المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌73 - كِتَاب الْأَضَاحِيِّ ‌ ‌1 - بَاب سُنَّةِ - فتح الباري بشرح البخاري - ط السلفية - جـ ١٠

[ابن حجر العسقلاني]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌73 - كِتَاب الْأَضَاحِيِّ

‌1 - بَاب سُنَّةِ الْأُضْحِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ سُنَّةٌ وَمَعْرُوفٌ

5545 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ الْإِيَامِيِّ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ. فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ - وَقَدْ ذَبَحَ - فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً، فَقَالَ: اذْبَحْهَا، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ.

قَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ.

5546 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُه: (كِتَابُ الْأَضَاحِيِّ - بَابُ سُنَّةِ الْأُضْحِيَّةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَلِغَيْرِهِمَا سُنَّةُ الْأَضَاحِيِّ، وَهُوَ جَمْعُ أُضْحِيَّةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَيَجُوزُ حَذْفُ الْهَمْزَةِ فَتُفْتَحُ الضَّادُ وَالْجَمْعُ ضَحَايَا، وَهِيَ أَضْحَاةٌ، وَالْجَمْعُ أَضْحًى وَبِهِ سُمِّيَ يَوْمُ الْأَضْحَى، وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَكَأَنَّ تَسْمِيَتَهَا اشْتُقَّتْ مِنَ اسْمِ الْوَقْتِ الَّذِي تُشْرَعُ فِيهِ، وَكَأَنَّهُ تَرْجَمَ بِالسُّنَّةِ إِشَارَةً إِلَى مُخَالَفَةِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَصَحَّ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِهَا مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ، وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِ الْمُوسِرِ، وَعَنْ مَالِكٍ مِثْلَهُ فِي روَايَةٍ لَكِنْ لَمْ يُقَيَّدْ بِالْمُقِيمِ، وَنُقِلَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَاللَّيْثِ مِثْلُهُ، وَخَالَفَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَوَافَقَا الْجُمْهُورَ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُكْرَهُ تَرْكُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَعَنْهُ وَاجِبَةٌ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ هِيَ سُنَّةٌ غَيْرُ مُرَخَّصٍ فِي تَرْكِهَا، قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَلَيْسَ فِي الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا اهـ.

وَأَقْرَبُ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ لِلْوُجُوبِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَالْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي الْإِيجَابِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ سُنَّةٌ وَمَعْرُوفٌ) وَصَلَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي مُصَنَّفِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ مُحَسَّنًا مِنْ طَرِيقِ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ: أَهِيَ وَاجِبَةٌ؟ فَقَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ

ص: 3

مِنْ كَوْنِ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ فِي الْجَوَابِ نَعَمْ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْوُجُوبِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمُجَرَّدَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ حَرِيصًا عَلَى اتِّبَاعِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَرِّحْ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ بِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ رَفَعَهُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ أُضْحِيَّةٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ ذَكَرَ مَعَهَا الْعَتِيرَةَ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُتِبَ عَلَيَّ النَّحْرُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَذَهَلَ، وَقَدِ اسْتُوعِبَتْ طُرُقُهُ وَرِجَالُهُ فِي الْخَصَائِصِ مِنْ تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الرَّافِعِيِّ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنَ الْمَبَاحِثِ فِي وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ بَعْدَ أَبْوَابٍ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ، وَأَنَسٍ فِي أَمْرِ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ بِالْإِعَادَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُمَا مُسْتَوْفًى بَعْدَ أَبْوَابٍ، وقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي يَوْمِنَا هَذَا نُصَلِّي بِحَذْفِ أَنْ وَعَلَيْهَا شَرْحُ الْكِرْمَانِيِّ فَقَالَ: هُوَ مِثْلُ تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ وَهُوَ عَلَى تَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ، وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ هُنَا فِي الْحَدِيثَيْنِ مَعًا الطَّرِيقَةُ لَا السُّنَّةُ بِالِاصْطِلَاحِ الَّتِي تُقَابِلُ الْوُجُوبَ، وَالطَّرِيقَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ بَقِيَ النَّدْبُ وَهُوَ وَجْهُ إِيرَادِهَا فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ بِوُقُوعِ الْأَمْرِ فِيها بِالْإِعَادَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ شَرْطِ الْأُضْحِيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لِمَنْ صَلَّى رَاتِبَةَ الضُّحَى مَثَلًا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَعِدْ صَلَاتَكَ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: وَلَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ النُّسُكُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الذَّبِيحَةُ وَيُسْتَعْمَلُ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الدِّمَاءِ الْمُرَاقَةِ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ وَهُوَ أَعَمُّ يُقَالُ فُلَانٌ نَاسِكٌ أَيْ عَابِدٌ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ وَبِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: مَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا نُسُكَ لَهُ أَيْ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا ذَبْحَ لَهُ، أَيْ لَا يَقَعُ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ وَقَالَ مُطَرِّفٌ يَعْنِي ابْنَ طَرِيفٍ بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَزْنُ عَظِيمٍ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ مُطَرِّفٍ مَوْصُولَةً فِي الْعِيدَيْنِ وَتَأْتِي أَيْضًا بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَأَيُّوبُ هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

