ وَمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ

374 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمِيطِي عنا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلَاتِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ) بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ فِيهِ صُلْبَانٌ مَنْسُوجَةٌ أَوْ مَنْقُوشَةٌ أَوْ تَصَاوِيرُ، أَيْ فِي ثَوْبٍ ذِي تَصَاوِيرَ، كَأَنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى ثَوْبِ لَا عَلَى مُصَلَّبٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ صَلَّى فِي تَصَاوِيرَ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: أَوْ بِتَصَاوِيرَ وَهُوَ يُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ: فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أَوْ مُصَوَّرٍ.

قَوْلُهُ: (هَلْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ) جَرَى الْمُصَنِّفُ عَلَى قَاعِدَتِهِ فِي تَرْكِ الْجَزْمِ فِيمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَهَذَا مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ هَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ أَمْ لَا؟ وَالْجُمْهُورُ إِنْ كَانَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ اقْتَضَاهُ، وَإِلَّا فَلَا.

قَوْلُهُ: (وَمَا يُنْهَى مِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَابِ لَا يُوَفِّي بِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ التَّرْجَمَةُ إِلَّا بَعْدَ التَّأَمُّلِ، لِأَنَّ السِّتْرَ وَإِنْ كَانَ ذَا تَصَاوِيرٍ لَكِنَّهُ لَمْ يَلْبَسْهُ وَلَمْ يَكُنْ مُصَلَّبًا وَلَا نهى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ صَرِيحًا. وَالْجَوَابُ أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ مَنْعَ لُبْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَمَّا ثَانِيًا فَبِإِلْحَاقِ الْمُصَلَّبِ بِالْمُصَوَّرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا ثَالِثًا فَالْأَمْرُ بِالْإِزَالَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: مُصَلَّبٌ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ كَعَادَتِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصْلِيبٌ إِلَّا نَقَضَهُ. وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ سِتْرًا أَوْ ثَوْبًا.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (قِرَامٌ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ: سِتْرٌ رَقِيقٌ مِنْ صُوفٍ ذُو أَلْوَانٍ.

قَوْلُهُ: (أَمِيطِي) أَيْ أَزِيلِي وَزْنًا وَمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا، وَلِلْبَاقِينَ بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ، وَالْهَاءِ فِي رِوَايَتِنَا فِي فَإِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَعَلَى الْأُخْرَى يُحْتَمَلُ أَنْ تَعُودَ عَلَى الثَّوْبِ.

قَوْلُهُ: (تَعْرِضُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ تَلُوحُ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: تَعَرَّضُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَصْلُهُ تَتَعَرَّضُ. وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْطَعْهَا وَلَمْ يُعِدْهَا، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي هَذَا، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الِاخْتِلَافُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌16 - بَاب مَنْ صَلَّى فِي فَرُّوجِ حَرِيرٍ ثُمَّ نَزَعَهُ

375 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ:

ص: 484

أُهْدِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ.

[الحديث 375 - طرفه في: 5801]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَلَّى فِي فَرُّوجٍ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَضْمُومَةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ، هُوَ الْقَبَاءُ الْمُفَرَّجُ مِنْ خَلْفُ، وَحَكَى أَبُو زَكَرِيَّا التَّبْرِيزِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِيِّ جَوَازَ ضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَزِيدَ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَأَبُو الْخَيْرِ هُوَ الْيَزَنِيُّ بِفَتْحِ الزَّايِ بَعْدَهَا نُونٌ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مِصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (أُهْدِيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَالَّذِي أَهْدَاهُ هُوَ أُكَيْدِرٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاتَهُ صلى الله عليه وسلم فِيهِ كَانَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: صَلَّى فِي قَبَاءِ دِيبَاجٍ ثُمَّ نَزَعَهُ وَقَالَ: نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَفْهُومُ قَوْلِهِ: لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ وَغَيْرَهُ فِي التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُتَّقِي الْمُسْلِمُ أَيِ الْمُتَّقِي لِلْكُفْرِ، وَيَكُونُ النَّهْيُ سَبَبَ النَّزْعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ التَّحْرِيمِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ فِي ثِيَابِ الْحَرِيرِ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعِدْ تِلْكَ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ تَرْكَ إِعَادَتِهَا لِكَوْنِهَا وَقَعَتْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تُجْزِئُ لَكِنْ مَعَ التَّحْرِيمِ، وَعَنْ مَالِكٍ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌17 - بَاب الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ

376 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، وَرَأَيْتُ بِلَالًا أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَاكَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ. ثُمَّ رَأَيْتُ بِلَالًا أَخَذَ عَنَزَةً فَرَكَزَهَا، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا صَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ الْعَنَزَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْأَحْمَرَ) يُشِيرُ إِلَى الْجَوَازِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا يُكْرَهُ، وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ الْبَابِ بِأَنَّهَا كَانَتْ حُلَّةً مِنْ بُرُودٍ فِيهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَرَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ كَذَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فَقَدْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الرَّدِّ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَحَمَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى مَا صُبِغَ بَعْدَ النَّسْجِ. وَأَمَّا مَا صُبِغَ غَزْلُهُ ثُمَّ نُسِجَ فَلَا كَرَاهِيَةَ فِيهِ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لُبْسَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِتِلْكَ الْحُلَّةِ كَانَ مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَقِبَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِذْ ذَاكَ غَزْوٌ.

قَوْلُهُ: (أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيِ الْمَاءَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَيَأْتِي بَاقِي مَبَاحِثِهِ فِي أَبْوَابِ السُّتْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 485

‌18 - باب الصَّلَاةِ فِي السُّطُوحِ وَالْمِنْبَرِ وَالْخَشَبِ

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُصَلّي عَلَى الْجُمْدِ وَالْقَنَاطِرِ وَإِنْ جَرَى تَحْتَهَا بَوْلٌ أَوْ فَوْقَهَا أَوْ أَمَامَهَا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ. وَصَلَّى أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى سَقْفِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ عَلَى الثَّلْجِ.

377 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، قَالَ: سَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ الْمِنْبَرُ؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ في النَّاسِ أَعْلَمُ مِنِّي، هُوَ مِنْ أَثْلِ الْغَابَةِ، عَمِلَهُ فُلَانٌ مَوْلَى فُلَانَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ عُمِلَ وَوُضِعَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، كَبَّرَ وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ بِالْأَرْضِ. فَهَذَا شَأْنُهُ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ عبد الله: سَأَلَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله، عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: فَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَعْلَى مِنْ النَّاسِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ النَّاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ كَانَ يُسْأَلُ عَنْ هَذَا كَثِيرًا فَلَمْ تَسْمَعْهُ مِنْهُ؟ قَالَ: لَا.

[الحديث 377 - أطرافه في: 2569، 2094، 917، 448]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي السُّطُوحِ وَالْمِنْبَرِ وَالْخَشَبِ) يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الْجَوَازِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ لِمَنْ كَانَ إِمَامًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ، وَالْحَسَنُ هُوَ الْبَصْرِيُّ، وَالْجَمْدُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ: الْمَاءُ إِذَا جَمَدَ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الثَّلْجِ، وَحَكَى ابْنُ قُرْقُولٍ أَنَّ رِوَايَةَ الْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ بِفَتْحِ الْمِيمِ، قَالَ الْقَزَّازُ: الْجَمَدُ مُحَرَّكُ الْمِيمِ هُوَ الثَّلْجُ، نَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنِ الصِّحَاحِ: الْجُمُدُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمِيمِ وَبِسُكُونِ الْمِيمِ أَيْضًا مِثْلِ عُسُرٍ وَعُسْرٍ: الْمَكَانُ الصُّلْبُ الْمُرْتَفِعُ. قُلْتُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا هُنَا، بَلْ صَوَّبَ ابْنُ قُرْقُولٍ وَغَيْرُهُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْقَنَاطِرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ تَحْتَهُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ، وَالْغَرَضُ أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ يَخْتَصُّ بِمَا لَاقَى الْمُصَلِّي، أَمَّا مَعَ الْحَائِلِ فَلَا.

قَوْلُهُ: (وَصَلَّى أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ)، وَلِلْمُسْتَمْلِي: عَلَى سَقْفٍ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَوْقَ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَصَالِحٌ فِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةٍ فَاعْتُضِدَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (مَا بَقِيَ بِالنَّاسِ) ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فِي النَّاسِ، (أَعْلَمُ مِنِّي) أَيْ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَثْلٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ، وَالْغَابَةُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (عَمِلَهُ فُلَانٌ مَوْلَى فُلَانَةَ) اخْتُلِفَ فِي اسْمِ النَّجَّارِ الْمَذْكُورِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجُمُعَةِ، وَأَقْرَبُهَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ نَجَّارٌ وَاحِدٌ يُقَالُ لَهُ: مَيْمُونٌ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْمِنْبَرِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُعْرَفُ اسْمُهَا لَكِنَّهَا أَنْصَارِيَّةٌ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ النَّجَّارَ كَانَ مَوْلًى لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ مَوْلَى امْرَأَتِهِ وَنُسِبَ إِلَيْهِ مَجَازًا، وَاسْمُ امْرَأَتِهِ فَكِيهَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ دُلَيْمٍ،

ص: 486

وَهِيَ ابْنةُ عَمِّهِ، أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَةَ. لَكِنْ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: مَوْلًى لِبَنِي بَيَاضَةَ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي الدَّلَائِلِ لِأَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ نَقْلًا عَنْ جَعْفَرٍ المُسْتَغْفِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فِي أَسْمَاءِ النِّسَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ عُلَاثَةُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ، ثُمَّ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: وَفِيهِ أَرْسَلَ إِلَى عُلَاثَةَ امْرَأَةً قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ، فَقَدْ قَالَ أَبُو مُوسَى: صَحَّفَ فِيهِ جَعْفَرٌ أَوْ شَيْخُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ فُلَانَةُ، انْتَهَى.

وَوَقَعَ عِنْدَ الْكِرْمَانِيِّ قِيلَ: اسْمُهَا عَائِشَةُ، وَأَظُنُّهُ صَحَّفَ الْمُصْحَفَ، وَلَوْ ذَكَرَ مُسْتَنَدَهُ فِي ذَلِكَ لَكَانَ أَوْلَى. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَيَخْطُبُ إِلَيْهَا وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهَا، فَأَمَرَتْ عَائِشَةُ فَصَنَعَتْ لَهُ مِنْبَرَهُ هَذَا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

وَلَوْ صَحَّ لَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ هِيَ الْمُرَادَةُ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ هَذَا إِلَّا بِتَعَسُّفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْغَرَضُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفِيهِ جَوَازُ اخْتِلَافِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الْعُلْوِّ وَالسُّفْلِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُصَنِّفُ فِي حِكَايَتِهِ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَلِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ذَلِكَ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِارْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ التَّعْلِيمِ لَمْ يَسْتَقِمْ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُهُ، وَلِانْفِرَادِ الْأَصْلِ بِوَصْفٍ مُعْتَبَرٍ تَقْتَضِي الْمُنَاسَبَةُ اعْتِبَارَهُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: فَقُلْتُ) أَيْ قَالَ عَلِيٌّ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ تَسْمَعْهُ مِنْهُ؟ قَالَ: لَا) صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.

وَقَدْ رَاجَعْتُ مُسْنَدَهُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ أَخْرَجَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلَ سَهْلٍ: كَانَ الْمِنْبَرُ مِنْ أَثْلِ الْغَابَةِ فَقَطْ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَسْمَعْهُ مِنْهُ؟ قَالَ: لَا جَمِيعُ الْحَدِيثِ لَا بَعْضُهُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا وَهُوَ صَلَاتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ، فَلِذَلِكَ سَأَلَ عَنْهُ عَلِيًّا، وَلَهُ عِنْدَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى الْخَشَبِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ لَبِنَةً لِيَسْجُدَ عَلَيْهَا إِذَا رَكِبَ السَّفِينَةَ، وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ نَحْوُهُ. وَالْقَوْلُ بِالْجَوَازِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

378 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَجُحِشَتْ سَاقُهُ - أَوْ كَتِفُهُ - وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَجَلَسَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ دَرَجَتُهَا مِنْ جُذُوعٍ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا، وَهُمْ قِيَامٌ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا.

وَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ.

[الحديث 378 - أطرافه في: 6684، 5289، 5201، 2469، 1911، 1114، 805، 733، 732، 689]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) هُوَ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِصَاعِقَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ.

قَوْلُهُ: (فَجُحِشَتْ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ، وَالْجَحْشُ الْخَدْشُ أَوْ أَشَدُّ مِنْهُ قَلِيلًا.

قَوْلُهُ: (سَاقَهُ أَوْ كَتِفَهُ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنْ حُمَيْدٍ عِنْدَ

ص: 487

الْإِسْمَاعِيلِيِّ انْفَكَّتْ قَدَمُهُ وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ وَهِيَ أَشْمَلُ مِمَّا قَبْلَهَا.

قَوْلُهُ: (وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ) أَيْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِيلَاءَ الْمُتَعَارَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

قَوْلُهُ: (مَشْرُبَةٌ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَبِضَمِّ الرَّاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، هِيَ الْغُرْفَةُ الْمُرْتَفِعَةُ.

قَوْلُهُ: (مِنْ جُذُوعٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّنْوِينِ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا صَلَاتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَشْرُبَةِ، وَهِيَ مَعْمُولَةٌ مِنَ الْخَشَبِ، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ دَرَجِهَا مِنْ خَشَبٍ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا خَشَبًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانَ جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى السَّطْحِ إِذْ هِيَ سَقْفٌ فِي الْجُمْلَةِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى.

‌19 - بَاب إِذَا أَصَابَ ثَوْبُ الْمُصَلِّي امْرَأَتَهُ إِذَا سَجَدَ

379 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَإنَا حِذَاءَهُ وَأَنَا حَائِضٌ، وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إِذَا سَجَدَ، قَالَتْ: وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَصَابَ ثَوْبُ الْمُصَلِّي امْرَأَتَهُ إِذَا سَجَدَ) أَيْ هَلْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟ وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى الصِّحَّةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، وَسُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الطَّهَارَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ هُنَاكَ عَلَى أَنَّ عَيْنَ الْحَائِضِ طَاهِرَةٌ، وَهُنَا عَلَى أَنَّ مُلَاقَاةَ بَدَنِ الطَّاهِرِ وَثِيَابِهِ لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَلَوْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إِذَا كَانَتْ عَيْنِيَّةً قَدْ تَضُرُّ، وَفِيهِ أَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَيْضِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِتُرَابٍ فَيُوضَعُ عَلَى الْخُمْرَةِ فَيَسْجُدُ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى شَيءٍ دُونَ الْأَرْضِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ عُرْوَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌20 - بَاب الصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ

وَصَلَّى جَابِرُ، وَأَبُو سَعِيدٍ فِي السَّفِينَةِ قَائِمًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: قَائِمًا مَا لَمْ تَشُقَّ عَلَى أَصْحَابِكَ تَدُورُ مَعَهَا وَإِلَّا فَقَاعِدًا.

380 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلِأُصَلِّ لَكُمْ. قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا. فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ.

[الحديث 380 - أطرافه في: 1164، 874، 871، 860، 727]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنْ كَانَ مَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَبِيرًا قَدْرَ طُولِ الرَّجُلِ فَأَكْثَرَ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ:

ص: 488

حَصِيرٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ: خُمْرَةٌ. وَكُلُّ ذَلِكَ يُصْنَعُ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ.

قَوْلُهُ: (وَصَلَّى جَابِرٌ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ مَوْلَى أَنَسٍ قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُنَاسٍ قَدْ سَمَّاهُمْ، قَالَ: وَكَانَ إِمَامُنَا يُصَلِّي بِنَّا فِي السَّفِينَةِ قَائِمًا وَنُصَلِّي خَلْفَهُ قِيَامًا، وَلَوْ شِئْنَا لَأَرْفَيْنَا أَيْ لَأَرْسَيْنَا. يُقَالُ أَرْسَى السَّفِينَةَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَأَرْفَى بِالْفَاءِ إِذَا وَقَفَ بِهَا عَلَى الشَّطِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: تُصَلِّي قَائِمًا مَا لَمْ تَشُقَّ عَلَى أَصْحَابِكَ تَدُورُ مَعَهَا) أَيْ مَعَ السَّفِينَةِ (وَإِلَّا فَقَاعِدًا) أَيْ: وَإِنْ شَقَّ عَلَى أَصْحَابِكَ فَصَلِّ قَاعِدًا، وَقَدْ رَوَيْنَا أَثَرَ الْحَسَنِ فِي نُسْخَةِ قُتَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنْهُ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ، وَعَامِرًا - يَعْنِي الشَّعْبِيَّ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: إِنْ قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ فَلْيَخْرُجْ. غَيْرَ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ لَمْ يُؤْذِ أَصْحَابَهُ، أَيْ فَلْيُصَلِّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ عَنِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: صَلِّ فِي السَّفِينَةِ قَائِمًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَشُقَّ عَلَى أَصْحَابِكَ. وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: دُرْ فِي السَّفِينَةِ كَمَا تَدُورُ إِذَا صَلَّيْتَ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ إِدْخَالِ الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا صَلَاةٌ عَلَى غَيْرِ الْأَرْضِ، لِئَلَّا يَتَخَيَّلَ مُتَخَيِّلٌ أَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَرْضِ شَرْطٌ، لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: تَرِّبْ وَجْهَكَ. انْتَهَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَثَرُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي ذَلِكَ، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَجْوِيزِهِ الصَّلَاةَ فِي السَّفِينَةِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَفِي هَذَا الْأَثَرِ جَوَازُ رُكُوبِ الْبَحْرِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْحَمَوِيِّ، وَلِلْبَاقِينَ: إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ) هي بِضَمِّ الْمِيمِ تَصْغِيرُ مَلِكَةٍ، وَالضَّمِيرُ فِي جَدَّتِهِ يَعُودُ عَلَى إِسْحَاقَ، جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَعَبْدُ الْحَقِّ، وَعِيَاضٌ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ. وَجَزَمَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ الْحَصَّارِ بِأَنَّهَا جَدَّةُ أَنَسٍ وَالِدَةُ أُمِّهِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ وَمَنْ تَبِعَهُ وَكَلَامِ عَبْدِ الْغَنِيِّ فِي الْعُمْدَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَيْنَاهُ فِي فَوَائِدِ الْعِرَاقِيِّينَ لِأَبِي الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيَى الْمُقَدَّمِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَرْسَلَتْنِي جَدَّتِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْمُهَا مُلَيْكَةُ فَجَاءَنَا فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، الْحَدِيثَ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: أُمُّ سُلَيْمٍ بِنْتُ مِلْحَانَ، فَسَاقَ نَسَبَهَا إِلَى عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ وَقَالَ: وَهِيَ الْغُمَيْصَاءُ وَيُقَالُ: الرُّمَيْسَاءُ، وَيُقَالُ: اسْمُهَا سَهْلَةُ، وَيُقَالُ: أُنَيْفَةُ أَيْ بِالنُّونِ وَالْفَاءِ الْمُصَغَّرَةِ وَيُقَالُ رُمَيْثَةُ، وَأُمُّهَا مُلَيْكَةُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ عَدِيٍّ، فَسَاقَ نَسَبَهَا إِلَى مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، ثُمَّ قَالَ: تَزَوَّجَهَا أَيْ أُمَّ سُلَيْمٍ مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ فَوَلَدَتْ لَهُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَةَ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَأَبَا عُمَيْرٍ.

قُلْتُ: وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ وَالِدُ إِسْحَاقَ، رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَمِّهِ أَخِي أَبِيهِ لِأُمِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ مَنْ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي جَدَّتِهِ إِلَى إِسْحَاقَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ أُمِّ سُلَيْمٍ مُلَيْكَةَ، وَمُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَفَفْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا هَكَذَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الصُّفُوفِ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ طَوَّلَهَا مَالِكٌ وَاخْتَصَرَهَا سُفْيَانُ، وَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُهَا فَلَا تُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ، وَكَوْنُ مُلَيْكَةَ جَدَّةَ أَنَسٍ لَا يَنْفِي كَوْنَهَا جَدَّةَ إِسْحَاقَ لِمَا بَيَّنَّاهُ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي سَأَذْكُرُهَا عَنْ غَرَائِبِ مَالِكٍ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ مُلَيْكَةَ اسْمُ أُمِّ سُلَيْمٍ نَفْسِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (لِطَعَامٍ) أَيْ لِأَجْلِ طَعَامٍ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَجِيئَهُ كَانَ لِذَلِكَ لَا لِيُصَلِّيَ بِهِمْ لِيَتَّخِذُوا مَكَانَ صَلَاتَهُ مُصَلًّى لَهُمْ كَمَا فِي قِصَّةِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ الْآتِيَةِ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي كَوْنِهِ بَدَأَ فِي قِصَّةِ عِتْبَانَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الطَّعَامِ، وَهُنَا بِالطَّعَامِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَبَدَأَ فِي

ص: 489

كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَصْلِ مَا دُعِيَ لِأَجْلِهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ قُومُوا) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ لِكَوْنِهِ صَلَّى بَعْدَ الطَّعَامِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ عَنِ الْبَغَوِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ مَالِكٍ وَلَفْظُهُ صَنَعَتْ مُلَيْكَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَنَا مَعَهُ، ثُمَّ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (فَلِأُصَلِّيَ لَكُمْ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِحَذْفِ الْيَاءِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: رُوِيَ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَثُبُوتِهَا مَفْتُوحَةً وَسَاكِنَةً، وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّامَ عِنْدَ ثُبُوتِ الْيَاءِ مَفْتُوحَةٌ لَامُ كَيْ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ وَاللَّامُ وَمَصْحُوبُهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ قُومُوا فَقِيَامُكُمْ لِأُصَلِّيَ لَكُمْ، وَيَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ زَائِدَةً وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بِقُومُوا، وَعِنْدَ سُكُونِ الْيَاءِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ أَيْضًا لَامَ كَيْ وَسُكِّنَتِ الْيَاءُ تَخْفِيفًا أَوْ لَامَ الْأَمْرِ وَثَبَتَتِ الْيَاءُ فِي الْجَزْمِ إِجْرَاءً لِلْمُعْتَلِّ مَجْرَى الصَّحِيحِ كَقِرَاءَةِ قُنْبُلٍ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرُ، وَعِنْدَ حَذْفِ الْيَاءِ اللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ، وَأَمْرُ الْمُتَكَلِّمِ نَفْسَهُ بِفِعْلٍ مَقْرُونٍ بِاللَّامِ فَصِيحٌ قَلِيلٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} قَالَ: وَيَجُوزُ فَتْحُ اللَّامِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَوْجِيهَهُ، وَفِيهِ لِغَيْرِهِ بَحْثٌ اخْتَصَرْتُهُ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ لَمْ تَرِدْ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأُصَلِّ بِحَذْفِ اللَّامِ، وَلَيْسَ هُوَ فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ، وَحَكَى ابْنُ قُرْقُولٍ عَنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَلِنُصَلِّ بِالنُّونِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَالْجَزْمِ، وَاللَّامُ عَلَى هَذَا لَامُ الْأَمْرِ وَكَسْرُهَا لُغَةً مَعْرُوفَةٌ.

قَوْلُهُ: (لَكُمْ) أَيْ لِأَجْلِكُمْ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: الْأَمَرُ هُنَا بِمَعْنَى الْخَبَرِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهُمْ بِالِائْتِمَامِ لَكِنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ لِارْتِبَاطِ فِعْلِهمْ بِفِعْلِهِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ) فِيهِ أَنَّ الِافْتِرَاشَ يُسَمَّى لُبْسًا، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حَرِيرًا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالِافْتِرَاشِ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ.

قَوْلُهُ: (فَنَضَحْتُهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّضْحُ لِتَلْيِينِ الْحَصِيرِ أَوْ لِتَنْظِيفِهِ أَوْ لِتَطْهِيرِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْجَزْمُ بِالْأَخِيرِ، بَلِ الْمُتَبَادَرُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ.

قَوْلُهُ: (وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ فَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمُ بِغَيْرِ تَأْكِيدٍ وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ، وَيَجُوزُ فِي الْيَتِيمِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، قَالَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ: الْيَتِيمُ هُوَ ضُمَيْرَةُ جَدُّ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، قَالَ ابْنُ الْحَذَّاءِ: كَذَا سَمَّاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، وَأَظُنُّهُ سَمِعَهُ مِنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ: وَضُمَيْرَةُ هُوَ ابْنُ أَبِي ضُمَيْرَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِي ضُمَيْرَةَ فَقِيلَ رَوْحٌ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. انْتَهَى.

وَوَهِمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَقَالَ: اسْمُ الْيَتِيمِ ضُمَيْرَةُ وَقِيلَ رَوْحٌ، فَكَأَنَّهُ انْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي اسْمِ أَبِيهِ إِلَيْهِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا ذِكْرَ مَنْ قَالَ: إِنَّ اسْمَهُ سُلَيْمٌ وَبِيَانُ وَهْمِهِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَ لَى. وَجَزَمَ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّ اسْمَ أَبِي ضُمَيْرَةَ سَعْدٌ الْحِمْيَرِيُّ وَيُقَالُ: سَعِيدٌ، وَنَسَبَهُ ابْنُ حِبَّانَ لَيْثِيًّا.

قَوْلُهُ: (وَالْعَجُوزُ) هِيَ مُلَيْكَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ انْصَرَفَ) أَيْ إِلَى بَيْتِهِ أَوْ مِنَ الصَّلَاةِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ عُرْسًا وَلَوْ كَانَ الدَّاعِي امْرَأَةً لَكِنْ حَيْثُ تُؤْمَنُ الْفِتْنَةُ، وَالْأَكْلُ مِنْ طَعَامِ الدَّعْوَةِ، وَصَلَاةُ النَّافِلَةِ جَمَاعَةً فِي الْبُيُوتِ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ تَعْلِيمَهُمْ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ بِالْمُشَاهَدَةِ لِأَجْلِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهَا بَعْضُ التَّفَاصِيلِ لِبُعْدِ مَوْقِفِهَا. وَفِيهِ تَنْظِيفُ مَكَانِ الْمُصَلَّى، وَقِيَامُ الصَّبِيِّ مَعَ الرَّجُلِ صَفًّا، وَتَأْخِيرُ النِّسَاءِ عَنْ صُفُوفِ الرِّجَالِ، وَقِيَامُ الْمَرْأَةِ صَفًّا وَحْدَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا امْرَأَةٌ غَيْرُهَا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِذَلِكَ. وَفِيهِ الِاقْتِصَارُ فِي نَافِلَةِ النَّهَارِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ خِلَافًا لِمَنِ اشْتَرَطَ أَرْبَعًا، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ

ص: 490

صِحَّةُ صَلَاةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَوُضُوئِهِ، وَأَنَّ مَحَلَّ الْفَضْلِ الْوَارِدِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ مُنْفَرِدًا حَيْثُ لَا يَكُونُ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ كَالتَّعْلِيمِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالُ: هُوَ إِذْ ذَاكَ أَفْضَلُ وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم.

(تَنْبِيهَانِ): الْأَوَّلُ: أَوْرَدَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَتُعُقِّبَ بِمَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي دَارِ الْأَنْصَارِيِّ الضَّخْمِ الَّذِي دَعَاهُ لِيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا سَيَأْتِي. وَأَجَابَ صَاحِبُ الْقَبَسِ بِأَنَّ مَالِكًا نَظَرَ إِلَى كَوْنِ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ تِلْكَ الصَّلَاةُ هُوَ وَقْتَ صَلَاةِ الضُّحَى فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ أَنَسًا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَوَى بِتِلْكَ الصَّلَاةِ صَلَاةَ الضُّحَى.

الثَّانِي: النُّكْتَةُ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَاللَّهُ يَقُولُ: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} فَقَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَوْ رَآهُ شَاذًّا مَرْدُودًا لِمُعَارَضَتِهِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ كَحَدِيثِ الْبَابِ، بَلْ سَيَأْتِي عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ حَصِيرٌ يَبْسُطُهُ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ.

‌21 - بَاب الصَّلَاةِ عَلَى الْخُمْرَةِ

381 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُمْرَةِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا قَرِيبًا وَأَنَّ ضَبْطَهَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْحَيْضِ، وَكَأَنَّهُ أَفْرَدَهَا بِتَرْجَمَةٍ لِكَوْنِ شَيْخِهِ أَبِي الْوَلِيدِ حَدَّثَهُ بِالْحَدِيثِ مُخْتَصَرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌22 - بَاب الصَّلَاةِ عَلَى الْفِرَاشِ.

وَصَلَّى أَنَسٌ عَلَى فِرَاشِهِ

وَقَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَسْجُدُ أَحَدُنَا عَلَى ثَوْبِهِ

382 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا. قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ.

[الحديث 382 - أطرافه في: 6276، 1209، 997، 519، 515، 514، 513، 512، 511، 508، 384، 383]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْفِرَاشِ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ يَنَامُ عَلَيْهِ مَعَ امْرَأَتِهِ أَمْ لَا، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَشْعَثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُصَلِّي فِي لُحُفِنَا، وَكَأَنَّهُ أَيْضًا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ، أَوْ رَآهُ شَاذًّا مَرْدُودًا، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو دَاوُدَ عِلَّتَهُ.

قَوْلُهُ: (وَصَلَّى أَنَسٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يُصَلِّي عَلَى فِرَاشِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُصَلِّي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَ أَنَسٌ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ بَقِيَّةٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ كَمَا سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِمَعْنَاهُ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَفِيهِ اللَّفْظُ الْمُعَلَّقُ هُنَا

ص: 491

وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الْأَسْوَدَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى الطَّنَافِسِ وَالْفِرَاءِ وَالْمُسُوحِ. وَأَخْرَجَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ جَوَازَ ذَلِكَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى بَأْسًا بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ يَضَعُ جَبْهَتُهُ وَيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ) أَيْ: فِي مَكَانِ سُجُودِهِ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَبَضْتُ رِجْلَيْ) كَذَا بِالتَّثْنِيَةِ لِلْأَكْثَرِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهَا بَسَطْتُهُمَا وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ رِجْلِي بِالْإِفْرَادِ، وَكَذَا بَسَطْتُهَا وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهَا: غَمَزَنِي عَلَى أَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ الْحَائِلِ، أَوْ بِالْخُصُوصِيَّةِ، وَعَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَسَيَأْتِي مَعَ بَقِيَّةِ مَبَاحِثِهِ فِي أَبْوَابِ السُّتْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهَا: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ كَأَنَّهَا أَرَادَتْ بِهِ الِاعْتِذَارَ عَنْ نَوْمِهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ صَارُوا بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَصْبِحُونَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهَا: كُنْتُ أَنَامُ وَقَدْ صَرَّحَتْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ.

383 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عن عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَهِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ.

قَوْلُهُ: (اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ) مَنْصُوبٌ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بِعَامِلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ مُعْتَرِضَةٌ اعْتِرَاضًا كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَكُونُ نَائِمَةً بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ إِلَى جِهَةِ شِمَالِهِ كَمَا تَكُونُ الْجِنَازَةُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي عَلَيْهَا.

384 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَعَائِشَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى الْفِرَاشِ الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَزِيدَ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَعِرَاكٌ هُوَ ابْنُ مَالِكٍ، وَعُرْوَةُ هُوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالثَّلَاثَةُ مِنَ التَّابِعِينَ، وَصُورَةُ سِيَاقِهِ بِهَذَا الْإِرْسَالِ، لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عَائِشَةِ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.

وَالنُّكْتَةُ فِي إِيرَادِهِ أَنَّ فِيهِ تَقْيِيدَ الْفِرَاشِ بِكَوْنِهِ الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَوَّلَ الْبَابِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ قَوْلَهَا: فِرَاشُ أَهْلِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي نَامَ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُهُ، وَفِيهِ أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى النَّائِمِ لَا تُكْرَهُ؛ وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ - إِنْ ثَبَتَتْ - عَلَى مَا إِذَا حَصَلَ شَغْلُ الْفِكْرِ بِهِ.

‌23 - باب السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ

وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ

385 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي غَالِبٌ الْقَطَّانُ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ.

[الحديث 385 - طرفاه في: 1208، 542]

ص: 492

قَوْلُهُ: (بَابُ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ) التَّقْيِيدُ بِشِدَّةِ الْحَرِّ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي الْبَرْدِ كَذَلِكَ، بَلِ الْقَائِلُ بِالْجَوَازِ لَا يُقَيِّدُهُ بِالْحَاجَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ) أَيِ الصَّحَابَةُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

قَوْلُهُ: (وَالْقَلَنْسُوَةُ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَقَدْ تُبْدَلُ يَاءً مُثَنَّاةً مِنْ تَحْتُ، وَقَدْ تُبْدَلُ أَلِفًا وَتُفْتَحُ السِّينُ فَيُقَالُ: قَلَنْسَاةٌ، وَقَدْ تُحْذَفُ النُّونُ مِنْ هَذِهِ بَعْدَهَا هَاءُ تَأْنِيثٍ: غِشَاءٌ مُبَطَّنٌ يُسْتَرُ بِهِ الرَّأْسُ قَالَهُ الْقَزَّازُ فِي شَرْحِ الْفَصِيحِ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: الْعِمَامَةُ الشَّاشِيَّةُ، وَفِي الْمُحْكَمِ: هِيَ مِنْ مَلَابِسِ الرَّأْسِ مَعْرُوفَةٌ، وَقَالَ أَبُو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ: هِيَ الَّتِي تُغَطَّى بِهَا الْعَمَائِمُ وَتَسْتُرُ مِنَ الشَّمْسِ وَالْمَطَرِ، كَأَنَّهَا عِنْدَهُ رَأْسُ الْبُرْنُسِ.

قَوْلُهُ: (وَيَدَاهُ) أَيْ يَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِتَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ بَيَانَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ السُّجُودِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ مَعًا، لَكِنْ فِي كُلِّ حَالَةٍ كَانَ يَسْجُدُ وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَيَدَيْهِ فِي كُمِّهِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَيَجْعَلُ يَدَيْهِ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَسْجُدُونَ وَأَيْدِيهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ، وَيَسْجُدُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَلَى قَلَنْسُوَتِهِ وَعِمَامَتِهِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا غَالِبٌ الْقَطَّانُ)، وَلِلْأَكْثَرِ حَدَّثَنِي بِالْإِفْرَادِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (طَرَفُ الثَّوْبِ) وَلِمُسْلِمٍ بَسَطَ ثَوْبَهُ [وَكَذَا] لِلْمُصَنِّفِ فِي أَبْوَابِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ غَالِبٍ: سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ وَالثَّوْبُ فِي الْأَصْلِ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْمَخِيطِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَخِيطِ مَجَازًا.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الثِّيَابِ وَكَذَا غَيْرُهَا فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَبَيْنَ الْأَرْضِ لِاتِّقَاءِ حَرِّهَا وَكَذَا بَرْدُهَا. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ هُوَ الْأَصْلِيُّ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بَسْطَ الثَّوْبِ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إِجَازَةِ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ الْمُتَّصِلِ بِالْمُصَلِّي، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ، وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الثَّوْبِ الْمُنْفَصِلِ. انْتَهَى. وَأَيَّدَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَمْلَ بِمَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ فَيَأْخُذُ أَحَدُنَا الْحَصَى فِي يَدِهِ فَإِذَا بَرَدَ وَضَعَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ قَالَ: فَلَوْ جَازَ السُّجُودُ عَلَى شَيْءٍ مُتَّصِلٍ بِهِ لَمَا احْتَاجُوا إِلَى تَبْرِيدِ الْحَصَى مَعَ طُولِ الْأَمْرِ فِيهِ. وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي كَانَ يُبَرِّدُ الْحَصَى لَمْ يَكُنْ فِي ثَوْبِهِ فَضْلَةٌ يَسْجُدُ عَلَيْهَا مَعَ بَقَاءِ سُتْرَتِهِ لَهُ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَاجُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ إِلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ لَفْظَ ثَوْبِهِ دَالٌّ عَلَى الْمُتَّصِلِ بِهِ، إِمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَهُوَ تَعْقِيبُ السُّجُودِ بِالْبَسْطِ يَعْنِي: كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَإِمَّا مِنْ خَارِجِ اللَّفْظِ وَهُوَ قِلَّةُ الثِّيَابِ عِنْدَهُمْ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ - وَهُوَ الْأَمْرُ الثَّانِي - يَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ كَوْنِهِ مُتَنَاوِلًا لِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةِ الْمُصَلِّي، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِيهِ جَوَازُ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ فِي الصَّلَاةِ، وَمُرَاعَاةُ الْخُشُوعِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صَنِيعَهُمْ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ التَّشْوِيشِ الْعَارِضِ مِنْ حَرَارَةِ الْأَرْضِ. وَفِيهِ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدِ فِي الْأَمْرِ بِالْإِبْرَادِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَوَاقِيتِ يُعَارِضُهُ، فَمَنْ قَالَ الْإِبْرَادُ رُخْصَةٌ فَلَا إِشْكَالَ، وَمَنْ قَالَ سُنَّةٌ؛ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ التَّقْدِيمُ الْمَذْكُورُ رُخْصَةٌ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ مَنْسُوخٌ بِالْأَمَرِ بِالْإِبْرَادِ. وَأَحْسَنُ مِنْهُمَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ قَدْ تُوجَدُ مَعَ الْإِبْرَادِ فَيَحْتَاجُ إِلَى السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ أَوْ إِلَى تَبْرِيدِ الْحَصَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَمِرُّ حَرُّهُ بَعْدَ الْإِبْرَادِ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ الْإِبْرَادِ وُجُودَ ظِلٍّ يَمْشِي فِيهِ إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ يُصَلِّي فِيهِ فِي الْمَسْجِدِ، أَشَارَ إِلَى هَذَا الْجَمْعِ الْقُرْطُبِيُّ ثُمَّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى تَعَارُضِ الْحَدِيثَيْنِ.

وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمَرْفُوعِ لِاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ

ص: 493

عَلَى تَخْرِيجِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي صَحِيحَيْهِمَا بِلْ وَمُعْظَمُ الْمُصَنِّفِينَ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِي هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الصِّيغَةِ لِكَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كَانَ يَرَى فِيهَا مَنْ خَلْفَهُ كَمَا يَرَى مَنْ أَمَامَهُ فَيَكُونُ تَقْرِيرُهُ فِيهِ مَأْخُوذًا مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ صِيغَةِ كُنَّا نَفْعَلُ.

‌24 - بَاب الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ

386 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مَسْلَمَةَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْأَزْدِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

[الحديث 386 - طرفه في: 5850]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ) بِكَسْرِ النُّونِ جَمْعُ نَعْلٍ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ جَوَازِ تَغْطِيَةِ بَعْضِ أَعْضَاءِ السُّجُودِ.

قَوْلُهُ: (يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ، ثُمَّ هِيَ مِنَ الرُّخَصِ كَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لَا مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَلَابِسِ الزِّينَةِ إِلَّا أَنَّ مُلَامَسَتَهُ الْأَرْضَ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا النَّجَاسَاتُ قَدْ تَقْصُرُ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ مُرَاعَاةُ مَصْلَحَةِ التَّحْسِينِ وَمُرَاعَاةُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ قُدِّمَتِ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَالْأُخْرَى مِنْ بَابِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ. قَالَ: إِلَّا أَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ بِإِلْحَاقِهِ بِمَا يَتَجَمَّلُ بِهِ فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ وَيَتْرُكُ هَذَا النَّظَرَ. قُلْتُ: قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا: خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ. فَيَكُونُ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَوَرَدَ فِي كَوْنِ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ مِنَ الزِّينَةِ الْمَأْمُورِ بِأَخْذِهَا فِي الْآيَةِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ جِدًّا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْعُقَيْلِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.

‌25 - بَاب الصَّلَاةِ فِي الْخِفَافِ

387 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، فَسُئِلَ فَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ هَذَا. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ؛ لِأَنَّ جَرِيرًا كَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْخِفَافِ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِشَارَةَ بِإِيرَادِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ هُنَا إِلَى حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ الْمَذْكُورِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ النَّخَعِيُّ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ كُوفِيُّونَ إِبْرَاهِيمُ وَشَيْخُهُ وَالرَّاوِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى)، ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ صَلَّى فِي خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَزَعَهُمَا بَعْدَ الْمَسْحِ لَوَجَبَ غَسْلُ رِجْلَيْهِ، وَلَوْ غَسَلَهُمَا لَنُقِلَ.

قَوْلُهُ: (فَسُئِلَ)، ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ السَّائِلَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ هَمَّامٌ الْمَذْكُورُ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ فَعَابَ عَلَيْهِ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: كَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ وَمِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْهُ: فَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُعْجِبُهُمْ.

قَوْلُهُ: (مِنْ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ) وَلِمُسْلِمٍ: لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ

ص: 494

وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: قَالُوا إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ - أَيْ مَسْحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخُفَّيْنِ - قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، فَقَالَ جَرِيرٌ: مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ جَرِيرٍ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَقَبْلَ الْمَائِدَةِ أَمْ بَعْدَهَا؟ قَالَ: مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ الْمَائِدَةِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُفَسِّرٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَأَوَّلَ أَنَّ مَسْحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْوُضُوءِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا، فَذَكَرَ جَرِيرٌ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ رَآهُ يَمْسَحُ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، فَكَانَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ يُعْجِبُهُمْ حَدِيثُ جَرِيرٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ رَدًّا عَلَى أَصْحَابِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.

وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ - وَهِيَ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ - دَالَّةٌ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ سَائِرُ مَبَاحِثِهِ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ.

388 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: وَضَّأْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَصَلَّى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ) هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ غَيْرُهُ. وَفِيهِ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: الْأَعْمَشُ وَشَيْخُهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ أَبُو الضُّحَى، وَمَسْرُوقٌ، وَتَرَدُّدُ الْكِرْمَانِيِّ فِي أَنَّ مُسْلِمًا هَلْ هُوَ أَبُو الضُّحَى أَوِ الْبَطِينُ قُصُورٌ، فَقَدْ جَزَمَ الْحُفَّاظُ بِأَنَّهُ أَبُو الضُّحَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ حَيْثُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ تَامًّا فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ.

‌26 - بَاب إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُودَ

389 -

أَخْبَرَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مَهْدِيٌّ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ. قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: لَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 389 - طرفاه في: 808، 7914]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُودَ) كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِيهَا وَالتَّرْجَمَةُ الَّتِي بَعْدَهَا وَحَدِيثُ ابْنِ بُحَيْنَةَ فِيهَا مَوْصُولًا وَمُعَلَّقًا، وَوَقَعَتَا عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ قَبْلَ بَابِ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ وَلَمْ يَقَعْ عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ اللَّائِقِ بِهِ، وَهُوَ أَبْوَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَلَوْلَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ إِعَادَةُ التَّرْجَمَةِ وَحَدِيثُهَا مَعًا لَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ الْأُولَى لِأَبْوَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ شَرْطًا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ كَمَنْ تَرَكَ رُكْنًا. وَمُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ الثَّانِيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمُجَافَاةَ فِي السُّجُودِ لَا تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَلَا تَكُونُ مُبْطِلَةً لِلصَّلَاةِ، وَفِي الْجُمْلَةِ إِعَادَةُ هَاتَيْنِ التَّرْجَمَتَيْنِ هُنَا وَفِي أَبْوَابِ السُّجُودِ الْحَمْلُ فِيهِ عِنْدِي عَلَى النُّسَّاخِ بِدَلِيلِ سَلَامَةِ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَحْفَظُهُمْ.

ص: 495

‌27 - بَاب يُبْدِي ضَبْعَيْهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُودِ

390 -

أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرِ، عَنْ ابْنِ هُرْمُزَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ بْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ نَحْوَهُ.

[الحديث 390 - طرفاه في: 3564، 807]

قَوْلُهُ: (بَابُ يُبْدِي ضَبْعَيْهِ. . . إِلَخْ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ قَبْلُ كَمَا تَرَى.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ ذِكْرِ ابْتِدَاءِ فَرْضِ الصَّلَاةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا، فَإِنْ أَضَفْتَ إِلَيْهَا حَدِيثَيِ التَّرْجَمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ صَارَتْ واحَدًا وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهَا وَفِيمَا تَقَدَّمَ خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَفِيهَا مِنَ الْمُعَلَّقَاتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَإِنْ أَضَفْتَ إِلَيْهَا الْمُعَلَّقَ فِي التَّرْجَمَةِ الثَّانِيَةِ صَارَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، عَشَرَةٌ مِنْهَا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ مُكَرَّرَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ لَا تُوجَدُ فِيهِ إِلَّا مُعَلَّقَةً وَهِيَ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ، وَأَحَادِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَرْهَدٍ، وَابْنِ جَحْشٍ فِي الْفَخِذِ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى جَمِيعِهَا سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَسِوَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِرَامٍ لِعَائِشَةَ وَحَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَمْرِ بِمُخَالَفَةِ طَرَفَيِ الثَّوْبِ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ أَحَدَ عَشَرَ أَثَرًا كُلُّهَا مُعَلَّقَةٌ إِلَّا أَثَرَ عُمَرَ: إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَوَسِّعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّهُ مَوْصُولٌ.

‌28 - بَاب فَضْلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ

قَالَه أَبُو حُمَيْدٍ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

391 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمَهْدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ.

[الحديث 391 - طرفاه في: 393، 392]

‌(أَبْوَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ

وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ آدَابِ الْمَساجِدِ).

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ. يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ - قَالَهُ أَبُو حُمَيْدٍ) يَعْنِي: السَّاعِدِيَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي: فِي صِفَةِ صَلَاتِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِهِ، وَالْمُرَادُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ رُءُوسُ أَصَابِعِهَا، وَأَرَادَ بِذِكْرِهِ هُنَا بَيَانُ مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِقْبَالِ بِجَمِيعِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْأَعْضَاءِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ) بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ، وَمَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ ثُمَّ هَاءٍ مُنَوَّنَةٍ وَيَجُوزُ تَرْكُ صَرْفِهِ، وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ مَعْنَاهُ الْأَسْوَدُ، وَقِيلَ: عَرَبِيٌّ.

قَوْلُهُ: (ذِمَّةُ اللَّهِ) أَيْ: أَمَانَتُهُ وَعَهْدُهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَا تُخْفِرُوا) بِالضَّمِّ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، أَيْ: لَا تَغْدِرُوا، يُقَالُ: أَخَفَرْتُ إِذَا غَدَرْتُ، وَخَفَرْتُ إِذَا حَمَيْتُ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَخَفَرْتُ لِلْإِزَالَةِ، أَيْ: تَرَكْتُ حِمَايَتَهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) أَيْ: وَلَا رَسُولِهِ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، أَوْ لِاسْتِلْزَامِ الْمَذْكُورِ الْمَحْذُوفِ، وَقَدْ أَخَذَ بِمَفْهُومِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَلَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَفِي الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ شَأْنِ الْقِبْلَةِ، وَذَكَرَ الِاسْتِقْبَالَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِلتَّنْوِيهِ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الصَّلَاةِ لِكَوْنِهِ مِنْ

ص: 496

شُرُوطِهَا. وَفِيهِ أَنَّ أُمُورَ النَّاسِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الظَّاهِرِ، فَمَنْ أَظْهَرَ شِعَارَ الدِّينِ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ أَهْلِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ.

392 -

حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ) هُوَ ابْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، عَنِ الْبُخَارِيِّ: قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِغَيْرِ ذِكْرِ نُعَيْمٍ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَقَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمٍ مَوْصُولًا فِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَتَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ مُوسَى، وَسَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) اقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الرِّسَالَةَ وَهِيَ مُرَادَةٌ كَمَا تَقُولُ: قَرَأْتُ الْحَمْدُ وَتُرِيدُ السُّورَةَ كُلَّهَا، وَقِيلَ: أَوَّلُ الْحَدِيثِ وَرَدَ فِي حَقِّ مَنْ جَحَدَ التَّوْحِيدَ فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ صَارَ كَالْمُوَحِّدِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَلِهَذَا عَطَفَ الْأَفْعَالَ الْمَذْكُورَةَ عَلَيْهَا فَقَالَ: وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا. . . إِلَخْ. وَالصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلشَّهَادَةِ بِالرِّسَالَةِ، وَحِكْمَةُ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَفْعَالِ أَنَّ مَنْ يُقِرَّ بِالتَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ صَلَّوْا وَاسْتَقْبَلُوا وَذَبَحُوا لَكِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ مِثْلَ صَلَاتِنَا وَلَا يَسْتَقْبِلُونَ قِبْلَتَنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْبَحُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْكُلُ ذَبِيحَتَنَا، وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى حَالِ الْمَرْءِ فِي صَلَاتِهِ وَأَكْلِهِ يُمْكِنُ بِسُرْعَةٍ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ، بِخِلَافِ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ.

قَوْلُهُ: (فَقَدْ حَرُمَتْ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الرَّاءِ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ سَائِرُ مَبَاحِثِهِ فِي بَابِ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ.

393 -

قَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ: سَأَلَ مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ، أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ مَا يُحَرِّمُ دَمَ الْعَبْدِ وَمَالَهُ؟ فَقَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلَاتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَهُوَ الْمُسْلِمُ: لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هو ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَفَائِدَةُ إِيرَادِ هَذَا الْإِسْنَادِ تَقْوِيَةُ رِوَايَةِ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ لِمُتَابَعَةِ حُمَيْدٍ لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَمَا يُحَرِّمُ) بِالتَّشْدِيدِ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ قَبْلَ هَذَا وَعَنْ هَذَا، وَالْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ وَسَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِ حُمَيْدٍ: سَأَلَ مَيْمُونٌ، أَنَسًا التَّصْرِيحَ بِكَوْنِهِ حَضَرَ ذَلِكَ عَقِبهُ بِطَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ الَّتِي فِيهَا تَصْرِيحُ حُمَيْدٍ بِأَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهُ دَلَّسَهُ، وَلِتَصْرِيحِهِ أَيْضًا بِالرَّفْعِ، وَإِنْ كَانَ لِلْأُخْرَى حِكْمَةٌ.

وَقَدْ رَوَيْنَا طَرِيقَ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ مَوْصُولَةً فِي الْإِيمَانِ لِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، وَلِابْنِ مَنْدَهْ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْمَذْكُورِ. وَأَعَلَّ الْإِسْمَاعِيلِيُّ طَرِيقَ حُمَيْدٍ الْمَذْكُورَةَ فَقَالَ: الْحَدِيثُ حَدِيثُ مَيْمُونٍ، وَحُمَيْدٌ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِرِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ مَيْمُونٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا، قَالَ:

ص: 497

وَحَدِيثُ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ - يَعْنِي فِي التَّصْرِيحِ بِالتَّحْدِيثِ - قَالَ: لِأَنَّ عَادَةَ الْمِصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ ذِكْرُ الْخَبَرِ فِيمَا يَرْوُونَهُ. قُلْتُ هَذَا التَّعْلِيلُ مَرْدُودٌ، وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ، لَمْ يُوثَقْ بِرِوَايَةِ مُدَلِّسٍ أَصْلًا وَلَوْ صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ، وَالْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ.

وَرِوَايَةُ مُعَاذٍ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى أَنَّ حُمَيْدًا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَنَسٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ أَنَسٍ ثُمَّ يَسْتَثْبِتَ فِيهِ مِنْ مَيْمُونٍ - لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ - فَكَانَ حَقِيقًا بِضَبْطِهِ فَكَانَ حُمَيْدٌ تَارَةً يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ أَنَسٍ لِأَجْلِ الْعُلُوِّ، وَتَارَةً عَنْ مَيْمُونٍ لِكَوْنِهِ ثَبَّتَهُ فِيهِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ حُمَيْدٍ بِهَذَا يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ وَثَبَّتَنِي فِيهِ ثَابِتٌ وَكَذَا وَقَعَ لِغَيْرِ حُمَيْدٍ.

‌29 - بَاب قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ وَالْمَشْرِقِ، لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلَا فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا

394 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا. قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّام فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى.

وَعَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. . . . مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ وَالْمَشْرِقِ) نَقَلَ عِيَاضٌ أَنَّ رِوَايَةَ الْأَكْثَرِ ضَمُّ قَافِ الْمَشْرِقِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى بَابٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، وَالَّذِي فِي رِوَايَتِنَا بِالْخَفْضِ، وَوَجَّهَ السُّهَيْلِيُّ رِوَايَةَ الضَّمِّ بِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُ حُكْمِ الْمَشْرِقِ فِي الْقِبْلَةِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْمَدِينَةِ، بِخِلَافِ الشَّامِ فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ. وَأَجَابَ ابْنُ رَشِيدٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ حُكْمِ الْقِبْلَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَوَاءٌ تَوَافَقَتِ الْبِلَادُ أَمِ اخْتَلَفَتْ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلَا فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ) هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ تَفَقُّهِ الْمُصَنِّفِ، وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمُخَاطَبِينَ وَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَيَلْحَقُ بِهِمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ سَمْتِهِمْ مِمَّنْ إِذَا اسْتَقْبَلَ الْمَشْرِقَ أَوْ الْمَغْرِبَ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَمْ يَسْتَدْبِرْهَا، أَمَّا مَنْ كَانَ فِي الْمَشْرِقِ فَقِبْلَتُهُ فِي جِهَةِ الْمَغْرِبِ وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ، وَهَذَا مَعْقُولٌ لَا يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَى الْبُخَارِيِّ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ كَلَامِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلَا فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةً، أَيْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَخْصِيصِهِ الْمَدِينَةَ وَالشَّامَ بِالذِّكْرِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ مَغْرِبَ الْأَرْضِ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ الْمَشْرِقِ، إِذِ الْعِلَّةُ مُشْتَرَكَةٌ، وَلِأَنَّ الْمَشْرِقَ أَكْثَرُ الْأَرْضِ الْمَعْمُورَةِ، وَلِأَنَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ فِي جِهَةِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ قَلِيلَةٌ. انْتَهَى.

قَوْلُهُ: (وَعَنِ الزُّهْرِيِّ) يَعْنِي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ سُفْيَانَ حَدَّثَ بِهِ عَلِيًّا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً صَرَّحَ بِتَحْدِيثِ الزُّهْرِيِّ لَهُ وَفِيهِ عَنْعَنَةُ عَطَاءٍ، وَمَرَّةً أَتَى بِالْعَنْعَنَةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَبِتَصْرِيحِ عَطَاءٍ بِالسَّمَاعِ. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ مُعَلَّقَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَالَ فِي الْأَوَّلِ عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي الثَّانِي سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ الثَّانِي أَقْوَى؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ أَقْوَى مِنَ الْعَنْعَنَةِ وَالْعَنْعَنَةُ أَقْوَى مِنْ أَنَّ لَكِنْ فِيهِ ضَعْفٌ مِنْ جِهَةِ التَّعْلِيقِ حَيْثُ قَالَ: وَعَنِ الزُّهْرِيِّ انْتَهَى، وَفِي دَعْوَاهُ ضَعْفُ أَنَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَنْ نَظَرٌ، فَكَأَنَّهُ قَلَّدَ فِي ذَلِكَ نَقْلَ ابْنِ الصَّلَاحِ، عَنْ أَحْمَدَ، وَيَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ، وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِهِ مَنْظُومَتَهُ وَهْمَ

ص: 498

ابْنِ الصَّلَاحِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنَ التَّعْبِيرِ بِأَنَّ مَا إِذَا أَضَافَ إِلَيْهَا قِصَّةَ مَا أَدْرَكَهَا الرَّاوِي، وَأَمَّا جَزْمُهُ بِكَوْنِ السَّنَدِ الثَّانِي مُعَلَّقًا فَهُوَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَإِلَّا فَحَمْلُهُ عَلَى مَا قَبْلِهِ مُمْكِنٌ، وَقَدْ رَوَيْنَاهَا فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. فَذَكَرَ مِثْلَ سِيَاقِهَا سَوَاءً، فَعَلَى هَذَا فَلَا ضَعْفَ فِيهِ أَصْلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَوَائِدُ الْمَتْنِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ.

‌30 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}

395 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ، عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ للعُمْرَةَ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.

[الحديث 395 - أطرافه في: 1793، 1647، 1645، 1627، 1623]

396 -

وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: لَا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

[الحديث 396 - أطرافه في: 1794، 1646، 1624]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا: وَاتَّخِذُوا بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْأَمْرِ وَهِيَ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى بِالْفَتْحِ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْأَمْرُ دَالٌّ عَلَى الْوُجُوبِ، لَكِنِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إِلَى جَمِيعِ جِهَاتِ الْكَعْبَةِ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّخْصِيصِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الْحَجَرُ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمَيْهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ إِلَى الْآنِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرَمُ كُلُّهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقَدْ ثَبَتَ دَلِيلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: {مُصَلًّى} أَيْ قِبْلَةً قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ مُدَّعًى يُدْعَى عِنْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى فِيهِ بَلْ عِنْدَهُ، وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْحَسَنِ بِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى عَدَمِ التَّخْصِيصِ أَيْضًا بِصَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، فَلَوْ تَعَيَّنَ اسْتِقْبَالُ الْمَقَامِ لَمَا صَحَّتْ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِهِ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ بِلَالٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ رَوَى الْأَزْرَقِيُّ فِي أَخْبَارِ مَكَّةَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ أَنَّ الْمَقَامَ كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْآنَ، حَتَّى جَاءَ سَيْلٌ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَاحْتَمَلَهُ حَتَّى وُجِدَ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ، فَأُتِيَ بِهِ فَرُبِطَ إِلَى أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ حَتَّى قَدِمَ عُمَرُ فَاسْتَثْبَتَ فِي أَمْرِهِ حَتَّى تَحَقَّقَ مَوْضِعَهُ الْأَوَّلَ فَأَعَادَهُ إِلَيْهِ وَبَنَى حَوْلَهُ فَاسْتَقَرَّ ثَمَّ إِلَى الْآنَ.

قَوْلُهُ: (طَافَ بِالْبَيْتِ لِلْعُمْرَةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ طَافَ بِالْبَيْتِ لِعُمْرَةٍ بِحَذْفِ اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: لِلْعُمْرَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهَا لِيَصِحَّ الْكَلَامُ.

قَوْلُهُ: (أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ) أَيْ هَلْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ الْجِمَاعُ وَغَيْرُهُ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ؟ وَخَصَّ إِتْيَانَ الْمَرْأَةِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَجَابَهُمُ ابْنُ عُمَرَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا سِيَّمَا فِي أَمْرِ الْمَنَاسِكِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، وَأَجَابَهُمْ جَابِرٌ بِصَرِيحِ النَّهْيِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَخَالَفَ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَجَازَ لِلْمُعْتَمِرِ التَّحَلُّلَ بَعْدَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ السَّعْيِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى.

وَالْمُنَاسِبُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ

ص: 499

وَقَدْ يُشْعِرُ بِحَمْلِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخِذُوا عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِرَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ خَلْفَ الْمَقَامِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ فِي الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

397 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سَيْفٍ - يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ - قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ: أُتِيَ ابْنُ عُمَرَ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَأَقْبَلْتُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَرَجَ، وَأَجِدُ بِلَالًا قَائِمًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَسَأَلْتُ بِلَالًا فَقُلْتُ: أَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ.

[الحديث 397 - أطرافه في: 4400، 4289، 2988، 1599، 1598، 1167، 506، 505، 504، 468]

قَوْلُهُ: (عَنْ سَيْفٍ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ أَوِ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ الْمَكِّيُّ.

قَوْلُهُ: (أَتَى ابْنُ عُمَرَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَأَجِدُ) بَعْدَ قَوْلِهِ: (فَأَقْبَلْتُ) وَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ: وَوَجَدْتُ، وَكَأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الصُّورَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُخَاطَبَ يُشَاهِدُهَا.

قَوْلُهُ: (قَائِمًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ) أَيْ الْمِصْرَاعَيْنِ وَحَمَلَهُ الْكِرْمَانِيُّ تَجْوِيزًا عَلَى حَقِيقَةِ التَّثْنِيَةِ وَقَالَ: أَرَادَ بِالْبَابِ الثَّانِي الَّذِي لَمْ تَفْتَحْهُ قُرَيْشٌ حِينَ بَنَتِ الْكَعْبَةَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، أَوْ كَانَ إِخْبَارُ الرَّاوِي بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ فَتَحَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ وَجَدَ بِلَالًا فِي وَسَطِ الْكَعْبَةِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ: بَيْنَ النَّاسِ بِنُونٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ وَهِيَ أَوْضَحُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ) أَيْ صَلَّى رَكْعتَيْنِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا مَعَ أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ وَغَيْرِهِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ: كَمْ صَلَّى قَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِالْكَيْفِيَّةِ وَهِيَ تَعْيِينُ الْمَوْقِفِ فِي الْكَعْبَةِ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِالْكَمِّيَّةِ، وَنَسِيَ هُوَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهَا، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اعْتَمَدَ فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ رَكْعَتَيْنِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَحَقِّقِ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ بِلَالًا أَثْبَتَ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى وَلَمْ يَنْقُلْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَنَفَّلَ فِي النَّهَارِ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَتِ الرَّكْعَتَانِ مُتَحَقِّقًا وُقُوعُهُمَا لِمَا عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ عَادَتِهِ. فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: رَكْعَتَيْنِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ لَا مِنْ كَلَامِ بِلَالٍ. وَقَدْ وَجَدْتُ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَمْعا آخَر بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَاسْتَقْبَلَنِي بِلَالٌ فَقُلْتُ: مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَاهُنَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَيْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى؛ فَعَلَى هَذَا فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: نَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ

ص: 500

كَمْ صَلَّى عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ لَفْظًا وَلَمْ يُجِبْهُ لَفْظًا، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ مِنْهُ صَلَاةَ الرَّكْعَتَيْنِ بِإِشَارَتِهِ لَا بِنُطْقِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ هَلْ زَادَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ أَوْ لَا. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَسِيَ أَنْ يَسْأَلَ بِلَالًا ثُمَّ لَقِيَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَسَأَلَهُ، فَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْقِصَّةَ - وَهِيَ سُؤَالُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ صَلَاتِهِ فِي الْكَعْبَةِ - لَمْ تَتَعَدَّدْ؛ لِأَنَّهُ أَتَى فِي السُّؤَالِ بِالْفَاءِ الْمُعَقِّبَةِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مَعًا، فَقَالَ فِي هَذِهِ فَأَقْبَلْتُ ثُمَّ قَالَ: فَسَأَلْتُ بِلَالًا، وَقَالَ فِي الْأُخْرَى فَبَدَرْتُ فَسَأَلْتُ بِلَالًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ وَاحِدًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

ثَانِيهُمَا: أَنَّ رَاوِيَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَنَسِيتُ هُوَ نَافِعٌ مَوْلَاهُ وَيَبْعُدُ مَعَ طُولِ مُلَازَمَتِهِ لَهُ إِلَى وَقْتِ مَوْتِهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى حِكَايَةِ النِّسْيَانِ وَلَا يَتَعَرَّضَ لِحِكَايَةِ الذِّكْرِ أَصْلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ أَنَّ قَوْلَهُ: رَكْعَتَيْنِ غَلَطٌ مِنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ قَالَ: نَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى قَالَ: وَإِنَّمَا دَخَلَ الْوَهْمُ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدُ، فَهُوَ كَلَامٌ مَرْدُودٌ، وَالْمُغَلِّطُ هُوَ الْغَالِطُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلُ وَبَعْدُ فَلَمْ يَهِمْ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِذَلِكَ حَتَّى يُغَلَّطَ، فَقَدْ تَابَعَهُ أَبُو نُعَيْمٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَبُو عَاصِمٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ كُلُّهُمْ عَنْ سَيْفٍ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ سَيْفٌ أَيْضًا فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عِنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا بِاخْتِصَارٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلْتُ مَنْ كَانَ مَعَهُ فَقَالُوا: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ السَّارِيَةِ الْوُسْطَى أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَمِنْ حَدِيثِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: لَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْعَمُودَيْنِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، فَالْعَجَبُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى تَغْلِيطِ جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ الْحِفْظِ بِقَوْلِ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَقَالَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَوْ سَكَتَ لَسَلِمَ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ) أَيْ مُوَاجِهُ بَابِ الْكَعْبَةِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الظَّاهِرُ مِنَ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ - أَيْ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْبَابِ - قُلْتُ: قَدَّمْنَا أَنَّهُ خِلَافُ الْمَنْقُولِ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَقَدَّمْنَا أَيْضًا مُنَاسَبَةَ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْمَقَامِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْكَعْبَةِ، مَنْ صَلَّى فِيهَا فَقَدْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا خَلْفَهُ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ أَيْضًا فِي إِيرَادِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْبَابِ.

398 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ. فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ.

[الحديث 398 - اطرافه في: 4288، 3352، 3351، 1601]

قَوْلُهُ: (إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ) كَذَا وَقَعَ مَنْسُوبًا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الطَّرْقِيُّ فِي الْأَطْرَافِ لَهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ إِسْحَاقَ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ شَيْخِ إِسْحَاقَ بْنِ نَصْرٍ فِيهِ بِإِسْنَادِهِ هَذَا فَجَعَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَهُوَ الْأَرْجَحُ، وَسَيَأْتِي وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ رِوَايَةِ بِلَالٍ الْمُثْبِتَةِ لِصَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ وَبَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ النَّافِيَةِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ) بِضَمِّ الْقَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ تُسَكَّنُ أَيْ مُقَابِلِهَا أَوْ مَا اسْتَقْبَلَكَ مِنْهَا وَهُوَ وَجْهُهَا، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ السَّالِفَةِ.

قَوْلُهُ: (هَذِهِ الْقِبْلَةُ) الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ تَقْرِيرُ حُكْمِ الِانْتِقَالِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ حُكْمَ مَنْ شَاهَدَ الْبَيْتَ وُجُوبُ مُوَاجَهَةِ عَيْنِهِ جَزْمًا بِخِلَافِ الْغَائِبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِاسْتِقْبَالِهِ لَيْسَ هُوَ الْحَرَمَ كُلَّهُ وَلَا مَكَّةَ وَلَا الْمَسْجِدَ الَّذِي حَوْلَ الْكَعْبَةِ بَلِ الْكَعْبَةُ نَفْسُهَا، أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَى وَجْهِ الْكَعْبَةِ أَيْ هَذَا مَوْقِفُ الْإِمَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبَشِيٍّ الْخَثْعَمِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْبَابَ قِبْلَةُ

ص: 501

الْبَيْتِ

(1)

وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ اسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌31 - بَاب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ.

399 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ - أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ - شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ - وَهُمْ الْيَهُودُ -:{مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَمَا صَلَّى فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ. فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ) أَيْ حَيْثُ وُجِدَ الشَّخْصُ فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ كَمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي فِي الْبَابِ وَهُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ فِي قِصَّةِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْبَرَاءِ) تَقَدَّمَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ بَيَانُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مُصَرِّحًا بِتَحْدِيثِ الْبَرَاءِ لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ) جَاءَ بَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ - وَالْيَهُودُ أَكْثَرُ أَهْلِهَا - يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ، فَاسْتَقْبَلَهَا سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ يَدْعُو وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتْ.

وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: يُخَالِفُنَا مُحَمَّدٌ وَيَتْبَعُ قِبْلَتَنَا، فَنَزَلَتْ.

وَظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، لَكِنْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ أُمِرَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا هَاجَرَ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الصَّلَاةِ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ

(2)

مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَصَلَّى ثَلَاثَ حِجَجٍ، ثُمَّ هَاجَرَ فَصَلَّى إِلَيْهِ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ وَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ. فَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَوَّلِ أَمَرَهُ اللَّهُ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاجْتِهَادٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَتَأَلَّفُ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ بِتَوْقِيفٍ.

قَوْلُهُ: (نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) أَيْ بِالْمَدِينَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ

(1)

في هامش طبعة بولاق: في نسخة "قبلة ابراهيم"

(2)

في مخطوطة الرياض "الطبري"

ص: 502

مِنَ الْإِيمَانِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ تَحْرِيرُ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَنَّهَا سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا وَأَيَّامٌ.

قَوْلُهُ: (يُوَجَّهُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ يُؤْمَرُ بِالتَّوَجُّهِ.

قَوْلُهُ: (فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا رَجُلٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ أَنَّ اسْمُهُ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَتَحْتَاجُ رِوَايَةُ الْمُسْتَمْلِي إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ خَرَجَ أَيْ بَعْضُ أُولَئِكَ الرِّجَالِ.

قَوْلُهُ: (فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَفِيهِ إِفْصَاحٌ بِالْمُرَادِ. وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ثُوَيْلَةَ بِنْتِ أَسْلَمَ صَلَّيْتُ الظُّهْرَ - أَوِ الْعَصْرَ - فِي مَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ فَاسْتَقْبَلْنَا مَسْجِدَ إِيلْيَاءَ فَصَلَّيْنَا سَجْدَتَيْنِ - أَيْ رَكْعَتَيْنِ - ثُمَّ جَاءَنَا مَنْ يُخْبِرُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي تَحَوَّلَتِ الْقِبْلَةُ عِنْدَهَا، وَكَذَا فِي الْمَسْجِدِ فَظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ هَذَا أَنَّهَا الظُّهْرُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ قَالَ: يُقَالُ إِنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ فِي مَسْجِدِهِ بِالْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أُمِرَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَاسْتَدَارَ إِلَيْهِ وَدَارَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَيُقَالُ زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فِي بَنِي سَلَمَةَ فَصَنَعَتْ لَهُ طَعَامًا وَحَانَتِ الظُّهْرُ فَصَلَّى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أُمِرَ فَاسْتَدَارَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَاسْتَقْبَلَ الْمِيزَابَ فَسُمِّيَ مَسْجِدَ الْقِبْلَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: هَذَا أَثْبَتُ عِنْدَنَا.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ حِينَ صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ، فَدَارَ وَدُرْنَا مَعَهُ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِوَجْهِهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، ولِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا ضَعْفٌ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ) أَيِ الرَّجُلُ (هُوَ يَشْهَدُ) يَعْنِي بِذَلِكَ نَفْسَهُ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي نَقَلَ كَلَامَهُ بِالْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْإِيمَانِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ هُنَاكَ.

400 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ. فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.

[الحديث 400 - أطرافه في: 4140، 1099، 1094]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ: ابْنُ إِبِرَاهِيمَ (قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ: ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الدَّسْتُوائِيُّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ ابْنِ ثَوْبَانَ الْعَامِرِيِّ الْمَدَنِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحُ عَنْ جَابِرٍ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي طَبَقَتِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ جَابِرٍ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (حَيْثُ تَوَجَّهْتُ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ: بِهِ. وَالْحَدَيثُ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ تَرْكِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةَ فِي الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ، لَكِنْ رَخَّصَ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ.

401 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ - فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا. فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ. فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ: إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي،

ص: 503

وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ.

[الحديث 401 - أطرافه في 7249، 6671، 1226، 404]

قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ غَيْرُهُ.

وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مِنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) أَيِ الرَّاوِي الْمَذْكُورُ (لَا أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ شَكَّ فِي سَبَبِ سُجُودِ السَّهْوِ الْمَذْكُورِ هَلْ كَانَ لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ، لَكِنْ سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْنَادِهِ هَذَا أَنَّهُ صَلَّى خَمْسًا، وَهُوَ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِالزِّيَادَةِ، فَلَعَلَّهُ شَكَّ لَمَّا حَدَّثَ مَنْصُورًا وَتَيَقَّنَ لَمَّا حَدَّثَ الْحَكَمَ.

وَقَدْ تَابَعَ الْحَكَمُ عَلَى ذَلِكَ حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَطَلْحَةَ بْنَ مُصَرِّفٍ وَغَيْرَهُمَا، وَعَيَّنَ فِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ أَيْضًا وَحَمَّادٍ أَنَّهَا الظُّهْرُ، وَوَقَعَ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهَا الْعَصْرُ، وَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ.

قَوْلُهُ: (أَحَدَثَ) بِفَتَحَاتٍ وَمَعْنَاهُ السُّؤَالُ عَنْ حُدُوثِ شَيْءٍ مِنَ الْوَحْيِ يُوجِبُ تَغْيِيرَ حُكْمِ الصَّلَاةِ عَمَّا عَهِدُوهُ، وَدَلَّ اسْتِفْهَامُهُمْ عَنْ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شُعُورٌ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ السَّهْوِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْأَفْعَالِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالنُّظَّارِ، وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ السَّهْوُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ: أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، وَلِقَوْلِهِ: فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، أَيْ بِالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: لَوْ حَدَثَ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.

وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهَ: (فَثَنَى رِجْلَهُ) ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ رِجْلَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ، (وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ تَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى رُجُوعِ الْإِمَامِ إِلَى قَوْلِ الْمَأْمُومِينَ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَذَكَّرَ عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ عَلِمَ بِالْوَحْيِ أَوْ أَنَّ سُؤَالَهُمْ أَحْدَثَ عِنْدَهُ شَكًّا فَسَجَدَ لِوُجُودِ الشَّكِّ الَّذِي طَرَأَ لَا لِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ فَلْيَقْصِدْ، وَالْمُرَادُ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا مَعَ بَقِيَّةِ مَبَاحِثِهِ فِي أَبْوَابِ السَّهْوِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌32 - بَاب مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ، وَمَنْ لَا يَرَى الْإِعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ

وَقَدْ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ ثُمَّ أَتَمَّ مَا بَقِيَ

402 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وَآيَةُ الْحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

[الحديث 402 - أطرافه في: 4916، 4790، 4483]

ص: 504

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا بِهَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ) أَيْ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ (وَمَنْ لَمْ يَرَ الْإِعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ) وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إِذَا تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا تَجِبُ فِي الْوَقْتِ لَا بَعْدَهُ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ يُعِيدُ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ مُطْلَقًا. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ الْأَوَّلِينَ، لَكِنْ قَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. . . إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ وَهُوَ مَوْصُولٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ، لَكِنَّ قَوْلُهُ: وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ لَيْسَ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْصُولًا، لَكِنَّهُ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَوَهِمَ ابْنُ التِّينِ تَبَعًا لِابْنِ بَطَّالٍ حَيْثُ جَزَمَ بِأَنَّهُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَاضِي؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذَا التَّعْلِيقِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ بِنَاءَهُ عَلَى الصَّلَاةِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ اسْتِدْبَارِهِ الْقِبْلَةَ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ سَاهِيًا لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ) هُوَ مِنْ رِوَايَةِ صَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ، لَكِنَّهُ صَغِيرٌ عَنْ كَبِيرٍ.

قَوْلُهُ: (وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ) أَيْ وَقَائِعَ، وَالْمَعْنَى: وَافَقَنِي رَبِّي فَأَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى وَفْقِ مَا رَأَيْتُ، لَكِنْ لِرِعَايَةِ الْأَدَبِ أَسْنَدَ الْمُوَافَقَةَ إِلَى نَفْسِهِ، أَوْ أَشَارَ بِهِ إِلَى حُدُوثِ رَأْيهِ وَقِدَمِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ فِي تَخْصِيصِهِ الْعَدَدَ بِالثَّلَاثِ مَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ الْمُوَافَقَةُ فِي أَشْيَاءَ غَيْرِ هَذِهِ مِنْ مَشْهُورِهَا قِصَّةُ أُسَارَى بَدْرٍ وَقِصَّةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُمَا فِي الصَّحِيحِ، وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ مَا نَزَلَ بِالنَّاسِ أَمْرٌ قَطُّ فَقَالُوا فِيهِ وَقَالَ فِيهِ عُمَرُ إِلَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ عُمَرُ، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى كَثْرَةِ مُوَافَقَتِهِ، وَأَكْثَرُ مَا وَقَفْنَا مِنْهَا بِالتَّعْيِينِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ لَكِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَنْقُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحِجَابِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَعَلَى مَسْأَلَةِ التَّخْيِيرِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسَى رَبُّهُ. . . إِلَخْ وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ زِيَادَةً يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا فِي بَابِ عِشْرَةِ النِّسَاءِ فِي أَوَاخِرِ النِّكَاحِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ اللَّائِقُ إِيرَادَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الْمَاضِي وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِلتَّنْصِيصِ فِيهِ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا فَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا مُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ فَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّرْجَمَةِ مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِالْكَعْبَةِ فَظَاهِرٌ، أَوْ بِالْحَرَمِ كُلِّهِ فَمِنْ فِي قَوْلِهِ:{مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} لِلتَّبْعِيضِ، وَمُصَلًّى أَيْ قِبْلَةً، أَوْ بِالْحَجَرِ الَّذِي وَقَفَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَيَكُونَ تَعَلُّقُهُ بِالْمُتَعَلِّقِ بِالْقِبْلَةِ لَا بِنَفْسِ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ تَعَلُّقَ الْحَدِيثِ بِالتَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ اجْتَهَدَ فِي أَنِ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلَّى إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ فَاخْتَارَ إِحْدَى جِهَاتِ الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ، وَحَصَلَتْ مُوَافَقَتُهُ عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى تَصْوِيبِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ إِذَا بَذَلَ وُسْعَهُ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَفَائِدَةُ إِيرَادِ هَذَا الْإِسْنَادِ مَا فِيهِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِسَمَاعِ حُمَيْدٍ مِنْ أَنَسٍ فَأُمِنَ مِنْ تَدْلِيسِهِ، وَقَوْلُهُ:(بِهَذَا) أَيْ إِسْنَادًا وَمَتْنًا، فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ، عَنْ

ص: 505

عُمَرَ لَا مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَفَائِدَةُ التَّعْلِيقِ الْمَذْكُورِ تَصْرِيحُ حُمَيْدٍ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَإِنْ خَرَّجَ لَهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ. وَأَقُولُ: وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَابَعَاتِ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ بِالتَّصْرِيحِ الْمَذْكُورِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يُوسُفَ الْقَاضِي، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزُّهْرَانِيِّ، عَنْ هُشَيْمٍ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

403 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّام فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.

[الحديث 403 - أطرافه في: 7251، 4494، 4491، 4490، 4488]

قَوْلُهُ: (بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ) بِالْمَدِّ وَالصَّرْفِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ وَعَدَمُ الصَّرْفِ وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ: مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَسْجِدُ أَهْلِ قُبَاءَ فَفِيهِ مَجَازُ الْحَذْفِ، وَاللَّامُ فِي النَّاسِ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ وَالْمُرَادُ أَهْلُ قُبَاءَ وَمَنْ حَضَرَ مَعَهُمْ.

قَوْلُهُ: (فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ) وَلِمُسْلِمٍ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ وَهُوَ أَحَدُ أَسْمَائِهَا، وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ كَرَاهِيَةَ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ. وَهَذَا فِيهِ مُغَايَرَةٌ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَالْجَوَابُ أَنْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَصَلَ وَقْتَ الْعَصْرِ إِلَى مَنْ هُوَ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَالْآتِي إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ أَوِ ابْنُ نَهِيكٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ وَقْتَ الصُّبْحِ إِلَى مَنْ هُوَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَهُمْ بَنُو عَمْرو بْنِ عَوْفٍ أَهْلُ قُبَاءٍ وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يُسَمَّ الْآتِي بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ طَاهِرٍ وَغَيْرُهُ نَقَلُوا أَنَّهُ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَقِّ بَنِي حَارِثَةَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَإِنْ كَانَ مَا نَقَلُوا مَحْفُوظًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبَّادٌ أَتَى بَنِي حَارِثَةَ أَوَّلًا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى أَهْلِ قُبَاءٍ فَأَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِهِمَا أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَلَمَةَ مَرَّ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ، وَبَنُو سَلَمَةَ غَيْرُ بَنِي حَارِثَةَ.

قَوْلُهُ: (قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ) فِيهِ إِطْلَاقُ اللَّيْلَةِ عَلَى بَعْضِ الْيَوْمِ الْمَاضِي وَاللَّيْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ مَجَازًا، وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: قُرْآنٌ لِإِرَادَةِ الْبَعْضِيَّةِ، وَالْمُرَادُ قَوْلُهُ:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ أُمِرَ) فِيهِ أَنَّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلْزَمُ أُمَّتَهُ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ يُتَأَسَّى بِهَا كَأَقْوَالِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَقْبَلُوهَا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ لِلْأَكْثَرِ أَيْ فَتَحَوَّلُوا إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، وَفَاعِلُ اسْتَقْبَلُوهَا الْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ وَهُمْ أَهْلُ قُبَاءٍ. وَقَوْلُهُ:(وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ. . . إِلَخْ) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي لِلتَّحَوُّلِ الْمَذْكُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ اسْتَقْبَلُوهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ، وَضَمِيرُ وُجُوهِهِمْ لَهُمْ أَوْ لِأَهْلِ قُبَاءٍ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ.

وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فَاسْتَقْبِلُوهَا بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَيَأْتِي فِي ضَمِيرِ وُجُوهِهِمُ الِاحْتِمَالَانِ الْمَذْكُورَانِ، وَعَوْدِهِ إِلَى أَهْلِ قُبَاءٍ أَظْهَرُ، وَيُرَجِّحُ رِوَايَةَ الْكَسْرِ أَنَّهُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، أَلَا فَاسْتَقْبِلُوهَا فَدُخُولُ حَرْفِ الِاسْتِفْتَاحِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الَّذِي بَعْدَهُ أَمْرٌ لَا أَنَّهُ بَقِيَّةُ الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَوَقَعَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ التَّحَوُّلِ فِي حَدِيثِ ثُوَيْلَةَ بِنْتِ أَسْلَمَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَقَدْ ذَكَرْتُ بَعْضَهُ قَرِيبًا وَقَالَتْ فِيهِ: فَتَحَوَّلَ النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ،

ص: 506

فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ. قُلْتُ: وَتَصْوِيرُهُ أَنَّ الْإِمَامَ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ إِلَى مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ مَنِ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ اسْتَدْبَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ لَوْ دَارَ كَمَا هُوَ فِي مَكَانِهِ لَمْ يَكُنْ خَلْفَهُ مَكَانٌ يَسَعُ الصُّفُوفِ، وَلَمَّا تَحَوَّلَ الْإِمَامُ تَحَوَّلَتِ الرِّجَالُ حَتَّى صَارُوا خَلْفَهُ وَتَحَوَّلَتِ النِّسَاءُ حَتَّى صِرْنَ خَلْفَ الرِّجَالِ، وَهَذَا يَسْتَدْعِي عَمَلًا كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ كَمَا كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اغْتُفِرَ الْعَمَلُ الْمَذْكُورُ مِنْ أَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَوْ لَمْ تَتَوَالَ الْخُطَا عِنْدَ التَّحْوِيلِ بَلْ وَقَعَتْ مُفَرَّقَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ حَتَّى يَبْلُغَهُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ مَعَ كَوْنِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَقَعَ قَبْلَ صَلَاتِهِمْ تِلْكَ بِصَلَوَاتٍ. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِعْلَامُ ذَلِكَ فَالْفَرْضُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ.

وَفِيهِ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَمَادَوْا فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَقْطَعُوهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَجَحَ عِنْدَهُمُ التَّمَادِي وَالتَّحَوُّلُ عَلَى الْقَطْعِ وَالِاسْتِئْنَافِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَنِ اجْتِهَادٍ، كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ نَصٌّ سَابِقٌ. لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَرَقِّبًا التَّحَوُّلَ الْمَذْكُورَ فَلَا مَانِعَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا صَنَعُوا مِنَ التَّمَادِي وَالتَّحَوُّلِ. وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَنَسْخُ مَا تَقَرَّرَ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ بِهِ؛ لِأَنَّ، وَوَقَعَ تَحَوُّلُهُمْ عَنْهَا إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ بِخَبَرِ هَذَا الْوَاحِدِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ احْتَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ وَمُقَدَّمَاتٌ أَفَادَتِ الْقَطْعَ عِنْدَهُمْ بِصِدْقِ ذَلِكَ الْمُخْبِرِ فَلَمْ يُنْسَخْ عِنْدَهُمْ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ إِلَّا بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَقِيلَ: كَانَ النَّسْخُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزًا فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم مُطْلَقًا وَإِنَّمَا مُنِعَ بَعْدَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَفِيهِ جَوَازُ تَعْلِيمِ مَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ مَنْ هُوَ فِيهَا، وَأَنَّ اسْتِمَاعَ الْمُصَلِّي لِكَلَامِ مَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ الَّذِي حُوِّلَتْ فِيهِ الْقِبْلَةُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِتَرْجَمَةِ الْبَابِ أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ وَعَلَى الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ صَلَّوْا فِي أَوَّلِ تِلْكَ الصَّلَاةِ إِلَى الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ جَاهِلِينَ بِوُجُوبِ التَّحَوُّلِ عَنْهَا وَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ مَعَ ذَلِكَ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ فَيَكُونُ حُكْمُ السَّاهِي كَذَلِكَ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْجَاهِلَ مُسْتَصْحِبٌ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ مُغْتَفَرٌ فِي حَقِّهِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي حَقِّ السَّاهِي؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ حُكْمٍ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ وَعَرَفَهُ.

404 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقَالُوا: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ. (قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ خَمْسًا) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَعَلُّقُهُ بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ:(قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟) أَيْ: مَا سَبَبُ هَذَا السُّؤَالِ؟ وَكَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ سَهْوًا كَمَا يَظْهَرُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَثَنَى رِجْلَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.

‌33 - بَاب حَكِّ الْبُزَاقِ بِالْيَدِ مِنْ الْمَسْجِدِ

405 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي

ص: 507

الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ - أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ - فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ حَكِّ الْبُزَاقِ بِالْيَدِ مِنَ الْمَسْجِدِ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ بِآلَةٍ أَمْ لَا. وَنَازَعَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: قَوْلُهُ: فَحَكَّهُ بِيَدِهِ أَيْ تَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ بَاشَرَ بِيَدِهِ النُّخَامَةَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ الْآخَرَ أَنَّهُ حَكَّهَا بِعُرْجُونٍ اهـ. وَالْمُصَنِّفُ مَشَى عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ فِي الْقِصَّةِ مِنَ التَّعَدُّدِ، وَحَدِيثُ الْعُرْجُونِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ) كَذَا فِي جَمِيعِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الطُّرُقِ بِالْعَنْعَنَةِ، وَلَكِنْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَصَرَّحَ بِسَمَاعِ حُمَيْدٍ مِنْ أَنَسٍ فَأُمِنَ تَدْلِيسُهُ.

قَوْلُهُ: (نُخَامَةٌ) قِيلَ: هِيَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ، وَقِيلَ: النُّخَاعَةُ بِالْعَيْنِ مِنَ الصَّدْرِ، وَبِالْمِيمِ مِنَ الرَّأْسِ.

قَوْلُهُ: (فِي الْقِبْلَةِ) أَيِ: الْحَائِطِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى رُئِيَ) أَيْ شُوهِدَ فِي وَجْهِهِ أَثَرُ الْمَشَقَّةِ، وَلِلنَّسَائِيِّ: فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ) أَيْ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (أَوْ أَنَّ رَبَّهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالشَّكِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ. وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ وَأَنَّ رَبَّهُ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُنَاجَاةِ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ حَقِيقَةُ النَّجْوَى وَمِنْ قِبَلِ الرَّبِّ لَازِمُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَجَازًا، وَالْمَعْنَى إِقْبَالُهُ عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:(أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ) وَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ تَوَجُّهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ مُفْضٍ بِالْقَصْدِ مِنْهُ إِلَى رَبِّهِ فَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ: فَإِنَّ مَقْصُودَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ عَظَمَةُ اللَّهِ أَوْ ثَوَابُ اللَّهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى التَّعْظِيمِ لِشَأْنِ الْقِبْلَةِ. وَقَدْ نَزَعَ بِهِ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَهُوَ جَهْلٌ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَبْزُقُ تَحْتَ قَدَمِهِ، وَفِيهِ نَقْضُ مَا أَصَّلُوهُ، وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ بِذَاتِهِ

(1)

وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُزَاقَ فِي الْقِبْلَةِ حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ لَا وَلَا سِيَّمَا مِنَ الْمُصَلِّي فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ كَرَاهِيَةَ الْبُزَاقِ فِي الْمَسْجِدِ هَلْ هِيَ لِلتَّنْزِيهِ أَوْ لِلتَّحْرِيمِ. وَفِي صَحِيحَيِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ تَفَلَ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَفْلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: يُبْعَثُ صَاحِبُ النُّخَامَةِ فِي الْقِبْلَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ فِي وَجْهِهِ وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ: أَنَّ رَجُلًا أَمَّ قَوْمًا فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يُصَلِّي لَكُمْ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ آذَيْتَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

قَوْلُهُ: (قِبَلَ قِبْلَتِهِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ جِهَةَ قِبْلَتِهِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ) أَيِ الْيُسْرَى كَمَا

(1)

ليس في الحديث المذكور رد على من أثبت استواء الرب سبحانه على العرش بذاته، لأن النصوص من الآيات والأحاديث في إثبات استواء الرب سبحانه على العرش بذاته محكمة قطعية واضحة لاتحتمل أدنى تأويل. وقد أجمع أهل السنة على الأخذ بها والإيمان بما دلت عليه على الوجه الذى يليق بالله سبحانه من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته. وأما قوله في هذا الحديث"فإن الله قبل وجهه إذا صلى" وفي لفظ"فإن ربه بينه وبين القبلة " فهذالفظ محتمل يجب أن يفسر بما يوافق النصوص المحكمة كما قد أشار الإمام ابن عبد البر إلى ذلك، ولايجوز حمل هذا اللفظ وأشباهه على مايناقض نصوص الاستواء الذي أثبتته النصوص القطعية المحكمة الصريحة. والله أعلم

ص: 508

فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَزَادَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَيَدْفِنُهَا كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ إِلَخْ) فِيهِ الْبَيَانُ بِالْفِعْلِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ:(أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا) أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ مَا ذُكِرَ، لَكِنْ سَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ أَنَّ الْمُصَنِّفَ حَمَلَ هَذَا الْأَخِيرَ عَلَى مَا إِذَا بَدَرَهُ الْبُزَاقُ، فَأَوْ - عَلَى هَذَا - فِي الْحَدِيثِ لِلتَّنْوِيعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

406 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ فَحَكَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى.

[الحديث 406 - أطرافه في: 6111، 1213، 753]

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: (رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ) وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ: فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ وَزَادَ فِيهِ: ثُمَّ نَزَلَ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ. وَصَرَّحَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِذَلِكَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا: قَالَ وَأَحْسَبُهُ دَعَا بِزَعْفَرَانٍ فَلَطَّخَهُ بِهِ، زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ: فَلِذَلِكَ صُنِعَ الزَّعْفَرَانُ فِي الْمَسَاجِدِ.

407 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ مُخَاطًا - أَوْ بُصَاقًا أَوْ نُخَامَةً - فَحَكَّهُ. قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ (رَأَى فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ مُخَاطًا أَوْ بُصَاقًا أَوْ نُخَامَةً فَحَكَّهُ) كَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ بِالشَّكِّ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنٍ، عَنْ مَالِكٍ أَوْ نُخَاعًا بَدَلَ مُخَاطًا وَهُوَ أَشْبَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ النُّخَاعَةِ وَالنُّخَامَةِ.

‌34 - بَاب حَكِّ الْمُخَاطِ بِالْحَصَى مِنْ الْمَسْجِدِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ وَطِئْتَ عَلَى قَذَرٍ رَطْبٍ فَاغْسِلْهُ، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَلَا

408 و 409 - وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَ حَصَاةً فَحَكَّهَا فَقَالَ: إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَخَّمَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.

[الحديث 408 - طرفاه في: 416، 410]

[الحديث 409 - طرفاه في: 414، 411]

قَوْلُهُ: (بَابُ حَكِّ الْمُخَاطِ بِالْحَصَى مِنَ الْمَسْجِدِ) وَجْهُ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مِنْ طَرِيقِ الْغَالِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُخَاطَ غَالِبًا يَكُونُ لَهُ جِرْمٌ لَزِجٌ فَيَحْتَاجُ فِي نَزْعِهِ إِلَى مُعَالَجَةٍ، وَالْبُصَاقُ لَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فَيُمْكِنُ نَزْعُهُ بِغَيْرِ آلَةٍ إِلَّا إِنْ خَالَطَهُ بَلْغَمٌ فَيَلْتَحِقُ بِالْمُخَاطِ، هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مُرَادِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ ابْنُ

ص: 509

أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا لَمْ يَضُرَّهُ وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ الْعُظْمَى فِي النَّهْيِ احْتِرَامُ الْقِبْلَةَ، لَا مُجَرَّدَ التَّأَذِّي بِالْبُزَاقِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً فِيهِ أَيْضًا لَكِنَّ احْتِرَامَ الْقِبْلَةِ فِيهِ آكَدُ، فَلِهَذَا لَمْ يُفَرَّقْ فِيهِ بَيْنَ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، بِخِلَافِ مَا عِلَّةُ النَّهْيِ فِيهِ مُجَرَّدُ الِاسْتِقْذَارِ فَلَا يَضُرُّ وَطْءُ الْيَابِسِ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَتَنَاوَلَ حَصَاةً) هَذَا مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ النُّخَامَةِ وَالْمُخَاطِ، فَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.

قَوْلُهُ (فَحَكَّهَا) ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَحَتَّهَا بِمُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ، وَهُمَا بِمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (وَلَا عَنْ يَمِينِهِ) سيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا.

‌35 - باب لَا يَبْصُقْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الصَّلَاةِ

410 و 411 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَصَاةً فَحَتَّهَا ثُمَّ قَالَ: إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَخَّمْ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.

412 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَتْفِلَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ رِجْلِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَبْصُقُ عَنْ يَمِينِهِ فِي الصَّلَاةِ) أَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، ثُمَّ حَدِيثَ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْهُ مُخْتَصَرًا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، وَلَيْسَ فِيهِمَا تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ. نَعَمْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ الْآتِيَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ التَّقْيِيدُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْآتِيَةِ بَعْدُ، فَجَرَى الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي التَّمَسُّكِ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَكَأَنَّهُ جَنَحَ إِلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِيهِمَا، وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ حُكْمِ ذَلِكَ خَارِجَ الصَّلَاةِ.

وَقَدْ جَزَمَ النَّوَوِيُّ بِالْمَنْعِ فِي كُلِّ حَالَةٍ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ غَيْرِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، يَعْنِي خَارِجَ الصَّلَاةِ.

وَيَشْهَدُ لِلْمَنْعِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَبْصُقَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَيْسَ فِي صَلَاةٍ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: مَا بَصَقْتُ عَنْ يَمِينِي مُنْذُ أَسْلَمْتُ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ نَهَى ابْنَهُ عَنْهُ مُطْلَقًا.

وَكَأَنَّ الَّذِي خَصَّهُ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ أَخَذَهُ مِنْ عِلَّةِ النَّهْيِ الْمَذْكُورَةِ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَيْثُ قَالَ: فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا هَذَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلَكِ غَيْرُ الْكَاتِبِ وَالْحَافِظِ، فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ اخْتِصَاصُهُ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: النَّهْيُ عَنِ الْبُصَاقِ عَنِ الْيَمِينِ فِي الصَّلَاةِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ إِمْكَانِ غَيْرِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَلَهُ ذَلِكَ، قُلْتُ: لَا يَظْهَرُ وُجُودُ التَّعَذُّرِ مَعَ وُجُودِ الثَّوْبِ الَّذِي هُوَ لَابِسُهُ، وَقَدْ أَرْشَدَهُ الشَّارِعُ إِلَى التَّفْلِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنْ كَانَ عَنْ يَسَارِهِ أَحَدٌ فَلَا يَبْزُقْ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، لَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ أَوْ ثَوْبَهُ. قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ طَارِقٍ الْمُحَارَبِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مَا يُرْشِدُ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: أَوْ تِلْقَاءَ شِمَالِكَ إِنْ كَانَ فَارِغًا. وَإِلَّا فَهَكَذَا، وَبَزَقَ تَحْتَ رِجْلِهِ وَدَلَكَ. وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي

ص: 510

هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَ رِجْلِهِ مَثَلًا شَيْءٌ مَبْسُوطٌ أَوْ نَحْوُهُ تَعَيَّنَ الثَّوْبُ، وَلَوْ فَقَدَ الثَّوْبَ مَثَلًا فَلَعَلَّ بَلْعَهُ أَوْلَى مِنِ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): أَخَذَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَ حُكْمِ النُّخَامَةِ وَالْبُصَاقِ وَاحِدًا مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى النُّخَامَةَ فَقَالَ: لَا يَبْزُقَنَّ فَدَلَّ عَلَى تَسَاوِيهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌36 - باب لِيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى

413 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ.

414 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا بِحَصَاةٍ، ثُمَّ نَهَى أَنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ سَمِعَ حُمَيْدًا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. . . . نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لِيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ. حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْمَتْنُ هُوَ الَّذِي مَضَى مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ سُفْيَانُ - وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ - فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَذَا فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَدَلَ أَبِي سَعِيدٍ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى فِي آخِرِهِ: وَعَنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعَ حُمَيْدًا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَظَنَّ أَنَّهُ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ مَعًا، لَكِنَّهُ فَرَّقَهُمَا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ سُفْيَانَ رَوَاهُ مَرَّةً بِالْعَنْعَنَةِ وَمَرَّةً صَرَّحَ بِسَمَاعِ الزُّهْرِيِّ مِنْ حُمَيْدٍ، وَوَهِمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فِي زَعْمِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَنِ الزُّهْرِيِّ مُعَلَّقٌ بَلْ هُوَ مَوْصُولٌ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ نَظَائِرُ.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ: وَتَحْتَ قَدَمِهِ بِالْوَاوِ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ بِحَذْفِ أَوْ، وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا أَوْ أَعَمُّ لِكَوْنِهَا تَشْمَلُ مَا تَحْتَ الْقَدَمِ وَغَيْرَ ذَلِكَ.

‌37 - بَاب كَفَّارَةِ الْبُزَاقِ فِي الْمَسْجِدِ

415 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَفَّارَةِ الْبُزَاقِ فِي الْمَسْجِدِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادِهِ الْمَاضِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ سَوَاءً، وَلِمُسْلِمٍ التَّفْلُ بَدَلَ الْبُزَاقِ، وَالتَّفْلُ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ أَخَفُّ مِنَ الْبُزَاقِ، وَالنَّفْثُ بِمُثَلَّثَةٍ آخِرَهُ أَخَفُّ مِنْهُ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّمَا يَكُونُ خَطِيئَةً إِذَا لَمْ يَدْفِنْهُ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ دَفْنَهُ فَلَا. وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: هُوَ خِلَافُ صَرِيحِ الْحَدِيثَ. قُلْتُ: وَحَاصِلُ النِّزَاعِ أَنَّ هُنَا عُمُومَيْنِ تَعَارَضَا، وَهُمَا قَوْلُهُ: الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَقَوْلُهُ: وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَالنَّوَوِيُّ يَجْعَلُ الْأَوَّلَ عَامًّا وَيَخُصُّ الثَّانِيَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي

ص: 511

الْمَسْجِدِ، وَالْقَاضِي بِخِلَافِهِ يَجْعَلُ الثَّانِيَ عَامًّا وَيَخُصُّ الْأَوَّلَ بِمَنْ لَمْ يُرِدْ دَفْنَهَا، وَقَدْ وَافَقَ الْقَاضِيَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ مَكِّيٍّ فِي التَّنْقِيبِ وَالْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ وَغَيْرُهُمَا. وَيَشْهَدُ لَهُمْ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا قَالَ: مَنْ تَنَخَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَلْيُغَيِّبْ نُخَامَتَهُ أَنْ تُصِيبَ جِلْدَ مُؤْمِنٍ أَوْ ثَوْبَهُ فَتُؤْذِيَهُ. وَأَوْضَحُ مِنْهُ فِي الْمَقْصُودِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: مَنْ تَنَخَّعَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَدْفِنْهُ فَسَيِّئَةٌ، وَإِنْ دَفَنَهُ فَحَسَنَةٌ فَلَمْ يَجْعَلْهُ سَيِّئَةً إِلَّا بِقَيْدِ عَدَمِ الدَّفْنِ.

وَنَحْوُهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا قَالَ: وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِ أُمَّتِي النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَلَمْ يُثْبِتْ لَهَا حُكْمُ السَّيِّئَةِ لِمُجَرَّدِ إِيقَاعِهَا فِي الْمَسْجِدِ بَلْ بِهِ وَبِتَرْكِهَا غَيْرَ مَدْفُونَةٍ. انْتَهَى.

وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّهُ تَنَخَّمَ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةً فَنَسِيَ أَنْ يَدْفِنَهَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَخَذَ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ ثُمَّ جَاءَ فَطَلَبَهَا حَتَّى دَفَنَهَا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَكْتُبْ عَلَيَّ خَطِيئَةً اللَّيْلَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَطِيئَةَ تَخْتَصُّ بِمَنْ تَرَكَهَا لَا بِمَنْ دَفَنَهَا.

وَعِلَّةُ النَّهْيِ تُرْشِدُ إِلَيْهِ، وَهِيَ تَأَذِّي الْمُؤْمِنِ بِهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصُ جَوَازِ ذَلِكَ فِي الثَّوْبِ وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا خِلَافٍ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَصَقَ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ دَلَكَهُ بِنَعْلِهِ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَيُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ. وَتَوَسَّطَ بَعْضُهُمْ فَحَمَلَ الْجَوَازَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ كَأَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَالْمَنْعَ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُفْصَلَ أَيْضًا بَيْنَ مَنْ بَدَأَ بِمُعَالَجَةِ الدَّفْنِ قَبْلَ الْفِعْلِ كَمَنْ حَفَرَ أَوَّلًا ثُمَّ بَصَقَ وَأَوْرَى، وَبَيْنَ مَنْ بَصَقَ أَوَّلًا بِنِيَّةِ أَنْ يَدْفِنَ مَثَلًا، فَيُجْرَى فِيهِ الْخِلَافُ بِخِلَافِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُكَفِّرُ إِثْمَ إِبْرَازِهَا هُوَ دَفْنَهَا فَكَيْفَ يَأْثَمُ مَنْ دَفَنَهَا ابْتِدَاءً؟ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ: كَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا قَالَ الْجُمْهُورُ: يَدْفِنُهَا فِي تُرَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ رَمْلِهِ أَوْ حَصْبَائِهِ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِدَفْنِهَا إِخْرَاجُهَا مِنَ الْمَسْجِدِ أَصْلًا.

قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ الرُّويَانِيُّ يَجْرِي عَلَى مَا يَقُولُ النَّوَوِيُّ مِنَ الْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: فِي الْمَسْجِدِ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ فَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْفَاعِلِ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَصَقَ مَنْ هُوَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فِيهِ تَنَاوَلَهُ النَّهْيُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌38 - بَاب دَفْنِ النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ

416 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ، فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَدْفِنُهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ دَفْنِ النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ جَوَازِ ذَلِكَ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ عَنْهُ بِلَفْظِ إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَيَدْفِنُهَا فَأَشْعَرَ قَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِأَنَّهُ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَى الصَّلَاةِ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ، لَكِنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تَرْجَمَ الَّذِي قَبْلَهُ بِالْكَفَّارَةِ وَهَذَا بِالدَّفْنِ إِشْعَارًا بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُتَعَمِّدِ بِلَا حَاجَةٍ - وَهُوَ الَّذِي أَثَبَتَ عَلَيْهِ الْخَطِيئَةَ - وَبَيْنَ مَنْ غَلَبَتْهُ النُّخَامَةُ وَهُوَ الَّذِي أُذِنَ لَهُ فِي الدَّفْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّمَا يُنَاجِي) ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَإِنَّهُ.

قَوْلُهُ: (مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ) يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمَنْعِ بِمَا

ص: 512

إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ، لَكِنَّ التَّعْلِيلَ الْمُتَقَدِّمَ بِأَذَى الْمُسْلِمِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ، فَيُجْمَعُ بِأَنْ يُقَالَ: كَوْنُهُ فِي الصَّلَاةِ أَشَدَّ إِثْمًا مُطْلَقًا، وَكَوْنُهُ فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ أَشَدَّ إِثْمًا مِنْ كَوْنِهِ فِي غَيْرِهَا مِنْ جُدُرِ الْمَسْجِدِ، فَهِيَ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنْعِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا) تَقَدَّمَ أَنَّ ظَاهِرَهُ اخْتِصَاصُهُ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالْمَلَكِ الْكَاتِبُ فَقَدِ اسْتَشْكَلَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمَنْعِ مَعَ أَنَّ عَنْ يَسَارِهِ مَلَكًا آخَرَ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِمَلَكِ الْيَمِينِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا، هَكَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ أُمُّ الْحَسَنَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَلَا دَخْلَ لِكَاتِبِ السَّيِّئَاتِ فِيهَا، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَوْقُوفًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ كَاتِبَ الْحَسَنَاتِ.

وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَمَلَكُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَقَرِينُهُ عَنْ يَسَارِهِ اهـ. فَالتَّفْلُ حِينَئِذٍ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْقَرِينِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وَلَعَلَّ مَلَكَ الْيَسَارِ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يُصِيبهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ يَتَحَوَّلُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْيَمِينِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَيَدْفِنُهَا) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: لَمْ يَقُلْ يُغَطِّيهَا؛ لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ يَسْتَمِرُّ الضَّرَرُ بِهَا إِذْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَجْلِسَ غَيْرُهُ عَلَيْهَا فَتُؤْذِيَهُ، بِخِلَافِ الدَّفْنِ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعْمِيقُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرِّيَاضِ: الْمُرَادُ بِدَفْنِهَا مَا إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ تُرَابِيًّا أَوْ رَمْلِيًّا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُبَلَّطًا مَثَلًا فَدَلَكَهَا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مَثَلًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَفْنٍ بَلْ زِيَادَةٌ فِي التَّقْذِيرِ. قُلْتُ: لَكِنْ إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ الْبَتَّةَ فَلَا مَانِعَ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ الْمُتَقَدِّمِ: ثُمَّ دَلَكَهُ بِنَعْلِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ طَارِقٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: وَبَزَقَ تَحْتَ رِجْلِهِ وَدَلَكَ.