‌2 - بَاب قِسْمَةِ الْإِمَامِ الْأَضَاحِيَّ بَيْنَ النَّاسِ

5547 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ بَعْجَةَ الْجُهَنِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَارَتْ لِي جَذَعَةٌ، قَالَ: ضَحِّ بِهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قِسْمَةِ الْإِمَامِ الْأَضَاحِيَّ بَيْنَ النَّاسِ) أَيْ بِنَفْسِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ.

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ بَعْجَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ يَحْيَى، أَخْبَرَنِي بَعْجَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا جِيمٌ، وَاسْمُ جَدِّهِ بَدْرٌ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَعْرُوفٌ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَقَدْ أَزَالَتْ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مَا يُخْشَى مِنْ تَدْلِيسِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُقْبَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ

ص: 4

أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ أَخْبَرَهُ.

قَوْلُهُ: (قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا) سَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ أَنَّ عُقْبَةَ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْقِسْمَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي الشَّرِكَةِ بَابُ وَكَالَةِ الشَّرِيكِ لِلشَّرِيكِ فِي الْقِسْمَةِ وَأَوْرَدَهُ فِيهِ أَيْضًا، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ عُقْبَةَ كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْغَنَمِ نَصِيبٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَكَذَا كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا نَصِيبٌ، وَمَعَ هَذَا فَوَكَّلَهُ فِي قِسْمَتِهَا وَقَدَّمْتُ لَهُ هُنَاكَ تَوْجِيهًا آخَرَ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَقْوَى مِنْهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهَا ضَحَايَا بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَيَّنَهَا لِلْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ لِيَحُوزَ كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ قِسْمَةِ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بَيْعًا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، قَالَ: وَمَا أَرَى الْبُخَارِيَّ مَعَ دِقَّةِ نَظَرِهِ قَصَدَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَّا هَذَا، كَذَا قَالَ.

قَوْلُهُ: (فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ) أَيِ ابْنُ عَامِرٍ (جَذَعَةٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ وَصْفٌ لِسِنٍّ مُعَيَّنٍ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَمِنَ الضَّأْنِ مَا أَكْمَلَ السَّنَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ دُونَهَا. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ فَقِيلَ ابْنُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقِيلَ ثَمَانِيَةٍ وَقِيلَ عَشَرَةٍ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ وَكِيعٍ أَنَّهُ ابْنُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ. وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ ابْنَ الشَّابَّيْنِ يُجْذَعُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى سَبْعَةٍ وَابْنُ الْهَرَمَيْنِ يُجْذَعُ لِثَمَانِيَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، قَالَ وَالضَّأْنُ أَسْرَعُ إِجْذَاعًا مِنَ الْمَعْزِ، وَأَمَّا الْجَذَعُ مِنَ الْمَعْزِ فَهُوَ مَا دَخَلَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَمِنَ الْبَقَرِ مَا أَكْمَلَ الثَّالِثَةَ وَمِنَ الْإِبِلِ مَا دَخَلَ فِي الْخَامِسَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْمُرَادِ بِهَا هُنَا قَرِيبًا، وَأَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْمَعْزِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.