(فَائِدَةٌ): قَالَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ أَوْ يَنْزِلُ مِنَ الرَّأْسِ، أَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ فَهُوَ نَجَسٌ فَلَا يُدْفَنُ فِي الْمَسْجِدِ اهـ. وَهَذَا عَلَى اخْتِيَارِهِ، لَكِنْ يَظْهَرُ التَّفْصِيلُ فِيمَا إِذَا كَانَ طَرَفًا مِنْ قَيْءٍ، وَكَذَا إِذَا خَالَطَ الْبُزَاقَ دَمٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌39 - بَاب إِذَا بَدَرَهُ الْبُزَاقُ فَلْيَأْخُذْ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ

417 حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ، وَرُئِيَ مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ - أَوْ رُئِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وَشِدَّتُهُ عَلَيْهِ - وَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ - أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ - فَلَا يَبْزُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ. ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا بَدَرَهُ الْبُزَاقُ) أَنْكَرَ السُّرُوجِيُّ قَوْلُهُ: بَدَرَهُ وَقَالَ: الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ بَدَرْتُ إِلَيْهِ وَبَادَرْتُهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُغَالَبَةِ فَيُقَالُ: بَادَرْتُ كَذَا فَبَدَرَنِي أَيْ سَبَقَنِي، وَاسْتَشْكَلَ آخَرُونَ التَّقْيِيدَ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْمُبَادَرَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَاقَهُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ: وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ وَتَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ فَلْيَقُلْ بِثَوْبِهِ هَكَذَا، ثُمَّ طَوَى بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ وَفَسَّرَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: بِأَنْ يَتْفُلَ فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ يَرُدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَالْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ لَكِنَّهُمَا لَيْسَا عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمَا بِأَنْ حَمَلَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تَفْصِيلَ فِيهَا عَلَى مَا فَصَّلَ فِيهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ،

ص: 513

وَقَوْلُهُ هُنَا: وَرُؤيَ مِنْهُ بِضَمِّ الرَّاءِ بَعْدَهَا وَاوٌ مَهْمُوزَةٌ، أَيْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَرَاهِيَتُهُ بِالرَّفْعِ أَيْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ رُؤيَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَقَوْلُهُ: وَشِدَّتُهُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى كَرَاهِيَتِهِ وَيَجُوزُ الْجَرُّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِذَلِكَ.

وَفِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ - غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ - النَّدْبُ إِلَى إِزَالَةِ مَا يُسْتَقْذَرُ أَوْ يُتَنَزَّهُ عَنْهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَتَفَقُّدُ الْإِمَامِ أَحْوَالَ الْمَسَاجِدِ وَتَعْظِيمُهَا وَصِيَانَتُهَا، وَأَنَّ لِلْمُصَلِّيَ أَنْ يَبْصُقَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ، وَأَنَّ النَّفْخَ وَالتَّنَحْنُحَ فِي الصَّلَاةِ جَائِزَانِ؛ لِأَنَّ النُّخَامَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ نَفْخٍ أَوْ تَنَحْنُحٍ، وَمَحِلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يَفْحُشْ وَلَمْ يَقْصِدْ صَاحِبُهُ الْعَبَثَ وَلَمْ يَبِنْ مِنْهُ مُسَمَّى كَلَامٍ وَأَقَلُّهُ حَرْفَانِ أَوْ حَرْفٌ مَمْدُودٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى جَوَازِ النَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ النَّفْخُ يُسْمَعُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِحَدِيثٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَبِأَثَرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ. وَفِيهَا أَنَّ الْبُصَاقَ طَاهِرٌ، وَكَذَا النُّخَامَةُ وَالْمُخَاطُ خِلَافًا لِمَنْ يَقُولُ: كُلُّ مَا تَسْتَقْذِرُهُ النَّفْسُ حَرَامٌ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ إِنَّمَا هُوَ بِالشَّرْعِ، فَإِنَّ جِهَةَ الْيَمِينِ مُفَضَّلَةٌ عَلَى الْيَسَارِ، وَأَنَّ الْيَدَ مُفَضَّلَةٌ عَلَى الْقَدَمِ. وَفِيهَا الْحَثُّ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مَلِيًّا لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم بَاشَرَ الْحَكَّ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى عِظَمِ تَوَاضُعِهِ، زَادَهُ اللَّهُ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا صلى الله عليه وسلم.

‌40 - بَاب عِظَةِ الْإِمَامِ النَّاسَ فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ الْقِبْلَةِ

418 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَاهُنَا؟ فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ وَلَا رُكُوعُكُمْ، إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي.

[الحديث 418 - طرفه في: 741]

قَوْلُهُ: (بَابُ عِظَةِ الْإِمَامِ النَّاسَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ أَيْ بِسَبَبِ تَرْكِ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَذِكْرِ الْقِبْلَةِ) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى عِظَةٍ، وَأَوْرَدَهُ لِلْإِشْعَارِ بِمُنَاسَبَةِ هَذَا الْبَابِ لِمَا قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي) هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ، أَيْ أَنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنِّي لَا أَرَى فِعْلَكُمْ لِكَوْنِ قِبْلَتِي فِي هَذِهِ الْجِهَةِ؛ لِأَنَّ مَنِ اسْتَقْبَلَ شَيْئًا اسْتَدْبَرَ مَا وَرَاءَهُ، لَكِنْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رُؤْيَتَهُ لَا تَخْتَصُّ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ إِمَّا بِأَنْ يُوحَى إِلَيْهِ كَيْفِيَّةُ فِعْلِهِمْ وَإِمَّا أَنْ يُلْهَمَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَوْ كَانَ مُرَادًا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَرَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِ مِمَّنْ تُدْرِكُهُ عَيْنُهُ مَعَ الْتِفَاتٍ يَسِيرٍ فِي النَّادِرِ، وَيُوصَفُ مَنْ هُوَ هُنَاكَ بِأَنَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ التَّكَلُّفِ، وَفِيهِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِلَا مُوجِبٍ. وَالصَّوَابُ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْإِبْصَارَ إِدْرَاكٌ حَقِيقِيٌّ خَاصٌّ بِهِ صلى الله عليه وسلم انْخَرَقَتْ لَهُ فِيهِ الْعَادَةُ، وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْمُصَنِّفِ فَأَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.

ثُمَّ ذَلِكَ الْإِدْرَاكُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِرُؤْيَةِ عَيْنِهِ انْخَرَقَتْ لَهُ الْعَادَةُ فِيهِ أَيْضًا فَكَانَ يَرَى بِهَا مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا عَقْلًا عُضْوٌ مَخْصُوصٌ وَلَا مُقَابَلَةٌ وَلَا قُرْبٌ، وَإِنَّمَا تِلْكَ أُمُورٌ عَادِيَّةٌ يَجُوزُ حُصُولُ الْإِدْرَاكِ مَعَ عَدَمِهَا عَقْلًا، وَلِذَلِكَ حَكَمُوا بِجَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خِلَافًا لِأَهْلِ الْبِدَعِ لِوُقُوفِهِمْ مَعَ الْعَادَةِ.

وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُ عَيْنٌ خَلْفَ ظَهْرِهِ

ص: 514

يَرَى بِهَا مَنْ وَرَاءَهُ دَائِمًا، وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَيْنَانِ مِثْلُ سَمِّ الْخِيَاطِ يُبْصِرُ بِهِمَا لَا يَحْجُبُهُمَا ثَوْبٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ صُوَرُهُمْ تَنْطَبِعُ فِي حَائِطِ قِبْلَتِهِ كَمَا تَنْطَبِعُ فِي الْمِرْآةِ فَيَرَى أَمْثِلَتَهُمْ فِيهَا فَيُشَاهِدُ أَفْعَالَهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَلَا خُشُوعُكُمْ) أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَرْكَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ السُّجُودَ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَايَةَ الْخُشُوعِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالسُّجُودِ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (إِنِّي لَأَرَاكُمْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ.

419 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى لنا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً، ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ فِي الصَّلَاةِ وَفِي الرُّكُوعِ: إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَائِي كَمَا أَرَاكُمْ.

[الحديث 419 - طرفاه في: 6644، 742]

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ (صَلَّى لَنَا) أَيْ لِأَجْلِنَا. وَقَوْلُهُ: (صَلَاةٌ) بِالتَّنْكِيرِ لِلْإِبْهَامِ. وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ رَقِيَ) بِكَسْرِ الْقَافِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ فِي الصَّلَاةِ) أَيْ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ، أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ بَعْدُ (إِنِّي لَأَرَاكُمْ) عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ تَقَدُّمَ الظَّرْفِ. وَقَوْلُهُ:(وَفِي الرُّكُوعِ) أفَرْده بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ اهْتِمَاما بِهِ إِمَّا لِكَوْنِ التَّقْصِيرِ فِيهِ كَانَ أَكْثَرَ، أَوْ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْأَرْكَانِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يُدْرِكُ الرَّكْعَةَ بِتَمَامِهَا بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ.

قَوْلُهُ: (كَمَا أَرَاكُمْ) يَعْنِي مِنْ أَمَامِي. وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كَمَا سَيَأْتِي. وَلِمُسْلِمٍ: إِنِّي لَأُبْصِرُ مَنْ وَرَائِي كَمَا أُبْصِرُ مَنْ بَيْنَ يَدَيَّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُخْتَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْإِبْصَارُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَحَكَى بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُبْصِرُ فِي الظُّلْمَةِ كَمَا يُبْصِرُ فِي الضَّوْءِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى إِتْمَامِ أَرْكَانِهَا وَأَبْعَاضِهَا، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَبِّهَ النَّاسَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الصَّلَاةِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ رَأَى مِنْهُمْ مَا يُخَالِفُ الْأُولَى. وَسَأَذْكُرُ حُكْمَ الْخُشُوعِ فِي أَبْوَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ حَيْثُ تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌41 - بَاب هَلْ يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلَانٍ

420 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنْ الْحَفْيَاءِ، وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ. وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا.

[الحديث 420 - أطرافه في: 7336، 2870، 2869، 2868]

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلَانٍ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمُسَابَقَةِ، وَفِيهِ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وَزُرَيْقٌ بِتَقْدِيمِ الزَّاي مُصَغَّرا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ إِضَافَةِ الْمَسَاجِدِ إِلَى بَانِيهَا أَوِ الْمُصَلِّي فِيهَا، وَيَلْتَحِقُ بِهِ جَوَازُ إِضَافَةِ أَعْمَالِ الْبِرِّ إِلَى أَرْبَابِهَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ فِيهِ احْتِمَالًا إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ عَلِمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِضَافَةُ وَقَعَتْ فِي زَمَنِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا حَدَثَ بَعْدَهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ، وَالْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: مَسْجِدُ بَنِي فُلَانٍ وَيَقُولُ: مُصَلَّى بَنِي فُلَانٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي مِثْلِ هَذَا

ص: 515

إِضَافَةُ تَمْيِيزٍ لَا مِلْكٍ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ الْمَتْنِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ): الْحَفْيَاءُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ أَخِيرَةٌ مَمْدُودَةٌ، وَالْأَمَدُ الْغَايَةُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الثَّنِيَّةُ لِلْعَهْدِ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ.

‌42 - بَاب الْقِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْقِنْوُ الْعِذْقُ، وَالِاثْنَانِ قِنْوَانِ، وَالْجَمَاعَةُ أَيْضًا قِنْوَانٌ، مِثْلَ صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ

421 -

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلَّا أَعْطَاهُ. إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي، فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذْ. فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ. قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ. قَالَ: لَا. فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَه بَ يُقِلُّهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ. قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ. قَالَ: لَا. فَنَثَرَ مِنْهُ. ثُمَّ احْتَمَلَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ - حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا - عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ. فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ.

[الحديث 421 - طرفاه في: 3165، 3049]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِسْمَةِ) أَيْ جَوَازِهَا، وَالْقِنْوُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ النُّونِ فَسَّرَهُ فِي الْأَصْلِ فِي رِوَايَتِنَا بِالْعِذْقِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ الْعُرْجُونُ بِمَا فِيهِ. وَقَوْلُهُ:(الْاثْنَانِ قِنْوَانِ) أَيْ بِكَسْرِ النُّونِ وَقَوْلُهُ: (مِثْلُ صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ) أَهْمَلَ الثَّالِثَةَ اكْتِفَاءً بِظُهُورِهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ يَعْنِي ابْنَ طَهْمَانَ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا وَهُوَ صَوَابٌ، وَأُهْمِلَ فِي غَيْرِهَا. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ طَهْمَانَ فِيمَا أَحْسَبُ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ. يَعْنِي تَعْلِيقًا. قُلْتُ: وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ) كَذَا فِي رِوَايَتِنَا، وَفِي غَيْرِهَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، فَقَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ: قِيلَ: إِنَّهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ حَدِيثًا فِي تَعْلِيقِ الْقِنْوِ، فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَغْفَلَهُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: أُنْسِيهِ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَا، بَلْ أَخَذَهُ مِنْ جَوَازِ وَضْعِ الْمَالِ فِي الْمَسْجِدِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وُضِعَ لِأَخْذِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُ. وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِيَدِهِ عَصًا وَقَدْ عَلَّقَ رَجُلٌ قَنَا حَشَفٍ فَجَعَلَ يَطْعَنُ فِي ذَلِكَ الْقِنْوِ وَيَقُولُ: لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْ هَذَا وَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِهِ وَإِنْ كَانَ إِسْنَادُهُ قَوِيًّا، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَغْفَلَهُ؟ وَفِي الْبَابِ أَيْضًا حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ ثَابِتٌ فِي الدَّلَائِلِ بِلَفْظِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مِنْ كُلِّ حَائِطٍ بِقِنْوٍ يُعَلَّقُ فِي الْمَسْجِدِ يَعْنِي لِلْمَسَاكِينِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَكَانَ عَلَيْهَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَيْ عَلَى حِفْظِهَا أَوْ عَلَى قِسْمَتِهَا.

قَوْلُهُ: (بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ)

ص: 516

رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ مُرْسَلًا أَنَّهُ كَانَ مِائَةَ أَلْفٍ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ بِهِ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ مِنْ خَرَاجِ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ: وَهُوَ أَوَّلُ خَرَاجٍ حُمِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَغَازِي مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَيْهِمْ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ فَسَمِعَتِ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ الْحَدِيثَ. فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَعْيِينُ الْآتِي بِالْمَالِ، لَكِنْ فِي الرِّدَّةِ لِلْوَاقِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ بِالْمَالِ هُوَ الْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ الثَّقَفِيُّ، فَلَعَلَّهُ كَانَ رَفِيقَ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ. وَفِيهِ: فَلَمْ يَقْدُمْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، فَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَلَيْسَ مُعَارِضًا لِمَا تَقَدَّمَ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَقْدَمْ فِي السَّنَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالَ خَرَاجٍ أَوْ جِزْيَةٍ فَكَانَ يَقْدُمُ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: انْثُرُوهُ) أَيْ صُبُّوهُ.

قَوْلُهُ: (وَفَادَيْتُ عَقِيلًا) أَيِ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ أُسِرَ مَعَ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَقَوْلُهُ:(فَحَثَا) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَالضَّمِيرُ فِي ثَوْبِهِ يَعُودُ عَلَى الْعَبَّاسِ.

قَوْلُهُ: (يُقِلُّهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْإِقْلَالِ وَهُوَ الرَّفْعُ وَالْحَمْلُ.

قَوْلُهُ: (مُرْ بَعْضَهُمْ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ اؤْمُرْ بِالْهَمْزَةِ، وَقَوْلُهُ:(يَرْفَعْهُ) بالْجَزْمُ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيْ فَهُوَ يَرْفَعُهُ.

قَوْلُهُ: (عَلَى كَاهِلِهِ) أَيْ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. وَقَوْلُهُ: (يُتْبِعُهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْإِتْبَاعِ، وَ (عَجَبًا) بِالْفَتْحِ. وَقَوْلُهُ:(وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ هُنَاكَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ كَرَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِ إِلَى الْمَالِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَأَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ مَالَ الْمَصَالِحِ فِي مُسْتَحِقِّيهَا وَلَا يُؤَخِّرَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ فِي بَابِ فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيهِ مُخْتَصَرًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمَوْضِعُ الْحَاجَةِ مِنْهُ هُنَا جَوَازُ وَضْعِ مَا يَشْتَرِكُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مِنْ صَدَقَةٍ وَنَحْوِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَمَحِلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يُمْنَعْ مِمَّا وُضِعَ لَهُ الْمَسْجِدُ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا بُنِيَ الْمَسْجِدُ لِأَجْلِهِ، وَنَحْوُ وَضْعِ هَذَا الْمَالِ وَضْعُ مَالِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ وَضْعِ مَا يَعُمُّ نَفْعُهُ فِي الْمَسْجِدِ كَالْمَاءِ لِشُرْبِ مَنْ يَعْطَشُ، وَيُحْتَمَلُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا يُوضَعُ لِلتَّفْرِقَةِ وَبَيْنَ مَا يُوضَعُ لِلْخَزْنِ فَيُمْنَعُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ.

[الحديث 422 - أطرافه في: 6688، 5450، 5381، 3578]

‌43 - بَاب مَنْ دَعَا لِطَعَامٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَنْ أَجَابَ منه

422 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعَ أَنَسًا قَالَ: وَجَدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ نَاسٌ، فَقُمْتُ، فَقَالَ لِي: آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: لِطَعَامٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا. فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ دَعَا لِطَعَامٍ فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ أَجَابَ مِنْهُ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَمَنْ أَجَابَ إِلَيْهِ. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ مُخْتَصَرًا، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِأَحَدِ شِقَّيِ التَّرْجَمَةِ وَهُوَ الثَّانِي، وَيُجَابُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْمَسْجِدِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ دَعَا لَا بِقَوْلِهِ: طَعَامٌ فَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لَيْسَ مِنَ اللَّغْوِ الَّذِي يُمْنَعُ فِي الْمَسَاجِدِ. وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ ابْتِدَائِيَّةٌ وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْمَسْجِدِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَعُودُ عَلَى الطَّعَامِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ قَالَ لِمَنْ مَعَهُ بَدَلَ لِمَنْ حَوْلَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الدُّعَاءِ إِلَى الطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيمَةً، وَاسْتِدْعَاءُ الْكَثِيرِ إِلَى الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، وَأَنَّ الْمَدْعُوَّ إِذَا عَلِمَ مِنَ الدَّاعِي أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ أَنْ يُحْضِرَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَلَا بَأْسَ

ص: 517

بِإِحْضَارِهِ مَعَهُ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ تَامًّا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.

‌44 - بَابُ الْقَضَاءِ وَاللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ بين الرجال والنساء

423 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ؟ فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَضَاءِ وَاللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَسَقَطَ قَوْلُهُ: بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي.

[الحديث 423 - أطرافه في: 7304، 7166، 7165، 6854، 5308، 5259، 4746، 4745]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ ابْنُ مُوسَى وَكَذَا نَسَبَهُ ابْنُ السَّكَنِ، وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمَذْكُورِ وَتَسْمِيَةِ مَنْ أُبْهِمَ فِيهِ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَأْتِي ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌45 - بَاب إِذَا دَخَلَ بَيْتًا يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ، أَوْ حَيْثُ أُمِرَ، وَلَا يَتَجَسَّسُ

424 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ لَكَ مِنْ بَيْتِكَ؟ قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

[الحديث 424 - أطرافه في: 6938، 6423، 5401، 4010، 4009، 1186، 840، 838، 686، 667، 425]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا دَخَلَ بَيْتًا) أَيْ لِغَيْرِهِ (يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ أَوْ حَيْثُ أُمِرَ؟) قِيلَ: مُرَادُهُ الِاسْتِفْهَامُ، لَكِنْ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ، أَيْ هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَوْ يَكْفِيهِ الْإِذْنُ الْعَامُّ فِي الدُّخُولِ؟ فَأَوْ عَلَى هَذَا لَيْسَتْ لِلشَّكِّ.

وَقَوْلُهُ: (وَلَا يَتَجَسَّسُ) ضَبَطْنَاهُ بِالْجِيمِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالشِّقِّ الثَّانِي قَالَ الْمُهَلَّبُ: دَلَّ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى إِلْغَاءِ حُكْمِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ لِاسْتِئْذَانِهِ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَ الْمَنْزِلِ أَيْنَ يُصَلِّي؟ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: حَيْثُ شَاءَ أَيْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَوْضِعُ نَظَرٍ، فَهَلْ يُصَلِّي مَنْ دُعِيَ حَيْثُ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الدُّخُولِ عَامٌّ فِي أَجْزَاءِ الْمَكَانِ، فَأَيْنَمَا جَلَسَ أَوْ صَلَّى تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ؟ أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِي تَعْيِينِ مَكَانِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ؟ الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ.

وَإِنَّمَا اسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ دُعِيَ لِيَتَبَرَّكَ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِمَكَانِ صَلَاتِهِ فَسَأَلَهُ لِيُصَلِّيَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي يُحِبُّ تَخْصِيصَهَا بِذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ صَلَّى لِنَفْسِهِ فَهُوَ عَلَى عُمُومِ الْإِذْنِ. قُلْتُ: إِلَّا أَنْ يَخُصَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ ذَلِكَ الْعُمُومُ فَيَخْتَصُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) صَرَّحَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِسَمَاعِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ لَهُ مِنِ ابْنِ شِهَابٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ) وَلِلصَنِّفِ فِي بَابِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً كَمَا سَيَأْتِي مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عِتْبَانَ) زَادَ يَعْقُوبُ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَتِهِ قِصَّةَ مَحْمُودٍ فِي عَقْلِهِ الْمَجَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ،

ص: 518

وَصَرَّحَ يَعْقُوبُ أَيْضًا بِسَمَاعِ مَحْمُودٍ مِنْ عِتْبَانَ.

قَوْلُهُ: (أَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ) اخْتَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا وَسَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ يَعْقُوبَ الْمَذْكُورِ تَامًّا كَمَا أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ عَقِيلٍ فِي الْبَابِ الْآتِي.

قَوْلُهُ: (أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَلِلْمُسْتَمْلِي هُنَا: أَنْ أُصَلِّيَ لَكَ ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فِي بَيْتِكَ: وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

‌46 - بَاب الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ. وَصَلَّى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي مَسْجِدِهِ فِي دَارِهِ جَمَاعَةً

425 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي، فَإِذَا كَانَتْ الْأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ بِهِمْ. وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتُصَلِّيَ فِي بَيْتِي فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى. قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ عِتْبَانُ: فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَبّ رَ، فَقُمْنَا فَصَففنَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، قَالَ: وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خريزة صَنَعْنَاهَا لَهُ، قَالَ: فثاب فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ذَوُو عَدَدٍ فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخَيْشِنِ - أَوِ ابْنُ الدُّخْشُنِ -؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذاك مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، أَلَا تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: ثُمَّ سَأَلْتُ الْحُصَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ - وَهُوَ أَحَدُ بَنِي سَالِمٍ وَهُوَ مِنْ سَرَاتِهِمْ - عَنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَصَدَّقَهُ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَسَاجِدِ) أَيِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ (فِي الْبُيُوتِ).

قَوْلُهُ: (وَصَلَّى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي مَسْجِدٍ فِي دَارِهِ جَمَاعَةً) ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فِي جَمَاعَةٍ وَهَذَا الْأَثَرُ أَوْرَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَعْنَاهُ فِي قِصَّةٍ.

قَوْلُهُ: (أن عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ) أَيِ الْخَزْرَجِيَّ السَّالِمِيَّ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ أَتَى) فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عِتْبَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَطْلُبُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُسِبَ إِتْيَانُ رَسُولِهِ إِلَى نَفْسِهِ مَجَازًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَتَاهُ مَرَّةً وَبَعَثَ إِلَيْهِ أُخْرَى إِمَّا مُتَقَاضِيًا وَإِمَّا مُذَكِّرًا. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِسَنَدِهِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ جُمُعَةٍ: لَوْ أَتَيْتنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِيهِ أَنَّهُ أَتَاهُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مُخَاطَبَةَ عِتْبَانَ بِذَلِكَ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً لَا مَجَازًا.

قَوْلُهُ: (قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي) كَذَا ذَكَرَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِ ابْنِ شِهَابٍ كَمَا لِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَمَعْمَرٍ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ

ص: 519

الزُّبَيْدِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ: لَمَّا سَاءَ بَصَرِي وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَمِرٍ: جَعَلَ بَصَرِي يَكِلُّ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ: أَصَابَنِي فِي بَصَرِي بَعْضُ الشَّيْءِ وَكُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَلَغَ الْعَمَى إِذْ ذَاكَ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الرُّخْصَةِ فِي الْمَطَرِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَقَالَ فِيهِ: إِنَّ عِتْبَانَ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ الْحَدِيثَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ رِوَايَةَ مَالِكٍ هَذِهِ مُعَارِضَةٌ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَتْ عِنْدِي كَذَلِكَ، بَلْ قَوْلُ مَحْمُودٍ: إِنَّ عِتْبَانَ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى أَيْ حِينَ لَقِيَهُ مَحْمُودٌ وَسَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ، لَا حِينَ سُؤَالِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ: فَجِئْتُ إِلَى عِتْبَانَ وَهُوَ شَيْخٌ أَعْمَى يَؤُمُّ قَوْمَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ أَيْ أَصَابَنِي فِيهِ ضُرٌّ كَقَوْلِهِ أَنْكَرْتُ بَصَرِي.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَمْلَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ أَيْضًا لَمَّا أَنْكَرْتُ مِنْ بَصَرِي وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَصَابَنِي فِي بَصَرِي بَعْضُ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ عَمَاهُ، لَكِنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ بِلَفْظِ أَنَّهُ عَمِيَ فَأَرْسَلَ وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ خُزَيْمَةَ بَيْنَ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ شِهَابٍ فَقَالَ: قَوْلُهُ: أَنْكَرْتُ بَصَرِي هَذَا اللَّفْظُ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ فِي بَصَرِهِ سُوءٌ وَإِنْ كَانَ يُبْصِرُ بَصَرًا مَا، وَعَلَى مَنْ صَارَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ شَيْئًا. انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: أَطْلَقَ عَلَيْهِ عَمًى لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي فَوَاتِ بَعْضِ مَا كَانَ يَعْهَدُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَبِهَذَا تَأْتَلِفُ الرِّوَايَاتُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أُصَلِّي لِقَوْمِي) أَيْ لِأَجْلِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهُمْ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (سَالَ الْوَادِي) أَيْ سَالَ الْمَاءُ فِي الْوَادِي، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ، ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ وَأَنَّ الْأَمْطَارَ حِينَ تَكُونُ يَمْنَعُنِي سَيْلُ الْوَادِي.

قَوْلُهُ: (بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ) وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ يَسِيلُ الْوَادِي الَّذِي بَيْنَ مَسْكَنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي فَيَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ الصَّلَاةِ مَعَهُمْ.

قَوْلُهُ: (فَأُصَلِّيَ بِهِمْ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى آتِيَ.

قَوْلُهُ: (وَدِدْتُ) بِكَسْرِ الدَّالِ الْأُولَى أَيْ تَمَنَّيْتُ. وَحَكَى الْقَزَّازُ جَوَازَ فَتْحِ الدَّالِ فِي الْمَاضِي وَالْوَاوِ فِي الْمَصْدَرِ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَصْدَرِ الضَّمُّ وَحُكِيَ فِيهِ أَيْضًا الْفَتْحَ فَهُوَ مُثَلَّثٌ.

قَوْلُهُ: (فَتُصَلِّي) بِسُكُونِ الْيَاءِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ لِوُقُوعِ الْفَاءِ بَعْدَ التَّمَنِّي، وَكَذَا قَوْلُهُ:(فَأَتَّخِذُهُ) بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ.

قَوْلُهُ: (سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) هُوَ هُنَا لِلتَّعْلِيقِ لَا لِمَحْضِ التَّبَرُّكِ، كَذَا قِيلَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبَرُّكِ لِاحْتِمَالِ اطِّلَاعِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْوَحْيِ عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ سَيَقَعُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عِتْبَانُ) ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى هُنَا مِنْ رِوَايَةِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَمِنْ هُنَا إِلَى آخِرِهِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عِتْبَانَ صَاحِبِ الْقِصَّةِ. وَقَدْ يُقَالُ: الْقَدْرُ الْأَوَّلُ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ مَحْمُودًا يَصْغُرُ عَنْ حُضُورِ ذَلِكَ، لَكِنْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي أَوَّلِهِ بِالتَّحْدِيثِ بَيْنَ عِتْبَانَ، وَمَحْمُودٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَكَذَا وَقَعَ تَصْرِيحُهُ بِالسَّمَاعِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَمِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَابِ الْمَاضِي، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: قَالَ عِتْبَانُ عَلَى أَنَّ مَحْمُودًا أَعَادَ اسْمَ شَيْخِهِ اهْتِمَامًا بِذَلِكَ لِطُولِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (فَغَدَا عَلَيَّ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: بِالْغَدِ، ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالتَّوَجُّهَ إِلَيْهِ وَقَعَ يَوْمَ السَّبْتِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (وَأَبُو بَكْرٍ) لَمْ يَذْكُرْ جُمْهُورُ الرُّوَاةِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ غَيْرَهُ، حَتَّى أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فَاسْتَأْذَنَا فَأَذِنْتُ لَهُمَا لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ: وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، عَنْ عِتْبَانَ فَأَتَانِي وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ: فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَحِبَهُ وَحْدَهُ فِي ابْتِدَاءِ التَّوَجُّهِ ثُمَّ عِنْدَ الدُّخُولِ

ص: 520

أَوْ قَبْلَهُ اجْتَمَعَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَدَخَلُوا مَعَهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَجْلِسْ حِينَ دَخَلَ)، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ حَتَّى دَخَلَ قَالَ عِيَاضٌ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا غَلَطٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى فَلَمْ يَجْلِسْ فِي الدَّارِ وَلَا غَيْرِهَا حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ مُبَادِرًا إِلَى مَا جَاءَ بِسَبَبِهِ. وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا عِنْدَ الطَّيَالِسِيِّ: فَلَمَّا دَخَلَ لَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهِيَ أَبْيَنُ فِي الْمُرَادِ؛ لِأَنَّ جُلُوسَهُ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ صَلَاتِهِ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي بَيْتِ مُلَيْكَةَ حَيْثُ جَلَسَ فَأَكَلَ ثُمَّ صَلَّى؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ دُعِيَ إِلَى الطَّعَامِ فَبَدَأَ بِهِ، وَهُنَا دُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَبَدَأَ بِهَا.

قَوْلُهُ: (أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَالْجُمْهُورِ مِنْ رُوَاةِ الزُّهْرِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ فِي بَيْتِكَ.

قَوْلُهُ: (وَحَبَسْنَاهُ) أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنَ الرُّجُوعِ.

قَوْلُهُ: (خَزِيرَةٌ) بِخَاءِ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا زَايٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ رَاءٌ ثُمَّ هَاءٌ نَوْعٌ مِنَ الْأَطْعِمَةِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تُصْنَعُ مِنْ لَحْمٍ يُقَطَّعُ صِغَارًا ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ فَإِذَا نَضِجَ ذُرَّ عَلَيْهِ الدَّقِيقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَحْمٌ فَهُوَ عَصِيدَةٌ. وَكَذَا ذَكَرَ يَعْقُوبُ نَحْوَهُ وَزَادَ: مِنْ لَحْمٍ بَاتَ لَيْلَةً قَالَ: وَقِيلَ هِيَ حَسَاءٌ مِنْ دَقِيقٍ فِيهِ دَسَمٌ، وَحَكَى فِي الْجَمْهَرَةِ نَحْوَهُ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَّ الْخَزِيرَةَ مِنَ النُّخَالَةِ، وَكَذَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، قَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِالنُّخَالَةِ دَقِيقٌ لَمْ يُغَرْبَلْ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَلَى جَشِيشَةٍ بِجِيمٍ وَمُعْجَمَتَيْنِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هِيَ أَنْ تُطْحَنَ الْحِنْطَةُ قَلِيلًا ثُمَّ يُلْقَى فِيهَا شَحْمٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَفِي الْمَطَالِعِ: أَنَّهَا رُوِيَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِحَاءٍ وَرَاءَيْنِ مُهْمَلَاتٍ. وَحَكَى الْمُصَنِّفُ فِي الْأَطْعِمَةِ عَنِ النَّضْرِ أَيْضًا أَنَّهَا - أَيِ الَّتِي بِمُهْمَلَاتٍ - تُصْنَعُ مِنَ اللَّبَنِ.

قَوْلُهُ: (فَثَابَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ) بِمُثَلَّثَةٍ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُوَحَّدَةٌ، أَيِ اجْتَمَعُوا بَعْدَ أَنْ تَفَرَّقُوا. قَالَ الْخَلِيلُ: الْمَثَابَةُ مُجْتَمَعُ النَّاسِ بَعْدَ افْتِرَاقِهِمْ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَيْتِ مَثَابَةٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: يُقَالُ: ثَابَ إِذَا رَجَعَ وَثَابَ إِذَا أَقْبَلَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَهْلِ الدَّارِ) أَيِ الْمَحَلَّةِ، كَقَوْلِهِ: خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ أَيْ مَحَلَّتُهُمْ، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ) لَمْ يُسَمَّ هَذَا الْمُبْتَدِئُ.

قَوْلُهُ: (مَالِكُ بْنُ الدُّخَيْشِنِ) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ نُونٌ

قَوْلُهُ: (أَوِ ابْنُ الدُّخْشُنِ) بِضَمِّ الدَّالِ وَالشِّينِ وَسُكُونِ الْخَاءِ بَيْنَهُمَا وَحُكِيَ كَسْرُ أَوَّلِهِ، وَالشَّكُّ فِيهِ مِنَ الرَّاوِي هَلْ هُوَ مُصَغَّرٌ أَوْ مُكَبَّرٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي هُنَا فِي الثَّانِيَةِ بِالْمِيمِ بَدَلَ النُّونِ، وَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمُحَارَبِينَ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ الدُّخْشُنِ بِالنُّونِ مُكَبَّرًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ بِالشَّكِّ، وَنَقَلَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّ الصَّوَابَ الدُّخْشُمُ بِالْمِيمِ وَهِيَ رِوَايَةُ الطَّيَالِسِيِّ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عِتْبَانَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ بَعْضُهُمْ) قِيلَ: هُوَ عِتْبَانُ رَاوِي الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: الرَّجُلُ الَّذِي سَارَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ هُوَ عِتْبَانُ، وَالْمُنَافِقُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ. ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ عِتْبَانَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ الَّذِي سَارَّهُ هُوَ عِتْبَانُ. وَأَغْرَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَنَقَلَ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الَّذِي قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذَلِكَ مُنَافِقٌ هُوَ عِتْبَانُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِهِ هَذَا، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَخْتَلِفْ فِي شُهُودِ مَالِكٍ بَدْرًا وَهُوَ الَّذِي أَسَرَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ: أَلَيْسَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا. قُلْتُ: وَفِي الْمَغَازِي لِابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مَالِكًا هَذَا وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ فَحَرَّقَا مَسْجِدَ الضِّرَارِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا اتُّهِمَ بِهِ مِنَ النِّفَاقِ، أَوْ كَانَ قَدْ أَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ، أَوِ النِّفَاقُ الَّذِي اتُّهِمَ بِهِ لَيْسَ نِفَاقَ الْكُفْرِ إِنَّمَا أَنْكَرَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ تَوَدُّدَهُ لِلْمُنَافِقِينَ،

ص: 521

وَلَعَلَّ لَهُ عُذْرًا فِي ذَلِكَ كَمَا وَقَعَ لِحَاطِبٍ.

قَوْلُهُ: (أَلَا تَرَاهُ قَدْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ولِلطَّيَالِسِيِّ: أَمَا يَقُولُ وَلِمُسْلِمٍ: أَلَيْسَ يَشْهَدُ وَكَأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنْ لَا جَزْمَ بِذَلِكَ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا فِي جَوَابِهِ إِنَّهُ لَيَقُولُ ذَلِكَ وَمَا هُوَ فِي قَلْبِهِ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، عَنْ عِتْبَانَ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ) أَيْ تَوَجُّهَهُ.

قَوْلُهُ: (وَنَصِيحَتُهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُقَالُ: نَصَحْتُ لَهُ لَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: قَدْ ضُمِّنَ مَعْنَى الِانْتِهَاءَ، كَذَا قَالَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى الْمُنَافِقِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَجْهُهُ فَهُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى بِإِلَى، وَأَمَّا مُتَعَلَّقُ نَصِيحَتِهِ فَمَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ الْمَاضِي، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُعَلَّقٌ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَأَلْتُ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْحُصَيْنُ بِمُهْمَلَتَيْنِ لِجَمِيعِهِمْ إِلَّا لِلْقَابِسِيِّ فَضَبَطَهُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَغَلَّطُوهُ.

قَوْلُهُ: (مِنْ سَرَاتِهِمْ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ خِيَارِهِمْ، وَهُوَ جَمْعُ سَرِيٍّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ الْمُرْتَفِعُ الْقَدْرَ مِنْ سَرُوَ الرَّجُلُ يَسْرُو إِذَا كَانَ رَفِيعَ الْقَدْرِ، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّرَاةِ وَهُوَ أَرْفَعُ الْمَوَاضِعِ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَقِيلَ هُوَ رَأْسُهَا.

قَوْلُهُ: (فَصَدَّقَهُ بِذَلِكَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحُصَيْنُ سَمِعَهُ أَيْضًا مِنْ عِتْبَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَمَلَهُ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَلَيْسَ لِلْحُصَيْنِ وَلَا لِعِتْبَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ مَوَاضِعَ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْ عِتْبَانَ أَيْضًا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَسَمِعَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ مَعَ أَبِيهِ مِنْ عِتْبَانَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ سَمِعَ مَحْمُودَ بْنَ الرَّبِيعِ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ عِتْبَانَ فَأَنْكَرَهُ لِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ مِنْ أَنَّ النَّارَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُعَذَّبُ، لَكِنْ لِلْعُلَمَاءِ أَجْوِبَةٌ عَنْ ذَلِكَ: مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ عَقِبَ حَدِيثِ الْبَابِ ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَائِضُ وَأُمُورٌ نَرَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدِ انْتَهَى إِلَيْهَا، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَغْتَرَّ فَلَا يَغْتَرَّ وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ نَزَلَ فَرْضُهَا قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ قَطْعًا، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ تَارِكَهَا لَا يُعَذَّبُ إِذَا كَانَ مُوَحِّدًا.

وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ قَالَهَا مُخْلِصًا لَا يَتْرُكُ الْفَرَائِضَ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ يَحْمِلُ عَلَى أَدَاءِ اللَّازِمِ. وَتُعُقِّبَ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَحْرِيمُ التَّخْلِيدِ أَوْ تَحْرِيمُ دُخُولِ النَّارِ الْمُعَدَّةِ لِلْكَافِرِينَ لَا الطَّبَقَةِ الْمُعَدَّةِ لِلْعُصَاةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَحْرِيمُ دُخُولِ النَّارِ بِشَرْطِ حُصُولِ قَبُولِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّجَاوُزِ عَنِ السَّيِّئِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: إِمَامَةُ الْأَعْمَى، وَإِخْبَارُ الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ عَاهَةٍ وَلَا يَكُونُ مِنَ الشَّكْوَى، وَأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ مَسَاجِدُ لِلْجَمَاعَةِ سِوَى مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَطَرِ وَالظُّلْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاتِّخَاذُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ لِلصَّلَاةِ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ إِيطَانِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَفِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا اسْتَلْزَمَ رِيَاءً وَنَحْوَهُ. وَفِيهِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ وَأَنَّ عُمُومَ النَّهْيِ عَنْ إِمَامَةِ الزَّائِرِ مَنْ زَارَهُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا كَانَ الزَّائِرُ هُوَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ فَلَا يُكْرَهُ، وَكَذَا مَنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ. وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ وَطِئَهَا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ دُعِيَ مِنَ الصَّالِحِينَ لِيُتَبَرَّكَ بِهِ أَنَّهُ يُجِيبُ

(1)

إِذَا أَمِنَ الْفِتْنَةَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِتْبَانُ إِنَّمَا طَلَبَ بِذَلِكَ الْوُقُوفَ عَلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِالْقَطْعِ، وَفِيهِ إِجَابَةُ الْفَاضِلِ دَعْوَةَ الْمَفْضُولِ، وَالتَّبَرُّكُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، وَاسْتِصْحَابُ الزَّائِرِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُسْتَدْعِيَ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَالِاسْتِئْذَانُ عَلَى الدَّاعِي فِي بَيْتِهِ وَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ طَلَبُ الْحُضُورِ، وَأَنَّ اتِّخَاذَ مَكَانٍ فِي الْبَيْتِ لِلصَّلَاةِ لَا يَسْتَلْزِمُ وَقْفِيَّتَهُ وَلَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ اجْتِمَاعُ أَهْلِ

(1)

هذا فيه نظر، والصواب أن مثل هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما جعل الله فيه البركة، وغيره لايقاس عليه، لما بينهما من الفرق العظيم، ولأن فتح هذا الباب قد يفضي إلى الغلو والشرك كما قد وقع من بعض الناس. نسأل الله العافية

ص: 522

الْمَحَلَّةِ عَلَى الْإِمَامِ أَوِ الْعَالِمِ إِذَا وَرَدَ مَنْزِلَ بَعْضِهِمْ لِيَسْتَفِيدُوا مِنْهُ وَيَتَبَرَّكُوا بِهِ

(1)

وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مَنْ يَظُنُّ بِهِ الْفَسَادُ فِي الدِّينِ عِنْدَ الْإِمَامِ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ غِيبَةً، وَأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي ذَلِكَ وَيَحْمِلَ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْجَمِيلِ، وَفِيهِ افْتِقَادُ مَنْ غَابَ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِلَا عُذْرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْإِيمَانِ النُّطْقُ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ، وَأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ.

وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ غَيْرَ تَرْجَمَةِ الْبَابِ وَالَّذِي قَبْلَهُ الرُّخْصَةَ فِي الصَّلَاةِ فِي الرِّحَالِ عِنْدَ الْمَطَرِ وَصَلَاةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً وَسَلَامِ الْمَأْمُومِ حِينَ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ لَا يَجِبُ، وَأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا زَارَ قَوْمًا أَمَّهُمْ، وَشُهُودَ عِتْبَانَ بَدْرًا وَأَكْلَ الْخَزِيرَةِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى يُنَجِّي صَاحِبَهُ إِذَا قَبِلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ نَسَبَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ إِلَى النِّفَاقِ وَنَحْوِهِ بِقَرِينَةٍ تَقُومُ عِنْدَهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَلَا يَفْسُقُ بَلْ يُعْذَرُ بِالتَّأْوِيلِ.

‌47 - باب التَّيَمُّنِ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى، فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى

426 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ: فِي طُهُورِهِ، وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّيَمُّنِ) أَيِ الْبَدَاءَةِ بِالْيَمِينِ (فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ) بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الدُّخُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْمَسْجِدِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَفْيَدُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) أَيْ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا عَنْهُ، لَكِنْ فِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُمْنَى، وَإِذَا خَرَجْتَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكِ الْيُسْرَى وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَى شَرْطِ الْمُصَنِّفِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ، وَعُمُومُ حَدِيثِ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءَةِ بِالْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ أَيْضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فِي قَوْلِهَا: مَا اسْتَطَاعَ احْتِرَازٌ عَمَّا لَا يُسْتَطَاعُ فِيهِ التَّيَمُّنُ شَرْعًا كَدُخُولِ الْخَلَاءِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَذَا تَعَاطِي الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ بِالْيَمِينِ كَالِاسْتِنْجَاءِ وَالتَّمَخُّطِ. وَعَلِمَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها حُبَّهُ صلى الله عليه وسلم لِمَا ذَكَرَتْ إِمَّا بِإِخْبَارِهِ لَهَا بِذَلِكَ، وَإِمَّا بِالْقَرَائِنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ حَدِيثِهَا هَذَا فِي بَابِ التَّيَمُّنِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ.

‌48 - بَاب هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ؟

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، وَمَا يُكْرَهُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْقُبُورِ، وَرَأَى عُمَرُ، أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ. وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ.

427 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ

(1)

هذا غلط. والصواب منع ذلك كما تقدم في غير النبي صلى الله عليه وسلم سدا للذريعة المفضية إلى الشرك

ص: 523

ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

[الحديث 427 - أطرافه في: 3878، 1341، 434]

428 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ أَعْلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَأَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ وَمَلَا بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَا مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا قَالُوا لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ أَنَسٌ فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ خَرِبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ:

اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الْآخِرَهْ

فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِهَانَةِ لَهُمْ، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ فَوَجْهُ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مَنِ اتَّخَذَ قُبُورَهُمْ مَسَاجِدَ تَعْظِيمًا وَمُغَالَاةً كَمَا صَنَعَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَجَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، وَيَتَنَاوَلُ مَنِ اتَّخَذَ أَمْكِنَةَ قُبُورِهِمْ مَسَاجِدَ بِأَنْ تُنْبَشَ وَتُرْمَى عِظَامُهُمْ، فَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْأَنْبِيَاءِ وَيَلْتَحِقُ بِهِمْ أَتْبَاعُهُمْ، وَأَمَّا الْكَفَرَةُ فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ فِي نَبْشِ قُبُورِهِمْ، إِذْ لَا حَرَجَ فِي إِهَانَتِهِمْ.

وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ فِي أَمْكِنَتِهَا تَعْظِيمٌ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَبْشِ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ وَاتِّخَاذِ مَسْجِدِهِ مَكَانَهَا وَبَيْنَ لَعْنِهِ صلى الله عليه وسلم مَنِ اتَّخَذَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ لِمَا تَبَيَّنَ مِنْ الْفَرْقِ، وَالْمَتْنِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ وَصَلَهُ فِي بَابِ الْوَفَاةِ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ هِلَالٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَوَصَلَهُ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ هِلَالٍ وَزَادَ فِيهِ وَالنَّصَارَى، وَذَكَرَهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِالزِّيَادَةِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْقُبُورِ) يَتَنَاوَلُ مَا إِذَا وَقَعَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ أَوْ إِلَى الْقَبْرِ أَوْ بَيْنَ الْقَبْرَيْنِ. وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ مَرْفُوعًا: لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا أَوْ عَلَيْهَا. قُلْتُ: وَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ فَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَوْرَدَ مَعَهُ أَثَرَ عُمَرَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي فَسَادَ الصَّلَاةِ، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رَوَيْنَاهُ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُهُ بَيْنَمَا أَنَسٌ يُصَلِّي إِلَى قَبْرٍ نَادَاهُ عُمَرُ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ، فَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِي الْقَمَرَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ يَعْنِي الْقَبْرَ جَازَ الْقَبْرَ وَصَلَّى وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى بَيَّنْتُهَا فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ وَزَادَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَلِينِي إِنَّمَا يَعْنِي الْقَبْرَ فَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى التَّحْذِيرِ.

وَقَوْلُهُ: (وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ)

ص: 524

اسْتَنْبَطَهُ مِنْ تَمَادِي أَنَسٍ عَلَى الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي فَسَادَهَا لَقَطَعَهَا وَاسْتَأْنَفَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ) أَيْ رَمْلَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ الْأُمَوِيَّةَ (وَأُمَّ سَلَمَةَ) أَيْ هِنْدَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةِ الْمَخْزُومِيَّةَ وَهُمَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتَا مِمَّنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرَتَا) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ ذَكَرَا بِالتَّذْكِيرِ وَهُوَ مُشْكِلٌ.

قَوْلُهُ: (رَأَيْنَهَا) أَيْ هُمَا وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ رَأَتَاهَا وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ قَرِيبًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي الْبِيعَةِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ أَنَّ تِلْكَ الْكَنِيسَةَ كَانَتْ تُسَمَّى مَارِيَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَلَهُ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ طَرِيقِ هِلَالٍ، عَنْ عُرْوَةَ بِلَفْظِ: قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جُنْدَبٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ نَحْوَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُتَوَفَّى بِخَمْسٍ وَزَادَ فِيهِ فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ. انْتَهَى.

وَفَائِدَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى زَمَنِ النَّهْيِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ الْمُحْكَمِ الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ لِكَوْنِهِ صَدَرَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (إِنَّ أُولَئِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا.

قَوْلُهُ: (فَمَاتَ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَانَ وَقَوْلُهُ: بَنَوْا جَوَابُ إِذَا.

قَوْلُهُ: (وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ) وَلِلْمُسْتَمْلِي تِيكَ الصُّوَرَ بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ بَدَلَ اللَّامِ، وَفِي الْكَافِ فِيهَا وَفِي أُولَئِكِ مَا فِي أُولَئِكِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَوَائِلُهُمْ لِيَتَأَنَّسُوا بِرُؤْيَةِ تِلْكَ الصُّوَرِ وَيَتَذَكَّرُوا أَحْوَالَهُمُ الصَّالِحَةَ فَيَجْتَهِدُوا كَاجْتِهَادِهِمْ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ جَهِلُوا مُرَادَهُمْ وَوَسْوَسَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ أَسْلَافَكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ وَيُعَظِّمُونَهَا فَعَبَدُوهَا، فَحَذَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى ذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الْوَعِيدَ عَلَى مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا. وَقَدْ أَطْنَبَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي رَدِّ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَمَّا كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَسْجُدُونَ لِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ وَيَجْعَلُونَهَا قِبْلَةً يَتَوَجَّهُونَ فِي الصَّلَاةِ نَحْوَهَا وَاتَّخَذُوهَا أَوْثَانًا لَعَنَهُمْ وَمَنَعَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنِ اتَّخَذَ مَسْجِدًا فِي جِوَارٍ صَالِحٍ وَقَصَدَ التَّبَرُّكَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ لَا التَّعْظِيمَ لَهُ وَلَا التَّوَجُّهَ نَحْوَهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْوَعِيدِ

(1)

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ حِكَايَةِ مَا يُشَاهِدُهُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْعَجَائِبِ، وَوُجُوبُ بَيَانِ حُكْمِ ذَلِكَ عَلَى الْعَالِمِ بِهِ، وَذَمُّ فَاعِلِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْأَحْكَامِ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ. وَفِيهِ كَرَاهِيَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِجَنْبِ الْقَبْرِ أَوْ عَلَيْهِ أَوْ إِلَيْهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا، وَيَأْتِي حَدِيثُ أَنَسٍ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْهِجْرَةِ، وَإِسْنَادُهُ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ.

428 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ أَعْلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا. قَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ. فَقَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خَرِبٌ، وَفِيهِ نَخْلٌ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ. فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ:

اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ

فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ

وقَوْلُهُ فِيهِ فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ، وَلِلْبَاقِينَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَهُوَ الصَّوَابُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَفِيهِ: وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ السِّيَرِ كَمَا سَيَأْتِي.

وَقَوْلُهُ: وَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ هُمْ أَخْوَالُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ لِأَنَّ أُمَّهُ سَلْمَى مِنْهُمْ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النُّزُولَ عِنْدَهُمْ لَمَّا تَحَوَّلَ مِنْ قُبَاءٍ، وَالنَّجَّارِ بَطْنٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَاسْمُهُ تَيْمُ اللَّاتِ ابْنُ ثَعْلَبَةَ.

قَوْلُهُ: (مُتَقَلِّدِينَ السُّيُوفَ) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ بِحَذْفِ النُّونِ، وَالسُّيُوفِ مَجْرُورَةٌ بِالْإِضَافَةِ.

قَوْلُهُ: (وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ) كَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْدَفَهُ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَنْوِيهَا بِقَدْرِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ نَاقَةٌ هَاجَرَ عَلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْهِجْرَةِ.

وقَوْلُهُ: (وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ) أَيْ جَمَاعَتُهُمْ، وَكَأَنَّهُمْ مَشَوْا مَعَهُ أَدَبًا.

وَقَوْلُهُ: (حَتَّى أَلْقَى) أَيْ أَلْقَى رَحْلَهُ، وَالْفِنَاءُ النَّاحِيَةُ الْمُتَّسِعَةُ

(1)

هذا غلط واضح، والصواب تحريم ذلك ودخوله تحت الأحاديث الناهية عن اتخاذ القبور مساجد، فانتبه واحذر والله الموفق

ص: 525

أَمَامَ الدَّارِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ أَمَرَ) بِالْفَتْحِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقِيلَ: رُوِيَ بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.

قَوْلُهُ: (ثَامِنُونِي) بِالْمُثَلَّثَةِ: اذْكُرُوا لِي ثَمَنُهُ لِأَذْكُرَ لَكُمُ الثَّمَنَ الَّذ ي أَخْتَارَهُ، قَالَ: ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُسَاوَمَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَاوِمُونِي فِي الثَّمَنِ.

قَوْلُهُ: (لَا نَطْلُبُ ثَمَنُهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ) تَقْدِيرُهُ: لَا نَطْلُبُ الثَّمَنَ، لَكِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، أَوْ إِلَى بِمَعْنَى مِنْ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ: أَبَدًا. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْهُ ثَمَنًا. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلَ السِّيَرِ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ فِيهِ) أَيْ فِي الْحَائِطِ الَّذِي بَنَى فِي مَكَانِهِ الْمَسْجِدَ.