‌3 - بَاب الْأُضْحِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ

5548 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَحَاضَتْ بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: مَا لَكِ أَنَفِسْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأُضْحِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى خِلَافِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمُسَافِرَ لَا أُضْحِيَّةَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى خِلَافِ مَنْ قَالَ إِنَّ النِّسَاءَ لَا أُضْحِيَّةَ عَلَيْهِنَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى خِلَافِ مَنْ مَنَعَ مِنْ مُبَاشَرَتِهِنَّ التَّضْحِيَةَ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ مُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ لِلتَّضْحِيَةِ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ مُسَدَّدٌ مِنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ وَتَقَدَّمَتْ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ.

قَوْلُهُ: (بِسَرِفَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ خَارِجَ مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (أَنُفِسْتِ)؟ قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيُّ وَغَيْرُهُ بِضَمِّ النُّونِ أَيْ حِضْتِ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ. وَقِيلَ هُوَ فِي الْحَيْضِ بِالْفَتْحِ فَقَطْ وَفِي النِّفَاسِ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أَتَيْتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ) تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَخْصَرُ مِنْ هَذَا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُبَيَّنًا هُنَاكَ. وَقَوْلُهُ: ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الذَّبْحَ الْمَذْكُورَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْأُضْحِيَّةِ، وَحَاوَلَ ابْنُ التِّينِ تَأْوِيلَهُ لِيُوَافِقَ مَذْهَبَهُ فَقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ ذَبَحَهَا وَقْتَ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ ضُحَى يَوْمِ النَّحْرِ، قَالَ: وَإِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَكُونُ تَطَوُّعًا لَا عَلَى أَنَّهَا سُنَّةُ الْأُضْحِيَّةِ، كَذَا

ص: 5

قَالَ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ضَحِيَّةَ الرَّجُلِ تُجْزِي عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ أَوْ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يَأْتِ لِذَلِكَ بِدَلِيلٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ بِأُضْحِيَّةٍ مَعَ تَكْرَارِ سِنِي الضَّحَايَا وَمَعَ تَعَدُّدِهِنَّ، وَالْعَادَةُ تَقْضِي بِنَقْلِ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ كَمَا نُقِلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: سَأَلْتُ أَبَا أَيُّوبَ: كَيْفَ كَانَتِ الضَّحَايَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ، حَتَّى تَنَاهَى النَّاسُ كَمَا تَرَى.

‌4 - بَاب مَا يُشْتَهَى مِنْ اللَّحْمِ يَوْمَ النَّحْرِ

5549 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ: مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ - وَذَكَرَ جِيرَانَهُ - وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا أَدْرِي أبَلَغَتْ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لَا، ثُمَّ انْكَفَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى كَبْشَيْنِ فَذَبَحَهُمَا وَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا، أَوْ قَالَ: فَتَجَزَّعُوهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُشْتَهَى مِنَ اللَّحْمِ يَوْمَ النَّحْرِ) أَيِ اتِّبَاعًا لِلْعَادَةِ بِالِالْتِذَاذِ بِأَكْلِ اللَّحْمِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا صَدَقَةُ) هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ، وَابْنُ عُلَيَّةَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِقْسَمٍ.

قَوْلُهُ (فَقَامَ رَجُلٌ) هُوَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ.

قَوْلُهُ (إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ) فِي رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عن الشَّعْبِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ اللَّحْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ وَفِي لَفْظٍ لَهُ: مَقْرُومٌ وَهُوَ بِسُكُونِ الْقَافِ، قَالَ عِيَاضٌ رُوِّينَاهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْفَارِسِيِّ، وَالسِّجْزِيِّ مَكْرُوهٌ وَمِنْ طَرِيقِ الْعُذْرِيِّ مَقْرُومٌ وَقَدْ صَوَّبَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ، وَقَالَ مَعْنَاهُ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، يُقَالُ: قَرَمْتُ إِلَى اللَّحْمِ وَقَرَمْتُهُ إِذَا اشْتَهَيْتُهُ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ قَالَ عِيَاضٌ: وَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا صَوَابُ الرِّوَايَةِ اللَّحَمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَهُوَ اشْتِهَاءُ اللَّحْمِ وَالْمَعْنَى تَرْكُ الذَّبْحِ وَالتَّضْحِيَةِ وَإِبْقَاءُ أَهْلِهِ فِيهِ بِلَا لَحْمٍ حَتَّى يَشْتَهُوهُ مَكْرُوهٌ، قَالَ وَقَالَ لِي الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ مَعْنَاهُ ذَبْحُ مَا لَا يُجْزِي فِي الْأُضْحِيَّةِ مِمَّا هُوَ لَحْمٌ، اهـ، وَبَالَغَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: الرِّوَايَةُ بِسُكُونِ الْحَاءِ هُنَا غَلَطٌ وَإِنَّمَا هُوَ اللَّحَمُ بِالتَّحْرِيكِ، يُقَالُ لَحِمَ الرَّجُلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ يَلْحَمُ بِفَتْحِهَا إِذَا كَانَ يَشْتَهِي اللَّحْمَ، وَأَمَّا الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فَقَالَ تَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ مَا لَا يَصِحُّ رِوَايَةً أَي اللَّحَمَ بِالتَّحْرِيكِ، وَلَا مَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ الْآخَرِ مَعْنَى الْمَكْرُوهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، قَالَ: وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ سِيَاقَ الْحَدِيثِ فَإِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يُلَائِمُهُ، إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ اللَّحْمُ فِيهِ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَأنِّي عَجِلْتُ لِأُطْعِمَ أَهْلِي، قَالَ: وَأَقْرَبُ مَا يُتَكَلَّفُ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ

اللَّحْمُ فِيهِ مَكْرُوهُ التَّأْخِيرِ فَحُذِفَ لَفْظُ التَّأْخِيرِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ عَجِلْتُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى أَنَّ مَعْنَاهُ هَذَا يَوْمٌ طَلَبُ اللَّحْمِ فِيهِ مَكْرُوهٌ شَاقٌّ، قَالَ: وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ، قُلْتُ: يَعْنِي طَلَبَهُ مِنَ النَّاسِ كَالصَّدِيقِ وَالْجَارِ، فَاخْتَارَ هُوَ أَنْ لَا يَحْتَاجَ أَهْلُهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَغْنَاهُمْ بِمَا ذَبَحَهُ عَنِ الطَّلَبِ. وَوَقَعَ

ص: 6

فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ كَمَا مَضَى فِي الْعِيدَيْنِ: وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بَيْتِي وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، وَأَنَّ وَصْفَهُ اللَّحْمَ بِكَوْنِهِ مُشْتَهًى وَبِكَوْنِهِ مَكْرُوهًا لَا تَنَاقُضَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارَيْنِ: فَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِيهِ بِالذَّبَائِحِ فَالنَّفْسُ تَتَشَوَّقُ لَهُ يَكُونُ مُشْتَهًى، وَمِنْ حَيْثُ تَوَارُدِ الْجَمِيعِ عَلَيْهِ حَتَّى يَكْثُرَ يَصِيرُ مُمَوَّلًا فَأُطْلِقَتْ عَلَيْهِ الْكَرَاهَةُ لِذَلِكَ، فَحَيْثُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُشْتَهًى أَرَادَ ابْتِدَاءَ حَالِهِ، وَحَيْثُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مَكْرُوهًا أَرَادَ انْتِهَاءَهُ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَعْجَلَ بِالذَّبْحِ لِيَفُوزَ بِتَحْصِيلِ الصِّفَةِ الْأُولَى عِنْدَ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَقَالَ خَالِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ نَكَّسْتُ عَنِ ابْنٍ لِي وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا، وَظَهَرَ لِي أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ ضَحَّى لِأَجْلِهِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ فِي أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ، فَخَصَّ وَلَدَهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِذَلِكَ عِنْدَهُ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُهُ بِمَا عِنْدَهُ عَنِ التَّشَوُّفِ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ جِيرَانَهُ) فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَإِنِّي عَجَّلْتُ فِيهِ نَسِيكَتِي لِأُطْعِمَ أَهْلِي وَجِيرَانِي وَأَهْلَ دَارِي.