قَوْلُهُ: (وَفِيهِ خَرِبٌ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَعْرُوفُ فِيهِ فَتْحُ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرُ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ جَمْعُ خَرِبَةٍ كَكَلِمٍ وَكَلِمَةٍ. قُلْتُ: وَكَذَا ضُبِطَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا كَسْرَ أَوَّلِهِ وَفَتْحَ ثَانِيهِ جَمْعُ خَرِبَةٍ كَعِنَبٍ وَعِنَبَةٍ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ حَرْثٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْوَارِثِ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَرِوَايَةَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ، فَعَلَى هَذَا فَرِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ ضَبْطًا آخَرَ، وَفِيهِ بَحْثٌ سَيَأْتِي مَعَ بَقِيَّةِ مَا فِيهِ فِي كِتَابِ الْهِجْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: (فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ فَاغْفِرِ الْأَنْصَارَ بِحَذْفِ اللَّامِ، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّهُ ضَمَّنَ اغْفِرْ مَعْنَى اسْتُرْ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُسَدَّدٍ بِلَفْظِ فَانْصُرِ الْأَنْصَارَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، وَجَوَازُ نَبْشِ الْقُبُورِ الدَّارِسَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُحْتَرَمَةً، وَجَوَازُ الصَّلَاةِ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ نَبْشِهَا وَإِخْرَاجِ مَا فِيهَا، وَجَوَازُ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي أَمَاكِنِهَا، قِيلَ: وَفِيهِ جَوَازُ قَطْعِ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ لِلْحَاجَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَرَ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُثْمِرُ إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ ذُكُورًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا قَطَعَ ثَمَرَتَهُ. وَسَيَأْتِي صِفَةُ هَيْئَةِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ قَرِيبًا.

‌49 - بَاب الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ

429 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ. ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ: كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ) أَيْ أَمَاكِنِهَا، وَهُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ مِرْبَضٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ.

وحَدِيثُ أَنَسٍ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، لَكِنْ بَيَّنَ هُنَاكَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الصَّلَاةَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ - أَيْ حَيْثُ دَخَلَ وَقْتُهَا - سَوَاءٌ كَانَ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ أَوْ غَيْرِهَا، وَبَيَّنَ هُنَاكَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ، ثُمَّ بَعْدَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ صَارَ لَا يُحِبُّ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ بِنَجَاسَةِ أَبْوَالِ الْغَنَمِ وَأَبْعَارِهَا؛ لِأَنَّ مَرَابِضَ الْغَنَمِ لَا تَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَعَدَمُ السَّلَامَةِ مِنْهَا غَالِبٌ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ قُدِّمَ الْأَصْلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَزِيدُ بَحْثٍ فِيهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي بَابِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ.

(تَنْبِيهٌ): الْقَائِلُ: ثَمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ: هُوَ شُعْبَةُ يَعْنِي أَنَّهُ سَمِعَ شَيْخَهُ يَزِيدَ فِيهِ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ بِدُونِهِ، وَمَفْهُومُ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ بَعْدَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ إِذْنُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.

ص: 526

‌50 - بَاب الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْإِبِلِ

430 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ وَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.

[الحديث 430 - طرفه في: 507]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْإِبِلِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِهِ، لَكِنْ لَهَا طُرُقٌ قَوِيَّةٌ: مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَحَدِيثُ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَند ابْنِ مَاجَهْ، وَفِي مُعْظَمِهَا التَّعْبِيرُ بِمَعَاطِنِ الْإِبِلِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَالْبَرَاءِ مَبَارِكُ الْإِبِلِ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ سُلَيْكٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِي حَدِيثِ سَبْرَةَ وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَعْطَانُ الْإِبِلِ وَفِي حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مُنَاخُ الْإِبِلِ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عند، أَحْمَدَ مَرَابِدُ الْإِبِلِ، فَعَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهَا أَشْمَلُ، وَالْمَعَاطِنُ أَخَصُّ مِنَ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ الْمَعَاطِنَ مَوَاضِعُ إِقَامَتِهَا عِنْدَ الْمَاءِ خَاصَّةً.

وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِالْمَعَاطِنِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْإِبِلُ، وَقِيلَ: هُوَ مَأْوَاهَا مُطْلَقًا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ نَازَعَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْمُصَنِّفَ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى الْبَعِيرِ وَجَعْلِهِ سُتْرَةً عَدَمُ كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي مَبْرَكِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ عِلَّةِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَهِيَ كَوْنُهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ لَامْتَنَعَ مِثْلُهُ فِي جَعْلِهَا أَمَامَ الْمُصَلِّي، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ رَاكِبِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي النَّافِلَةَ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْوَاحِدِ مِنْهَا وَبَيْنَ كَوْنِهَا مُجْتَمِعَةً لِمَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ مِنَ النِّفَارِ الْمُفْضِي إِلَى تَشْوِيشِ قَلْبِ الْمُصَلِّي، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْكُوبِ مِنْهَا أَوْ إِلَى جِهَةِ وَاحِدٍ مَعْقُولٍ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي أَبْوَابِ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقِيلَ: عِلَّةُ النَّهْيِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ بِأَنَّ عَادَةَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ التَّغَوُّطُ بِقُرْبِهَا فَتُنَجَّسُ أَعْطَانُهَا وَعَادَةَ أَصْحَابِ الْغَنَمِ تَرْكُهُ، حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ شَرِيكٍ وَاسْتَبْعَدَهُ، وَغَلِطَ أَيْضًا مَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا يَكُونُ فِي مَعَاطِنِهَا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا؛ لِأَنَّ مَرَابِضَ الْغَنَمِ تَشْرَكُهَا فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّ النَّظَرَ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِهِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّفْرِقَةِ فَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْخَبَرُ بَطَلَتْ مُعَارَضَتُهُ بِالْقِيَاسِ اتِّفَاقًا، لَكِنْ جَمَعَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ عُمُومِ قَوْلِهِ: جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَبَيْنَ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِحَمْلِهَا عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَهَذَا أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَكْمِلَةٌ): وَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، فَلَوْ ثَبَتَ لَأَفَادَ أَنَّ حُكْمَ الْبَقَرِ حُكْمُ الْإِبِلِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الْبَقَرَ فِي ذَلِكَ كَالْغَنَمِ.

‌51 - باب مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَدُ فَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي.

ص: 527

431 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْخَسَفَتْ الشَّمْسُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: أُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ) النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ، (التَّنُّورُ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَضْمُومَةِ: مَا تُوقَدُ فِيهِ النَّارُ لِلْخُبْزِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ فِي الْأَكْثَرِ يَكُونُ حَفِيرَةً فِي الْأَرْضِ، وَرُبَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَوَهِمَ مَنْ خَصَّهُ بِالْأَوَّلِ. قِيلَ: هُوَ مُعَرَّبٌ، وَقِيلَ: هُوَ عَرَبِيٌّ تَوَافَقَتْ عَلَيْهِ الْأَلْسِنَةُ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهِ ذَكَرَ النَّارَ بَعْدَهُ اهْتِمَامًا بِهِ؛ لِأَنَّ عَبَدَةَ النَّارِ مِنَ الْمَجُوسِ لَا يَعْبُدُونَهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَوَقِّدَةً بِالْجَمْرِ كَالَّتِي فِي التَّنُّورِ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ إِلَى التَّنُّورِ وَقَالَ: هُوَ بَيْتُ نَارٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

وَقَوْلُهُ: (أَوْ شَيْءٌ) مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الشَّمْسُ مَثَلًا وَالْأَصْنَامُ وَالتَّمَاثِيلُ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَأْتِي مَوْصُولًا فِي بَابِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَسَيَأْتِي بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِتَمَامِهِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ بِتَمَامِهِ هُنَاكَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ نَازَعَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ فَقَالَ: لَيْسَ مَا أَرَى اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنَ النَّارِ بِمَنْزِلَةِ نَارٍ مَعْبُودَةٍ لِقَوْمٍ يَتَوَجَّهُ الْمُصَلِّي إِلَيْهَا.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مُخْتَارًا، وَإِنَّمَا عَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِلْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ تَنْبِيهِ الْعِبَادِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الِاخْتِيَارَ وَعَدَمَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُقَرُّ عَلَى بَاطِلٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ جَائِزٌ. وَتَفْرِقَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بَيْنَ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً لَكِنَّ الْجَامِعَ بَيْنَ التَّرْجَمَةِ وَالْحَدِيثِ وُجُودُ نَارٍ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: لَمْ يُفْصِحِ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ بِكَرَاهَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَنْ بَقِيَ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِزَالَتِهِ أَوِ انْحِرَافِهِ عَنْهُ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يُكْرَهُ فِي حَقِّ الثَّانِي، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِحَدِيثَيِ الْبَابِ، وَيُكْرَهُ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّمَاثِيلِ، وَكَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ إِلَى التَّنُّورِ أَوْ إِلَى بَيْتِ نَارٍ، وَنَازَعَهُ أَيْضًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَاضِي السُّرُوجِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ فَقَالَ: لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُرِيتَ النَّارَ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَمَامَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الصَّلَاةِ. انْتَهَى. وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ رحمه الله كُوشِفَ بِهَذَا الِاعْتِرَاضِ فَعَجَّلَ بِالْجَوَابِ عَنْهُ حَيْثُ صَدَّرَ الْبَابَ بِالْمُعَلَّقِ عَنْ أَنَسٍ، فَفِيهِ: عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي وَأَمَّا كَوْنُهُ رَآهَا أَمَامَهُ فَسِيَاقُ حَدِيثِ ابْنِ ع بَّاسٍ يَقْتَضِيهِ، فَفِيهِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ بَعْدَ أَنْ انْصَرَفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلَتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ أَيْ تَأَخَّرْتَ إِلَى خَلْفٍ، وَفِي جَوَابِهِ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ أُرِي النَّارَ.

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُعَلَّقِ هُنَا عِنْدَهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مَوْصُولًا لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ وَأَنَا أُصَلِّي وَهَذَا يَدْفَعُ جَوَابَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ مِنَ الْمُصَلِّي وَالْبَعِيدِ.

‌52 - بَاب كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ

432 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

ص: 528

اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا.

[الحديث 432 - طرفه في: 1187]

قَوْلُهُ: (بَابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ) اسْتَنْبَطَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا، أَنَّ الْقُبُورَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْعِبَادَةِ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةً، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَحَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّتِهِ الْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (مِنْ صَلَاتِكُمْ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ النَّوَافِلُ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: إِذَا قَضَى أَحَدَكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ، قُلْتُ: وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي الِاحْتِمَالَ. وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ: اجْعَلُوا بَعْضَ فَرَائِضِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لِيَقْتَدِيَ بِكُمْ مَنْ لَا يَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنْ نِسْوَةٍ وَغَيْرِهِنَّ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الرَّاجِحُ.

وَقَدْ بَالَغَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْفَرِيضَةِ، وَقَدْ نَازَعَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْمُصَنِّفَ أَيْضًا فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فَقَالَ: الْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْقَبْرِ لَا فِي الْمَقَابِرِ. قُلْتُ: قَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْمَقَابِرِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: تَأَوَّلَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ، وَتَأَوَّلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا فِيهِ النَّدْبُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ إِذِ الْمَوْتَى لَا يُصَلُّونَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَكُونُوا كَالْمَوْتَى الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَهِيَ الْقُبُورُ. قَالَ: فَأَمَّا جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ أَوِ الْمَنْعِ مِنْهُ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ذَلِكَ. قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ ذَلِكَ مُطْلَقًا فَلَا، فَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ اسْتِنْبَاطِهِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ تَبَعًا لِلْمَطَالِعِ: إِنَّ تَأْوِيلَ الْبُخَارِيِّ مَرْجُوحٌ، وَالْأَوْلَى قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ إِنَّ الْمَيِّتَ لَا يُصَلَّى فِي قَبْرِهِ.

وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَقْبَرَةَ لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَالْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ أَيْضًا: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ وَطَنًا لِلنَّوْمِ فَقَطْ لَا تُصَلُّونَ فِيهَا فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَالْمَيِّتَ لَا يُصَلِّي. وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: حَاصِلُ مَا يَحْتَمِلُهُ أَرْبَعَةُ مَعَانٍ، فَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْمَاضِيَةَ وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ فِي بَيْتِهِ جَعَلَ نَفْسَهُ كَالْمَيِّتِ وَبَيْتَهُ كَالْقَبْرِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ كَمَثَلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ دَفْنِ الْمَوْتَى فِي الْبُيُوتِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَقَدْ دُفِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُهُ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، قُلْتُ: مَا ادَّعَى أَنَّهُ تَأْوِيلٌ هُوَ ظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ وَلَا سِيَّمَا أنْ جَعَلَ النَّهْيَ حُكْمًا مُنْفَصِلًا عَنِ الْأَمْرِ. وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى رَدِّهِ تَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ.

قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا: مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ، وَفِي إِسْنَادِهِ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى مُرْسَلَةٌ ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَشْجَعِيِّ الصَّحَابِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: فَأَيْنَ يُدْفَنُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَبَضَ اللَّهُ فِيهِ رُوحَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا فِي مَكَانٍ طَيِّبٍ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ. وَالَّذِي قَبْلَهُ أَصْرَحُ فِي الْمَقْصُودِ. وَإِذَا حُمِلَ دَفْنُهُ فِي بَيْتِهِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لَمْ يَبْعُدْ نَهْيُ غَيْرِهِ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُتَّجَهٌ؛ لِأَنَّ اسْتِمْرَارَ الدَّفْنِ فِي

ص: 529

الْبُيُوتِ رُبَّمَا صَيَّرَهَا مَقَابِرَ فَتَصِيرُ الصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةً، وَلَفْظُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الدَّفْنِ فِي الْبُيُوتِ مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌53 - بَاب الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ

وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَرِهَ الصَّلَاةَ بِخَسْفِ بَابِلَ

433 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ.

[الحديث 433 - أطرافه في: 4702، 4420، 4419، 3381، 3380]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ) أَيْ مَا حُكْمُهَا؟ وَذِكْرُ الْعَذَابِ بَعْدَ الْخَسْفِ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْخَسْفَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَذَابِ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا) هَذَا الْأَثَرُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُحِلِّ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ قَالَ: كُنَّا مَعَ عَلِيٍّ فَمَرَرْنَا عَلَى الْخَسْفِ الَّذِي بِبَابِلَ، فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى أَجَازَهُ أَيْ تَعَدَّاهُ. وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُصَلِّيَ فِي أَرْضٍ خَسَفَ اللَّهُ بِهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: ثَلَاثَ مِرَارٍ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالْخَسْفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا خَسْفٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ وَلَفْظُهُ نَهَانِي حَبِيبِي صلى الله عليه وسلم أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَرْضِ بَابِلَ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّائِقُ بِتَعْلِيقِ الْمُصَنِّفِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْخَسْفِ هُنَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} الْآيَةَ، ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْأَخْبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ النُّمْرُوذَ بْنَ كَنْعَانَ بَنَى بِبَابِلَ بُنْيَانًا عَظِيمًا يُقَالُ: إِنَّ ارْتِفَاعَهُ كَانَ خَمْسَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِمْ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ حَرَّمَ الصَّلَاةَ فِي أَرْضِ بَابِلَ، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ عَلِيٍّ ثَابِتًا فَلَعَلَّهُ نَهَاهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا وَطَنًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَقَامَ بِهَا كَانَتْ صَلَاتُهُ فِيهَا، يَعْنِي أَطْلَقَ الْمَلْزُومَ وَأَرَادَ اللَّازِمَ.

قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِعَلِيٍّ إِنْذَارًا لَهُ بِمَا لَقِيَ مِنَ الْفِتْنَةِ بِالْعِرَاقِ. قُلْتُ: وَسِيَاقُ قِصَّةِ عَلِيٍّ الْأُولَى يُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسِ ابْنِ أُخْتِ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (لَا تَدْخُلُوا) كَانَ هَذَا النَّهْيُ لَمَّا مَرُّوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْحِجْرِ دِيَارِ ثَمُودَ فِي حَالِ تَوَجُّهِهِمْ إِلَى تَبُوكَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِبَعْضِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ) بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. وَلَهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ: لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ) لَيْسَ الْمُرَادُ الِاقْتِصَارَ فِي ذَلِكَ عَلَى ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ، بَلْ دَائِمًا عِنْدَ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا الِاسْتِقْرَارُ فَالْكَيْفِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ مَطْلُوبَةٌ فِيهِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ الْبَتَّةَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الصَّلَاةِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَوْضِعُ بُكَاءٍ وَتَضَرُّعٍ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى عَدَمِ مُطَابَقَةِ الْحَدِيثِ لِأَثَرِ عَلِيٍّ. قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ مُطَابِقٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ تَرْكُ النُّزُولِ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَغَازِي فِي آخِرِ الْحَدِيثِ ثُمَّ قَنَّعَ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الْوَادِيَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ وَلَمْ يُصَلِّ هُنَاكَ كَمَا صَنَعَ عَلِيٌّ فِي خَسْفِ بَابِلَ.

وَرَوَى

ص: 530

الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا جَاءَ بِخَاتَمٍ وَجَدَهُ بِالْحِجْرِ فِي بُيُوتِ الْمُعَذَّبِينَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَتَرَ بِيَدِهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَلْقِهِ. فَأَلْقَاهُ، لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ، وَسَيَأْتِي نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسْتَقَى مِنْ مِيَاهِهِمْ فِي كِتَابِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (لَا يُصِيبُكُمْ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ لَا نَافِيَةٌ وَالْمَعْنَى لِئَلَّا يُصِيبَكُمْ. وَيَجُوزُ الْجَزْمُ عَلَى أَنَّهَا نَاهِيَةٌ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَهُوَ نَهْيٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُصِيبَكُمْ أَيْ خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ، وَوَجْهُ هَذِهِ الْخَشْيَةِ أَنَّ الْبُكَاءَ يَبْعَثهُ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، فَكَأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّفَكُّرِ فِي أَحْوَالٍ تُوجِبُ الْبُكَاءَ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أُولَئِكَ بِالْكُفْرِ مَعَ تَمْكِينِهِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِمْهَالِهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ إِيقَاعِ نِقْمَتِهِ بِهِمْ وَشِدَّةِ عَذَابِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ فَلَا يَأْمَنُ الْمُؤْمِنُ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ.

وَالتَّفَكُّرُ أَيْضًا فِي مُقَابَلَةِ أُولَئِكَ نِعْمَة اللَّهِ بِالْكُفْرِ وَإِهْمَالِهِمْ إِعْمَالَ عُقُولِهِمْ فِيمَا يُوجِبُ الْإِيمَانَ بِهِ وَالطَّاعَةَ لَهُ، فَمَنْ مَرَّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيمَا يُوجِبُ الْبُكَاءَ اعْتِبَارًا بِأَحْوَالِهِمْ فَقَدْ شَابَهَهُمْ فِي الْإِهْمَالِ، وَدَلَّ عَلَى قَسَاوَةِ قَلْبِهِ وَعَدَمِ خُشُوعِهِ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَجُرَّهُ ذَلِكَ إِلَى الْعَمَلِ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنْ قَالَ: كَيْفَ يُصِيبُ عَذَابُ الظَّالِمِينَ مَنْ لَيْسَ بِظَالِمٍ؟ لِأَنَّهُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَصِيرَ ظَالِمًا فَيُعَذَّبَ بِظُلْمِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ، وَالزَّجْرُ عَنِ السُّكْنَى فِي دِيَارِ الْمُعَذَّبِينَ، وَالْإِسْرَاعُ عِنْدَ الْمُرُورِ بِهَا، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}

‌54 - بَاب الصَّلَاةِ فِي الْبِيعَةِ

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ إِلَّا بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ

434 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمْ الْعَبْدُ الصَّالِحُ - أَوْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ - بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْبِيعَةِ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتَانِيَّةٌ: مَعْبَدٌ لِلنَّصَارَى. قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ، الْبِيعَةُ صَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ. وَقِيلَ كَنِيسَةُ النَّصَارَى وَالثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْبِيعَةِ الْكَنِيسَةُ وَبَيْتُ الْمِدْرَاسِ وَالصَّوْمَعَةُ وَبَيْتُ الصَّنَمِ وَبَيْتُ النَّارِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ) وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: كَنَائِسَهُمْ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَجَلِ التَّمَاثِيلِ) هُوَ جَمْعُ تِمْثَالٍ بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ بَيْنَهُمَا مِيمٌ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّورَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ فَالصُّورَةُ أَعَمُّ.

قَوْلُهُ: (الَّتِي فِيهَا) الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْكَنِيسَةِ، وَالصُّوَرِ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ التَّمَاثِيلِ أَوْ بَيَانٌ لَهَا، أَوْ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ بِالرَّفْعِ أَيْ أَنَّ التَّمَاثِيلَ مُصَوَّرَةٌ وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذَا لِلتَّمَاثِيلِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَالصُّوَرُ بِزِيَادَةِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ صَنَعَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى طَعَامًا وَكَانَ مِنْ عُظَمَائِهِمْ وَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ تَجِيئَنِي وَتُكْرِمَنِي. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّا لَا نَدْخُلُ

ص: 531

كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ الصُّوَرِ الَّتِي فِيهَا، يَعْنِي التَّمَاثِيلَ.

وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ رِوَايَتَيِ النَّصْبِ وَالْجَرِّ أَوْجَهُ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَالرَّجُلُ الْمَذْكُورُ مِنْ عُظَمَائِهِمُ اسْمُهُ قُسْطَنْطِينُ سَمَّاهُ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيُّ عَنْ عَمِّهِ أَبِي مُسَجَّعَةَ بْنِ رِبْعِيِّ، عَنْ عُمَرَ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ أَخْرَجَهَا.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ) وَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ وَزَادَ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ فِيهَا تَمَاثِيلُ خَرَجَ فَصَلَّى فِي الْمَطَرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَنْ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ، وَأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ السَّكَنِ فِي رِوَايَتِهِ. وَعَبْدَةَ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى نَهْيِ الْمُسْلِمِ عَنْ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْكَنِيسَةِ فَيَتَّخِذَهَا بِصَلَاتِهِ مَسْجِدًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌55 - باب

435، 436 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ - وَهُوَ كَذَلِكَ -: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.

[الحديث 435 - اطرافه في: 5815، 4443، 4441، 3453، 1390، 1330]

[الحديث 436 - أطرافه في: 5816، 4444، 3454]

437 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ، فله تعلق بالباب الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الزَّجْرُ عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مَذْمُومٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ تَصْوِيرٍ أَمْ لَا.

قَوْلُهُ: (لَمَّا نَزَلَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْمَوْتُ، وَلِغَيْرِهِ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَطَفِقَ أَيْ جَعَلَ. وَالْخَمِيصَةُ كِسَاءٌ لَهُ أَعْلَامٌ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ) أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَتْ فِيهِ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَمْرَ الْكَنِيسَةِ الَّتِي رَأَتَاهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّهُ مُرْتَحِلٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ فَخَافَ أَنْ يُعَظَّمَ قَبْرُهُ كَمَا فَعَلَ مَنْ مَضَى فَلَعَنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى إِشَارَةً إِلَى ذَمِّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلَهُمْ.

وَقَوْلُهُ: (اتَّخَذُوا) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ لِمُوجِبِ اللَّعْنِ، كَأَنَّهُ قِيلَ مَا سَبَبُ لَعْنِهِمْ؟ فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ اتَّخَذُوا.

وَقَوْلُهُ: (يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا) جُمْلَةٌ أُخْرَى مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، كَأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حِكْمَةِ ذِكْرِ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَأُجِيبَ بِذَلِكَ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ذِكْرُ النَّصَارَى فِيهِ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَهُمْ أَنْبِيَاءٌ بِخِلَافِ النَّصَارَى فَلَيْسَ بَيْنَ عِيسَى وَبَيْنَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم نَبِيٌّ غَيْرُهُ وَلَيْسَ لَهُ قَبْرٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءٌ أَيْضًا لَكِنَّهُمْ غَيْرُ مُرْسَلِينَ كَالْحَوَارِيِّينَ وَمَرْيَمَ فِي قَوْلٍ، أَوِ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: أَنْبِيَائِهِمْ بِإِزَاءِ الْمَجْمُوعِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالْمُرَادُ الْأَنْبِيَاءُ وَكِبَارُ أَتْبَاعِهِمْ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جُنْدَبٍ: كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، وَلِهَذَا لَمَّا أَفْرَدَ النَّصَارَى فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ قَالَ: إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ،

ص: 532

وَلَمَّا أَفْرَدَ الْيَهُودُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ قَالَ: قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِالِاتِّخَاذِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاعًا أَوِ اتِّبَاعًا، فَالْيَهُودُ ابْتَدَعَتْ وَالنَّصَارَى اتَّبَعَتْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّصَارَى تُعَظِّمُ قُبُورَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تُعَظِّمُهُمُ الْيَهُودُ.

‌56 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا

438 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ - هُوَ أَبُو الْحَكَمِ - قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: جُعِلَتْ لَيَ الْأَرْضُ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ التَّيَمُّمِ، وَأَخْرَجَهُ هُنَاكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ أَيْضًا وَسَعِيدِ بْنِ النَّضْرِ لَكِنَّهُ سَاقَهُ هُنَاكَ عَلَى لَفْظِ سَعِيدٍ وَهُنَا عَلَى لَفْظِ ابْنِ سِنَانٍ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا فِي السَّنَدِ وَلَا فِي الْمَتْنِ، وَإِيرَادُهُ لَهُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْأَبْوَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَيْسَتْ لِلتَّحْرِيمِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا أَيْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَكَانًا لِلسُّجُودِ، أَوْ يَصْلُحُ أَنْ يُبْنَى فِيهِ مَكَانٌ لِلصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيهَا لِلتَّحْرِيمِ، وَعُمُومُ حَدِيثِ جَابِرٍ مَخْصُوصٌ بِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى

(1)

؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ فَلَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُهُ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَرْضِ الْمُتَنَجِّسَةِ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّنَجُّسَ وَصْفٌ طَارِئٌ، وَالِاعْتِبَارُ بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ.

‌57 - بَاب نَوْمِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ

439 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ فَأَعْتَقُوهَا فَكَانَتْ مَعَهُمْ. قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ. قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ - أَوْ وَقَعَ مِنْهَا - فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ وَهُوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا فَخَطِفَتْهُ. قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ. قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي بِهِ. قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا. قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ إِذْ مَرَّتْ الْحُدَيَّاةُ فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ زَعَمْتُمْ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ وَهُوَ ذَا هُوَ. قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَتْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ حِفْشٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي. قَالَتْ: فَلَا تَجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا إِلَّا قَالَتْ:

وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا

أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي

(1)

في كون الأول أولى نظر. والأصح الثاني. وعليه تكون المقبرة ونحوها مما صح النهي عن الصلاة فيه مخصوصة من عموم حديث جابر المذكور. والله أعلم

ص: 533

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَها: مَا شَأْنُكِ لَا تَقْعُدِينَ مَعِي مَقْعَدًا إِلَّا قُلْتِ هَذَا؟ قَالَتْ: فَحَدَّثَتْنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ.

[الحديث 439 - طرفه في: 3835]

قَوْلُهُ: (بَابُ نَوْمِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ وَإِقَامَتِهَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ وَلِيدَةً) أَيْ أَمَةً، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الْمَوْلُودَةُ سَاعَةَ تُولَدُ قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْأَمَةِ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ فَخَرَجَتْ) الْقَائِلَةُ ذَلِكَ هِيَ الْوَلِيدَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَقَدْ رَوَتْ عَنْهَا عَائِشَةُ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَالْبَيْتَ الَّذِي أَنْشَدَتْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ وَلَا وَقَفَتْ عَلَى اسْمِهَا وَلَا عَلَى اسْمِ الْقَبِيلَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ وَلَا عَلَى اسْمِ الصَّبِيَّةِ صَاحِبَةِ الْوِشَاحِ.

وَالْوِشَاحُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَيَجُوزُ إِبْدَالُهَا أَلِفًا: خَيْطَانِ مِنْ لُؤْلُؤٍ يُخَالَفُ بَيْنَهُمَا وَتَتَوَشَّحُ بِهِ الْمَرْأَةُ، وَقِيلَ يُنْسَجُ مِنْ أَدِيمٍ عَرِيضًا وَيُرَصَّعُ بِاللُّؤْلُؤِ وَتَشُدُّهُ الْمَرْأَةُ بَيْنَ عَاتِقِهَا وَكَشْحِهَا. وَعَنِ الْفَارِسِيِّ: لَا يُسَمَّى وِشَاحًا حَتَّى يَكُونُ مَنْظُومًا بِلُؤْلُؤٍ وَوَدَعٍ. انْتَهَى.

وَقَوْلُهَا فِي الْحَدِيثِ: مِنْ سُيُورٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِلْدٍ، وَقَوْلُهَا بَعْدُ: فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا لَا يَنْفِي كَوْنَهُ مُرَصَّعًا؛ لِأَنَّ بَيَاضَ اللُّؤْلُؤِ عَلَى حُمْرَةِ الْجِلْدِ يَصِيرُ كَاللَّحْمِ السَّمِينِ.

قَوْلُهُ: (فَوَضَعَتْهُ أَوْ وَقَعَ مِنْهَا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَقَدْ رَوَاهُ ثَابِتٌ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ فَزَادَ فِيهِ أَنَّ الصَّبِيَّةَ كَانَتْ عَرُوسًا فَدَخَلَتْ إِلَى مُغْتَسَلِهَا فَوَضَعَتِ الْوِشَاحَ.

قَوْلُهُ: (حُدَيَّاةٌ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ تَصْغِيرُ حِدَأَةٍ بِالْهَمْزِ بِوَزْنِ عِنَبَةٍ، وَيَجُوزُ فَتْحُ أَوَّلِهِ. وَهِيَ الطَّائِرُ الْمَعْرُوفُ الْمَأْذُونُ فِي قَتْلِهِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَالْأَصْلُ فِي تَصْغِيرِهَا حُدَيْأَةٌ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ لَكِنْ سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ وَأُدْغِمَتْ ثُمَّ أُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ فَصَارَتْ أَلِفًا، وَتُسَمَّى أَيْضًا الْحُدَّى بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ مَقْصُورٌ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: الْحِدَوْ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْخَفِيفَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَجَمْعُهَا حُدَأٌ كَالْمُفْرَدِ بِلَا هَاءٍ، وَرُبَّمَا قَالُوهُ بِالْمَدِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا) كَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ، وَإِلَّا فَمُقْتَضَى السِّيَاقُ أَنْ تَقُولَ قُبُلِي وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْوَلِيدَةِ أَوْرَدَتْهُ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا أَوْ تَجْرِيدًا، وَزَادَ فِيهِ ثَابِتٌ أَيْضًا قَالَتْ: فَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُبَرِّئَنِي فَجَاءَتِ الْحُدَيَّا وَهُمْ يَنْظُرُونَ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ ذَا هُوَ) تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الثَّانِي خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَوْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ ذَا وَالْمَجْمُوعُ خَبَرًا عَنِ الْأَوَّلِ وَيُحْتَمَلُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ: وَهَا هُوَ ذَا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: وَهُوَ ذَا كَمَا تَرَوْنَ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ) أَيْ عَائِشَةُ (فَجَاءَتْ) أَيِ الْمَرْأَةُ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَتْ) أَيِ الْمَرْأَةُ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ: فَكَانَ. وَالْخِبَاءُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَبِالْمَدِّ: الْخَيْمَةُ مِنْ وَبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ لَا يَكُونُ مِنْ شَعْرٍ. وَالْحِفْشُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ: الْبَيْتُ الصَّغِيرُ الْقَرِيبُ السُّمْكِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الِانْحِفَاشِ وَهُوَ الِانْضِمَامُ، وَأَصْلُهُ الْوِعَاءُ الَّذِي تَضَعُ الْمَرْأَةُ فِيهِ غَزْلَهَا.

قَوْلُهُ: (فَتَحَدَّثُ) بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ.

قَوْلُهُ: (تَعَاجِيبُ) أَيْ أَعَاجِيبُ وَاحِدُهَا أُعْجُوبَةٌ، وَنَقَلَ ابْنُ السَّيِّدِ أَنَّ تَعَاجِيبَ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا إِنَّهُ) بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهَذَا الْبَيْتُ الَّذِي أَنْشَدَتْهُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ عَرُوضُهُ مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنَ الطَّوِيلِ وَأَجْزَاؤُهُ ثَمَانِيَةٌ وَوَزْنُهُ فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، لَكِنْ دَخَلَ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ الْقَبْضُ وَهُوَ حَذْفُ الْخَامِسِ السَّاكِنِ فِي ثَانِي جُزْءٍ مِنْهُ، فَإِنْ أُشْبِعَتْ حَرَكَةُ الْحَاءِ مِنَ الْوِشَاحِ صَارَ سَالِمًا.

أَوْ قُلْتُ: وَيَوْمُ وِشَاحٍ بِالتَّنْوِينِ بَعْدَ حَذْفِ التَّعْرِيفِ صَارَ الْقَبْضُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ الْبَيْتِ وَهُوَ أَخَفُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَاسْتِعْمَالُ الْقَبْضِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي وَكَذَا السَّادِسِ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ جِدًّا نَادِرٌ فِي أَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ، وَهُوَ

ص: 534

عِنْدَ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَصْلَحُ مِنَ الْكَفِّ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْكَفِّ - وَهُوَ حَذْفُ السَّابِعِ السَّاكِنِ - وَبَيْنَ الْقَبْضِ بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَعَاقَبَا. وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُ هَذَا الْقَدْرَ هُنَا؛ لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ مِنَ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ.

وَفِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْمَبِيتِ وَالْمَقِيلِ فِي الْمَسْجِدِ لِمَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ، وَإِبَاحَةُ اسْتِظْلَالِهِ فِيهِ بِالْخَيْمَةِ وَنَحْوِهَا، وَفِيهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَرْءِ فِيهِ الْمِحْنَةُ، وَلَعَلَّهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ كَمَا وَقَعَ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ. وَفِيهِ فَضْلُ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَإِجَابَةِ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا؛ لِأَنَّ فِي السِّيَاقِ أَنَّ إِسْلَامَهَا كَانَ بَعْدَ قُدُومِهَا الْمَدِينَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌58 - بَاب نَوْمِ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ

وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ: قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ الْفُقَرَاءَ.

440 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ لَا أَهْلَ لَهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

440 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ "أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ لَا أَهْلَ لَهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"

[الحديث 440 - أطرافه في: 7030، 7028، 7015، 3740، 3738، 1156، 1121]]

441 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ "أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ" قَالَتْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِإِنْسَانٍ "انْظُرْ أَيْنَ هُوَ" فَجَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ "قُمْ أَبَا تُرَابٍ قُمْ أَبَا تُرَابٍ".

[الحديث 441 - أطرافه في: 6280، 6204، 3703]

قَوْلُهُ: (بَابُ نَوْمِ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ جَوَازِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَرَاهِيَتُهُ إِلَّا لِمَنْ يُرِيدُ الصَّلَاةَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُطْلَقًا، وَعَنْ مَالِكٍ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَيُكْرَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ فَيُبَاحُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُهُمْ فِي الطَّهَارَةِ. وَهَذَا اللَّفْظُ أَوْرَدَهُ فِي الْمُحَارَبِينَ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) هُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَأْتِي فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ. وَالصُّفَّةُ مَوْضِعٌ مُظَلَّلٌ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ كَانَتْ تَأْوِي إِلَيْهِ الْمَسَاكِينُ، وَقَدْ سَبَقَ الْبُخَارِيَّ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ الْعُمَرِيُّ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَذَا مُخْتَصَرٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثٍ لَهُ طَوِيلٍ يَأْتِي فِي بَابِ فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا أَيْضًا بِلَفْظِ: كُنَّا نَنَامُ.

قَوْلُهُ: (أَعْزَبُ) الْمُهْمَلَةُ وَالزَّايُ أَيْ غَيْرُ مُتَزَوِّجٍ. وَالْمَشْهُورُ فِيهِ عَزِبٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَالْأَوَّلُ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ مَعَ أَنَّ الْقَزَّازَ

ص: 535

أَنْكَرَهَا.

وَقَوْلُهُ: (لَا أَهْلَ لَهُ) هُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ أَعْزَبُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ فَيَدْخُلَ فِيهِ الْأَقَارِبُ وَنَحْوُهُمْ.

وَقَوْلُهُ: (فِي مَسْجِدٍ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَنَامُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ وَالِدُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ) فِيهِ إِطْلَاقُ ابْنِ الْعَمِّ عَلَى أَقَارِبِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ عَمِّ أَبِيهَا لَا ابْنُ عَمِّهَا، وَفِيهِ إِرْشَادُهَا إِلَى أَنْ تَخَاطُبَهُ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِعْطَافِ بِذِكْرِ الْقَرَابَةِ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَهِمَ مَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا فَأَرَادَ اسْتِعْطَافَهَا عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ وَكَسْرِ الْقَافِ، مِنَ الْقَيْلُولَةِ وَهُوَ نَوْمُ نِصْفِ النَّهَارِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِإِنْسَانٍ) يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ سَهْلٌ رَاوِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُهُ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ قَالَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي هُنَا مُخَالَفَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: (انْظُرْ أَيْنَ هُوَ) الْمَكَانَ الْمَخْصُوصَ مِنَ الْمَسْجِدِ. وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فَأَمَرَ إِنْسَانًا مَعَهُ فَوَجَدَهُ مُضْطَجِعًا فِي فَيْءِ الْجِدَارِ.

قَوْلُهُ: (هُوَ رَاقِدٌ فِي الْمَسْجِدِ) فِيهِ مُرَادُ التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ لِمَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ، وَكَذَا بَقِيَّةُ أَحَادِيثِ الْبَابِ، إِلَّا قِصَّةَ عَلِيٍّ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي التَّعْمِيمَ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ نَوْمِ اللَّيْلِ وَبَيْنَ قَيْلُولَةِ النَّهَارِ.

وَفِي حَدِيثِ سَهْلٍ هَذَا مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا جَوَازُ الْقَائِلَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمُمَازَحَةُ الْمُغْضَبِ بِمَا لَا يَغْضَبُ مِنْهُ بَلْ يَحْصُلُ بِهِ تَأْنِيسُهُ، وَفِيهِ التَّكْنِيَةُ بِغَيْرِ الْوَلَدِ وَتَكْنِيَةُ مَنْ لَهُ كُنْيَةٌ، وَالتَّلْقِيبُ بِالْكُنْيَةِ لِمَنْ لَا يَغْضَبُ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ أَنَّهُ كَانَ يَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ بِذَلِكَ. وَفِيهِ مُدَارَةُ الصِّهْرِ وَتَسْكِينُهُ مِنْ غَضَبِهِ، وَدُخُولُ الْوَالِدِ بَيْتَ ابْنتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا حَيْثُ يَعْلَمُ رِضَاهُ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِبْدَاءِ الْمَنْكِبَيْنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي فَضَائِلِ عَلِيٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

442 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أهل الصُّفَّةِ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ سَلْمَانُ الْأَشْجَعِيُّ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَبِي حَازِمٍ الَّذِي قَبْلَهُ فِي السِّنِّ وَاللِّقَاءِ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مَدَنِيَّيْنِ تَابِعِيَّيْنِ ثِقَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ رَأَيْتَ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ) يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَآهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ غَيْرَ السَّبْعِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ أَيْضًا لَكِنَّهُمُ اسْتُشْهِدُوا قَبْلَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدِ اعْتَنَى بِجَمْعِ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَعِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ، وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرُوهُ اعْتِرَاضٌ وَمُنَاقَشَةٌ، لَكِنْ لَا يَسَعُ هَذَا الْمُخْتَصَرَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (رِدَاءٌ) هُوَ مَا يَسْتُرُ أَعَالِيَ الْبَدَنِ فَقَطْ.

وَقَوْلُهُ: (إِمَّا إِزَارٌ) أَيْ فَقَطْ (وَإِمَّا كِسَاءٌ) أَيْ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَشْرُوحَةِ فِي الْمَتْنِ.

وَقَوْلُهُ: (قَدْ رَبَطُوا) أَيِ الْأَكْسِيَةَ فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِلْعِلْمِ بِهِ.

وَقَوْلُهُ: (فَمِنْهَا) أَيْ مِنَ الْأَكْسِيَةِ.

قَوْلُهُ: (فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ) أَيِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ ذَلِكَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ فِي الصَّلَاةِ. وَمُحَصَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ ثَوْبَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي بَابِ إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا.

ص: 536

‌59 - بَاب الصَّلَاةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ

وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ.

443 -

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهُ قَالَ ضُحًى - فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي.

[الحديث 443 - أطرافه في: 6387، 5367، 5247، 5246، 5245، 5244، 5243، 5080، 5079، 4052، 3090، 3089، 3087، 2967، 2861، 2718، 2604، 2603، 2470، 240، 2394، 2385، 2309، 2097، 1801]

قَوْلُه (بَابُ الصَّلَاةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ) أَيْ فِي الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ كَعْبٌ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ تَخَلُّفِهِ وَتَوْبَتِهِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ حَدِيثُ جَابِرٍ لِيَجْمَعَ بَيْنَ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرِهِ فَلَا يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مِسْعَرٌ أُرَاهُ) بِالضَّمِّ أَيْ أَظُنُّهُ، وَالضَّمِيرُ لِمُحَارِبٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْحَمَوِيِّ وَكَانَ لَهُ أَيْ لِجَابِرٍ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ:(فَقَضَانِي) الْتِفَاتٌ. وَهَذَا الدَّيْنُ هُوَ ثَمَنُ جَمَلِ جَابِرٍ. وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ فَوَائِدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ مَوْضِعًا مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا وَمَوْصُولًا وَمُعَلَّقًا. وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَقَاضِيَهُ لِثَمَنِ الْجَمَلِ كَانَ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنَ السَّفَرِ كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا. وَغَفَلَ مُغَلْطَايْ حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ مَا بَوَّبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ جَابِرًا لَمْ يَقْدَمْ مِنْ سَفَرٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ الصَّلَاةُ مَقْصُودَةٌ لِلْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ يَنْوِي بِهَا صَلَاةَ الْقُدُومِ، لَا أَنَّهَا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الَّتِي أُمِرَ الدَّاخِلُ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ، لَكِنْ تَحْصُلُ التَّحِيَّةُ بِهَا. وَتَمَسَّكَ بَعْضُ مَنْ مَنَعَ الصَّلَاةَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ وَلَوْ كَانَتْ ذَاتَ سَبَبٍ بِقَوْلِهِ: ضُحًى وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ.

‌60 - بَاب إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ

444 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ.

[الحديث 444 - طرفه في: 1163]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ) حَذَفَ الْفَاعِلَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ كَلَفْظِ الْمَتْنِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) بِفَتْحَتَيْنِ، هَكَذَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: عَنْ جَابِرٍ بَدَلَ أَبِي قَتَادَةَ، وَخَطَّأَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا.

قَوْلُهُ: (السَّلَمِيُّ) بِفَتْحَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّ كَالَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَرْكَعْ) أَيْ: فَلْيُصَلِّ، مِنْ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ.

قَوْلُهُ: (رَكْعَتَيْنِ) هَذَا الْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لِأَكْثَرِهِ بِاتِّفَاقٍ، وَاخْتُلِفَ فِي أَقَلِّهِ، وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُهُ فَلَا تَتَأَدَّى هَذِهِ السُّنَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَتَيْنِ. وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ لِلنَّدْبِ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ الْوُجُوبَ، وَالَّذِي صَرَّحَ بِهِ

ص: 537

ابْنُ حَزْمٍ عَدَمُهُ، وَمِنْ أَدِلَّةِ عَدَمِ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم الَّذِي رَآهُ يَتَخَطَّى: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِصَلَاةٍ، كَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا: الْأَوْقَاتُ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لَيْسَ هَذَا الْأَمْرُ بِدَاخِلٍ فِيهَا. قُلْتُ: هُمَا عُمُومَانِ تَعَارَضَا، الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ لِكن دَاخِلٍ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِ أَحَدِ الْعُمُومَيْنِ، فَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى تَخْصِيصِ النَّهْيِ وَتَعْمِيمِ الْأَمْرِ - وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى عَكْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ) صَرَّحَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ إِذَا خَالَفَ وَجَلَسَ لَا يُشْرَعُ لَهُ التَّدَارُكُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ: دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَرَكَعْتَ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْهُمَا، تَرْجَمَ عَلَيْهِ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ لَا تَفُوتُ بِالْجُلُوسِ. قُلْتُ: وَمِثْلُهُ قِصَّةُ سُلَيْكٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجُمُعَةِ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: وَقْتُهُمَا قَبْلَ الْجُلُوسِ وَقْتُ فَضِيلَةٍ وَبَعْدَهُ وَقْتُ جَوَازٍ، أَوْ يُقَالُ: وَقْتُهُمَا قَبْلَهُ أَدَاءٌ وَبَعْدَهُ قَضَاءٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُحْمَلَ مَشْرُوعِيَّتُهُمَا بَعْدَ الْجُلُوسِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ.

(فَائِدَةٌ): حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ هَذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرْكَعَ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ جَالِسًا وَالنَّاسُ جُلُوسٌ. قَالَ: فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَعْطُوا الْمَسَاجِدَ حَقَّهَا، قِيلَ لَهُ: وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ.

‌61 - بَاب الْحَدَثِ فِي الْمَسْجِدِ

445 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَدَثِ فِي الْمَسْجِدِ) قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ مَنَعَ الْمُحْدِثَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ أَوْ يَجْلِسَ فِيهِ وَجَعَلَهُ كَالْجُنُبِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ هُنَا الرِّيحُ وَنَحْوُهُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ. وَقَدْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَدَثِ هُنَا أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ مَا لَمْ يُحْدِثْ سُوءًا. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ، مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، وَفِي أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ بِحَدَثٍ فِيهِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ تَفْسِيرٌ لِلْأُولَى.

قَوْلُهُ: (الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي)، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي بِزِيَادَةِ إِنَّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةُ أَوِ السَّيَّارَةُ أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (تَقُولُ إِلَخْ) هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: تُصَلِّي.

قَوْلُهُ: (مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ) مَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا انْصَرَفَ عَنْهُ انْقَضَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ بَيَانُ فَضِيلَةِ مَنِ انْتَظَرَ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ ثَبَتَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسْجِدِ أَمْ تَحَوَّلَ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَفْظُهُ: وَلَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ، فَأَثْبَتَ لِلْمُنْتَظِرِ حُكْمَ الْمُصَلِّي، فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: فِي مُصَلَّاهُ عَلَى الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلصَّلَاةِ، لَا الْمَوْضِعِ الْخَاصِّ بِالسُّجُودِ، فَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَخَالُفٌ.

وَقَوْلُهُ: (مَا لَمْ يُحْدِثْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يُبْطِلُ ذَلِكَ وَلَوِ اسْتَمَرَّ جَالِسًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ فِي الْمَسْجِدِ أَشَدُّ مِنَ

ص: 538

النُّخَامَةِ

(1)

لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ لَهَا كَفَّارَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ لِهَذَا كَفَّارَةً، بَلْ عُومِلَ صَاحِبُهُ بِحِرْمَانِ اسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ، وَدُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ مَنْ جَلَسَ يَنْتَظِرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌62 - بَاب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنْ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ، وَقَالَ أَنَسٌ: يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى

قَوْلُهُ: (بَابُ بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ) أَيِ النَّبَوِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ) هُوَ الْخُدْرِيُّ، وَالْقَدْرُ الْمَذْكُورُ هُنَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ فِي ذِكْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الِاعْتِكَافِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ عُمَرُ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةٍ فِي ذِكْرِ تَجْدِيدِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أُكِنُّ النَّاسَ) وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا أُكِنُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَضْمُومَةِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ مِنْ أَكَنَّ الرُّبَاعِيِّ، يُقَالُ: أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ إِكْنَانًا أَيْ صُنْتُهُ وَسَتَرْتُهُ، وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ كَنَنْتُهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ بِمَعْنَى أَكْنَنْتُهُ، وَفَرَّقَ الْكِسَائِيُّ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: كَنَنْتُهُ أَيْ سَتَرْتُهُ، وَأَكْنَنْتُهُ فِي نَفْسِي أَيْ أَسْرَرْتُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ أَكِنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ، فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الْإِكْنَانِ أَيْضًا، وَيُرَجِّحُهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَأَمَرَ عُمَرُ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَإِيَّاكَ، وَتُوَجَّهُ الْأُولَى بِأَنَّهُ خَاطَبَ الْقَوْمَ بِمَا أَرَادَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الصَّانِعِ، فَقَالَ لَهُ: وَإِيَّاكَ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَإِيَّاكَ عَلَى التَّجْرِيدِ كَأَنَّهُ خَاطَبَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، قَالَ عِيَاضٌ: وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْأَصِيلِيِّ، وَالْقَابِسِيِّ - أَيْ وَأَبِي ذَرٍّ - كِنَّ النَّاسَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا. وَجَوَّزَ ابْنُ مَالِكٍ ضَمَّ الْكَافِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كُنَّ فَهُوَ مَكْنُونٌ. انْتَهَى. وَهُوَ مُتَّجَهٌ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ لَا تُسَاعِدُهُ.

قَوْلُهُ: (فَتَفْتِنَ النَّاسَ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَتَنَ، وَضَبَطَهُ ابْنُ التِّينِ بِالضَّمِّ مِنْ أَفْتَنَ، وَذَكَرَ أَنَّ الْأَصْمَعِيَّ أَنْكَرَهُ، وَأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ أَجَازَهُ، فَقَالَ: فَتَنَ وَأَفْتَنَ بِمَعْنًى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَانَ عُمَرُ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ رَدِّ الشَّارِعِ الْخَمِيصَةَ إِلَى أَبِي جَهْمٍ مِنْ أَجْلِ الْأَعْلَامِ الَّتِي فِيهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا أَلْهَتْنِي عَنْ صَلَاتِي. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عُمَرَ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: مَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا شَيْخَهُ جُبَارَةَ بْنَ الْمُغَلِّسِ فَفِيهِ مَقَالٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ: يَتَبَاهَوْنَ بِهَا) بِفَتْحِ الْهَاءِ، أَيْ: يَتَفَاخَرُونَ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ رَوَيْنَاهُ مَوْصُولًا فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ أَنَسًا قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ يَتَبَاهَوْنَ بِالْمَسَاجِدِ، ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَالطَّرِيقُ الْأُولَى أَلْيَقُ بِمُرَادِ الْبُخَارِيِّ. وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الْمَسَاجِدِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: يَتَبَاهَوْنَ

(1)

هذا فيه تفصيل: فان قصد بالحدث المعصية أو البدعة فما قاله الشارح متوجه، وإن أريد بالحدث الريح ونحوها مما ينقض الطهارة سوى البول ونحوه فليس ماقاله الشارح واضحا، والصواب إباحة ذلك أو كراهته من غير تحريم، وإن فاتته به صلاة الملائكة وبؤيد الثانى ما ذكره الشارح في شرح الحديث 477 فتنبه

ص: 539

بِكَثْرَةِ الْمَسَاجِدِ. (تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا الْمُرَادُ بِهِ عِمَارَتُهَا بِالصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ بُنْيَانَهَا، بِخِلَافِ مَا يَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا) بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ لَامُ الْقَسَمِ وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَهِيَ نُونُ التَّأْكِيدِ، وَالزَّخْرَفَةُ الزِّينَةُ، وَأَصْلُ الزُّخْرُفِ الذَّهَبُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ. وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَكَذَا مَوْقُوفًا، وَقَبْلَهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَلَفْظُهُ: مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ، وَظَنَّ الطِّيبِيُّ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ أَنَّهُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فَشَرَحَهُ عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي لَتُزَخْرِفُنَّهَا مَكْسُورَةٌ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ لِلْمَنْفِيِّ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: مَا أُمِرْتُ بِالتَّشْيِيدِ لِيُجْعَلَ ذَرِيعَةً إِلَى الزَّخْرَفَةِ، قَالَ: وَالنُّونُ فِيهِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، وَفِيهِ نَوْعُ تَوْبِيخٍ وَتَأْنِيبٍ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ فَتْحُ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا جَوَابُ الْقَسَمِ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْأَوَّلُ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ الرِّوَايَةُ أَصْلًا فَلَا يُغْتَرُّ بِهِ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ مَفْصُولٌ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ لِلِاخْتِلَافِ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: التَّشْيِيدُ رَفْعُ الْبِنَاءِ وَتَطْوِيلُهُ، وَإِنَّمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مَعَابِدَهَا حِينَ حَرَّفُوا كُتُبَهُمْ وَبَدَّلُوهَا.

446 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ، ابْنُ سَعْدٍ. وَرِوَايَةُ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مَدَنِيَّانِ ثِقَتَانِ تَابِعِيَّانِ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (بِاللَّبِنِ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ.

قَوْلُهُ: (وَعَمَدَهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَمَا، وَكَذَا قَوْلُهُ خَشَبٌ.

قَوْلُهُ: (وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ) أَيْ: بِجِنْسِ الْآلَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ هَيْئَتِهِ إِلَّا تَوْسِيعَهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ)، أَيْ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: التَّوْسِيعُ، وَتَغْيِيرُ الْآلَاتِ.

قَوْلُهُ: (بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ) أَيْ بَدَلَ اللَّبِنِ، وَلِلْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي بِحِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَالْقَصَّةُ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ الْجَصُّ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: تُشْبِهُ الْجَصَّ وَلَيْسَتْ بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَسَقَفَهُ) بِلَفْظِ الْمَاضِي عَطْفًا عَلَى جَعَلَ، وَبِإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى عُمُدِهِ، وَالسَّاجُ نَوْعٌ مِنَ الْخَشَبِ مَعْرُوفٌ يُؤْتَى بِهِ مِنَ الْهِنْدِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ الْقَصْدُ وَتَرْكُ الْغُلُوِّ فِي تَحْسِينِهِ، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ مَعَ كَثْرَةِ الْفُتُوحِ فِي أَيَّامِهِ وَسَعَةِ الْمَالِ عِنْدَهُ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَسْجِدَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى تَجْدِيدِهِ؛ لِأَنَّ جَرِيدَ النَّخْلِ كَانَ قَدْ نَخِرَ فِي أَيَّامِهِ، ثُمَّ كَانَ عُثْمَانُ وَالْمَالُ فِي زَمَانِهِ أَكْثَرَ، فَحَسَّنَهُ بِمَا لَا يَقْتَضِي الزَّخْرَفَةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ قَلِيلٍ.

وَأَوَّلُ مَنْ زَخْرَفَ الْمَسَاجِدَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَسَكَتَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَرَخَّصَ فِي

ص: 540

ذَلِكَ بَعْضُهُمْ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - إِذَا وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِلْمَسَاجِدِ، وَلَمْ يَقَعِ الصَّرْفُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمَّا شَيَّدَ النَّاسُ بُيُوتَهُمْ وَزَخْرَفُوهَا نَاسَبَ أَنْ يُصْنَعَ ذَلِكَ بِالْمَسَاجِدِ صَوْنًا لَهَا عَنِ الِاسْتِهَانَةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَنْعَ إِنْ كَانَ لِلْحَثِّ عَلَى اتِّبَاعِ السَّلَفِ فِي تَرْكِ الرَّفَاهِيَةِ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ لِخَشْيَةِ شَغْلِ بَالِ الْمُصَلِّي بِالزَّخْرَفَةِ فَلَا لِبَقَاءِ الْعِلَّةِ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِإِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا سَيَقَعُ، فَوَقَعَ كَمَا قَالَ.

‌63 - بَاب التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة 17 - 18]

447 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَلِابْنِهِ عَلِيٍّ: انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى أَتَى على ذِكْرِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ.

[الحديث 447 - طرفه في: 2812]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ. وَزَادَ غَيْرُهُ قَبْلَ قَوْلِهِ:{مَا كَانَ} وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل وَفِي آخِرِهِ إِلَى قَوْلِهِ {الْمُهْتَدِينَ} ، وَذِكْرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ مِنْ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{مَسَاجِدَ اللَّهِ} يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَوَاضِعُ السُّجُودِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْأَمَاكِنُ الْمُتَّخَذَةُ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى الثَّانِي يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِعِمَارَتِهَا بُنْيَانُهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْإِقَامَةُ لِذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) هَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَقَامَ عَلَى الْبَصْرَةِ أَمِيرًا مُدَّةً وَمَعَهُ مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ.

قَوْلُهُ: (انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الْخُدْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا هُوَ) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجِهَادِ: فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِطٍ لَهُمَا.

قَوْلُهُ: (يُصْلِحُهُ) قَالَ فِي الْجِهَادِ: يَسْقِيَانِهِ، وَالْحَائِطُ: الْبُسْتَانُ، وَهَذَا الْأَخُ زَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ وَهُوَ أَخُو أَبِي سَعِيدٍ لِأُمِّهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ، فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وُلِدَ فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عَلِيٍّ وَمَاتَ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلَيْسَ لِأَبِي سَعِيدٍ أَخٌ شَقِيقٌ وَلَا أَخٌ مِنْ أَبِيهِ وَلَا مِنْ أُمِّهِ إِلَّا قَتَادَةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَلَمْ أَقِفْ إِلَى الْآنَ عَلَى اسْمِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَحْوِي جَمِيعَهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ أَمَرَ ابْنَهُ بِالْأَخْذِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِ لِطَلَبِ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَقْدَمُ صُحْبَةً وَأَكْثَرُ سَمَاعًا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ مَا كَانَ السَّلَفُ عَلَيْهِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَعَدَمِ التَّكَبُّرِ

ص: 541

وَتَعَاهُدِ أَحْوَالِ الْمَعَاشِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالِاعْتِرَافِ لِأَهْلِ الْفَضْلِ بِفَضْلِهِمْ وَإِكْرَامِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَتَقْدِيمِ حَوَائِجِهِمْ عَلَى حَوَائِجِ أَنْفُسِهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى) فِيهِ التَّأَهُّبُ لِإِلْقَاءِ الْعِلْمِ وَتَرْكِ التَّحْدِيثِ فِي حَالَةِ الْمِهْنَةِ إِعْظَامًا لِلْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى أَتَى عَلَى ذِكْرِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ) أَيِ: النَّبَوِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: حَتَّى إِذَا أَتَى.

قَوْلُهُ: (وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ) زَادَ مَعْمَرٌ فِي جَامِعِهِ: لَبِنَةً عَنْهُ وَلَبِنَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ جَوَازُ ارْتِكَابِ الْمَشَقَّةِ فِي عَمَلِ الْبِرِّ، وَتَوْقِيرِ الرَّئِيسِ وَالْقِيَامِ عَنْهُ بِمَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَفَضْلُ بُنْيَانِ الْمَسَاجِدِ.

قَوْلُهُ: (فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْفُضُ) فِيهِ التَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي مَوْضِعِ الْمَاضِي مُبَالَغَةً لِاسْتِحْضَارِ ذَلِكَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَجَعَلَ يَنْفُضُ.

قَوْلُهُ: (التُّرَابَ عَنْهُ) زَادَ فِي الْجِهَادِ عَنْ رَأْسِهِ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَفِيهِ إِكْرَامُ الْعَامِلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ.

قَوْلُهُ: (وَيَقُولُ) أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، (وَيْحَ عَمَّارٍ) هِيَ كَلِمَةُ رَحْمَةٍ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ إِذَا أُضِيفَتْ، فَإِنْ لَمْ تُضَفْ جَازَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ مَعَ التَّنْوِينِ فِيهِمَا.

قَوْلُهُ: (يَدْعُوهُمْ) أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَالْمُرَادُ قَتَلَتُهُ كَمَا ثَبَتَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَخْ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ:: كَانَ قَتْلُهُ بِصِفِّينَ وَهُوَ مَعَ عَلِيٍّ وَالَّذِينَ قَتَلُوهُ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهُمْ مُجْتَهِدُونَ لَا لَوْمَ عَلَيْهِمْ فِي اتِّبَاعِ ظُنُونِهِمْ، فَالْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْجَنَّةِ الدُّعَاءُ إِلَى سَبَبِهَا وَهُوَ طَاعَةُ الْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْوَاجِبُ الطَّاعَةُ إِذْ ذَاكَ، وَكَانُوا هُمْ يَدْعُونَ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ مَعْذُورُونَ لِلتَّأْوِيلِ الَّذِي ظَهَرَ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ تَبَعًا لِلْمُهَلَّبِ: إِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا فِي الْخَوَارِجِ الَّذِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ عَمَّارًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَلَا يَصِحُّ فِي أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَتَابَعَهُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ. وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْخَوَارِجَ إِنَّمَا خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ بَعْدَ قَتْلِ عَمَّارٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بذَلِكَ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ أَمْرِ الْخَوَارِجِ كَانَ عَقِبَ التَّحْكِيمِ، وَكَانَ التَّحْكِيمُ عَقِبَ انْتِهَاءِ الْقِتَالِ بِصِفِّينَ، وَكَانَ قَتْلُ عَمَّارٍ قَبْلَ ذَلِكَ قَطْعًا، فَكَيْفَ يَبْعَثُهُ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ بَعْدَ مَوْتِهِ.

ثَانِيهَا: أَنَّ الَّذِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ، عَمَّارًا إِنَّمَا هُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ بَعَثَهُ يَسْتَنْفِرُهُمْ عَلَى قِتَالِ عَائِشَةَ وَمَنْ مَعَهَا قَبْلَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَكَانَ فِيهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةٌ كَمَنْ كَانَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَأَفْضَلُ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، فَمَا فَرَّ مِنْهُ الْمُهَلَّبُ وَقَعَ فِي مِثْلِهِ مَعَ زِيَادَةِ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِمْ تَسْمِيَةَ الْخَوَارِجِ وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ.

ثَالِثُهَا: أَنَّهُ شَرَحَ عَلَى ظَاهِرِ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ النَّاقِصَةِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ وَكَرِيمَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَا ثَبَتَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ قَابَلَهَا عَلَى نُسْخَةِ الْفَرَبْرِيِّ الَّتِي بِخَطِّهِ زِيَادَةٌ تُوَضِّحُ الْمُرَادَ وَتُفْصِحُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى قَتَلَتِهِ وَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ، وَلَفْظُهُ: وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ الْحَدِيثَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ، وَقَالَ: إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْهَا أَصْلًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَلَعَلَّهَا لَمْ تَقَعْ لِلْبُخَارِيِّ، أَوْ وَقَعَتْ فَحَذَفَهَا عَمْدًا. قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْبَرْقَانِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَهَا عَمْدًا وَذَلِكَ لِنُكْتَةٍ خَفِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ اعْتَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُدْرَجَةٌ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي بَيَّنَتْ ذَلِكَ لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَحَمْلِهُمْ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَفِيهِ: فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَحَدَّثَنِي أَصْحَابِي وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ اهـ.

وَابْنُ سُمَيَّةَ هُوَ عَمَّارٌ، وَسُمَيَّةُ اسْمُ أُمِّهِ.

وَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ

ص: 542

مُسْلِمٍ، وَقَدْ عَيَّنَ أَبُو سَعِيدٍ مَنْ حَدَّثَهُ بِذَلِكَ، فَفِي مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو قَتَادَةَ، فَذَكَرَهُ فَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي سَمِعَهُ أَبُو سَعِيدٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى دِقَّةِ فَهْمِهِ وَتَبَحُّرِهِ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى عِلَلِ الْأَحَادِيثِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ أَيْضًا لَمْ تَقَعْ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَهِيَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ وَهِيَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَمَّارُ أَلَا تَحْمِلُ كَمَا يَحْمِلُ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ مِنَ اللَّهِ الْأَجْرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ زِيَادَةُ مَعْمَرٍ فِيهِ أَيْضًا.

(فَائِدَةٌ): رَوَى حَدِيثَ تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةٍ مِنْهُمْ: قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأُمُّ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَحُذَيْفَةُ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَأَبُو رَافِعٍ، وَخُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَأَبُو الْيُسْرِ، وَعَمَّارٌ نَفْسُهُ، وَكُلُّهَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَغَالِبُ طُرُقِهَا صَحِيحَةٌ أَوْ حَسَنَةٌ، وَفِيهِ عَنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ يَطُولُ عَدُّهُمْ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَفَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعَلِيٍّ، وَلِعَمَّارٍ وَرَدٌّ عَلَى النَّوَاصِبِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا فِي حُرُوبِهِ. قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ:(يَقُولُ عَمَّارٌ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْفِتَنِ، وَلَوْ عَلِمَ الْمَرْءُ أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ فِيهَا بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُفْضِي إِلَى وُقُوعِ مَا لَا يَرَى وُقُوعَهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَفِيهِ رَدٌّ لِلْحَدِيثِ الشَّائِعِ: لَا تَسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ فَإِنَّ فِيهَا حَصَادُ الْمُنَافِقِينَ. قُلْتُ: وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ وَهْبٍ قَدِيمًا عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّهُ بَاطِلٌ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْفِتَنِ ذِكْرُ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهَا وَمَا يَنْبَغِي مِنَ الْعَمَلِ عِنْدَ وُقُوعِهَا. أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

‌64 - بَاب الِاسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَالْمَسْجِدِ

448 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عن أَبُي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى امْرَأَةٍ أن مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَالْمَسْجِدِ) الصُّنَّاعُ بِضَمِّ الْمُهْمِلَةِ جَمْعُ صَانِعٍ، وَذِكْرُهُ بَعْدَ النَّجَّارِ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ أَوْ فِي التَّرْجَمَةِ لَفٌّ وَنَشْرٌ، فَقَوْلُهُ: فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ لِيَتَعَلَّقَ بِالنَّجَّارِ، وَقَوْلُهُ: وَالْمَسْجِدِ يَتَعَلَّقُ بِالصُّنَّاعِ، أَيْ: وَالِاسْتِعَانَةُ بِالصُّنَّاعِ فِي الْمَسْجِدِ، أَيْ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ. وَحَدِيثُ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ سَهْلٍ، وَجَابِرٍ جَمِيعًا يَتَعَلَّقُ بِالنَّجَّارِ فَقَطْ، وَمِنْهُ تُؤْخَذُ مَشْرُوعِيَّةُ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ مِنَ الصُّنَّاعِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: بَنَيْتُ الْمَسْجِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ يَقُولُ: قَرِّبُوا الْيَمَامِيَّ مِنَ الطِّينِ، فَإِنَّهُ أَحْسَنُكُمْ لَهُ مَسًّا وَأَشَدُّكُمْ لَهُ سَبْكًا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: فَأَخَذْتُ الْمِسْحَاةَ فَخَلَطْتُ الطِّينَ فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ، فَقَالَ: دَعُوا الْحَنَفِيِّ وَالطِّينَ، فَإِنَّهُ أَضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَلَفْظُهُ: فَقَلَتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَأَنْقُلُ كَمَا يَنْقُلُونَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ اخْلِطْ لَهُمُ الطِّينَ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ.

قَوْلُهُ: (إِلَى امْرَأَةٍ) تَقَدُّمَ ذِكْرُهَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالسُّطُوحِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى غَلَطِ مَنْ سَمَّاهَا عُلَاثَةَ، وَكَذَا التَّنْبِيهُ عَلَى اسْمِ غُلَامِهَا، وَسَاقَ الْمَتْنَ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي الْبُيُوعِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَسَنَذْكُرُ فَوَائِدَهُ فِي كِتَابِ الْجُمْعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

449 -

حَدَّثَنَا خَلَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ

ص: 543

اللَّهِ، أَلَا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا، قَالَ: إِنْ شِئْتِ، فَعَمِلَتْ الْمِنْبَرَ.

[الحديث 449 - أطرافه في: 3585، 3584، 2095، 918]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَلَّادٌ) هُوَ ابْنُ يَحْيَى، وَأَيْمَنُ بِوَزْنِ أَفْعَلَ، وَهُوَ الْحَبَشِيُّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ امْرَأَةً) هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ سِيَاقِ حَدِيثِ جَابِرٍ مُخَالِفٌ لِسِيَاقِ حَدِيثِ سَهْلٍ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا أَنَّهَا ابْتَدَأَتْ بِالْعَرْضِ، وَفِي حَدِيثِ سَهْلٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهَا يَطْلُبُ ذَلِكَ، أَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ابْتَدَأَتْ بِالسُّؤَالِ مُتَبَرِّعَةً بِذَلِكَ، فَلَمَّا حَصَلَ لَهَا الْقَبُولُ أَمْكَنَ أَنْ يُبْطِئَ الْغُلَامُ بِعَمَلِهِ، فَأَرْسَلَ يَسْتَنْجِزُهَا إِتْمَامَهُ لِعِلْمِهِ بِطِيبِ نَفْسِهَا بِمَا بَذَلَتْهُ. قَالَ: وَيُمْكِنُ إِرْسَالُهُ إِلَيْهَا لِيُعَرِّفَهَا بِصِفَةِ مَا يَصْنَعُهُ الْغُلَامُ مِنَ الْأَعْوَادِ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْبَرًا.

قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: أَلَا أَجْعَلُ لَكَ منبرًا، فَلَعَلَّ التَّعْرِيفَ وَقَعَ بِصِفَةٍ لِلْمِنْبَرِ مَخْصُوصَةٍ. أَوْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ إِلَيْهَا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ لَهَا: إِنْ شِئْتِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْبُطْءِ، لَا أَنَّ الْغُلَامَ كَانَ شَرَعَ وَأَبْطَأَ، وَلَا أَنَّهُ جَهِلَ الصِّفَةَ، وَهَذَا أَوْجَهُ الْأَوْجُهِ فِي نَظَرِي.

قَوْلُهُ: (أَلَا أَجْعَلُ لَكَ) أَضَافَتِ الْجَعْلَ إِلَى نَفْسِهَا مَجَازًا.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَإِنِّي لِي غُلَامٌ نَجَّارٌ وَقَدِ اخْتَصَرَ الْمُؤَلِّفُ هَذَا الْمَتْنَ أَيْضًا، وَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ قَبُولُ الْبَذْلِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَاسْتِنْجَازُ الْوَعْدِ مِمَّنْ يُعْلَمُ مِنْهُ الْإِجَابَةُ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَى أَهْلِ الْفَضْلِ بِعَمَلِ الْخَيْرِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ فَوَائِدِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌65 - بَاب مَنْ بَنَى مَسْجِدًا

450 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ الْخَوْلَانِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ - عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ بَنَى مَسْجِدًا - قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ - يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا) أَيْ: مَا لَهُ مِنَ الْفَضْلِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَبُكَيْرٌ بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْأَسْوَدِ. وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ: بُكَيْرٌ، وَعَاصِمٌ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَوَّلِهِ مِصْرِيُّونَ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ آخِرِهِ مَدَنِيُّونَ، وَفِي وَسَطِهِ مَدَنِيُّ سَكَنَ مِصْرَ وَهُوَ بُكَيْرٌ، فَانْقَسَمَ الْإِسْنَادُ إِلَى مِصْرِيٍّ وَمَدَنِيِّ.

قَوْلُهُ: (عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ) وَقْعَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَيْثُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ - وَهُوَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ - قَالَ: لَمَّا أَرَادَ عُثْمَانُ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ كَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ وَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعُوهُ عَلَى هَيْئَتِهِ أَيْ: فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: حِينَ بَنَى أَيْ: حِينِ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لَعَلَّ الَّذِي كَرِهَ الصَّحَابَةُ مِنْ عُثْمَانَ بِنَاؤُهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ لَا مُجَرَّدُ تَوْسِيعِهِ. انْتَهَى.

وَلَمْ يَبْنِ عُثْمَانُ الْمَسْجِدَ إِنْشَاءً، وَإِنَّمَا وَسَّعَهُ وَشَيَّدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ إِطْلَاقُ الْبِنَاءِ فِي حَقِّ مَنْ جَدَّدَ كَمَا يُطْلَقُ فِي حَقِّ مَنْ أَنْشَأَ. أَوِ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ هُنَا بَعْضُ الْمَسْجِدِ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ.

قَوْلُهُ: (مَسْجِدُ الرَّسُولِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْحَمَوِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ: مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ) حُذِفَ الْمَفْعُولُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْمُرَادُ الْكَلَامُ بِالْإِنْكَارِ

ص: 544

وَنَحْوُهُ. (تَنْبِيهٌ): كَانَ بِنَاءُ عُثْمَانَ لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ سَنَةَ ثَلَاثِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ فِي آخِرِ سَنَةٍ مِنْ خِلَافَتِهِ، فَفِي كِتَابِ السِّيَرِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ بُنْيَانِ عُثْمَانَ الْمَسْجِدَ: لَوَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يُنْجَزُ، فَإِنَّهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ بُنْيَانِهِ قُتِلَ عُثْمَانُ. قَالَ مَالِكٌ: فَكَانَ كَذَلِكَ.

قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ تَارِيخَ ابْتِدَائِهِ وَالثَّانِي تَارِيخَ انْتِهَائِهِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا) التَّنْكِيرُ فِيهِ لِلشُّيُوعِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَزَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُثْمَانَ: وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. وَعِنْدَ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ: كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ، وَحَمَلَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي تَفْحَصُ الْقَطَاةُ عَنْهُ لِتَضَعَ فِيهِ بَيْضَهَا وَتَرْقُدَ عَلَيْهِ لَا يَكْفِي مِقْدَارُهُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ جَابِرٍ هَذِهِ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَزِيدَ فِي مَسْجِدٍ قَدْرًا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ هَذَا الْقَدْرَ، أَوْ يَشْتَرِكُ جَمَاعَةٌ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ فَتَقَعُ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُتَّخَذُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ مَوْضِعَ السُّجُودِ وَهُوَ مَا يَسَعُ الْجَبْهَةَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، لَكِنَّ قَوْلَهُ بَنَى يُشْعِرُ بِوُجُودِ بِنَاءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أُمِّ حَبِيبَةَ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ بَيْتًا، أَخْرَجَهُ سَمُّوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ: مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْمَكَانُ الْمُتَّخَذُ لَا مَوْضِعُ السُّجُودِ فَقَطْ، لَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ الْآخَرِ مَجَازًا، إِذْ بِنَاءُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَقَدْ شَاهَدْنَا كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ فِي طُرُقِ الْمُسَافِرِينَ يُحَوِّطُونَهَا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَهِيَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، وَبَعْضُهَا لَا تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ قَدَرِ مَوْضِعِ السُّجُودِ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ نَحْو حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَزَادَ: قُلْتُ: وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الَّتِي فِي الطُّرُقِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلِلطَّبَرانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِرْصَافَةَ وَإِسْنَادُهُمَا حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ) أَيْ: شَيْخَهُ عَاصِمًا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ) أَيْ: يَطْلُبُ بِهِ رِضَا اللَّهِ وَالْمَعْنَى بِذَلِكَ: الْإِخْلَاصُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَجْزِمْ بِهَا بُكَيْرٌ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَرَهَا إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِ هَكَذَا، وَكَأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ بِلَفْظِهَا، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ رَوَى حَدِيثَ عُثْمَانَ مِنْ جَمِيعِ الطُّرُقِ إِلَيْهِ لَفْظُهُمْ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا، فَكَأَنَّ بُكَيْرًا نَسِيَهَا فَذَكَرَهَا بِالْمَعْنَى مُتَرَدِّدًا فِي اللَّفْظِ الَّذِي ظَنَّهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: لِلَّهِ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ.

فَائِدَةٌ: قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَنْ كَتَبَ اسْمَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي يَبْنِيهِ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْإِخْلَاصِ. انْتَهَى. وَمَنْ بَنَاهُ بِالْأُجْرَةِ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا الْوَعْدُ الْمَخْصُوصُ لِعَدَمِ الْإِخْلَاصِ وَإِنْ كَانَ يُؤَجَّرُ فِي الْجُمْلَةِ. وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةً الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ الْمُحْتَسِبَ فِي صَنْعَتِهِ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَالْمُمِدَّ بِهِ، فَقَوْلُهُ: الْمُحْتَسِبَ فِي صَنْعَتِهِ أَيْ: مَنْ يَقْصِدُ بِذَلِكَ إِعَانَةَ الْمُجَاهِدِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَطَوِّعًا بِذَلِكَ أَوْ بِأُجْرَةٍ، لَكِنَّ الْإِخْلَاصَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْمُتَطَوِّعِ، وَهَلْ يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمَذْكُورُ لِمَنْ جَعَلَ بُقْعَةً مِنَ الْأَرْضِ مَسْجِدًا بِأَنْ يَكْتَفِيَ بِتَحْوِيطِهَا مِنْ غَيْرِ بَنَاءٍ، وَكَذَا مَنْ عَمَدَ إِلَى بِنَاءٍ كَانَ يَمْلِكُهُ فَوَقَفَهُ مَسْجِدًا؟ إِنْ وَقَفْنَا مَعَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَلَا، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى الْمَعْنَى فَنَعَمْ وَهُوَ الْمُتَّجِهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: بَنَى حَقِيقَةً فِي الْمُبَاشِرِ بِشَرْطِهَا،

ص: 545

لَكِنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي دُخُولَ الْآمِرِ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ الْمُنْطَبِقُ عَلَى اسْتِدْلَالِ عُثْمَانَ رضي الله عنه؛ لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.

قَوْلُهُ: (بَنَى اللَّهُ) إِسْنَادُ الْبِنَاءِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ، وَإِبْرَازُ الْفَاعِلِ فِيهِ لِتَعْظِيمِ ذِكْرِهِ جَلَّ اسْمُهُ، أَوْ لِئَلَّا تَتَنَافَرَ الضَّمَائِرُ، أَوْ يُتَوَهَّمَ عَوْدُهُ عَلَى بَانِي الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (مِثْلَهُ) صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: بَنَى بِنَاءً مِثْلَهُ، وَلَفْظُ الْمِثْلِ لَهُ اسْتِعْمَالَانِ: أَحَدُهُمَا الْإِفْرَادُ مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} وَالْآخَرُ الْمُطَابَقَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ أَبْنِيَةً مُتَعَدِّدَةً، فَيَحْصُلُ جَوَابُ مَنِ اسْتَشْكَلَ التَّقْيِيدَ بِقَوْلِهِ: مِثْلَهُ مَعَ أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: بَنَى اللَّهُ لَهُ عَشَرَةَ أَبْنِيَةٍ مَثْلَهُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ ثَوَابَ الْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ وَاحِدٌ بِحُكْمِ الْعَدْلِ، وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْفَضْلِ. وَأَمَّا مَنْ أَجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فَفِيهِ بُعْدٌ، وَكَذَا مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْوَاحِدِ لَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.

وَمِنَ الْأَجْوِبَةِ الْمَرْضِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ هُنَا بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ، وَالزِّيَادَةَ حَاصِلَةٌ بِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ، فَكَمْ مِنْ بَيْتٍ خَيْرٍ مِنْ عَشَرَةٍ بَلْ مِنْ مِائَةٍ. أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمِثْلِيَّةِ أَنَّ جَزَاءَ هَذِهِ الْحَسَنَةِ مِنْ جِنْسِ الْبِنَاءِ لَا مِنْ غَيْرِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ التَّفَاوُتَ حَاصِلٌ قَطْعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ضِيقِ الدُّنْيَا وَسِعَةِ الْجَنَّةِ، إِذْ مَوْضِعُ شِبْرٍ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بِلَفْظِ: بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَلِلطَّبَرانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِلَفْظِ: أَوْسَعَ مِنْهُ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمِثْلِيَّةَ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا الْمُسَاوَاةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ فَضْلَهُ عَلَى بُيُوتِ الْجَنَّةِ كَفَضْلِ الْمَسْجِدِ عَلَى بُيُوتِ الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: (فِي الْجَنَّةِ) يَتَعَلَّقُ بِبَنَى، أَوْ هُوَ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِثْلَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى دُخُولِ فَاعِلِ ذَلِكَ الْجَنَّةَ، إِذِ الْمَقْصُودُ بِالْبِنَاءِ لَهُ أَنْ يَسْكُنَهُ، وَهُوَ لَا يَسْكُنُهُ إِلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌66 - بَاب يَأْخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ

451 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرٍو: أَسَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا

[الحديث 451 - طرفاه في: 7074، 7072]

قَوْلُهُ: (بَابُ يَأْخُذُ) أَيِ: الشَّخْصُ، (بِنُصُولٍ) جَمْعُ نَصْلٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى نِصَالٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

(وَالنَّبْلُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَهَا لَامٌ: السِّهَامُ الْعَرَبِيَّةُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا. وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ:(إِذَا مَرَّ) مَحْذُوفٌ، وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ:(يَأْخُذُ)، أَوِ التَّقْدِيرُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَعَهُ نَبْلٌ أَنَّهُ يَأْخُذُ، إِلَخْ.

وسُفْيَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ قُتَيْبَةُ فِي هَذَا السِّيَاقِ جَوَابَ عَمْرٍو عَنِ اسْتِفْهَامِ سُفْيَانَ، كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَحُكِيَ عَنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي آخِرِهِ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَمْ أَرَهُ فِيهَا. وَقَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ قُتَيْبَةَ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفِتَنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ مِثْلَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَقَالَ: نَعَمْ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو بِغَيْرِ سُؤَالٍ وَلَا جَوَابٍ، لَكِنَّ سِيَاقَ الْمُصَنِّفِ يُفِيدُ تَحَقُّقَ الِاتِّصَالِ فِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ سُفْيَانَ أَيْضًا، أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَجُلًا مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ بَأَسْهُمٍ قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا، فَأَمَرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا كَيْ لَا تَخْدِشَ مُسْلِمًا، وَلَيْسَ فِي سِيَاقِ الْمُصَنِّفِ

ص: 546

كَيْ. وَأَفَادَتْ رِوَايَةُ سُفْيَانَ تَعْيِينَ الْآمِرِ الْمُبْهَمِ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ، وَأَفَادَتْ رِوَايَةُ حَمَّادٍ بَيَانَ عِلَّةَ الْأَمْرِ بِذَلِكَ.

وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الْمَارَّ الْمَذْكُورَ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِالنَّبْلِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ إِلَى الْآنَ.

(فَائِدَةٌ): قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَدِيثُ جَابِرٍ لَا يَظْهَرُ فِيهِ الْإِسْنَادُ؛ لِأَنَّ سُفْيَانَ لَمْ يَقُلْ إِنَّ عَمْرًا قَالَ لَهُ: نَعَمْ. قَالَ: وَلَكِنْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: فَقَالَ: نَعَمْ، فَبَانَ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ إِسْنَادُ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَرْجُوحِ فِي اشْتِرَاطِ قَوْلِ الشَّيْخِ نَعَمْ إِذَا قَالَ لَهُ الْقَارِئُ مَثَلًا: أَحَدَّثَكَ فَلَانٌ؟ وَالْمَذْهَبُ الرَّاجِحُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ - وَمِنْهُمُ الْبُخَارِيُّ - أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ، بَلْ يُكْتَفَى بِسُكُوتِ الشَّيْخِ إِذَا كَانَ مُتَيَقِّظًا، وَعَلَى هَذَا فَالْإِسْنَادُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ ظَاهِرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ قَلِيلِ الدَّمِ وكَثِيرِهِ، وَتَأْكِيدُ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ، وَجَوَازُ إِدْخَالِ السِّلَاحِ الْمَسْجِدَ. وَفِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَقْلِيبِ السِّلَاحِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا تَقَدَّمَ.

‌67 - بَاب الْمُرُورِ فِي الْمَسْجِدِ

452 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِهَا لَا يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا.

[الحديث 452 - طرفه في: 7075]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُرُورِ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: جَوَازِهِ، وَهُوَ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ جِهَةِ الْأَوْلَوِيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى بِتَرْجَمَةِ الْمُرُورِ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ بِتَرْجَمَةِ الْأَخْذِ بِالنِّصَالِ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْحَدِيثَيْنِ يَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنَ التَّرْجَمَتَيْنِ؟ أُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى لَفْظِ الْمَتْنِ، فَإِنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمُرُورِ مِنْ لَفْظِ الشَّارِعِ، بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فَإِنَّ فِيهِ لَفْظَ الْمُرُورِ مَقْصُودًا حَيْثُ جُعِلَ شَرْطًا وَرُتِّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى اللَّفْظِ الَّذِي وَقَعَ لِلْمُصَنِّفِ عَلَى شَرْطِهِ وَإِلَّا فَقَدَ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ الْحَدِيثَ. وَعَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اسْمُهُ بَرِيدٌ، وَشَيْخُهُ هُوَ جَدُّهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفِتَنِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ بَرِيدٍ نَحْوَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ أَسْوَاقُنَا) هُوَ تَنْوِيعٌ مِنَ الشَّارِعِ وَلَيْسَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِنَبْلٍ لِلْمُصَاحَبَةِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى نِصَالِهَا) ضُمِّنَ الْأَخْذُ مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَلَى بِمَعْنَى الْبَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ عَمْرٍو، وَسَيَأْتِي مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ.

قَوْلُهُ: (لَا يَعْقِرْ) أَيْ: لَا يَجْرَحْ، وَهُوَ مَجْزُومٌ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ.

قَوْلُهُ: (بِكَفِّهِ) مُتَعَلِّقٌ بُقُولِهِ فَلْيَأْخُذْ، وَكَذَا رِوَايَةُ الْأَصِيلِيِّ: لَا يَعْقِرْ مُسْلِمًا بِكَفِّهِ لَيْسَ قَوْلُهُ: بِكَفِّهِ مُتَعَلِّقًا بِيَعْقِرْ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلْيَأْخُذْ بِكَفِّهِ عَلَى نِصَالِهَا لَا يَعْقِرْ مُسْلِمًا. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبِي أُسَامَةَ: فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ: فَلْيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا، ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا، ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا.

ص: 547

‌68 - بَاب الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ

453 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ

[الحديث 453 - طرفاه في 6152، 3212]

قَوْلُهُ: (بَابُ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: مَا حُكْمُهُ؟

قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ) كَذَا رَوَاهُ شُعَيْبٌ، وَتَابَعَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بَدَلَ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَهَذَا مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ عِنْدَهُ عَنْهُمَا مَعًا، فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً عَنْ هَذَا وَتَارَةً عَنْ هَذَا، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَتَعَقَّبُهَا الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى الشَّيْخَيْنِ لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فَلْيُسْتَدْرَكْ عَلَيْهِ. وَفِي الْإِسْنَادِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ التَّتَبُّعِ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: مَرَّ عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ وَحَسَّانُ يُنْشِدُ، فَقَالَ: كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ الْحَدِيثَ.

وَرِوَايَةُ سَعِيدٍ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ عِنْدَهُمْ مُرْسَلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ الْمُرُورِ، وَلَكِنْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ سَعِيدًا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدُ أَوْ مِنْ حَسَّانَ، أَوْ وَقْعَ لِحَسَّانَ اسْتِشْهَادُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرَّةً أُخْرَى، فَحَضَرَ ذَلِكَ سَعِيدٌ، وَيُقَوِّيهِ سِيَاقُ حَدِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ سَمِعَ حَسَّانَ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَلَمَةَ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ مُرُورِ عُمَرَ أَيْضًا، فَإِنَّهُ أَصْغَرُ مِنْ سَعِيدٍ، فَدَلَّ عَلَى تَعَدُّدِ الِاسْتِشْهَادِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتُ حَسَّانَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَاسْتِشْهَادُهُ بِهِ إِنَّمَا وَقَعَ مُتَأَخِّرًا؛ لِأَنَّ ثُمَّ لَا تَدُلُّ عَلَى الْفَوْرِيَّةِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ سَعِيدٌ أَرْسَلَ قِصَّةَ الْمُرُورِ، ثُمَّ سَمِعَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِشْهَادَ حَسَّانَ، لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّهُ الْمَرْفُوعُ، وَهُوَ مَوْصُولًا بِلَا تَرَدُّدٍ. وَاللَّهُ أَع لَمُ.

قَوْلُهُ: (يَسْتَشْهِدُ) أَيْ: يَطْلُبُ الشَّهَادَةَ، وَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ مُبَالَغَةً فِي تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ.

قَوْلُهُ: (أَنْشُدُكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: سَأَلْتُكَ اللَّهَ، وَالنَّشْدُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ التَّذَكُّرُ.

قَوْلُهُ: (أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ أَجِبْ عَنِّي فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي هُنَا بِالْمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (أَيِّدْهُ) أَيْ: قَوِّهِ، وَرُوحُ الْقُدُسِ الْمُرَادُ هَنَا جِبْرِيلُ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا بِلَفْظِ: وَجِبْرِيلُ مَعَكَ، وَالْمُرَادُ بِالْإِجَابَةِ الرَّدُّ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ هَجَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْصِبُ لِحَسَّانَ مِنْبَرًا فِي الْمَسْجِدِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ يَهْجُو الْكُفَّارَ، وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ تَعْلِيقًا نَحْوَهُ، وَأَتَمَّ مِنْهُ، لَكِنِّي لَمْ أَرَهُ فِيهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ حَسَّانَ أَنْشَدَ شِعْرًا فِي الْمَسْجِدِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّانَ: أَجِبْ عَنِّي كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُ أَنْشَدَ فِيهِ مَا أَجَابَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنَّ الشِّعْرَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْحَقِّ حَقٌّ، بِدَلِيلِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّانَ عَلَى شِعْرِهِ، وَإِذَا كَانَ حَقًّا جَازَ فِي الْمَسْجِدِ كَسَائِرِ الْكَلَامِ الْحَقِّ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْخَبِيثِ

ص: 548

وَاللَّغْوِ السَّاقِطِ.

قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِتَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْمَازِرِيُّ وَقَالَ: إِنَّمَا اخْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ الْقِصَّةَ لِاشْتِهَارِهَا وَلِكَوْنِهِ ذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. انْتَهَى. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جِدِّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَنَاشُدِ الْأَشْعَارِ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى عَمْرٍو - فَمَنْ يُصَحِّحْ نُسْخَتَهُ يُصَحِّحْهُ - وَفِي الْمَعْنَى عِدَّةُ أَحَادِيثَ لَكِنَّ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ فَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ أَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى تَنَاشُدِ أَشْعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُبْطِلِينَ، وَالْمَأْذُونُ فِيهِ مَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَا إِذَا كَانَ التَّنَاشُدُ غَالِبًا عَلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَتَشَاغَلَ بِهِ مِنْ فِيهِ. وَأَبْعَدَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَوْنِيُّ فَأَعْمَلَ أَحَادِيثَ النَّهْيِ وَادَّعَى النَّسْخَ فِي حَدِيثِ الْإِذْنِ وَلَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ عَنْهُ، وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ طَرَدَ هَذِهِ الدَّعْوَى فِيمَا سَيَأْتِي مِنْ دُخُولِ أَصْحَابِ الْحِرَابِ الْمَسْجِدِ، وَكَذَا دُخُولُ الْمُشْرِكِ.

‌69 - بَاب أَصْحَابِ الْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ

454 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ أَنْظُرُ إِلَى لعبهم.

[الحديث 545 - أطرافه في: 5236، 5190، 3931، 3529، 2906، 988، 950، 455]

455 -

زَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَصْحَابِ الْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ) الْحِرَابُ بِكَسْرِ الْمُهْمِلَةِ جَمْعُ حَرْبَةٍ، وَالْمُرَادُ جَوَازُ دُخُولِهِمْ فِيهِ وَنِصَالُ حِرَابِهِمْ مَشْهُورَةٌ، وَأَظُنُّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى تَخْصِيصِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُرُورِ فِي الْمَسْجِدِ بِالنَّصْلِ غَيْرِ مَغْمُودٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّحَفُّظَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهِيَ صُورَةُ اللَّعِبِ بِالْحِرَابِ سَهْلٌ، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ الْمُرُورِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً فَلَا يُتَحَفَّظُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ: (عَنْ صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فِي بَابِ حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ) فِيهِ جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ اللَّخْمِيِّ أَنَّ اللَّعِبَ بِالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ مَنْسُوخٌ بِالْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ: جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ فِيهِ وَلَا فِي الْآيَةِ تَصْرِيحٌ بِمَا ادَّعَاهُ، وَلَا عُرِفَ التَّارِيخُ فَيَثْبُتُ النَّسْخُ.

وَحَكَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لَعِبَهُمْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَكَانَتْ عَائِشَةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهَذَا لَا يَثْبُتُ عَنْ مَالِكٍ فَإِنَّهُ خِلَافُ مَا صُرِّحَ بِهِ فِي طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ لَعِبَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَعْهُمْ. وَاللَّعِبُ بِالْحِرَابِ لَيْسَ لَعِبًا مُجَرَّدًا بَلْ فِيهِ تَدْرِيبُ الشُّجْعَانِ عَلَى مَوَاقِعِ الْحُرُوبِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْعَدُوِّ. وَقَالَ الْمُهَلِّبُ: الْمَسْجِدُ مَوْضُوعٌ لِأَمْرِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ يَجْمَعُ مَنْفَعَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ جَازَ فِيهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى اللَّهْوِ الْمُبَاحِ، وَفِيهِ حُسْنُ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ، وَكَرْمِ مُعَاشَرَتِهِ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ وَعَظِيمُ مَحَلِّهَا عِنْدَهُ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 549

قَوْلُهُ: (فِي بَابِ حُجْرَتِي) عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي.

قَوْلُهُ: (يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْحِجَابِ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ. وَأَجَابَ بَعْضُ مَنْ مَنَعَ بِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ صَغِيرَةً، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَادَّعَى بَعْضُهُمَ النَّسْخَ بِحَدِيثِ: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟ وَهُوَ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ. وَسَيَأْتِي لِلْمَسْأَلَةِ مَزِيدُ بَسْطٍ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَزَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ) يُرِيدُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ رَوَاهُ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ - وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ كَرِوَايَةِ صَالِحٍ، لَكِنْ عَيَّنَ أَنَّ لَعِبَهُمْ كَانَ بِحِرَابِهِمْ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ يَقْصِدُ بِالتَّرْجَمَةِ أَصْلَ الْحَدِيثِ لَا خُصُوصَ السِّيَاقِ الَّذِي يُورِدُهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى طَرِيقِ يُونُسَ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ مَوْصُولَةً، نَعَمْ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي طَاهِرِ بْنِ السَّرْحِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَوَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ يُونُسَ وَفِيهِ الزِّيَادَةُ.

‌70 - بَاب ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْمَسْجِدِ

456 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي، وَقَالَ أَهْلُهَا: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتِهَا مَا بَقِيَ، وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: إِنْ شِئْتِ أَعْتَقْتِهَا وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَنَا، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَّرَتْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ، قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ يَحْيَى، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَمْرَةَ. . .، وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ. .، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَمْرَةَ أَنَّ بَرِيرَةَ. .، وَلَمْ يَذْكُرْ: صَعِدَ الْمِنْبَرَ.

[الحديث 456 - أطرافه في: 6760، 6758، 6754، 6751، 6717، 5430، 5284، 5279، 5097، 2735، 2729، 27262717، 2578، 2565، 2564، 2563، 2561، 2536، 2155، 493]

قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْمَسْجِدِ) مُطَابَقَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِحَدِيثِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَعِتْقٍ وَوَلَاءٍ.

وَوَهِمَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَقَعَا فِي الْمَسْجِدِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ التَّرْجَمَةَ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ جَوَازِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، لِلْفَرْقِ بَيْنَ جَرَيَانِ ذِكْرِ الشَّيْءِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ حُكْمِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَخَيْرٌ، وَبَيْنَ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى اللَّغَطِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ لَوْ وَقَعَ. وَوَقَعَ لِابْنِ الْمُنِيرِ فِي تَرَاجِمِهِ وَهْمٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ حَدِيثَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ هُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ، وَشَرَعَ يَتَكَلَّفُ لِمُطَابَقَتِهِ لِتَرْجَمَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي النُّسَخِ كُلِّهَا فِي تَرْجَمَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ فَسَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ بِتَرْجَمَةٍ أُخْرَى، وَكَأَنَّهُ انْتَقَلَ بَصَرُهُ مِنْ مَوْضِعٍ لِمَوْضِعٍ، أَوْ تَصَفَّحَ وَرَقَةً فَانْقَلَبَتْ ثِنْتَانِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَة (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ. وَلِلْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ: أَتَتْهَا) فِيهِ الْتِفَاتٌ إِنْ كَانَ فَاعِلُ قَالَتْ عَائِشَةَ، وَيَحْتَمِلُ

ص: 550

أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ عَمْرَةَ فَلَا الْتِفَاتَ.

قَوْلُهُ: (تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا) ضُمِّنَ تَسْأَلُ مَعْنَى تَسْتَعِينُ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهَا أَهْلَكِ مُوَالِيكِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ أَعْطَيْتُ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بَقِيَّةُ مَا عَلَيْهَا، وَسَيَأْتِي تَعْيِينُهُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً) أَيْ أَنَّ سُفْيَانَ حَدَّثَ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ غَيْرُ مُعَلَّقٍ.

قَوْلُهُ: (ذَكَّرْتُهُ ذَلِكَ) كَذَا وَقَعَ هُنَا بِتَشْدِيدِ الْكَافِ، فَقِيلَ: الصَّوَابُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: ذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ يَسْتَدْعِي سَبْقَ عِلْمٍ بِذَلِكَ، وَلَا يَتَّجِهُ تَخْطِئَةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِاحْتِمَالِ السَّبْقِ أَوَّلًا عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ.

قَوْلُهُ: (يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ) كَأَنَّهُ ذُكِرَ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الشَّرْطِ وَلَفْظُ مِائَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (فِي كِتَابِ اللَّهِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ لَفْظَ: الْوَلَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّ الْأَمْرَ بِطَاعَتِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَجَازَ إِضَافَةُ ذَلِكَ إِلَى الْكِتَابِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ لَجَازَتْ إِضَافَةُ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ تِلْكَ الْإِضَافَةَ إِنَّمَا هِيَ بِطْرِيقِ الْعُمُومِ لَا بِخُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَهَذَا مَصِيرٌ مِنَ الْخَطَّابِيِّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكِتَابِ اللَّهِ هُنَا الْقُرْآنُ، وَنَظِيرُ مَا جَنَحَ إِلَيْهِ مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأُمِّ يَعْقُوبَ فِي قِصَّةِ الْوَاشِمَةِ: مَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُنَا: فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ، سَوَاءٌ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ أَمْ فِي السُّنَّةِ. أَوِ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوبُ أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.

وَحَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ قَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنَ الْبُيُوعِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِهِمَا، وَاعْتَنَى بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَأَفْرَدُوهُ بِالتَّصْنِيفِ. وَسَنَذْكُرُ فَوَائِدَهُ مُلَخَّصَةً مَجْمُوعَةً فِي كِتَابِ الْعِتْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ مَالِكٌ) وَصَلَهُ فِي بَابِ الْمُكَاتَبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْهُ، وَصُورَةُ سِيَاقِهِ الْإِرْسَالُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَلِيٌّ) يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورَ أَوَّلَ الْبَابِ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَ الْبُخَارِيَّ عَنْ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ حَدَّثَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ رِوَايَةَ سُفْيَانَ لِمُطَابَقَتِهَا التَّرْجَمَةَ بِذِكْرِ الْمِنْبَرِ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ التَّعْلِيقَ عَنْ مَالِكٍ مُتَأَخِّرٌ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ عَنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرَةَ نَحْوَهُ) يَعْنِي نَحْوَ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَعَبْدِ الْوَهَّابِ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ أَنَّ بَرِيرَةَ فَذَكَرَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمِنْبَرِ أَيْضًا، وَصُورَتُهُ أَيْضًا الْإِرْسَالُ، لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَزَعَمَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَظَهَرَ بِذَلِكَ اتِّصَالُهُ. وَأَفَادَتْ رِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ التَّصْرِيحَ بِسَمَاعِ يَحْيَى مِنْ عَمْرَةَ وَبِسَمَاعِ عَمْرَةَ مِنْ عَائِشَةَ فَأُمِنَ بِذَلِكَ مَا يُخْشَى فِيهِ مِنَ الْإِرْسَالِ الْمَذْكُورِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَتَتْنِي بَرِيرَةُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمِنْبَرِ أَيْضًا.

‌71 - بَاب التَّقَاضِي وَالْمُلَازَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ

457 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا

ص: 551

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: يَا كَعْبُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، أَيْ: الشَّطْرَ، قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ.

[الحديث 457 - أطرافه في: 2710، 2706، 2424، 2418، 471]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّقَاضِي) أَيْ مُطَالَبَةِ الْغَرِيمِ قَضَاءَ الدَّيْنِ.

(وَالْمُلَازَمَةُ) أَيْ مُلَازَمَةُ الْغَرِيمِ، وَ (فِي الْمَسْجِدِ) يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: التَّقَاضِي ظَاهِرٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ دُونَ الْمُلَازَمَةِ، أَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَقَالَ: كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَوْنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ لَزِمَهُ خَصْمُهُ فِي وَقْتِ التَّقَاضِي، وَكَأَنَّهُمَا كَانَا يَنْتَظِرَانِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِيَفْصِلَ بَيْنَهُمَا. قَالَ: فَإِذَا جَازَتِ الْمُلَازَمَةُ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ فَجَوَازُهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْلَى. انْتَهَى.

قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ عَادَةِ تَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَشَارَ بِالْمُلَازَمَةِ إِلَى مَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ هُوَ فِي بَابِ الصُّلْحِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ مَالٌ، فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ، فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا تَسْمِيَةُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ وَذِكْرُ نِسْبَتِهِ.

(فَائِدَةٌ): قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَأْتِ مِنَ الْأَسْمَاءِ عَلَى فَعْلَعٍ بِتَكْرِيرِ الْعَيْنِ غَيْرَ حَدْرَدٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ رَاءٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ دَالٌ مُهْمَلَةٌ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ كَعْبٍ) هُوَ ابْنُ مَالِكٍ، أَبُوهُ.

قَوْلُهُ: (دَيْنًا) وَقْعَ فِي رِوَايَةِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ أُوقِيَّتَيْنِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (فِي الْمَسْجِدِ) مُتَعَلِّقٌ بِتَقَاضِي.

قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا) فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَظَاهِرُ الرِّوَايَتَيْنِ التَّخَالُفُ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَرَّ بِهِمَا أَوَّلًا ثُمَّ إِنَّ كَعْبًا أَشْخَصَ خَصْمَهُ لِلْمُحَاكَمَةِ، فَسَمِعَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا وَهُوَ فِي بَيْتِهِ.

قُلْتُ: وَفِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ فِي الطَّرِيقَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ إِلَى كَعْبٍ بِالْوَضِيعَةِ وَأَمَرَ غَرِيمَهُ بِالْقَضَاءِ، فَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ تَقَدَّمَ لَهُمَا لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْإِعَادَةِ. وَالْأَوْلَى فِيمَا يَظْهَرُ لِي أَنْ يُحْمَلَ الْمُرُورُ عَلَى أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ لَا حِسِّيٍّ.

قَوْلُهُ: (سِجْفٌ) بِكَسْرِ الْمُهْمِلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَحَكَى فَتْحَ أَوَّلِهِ وَهُوَ السِّتْرُ، وَقِيلَ أَحَدُ طَرَفَيِ السِّتْرِ الْمُفَرَّجِ.

قَوْلُهُ: (أَيِ الشَّطْرَ) بِالنَّصْبِ أَيْ: ضَعِ الشَّطْرَ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: هَذَا، وَالْمُرَادُ بِالشَّطْرِ النِّصْفُ وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ فَعَلْتُ) مُبَالَغَةٌ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ.

وَقَوْلُهُ: (قُمْ) خِطَابٌ لِابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ الْوَضِيعَةُ وَالتَّأْجِيلُ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَتَفَاحَشْ، وَقَدْ أَفْرَدَ لَهُ الْمُصَنِّفُ بَابًا يَأْتِي قَرِيبًا، وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ مَنْعُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ رَفْعِهِ بِاللَّغَطِ وَنَحْوِهِ فَلَا. قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَوْ كَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ لَمَا تَرَكَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَبَيَّنَ لَهُمَا ذَلِكَ.

قُلْتُ: وَلِمَنْ مَنَعَ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّهُ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّوَصُّلِ بِالطَّرِيقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى تَرْكِ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ الْمُقْتَضِي لِتَرْكِ الْمُخَاصَمَةِ الْمُوجِبَةِ لِرَفْعِ الصَّوْتِ. وَفِيهِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْإِشَارَةِ إِذَا فُهِمَتْ وَالشَّفَاعَةُ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، وَإِشَارَةُ الْحَاكِمِ بِالصُّلْحِ وَقَبُولُ الشَّفَاعَةِ، وَجَوَازُ إِرْخَاءِ السِّتْرِ عَلَى الْبَابِ.

‌72 - بَاب كَنْسِ الْمَسْجِدِ وَالْتِقَاطِ الْخِرَقِ وَالْقَذَى وَالْعِيدَانِ

458 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ - أَوْ امْرَأَةً سَوْدَاءَ - كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَمَاتَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ

ص: 552

آذَنْتُمُونِي بِهِ، دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ - أَوْ قَالَ: قَبْرِهَا - فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا.

[الحديث 458 - طرفاه في: 1337، 460]

قَوْلُهُ: (بَابُ كَنْسِ الْمَسْجِدِ، وَالْتِقَاطِ الْخِرَقَ وَالْقَذَى وَالْعِيدَانِ) أَيْ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي رَافِعٍ) هُوَ الصَّائِغُ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وَوَهْمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، فَقَالَ: إِنَّهُ أَبُو رَافِعٍ الصَّحَابِيِّ، وَقَالَ: هُوَ مِنْ رِوَايَةِ صَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا رَافِعٍ الصَّحَابِيِّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ) الشَّكُّ فِيهِ مِنْ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ هَكَذَا، أَوْ مِنْ أَبِي رَافِعٍ. وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَمَّادٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: وَلَا أَرَاهُ إِلَّا امْرَأَةً وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: امْرَأَةً سَوْدَاءَ وَلَمْ يَشُكَّ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ فَسَمَّاهَا أَمَّ مِحْجَنٍ، وَأَفَادَ أَنَّ الَّذِي أَجَابَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ سُؤَالِهِ عَنْهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. وَذَكَرَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ: خَرْقَاءَ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ وَوَقَعَ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَذَكَرَهَا ابْنُ حِبَّانَ فِي الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ بِدُونِ ذِكْرِ السَّنَدِ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهَذَا اسْمُهَا وَكُنْيَتُهَا أُمُّ مِحْجَنٍ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ) بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ أَيْ يَجْمَعُ الْقُمَامَةَ وَهِيَ الْكُنَاسَةُ. فَإِنْ قِيلَ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى كَنْسِ الْمَسْجِدِ فَمِنْ أَيْنَ يُؤْخَذُ الْتِقَاطُ الْخِرَقِ وَمَا مَعَهُ؟ أَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَالْجَامِعُ التَّنْظِيفُ.

قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ تَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَشَارَ بِكُلِّ ذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ صَرِيحًا، فَفِي طَرِيقِ الْعَلَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَتْ تَلْتَقِطُ الْخِرَقَ وَالْعِيدَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمُتَقَدِّمِ كَانَتْ مُولَعَةً بِلَقْطِ الْقَذَى مِنَ الْمَسْجِدِ وَالْقَذَى بِالْقَافِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورٌ: جَمْعُ قَذَاةٍ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَقَذِيَةٌ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْقَذَى فِي الْعَيْنِ وَالشَّرَابِ مَا يَسْقُطُ فِيهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ فِي الْبَيْتِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا. وَتَكَلَّفَ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ فَزَعَمَ أَنَّ حُكْمَ التَّرْجَمَةِ يُؤْخَذُ مِنْ إِتْيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَبْرَ حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ، قَالَ: فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي تَنْظِيفِ الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (عَنْهُ) أَيْ عَنْ حَالِهِ، وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، أَيِ النَّاسَ.

قَوْلُهُ: (آذَنْتُمُونِي) بِالْمَدِّ أَيْ أَعْلَمْتُمُونِي، زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَنَائِزِ: قَالَ: فَحَقَّرُوا شَأْنَهُ، وَزَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي طَرِيقِ الْعَلَاءِ: قَالُوا: مَاتَ مِنَ اللَّيْلِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ وَكَذَا فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، زَادَ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كَامِلٍ الْجَحْدَرِيِّ، عَنْ حَمَّادٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي آخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهَا مُدْرَجَةٌ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، وَهِيَ مِنْ مَرَاسِيلِ ثَابِتٍ، بَيَّنَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي كِتَابِ بَيَانِ الْمُدْرَجِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ مَرَاسِيلِ ثَابِتٍ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ، أَوْ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، يَعْنِي: كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ. وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبِي عَامِرٍ الْخَزَّازِ كِلَاهُمَا عَنْ ثَابِتٍ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَزَادَ بَعْدَهَا: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِنَّ أَبِي - أَوْ أَخِي - مَاتَ أَوْ دُفِنَ فَصَلِّ عَلَيْهِ. قَالَ فَانْطَلَقَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ تَنْظِيفِ الْمَسْجِدِ، وَالسُّؤَالِ عَنِ الْخَادِمِ وَالصَّدِيقِ إِذَا غَابَ.

وَفِيهِ الْمُكَافَأَةُ بِالدُّعَاءِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي شُهُودِ جَنَائِزِ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَنَدْبُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْحَاضِرِ عِنْدَ قَبْرِهِ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ، وَالْإِعْلَامُ بِالْمَوْتِ.

‌73 - بَاب تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الْخَمْرِ فِي الْمَسْجِدِ

459 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا أُنْزِلَتْ

ص: 553

الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ تِجَارَةَ الْخَمْرِ.

[الحديث 459 - أطرافه في: 4543، 4542، 4541، 4540، 2226، 2084]

قَوْلُهُ: (بَابُ تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الْخَمْرِ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: جَوَازِ ذِكْرِ ذَلِكَ وَتَبْيِينِ أَحْكَامِهِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مَا يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُهُ مِنْ أَنَّ تَحْرِيمَهَا مُخْتَصٌّ بِالْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ بَابُ ذِكْرِ تَحْرِيمِ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي بَابِ ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَمَوْقِعُ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْمَسْجِدَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْفَوَاحِشِ فِعْلًا وَقَوْلًا، لَكِنْ يَجُوزُ ذِكْرُهَا فِيهِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ لَهَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ) هُوَ السُّكَّرِيُّ، وَمُسْلِمٌ هُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ أَبُو الضُّحَى. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: كَانَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الرِّبَا بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِتَحْرِيمِهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى تَأْكِيدًا.

قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ التِّجَارَةِ فِيهَا تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ تَحْرِيمِ عَيْنِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌74 - بَاب الْخَدَمِ لِلْمَسْجِدِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} لِلْمَسْجِدِ يَخْدُمُهَا

460 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ وَاقِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَةً أَوْ رَجُلًا كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ - وَلَا أُرَاهُ إِلَّا امْرَأَةً - فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِه.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَدَمِ لِلْمَسْجِدِ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْخَدَمُ فِي الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِمَعْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (مُحَرَّرًا) أَيْ: مُعْتَقًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ صِحَّةُ النَّذْرِ فِي أَوْلَادِهِمْ، وَكَأَنَّ غَرَضَ الْبُخَارِيِّ الْإِشَارَةُ بِإِيرَادِ هَذَا إِلَى أَنَّ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ بِالْخِدْمَةِ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ وَقَعَ مِنْهُ نَذْرُ وَلَدِهِ لِخِدْمَتِهِ. وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبَابِ مِنْ جِهَةِ صِحَّةِ تَبَرُّعِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ بِإِقَامَةِ نَفْسِهَا لِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ لِتَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ وَاقِدٍ) وَاقِدٌ جَدُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَشَيْخُهُ حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَرِجَالُهُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا أُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَيْ أَظُنُّهُ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيِ: الَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلَ بَابٍ.

‌75 - باب الْأَسِيرِ أَوْ الْغَرِيمِ يُرْبَطُ فِي الْمَسْجِدِ

461 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَوْحٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، قَالَ رَوْحٌ: فَرَدَّهُ خَاسِئًا.

[الحديث 461 - أطرافه في: 4808، 3423، 3284، 1210]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَسِيرِ أَوِ الْغَرِيمِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِأَوْ، وَهِيَ لِلتَّنْوِيعِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ وَغَيْرِهِ وَالْغَرِيمِ بِوَاوِ الْعَطْفِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا رَوْحٌ) هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ.

قَوْلُهُ: (تَفَلَّتَ) بِالْفَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ تَعَرَّضَ لِي فَلْتَةً، أَيْ:

ص: 554

بَغَتَةً. وَقَالَ الْقَزَّازُ: يَعْنِي: تَوَثَّبَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَفْلَتَ الشَّيْءُ فَانْفَلَتَ وَتَفَلَّتَ بِمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (الْبَارِحَةَ) قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَهَى: كُلُّ زَائِلٍ بَارِحٌ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْبَارِحَةُ، وَهِيَ أَدْنَى لَيْلَةٍ زَالَتْ عَنْكَ.

قَوْلُهُ: (أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْبَارِحَةِ أَوْ إِلَى جُمْلَةِ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ.

قُلْتُ: رَوَاهُ شَبَابَةُ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: عَرَضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ. وَهُوَ يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: عُرِضَ لِي فِي صُورَةِ هِرٍّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: فَأَخَذْتُهُ فَصَرَعْتُهُ فَخَنَقْتُهُ حَتَّى وَجَدْتُ لِسَانَهُ عَلَى يَدِي، وَفَهِمَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ حِينَ عُرِضَ لَهُ غَيْرَ مُتَشَكِّلٍ بِغَيْرِ صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، فَقَالُوا: إِنَّ رُؤْيَةَ الشَّيْطَانِ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ فَلَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} الْآيَةَ. وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ ذِكْرِ الْجِنِّ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ص.

قَوْلُهُ: (رَبِّ اعْفَرْ لِي وَهَبْ لِي) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَفِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ هُنَا: رَبِّ هَبْ لِي. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاقْتِبَاسِ لَا عَلَى قَصْدِ التِّلَاوَةِ.

قُلْتُ: وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَلَى نَسَقِ التِّلَاوَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَغْيِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَوْحٌ فَرَدَّهُ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ الْعِفْرِيتَ (خَاسِئًا) أَيْ مَطْرُودًا. وَظَاهِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ دُونَ رَفِيقِهِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَحْدَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ أَيْضًا: فَرَدَّهُ خَاسِئًا، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا.

‌76 - بَاب الِاغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ وَرَبْطِ الْأَسِيرِ أَيْضًا فِي الْمَسْجِدِ

وَكَانَ شُرَيْحٌ يَأْمُرُ الْغَرِيمَ أَنْ يُحْبَسَ إِلَى سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ

462 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.

[الحديث 462 - أطرافه في: 4372، 2423، 2422، 469]

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ وَرَبْطِ الْأَسِيرَ أَيْضًا فِي الْمَسْجِدِ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَسَقَطَ لِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ قَوْلِهِ وَرَبْطِ الْأَسِيرَ إِلَخْ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَابٌ بِلَا تَرْجَمَةٍ، وَكَأَنَّهُ فَصْلٌ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَيَّضَ لِلتَّرْجَمَةِ فَسَدَّ بَعْضُهُمُ الْبَيَاضَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ تَرْجَمَ عَلَيْهِ بَابُ دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ، وَأَيْضًا فَالْبُخَارِيُّ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِإِعَادَةِ لَفَظِ التَّرْجَمَةِ عَقِبَ الْأُخْرَى، وَالِاغْتِسَالُ إِذَا أَسْلَمَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِأَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ إِلَّا عَلَى بُعْدٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْكَافِرُ جُنُبٌ غَالِبًا، وَالْجُنُبُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ لَمْ تَبْقَ ضَرُورَةٌ لِلُبْثِهِ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا، فَاغْتَسَلَ لِتَسُوغَ لَهُ الْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ.

وَادَّعَى ابْنُ الْمُنِيرِ أَنَّ تَرْجَمَةَ هَذَا الْبَابِ ذِكْرُ الْبَيْعِ

ص: 555

وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ: وَمُطَابَقَتُهَا لِقِصَّةِ ثُمَامَةَ أَنَّ مَنْ تَخَيَّلَ مَنْعَ ذَلِكَ أَخَذَهُ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ، فَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ بِأَشْيَاءَ غَيْرِ ذَلِكَ، مِنْهَا رَبْطُ الْأَسِيرِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ لِلْمَصْلَحَةِ فِي الْمَسْجِدِ.

قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّرْجَمَةِ مَعَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ هُنَا، وَإِنَّمَا تَقَدَّمَتْ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إِيرَادُ قِصَّةِ ثُمَامَةَ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، وَهِيَ بَابُ الْأَسِيرِ يُرْبَطُ فِي الْمَسْجِدِ أَلْيَقُ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ آثَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِقِصَّةِ الْعِفْرِيتِ عَلَى قِصَّةِ ثُمَامَةَ؛ لِأَنَّ الَّذِي هَمَّ بِرَبْطِ الْعِفْرِيتِ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي تَوَلَّى رَبْطَ ثُمَامَةَ غَيْرُهُ، وَحَيْثُ رَآهُ مَرْبُوطًا قَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ، قَالَ: فَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ إِنْكَارًا لِرَبْطِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرًا. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ لَمْ يُنْظَرْ سِيَاقُ هَذَا الْحَدِيثِ تَامًّا لَا فِي الْبُخَارِيِّ وَلَا فِي غَيْرِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِعَيْنِهِ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى ثُمَامَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهُوَ مَرْبُوطٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِطْلَاقِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ غَيْرَهُ، وَصَرَّحَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُغَازِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِرَبْطِهِ، فَبَطَلَ مَا تَخَيَّلَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَإِنِّي لَأَتَعَجَّبُ مِنْهُ كَيْفَ جَوَّزَ أَنَّ الصَّحَابَةَ يَفْعَلُونَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْرًا لَا يَرْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَهُوَ كَلَامٌ فَاسِدٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى فَاسِدٍ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى التَّوْفِيقِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ شُرَيْحٌ يَأْمُرُ الْغَرِيمَ أَنْ يُحْبَسَ) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ يَأْمُرُ بِالْغَرِيمِ، وَأَنْ يُحْبَسَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْبَاءَ. ثَانِيهُمَا: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْ يُحْبَسَ أَيْ يَنْحَبِسُ، فَجَعَلَ الْمُطَاوِعَ مَوْضِعَ الْمُطَاوِعِ لِاسْتِلْزَامِهِ إِيَّاهُ. انْتَهَى. وَالتَّعْلِيقُ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ دُونَ رُفْقَتِهِ، وَقَدْ وَصَلَهُ مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ شُرَيْحٌ إِذَا قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ أَمَرَ بِحَبْسِهِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَى أَنْ يَقُومَ بِمَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَعْطَى الْحَقَ وَإِلَّا أَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ.

قَوْلُهُ: (خَيْلًا) أَيْ: فُرْسَانًا، وَالْأَصْلُ أَنَّهُمْ كَانُوا رِجَالًا عَلَى خَيْلٍ، وَثُمَامَةُ بِمُثَلَّثَةٍ مَضْمُومَةٍ، وَأُثَالٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ خَفِيفَةٌ.

قَوْلُهُ: (إِلَى نَخْلٍ) فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي النُّسْخَةِ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى أَبِي الْوَقْتِ بِالْجِيمِ، وَصَوَّبَهَا بَعْضُهُمْ، وَقَالَ: وَالنَّجْلُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ النَّابِعُ، وَقِيلَ: الْجَارِي.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى أَنَّ لَفْظَ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَانْطَلَقَ إِلَى حَائِطِ أَبِي طَلْحَةَ وسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ تَامًّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌77 - بَاب الْخَيْمَةِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَرْضَى وَغَيْرِهِمْ

463 -

حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي الْأَكْحَلِ، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ - وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ - إِلَّا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا، فَمَاتَ فِيهَا.

[الحديث 463 - أطرافه في: 4122، 4117، 3901، 2813]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَيْمَةِ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ جَوَازِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى) هُوَ الْبَلْخِيُّ اللُّؤْلُؤِيُّ وَكَانَ حَافِظًا، وَفِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى أَبُو المِسْكِينِ، وَقَدْ شَارَكَ الْبَلْخِيُّ فِي بَعْضِ شُيُوخِهِ.

قَوْلُهُ: (أُصِيبَ سَعْدٌ)

ص: 556

أَيِ: ابْنُ مُعَاذٍ.

قَوْلُهُ: (فِي الْأَكْحَلِ) هُوَ عِرْقٌ فِي الْيَدِ.

قَوْلُهُ: (خَيْمَةٌ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: لِسَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَرُعْهُمْ) أَيْ يُفْزِعْهُمْ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ فِي حَالِ طُمَأْنِينَةٍ حَتَّى أَفْزَعَتْهُمْ رُؤْيَةُ الدَّمِ فَارْتَاعُوا لَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ السُّرْعَةُ لَا نَفْسُ الْفَزَعِ.

قَوْلُهُ: (وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا الدَّمُ، وَالْمَعْنَى فَرَاعَهُمُ الدَّمُ.

قَوْلُهُ: (مِنْ قِبَلِكُمْ) بِكَسْرِ الْقَافِ، أَيْ مِنْ جِهَتِكُمْ.

قَوْلُهُ: (يَغْذُو) بغَيْنٌ وَذَالٌ مُعْجَمَتَيْنِ، أَيْ يَسِيلُ.

قَوْلُهُ: (فَمَاتَ فِيهَا) أَيْ: فِي الْخَيْمَةِ، أَوْ فِي تِلْكَ الْمَرْضَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ فَمَاتَ مِنْهَا أَيِ: الْجِرَاحَةِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي حَيْثُ أَوْرَدَهُ الْمُؤَلِّفُ هُنَاكَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.

‌78 - بَاب إِدْخَالِ الْبَعِيرِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْعِلَّةِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرٍ

464 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي قَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بـ (الطور وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ).

[الحديث 464 - أطرافه في: 4853، 1633، 1636، 1619]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِدْخَالِ الْبَعِيرِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْعِلَّةِ) أَيْ: لِلْحَاجَةِ، وَفَهِمَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلَّةِ الضَّعْفُ، فَقَالَ: هُوَ ظَاهِرٌ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ دُونَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ أَشَارَ بِالتَّعْلِيقِ الْمَذْكُورِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مَكَّةَ وَهُوَ يَشْتَكِي، فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَمَّا اللَّفْظُ الْمُعَلَّقُ فَهُوَ مَوْصُولٌ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَأْتِي أَيْضًا قَوْلِ جَابِرٍ: أَنَّهُ إِنَّمَا طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ لِيَرَاهُ النَّاسُ وَلِيَسْأَلُوهُ.

وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَيْضًا فِي الْحَجِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ تَابِعِيَّانِ مُحَمَّدٌ، وَعُرْوَةُ، وَصَحَابِيَّتَانِ زَيْنَبُ وَأُمُّهَا أُمُّ سَلَمَةَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ دُخُولِ الدَّوَابِّ الَّتِي يُؤْكَلُ لَحْمُهَا الْمَسْجِدَ إِذَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَوْلَهَا لَا يُنَجِّسُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الدَّوَابِّ. وَتُعَقِّبُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، بَلْ ذَلِكَ دَائِرٌ عَلَى التَّلْوِيثِ وَعَدَمِهِ، فَحَيْثُ يُخْشَى التَّلْوِيثُ يَمْتَنِعُ الدُّخُولُ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ نَاقَتَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ مُنَوَّقَةً، أَيْ: مُدَرَّبَةً مُعَلَّمَةً، فَيُؤْمَنُ مِنْهَا مَا يُحْذَرُ مِنَ التَّلْوِيثِ وَهِيَ سَائِرَةٌ

(1)

، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعِيرُ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَ كَذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌79 - باب

465 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ

(1)

هذا الكلام ليس بشيء، والصواب طهارة أبوال الإبل ونحوها مما يؤكل لحمه، فلا يضر المسجد وجود شيء من ذلك كما أشار إليه ابن بطال. فتنبه، وانظر حاشية ص 339

ص: 557

يُضِيئَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ.

[الحديث 465 - طرفاه في: 3805، 3639]

قَوْلُهُ: (بَابُ) كَذَا هُوَ الْأَصْلُ بِلَا تَرْجَمَةٍ، وَكَأَنَّهُ بَيَّضَ لَهُ فَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ رَشِيدٍ: إِنْ مِثْلَ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ لِلْبُخَارِيِّ كَانَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ فَهُوَ حَسَنٌ حَيْثُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَابِ الَّذِي قَبِلَهُ مُنَاسِبَةٌ. بِخِلَافِ مثل هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا وَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ تَأَخَّرَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ لِانْتِظَارِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مَعَهُ، فَعَلَى هَذَا كَانَ يَلِيقُ أَنْ يُتَرْجِمَ لَهُ فَضَلَ الْمَشْيِ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ، وَيُلْمِحُ بِحَدِيثِ: بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلْمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَظَهَرَ شَاهِدُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لِإِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ بِهَذَا النُّورِ الظَّاهِرِ، وَادَّخَرَ لَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَتَمُّ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ فَوَائِدِ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ، فَقَدْ ذَكَّرَ الْمُصَنِّفَ هُنَاكَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هَمَّا أَسُيْدُ بْنُ حَضِيرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ.

‌80 - بَاب الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ

466 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ، إِنْ يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ.

[الحديث 466 - طرفاه في: 3904، 3654]

467 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ يَعْلَى بْنَ حَكِيمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلَامِ أَفْضَلُ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ"

[الحديث 467 - طرفاه في: 6738، 3657، 3656]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ) الْخَوْخَةُ: بَابٌ صَغِيرٌ قَدْ يَكُونُ بِمِصْرَاعٍ وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا أَصْلُهَا فَتْحٌ فِي حَائِطٍ، قَالَهُ ابْنُ قُرْقُولٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَسَقَطَ فِي رِوَايَةِ

ص: 558

الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ ذِكْرُ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، فَصَارَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِنَانٍ إِنَّمَا حَدَّثَ بِهِ كَالَّذِي وَقَعَ فِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَكَذَا حَدَّثَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، يَعْنِي: بِوَاوِ الْعَطْفِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَبُو النَّضْرِ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخَيْنِ حَدَّثَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ كَذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ فُلَيْحٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدٍ، وَبُسْرٍ جَمِيعًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَتَابَعَهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٌ، عَنْ فُلَيْحٍ أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، عَنْ فُلَيْحٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ بُسْرٍ وَحْدَهُ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَأَنَّ فُلَيْحًا كَانَ يَجْمَعُهُمَا مَرَّةً وَيَقْتَصِرُ مَرَّةً عَلَى أَحَدِهِمَا.

وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدٍ وَحْدَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا فِي الْهِجْرَةِ، وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ أَبِي النَّضْرِ عَنْ شَيْخَيْنِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِنَانٍ أَخْطَأَ فِي حَذْفِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ مِنْ فُلَيْحٍ حَالَ تَحْدِيثِهِ لَهُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّ الْمُعَافِيَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْحَرَّانِيَّ رَوَاهُ عَنْ فُلَيْحٍ كَرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، وَقَدْ نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّ حَذْفَ الْوَاوِ خَطَأٌ فَلَمْ يَبْقَ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ.

قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عَبِيدٍ، عَنْ بُسْرٍ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ.

قَوْلُهُ: (إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ: إِنْ يَكُنْ لِلَّهِ عَبْدٌ خَيْرٌ، وَالْهَمْزَةُ فِي إِنْ مَكْسُورَةٌ عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَجَوَّزَ ابْنُ التِّينِ فَتْحَهَا عَلَى أَنَّهَا تَعْلِيلِيَّةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ أَكْثَرُهُمْ جُودًا لَنَا بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي هُوَ الِاعْتِدَادُ بِالصَّنِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْمِنَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي قَبُولِ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ مِنَ الِامْتِنَانِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ مَا لَوْ كَانَ لِغَيْرِهِ نَظِيرُهَا لَامْتَنَّ بِهَا، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ: وَلَكِنْ خُوَّةُ الْإِسْلَامِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، كَأَنَّهُ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى النُّونِ وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ ضَمُّ نُونِ لَكِنْ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَخَبَرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَفْضَلُ، كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي بَعْدَهُ: وَلَكِنْ فِيهِ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ، وَيَأْتِي مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِشْكَالِ وَبَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَبَيَّنَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ لِمَّا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى خَوْخَتَهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْإِشَارَاتِ إِلَى اسْتِخْلَافِهِ كَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا.

467 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ يَعْلَى بْنَ حَكِيمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبا رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ.

قَوْلُهُ: (غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ إِلَّا بَدَلَ غَيْرُ.

‌81 - بَاب الْأَبْوَابِ وَالْغَلَقِ لِلْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ لَوْ رَأَيْتَ مَسَاجِدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبْوَابَهَا.

468 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، وَقُتَيْبَةُ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مَكَّةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَفَتَحَ الْبَابَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَبِلَالٌ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، ثُمَّ أَغْلَقَ الْبَابَ فَلَبِثَ فِيهِ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجُوا، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَبَدَرْتُ فَسَأَلْتُ بِلَالًا، فَقَالَ: صَلَّى فِيهِ، فَقُلْتُ: فِي أي؟ قَالَ:

ص: 559

بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَذَهَبَ عَلَيَّ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَبْوَابِ وَالْغَلَقِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ، أَيْ: مَا يُغْلَقُ بِهِ الْبَابُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ اسْمُ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَوْلُهُ:(لَوْ رَأَيْتُ) مَحْذُوفٌ الْجَوَابَ وَتَقْدِيرُهُ: لَرَأَيْتُ عَجَبًا أَوْ حَسَنًا، لِإِتْقَانِهَا أَوْ نَظَافَتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ قَدِ انْدَرَسَتْ.

قَوْلُهُ: (قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) لَمْ يَقُلِ الْأَصِيلِيُّ: ابْنُ زَيْدٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْحِكْمَةُ فِي غَلْقِ الْبَابِ حِينَئِذٍ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ سُنَّةٌ فَيَلْتَزِمُونَ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَزْدَحِمُوا عَلَيْهِ، لِتَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى مُرَاعَاةِ أَفْعَالِهِ لِيَأْخُذُوهَا عَنْهُ، أَوْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْكَنَ لِقَلْبِهِ وَأَجْمَعَ لِخُشُوعِهِ. وَإِنَّمَا أَدْخَلَ مَعَهُ عُثْمَانَ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ عُزِلَ عَنْ وِلَايَةِ الْكَعْبَةِ، وَبِلَالًا، وَأُسَامَةَ لِمُلَازَمَتِهِمَا خَدَمْتَهُ. وَقِيلَ: فَائِدَةُ ذَلِكَ التَّمَكُّنُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ جِهَاتِهَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى جِهَةِ الْبَابِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ لَا تَصِحُّ.

‌82 - بَاب دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ

469 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تَرُدُّ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَيْثُ تَرْجَمَ بِهَا فِيمَا مَضَى بَدَلَ تَرْجَمَةِ الِاغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَرْجَمَةِ الْأَسِيرِ يُرْبَطُ فِي الْمَسْجِدِ تَكْرَارًا؛ لِأَنَّ رَبْطَهُ فِيهِ يَسْتَلْزِمُ إِدْخَالَهُ. لَكِنْ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا أَعَمُّ مِنْ ذَاكَ، وَقَدِ اخْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي تَامًّا فِي الْمُغَازِي. وَفِي دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ مَذَاهِبُ: فَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمُزَنِيِّ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ لِلْآيَةِ. وَقِيلَ: يُؤْذَنُ لِلْكِتَابِيِّ خَاصَّةً، وَحَدِيثُ الْبَابِ يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ثُمَامَةَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

‌83 - بَاب رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ

470 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا - أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا -؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم!

قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ) أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعِلْمِ أَمْ فِي غَيْرِهِ، وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَرَضٍ دِينِيٍّ أَوْ نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ وَبَيْنَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَسَاقَ الْبُخَارِيُّ فِي

ص: 560

الْبَابِ حَدِيثَ عُمَرَ الدَّالَّ عَلَى الْمَنْعِ، وَحَدِيثَ كَعْبٍ الدَّالَّ عَلَى عَدَمِهِ، إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمَنْعَ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَعَدَمِهِ فِيمَا تُلْجِئُ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِ التَّقَاضِي. وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ، لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بَعْضَهَا، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْجَعْدُ بْنُ أَوْسٍ وَهُوَ هُوَ، فَإِنَّ اسْمَهُ الْجَعْدُ وَقَدْ يُصَغَّرُ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَوْسٍ، فَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خَصِيفَةَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَصِيفَةَ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَرَوَى حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ الْجُعَيْدِ عَنِ السَّائِبِ بِلَا وَاسِطَةٍ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، والْجُعَيْدُ صَحَّ سَمَاعُهُ مِنَ السَّائِبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ، فَلَيْسَ هَذَا الِاخْتِلَافُ قَادِحًا، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: لَا تُكْثِرُوا اللَّغَطَ. فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ قَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ مَسْجِدَنَا هَذَا لَا يُرْفَعُ فِيهِ الصَّوْتُ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ انْقِطَاعٌ؛ لِأَنَّ نَافِعًا لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ الزَّمَانَ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ) كَذَا فِي الْأُصُولِ بِالْقَافِ، وَفِي رِوَايَةٍ نَائِمًا بِالنُّونِ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ حَاتِمٍ، عَنِ الْجُعَيْدِ بِلَفْظِ: كُنْتُ مُضْطَجِعًا.

قَوْلُهُ: (فَحَصَبَنِي) أَيْ رَمَانِي بِالْحَصْبَاءِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا عُمَرُ) الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ قَائِمٌ أَوْ نَحْوُهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، لَكِنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُمَا ثَقَفِيَّانِ.

قَوْلُهُ: (لَوْ كُنْتُمَا) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ الْمَعْذِرَةُ لِأَهْلِ الْجَهْلِ بِالْحُكْمِ إِذَا كَانَ مِمَّا يَخْفَى مِثْلُهُ.

قَوْلُهُ: (لَأَوْجَعْتُكُمَا) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: جَلْدًا. وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَتَبَيَّنُ كَوْنُ هَذَا الْحَدِيثِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَتَوَعَّدُهُمَا بِالْجَلْدِ إِلَّا عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرٍ تَوْقِيفِيٍّ.

قَوْلُهُ: (تَرْفَعَانِ) هُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ:: لِمَ تُوجِعُنَا؟ قَالَ: لِأَنَّكُمَا تَرْفَعَانِ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: بِرَفْعِكُمَا أَصْوَاتَكُمَا، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّرْنَاهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ جَمْعِ أَصْوَاتِكُمَا فِي حَدِيثِ: يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا.

471 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، وَنَادَى: يا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، يَا كَعْبُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ. قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُمْ فَاقْضِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيٍّ الشَّبُّوِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ السَّكَنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ كَعْبٍ فِي بَابِ التَّقَاضِي قَبْلَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ أَوْ نَحْوِهَا. وَقَوْلُهُ هُنَا حَتَّى سَمِعَهَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ سَمِعَهُمَا.

‌84 - بَاب الْحِلَقِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ

472 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عن عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا تَرَى فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ

ص: 561

لَهُ مَا صَلَّى، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بالليل وِتْرًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهِ.

473 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ: مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ تُوتِرُ لَكَ مَا قَدْ صَلَّيْتَ، قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَجُلًا نَادَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ.

474 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فَجَلَسَ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَى فَاسْتَحْيَى اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ.

[الحديث 472 - أطرافه في: 1137، 995، 993، 990، 473]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَلَقِ) بِفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَاللَّامُ مَفْتُوحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ: جَمْعُ حَلْقَةٍ بِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (سَأَلَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (مَا تَرَى) أَيْ مَا رَأْيُكَ؟ مِنَ الرَّأْيِ، وَمِنَ الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ.

و (مَثْنَى مَثْنَى) بِغَيْرِ تَنْوِينٍ أَيْ: اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَكُرِّرَ تَأْكِيدًا.

قَوْلُهُ: (فَأَوْتَرَتْ) بِفَتْحِ الرَّاءِ، أَيْ تِلْكَ الْوَاحِدَةُ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ نَافِعٌ، وَالضَّمِيرُ لِابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (بِاللَّيْلِ) هِيَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ فَقَطْ.

قَوْلُهُ فِي طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ (تُوتِرْ) بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَزَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ، وَالْأَصِيلِيُّ لَكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ، وَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي كُتَّابِ الْوِتْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ لِيَتِمَّ لَهُ الِاسْتِدْلَالُ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ. وَقَدِ اعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَلَقِ وَلَا عَلَى الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ بِحَالٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَوْنَهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ صَرِيحٌ مِنْ هَذَا الْمُعَلَّقِ، وَأَمَّا التَّحَلُّقُ فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: شَبَّهَ الْبُخَارِيُّ جُلُوسَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ حَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ بِالتَّحَلُّقِ حَوْلَ الْعَالِمِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ إِلَّا وَعِنْدَهُ جَمْعٌ جُلُوسٌ مُحْدِقِينَ بِهِ كَالْمُتَحَلِّقِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يَتَعَلَّقُ بِأَحَدِ رُكْنَيِ التَّرْجَمَةِ وَهُوَ الْجُلُوسُ، وَحَدِيثُ أَبِي وَاقِدٍ يَتَعَلَّقُ بِالرُّكْنِ الْآخَرِ وَهُوَ التَّحَلُّقُ.

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ وَهُمْ حِلَقٌ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ تَحَلُّقَهُمْ عَلَى مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ

(1)

، بِخِلَافِ تَحَلُّقِهِمْ حَوْلَهُ فَإِنَّهُ كَانَ

(1)

هذا فيه نظر. والظاهر أنه أنكر عليهم تفرقهم، ودل بذلك على استحباب اجتماعهم حال مذاكرة العلم، وأن يكونو حلقة واحدة لاحقا، لأن ذلك أجمع للقلوب وأكمل للفائدة. والله أعلم

ص: 562

لِسَمَاعِ الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ) زَادَ فِي الْعِلْمِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، وَهُوَ أَصْرَحُ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (فَرَأْي فُرْجَةً) زَادَ فِي الْعِلْمِ فِي الْحَلْقَةِ وَزَادَهَا الْأَصِيلِيُّ، والْكُشْمِيهَنِيُّ أَيْضًا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

‌85 - بَاب الِاسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَمَدِّ الرِّجْلِ

475 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى.

وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ.

[الحديث 475 - طرفاه في 6287، 5969]

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ) زَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: وَمَدِّ الرِّجْلِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) هُوَ الْقَعْنَبِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمِّهِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ عَنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، أَوْ يُحْمَلُ النَّهْيُ حَيْثُ يُخْشَى أَنْ تَبْدُوَ الْعَوْرَةُ، وَالْجَوَازُ حَيْثُ يُؤْمَنُ ذَلِكَ.

قُلْتُ: الثَّانِي أَوْلَى مِنِ ادِّعَاءِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُحْدَثِينَ، وَجَزْمَ ابْنُ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَقَالَ الْمَازِرِيِّ: إِنَّمَا بَوَّبَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، لَا فِي الْكُتُبِ الصِّحَاحِ، النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، لَكِنَّهُ عَامٌّ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعُ، وَاسْتِلْقَاؤُهُ فِي الْمَسْجِدِ فِعْلٌ قَدْ يَدَّعِي قَصْرَهُ عَلَيْهِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْجَوَازُ، لَكِنْ لَمَّا صَحَّ أَنَّ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ كَانَا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ هُوَ جَائِزٌ مُطْلَقًا، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا صَارَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَعَارُضٌ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ.

وَفِي قَوْلِهِ عَنْ حَدِيثِ النَّهْيِ: لَيْسَ فِي الْكُتُبِ الصِّحَاحِ إِغْفَالٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي اللِّبَاسِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَفِي قَوْلِهِ: فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْجَوَازُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخَصَائِصَ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِعْلَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الِاسْتِرَاحَةِ لَا عِنْدَ مُجْتَمَعِ النَّاسِ لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ مِنَ الْجُلُوسِ بَيْنَهُمْ بِالْوَقَارِ التَّامِّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِيهِ جَوَازُ الِاتِّكَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَالِاضْطِجَاعِ وَأَنْوَاعِ الِاسْتِرَاحَةِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْأَجْرَ الْوَارِدَ لِلَّابِثِ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَخْتَصُّ بِالْجَالِسِ بَلْ يَحْصُلُ لِلْمُسْتَلْقِي أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ.

‌86 - بَاب الْمَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالنَّاسِ

وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَيُّوبُ وَمَالِكٌ

476 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ

ص: 563

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ.

[الحديث 476 - أطرافه في: 6079، 5857، 4093، 3905، 2297، 2264، 2263، 2138]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالنَّاسِ) قَالَ الْمَازِرِيُّ: بِنَاءُ الْمَسْجِدِ فِي مِلْكِ الْمَرْءِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي غَيْرِ مِلْكِهِ مُمْتَنِعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الْمُبَاحَاتِ حَيْثُ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ جَائِزٌ أَيْضًا، لَكِنْ شَذَّ بَعْضُهُمْ فَمَنَعَهُ؛ لِأَنَّ مُبَاحَاتِ الطُّرُقِ مَوْضُوعَةٌ لِانْتِفَاعِ النَّاسِ، فَإِذَا بُنِيَ بِهَا مَسْجِدٌ مَنَعَ انْتِفَاعَ بَعْضِهِمْ، فَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ الرَّدَّ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ، لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ وَأَقَرَّهُ.

قُلْتُ: وَالْمَنْعُ الْمَذْكُورُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَبِيعَةَ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ، لَكِنْ بِإِسْنَادَيْنِ ضَعِيفَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ) يَعْنِي: أَنَّ الْمَذْكُورِينَ وَرَدَ التَّصْرِيحُ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِلَّا فَالْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَالْمُرَادُ بِأَبَوَيْ عَائِشَةَ أَبُو بَكْرٍ وَأُمُّ رُومَانَ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِ أُمِّ رُومَانَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ) اخْتَصَرَ الْمُؤَلِّفُ الْمَتْنَ هُنَا، وَقَدْ سَاقَهُ فِي كِتَابِ الْهِجْرَةِ مُطَوَّلًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَذَكَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَعَشِيَّةً وَقَبْلَ قَوْلِهِ: ثُمَّ بَدَا قِصَّةً طَوِيلَةً فِي خُرُوجِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ مَكَّةَ، وَرُجُوعِهِ فِي جِوَارِ ابْنِ الدُّغُنَّةِ، وَاشْتِرَاطِهِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْتَعْلِنَ بِعِبَادَتِهِ، فَعِنْدَ فَرَاغِ الْقِصَّةِ قَالَ: ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، أَيْ: ظَهَرَ لَهُ رَأْيٌ فَبَنَى مَسْجِدًا، فَذَكَرَ بَاقِيَ الْقِصَّةِ مُطَوَّلًا كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مَبْسُوطًا هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَلَمْ يَجِدْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - حَيْثُ شَرَحَ جَمِيعَ الْحَدِيثِ هُنَا - مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هُنَا سِوَى قَدْرٍ يَسِيرٍ، وَقَدِ اشْتَمَلَ مِنْ فَضَائِلِ الصِّدِّيقِ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌87 - بَاب الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ السُّوقِ

وَصَلَّى ابْنُ عَوْنٍ فِي مَسْجِدٍ فِي دَارٍ يُغْلَقُ عَلَيْهِمْ الْبَابُ

477 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صَلَاةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي - يَعْنِي عَلَيْهِ - الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يؤذ يُحْدِثْ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ السُّوقِ) وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ مَسَاجِدِ. مَوْقِعُ التَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي أَنَّ الْأَسْوَاقَ شَرُّ الْبِقَاعِ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ خَيْرُ الْبِقَاعِ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَمْنَعْ وَضْعَ الْمَسْجِدِ فِي السُّوقِ؛ لِأَنَّ بُقْعَةَ الْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ تَكُونُ بُقْعَةَ خَيْرٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَسَاجِدِ فِي التَّرْجَمَةِ مَوَاضِعُ إِيقَاعِ الصَّلَاةِ لَا الْأَبْنِيَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ.

قَوْلُهُ: (وَصَلَّى ابْنُ

ص: 564

عَوْنٍ) كَذَا فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَصَحَّفَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: وَجْهُ مُطَابَقَةِ التَّرْجَمَةِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يُصَلِّ فِي سُوقٍ - أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ جَوَازَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ دَاخِلَ السُّوقِ لِئَلَّا يَتَخَيَّلَ مُتَخَيِّلٌ مِنْ كَوْنِهِ مَحْجُورًا مَنْعَ الصَّلَاةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ ابْنِ عُمَرَ كَانْتْ فِي دَارٍ تُغْلَقُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَمْنَعِ التَّحْجِيرُ اتِّخَاذَ الْمَسْجِدِ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّ غَرَضَ الْبُخَارِيِّ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا بِامْتِنَاعِ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ فِي الدَّارِ الْمَحْجُوبَةِ عَنِ النَّاسِ اهـ. وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَةُ لَا التَّحْرِيمُ، وَظَهَرَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي السُّوقِ مَشْرُوعَةٌ، وَإِذَا جَازَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ فُرَادَى كَانَ أَوْلَى أَنْ يُتَّخَذَ فِيهِ مَسْجِدٌ لِلْجَمَاعَةِ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ بَطَّالٍ.

وحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا أَخْرَجَهُ بَعْدُ فِي بَابِ فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَزَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَتُصَلِّي الْمَلَائِكَةُ. . . إِلَخْ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (صَلَاةُ الْجَمِيعِ) أَيِ: الْجَمَاعَةِ، وَتَكَلَّفَ مَنْ قَالَ التَّقْدِيرُ فِي الْجَمِيعِ، وَقَوْلُهُ:(عَلَى صَلَاتِهِ) أَيِ: الشَّخْصِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْفَاءِ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ بِالْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ سَبَبِيَّةٌ أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ.

قَوْلُهُ: (فَأَحْسِنْ) أَيْ: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ.

قَوْلُهُ: (مَا لَمْ يُؤْذِ يُحْدِثْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْفِعْلِ الْمَجْزُومِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَيَجُوزُ بِالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ مَا لَمْ يُؤْذِ يُحْدِثُ فِيهِ بِلَفْظِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مُتَعَلِّقًا بِيُؤْذِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدَثِ النَّاقِضُ لِلْوُضُوءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْأَوَّلِ.

‌88 - بَاب تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ

478، 479 - حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، حَدَّثَنَا وَاقِدٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ - أَوْ ابْنِ عَمْرٍو - شَبَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ.

[الحديث 479 - طرفه في: 480]

480 -

وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي فَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَقَوَّمَهُ لِي وَاقِدٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ بِهَذَا"

481 -

حَدَّثَنَا خَلَادُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ"

[الحديث 481 - طرفاه في: 6026، 2446]

482 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا قَالَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى

ص: 565

الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَخَرَجَتْ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا قَصُرَتْ الصَّلَاةُ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ الصَّلَاةُ قَالَ "لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ" فَقَالَ أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالُوا نَعَمْ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ ثُمَّ سَلَّمَ فَيَقُولُ نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ ثُمَّ سَلَّمَ

[الحديث 482 - اطرافه في: 7250، 6051، 1229، 1228، 1227، 715، 714]

قَوْلُهُ: (بَابُ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ التَّشْبِيكِ مُطْلَقًا، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِذَا جَازَ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ فِي غَيْرِهِ أَجْوَزُ.

وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَبْلَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ حَدِيثٌ آخَرُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَلَا اسْتَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَلَا أَبُو نُعَيْمٍ، بَلْ ذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ رُمَيْحٍ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ جَمِيعًا عَنِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَاقِدٌ، يَعْنِي: أَخَاهُ، عَنْ أَبِيهِ، يَعْنِي: مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - أَوْ ابْنِ عَمْرٍو - قَالَ: شَبَّكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ:، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي فَلَمْ أَحْفَظْهُ فَقَوَّمَهُ لِي وَاقِدٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ؟ وَقَدْ سَاقَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ نَقْلًا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، وَزَادَ هُوَ: قَدْ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَصَارُوا هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ الْحَدِيثَ.

وَحَدِيثُ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ الَّذِي عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ وَاقِدٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ إِدْخَالِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي الْفِقْهِ مُعَارَضَةُ مَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيكِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ مَرَاسِيلُ مُسْنَدَةٌ مِنْ طُرُقٍ غَيْرِ ثَابِتَةٍ اهـ.

وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِالْمُسْنَدِ إِلَى حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشْبِكَنَّ يَدَيْهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِسَبَبِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعِيفٌ وَمَجْهُولٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَعَارُضٌ، إِذِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ، وَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لِمَقْصُودِ التَّمْثِيلِ، وَتَصْوِيرِ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ بِصُورَةِ الْحِسِّ.

قُلْتُ: هُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَابْنِ عُمَرَ كَمَا قَالَ، بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَجَمَعَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَاصِدًا لَهَا، إِذْ مُنْتَظِرُ الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَوَازِ خَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَظَاهِرَانِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلِأَنَّ تَشْبِيكَهُ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ فِي ظَنِّهِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُنْصَرِفِ مِنَ الصَّلَاةِ.

وَالرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا النَّهْيُ

ص: 566

عَنْ ذَلِكَ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ ضَعِيفَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، فَهِيَ غَيْرُ مُعَارِضَةٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ.

وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ النَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيكِ فَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ. وَقِيلَ: لِأَنَّ التَّشْبِيكَ يَجْلِبُ النَّوْمَ وَهُوَ مِنْ مَظَانِّ الْحَدَثِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ صُورَةَ التَّشْبِيكِ تُشْبِهُ صُورَةَ الِاخْتِلَافِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَكُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمُصَلِّينَ: وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وعلى حديث أبي موسى في كتاب الأدب، وعلى حديث أبي هريرة في سجود السهو.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ الْعِشَاءِ بِالْمَدِّ وَهُوَ وَهْمٌ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّهَا الظُّهْرُ أَوِ الْعَصْرُ كَمَا سَيَأْتِي، وَابْتِدَاءُ الْعَشِيِّ مِنْ أَوَّلِ الزَّوَالِ.

قَوْلُهُ: (وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى) عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ بَدَلَ يَدِهِ الْيُمْنَى وَهُوَ أَشْبَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ.

قَوْلُهُ: (فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ: ثُمَّ سَلَّمَ؟) أَيْ: رُبَّمَا سَأَلُوا ابْنَ سِيرِينَ: هَلْ فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ سَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: نُبِّئْتُ إِلَخْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ عِمْرَانَ. وَقَدْ بَيَّنَ أَشْعَثُ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِمْرَانَ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ:، حَدَّثَنِي خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَوَقَعَ لَنَا عَالِيًا فِي جُزْءِ الذُّهْلِيِّ، فَظَهَرَ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ أَبْهَلَ ثَلَاثَةً. وَرِوَايَتُهُ عَنْ خَالِدٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ.

‌89 - بَاب الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

483 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: رَأَيْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنْ الطَّرِيقِ، فَيُصَلِّي فِيهَا، وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي تِلْكَ الْأَمْكِنَةِ، وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الْأَمْكِنَةِ، وَسَأَلْتُ سَالِمًا فَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا وَافَقَ نَافِعًا فِي الْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا، إِلَّا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مَسْجِدٍ بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ.

[الحديث 483 - أطرافه في: 7345، 2336، 1535]

484 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْزِلُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ يَعْتَمِرُ وَفِي حَجَّتِهِ حِينَ حَجَّ تَحْتَ سَمُرَةٍ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَكَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ غَزْوٍ كَانَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ هَبَطَ مِنْ بَطْنِ وَادٍ فَإِذَا ظَهَرَ مِنْ بَطْنِ وَادٍ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي الشَّرْقِيَّةِ فَعَرَّسَ ثَمَّ حَتَّى يُصْبِحَ لَيْسَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِحِجَارَةٍ وَلَا عَلَى الأَكَمَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمَسْجِدُ كَانَ ثَمَّ خَلِيجٌ يُصَلِّي عَبْدُ اللَّهِ عِنْدَهُ فِي بَطْنِهِ كُثُبٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَّ يُصَلِّي فَدَحَا السَّيْلُ فِيهِ بِالْبَطْحَاءِ حَتَّى دَفَنَ ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي فِيهِ".

[الحديث 484 - أطرافه في: 1532، 1533، 1799]

ص: 567

485 -

وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى حَيْثُ الْمَسْجِدُ الصَّغِيرُ الَّذِي دُونَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْلَمُ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ثَمَّ عَنْ يَمِينِكَ حِينَ تَقُومُ فِي الْمَسْجِدِ تُصَلِّي، وَذَلِكَ الْمَسْجِدُ عَلَى حَافَةِ الطَّرِيقِ الْيُمْنَى وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْأَكْبَرِ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.

486 -

وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْعِرْقِ الَّذِي عِنْدَ مُنْصَرَفِ الرَّوْحَاءِ، وَذَلِكَ الْعِرْقُ انْتِهَاءُ طَرَفِهِ عَلَى حَافَةِ الطَّرِيقِ دُونَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْصَرَفِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ، وَقَدْ ابْتُنِيَ ثَمَّ مَسْجِدٌ فَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، كَانَ يَتْرُكُهُ عَنْ يَسَارِهِ وَوَرَاءَهُ وَيُصَلِّي أَمَامَهُ إِلَى الْعِرْقِ نَفْسِهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرُوحُ مِنْ الرَّوْحَاءِ فَلَا يُصَلِّي الظُّهْرَ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ، وَإِذَا أَقْبَلَ مِنْ مَكَّةَ فَإِنْ مَرَّ بِهِ قَبْلَ الصُّبْحِ بِسَاعَةٍ أَوْ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ عَرَّسَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا الصُّبْحَ.

487 -

وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْزِلُ تَحْتَ سَرْحَةٍ ضَخْمَةٍ دُونَ الرُّوَيْثَةِ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ وَوِجَاهَ الطَّرِيقِ فِي مَكَانٍ بَطْحٍ سَهْلٍ حَتَّى يُفْضِيَ مِنْ أَكَمَةٍ دُوَيْنَ بَرِيدِ الرُّوَيْثَةِ بِمِيلَيْنِ وَقَدْ انْكَسَرَ أَعْلَاهَا فَانْثَنَى فِي جَوْفِهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ وَفِي سَاقِهَا كُثُبٌ كَثِيرَةٌ.

488 -

وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي طَرَفِ تَلْعَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْعَرْجِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى هَضْبَةٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ قَبْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْقُبُورِ رَضَمٌ مِنْ حِجَارَةٍ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ عِنْدَ سَلَمَاتِ الطَّرِيقِ، بَيْنَ أُولَئِكَ السَّلَمَاتِ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرُوحُ مِنْ الْعَرْجِ بَعْدَ أَنْ تَمِيلَ الشَّمْسُ بِالْهَاجِرَةِ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ.

489 -

وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عِنْدَ سَرَحَاتٍ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ فِي مَسِيلٍ دُونَ هَرْشَى، ذَلِكَ الْمَسِيلُ لَاصِقٌ بِكُرَاعِ هَرْشَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ قَرِيبٌ مِنْ غَلْوَةٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي إِلَى سَرْحَةٍ هِيَ أَقْرَبُ السَّرَحَاتِ إِلَى الطَّرِيقِ وَهِيَ أَطْوَلُهُنَّ.

490 -

وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْزِلُ فِي الْمَسِيلِ الَّذِي فِي أَدْنَى مَرِّ الظَّهْرَانِ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ يَهْبِطُ مِنْ الصَّفْرَاوَاتِ يَنْزِلُ فِي بَطْنِ ذَلِكَ الْمَسِيلِ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ لَيْسَ بَيْنَ مَنْزِلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الطَّرِيقِ إِلَّا رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ.

491 -

وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْزِلُ بِذِي طُوًى وَيَبِيتُ حَتَّى يُصْبِحَ يُصَلِّي الصُّبْحَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ وَمُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ عَلَى أَكَمَةٍ غَلِيظَةٍ لَيْسَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ ثَمَّ، وَلَكِنْ أَسْفَلَ

ص: 568

مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَكَمَةٍ غَلِيظَةٍ.

[الحديث 491 - طرفاه في: 1769، 1767]

492 -

وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَ فُرْضَتَيْ الْجَبَلِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَبَلِ الطَّوِيلِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَجَعَلَ الْمَسْجِدَ الَّذِي بُنِيَ ثَمَّ يَسَارَ الْمَسْجِدِ بِطَرَفِ الْأَكَمَةِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَسْفَلَ مِنْهُ عَلَى الْأَكَمَةِ السَّوْدَاءِ تَدَعُ مِنْ الْأَكَمَةِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا، ثُمَّ تُصَلِّي مُسْتَقْبِلَ الْفُرْضَتَيْنِ مِنْ الْجَبَلِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ) أَيْ: فِي الطُّرُقِ الَّتِي بَيْنَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَمَكَّةَ، وَقَوْلُهُ:(وَالْمَوَاضِعُ) أَيِ: الْأَمَاكِنُ الَّتِي تُجْعَلُ مَسَاجِدَ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ) الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَلَمْ يَسُقِ الْبُخَارِيُّ لَفْظَ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بَلْ سَاقَ لَفْظَ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ ذِكْرُ سالم، بَلْ ذِكْرُ نَافِعٍ فَقَطْ، وَقَدْ دَلَّتْ رِوَايَةُ فُضَيْلٍ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ سَالِمٍ، وَنَافِعٍ مُتَّفِقَتَانِ إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ رِوَايَةَ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ لِكَوْنِهِ أَتْقَنَ مِنْ فُضَيْلٍ. وَمُحَصِّلُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَبَرَّكُ بِتِلْكَ الْأَمَاكِنِ، وَتَشَدُّدُهُ فِي الِاتِّبَاعِ مَشْهُورٌ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّاسَ فِي سَفَرٍ يَتَبَادَرُونَ إِلَى مَكَانٍ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: قَدْ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ عُرِضَتْ لَهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ تَتَبَّعُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَاتَّخَذُوهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ زِيَارَتَهُمْ لِمِثْلِ ذَلِكَ بِغَيْرِ صَلَاةٍ أَوْ خَشِيَ أَنْ يُشْكِلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَيَظُنَّهُ وَاجِبًا، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَأْمُونٌ مِنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عِتْبَانَ وَسُؤَالُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ لِيَتَّخِذَهُ مُصَلًّى وَإِجَابَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ، فَهُوَ حُجَّةٌ فِي التَّبَرُّكِ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ

(1)

.

قَوْلُهُ: (تَحْتَ سَمُرَةٍ) أَيْ شَجَرَةٍ ذَاتِ شَوْكٍ، وَهِيَ الَّتِي تُعْرَفُ بِأُمِّ غَيْلَانَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ) أَيْ طَرِيقِ ذِي الْحُلَيْفَةِ.

قَوْلُهُ: (بَطْنُ وَادٍ) أَيْ وَادِي الْعَقِيقِ.