قَوْلُهُ: (فَلَا أَدْرِي أَبَلَغَتِ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لَا) قَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ اخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، كَأَنَّ أَنَسًا لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ حَدِيثَ الْبَرَاءِ وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ حَدِيثَ أَنَسٍ، فَكَانَ إِذَا حَدَّثَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ، وَيُحَدِّثُ بِقَوْلِ أَنَسٍ: لَا أَدْرِي أَبَلَغَتِ الرُّخْصَةُ غَيْرَهُ أَمْ لَا وَلَعَلَّهُ اسْتَشْكَلَ الْخُصُوصِيَّةَ بِذَلِكَ لِمَا جَاءَ مِنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ لِغَيْرِ أَبِي بُرْدَةَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ انْكَفَأَ) مَهْمُوزٌ، أَيْ مَالَ، يُقَالُ: كَفَأْتُ الْإِنَاءَ إِذَا أَمَلْتُهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ مَكَانِ الْخُطْبَةِ إِلَى مَكَانِ الذَّبْحِ.

قَوْلُهُ: (وَقَامَ النَّاسُ) كَذَا هُنَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فِي بَابِ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَعَادَ فَتَمَسَّكَ بِهِ ابْنُ التِّينِ فِي أَنَّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الْإِمَامِ لَا يُجْزِئُهُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (إِلَى غُنَيْمَةٍ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَنُونٍ مُصَغَّر (فَتَوَزَّعُوهَا أَوْ قَالَ فَتَجَزَّعُوهَا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْأَوَّلُ بِالزَّايِ مِنَ التَّوْزِيعِ وَهُوَ التَّفْرِقَةُ أَيْ تَفَرَّقُوهَا، وَالثَّانِي بِالْجِيمِ وَالزَّايِ أَيْضًا مِنَ الْجَزْعِ وَهُوَ الْقَطْعُ أَيِ اقْتَسَمُوهَا حِصَصًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمُ اقْتَسَمُوهَا بَعْدَ الذَّبْحِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ قِطْعَةً مِنَ اللَّحْمِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَخْذُ حِصَّةٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَالْقِطْعَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْحِصَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ الْمَعْنَى وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ فِي الْأَصْلِ الِاخْتِلَافَ.

‌5 - بَاب مَنْ قَالَ: الْأَضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ

5550 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فقَالَ أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ

ص: 7

قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ - عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ - فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ: صَدَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَالَ الْأَضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ أَخَذَهُ مِنْ إِضَافَةِ الْيَوْمِ إِلَى النَّحْرِ حَيْثُ قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فَلَا يَبْقَى نَحْرٌ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، قَالَ: وَالْجَوَابُ عَلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ أَنَّ الْمُرَادَ لنَّحْرُ الْكَامِلُ، وَاللَّامُ تُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا لِلْكَمَالِ كَقَوْلِهِ: الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ. قُلْتُ: وَاخْتِصَاصُ النَّحْرِ بِالْيَوْمِ الْعَاشِرِ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ مِثْلُهُ إِلَّا فِي مِنًى فَيَجُوزُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكَ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَفَعَهُ: أُمِرْتُ بِيَوْمِ الْأَضْحَى عِيدًا جَعَلَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: التَّمَسُّكُ بِإِضَافَةِ النَّحْرِ إِلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ضَعِيفٌ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ الْأَرْبَعَةَ أَوِ الثَّلَاثَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمٌ يَخُصُّهُ، فَالْأَضْحَى هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، وَالَّذِي يَلِيهِ يَوْمُ الْقَرِّ، وَالَّذِي يَلِيهِ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، وَالرَّابِعُ يَوْمُ النَّفْرِ الثَّانِي، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مُرَادُهُ أَنَّهُ يَوْمٌ تُنْحَرُ فِيهِ الْأَضَاحِيُّ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ، وَقِيلَ: مُرَادُهُ لَا ذَبْحَ إِلَّا فِيهِ خَاصَّةً، يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَمَّنْ قَالَ بِهِ. وَزَادَ مَالِكٌ: وَيُذْبَحُ أَيْضًا فِي يَوْمَيْنِ بَعْدَهُ.