قَوْلُهُ: (فَعَرَّسَ) بِمُهْمَلَاتٍ وَالرَّاءُ مُشَدَّدَةٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: التَّعْرِيسُ نُزُولُ اسْتِرَاحَةٍ لِغَيْرِ إِقَامَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَخَصَّهُ بِذَلِكَ الْأَصْمَعِيُّ، وَأَطْلَقَ أَبُو زَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْأَكَمَةِ) هُوَ الْمَوْضِعُ الْمُرْتَفِعُ عَلَى مَا حَوْلَهُ، وَقِيلَ: هُوَ تَلٌّ مِنْ حَجَرٍ وَاحِدٍ.

قَوْلُهُ: (كَانَ ثَمَّ خَلِيجٌ) تكَرَّرَ لَفْظُ ثَمَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَةُ، وَالْخَلِيجُ وَادٍ لَهُ عُمْقٌ، وَالْكُثُبُ بِضَمِّ الْكَافِ وَالْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ كَثِيبٍ، وَهُوَ رَمْلٌ مُجْتَمِعٌ.

قَوْلُهُ: (فَدَحَا) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ دَفَعَ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَدَخَلَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ، وَنَقَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَدْ جَاءَ بِالْقَافِ وَالْجِيمِ عَلَى أَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ حَرْفُ التَّحْقِيقِ، وَالْفِعْلُ الْمَاضِي مِنَ الْمَجِيءِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ) هِيَ قَريةٌ جَامِعَةٌ عَلَى لَيْلَتَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهِيَ آخِرُ السَّيَّالَةِ لِلْمُتَوَجِّهِ إِلَى مَكَّةَ، وَالْمَسْجِدِ الْأَوْسَطِ هُوَ فِي الْوَادِي الْمَعْرُوفِ الْآنَ بِوَادِي بَنِي سَالِمٍ. وَفِي الْآذَانِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ بَيْنَهُمَا سِتَّةً وَثَلَاثِينَ مِيلًا.

قَوْلُهُ: (يُعْلِمُ الْمَكَانَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ

(1)

هذا خطأ، والصواب ما تقدم في حاشية ص 522، وغير النبي صلى الله عليه وسلم لايقاس عليه في مثل هذا. والحق أن عمر رضي الله عنه أراد بالنهي عن تتبع آثار الأنبياء، سد الذريعة إلى الشرك، وهو أعلم بهذا الشأن من ابنه رضي الله عنهما. وقد أخذ الجمهور بما رآه عمر وليس في قصة عتبان ما يخالف ذلك، لأنه في حديث عتبان قد قصد أن يتأسى به صلى الله عليه وسلم في ذلك، بخلاف آثاره في الطرق ونحوها فإن التأسي به فيها وتتبعها لذلك غير مشروع. كما دل عليه فعل عمر، وربما أفضى ذلك بمن فعله إلى الغلو والشرك كما فعل أهل الكتاب. والله أعلم

ص: 569

أَعْلَمَ يُعْلِمُ مِنَ الْعَلَامَةِ.

قَوْلُهُ: (يَقُولُ: ثَمَّ عَنْ يَمِينِكَ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هُوَ تَصْحِيفٌ، وَالصَّوَابُ بِعَوَاسِجَ عَنْ يَمِينِكَ.

قُلْتُ: تَوْجِيهُ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ، وَمَا ذَكَرَهُ إِنْ ثَبَتَتْ بِهِ رِوَايَةٌ فَهُوَ أَوْلَى، وَقَدْ وَقَعَ التَّوَقُّفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَدِيمًا فَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِلَفْظِ: يُعْلِمُ الْمَكَانَ الَّذِي صَلَّى قَالَ فِيهِ هُنَا لَفْظَةً لَمْ أَضْبِطْهَا عَنْ يَمِينِكَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (يُصَلِّي إِلَى الْعِرْقِ) أَيْ: عِرْقِ الظَّبْيَةِ، وَهُوَ وَادٍ مَعْرُوفٌ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٌ الْبَكْرِيُّ.

(وَمُنْصَرَفَ الرَّوْحَاءِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ، أَيْ آخِرَهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَدِ ابْتُنِيَ) بِضَمٍّ الْمُثَنَّاةِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ.

قَوْلُهُ: (سَرْحَةٌ ضَخْمَةٌ) أَيْ: شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَ (الرُّوَيْثَةُ) بِالرَّاءِ وَالْمُثَلَّثَةِ مُصَغَّرٌ: قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَبْعَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا.

(وَوِجَاهَ الطَّرِيقِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ، أَيْ: مُقَابِلَهُ.

قَوْلُهُ: (بَطْحٌ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَبِكَسْرِهَا أَيْضًا، أَيْ: وَاسِعٌ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُفْضِيَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَموِيِّ حِينَ يُفْضِي.

قَوْلُهُ: (دُوَيْنَ بَرِيدِ الرُّوَيْثَةِ بِمِيلَيْنِ) أَيْ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ الْبَرِيدُ بِالرُّوَيْثَةِ مِيلَانِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَرِيدِ سِكَّةُ الطَّرِيقِ.

قَوْلُهُ: (فَانْثَنَى) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ.

قَوْلُهُ: (تَلْعَةٌ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَهِيَ مَسِيلُ الْمَاءِ مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ وَلِمَا انْهَبَطَ، وَ (الْعَرْجُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا جِيمٌ: قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرُّوَيْثَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِيلًا، وَ (الْهَضْبَةُ) بِسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فَوْقَ الْكَثِيبِ فِي الِارْتِفَاعِ وَدُونَ الْجَبَلِ، وَقِيلَ: الْجَبَلُ الْمُنْبَسِطُ عَلَى الْأَرْضِ، وَقِيلَ: الْأَكَمَةُ الْمَلْسَاءُ، وَالرَّضْمُ الْحِجَارَةُ الْكِبَارُ، وَاحِدُهَا رَضْمَةٌ بِسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فِي الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ بِالتَّحْرِيكِ.

قَوْلُهُ: (عِنْدَ سَلِمَاتِ الطَّرِيقِ) أَيْ: مَا يَتَفَرَّعُ عَنْ جَوَانِبِهِ، وَالسَّلِمَاتُ بِفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَقِيلَ: هِيَ بِالْكَسْرِ الصَّخْرَاتُ، وَبِالْفَتْحِ الشَّجَرَاتُ، وَالسَّرَحَاتُ بِالتَّحْرِيكِ جُمَعُ سَرْحَةٍ، وَهِيَ الشَّجَرَةُ الضَّخْمَةُ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (فِي مَسِيلٍ دُونَ هَرْشَى) الْمَسِيلُ: الْمَكَانُ الْمُنْحَدِرُ، وَهَرْشَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ مَقْصُورٌ، قَالَ الْبَكْرِيُّ: هُوَ جَبَلٌ عَلَى مُلْتَقَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ قَرِيبٌ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَكَرَاعُ هَرْشَى طَرَفُهَا، وَالْغَلْوَةُ بِالْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ غَايَةُ بُلُوغِ السَّهْمِ، وَقِيلَ: قَدْرُ ثُلْثَيْ مِيلٍ.

قَوْلُهُ: (مَرِّ الظَّهْرَانِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ: هُوَ الْوَادِي الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ بَطْنَ مَرْوَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ بَعْدَهَا وَاوٌ. قَالَ الْبَكْرِيُّ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ سِتَّةَ عَشَرَ مِيلًا، وَقَالَ أَبُو غَسَّانَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي بَطْنِ الْوَادِي كِتَابَةً بِعِرْقٍ مِنَ الْأَرْضِ أَبْيَضَ هِجَاءً م ر االْمِيمُ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الرَّاءِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَرَارَةِ مَائِهِ.

قَوْلُهُ: (قِبَلَ الْمَدِينَةِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَبِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مُقَابِلَهَا.

و (الصَّفْرَاوَاتُ) بِفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ جَمْعُ صَفْرَاءَ، وَهُوَ مَكَانٌ بَعْدَ مَرِّ الظَّهْرَانِ.

قَوْلُهُ: (يَنْزِلُ بِذِي طُوًى) بِضَمِّ الطَّاءِ لِلْأَكْثَرِ وَبِهِ جَزَمَ الْجَوْهَرِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: بِذِي الطُّوَى بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَلَامٍ، قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيُّ بِالْكَسْرِ، وَحَكَى عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ الْفَتْحَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (اسْتَقْبَلَ فُرْضَتَيِ الْجَبَلِ) الْفُرْضَةُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا ضَادٌ مُعْجَمَةٌ: مَدْخَلُ الطَّرِيقِ إِلَى الْجَبَلِ، وَقِيلَ: الشَّقُّ الْمُرْتَفِعُ كَالشُّرَافَةِ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَدْخَلِ النَّهْرِ.

(تَنْبِيهَاتٌ): الْأَوَّلُ: اشْتَمَلَ هَذَا السِّيَاقُ عَلَى تِسْعَةِ أَحَادِيثَ أَخْرَجَهَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مَسْنَدِهِ مُفَرَّقَةً مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ يُعِيدُ الْإِسْنَادَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الثَّالِثَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْهَا الْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.

الثَّانِي: هَذِهِ الْمَسَاجِدُ لَا يُعْرَفُ الْيَوْمَ مِنْهَا غَيْرُ مَسْجِدَيْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَالْمَسَاجِدُ الَّتِي بِالرَّوْحَاءِ يَعْرِفُهَا أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ لَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةُ بَسْطٍ فِي صِفَةِ تِلْكَ الْمَسَاجِدِ.

ص: 570

وَفِي التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي وَادِي الرَّوْحَاءِ، وَقَالَ: لَقَدْ صَلَّى فِي هَذَا الْمَسْجِدِ سَبْعُونَ نَبِيًّا.

الثَّالِثُ: عُرِفَ مِنْ صَنِيعِ ابْنِ عُمَرَ اسْتِحْبَابُ تَتَبُّعِ آثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّبَرُّكِ بِهَا، وَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْمَسَاجِدَ الَّتِي ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِيهَا لَوْ نَذَرَ أَحَدٌ الصَّلَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَعَيَّنَ كَمَا تَتَعَيَّنُ الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ

(1)

.

الرَّابِعُ: ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ الْمَسَاجِدَ الَّتِي فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَسَاجِدَ الَّتِي كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ إِسْنَادٌ فِي ذَلِكَ عَلَى شَرْطِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ الْمَسَاجِدَ وَالْأَمَاكِنَ الَّتِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ مُسْتَوْعِبًا، وَرَوَى عَنْ أَبِي غَسَّانَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ بِالْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا مَبْنِيٌّ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ الْمُطَابَقَةِ، فَقَدْ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ سَأَلَ النَّاسَ - وَهُمْ يَوْمَئِذٍ مُتَوَافِرُونَ - عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ بَنَاهَا بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ الْمُطَابَقَةِ اهـ.

وَقَدْ عَيَّنَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، لَكِنَّ أَكْثَرَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ قَدِ انْدَثَرَ، وَبَقِيَ مِنَ الْمَشْهُورَةِ الْآنَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَمَسْجِدُ الْفَضِيخِ وَهُوَ شَرْقِيَّ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَمَسْجِدُ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمَشْرَبَةُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ شَمَالَيَّ مَسْجِدِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمَسْجِدُ بَنِي ظَفَرٍ شَرْقِيَّ الْبَقِيعِ، وَيُعْرَفُ بِمَسْجِدِ الْبَغْلَةِ، وَمَسْجِدُ بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَيُعْرَفُ بِمَسْجِدِ الْإِجَابَةِ، وَمَسْجِدُ الْفَتْحِ قَرِيبٌ مِنْ جَبَلِ سَلْعٍ، وَمَسْجِدُ الْقِبْلَتَيْنِ فِي بَنِي سَلَمَةَ، هَكَذَا أَثْبَتَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا، وَفَائِدَةُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْبَغَوِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌90 - بَاب سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ

493 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ.

(أَبْوَابُ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي)

قَوْلُهُ: (بَ بُ سُتْرَةِ الْإِمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ) أَوْرَدَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْهَا مُطَابِقَانِ لِلتَّرْجَمَةِ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَّخِذُوا سُتْرَةً غَيْرَ سُتْرَتِهِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى إِلَى سُتْرَةٍ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ بَابُ مَنْ صَلَّى إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ وَقَدْ تُقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ، قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ أَيْ: إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، وَذَكَرْنَا تَأْيِيدَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْبَزَّارِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: قَوْلُهُ إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ لَا يَنْفِي غَيْرَ الْجِدَارِ، إِلَّا أَنَّ إِخْبَارَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُرُورِهِ بِهِمْ وَعَدَمِ إِنْكَارِهِمْ لِذَلِكَ مُشْعِرٌ بِحُدُوثِ أَمْرٍ لَمْ يَعْهَدُوهُ، فَلَوْ فُرِضَ هُنَاكَ سُتْرَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْجِدَارِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِخْبَارِ فَائِدَةٌ، إِذْ مُرُورُهُ حِينَئِذٍ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ أَصْلًا.

وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَمَلَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَأْلُوفِ الْمَعْرُوفِ مِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ

(1)

هذا ضعيف، والصواب أنه لايتعين شيء من المساجد بالنذر سوى المساجد الثلاثة إذا احتاج إلى شد رحل، فإن لم يحتج لذلك فهو موضع نظر واختلاف. وأما هذه المساجد التي أشار اليها البغوي فالصواب أنه لايجوز قصدها للعبادة ولا ينبغي الوفاء لمن نذرها سدا لذريعة الشرك، ويكفيه أن يصلي في غيرها من المساجد الشرعية. والله أعلم

ص: 571

كَانَ لَا يُصَلِّي فِي الْفَضَاءِ إِلَّا وَالْعَنَزَةُ أَمَامَهُ، ثُمَّ أَيَّدَ ذَلِكَ بِحَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي جُحَيْفَةَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَرْبَةِ: وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ تَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي كَلَامِهِ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ: فِيهِ أَنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ) أَيْ: قَارَبْتُهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الِاخْتِلَافَ فِي قَدْرِ عُمْرِهِ فِي بَابِ تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ مِنْ كِتَابِ فَضِيلَةِ الْقُرْآنِ، وَفِي بَابِ الِاخْتِتَانِ بَعْدَ الْكِبَرِ مِنْ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ. وَتَوْجِيهِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَانِ الرَّاجِحِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

قَوْلُهُ: (يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى) كَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِعَرَفَةَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعَدُّدِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ، فَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِعَرَفَةَ شَاذٌّ.

وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَوِ الْفَتْحِ، وَهَذَا الشَّكُّ مِنْ مَعْمَرٍ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.

قَوْلُهُ: (بَعْضُ الصَّفِّ) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَجِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ: حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ. انْتَهَى. وَهُوَ يُعَيِّنُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِتَرْكِ إِعَادَتِهِمْ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ أَكْثَرُ فَائِدَةً.

قُلْتُ: وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ تَرْكَ الْإِعَادَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا فَقَطْ لَا عَلَى جَوَازِ الْمُرُورِ، وَتَرْكُ الْإِنْكَارِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُرُورِ وَصِحَّةِ الصَّلَاةِ مَعًا. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ حُجَّةٌ عَلَى الْجَوَازِ بِشَرْطِهِ وَهُوَ انْتِفَاءُ الْمَوَانِعِ مِنَ الْإِنْكَارِ وَثُبُوتُ الْعِلْمِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَا يُقَالُ لَا يَلْزَمُ مِمَّا ذُكِرَ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّفُّ حَائِلًا دُونَ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرَى فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَرَائِهِ كَمَا يَرَى مَنْ أَمَامَهُ، وَتُقَدِّمُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَائِلٌ دُونَ الرُّؤْيَةِ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ تَوَفُّرُ دَوَاعِيهِمْ عَلَى سُؤَالِهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَحْدُثُ لَهُمْ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مُرُورِ الْحِمَارِ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَيَكُونُ نَاسِخًا لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كَوْنِ مُرُورِ الْحِمَارِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَكَذَا مُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُرُورَ الْحِمَارِ مُتَحَقِّقٌ فِي حَالِ مُرُورِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ لِكَوْنِ الْإِمَامِ سُتْرَةً لِمَنْ خَلْفَهُ، وَأَمَّا مُرُورُهُ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ عَنْهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا يَخُصُّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَلَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَا نَقَلَ عِيَاضٌ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومِينَ يُصَلُّونَ إِلَى سُتْرَةٍ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ سُتْرَتُهُمْ سُتْرَةُ الْإِمَامِ أَمْ سُتْرَتُهُمُ الْإِمَامُ نَفْسُهُ اهـ. فِيهِ نَظَرٌ، لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ الصَّحَابِيِّ: أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي سَفَرٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ، فَمَرَّتْ حَمِيرٌ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ فَأَعَادَ بِهِمُ الصَّلَاةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّهَا لَمْ تَقْطَعْ صَلَاتِي وَلَكِنْ قَطَعَتْ صَلَاتَكُمْ، فَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى مَا نُقِلَ مِنَ الِاتِّفَاقِ.

وَلَفْظُ تَرْجَمَةِ الْبَابِ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ سُوَيْدٌ، عَنْ عَاصِمٍ اهـ. وَسُوَيْدٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. وَوَرَدَتْ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ مَوْقُوفٍ عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ الَّذِي نَقَلَهُ عِيَاضٌ فِيمَا لَوْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ أَحَدٌ، فَعَلَى قَوْلِ

ص: 572

مَنْ يَقُولُ: إِنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ يَضُرُّ صَلَاتَهُ وَصَلَاتَهُمْ مَعًا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِمَامَ نَفْسَهُ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ يَضُرُّ صَلَاتَهُ وَلَا يَضُرُّ صَلَاتَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

494 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الْأُمَرَاءُ.

[الحديث 494 - أطرافه في: 973، 972، 498]

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) قَالَ أَبُو عَلِيِّ الْجَيَّانِيُّ: لَمْ أَجِدْ إِسْحَاقَ هَذَا مَنْسُوبًا لِأَحَدٍ مِنَ الرُّوَاةِ: قُلْتُ: وَقَدْ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَخَلَفٌ وَغَيْرُهَما بِأَنَّهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ.

قَوْلُهُ: (أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ) أَيْ: أَمَرَ خَادِمَهُ بِحَمْلِ الْحَرْبَةِ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْعِيدَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ نَافِعٍ: كَانَ يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى وَالْعَنَزَةُ تُحْمَلُ وَتُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، زَادَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الْمُصَلَّى كَانَ فَضَاءً لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ.

قَوْلُهُ: (وَالنَّاسُ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى فَاعِلِ فَيُصَلِّي.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) أَيْ: نَصْبَ الْحَرْبَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَيْثُ لَا يَكُونُ جِدَارٌ.

قَوْلُهُ: (فَمِنْ ثَمَّ) أَيْ: فَمِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ اتَّخَذَ الْأُمَرَاءُ الْحَرْبَةَ يَخْرُجُ بِهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي الْعِيدِ وَنَحْوِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ فَصَّلَهَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَجَعَلَهَا مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَوْضَحْتُهُ فِي كِتَابِ الْمُدْرَجِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الِاحْتِيَاطُ لِلصَّلَاةِ وَأَخْذُ آلَةِ دَفْعِ الْأَعْدَاءِ لَا سِيَّمَا فِي السَّفَرِ، وَجَوَازُ الِاسْتِخْدَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالضَّمِيرُ فِي اتَّخَذَهَا يُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إِلَى الْحَرْبَةِ نَفْسِهَا أَوْ إِلَى جِنْسِ الْحَرْبَةِ، وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ الْقَرَظِ: أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَرْبَةً فَأَمْسَكَهَا لِنَفْسِهِ، فَهِيَ الَّتِي يَمْشِي بِهَا مَعَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْعِيدِ. وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْعَنَزَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَخَذَهَا مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ يَنْصِبُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِذَا صَلَّى. وَيَحْتَمِلُ الْجَمْعُ بِأَنَّ عَنَزَةَ الزُّبَيْرِ كَانَتْ أَوَّلًا قَبْلَ حَرْبَةِ النَّجَاشِيِّ.

(فَائِدَةٌ): حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ فِي بَابِ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ، وَفِي حَدِيثِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا هُنَا وَبَعْدَ بَابَيْنِ أَيْضًا، وَفِي الْأَذَانِ، وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْضِعَيْنِ، وَفِي اللِّبَاسِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَمَدَارُهُ عِنْدَهُ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَعَلَى عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ، وَقَدْ سَمِعَهُ شُعْبَةُ مِنْهُمَا كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا.

495 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ - وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ - الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ) يَعْنِي: بَطْحَاءَ مَكَّةَ، وَهُوَ مَوْضِعٌ خَارِجَ مَكَّةَ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْأَبْطَحُ، وَكَذَا ذَكَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْعُمَيْسِ، عَنْ عَوْنٍ، وَزَادَ مِنْ رِوَايَةِ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَوْنٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْهَاجِرَةِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ - كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ حِينَئِذٍ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ أَيْ: بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا.

قَوْلُهُ: (وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا وَتَفْسِيرُهَا فِي الطَّهَارَةِ

ص: 573

فِي حَدِيثِ أَنَسٍ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْعُمَيْسِ: جَاءَ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ خَرَجَ بِالْعَنَزَةِ حَتَّى رَكَزَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَأَوَّلُ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مَنْ أُدْمٍ، وَرَأَيْتُ بِلَالًا أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ، وَفِيهَا أَيْضًا: وَخَرَجَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ عَوْنٍ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ سَاقَيْهِ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَيْضًا أَنَّ الْوَضُوءَ الَّذِي ابْتَدَرَهُ النَّاسُ كَانَ فَضْلَ الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَوْنٍ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ: بَيْنِ الْعَنَزَةِ وَالْقِبْلَةِ لَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَنَزَةِ، فَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ: وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيِ الْعَنَزَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْتِمَاسُ الْبَرَكَةِ مِمَّا لَامَسَهُ الصَّالِحُونَ

(1)

، وَوَضْعُ السُّتْرَةِ لِلْمُصَلِّي حَيْثُ يُخْشَى الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالِاكْتِفَاءُ فِيهَا بِمِثْلِ غِلَظِ الْعَنَزَةِ، وَأَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ، وَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْقَصْرِ مِنْ حِينِ مُفَارَقَةِ الْبَلَدِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَشْمِيرِ الثِّيَابِ لَا سِيَّمَا فِي السَّفَرِ، وَكَذَا اسْتِصْحَابُ الْعَنَزَةِ وَنَحْوِهَا، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْأَذَانِ فِي السَّفَرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَذَانِ، وَجَوَازُ النَّظَرِ إِلَى السَّاقِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ فِي الرَّجُلِ حَيْثُ لَا فِتْنَةَ، وَجَوَازُ لُبْسِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ، وَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌91 - بَاب قَدْرِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُصَلِّي والسترة؟

496 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ.

497 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، مَا كَادَتْ الشَّاةُ تَجُوزُهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَدْرِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ) أَيْ: مِنْ ذِرَاعٍ وَنَحْوِهِ. (وَالْمُصَلِّي) بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيِ: الْمَكَانُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ: أَخْبَرَنِي أَبِي.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَهْلٍ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ: ابْنِ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: مَقَامِهِ فِي صَلَاتِهِ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ.

قَوْلُهُ: (وَبَيْنَ الْجِدَارِ) أَيْ: جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي غَسَّانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ فِي الِاعْتِصَامِ.

قَوْلُهُ: (مَمَرُّ الشَّاةِ) بِالرَّفْعِ، وَكَانَ تَامَّةٌ، أَوْ مَمَرُّ اسْمُ كَانَ بِتَقْدِيرِ قَدْرٍ أَوْ نَحْوِهُ، وَالظَّرْفُ الْخَبَرُ. وَأَعْرَبَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ مَمَرَّ خَبَرُ كَانَ وَاسْمُهَا نَحْوُ قَدْرِ الْمَسَافَةِ، قَالَ: وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَلَمَةَ) يَعْنِي: ابْنَ الْأَكْوَعِ، وَهَذَا ثَانِي ثُلَاثِيَّاتِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ)

(1)

انظر حاشية ص 522 و ص 569

ص: 574

كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَكِّيٍّ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بِلَفْظِ: كَانَ الْمِنْبَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَائِطِ الْقِبْلَةِ إِلَّا قَدْرُ مَا تَمُرُّ الْعَنَزَةُ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا السِّيَاقِ أَنَّ الْحَدِيثَ مَرْفُوعٌ.

قَوْلُهُ: (تَجُوزُهَا) وَلِبَعْضِهِمْ: أَنْ تَجُوزَهَا أَيِ: الْمَسَافَةَ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْجِدَارِ. فَإِنْ قِيلَ: مَنْ أَيْنَ يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ؟ أَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ بِجَنْبِ الْمِنْبَرِ، أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ لِمَسْجِدِهِ مِحْرَابٌ، فَتَكُونُ مَسَافَةُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ نَظِيرَ مَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْجِدَارِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَسُتْرَتِهِ قَدْرُ مَا كَانَ بَيْنَ مِنْبَرِهِ صلى الله عليه وسلم وَجِدَارِ الْقِبْلَةِ.

وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رَشِيدٍ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي تَقَدَّمُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْخَشَبِ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ حِينَ عُمِلَ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ الْمِنْبَرِ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَوْضِعُ قِيَامِ الْمُصَلِّي. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَإِنَّمَا نَزَلَ فَسَجَدَ فِي أَصْلِهِ، وَبَيْنَ أَصْلِ الْمِنْبَرِ وَبَيْنَ الْجِدَارِ أَكْثَرَ مِنْ مَمَرِّ الشَّاةِ أُجِيبَ بِأَنَّ أَكْثَرَ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ قَدْ حَصَلَ فِي أَعْلَى الْمِنْبَرِ، وَإِنَّمَا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ؛ لِأَنَّ الدَّرَجَةَ لَمْ تَتَّسِعْ لِقَدْرِ سُجُودِهِ فَحَصَلَ بِهِ الْمَقْصُودُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ صَارَتِ الدَّرَجَةُ الَّتِي فَوْقَهُ سُتْرَةً لَهُ وَهُوَ قَدْرُ مَا تَقَدَّمَ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا أَقَلُّ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَسُتْرَتِهِ، يَعْنِي: قَدْرَ مَمَرِّ الشَّاةِ، وَقِيلَ: أَقَلُّ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أذرع؛ لِحَدِيثِ بِلَالٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ. وَجَمَعَ الدَّاوُدِيُّ بِأَنَّ أَقَلَّهُ مَمَرُّ الشَّاةِ، وَأَكْثَرَهُ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي حَالِ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَالثَّانِيَ فِي حَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: قَدَّرُوا مَمَرَّ الشَّاةِ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ.

قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: اسْتَحَبَّ أَهْلُ الْعِلْمِ الدُّنُوَّ مِنَ السُّتْرَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا قَدْرُ إِمْكَانِ السُّجُودِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الصُّفُوفِ. وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالدُّنُوِّ مِنْهَا، وَفِيهِ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعِ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ.

‌92 - بَاب الصَّلَاةِ إِلَى الْحَرْبَةِ

498 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ تركَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ إِلَى الْحَرْبَةِ) سَاقَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ ببَابٍ.

وقَوْلُهُ: (تُرْكَزُ) أَيْ تُغْرَزُ فِي الْأَرْضِ.

‌93 - بَاب الصَّلَاةِ إِلَى الْعَنَزَةِ

499 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَصَلَّى بِنَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِهَا.

500 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَاذَانُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ: سَمِعْتُ

ص: 575

أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ تَبِعْتُهُ أَنَا وَغُلَامٌ وَمَعَنَا عُكَّازَةٌ أَوْ عَصًا أَوْ عَنَزَةٌ وَمَعَنَا إِدَاوَةٌ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ نَاوَلْنَاهُ الْإِدَاوَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ إِلَى الْعَنَزَةِ) سَاقَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَوْنٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِأَنَّ فِيهَا تَكْرَارًا، فَإِنَّ الْعَنَزَةَ هِيَ الْحَرْبَةُ، لَكِنْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحَرْبَةَ إِنَّمَا يُقَالُ لَهَا عَنَزَةٌ إِذَا كَانَتْ قَصِيرَةً، فَفِي ذَلِكَ جِهَةٌ مُغَايَرَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِهَا) كَذَا وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْجِنْسَ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: وَالنَّاسُ وَالدَّوَابُّ يَمُرُّونَ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَغَيْرُهُمَا، أَوِ الْمُرَادُ الْحِمَارُ بِرَاكِبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ: يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ، فَالظَّاهِرُ أَنْ الَّذِي وَقَعَ هُنَا مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الصَّوَابُ يَمُرَّانِ، إِذْ فِي يَمُرُّونَ إِطْلَاقُ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: أَعَادَ ضَمِيرَ الذُّكُورِ الْعُقَلَاءِ عَلَى مُؤَنَّثٍ وَمُذَكَّرٍ غَيْرِ عَاقِلٍ وَهُوَ مُشْكِلٌ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَرْأَةَ وَالْحِمَارَ وَرَاكِبَهُ فَحَذَفَ الرَّاكِبَ لِدَلَالَةِ الْحِمَارِ عَلَيْهِ، ثُمَّ غَلَّبَ تَذْكِيرَ الرَّاكِبِ الْمَفْهُومِ عَلَى تَأْنِيثِ الْمَرْأَةِ وَذَا الْعَقْلِ عَلَى الْحِمَارِ.

وَقَدْ وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ مَذْكُورٍ وَمَحْذُوفٍ فِي قَوْلِهِمْ: رَاكِبُ الْبَعِيرِ طَرِيحَانِ أَيِ: الْبَعِيرُ وَرَاكِبُهُ.

ثُمَّ سَاقَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الطَّهَارَةِ.

قَوْلُهُ فِيهِ (وَمَعَنَا عُكَّازَةٌ أَوْ عَصًا أو عَنَزَةٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالزَّايِ الْمَفْتُوحَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ أَوْ غَيْرِهِ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ وَالرَّاءِ، أَيْ سِوَاهُ، أَيِ الْمَذْكُورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ.

‌94 - بَاب السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا

501 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ، فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَنَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةً، وَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا) سَاقَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ بِالْبَطْحَاءِ، فقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا بَطْحَاءُ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا خَصَّ مَكَّةَ بِالذِّكْرِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السُّتْرَةَ قِبْلَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِمَكَّةَ قِبْلَةٌ إِلَّا الْكَعْبَةَ، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى سُتْرَةٍ. انْتَهَى.

وَالَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَنْكُتَ عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ شَيْءٌ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جِدِّهِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ - أَيِ النَّاسِ - سُتْرَةٌ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ، فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا بِهِ هَكَذَا، فَلَقِيتُ كَثِيرًا فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ أَبِي سَمِعْتُهُ، وَلَكِنْ عَنْ بَعْضِ أَهْلِي عَنْ جَدِّي. فَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ التَّنْبِيهَ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا فِي مَشْرُوعِيَّةِ السُّتْرَةِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَنْ لَا فَرْقَ فِي مَنْعِ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي بَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا. وَاغْتَفَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ذَلِكَ لِلطَّائِفِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ لِلضَّرُورَةِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ جَوَازَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَكَّةَ.

ص: 576

‌95 - بَاب الصَّلَاةِ إِلَى الْأُسْطُوَانَةِ

وَقَالَ عُمَرُ الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنْ الْمُتَحَدِّثِينَ إِلَيْهَا

وَرَأَى عُمَرُ رَجُلًا يُصَلِّي بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ فَأَدْنَاهُ إِلَى سَارِيَةٍ فَقَالَ: صَلِّ إِلَيْهَا

502 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَيُصَلِّي عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ، قَالَ: فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ إِلَى الْأُسْطُوَانَةِ) أَيِ: السَّارِيَةِ، وَهِيَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الطَّاءِ بِوَزْنِ أُفْعُوَانَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: بِوَزْنِ فُعْلُوَانَةَ، وَالْغَالِبِ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ بِنَاءٍ، بِخِلَافِ الْعَمُودِ فَإِنَّهُ مِنْ حَجَرٍ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْحَرْبَةِ، كَانَتِ الصَّلَاةُ إِلَى الْأُسْطُوَانَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَشَدُّ سُتْرَةً.

قُلْتُ: لَكِنْ أَفَادَ ذِكْرُ ذَلِكَ التَّنْصِيصِ عَلَى وُقُوعِهِ، وَالنَّصُّ أَعْلَى مِنَ الْفَحْوَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحُمَيْدِيُّ مِنْ طَرِيقِ هَمْدَانَ - وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَانَ بَرِيدُ عُمَرَ، أَيْ رَسُولُهُ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ - عَنْ عُمَرَ بِهِ. وَوَجْهُ الْأَحَقِّيَّةِ أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى السَّارِيَةِ الْمُتَّخَذَةِ إِلَى الِاسْتِنَادِ وَالْمُصَلَّى لِجَعْلِهَا سُتْرَةً، لَكِنَّ الْمُصَلِّيَ فِي عِبَادَةٍ مُحَقَّقَةٍ فَكَانَ أَحَقَّ.

قَوْلُهُ: (وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ) كَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَعِنْدَ بَعْضِ الرُّوَاةِ: وَرَأَى عُمَرَ بِحَذْفِ ابْنٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ، وَلَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: رَآنِي عُمَرُ وَأَنَا أُصَلِّي فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً، لَكِنْ زَادَ: فَأَخَذَ بِقَفَايَ. وَعُرِفَ بِذَلِكَ تَسْمِيَةُ الْمُبْهَمِ الْمَذْكُورِ فِي التَّعْلِيقِ. وَأَرَادَ عُمَرُ بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ إِلَى سُتْرَةٍ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِ أَثَرِ عُمَرَ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ سَلَمَةَ: يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا أَيْ: إِلَيْهَا، وَكَذَا قَوْلُ أَنَسٍ: يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ أَيْ: يُصَلُّونَ إِلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ كَمَا ثَبَتَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا ثَالِثُ ثُلَاثِيَّاتِ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ سَاوَى فِيهِ الْبُخَارِيُّ شَيْخَهُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.

قَوْلُهُ: (الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ) هَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِلْمُصْحَفِ مَوْضِعٌ خَاصٌّ بِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: يُصَلِّي وَرَاءَ الصُّنْدُوقِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ لِلْمُصْحَفِ صُنْدُوقٌ يُوضَعُ فِيهِ، وَالْأُسْطُوَانَةُ الْمَذْكُورَةُ حَقَّقَ لَنَا بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّهَا الْمُتَوَسِّطَةُ فِي الرَّوْضَةِ الْمُكَرَّمَةِ، وَأَنَّهَا تُعْرَفُ بِأُسْطُوَانَةِ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: لَوْ عَرَفَهَا النَّاسُ لَاضْطَرَبُوا عَلَيْهَا بِالسِّهَامِ، وَأَنَّهَا أَسَرَّتْهَا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَكَانَ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ عِنْدَهَا. ثُمَّ وَجَدْتُ ذَلِكَ فِي تَارِيخِ الْمَدِينَةِ لِابْنِ النَّجَّارِ، وَزَادَ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ عِنْدَهَا، وَذَكَرَهُ قَبْلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (يَا أَبَا مُسْلِمٍ) هِيَ كُنْيَةُ سَلَمَةَ، وَيَتَحَرَّى أَيْ: يَقْصِدُ.

503 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ كِبَارَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ، وَزَادَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَنَسٍ: حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 503 - طرفه في: 625]

ص: 577

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَامِرٍ هُوَ الْكُوفِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، لَا وَالِدُ أَسَدٍ فَإِنَّهُ بَجَلِيٌّ، وَلَا عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ الْبَصْرِيُّ فَإِنَّهُ سُلَمِيٌّ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ رَأَيْتُ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ:(لَقَدْ أَدْرَكْتُ).

قَوْلُهُ: (عِنْدَ الْمَغْرِبِ) أَيْ: عِنْدِ أَذَانِ الْمَغْرِبِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ.

قَوْلُهُ: (وَزَادَ شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ عَامِرٍ الْمَذْكُورُ، قَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، فَقَالَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا: يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَعَ بَقِيَّةِ مَبَاحِثِهِ وَتَعْيِينُ مَنْ وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌96 - بَاب الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ

504 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، وَبِلَالٌ، فَأَطَالَ ثُمَّ خَرَجَ، وَكُنْتُ أَوَّلَ النَّاسِ دَخَلَ عَلَى أَثَرِهِ، فَسَأَلْتُ بِلَالًا: أَيْنَ صَلَّى؟ قَالَ: بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ.

505 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ، فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا، فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ: مَا صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ - وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ - ثُمَّ صَلَّى، وَقَالَ لَنَا إِسْمَاعِيلُ:، حَدَّثَنِي مَالِكٌ وَقَالَ: عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ) إِنَّمَا قَيَّدَهَا بِغَيْرِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ الصُّفُوفَ، وَتَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي الْجَمَاعَةِ مَطْلُوبٌ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ: احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ - أَيْ: حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ بِلَالٍ - عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي جَمَاعَةٍ، وَأَشَارَ أَنَّ الْأَوْلَى لِلْمُنْفَرِدِ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى السَّارِيَةِ، وَمَعَ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَلَا كَرَاهَةَ فِي الْوُقُوفِ بَيْنَهُمَا - أَيْ لِلْمُنْفَرِدِ -، وَأَمَّا فِي الْجَمَاعَةِ فَالْوُقُوفُ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ كَالصَّلَاةِ إِلَى السَّارِيَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَفِيهِ نظر لِوُرُودِ النَّهْيِ الْخَاصِّ عَنِ الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ فِي السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: كَرِهَ قَوْمٌ الصَّفَّ بَيْنَ السَّوَارِي لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ ذَلِكَ، وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ عَدَمِ الضِّيقِ، والْحِكْمَةُ فِيهِ إِمَّا لِانْقِطَاعِ الصَّفِّ أَوْ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ النِّعَالِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رُوِيَ فِي سَبَبِ كَرَاهَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ مُصَلَّى الْجِنِّ الْمُؤْمِنِينَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ) هُوَ بِالْجِيمِ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ، وَهُوَ ابْنُ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، وَاتَّفَقَ أَنَّ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ مِنَ الْأَعْلَامِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَقَدْ سَمِعَ جُوَيْرِيَةُ الْمَذْكُورُ مِنْ نَافِعٍ، وَرَوَى أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَوَّلَ النَّاسِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَكَرِيمَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَابْنِ عَسَاكِرَ: وَكُنْتُ بِزِيَادَةِ وَاوٍ فِي أَوَّلِهِ وَهِيَ أَشْبَهُ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ ثُمَّ خَرَجَ: وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَثَرِهِ أَوَّلَ النَّاسِ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الْمُتَقَدِّمَيْنِ كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الَّتِي تَلِيهَا: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ

ص: 578

مُخَالَفَةٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِكَوْنِ مَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ كَانَ اثْنَيْنِ، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ الْبُخَارِيُّ بِرِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ الَّتِي قَالَ فِيهَا: عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُ حَيْثُ ثَنَّى أَشَارَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْبَيْتُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحَيْثُ أَفْرَدَ أَشَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَنْ هَيْئَتِهِ الْأُولَى.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَفْظُ الْعَمُودِ جِنْسٌ يَحْتَمِلُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ، فَهُوَ مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ وَعَمُودَيْنِ، وَيحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ تَكُنِ الْأَعْمِدَةُ الثَّلَاثَةُ عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ، بَلِ اثْنَانِ عَلَى سَمْتٍ وَالثَّالِثُ عَلَى غَيْرِ سَمْتِهِمَا، وَلَفْظُ الْمُقَدَّمَيْنِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ مُشْعِرٌ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِ مَ مُصَلًّى} ، فَإِنَّ فِيهَا: بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِ الدَّاخِلِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ عَمُودَانِ عَلَى الْيَسَارِ وَأَنَّهُ صَلَّى بَيْنَهُمَا، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ ثَمَّ عَمُودٌ آخَرُ عَنِ الْيَمِينِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ أَوْ عَلَى غَيْرِ سَمْتِ الْعَمُودَيْنِ، فَيَصِحُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ: جَعَلَ عَنْ يَمِينِهِ عَمُودَيْنِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ. وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ احْتِمَالًا آخَرَ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ثَلَاثَةُ أَعْمِدَةٍ مُصْطَفَّةٍ فَصَلَّى إِلَى جَنْبِ الْأَوْسَطِ، فَمَنْ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ لَمْ يَعْتَبِرِ الَّذِي صَلَّى إِلَى جَنْبِهِ، وَمَنْ قَالَ: عَمُودَيْنِ اعْتَبَرَهُ. ثُمَّ وَجَدْتُهُ مَسْبُوقًا بِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: انْتَقَلَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ لِقِلَّتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ) أَيِ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ قَالَ مُجَرَّدَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: قَالَ لَنَا فَوَضَّحَ وَصْلَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلَافَ عَلَى مَالِكٍ فِيهِ، فَوَافَقَ الْجُمْهُورُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ:(عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ)، وَوَافَقَ إِسْمَاعِيلَ فِي قَوْلِهِ: عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَالْقَعْنَبِيُّ، وَأَبُو مُصْعَبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو حُذَافَةَ، وَكَذَا الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ عَكْسَ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَبِشْرُ بْنُ عُمَرَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا، وَجَمَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِاتِّحَادٍ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ بِتَرْجِيحِ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ رَابِعٌ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مَالِكٍ: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِأَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَرْبَعَةُ أَعْمِدَةٍ، اثْنَانِ مُجْتَمِعَانِ وَاثْنَانِ مُنْفَرِدَانِ، فَوَقَفَ عِنْدَ الْمُجْتَمِعَيْنِ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يُتَابَعْ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ.

‌97 - باب

506 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ حِينَ يَدْخُلُ، وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ، فَمَشَى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ صَلَّى، يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِهِ بِلَالٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِيهِ، قَالَ: وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِنَا بَأْسٌ إِنْ صَلَّى فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَا تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبِلَهُ، وَكَأَنَّهُ فَصَلَهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ الصَّلَاةِ وَقَعَتْ بَيْنَ السَّوَارِي، لَكِنْ فِيهِ بَيَانُ مِقْدَارِ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ مِنَ الْمَسَافَةِ. وَسَقَطَ لَفْظُ

ص: 579

(بَابٌ) مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ قَرِيبًا) كَذَا وَقَعَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ.

قَوْلُهُ: (مِنْ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ ثَلَاثَةٌ بِالتَّأْنِيثِ، وَالذِّرَاعِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ.

قَوْلُهُ: (يَتَوَخَّى) الْمُعْجَمَةَ، أَيْ: يَقْصِدُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ) أَيِ: ابْنَ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يُصَلِّيَ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَلِغَيْرِهِ أَنَّ صَلَّى بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ مُوَافَقَةُ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بَلْ مُوَافَقَةُ ذَلِكَ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ الْغَرَضُ بِغَيْرِهِ.

‌98 - بَاب الصَّلَاةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ وَالشَّجَرِ وَالرَّحْلِ

507 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ إِذَا هَبَّتْ الرِّكَابُ؟ قَالَ: كَانَ يَأْخُذُ هَذَا الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ فَيُصَلِّي إِلَى آخِرَتِهِ - أَوْ قَالَ: مُؤَخَّرِهِ - وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه يَفْعَلُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّاحِلَةُ النَّاقَةُ الَّتِي تَصْلُحُ لِأَنْ يُوضَعَ الرَّحْلُ عَلَيْهَا، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الرَّاحِلَةُ الْمَرْكُوبُ النَّجِيبُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. وَالْهَاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْبَعِيرُ يُقَالُ لِمَا دَخَلَ فِي الْخَامِسَةِ.

قَوْلُهُ: (وَالشَّجَرُ وَالرَّحْلُ) الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الرَّاحِلَةُ وَالرَّحْلُ، فَكَأَنَّهُ أَلْحَقَ الْبَعِيرَ بِالرَّاحِلَةِ بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ. انْتَهَى.

فَإِنْ كَانَ هَذَا حَدِيثًا آخَرَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَصَرًا مِنَ الْأَوَّلِ - كأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يُصَلِّي إِلَى مُؤَخِّرَةِ رَحْلِ بَعِيرِهِ - اتَّجَهَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ. وَيُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى بَعِيرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ رَحْلٌ، وَسَأَذْكُرُهُ بَعْدُ، وَأُلْحِقَ الشَّجَرُ بِالرَّحْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا فِينَا إِنْسَانٌ إِلَّا نَائِمٌ، إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فإنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ يَدْعُو حَتَّى أصبح، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

قَوْلُهُ: (يُعَرِّضُ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيْ: يَجْعَلُهَا عَرْضًا.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَلَامُ نَافِعٍ وَالْمَسْئُولُ ابْنُ عُمَرَ، لَكِنْ بَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَلَامُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالْمَسْئُولُ نَافِعٌ، فَعَلَى هَذَا هُوَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ فَاعِلَ يَأْخُذُ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُدْرِكْهُ نَافِعٌ.

قَوْلُهُ: (هَبَّتِ الرِّكَابُ) أَيْ: هَاجَتِ الْإِبِلُ، يُقَالُ: هَبَّ الْفَحْلُ إِذَا هَاجَ، وَهَبَّ الْبَعِيرُ فِي السَّيْرِ إِذَا نَشِطَ. وَالرِّكَابُ الْإِبِلُ الَّتِي يُسَارُ عَلَيْهَا وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِبِلَ إِذَا هَاجَتْ شَوَّشَتْ عَلَى الْمُصَلِّي لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِهَا، فَيَعْدِلُ عَنْهَا إِلَى الرَّحْلِ فَيَجْعَلُهُ سُتْرَةً.

وَقَوْلُهُ: (فَيَعْدِلُهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهُ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ: يُقِيمهُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ. وَيَجُوزُ التَّشْدِيدُ.

وَقَوْلُهُ: (إِلَى أَخَرَتِهِ) بِفَتَحَاتٍ بِلَا مَدٍّ وَيَجُوزُ الْمَدُّ، (وَمُؤْخِرَتِهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ ثُمَّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَأَمَّا الْخَاءُ فَجَزَمَ أَبُو عُبَيْدٍ بِكَسْرِهَا وَجَوَّزَ الْفَتْحَ، وَأَنْكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ الْفَتْحَ، وَعَكَسَ ذَلِكَ ابْنُ مَكِّيٍّ فَقَالَ: لَا يُقَالُ مُقْدِمٌ وَمُؤْخِرٌ بِالْكَسْرِ إِلَّا فِي الْعَيْنِ خَاصَّةً، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَيُقَالُ بِالْفَتْحِ فَقَطْ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْخَاءِ. وَالْمُرَادُ بِهَا الْعُودُ الَّذِي فِي آخِرِ الرَّحْلِ الَّذِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الرَّاكِبُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّسَتُّرِ بِمَا يَسْتَقِرُّ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلَا يُعَارِضُهُ النَّهْيُ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ الْمَعَ طِنَ مَوَاضِعُ إِقَامَتِهَا عِنْدَ الْمَاءِ، وَكَرَاهَةُ الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ عِنْدَهَا إِمَّا لِشَدَّةِ نَتَنِهَا، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَخَلَّوْنَ بَيْنَهَا مُسْتَتِرِينَ بِهَا.

ص: 580

انْتَهَى.

وَقَالَ غَيْرُهُ: عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْإِبِلِ خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، فَيُحْمَلُ مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي السَّفَرِ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا عَلَى حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَنَظِيرُهُ صَلَاتُهُ إِلَى السَّرِيرِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ لِكَوْنِ الْبَيْتِ كَانَ ضَيِّقًا. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْبُوَيْطِيِّ: لَا يُسْتَتَرُ بِامْرَأَةٍ وَلَا دَابَّةٍ، أَيْ: فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى بَعِيرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ رَحْلٌ، وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا فِي حَالِ شَدِّ الرَّحْلِ عَلَيْهَا أَقْرَبُ إِلَى السُّكُونِ مِنْ حَالِ تَجْرِيدِهَا.

(تَكْمِلَةٌ): اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ مُؤَخِّرَةَ الرَّحْلِ فِي مِقْدَارِ أَقَلِّ السُّتْرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا بِفِعْلِ ذَلِكَ. فَقِيلَ ذِرَاعٌ، وَقِيلَ ثُلُثَا ذِرَاعٍ وَهُوَ أَشْهَرُ، لَكِنْ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ مُؤَخِّرَةَ رَحْلِ ابْنِ عُمَرَ كَانَتْ قَدْرَ ذِرَاعٍ.

‌99 - بَاب الصَّلَاةِ إِلَى السَّرِيرِ

508 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَعَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ فَيَجِيءُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ فَيُصَلِّي، فَأَكْرَهُ أَنْ أُسَنِّحَهُ، فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ السَّرِيرِ حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لحافي.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ إِلَى السَّرِيرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّطٌ السَّرِيرَ الَّذِي هِيَ مُضْطَجِعَةٌ عَلَيْهِ. وَاعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى السَّرِيرِ لَا إِلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْمُرَادِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ: كَانَ يُصَلِّي وَالسَّرِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ كَمَا سَيَأْتِي، فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْبَابِ.

وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ عَنْ أَصْلِ الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ تَتَنَاوَبُ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ: إِلَى السَّرِيرِ أَيْ: عَلَى السَّرِيرِ، وَادَّعَى قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ: عَلَى السَّرِيرِ.

قُلْتُ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْحَمْلِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ قَوْلَهَا: فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ يَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَ فَوْقَهُ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَقَدْ بَانَ مِنْ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ عَنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (أَعَدَلْتُمُونَا) هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ مِنْ عَائِشَةَ، قَالَتْهُ لِمَنْ قَالَ بِحَضْرَتِهَا: يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، كَمَا سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ عَنْهَا بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَهُنَاكَ نَذْكُرُ مَبَاحِثَ هَذَا الْمَتْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهَا: رَأَيْتُنِي بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ، وَقَوْلُهَا: أَنْ أَسْنَحَهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْحَاءِ الْمُهْمِلَةِ، أَيْ: أَظْهَرَ لَهُ مِنْ قُدَّامِهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِكَ: سَنَحَ لِيَ الشَّيْءُ إِذَا عَرَضَ لِي، تُرِيدُ أَنَّهَا كَانَتْ تَخْشَى أَنْ تَسْتَقْبِلَهُ وَهُوَ يُصَلِّي بِبَدَنِهَا، أَيْ مُنْتَصِبَةً. وَقَوْلُهَا: أَنْسَلُّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، أَيْ: أَخْرُجُ بِخُفْيَةٍ أَوْ بِرِفْقٍ.

‌100 - بَاب يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ

وَرَدَّ ابْنُ عُمَرَ فِي التَّشَهُّدِ، وَفِي الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: إِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ تُقَاتِلَهُ فَقَاتِلْهُ

509 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ المُغِيرَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَدَوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ يُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ

ص: 581

يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ، فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ أَبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلِابْنِ أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ.

[الحديث 509 - طرفه- في: 3274]

قَوْلُهُ: (بَابُ يَرُدُّ الْمُصَلِّي مِنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ آدَمِيًّا أَمْ غَيْرَهُ.

قولُهُ: (وَرَدَّ ابْنُ عُمَرَ فِي التَّشَهُّدِ) أَيْ: رَدَّ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي حَالِ التَّشَهُّدِ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعِنْدَهُمَا أَنَّ الْمَارَّ الْمَذْكُورَ هُوَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (وَفِي الْكَعْبَةِ) قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ: وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَفِي الرَّكْعَةِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى.

قُلْتُ: وَرِوَايَةُ الْجُمْهُورِ مُتَّجِهَةٌ، وَتَخْصِيصُ الْكَعْبَةِ بِالذِّكْرِ لِئَلَّا يُتَخَيَّلَ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِيهَا الْمُرُورُ لِكَوْنِهَا مَحَلَّ الْمُزَاحَمَةِ. وَقَدْ وَصَلَ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ بِذِكْرِ الْكَعْبَةِ فِيهِ أَبُو نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي فِي الْكَعْبَةِ فَلَا يَدَعُ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ يُبَادِرُهُ قَالَ: أَيْ: يَرُدُّهُ.

قَوْلُهُ: (إِنْ أَبَى) أَيِ: الْمَارُّ، (إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَهُ) أَيِ: الْمُصَلِّي، (قَاتَلَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ:(إِلَّا أَنْ تُقَاتِلَهُ) بِصِيغَةِ الْمُخَاطَبَةِ، (فَقَاتِلْهُ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَقَدْ وَصَلَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَلَفْظُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا تَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي، فَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ تُقَاتِلَهُ فَقَاتِلْهُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِسِيَاقِ الْكُشْمِيهَنِيِّ.

قَوْلُهُ: (يُونُسُ) هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، وَقَدْ قَرَنَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَتَهُ بِرِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَتَبَيَّنَ مِنْ إِيرَادِهِ أَنَّ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ لَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ الَّذِي سَاقَهُ هُنَا هُوَ لَفْظُ سُلَيْمَانَ أَيْضًا لَا لَفْظُ يُونُسَ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ لَنَا ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ سَاقَ الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ الَّذِي سَاقَهُ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بِعَيْنِهِ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ مُغَايِرٌ لِلَّفْظِ الَّذِي سَاقَهُ هُنَا، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدُ الدَّفْعِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي يُصَلِّي إِلَى سُتْرَةٍ. وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ سُلَيْمَ بْنَ حَيَّانَ تَابَعَ يُونُسَ، عَنْ حُمَيْدٍ عَلَى عَدَمِ التَّقْيِيدِ.