وَزَادَ الشَّافِعِيُّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ، قَالَ: وَقِيلَ يُذْبَحُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ يَعْزُهُ لِقَائِلٍ، وَقِيلَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ وَهُوَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ مُتَمَسِّكًا بِعَدَمِ وُرُودِ نَصٍّ بِالتَّقْيِيدِ. وَأَخْرَجَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، قَالَ: وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِمَا، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ فَيَلْزَمُ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ أَنْ يَقُولَ بِهِ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَبِمِثْلِ قَوْلِ مَالِكٍ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَبِمِثْلِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ تَبَعًا لِلطَّحَاوِيِّ: وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ الصَّحَابَةِ غَيْرُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَعَنْ قَتَادَةَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْعَاشِرِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ حَدُيْثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَفَعَهُ فِجَاجُ مِنًى مَنْحَرٌ، وَفِي كُلِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ لَكِنْ فِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ، وَوَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تُشْرَعُ لَيْلًا كَمَا تُشْرَعُ نَهَارًا إِلَّا رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ مُحَمَّدٍ - وَهُوَ ابْنُ سِيرِينَ - عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْعِلْمِ، وَفِي بَابِ الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ شَيْءٌ مِنْهُ، وَكَذَا فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ إِلَى قَوْلِهِ وَرَجَبُ مُضَرٍ) هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ عَدَّهَا مِنْ سَنَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهَا سَنَةً وَاحِدَةً فَبَدَأَ بِالْمُحَرَّمِ لَكِنِ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِبَيَانِ الْمُتَوَالِيَةِ. وَشَذَّ مَنْ أَسْقَطَ رَجَبًا وَأَبْدَلَهُ بِشَوَّالٍ زَاعِمًا أَنَّ بِذَلِكَ تَتَوَالَى الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ وَأَحْسَبُهُ) هُوَ ابْنُ سِيرِينَ كَأَنَّهُ كَانَ يَشُكُّ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ذَكَرَ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْوَاوِ أَيْ أَكْثَرَ وَعْيًا لَهُ وَتَفَهُّمًا فِيهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ،

ص: 8

وَالْمُسْتَمْلِي أَرْعَى بِالرَّاءِ مِنَ الرِّعَايَةِ وَرَجَّحَهَا بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: هِيَ وَهْمٌ، وَقَوْلُهُ: قَالَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ الْقَائِلُ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ، وَلَكِنِ الرَّاوِي فَصَلَ بَيْنَ قَوْلِهِ: بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ بِكَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ الْمَذْكُورِ.

‌6 - بَاب الْأَضْحَى وَالنَّحَرِ بِالْمُصَلَّى

5551 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَنْحَرُ فِي الْمَنْحَرِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: يَعْنِي مَنْحَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

5552 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَضْحَى وَالنَّحْرِ بِالْمُصَلَّى) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ سُنَّةٌ لِلْإِمَامِ خَاصَّةً عِنْدَ مَالِكٍ، قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ: إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَذْبَحَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، زَادَ الْمُهَلَّبُ: وَلِيَذْبَحُوا بَعْدَهُ عَلَى يَقِينٍ، وَلِيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ صِفَةَ الذَّبْحِ. وَذَكَرَ فِيهِ الْمُؤَلِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَوْقُوفٌ، وَالثَّانِي مَرْفُوعٌ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى، وَهُوَ اخْتِلَافٌ عَلَى نَافِعٍ، وَقِيلَ: بَلِ الْمَرْفُوعُ يَدُلُّ عَلَى الْمَوْقُوفِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمَوْقُوفِ كَانَ ينحر فِي مَنْحَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ بِهِ الْمُصَلَّى بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْمُصَرِّحِ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الْإِمَامَ يُبْرِزُ أُضْحِيَّتَهُ لِلْمُصَلَّى فَيَذْبَحُ هُنَاكَ، وَبَالَغَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ أَبُو مُصْعَبٍ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يُؤْتَمَّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا يُذْبَحُ حَتَّى يَذْبَحَ الْإِمَامُ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَذْبَحُ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ لَهُ دَلِيلًا.

‌7 - بَاب فِي أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، وَيُذْكَرُ سَمِينَيْنِ

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ قَالَ: كُنَّا نُسَمِّنُ الْأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ

5553 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ وَأَنَا أُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ.

[الحديث 5553 - أطرافه في: 5554، 5558، 5564، 5565، 7399]

5554 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ".

تَابَعَهُ وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَحَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ.

5555 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَماً يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "ضَحِّ به أَنْتَ".