قُلْتُ: وَالْمُطْلَقُ فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُصَلِّي إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ مُقَصِّرٌ بِتَرْكِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ صَلَّى فِي مَشَارِعِ الْمُشَاةِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَنْ يُصَلِّي إِلَى سُتْرَةٍ وَإِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ. وَفِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِأَصْلِهَا: وَلَوْ صَلَّى إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ أَوْ كَانَتْ وَتَبَاعَدَ مِنْهَا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الدَّفْعُ لِتَقْصِيرِهِ وَلَا يَحْرُمُ الْمُرُورُ حِينَئِذٍ بَيْنَ يَدَيْهِ

(1)

ولكن الأولى تركه.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ أَبُو مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ لِسُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ شَيْئًا مَوْصُولًا إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ) وَقَعَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، أَخْرَجَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ

(1)

في هذا نظر. وظاهر الأحاديث يقتضي تحريم المرور بين يديه، وأنه يشرع له رد المار، اللهم إلا أن يضطر المار الىذلك لعدم وجود متسع إلاما بين يديه، ومتى بعد المار عما بين يدي المصلي إذالم يلق بين يديه سترة سلم من الإثم، لأنه إذابعد عنه عرفا لايسمى مارا بين يديه كالذي يمر من وراء السترة. وانظر صلى الله عليه وسلم 585

ص: 582

أَسْلَمَ قَالَ: بَيْنَمَا أَبُو سَعِيدٍ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَهُ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَفَعَهُ هَذَا آخِرُ مَا أَوْرَدَهُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ.

وَفِي تَفْسِيرِ الَّذِي وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّهُ الْوَلِيدُ هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ. زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ اهـ. وَمَرْوَانُ إِنَّمَا كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَكُنِ الْوَلِيدُ حِينَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ تَحَوَّلَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَسَكَنَهَا حَتَّى مَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَحْضُرْ شَيْئًا مِنَ الْحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمَنْ خَالَفَهُ. وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنِ الْوَلِيدُ يَوْمَئِذٍ شَابًّا، بَلْ كَانَ فِي عَشْرِ الْخَمْسِينَ فَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِ: فَأَقْبَلَ ابْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَيَتَّجِهُ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدِيثَ الْبَابِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ فِيهِ: إِذْ جَاءَ شَابٌّ وَلَمْ يُسَمِّهِ أَيْضًا. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَقَالَ فِيهِ: فَذَهَبَ ذُو قَرَابَةٍ لِمَرْوَانَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَلَاءِ فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، فَقَالَ فِيهِ: مَرَّ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: فَمَرَّ ابْنٌ لِمَرْوَانَ وَسَمَّاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى دَاوُدَ بْنَ مَرْوَانَ، وَلَفْظُهُ: أَرَادَ دَاوُدُ بْنُ مَرْوَانَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ، وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَسْمِيَةِ الْمُبْهَمِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّهُ دَاوُدُ بْنُ مَرْوَانَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ وَلَيْسَ مَرْوَانُ مِنْ بَنِيهِ، بَلْ أَبُو مُعَيْطٍ ابْنُ عَمِّ وَالِدِ مَرْوَانَ؛ لِأَنَّهُ أَبُو مُعَيْطِ بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، وَوَالِدُ مَرْوَانَ هُوَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَلَيْسَتْ أُمُّ دَاوُدَ وَلَا أُمُّ مَرْوَانَ وَلَا أُمُّ الْحَكَمِ مِنْ وَلَدِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَاوُدُ نُسِبَ إِلَى أَبِي مُعَيْطٍ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعَةِ، أَوْ لِكَوْنِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ كَانَ أَخًا لِلْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ لِأُمِّهِ، فَنُسِبَ دَاوُدُ إِلَيْهِ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ تَكُونَ الْوَاقِعَةُ تَعَدَّدَتْ لِأَبِي سَعِيدٍ مَعَ غَيْرِ وَاحِدٍ.

فَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: فَأَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحَدِيثَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مَخْزُومِيٌّ مَا لَهُ مِنْ أَبِي مُعَيْطٍ نِسْبَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ مَمَرًّا. وَقَوْلُهُ: فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَيْ: أَصَابَ مِنْ عِرْضِهِ بِالشَّتْمِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ مَالِكٌ: وَلِابْنِ أَخِيكَ؟) أَطْلَقَ الْأُخُوَّةَ بِاعْتِبَارِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمَارَّ غَيْرَ الْوَلِيدِ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ عُقْبَةَ قُتِلَ كَافِرًا، وَاسْتَدَلَّ الرَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدَّفْعِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ، خِلَافًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَلِابْنِ الرِّفْعَةِ فِيهِ بَحْثٌ سَنُشِيرُ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَلْيَدْفَعْهُ)، وَلِمُسْلِمٍ: فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ: بِالْإِشَارَةِ وَلَطِيفِ الْمَنْعِ.

وَقَوْلُهُ: (فَلْيُقَاتِلْهُ) أَيْ: يَزِيدُ فِي دَفْعِهِ الثَّانِي أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ، لِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا وَالْخُشُوعِ فِيهَا اهـ. وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ حَقِيقَةً، وَاسْتَبْعَدَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ذَلِكَ فِي الْقَبَسِ، وَقَالَ: الْمُرَادُ بِالْمُقَاتَلَةِ الْمُدَافَعَةُ.

وَأَغْرَبَ الْبَاجِيُّ، فَقَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُقَاتَلَةِ اللَّعْنَ أَوِ التَّعْنِيفَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُبْطِلٌ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْيَسِيرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ يَلْعَنُهُ دَاعِيًا لَا مُخَاطِبًا، لَكِنَّ فِعْلَ الصَّحَابِيِّ يُخَالِفُهُ، وَهُوَ أَدْرَى بِالْمُرَادِ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِلَفْظِ: فَإِنْ أَبَى فَلْيَجْعَلْ يَدَهُ فِي صَدْرِهِ وَيَدْفَعْهُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّفْعِ بِالْيَدِ. وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَاتَلَةِ دَفْعٌ أَشَدُّ مِنَ الدَّفْعِ الْأَوَّلِ، وَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُقَاتَلَةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ إِذَا تَعَيَّنَتْ فِي دَفْعِهِ، وَبِنَحْوِهِ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا، فَقَالُوا: يَرُدُّهُ بِأَسْهَلِ الْوُجُوهِ، فَإِنْ أَبَى فَبِأَشَدَّ، وَلَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ. فَلَوْ قَتَلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ لَهُ مُقَاتَلَتَهُ، وَالْمُقَاتَلَةُ الْمُبَاحَةُ لَا ضَمَانَ فِيهَا. وَنَقَلَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ عِنْدَهُمْ خِلَافًا

ص: 583

فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَشْيُ مِنْ مَكَانِهِ لِيَدْفَعَهُ، وَلَا الْعَمَلُ الْكَثِيرُ فِي مُدَافَعَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْمُرُورِ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَرَّ وَلَمْ يَدْفَعْهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأنَّ فِيهِ إِعَادَةً لِلْمُرُورِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا رَدَّهُ فَامْتَنَعَ وَتَمَادَى، لَا حَيْثُ يُقَصِّرُ الْمُصَلِّي فِي الرَّدِّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِوُجُوبِ هَذَا الدَّفْعِ، بَلْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ. انْتَهَى.

وَقَدْ صَرَّحَ بِوُجُوبِهِ أَهَّلُ الظَّاهِرِ، فَكَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يُرَاجِعْ كَلَامَهُمْ فِيهِ أَوْ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ) أَيْ: فِعْلُهُ فِعْلُ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ أَبَى إِلَّا التَّشْوِيشَ عَلَى الْمُصَلِّي. وَإِطْلَاقُ الشَّيْطَانِ عَلَى الْمَارِدِ مِنَ الْإِنْسِ سَائِغٌ شَائِعٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ إِطْلَاقِ لَفْظِ الشَّيْطَانِ عَلَى مَنْ يَفْتِنُ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَعَانِي دُونَ الْأَسْمَاءِ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَصِيرَ الْمَارُّ شَيْطَانًا بِمُجَرَّدِ مُرُورِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الشَّيْطَانِ يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى الْجِنِّيِّ، وَمَجَازًا عَلَى الْإِنْسِيِّ، وَفِيهِ بَحْثٌ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِنَّمَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْطَانُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَإِنَّمَا معه الشَيْطَانُ وَنَحْوُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ. وَاسْتَنْبَطَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَلْيُقَاتِلْهُ الْمُدَافَعَةُ اللَّطِيفَةُ لَا حَقِيقَةُ الْقِتَالِ، قَالَ: لِأَنَّ مُقَاتَلَةَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هِيَ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَالتَّسَتُّرِ عَنْهُ بِالتَّسْمِيَةِ وَنَحْوِهَا، وَإِنَّمَا جَازَ الْفِعْلُ الْيَسِيرُ فِي الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ، فَلَوْ قَاتَلَهُ حَقِيقَةَ الْمُقَاتَلَةِ لَكَانَ أَشَدَّ عَلَى صَلَاتِهِ مِنَ الْمَارِّ. قَالَ: وَهَلِ الْمُقَاتَلَةُ لِخَلَلٍ يَقَعُ فِي صَلَاةِ الْمُصَلِّي مِنَ الْمُرُورِ، أَوْ لِدَفْعِ الْإِثْمِ عَنِ الْمَارِّ؟ الظَّاهِرُ الثَّانِي. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ إِقْبَالَ الْمُصَلِّي عَلَى صَلَاتِهِ أَوْلَى لَهُ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِدَفْعِ الْإِثْمِ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي يَقْطَعُ نِصْفَ صَلَاتِهِ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُمَرَ: لَوْ يَعْلَمُ الْمُصَلِّي مَا يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا صَلَّى إِلَّا إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ. فَهَذَانِ الْأَثَرَانِ مُقْتَضَاهُمَا أَنَّ الدَّفْعَ لِخَلَلٍ يَتَعَلَّقُ بِصَلَاةِ الْمُصَلِّي، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَارِّ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا مَوْقُوفَيْنِ لَفْظًا فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُمَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْي.

‌101 - باب إِثْمِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي

510 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي، فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لَا أَدْرِي أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ - أَيِ: الْجُهَنِيَّ الصَّحَابِيَّ - أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ، أَيِ: ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ الصَّحَابِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ هَكَذَا رَوَى مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمُوَطَّأِ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ فِيهِ أَنَّ الْمُرْسِلَ هُوَ زَيْدٌ، وَأَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِ هُوَ أَبُو جُهَيْمٍ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِمَا وَخَالَفَهُمَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، فَقَالَ: عَنْ

ص: 584

بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبُو جُهَيْمٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَسْأَلُهُ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَقْلُوبًا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: سُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَقَالَ: هُوَ خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ: أَرْسَلَنِي زَيْدٌ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ. وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَطَّانِ فَقَالَ: لَيْسَ خَطَأُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ بِمُتَعَيِّنٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو جُهَيْمٍ بَعَثَ بُسْرًا إِلَى زَيْدٍ، وَبَعَثَهُ زَيْدٌ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْتَثْبِتُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا عِنْدَ الْآخَرِ.

قُلْتُ: تَعْلِيلُ الْأَئِمَّةِ لِلْأَحَادِيثِ مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَإِذَا قَالُوا أَخْطَأَ فُلَانٌ فِي كَذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ خَطَؤُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ هُوَ رَاجِحُ الِاحْتِمَالِ فَيُعْتَمَدُ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اشْتَرَطُوا انْتِفَاءَ الشَّاذِّ، وَهُوَ مَا يُخَالِفُ الثِّقَةَ مَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ فِي حَدِّ الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي) أَيْ أَمَامَهُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَعَبَّرَ بِالْيَدَيْنِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ الشُّغْلِ يَقَعُ بِهِمَا، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ فَقِيلَ: إِذَا مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِقْدَارِ سُجُودِهِ، وَقِيلَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَدْرِ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَقِيلَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَدْرِ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ.

قَوْلُهُ: (مَاذَا عَلَيْهِ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ: مِنَ الْإِثْمِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَالْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّأِ بِدُونِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِكٍ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ بَاقِي السِّتَّةِ وَأَصْحَابُ الْمَسَانِيدِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ بِدُونِهَا، وَلَمْ أَرَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ مُطْلَقًا. لَكِنْ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: يَعْنِي مِنَ الْإِثْمِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ذُكِرَتْ فِي أَصْلِ الْبُخَارِيِّ حَاشِيَةٌ، فَظَنَّهَا الْكُشْمِيهَنِيُّ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا مِنَ الْحُفَّاظِ بَلْ كَانَ رَاوِيَةً. وَقَدْ عَزَاهَا الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْأَحْكَامِ لِلْبُخَارِيِّ وَأَطْلَقَ، فَعَيَّبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِ الْعُمْدَةِ فِي إِيهَامِهِ أَنَّهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مُشْكِلِ الْوَسِيطِ عَلَى مَنْ أَثْبَتَهَا فِي الْخَبَرِ، فَقَالَ: لَفْظُ الْإِثْمِ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ صَرِيحًا. وَلَمَّا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ دُونَهَا قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ رُوِّينَاهَا فِي الْأَرْبَعِينَ لِعَبْدِ الْقَادِرِ الْهَرَوِيِّ: مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ.

قَوْلُهُ: (لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ) يَعْنِي: أَنَّ الْمَارَّ لَوْ عَلِمَ مِقْدَارَ الْإِثْمِ الَّذِي يَلْحَقُهُ مِنْ مُرُورِهِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي لَاخْتَارَ أَنْ يَقِفَ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ ذَلِكَ الْإِثْمُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: جَوَابُ لَوْ لَيْسَ هُوَ الْمَذْكُورَ، بَلِ التَّقْدِيرُ: لَوْ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ لَوَقَفَ أَرْبَعِينَ وَلَوْ وَقَفَ أَرْبَعِينَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَلَيْسَ مَا قَالَهُ مُتَعَيِّنًا، قَالَ: وَأُبْهِمُ الْمَعْدُودُ تَفْخِيمًا لِلْأَمْرِ وَتَعْظِيمًا.

قُلْتُ: ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ عُيِّنَ الْمَعْدُودُ، وَلَكِنْ شَكَّ الرَّاوِي فِيهِ، ثُمَّ أَبْدَى الْكِرْمَانِيُّ لِتَخْصِيصِ الْأَرْبَعِينَ بِالذِّكْرِ حِكْمَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: كَوْنُ الْأَرْبَعَةِ أَصْلَ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ فَلَمَّا أُرِيدُ التَّكْثِيرُ ضُرِبَتْ فِي عَشَرَةٍ.

ثَانِيَتُهُمَا: كَوْنُ كَمَالِ أَطْوَارِ الْإِنْسَانِ بِأَرْبَعِينَ كَالنُّطْفَةِ وَالْمُضْغَةِ وَالْعَلَقَةِ، وَكَذَا بُلُوغُ الْأَشُدِّ. وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ اهـ. وَفِي ابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَكَانَ أَنْ يَقِفَ مِائَةَ عَامٍ خَيْرًا لَهُ مِنَ الْخُطْوَةِ الَّتِي خَطَاهَا. وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْأَرْبَعِينَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ لَا لِخُصُوصِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ.

وَجَنَحَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمِائَةِ وَقَعَ بَعْدَ التَّقْيِيدِ بِالْأَرْبَعِينَ زِيَادَةً فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ عَلَى الْمَارِّ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقَعَا مَعًا إِذِ الْمِائَةُ أَكْثَرُ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَالْمَقَامُ مَقَامُ زَجْرٍ وَتَخْوِيفٍ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمِائَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، بَلِ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَتَأَخَّرَ. وَمُمَيَّزُ الْأَرْبَعِينَ إِنْ كَانَ هُوَ السَّنَةَ ثَبَتَ الْمُدَّعَى، وَأَمَّا دُونُهَا فَمِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ الْقَطَّانِ: لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، أَخْرَجَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبَدَةَ الضَّبِّيِّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ الْجَزْمَ فِي طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَالشَّكَّ فِي طَرِيقِ غَيْرِهِ دَالًّا عَلَى التَّعَدُّدِ، لَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَلَى الشَّكِّ أَيْضًا، وَزَادَ فِيهِ أَوْ سَاعَةً فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْجَزْمُ وَالشَّكُّ وَقَعَا مَعًا مِنْ رَاوٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّهُ تَذَكَّرَ فِي الْحَالِ فَجَزَمَ، وَفِيهِ مَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (خَيْرًا لَهُ) كَذَا

ص: 585

فِي رِوَايَتِنَا بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَلِبَعْضِهِمْ خَيْرٌ بِالرَّفْعِ وَهِيَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ، وَأَعْرَبَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ، وَأَشَارَ إِلَى تَسْوِيغِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ لِكَوْنِهَا مَوْصُوفَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: اسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو النَّضْرِ) هُوَ كَلَامُ مَالِكٍ وَلَيْسَ مِنْ تَعْلِيقِ الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ جَمِيعِ الطُّرُقِ. وَكَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُرُورِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ النَّهْيُ الْأَكِيدُ وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى. وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يُعَدَّ فِي الْكَبَائِرِ، وَفِيهِ أَخْذُ الْقَرِينِ عَنْ قَرِينِهِ مَا فَاتَهُ أَوِ اسْتِثْبَاتُهُ فِيمَا سَمِعَ مَعَهُ. وَفِيهِ الِاعْتِمَادُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ زَيْدًا اقْتَصَرَ عَلَى النُّزُولِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعُلُوِّ اكْتِفَاءً بِرَسُولِهِ الْمَذْكُورِ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ لَوْ فِي بَابِ الْوَعِيدِ، وَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي النَّهْيِ، لِأَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ أَنْ يُشْعِرَ بِمَا يُعَانِدُ الْمَقْدُورَ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْقَدَرِ حَيْثُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهَاتٌ): أَحَدُهَا: اسْتَنْبَطَ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِثْمَ يَخْتَصُّ بِمَنْ يَعْلَمُ بِالنَّهْيِ وَارْتَكَبَهُ. انْتَهَى.

وَأَخْذُهُ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ بُعْدٌ، لَكِنْ هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى. ثَانِيهَا: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ يَخْتَصُّ بِمَنْ مَرَّ لَا بِمَنْ وَقَفَ عَامِدًا مَثَلًا بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي أَوْ قَعَدَ أَوْ رَقَدَ، لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ التَّشْوِيشُ عَلَى الْمُصَلِّي فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَارِّ.

ثَالِثُهَا: ظَاهَرُهُ عُمُومُ النَّهْيِ فِي كُلِّ مُصَلٍّ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ سُتْرَةَ إِمَامِهِ سُتْرَةٌ لَهُ أَوْ إِمَامَهُ سُتْرَةٌ لَهُ اهـ. وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يُطَابِقُ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ السُّتْرَةَ تُفِيدُ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنِ الْمُصَلِّي لَا عَنِ الْمَارِّ، فَاسْتَوَى الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ فِي ذَلِكَ.

رَابِعُهَا: ذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ - أَيِ: الْمَالِكِيَّةِ - قَسَّمَ أَحْوَالَ الْمَارِّ وَالْمُصَلِّي فِي الْإِثْمِ وَعَدَمِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: يَأْثَمُ الْمَارُّ دُونَ الْمُصَلِّي، وَعَكْسُهُ، يَأْثَمَانِ جَمِيعًا، وَعَكْسُهُ. فَالصُّورَةُ الْأُولَى: أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى سُتْرَةٍ فِي غَيْرِ مَشْرَعٍ وَلِلْمَارِّ مَنْدُوحَةٌ فَيَأْثَمُ الْمَارُّ دُونَ الْمُصَلِّي. الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَشْرَعٍ مَسْلُوكٍ بِغَيْرِ سُتْرَةٍ أَوْ مُتَبَاعِدًا عَنِ السُّتْرَةِ وَلَا يَجِدُ الْمَارُّ مَنْدُوحَةً فَيَأْثَمُ الْمُصَلِّي دُونَ الْمَارِّ. الثَّالِثَةُ: مِثْلُ الثَّانِيَةِ لَكِنْ يَجِدُ الْمَارُّ مَنْدُوحَةً فَيَأْثَمَانِ جَمِيعًا. الرَّابِعَةُ: مِثْلُ الْأُولَى لَكِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَارُّ مَنْدُوحَةً فَلَا يَأْثَمَانِ جَمِيعًا. انْتَهَى.

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْمُرُورِ مُطْلَقًا وَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَسْلَكًا بَلْ يَقِفُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُصَلِّي مِنْ صَلَاتِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ فِيهَا: فَنَظَرَ الشَّابُّ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ الدَّفْعَ لَا يُشْرَعُ لِلْمُصَلِّي فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ، وَنَازَعَهُ الرَّافِعِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الشَّابَّ إِنَّمَا اسْتَوْجَبَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ الدَّفْعَ لِكَوْنِهِ قَصَّرَ فِي التَّأَخُّرِ عَنِ الْحُضُورِ إِلَى الصَّلَاةِ حَتَّى وَقَعَ الزِّحَامُ. انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ لَكِنْ لَا يَدْفَعُ الِاسْتِدْلَالَ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ لَمْ يَعْتَذِرْ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ أَوْ فِيهَا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقْعَ بَعْدَهَا فَلَا يَتَّجِهُ مَا قَالَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ بِعَدَمِ التَّبْكِيرِ، بَل كَثْرَةُ الزِّحَامِ حِينَئِذٍ أَوْجَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

خَامِسُهَا: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّرَّاجِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي وَالْمُصَلَّى فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا إِذَا قَصَّرَ الْمُصَلِّي فِي دَفْعِ الْمَارِّ أَوْ بِأَنْ صَلَّى فِي الشَّارِعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْمُصَلَّى بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مِنْ دَاخِلِ سُتْرَتِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌102 - بَاب اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ أَوْ غَيْرَهُ فِي صَلَاتِهِ وَهُوَ يُصَلِّي

وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُسْتَقْبَلَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُصَلِّي، وَإِنَّمَا هَذَا إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ،

ص: 586

فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَغِلْ فَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَالَيْتُ إِنَّ الرَّجُلَ لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الرَّجُلِ

511 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ - يَعْنِي: ابْنَ صُبَيْحٍ -، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَقَالُوا: يَقْطَعُهَا الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، قَالَتْ: لَقَدْ جَعَلْتُمُونَا كِلَابًا، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَإِنِّي لَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ، فَتَكُونُ لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ فَأَنْسَلُّ انْسِلَالًا، وَعَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَهُوَ يُصَلِّي) فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: اسْتِقْبَالُ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ أَوْ غَيْرَهُ فِي صَلَاتِهِ أَيْ: هَلْ يُكْرَهُ أَوْ لَا، أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا أَلْهَاهُ أَوْ لَا؟ وَإِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ جَنَحَ الْمُصَنِّفُ وَجَمَعَ بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الِاخْتِلَافُ مِنَ الْأَثَرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا عَنْ عُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَمْ أَرَهُ عَنْ عُثْمَانَ إِلَى الْآنَ، وَإِنَّمَا رَأَيْتُهُ فِي مُصَنَّفَيْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ زَجَرَ عَنْ ذَلِكَ، وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ، فَلْيُتَأَمَّلْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا وَقَعَ فِي الْأَصْلِ تَصْحِيفٌ مَنْ عُمَرَ إِلَى عُثْمَانَ. وَقَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: مَا بَالَيْتُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَتَكُونُ لِيَ الْحَاجَةُ وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ)، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْوَاو، وَهِيَ حَالِيَّةٌ. وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ: فَأَكْرَهُ، بِالْفَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَعَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، يَعْنِي أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُسْهِرٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِإِسْنَادَيْنِ إِلَى عَائِشَةَ عَنْ مُسْلِمٍ - وَهُوَ أَبُو الضُّحَى - عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهَا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْودِ عَنْهَا بِالْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمُ لَفْظُهُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى السَّرِيرِ، وَأَمَّا ظَنُّ الْكِرْمَانِيِّ أَنَّ مُسْلِمًا هَذَا هُوَ الْبَطِينُ فَلَمْ، يُصِبْ فِي ظَنِّهِ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: التَّرْجَمَةُ لَا تُطَابِقُ حَدِيثَ عَائِشَةَ، لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْأَوْلَى، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَقْبِلَتَهُ، فَلَعَلَّهَا كَانَتْ مُنْحَرِفَةً أَوْ مُسْتَدْبِرَةً. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: قَصَدَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ شُغْلَ الْمُصَلِّي بِالْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ فِي قِبْلَتِهِ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ كَانَتْ أَشَدُّ مِنْ شُغْلِهِ بِالرَّجُلِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ تَضُرَّ صَلَاتَهُ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَغِلٍ بِهَا، فَكَذَلِكَ لَا تَضُرُّ صَلَاةَ مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِهَا، وَالرَّجُلُ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.

وَاقْتَنَعَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ حُكْمَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَاحِدٌ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

‌103 - بَاب الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّائِمِ

512 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّائِمِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يُفَرِّقُ مُفَرِّقٌ بَيْنَ كَوْنِهَا نَائِمَةً أَوْ يَقْظَى، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ أَيْضًا إِلَى تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى النَّائِمِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: طَرُقُهُ كُلُّهَا وَاهِيَةٌ، يَعْنِي: حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ. انْتَهَى.

وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَهُمَا وَاهِيَانِ أَيْضًا. وَكَرِهَ مُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ، وَمَالِكٌ الصَّلَاةَ إِلَى النَّائِمِ خَشْيَةَ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهُ مَا يُلْهِي الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلَاتِهِ. وَظَاهِرُ

ص: 587

تَصَرُّفِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ عَدَمَ الْكَرَاهِيَةِ حَيْثُ يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ.

(تَنْبِيه):

يَحْيَى الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَادِ هُوَ الْقَطَّان، وَهِشَام هُوَ اِبْن عُرْوَة.

‌104 - بَاب التَّطَوُّعِ خَلْفَ الْمَرْأَةِ

513 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا. قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّطَوُّعِ خَلْفَ الْمَرْأَةِ) أورد فيه حَدِيثُ عَائِشَةَ أَيْضًا بِلَفْظٍ آخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْفِرَاشِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى التَّطَوُّعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ هَذِهِ فِي بَيْتِهِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ الْفَرَائِضَ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَفْظُ التَّرْجَمَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ظَهْرُ الْمَرْأَةِ إِلَيْهِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ بِالظَّهْرِ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ السُّنَّةَ لِلنَّائِمِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَالْغَالِبَ مِنْ حَالِ عَائِشَةَ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ. وَسُنَّةُ ذَلِكَ لِلنَّائِمِ فِي ابْتِدَاءِ النَّوْمِ لَا فِي دَوَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقَلِبُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى: خَلْفَ الْمَرْأَةِ وَرَاءَهَا، فَتَكُونُ هِيَ نَفْسُهَا أَمَامَ الْمُصَلِّي لَا خُصُوصُ ظَهْرِهَا، وَلَوْ أَرَادَهُ لَقَالَ: خَلْفَ ظَهْرِ الْمَرْأَةِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ. وَفِي قَوْلِهَا: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الِاشْتِغَالِ بِهَا. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ كَوْنِهِ يَغْمِزُهَا عِنْدَ السُّجُودِ لِيَسْجُدَ مَكَانَ رِجْلَيْهَا كَمَا وَقَعَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ؛ لِأَنَّ الشُّغْلَ بِهَا مَأْمُونٌ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ أَمِنَ ذَلِكَ لَمْ يُكْرَهْ فِي حَقِّهِ.

(تَنْبِيهٌ): الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ غَيْرَ الْحَالَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِهَةِ السَّرِيرِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ لِأَنْ يَسْجُدَ مَكَانَ رِجْلَيْهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بِأَنْ يُقَالَ: كَانَتْ صَلَاتُهُ فَوْقَ السَّرِيرِ لَا أَسْفَلَ مِنْهُ كَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِيمَا سَبَقَ، لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى حَالَتَيْنِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌105 - بَاب مَنْ قَالَ: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ

514 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ. ح قَالَ الْأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ: ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ - الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ - فَقَالَتْ: شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلَابِ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً، فَتَبْدُو لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ فَأُوذِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مِنْ قَالَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ) أَيْ: مِنْ فِعْلٍ غَيْرِ الْمُصَلِّي. وَالْجُمْلَةُ الْمُتَرجَمُ بِهَا أَوْرَدَهَا فِي الْبَابِ صَرِيحًا مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهَا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَالِمٍ لَكِنَّ إِسْنَادَهَا ضَعِيفٌ، وَوَرَدَتْ أَيْضًا مَرْفُوعَةً مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، وَفِي إِسْنَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا ضَعْفٌ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمَا نَحْوَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا.

ص: 588

قَوْلُهُ: (قَالَ الْأَعْمَشُ) هُوَ مَقُولُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ، وَهُوَ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ ذُكِرَ عِنْدَهَا) أَيْ: أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا. وَقَوْلُهُ الْكَلْبُ إِلَخْ فِيهِ حَذْفٌ، وَبَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ: ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَقَالُوا: يَقْطَعُهَا، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقُلْتُ: الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ، وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ عَدَلْتُمُونَا الْحَدِيثَ. وَكَأَنَّهَا أَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ مَرْفُوعًا، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَقَيَّدَ الْكَلْبَ فِي رِوَايَتِهِ بِالْأَسْوَدِ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَيْضًا، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، لَكِنْ قَيَّدَ الْمَرْأَةَ بِالْحَائِضِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ كَذَلِكَ وَفِيهِ تَقْيِيدُ الْكَلْبِ أَيْضًا بِالْأَسْوَدِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَمَالَ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ وَمَا وَافَقَهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا، وَتُعُقِّبُ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا عُلِمَ التَّارِيخُ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ، وَالتَّارِيخُ هُنَا لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَالْجَمْعُ لَمْ يَتَعَذَّرْ.

وَمَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى تَأْوِيلِ الْقَطْعِ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَقْصُ الْخُشُوعِ لَا الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ سَأَلَ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي التَّقْيِيدِ بِالْأَسْوَدِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ شَيْطَانٌ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الصَّحِيحِ: إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، فَإِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفَسِهِ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ حَدِيثُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ الْحَدِيثَ.

وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: فَأَخَذْتُهُ فَصَرَعْتُهُ فَخَنَقْتُهُ، وَلَا يُقَالُ قَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ جَاءَ لِيَقْطَعَ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ سَبَبَ الْقَطْعِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلهُ فِي وَجْهِهِ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْمُرُورِ فَقَدْ حَصَلَ وَلَمْ تَفْسُدْ بِهِ الصَّلَاةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ مُقَدَّمٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. انْتَهَى. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ، وَمَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ لَا تَعَارُضَ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ، وَفِي النَّفْسِ مِنَ الْحِمَارِ وَالْمَرْأَةِ شَيْءٌ. وَوَجَّهَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مَا يُعَارِضُهُ، وَوَجَدَ فِي الْحِمَارِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَعْنِي الَّذِي تَقَدَّمَ فِي مُرُورِهِ وَهُوَ رَاكِبٌ بِمِنًى، وَوَجَدَ فِي الْمَرْأَةِ حَدِيثَ عَائِشَةَ، يَعْنِي: حَدِيثَ الْبَابِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (شَبَّهْتُمُونَا) هَذَا اللَّفْظُ رِوَايَةُ مَسْرُوقٍ، وَرِوَايَةُ الْأَسْوَدِ عَنْهَا: أَعَدَلْتُمُونَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.

وَتَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ بِلَفْظِ: جَعَلْتُمُونَا كِلَابًا، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ تَعَدِّي الْمُشَبَّهِ بِهِ بِالْبَاءِ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ حَتَّى بَالَغَ فَخَطَّأَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: شَبَّهَ كَذَا بِكَذَا، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ مَنْ يُوثَقُ بِعَرَبِيَّتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي كَلَامِ مَنْ هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ وَهِيَ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ سُقُوطُهَا أَشْهَرَ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَثُبُوتُهَا لَازِمٌ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ.

قَوْلُهُ: (فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ فَأُوذِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّشْوِيشَ بِالْمَرْأَةِ وَهِيَ قَاعِدَةٌ يَحْصُلُ مِنْهُ مَا لَا يَحْصُلُ بِهَا وَهِيَ رَاقِدَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَعَلَى هَذَا فَمُرُورُهَا أَشَدُّ.

وَفِي النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأُسُودِ عَنْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَنْسَلُّ انْسِلَالًا فَالظَّاهِرُ أَنَّ عَائِشَةَ إِنَّمَا أَنْكَرَتْ إِطْلَاقَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ تَقْطَعُ الصَّلَاةَ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، لَا الْمُرُورَ بِخُصُوصِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَنْسَلُّ) بِرَفْعِ

ص: 589

اللَّامِ عَطْفًا عَلَى فَأَكْرَهُ.

515 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَمَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ يَقْطَعُهَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا يَقْطَعُهَا شَيْءٌ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ فَيُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، وَإِنِّي لَمُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الْحَنْظَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهَوَيْهِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ السَّكَنِ. وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَزَعَمَ أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَأَلَ عَمَّهُ إِلَخْ) وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ حَدِيثَ: يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةَ إِلَخْ يَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَتْ مَارَّةً أَوْ قَائِمَةً أَوْ قَاعِدَةً أَوْ مُضْطَجِعَةً، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى وَهِيَ مُضْطَجِعَةٌ أَمَامَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ فِي الْمُضْطَجِعِ، وَفِي الْبَاقِي بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ.

وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِثْبَاتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ، فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ حَدِيثَهَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى نَسْخِ الِاضْطِجَاعِ فَقَطْ. وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخْرَى: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَطْعِ الصَّلَاةِ بِهَا مَا يَحْصُلُ مِنَ التَّشْوِيشِ، وَقَدْ قَالَتْ: إِنَّ الْبُيُوتَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَصَابِيحُ، فَانْتَفَى الْمَعْلُولُ بِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ.

ثَانِيهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مُطْلَقَةٌ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُقَيَّدَةٌ بِكَوْنِهَا زَوْجَتَهُ، فَقَدْ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيُقَالُ: يَتَقَيَّدُ الْقَطْعُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِخَشْيَةِ الِافْتِتَانِ بِهَا بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهَا حَاصِلَةٌ.

ثَالِثُهَا: أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَاقِعَةُ حَالٍ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ، بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فَإِنَّهُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ مِنْ مِلْكِ إِرْبِهِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يُعَارِضُ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ وَمَا وَافَقَهُ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ غَيْرُ صَرِيحَةٍ وَصَرِيحَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الصَّرِيحِ بِالْمُحْتَمَلِ، يَعْنِي حَدِيثَ عَائِشَةَ وَمَا وَافَقَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَارِّ وَبَيْنَ النَّائِمِ فِي الْقِبْلَةِ: أَنَّ الْمُرُورَ حَرَامٌ بِخِلَافِ الِاسْتِقْرَارِ نَائِمًا كَانَ أَمْ غَيْرَهُ، فَهَكَذَا الْمَرْأَةُ يَقْطَعُ مُرُورُهَا دُونَ لُبْثِهَا.

قَوْلُهُ: (عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ. وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَيُصَلِّيَ. وَوَقَعَ لِلْمُسْتَمْلِي: عَنْ فِرَاشِ أَهْلِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَقُومُ، وَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ كَانَتْ وَاقِعَةً عَلَى الْفِرَاشِ، بِخِلَافِ الثَّانِي فَفِيهِ احْتِمَالٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْفِرَاشِ مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مِثْلُ الْأَوَّلِ.

‌106 - بَاب إِذَا حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِهِ فِي الصَّلَاةِ

516 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا.

[الحديث 516 - طرفه في: 5996]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِهِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ حَمْلَ الْمُصَلِّي الْجَارِيَةَ إِذَا كَانَ لَا يَضُرُّ الصَّلَاةَ فَمُرُورُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ حَمْلَهَا أَشَدُّ مِنْ مُرُورِهَا. وَأَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا الِاسْتِنْبَاطِ الشَّافِعِيُّ، لَكِنَّ

ص: 590

تَقْيِيدَ الْمُصَنِّفِ بِكَوْنِهَا صَغِيرَةً قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْكَبِيرَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ: سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّهُ: سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ) الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ بِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ أُمَامَةَ، وَرُوِيَ بِالْإِضَافَةِ كَمَا قُرِئَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} بِالْوَجْهَيْنِ، وَتَخْصِيصُ الْحَمْلِ فِي التَّرْجَمَةِ بِكَوْنِهِ عَلَى الْعُنُقِ - مَعَ أَنَّ السِّيَاقَ يَشْمَلُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ - مَأْخُوذٌ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مُصَرِّحَةٍ بِذَلِكَ وَهِيَ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ فَزَادَ فِيهِ: عَلَى عَاتِقِهِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: عَلَى رَقَبَتِهِ. وأُمَامَةُ - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ تَخْفِيفَ الْمِيمَيْنِ - كَانَتْ صَغِيرَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَزَوَّجَهَا عَلِيٌّ بَعْدَ وَفَاةِ فَاطِمَةَ بِوَصِيَّةٍ مِنْهَا وَلَمْ تُعْقِبْ.

قَوْلُهُ: (وَلِأَبِي الْعَاصِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: بِنْتُ زَيْنَبَ بِمَعْنَى اللَّامِ، فَأَظْهَرَ فِي الْمَعْطُوفِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِأَبِي الْعَاصِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.

وَأَشَارَ ابْنُ الْعَطَّارِ إِلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ كَوْنُ وَالِدِ أُمَامَةَ كَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكًا، فَنُسِبَتْ إِلَى أُمِّهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إِلَى أَشْرَفِ أَبَوَيْهِ دِينًا وَنَسَبًا. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ أَبِي الْعَاصِ تَبْيِينًا لِحَقِيقَةِ نَسَبِهَا. انْتَهَى. وَهَذَا السِّيَاقُ لِمَالِكٍ وَحْدَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَنَسَبُوهَا إِلَى أَبِيهَا ثُمَّ بَيَّنُوا أَنَّهَا بِنْتُ زَيْنَبَ كَمَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ: يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ - وَأُمُّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَاتِقِهِ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ) كَذَا رَوَاهُ الْجُمْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، وَمَعْنُ بْنِ عِيسَى، وَأَبُو مُصْعَبٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْ مَالِكٍ، فَقَالُوا: ابْنُ الرَّبِيعِ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَغَفَلَ الْكِرْمَانِيُّ، فَقَالَ: خَالَفَ الْقَوْمُ الْبُخَارِيَّ فَقَالَ: رَبِيعَةُ، وَعِنْدَهُمُ الرَّبِيعُ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، كَالْبُخَارِيِّ فَالْمُخَالَفَةُ فِيهِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ مَالِكٍ، وَادَّعَى الْأَصِيلِيُّ أَنَّهُ ابْنُ الرَّبِيعِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَنَسَبَهُ مَالِكٌ مَرَّةً إِلَى جَدِّهِ، وَرَدَّهُ عِيَاضٌ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا لِإِطْبَاقِ النَّسَّابِينَ عَلَى خِلَافِهِ. نَعَمْ قَدْ نَسَبَهُ مَالِكٌ إِلَى جَدِّهِ فِي قَوْلِهِ: ابْنُ عَبْدِ شَمْسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَطْبَقَ عَلَى ذَلِكَ النَّسَّابُونَ أَيْضًا، وَاسْمُ أَبِي الْعَاصِ لَقِيطٌ، وَقِيلَ: مِقْسَمٌ، وَقِيلَ: الْقَاسِمُ، وَقِيلَ: مِهْشَمٌ، وَقِيلَ: هُشَيْمٌ، وَقِيلَ: يَاسِرٌ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ. أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَهَاجَرَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ زَيْنَبَ، وَمَاتَتْ مَعَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا) كَذَا لِمَالِكٍ أَيْضًا، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنُ عِجْلَانِ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعُمَيْسِ كُلُّهُمْ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخِ مَالِكٍ، فَقَالُوا: إِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ: حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخَذَهَا فَوَضَعَهَا ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ سُجُودِهِ قَامَ وَأَخَذَهَا فَرَدَّهَا فِي مَكَانِهَا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ فِعْلَ الْحَمْلِ وَالْوَضْعِ كَانَ مِنْهُ لَا مِنْهَا، بِخِلَافِ مَا أَوَّلَهُ الْخَطَّابِيُّ حَيْثُ قَالَ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الصبية كَانَتْ قَدْ أَلِفَتْهُ، فَإِذَا سَجَدَ تَعَلَّقَتْ بِأَطْرَافِهِ وَالْتَزَمَتْهُ فَيَنْهَضُ مِنْ سُجُودِهِ فَتَبْقَى مَحْمُولَةً كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَرْكَعَ فَيُرْسِلَهَا.

قَالَ: هَذَا وَجْهُهُ عِنْدِي. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ لَفْظَ حَمَلَ لَا يُسَاوِي لَفْظَ وَضَعَ فِي اقْتِضَاءِ فِعْلِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: فَلَانٌ حَمَلَ كَذَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ حَمَلَهُ، بِخِلَافِ وَضَعَ، فَعَلَى هَذَا فَالْفِعْلُ الصَّادِرُ مِنْهُ هُوَ الْوَضْعُ لَا الرَّفْعُ فَيَقِلُّ الْعَمَلُ. قَالَ: وَقَدْ كُنْتُ أَحْسَبُ هَذَا حَسَنًا إِلَى أَنْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ: فَإِذَا قَامَ أَعَادَهَا. قُلْتُ: وَهِيَ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ.

وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ وَهِيَ: ثُمَّ

ص: 591

أَخَذَهَا فَرَدَّهَا فِي مَكَانِهَا، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عَلَى رَقَبَتِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالَّذِي أَحْوَجَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ فِي النَّافِلَةِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَانَ فِي فَرِيضَةٍ. وَسَبَقَهُ إِلَى اسْتِبْعَادِ ذَلِكَ الْمَازِرِيُّ، وَعِيَاضٌ، لِمَا ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَؤُمُّ النَّاسَ وأُمَامَةُ عَلَى عَاتِقِهِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: إِمَامَتُهُ بِالنَّاسِ فِي النَّافِلَةِ لَيْسَتْ بِمَعْهُودَةٍ. وَلِأَبِي دَاوُدَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ - أَوِ الْعَصْرِ - وَقَدْ دَعَاهُ بِلَالٌ إِلَى الصَّلَاةِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا وأُمَامَةُ عَلَى عَاتِقِهِ، فَقَامَ فِي مُصَلَّاهُ فَقُمْنَا خَلْفَهُ فَكَبَّرَ فَكَبَّرْنَا وَهِيَ فِي مَكَانِهَا، وَعِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَتَبِعَهُ السُّهَيْلِيُّ الصُّبْحُ، وَوَهِمَ مَنْ عَزَاهُ لِلصَّحِيحَيْنِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرَوَى أَشْهَبُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ حَيْثُ لَمْ يَجِد مَنْ يَكْفِيهِ أَمْرَهَا. انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَبَكَتْ وَشَغَلَتْ سِرَّهُ فِي صَلَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ شُغْلِهِ بِحَمْلِهَا. وَفَرَّقَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إِنْ وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ أَمْرَهَا جَازَ فِي النَّافِلَةِ دُونَ الْفَرِيضَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ جَازَ فِيهِمَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ التِّنِّيسِيُّ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ.

قُلْتُ: رَوَى ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَقِبَ رِوَايَتِهِ لِلْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِهِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ صَرِيحٍ، وَلَفْظُهُ: قَالَ التِّنِّيسِيُّ: قَالَ مَالِكٌ: مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَعَلَّهُ نُسِخَ بِتَحْرِيمِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَبِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ كَانَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَطْعًا بِمُدَّةٍ مَدِيدَةٍ. وَذَكَرَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم لِكَوْنِهِ كَانَ مَعْصُومًا مِنْ أَنْ تَبُولَ وَهُوَ حَامِلُهَا، وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ وَبِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ فِي أَمْرٍ ثُبُوتُهُ فِي غَيْرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.

وَحَمَلَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ مُتَوَالٍ لِوُجُودِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي أَرْكَانِ صَلَاتِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ادَّعَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ لِضَرُورَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ مَرْدُودَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُخَالِفُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِرٌ، وَمَا فِي جَوْفِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَثِيَابُ الْأَطْفَالِ وَأَجْسَادُهُمْ مَحْمُولَةٌ عَلَى الطَّهَارَةِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ النَّجَاسَةُ، وَالْأَعْمَالُ فِي الصَّلَاةِ لَا تُبْطِلُهَا إِذَا قَلَّتْ أَوْ تَفَرَّقَتْ، وَدَلَائِلُ الشَّرْعِ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ.

وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي حَمْلِهِ أُمَامَةَ فِي الصَّلَاةِ دَفْعًا لِمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَأْلَفُهُ مِنْ كَرَاهَةِ الْبَنَاتِ وَحَمْلِهِنَّ، فَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي رَدْعِهِمْ، وَالْبَيَانُ بِالْفِعْلِ قَدْ يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَرْجِيحِ الْعَمَلِ بِالْأَصْلِ عَلَى الْغَالِبِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَلِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ هُنَا بَحْثٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حِكَايَاتِ الْأَحْوَالِ لَا عُمُومَ لَهَا، وَعَلَى جَوَازِ إِدْخَالِ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَعَلَى أَنَّ لَمْسَ الصِّغَارِ الصَّبَايَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الطَّهَارَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِنَّ، وَعَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ حَمَلَ آدَمِيًّا، وَكَذَا مَنْ حَمَلَ حَيَوَانًا طَاهِرًا، وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْمُسْتَجْمِرِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أُمَامَةُ كَانَتْ حِينَئِذٍ قَدْ غَسَلَتْ، كَمَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّهَا بِحَائِلٍ.

وَفِيهِ تَوَاضُعُهُ صلى الله عليه وسلم وَشَفَقَتُهُ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَإِكْرَامُهُ لَهُمْ جَبْرًا لَهُمْ وَلِوَالِدَيْهِمْ.

ص: 592

‌107 - بَاب إِذَا صَلَّى إِلَى فِرَاشٍ فِيهِ حَائِضٌ

517 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي خَالَتِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ قَالَتْ: كَانَ فِرَاشِي حِيَالَ مُصَلَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرُبَّمَا وَقَعَ ثَوْبُهُ عَلَيَّ وَأَنَا عَلَى فِرَاشِي.

518 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ تَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ نَائِمَةٌ فَإِذَا سَجَدَ أَصَابَنِي ثَوْبُهُ وَأَنَا حَائِضٌ. وَزَادَ مُسَدَّدٌ عَنْ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ: وَأَنَا حَائِضٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا صَلَّى إِلَى فِرَاشٍ فِيهِ حَائِضٌ) أَيْ: هَلْ يُكْرَهُ أَوْ لَا؟ وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا كَرَاهَةَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، أَوْ مَعْنَاهُ بَابُ حُكَمِ الْمَسْأَلَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي بَابِ إِذَا أَصَابَ ثَوْبُ الْمُصَلِّي امْرَأَتَهُ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ، وَتَقَدَّمَتْ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَيْضِ.

قَوْلُهُ: (حِيَالَ) بِكَسْرِ الْمُهْمِلَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ أَيْ: بِجَنْبِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا سَجَدَ أَصَابَنِي ثَوْبُهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ: ثِيَابُهُ، وَلِلْأَصِيلِيِّ: أَصَابَتْنِي ثِيَابُهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ وَشَبَهُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا اعْتِرَاضُ الْمَرْأَةِ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَقِبْلَتِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْقُعُودِ لَا عَلَى جَوَازِ الْمُرُورِ. انْتَهَى. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ تَرْجَمَةَ الْبَابِ لَيْسَتْ مَعْقُودَةً لِلِاعْتِرَاضِ بَلْ مَسْأَلَةُ الِاعْتِرَاضِ تَقَدَّمَتْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ بَيَانَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَوْ كَانَتِ الْحَائِضُ بِجَنْبِ الْمُصَلِّي وَلَوْ أَصَابَتْهَا ثِيَابُهُ، لَا كَوْنَ الْحَائِضِ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ. وَتَعْبِيرُهُ بِقَوْلِهِ إِلَى أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ الِانْتِهَاءَ يَصْدُقُ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ أَمَامَهُ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ بِكَوْنِهَا كَانَتْ إِلَى جَنْبِهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا حَائِضٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لِغَيْرِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَصَابَنِي ثَوْبُهُ زَادَ مُسَدَّدٌ عَنْ خَالِدٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ: وَأَنَا حَائِضٌ، وَرِوَايَةُ مُسَدَّدٍ هَذِهِ سَاقَهَا الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ إِذَا أَصَابَ ثَوْبُ الْمُصَلِّي وَفِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَهِيَ أَصْرَحُ بِمُرَادِ التَّرْجَمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌108 - بَاب هَلْ يَغْمِزُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ عِنْدَ السُّجُودِ لِكَيْ يَسْجُدَ؟

519 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: بِئْسَمَا عَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَزَ رِجْلَيَّ فقبضتهما.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَغْمِزُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَخْ) فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بَيَانُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَوْ أَصَابَتِ الْمَرْأَةُ بَعْضَ ثِيَابِ الْمُصَلِّي، وَفِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانُ صِحَّتِهَا وَلَوْ أَصَابَهَا بَعْضُ جَسَدِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ) هُوَ الْفَلَّاسُ، وَيَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ الْعُمَرِيُّ، وَالْقَاسِمُ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ.

قَوْلُهُ: (بِئْسَمَا عَدَلْتُمُونَا) بتَخْفِيفُ الدَّالِ، وَمَا

ص: 593

نَكِرَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِفَاعِلِ بِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عَدْلُكُمْ، أَيْ: تَسْوِيَتُكُمْ إِيَّانَا بِمَا ذُكِرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَبَاحِثِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ التَّطَوُّعِ خَلْفَ الْمَرْأَةِ.

‌109 - بَاب الْمَرْأَةِ تَطْرَحُ عَنْ الْمُصَلِّي شَيْئًا مِنْ الْأَذَى

520 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّرَمَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي؟ أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلَاهَا فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا، فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنْ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ عليها السلام وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ - فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، ثُمَّ سَمَّى: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَرْأَةِ تَطْرَحُ عَنِ الْمُصَلِّي شَيْئًا مِنَ الْأَذَى) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ قَرِيبَةٌ مِنَ التَّرَاجِمِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَنَاوَلَتْ مَا عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّي فَإِنَّهَا تَقْصِدُ إِلَى أَخْذِهِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ أَمْكَنَهَا تَنَاوُلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى أَشَدَّ مِنْ مُرُورِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَيْسَ بِدُونِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ) هُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ شَارَكَهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ شَيْخِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْمَذْكُورِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَمَنْ فَوْقَهُ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي) مَأْخُوذٌ مِنَ الرِّيَاءِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ فِي الْمَلَإِ دُونَ الْخَلْوَةِ لِيُرَى.

قَوْلُهُ: (جَزُورُ آلِ فُلَانٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِمْ لَكِنْ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونُوا آلَ أَبِي مُعَيْطٍ لِمُبَادَرَةِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى إِحْضَارِ مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ أَشْقَاهُمْ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ابْنَ مَسْعُودٍ الرَّاوِيَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الطَّهَارَةِ قَبْلَ الْغُسْلِ بِقَلِيلٍ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ - وَمَا مَعَهَا مِنْ أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ وَسُتْرَةِ الْمُصَلَّى - مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى سِتَّةٍ وَثَمَانِينَ حَدِيثًا، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا عَشَرَةٌ تَقَدَّمَتْ وَسِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فِيهَا الْخَالِصُ مِنْهَا خَمْسُونَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِ أُصُولِهَا سِوَى حَدِيثِ أَنَسٍ: مَنِ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّلَاةِ فِي قِبَلِ الْكَعْبَةِ، لَكِنْ أَوْضَحْنَا أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْوَلِيدَةِ صَاحِبَةِ الْوِشَاحِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، وَحَدِيثِ

ص: 594

ابْنِ عُمَرَ: كَانَ الْمَسْجِدُ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ عَمَّ رٍ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَحَدِيثِهِ فِي الْخُطْبَةِ فِي خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَحَدِيثِ عُمَرَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى عَشَرَةِ أَحَادِيثَ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ.

وَفِيهَا مِنَ الْمُعَلَّقَاتِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا كُلُّهَا مُكَرَّرَةٌ إِلَّا حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْعَبَّاسِ وَمَالِ الْبَحْرِينِ، وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ أَيْضًا عَنْ مُسْلِمٍ، فَجُمْلَةُ مَا فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ بِالْمُكَرَّرِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ، وَفِيهَا مِنَ الْآثَارِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ كُلُّهَا مُعَلَّقَاتٌ، إِلَّا أَثَرَ مَسَاجِدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَثَرَ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا كَانَا يَسْتَلْقِيَانِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَثَرَهُمَا أَنَّهُمَا زَادَا فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ هَذِهِ مَوْصُولَةٌ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 595