ص: 9

قَوْلُهُ: (بَابُ أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ) أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قَرْنَانِ مُعْتَدِلَانِ، وَالْكَبْشُ فَحْلُ الضَّأْنِ فِي أَيِّ سِنٍّ كَانَ، وَاخْتُلِفَ فِي ابْتِدَائِهِ فَقِيلَ: إِذَا أَثْنَى، وَقِيلَ: إِذَا أَرْبَعَ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ سَمِينَيْنِ) أَيْ فِي صِفَةِ الْكَبْشَيْنِ، وَهِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عنه، أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْهُ وَلَيْسَ فِيهِ سَمِينَيْنِ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ شُعْبَةَ. وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَوْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ فَذَبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَالْآخَرَ عَنْ أُمَّتِهِ مَنْ شَهِدَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَلَهُ بِالْبَلَاغِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ لَكِنْ وَقَعَ فِي النُّسْخَةِ ثَمِينَيْنِ بِمُثَلَّثَةٍ أَوَّلُهُ بَدَلُ السِّينِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَابْنُ عَقِيلٍ الْمَذْكُورُ فِي سَنَدِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ: فَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَشَرِيكٌ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو كُلُّهُمْ عَنْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، وَخَالَفَهُمُ الثَّوْرِيُّ كَمَا تَرَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ طَرِيقَانِ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ لَفْظُ سَمِينَيْنِ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ ذَبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَوْجُوءُ - يَعْنِي بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِالْهَمْزِ - مَنْزُوعُ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْوِجَاءُ الْخِصَاءُ، وَفِيهِ جَوَازُ الْخَصْيِ فِي الضَّحِيَّةِ، وَقَدْ كَرِهَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِنَقْصِ الْعُضْوِ، لَكِنْ لَيْسَ هَذَا عَيْبًا لِأَنَّ الْخِصَاءَ يُفِيدُ اللَّحْمَ طِيبًا وَيَنْفِي عَنْهُ الزُّهُومَةَ وَسُوءَ الرَّائِحَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: ضَحَّى بِكَبْشٍ فَحْلٍ أَيْ كَامِلِ الْخِلْقَةِ لَمْ تُقْطَعْ أُنْثَيَاهُ يَرُدُّ رِوَايَةَ مَوْجُوءَيْنِ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي وَقْتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ قَالَ: كُنَّا نُسَمِّنُ الْأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ) وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ وَلَفْظُهُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْتَرِي أَحَدُهُمُ الْأُضْحِيَّةَ فَيُسَمِّنُهَا وَيَذْبَحُهَا فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا الْحَدِيثُ عَجِيبٌ، قَالَ ابْنُ التِّينِ كَانَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ يَكْرَهُ تَسْمِينَ الْأُضْحِيَّةِ لِئَلَّا يَتَشَبَّهَ بِالْيَهُودِ، وَقَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ أَحَقُّ، قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ.

قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ وَأَنَا أُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ) هَكَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ أَنَسٌ بَيَّنَهُ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخْتَصَرَةٌ وَرِوَايَةُ أَبِي قِلَابَةَ الْمَذْكُورَةُ عَقِبَهَا مُبَيَّنَةٌ، لَكِنْ فِي هَذِهِ زِيَادَةُ قَوْلِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ لِلِاتِّبَاعِ، وَفِيهَا أَيْضًا إِشْعَارٌ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ الضَّأْنُ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَفْضَلُ.

تَابَعَهُ وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَحَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ: عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ (إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ) الْأَمْلَحُ بِالْمُهْمَلَةِ هُوَ الَّذِي فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ وَالْبَيَاضُ أَكْثَرُ، وَيُقَالُ: هُوَ الْأَغْبَرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ، وَزَادَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ الْأَبْيَضُ الَّذِي فِي خَلَلِ صُوفِهِ طَبَقَاتٌ سُودٌ، وَيُقَالُ: الْأَبْيَضُ الْخَالِصُ قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَبِهِ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي تَفْضِيلِ الْأَبْيَضِ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَقِيلَ الَّذِي يَعْلُوهُ حُمْرَةٌ، وَقِيلَ: الَّذِي يَنْظُرُ فِي سَوَادٍ وَيَمْشِي فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ وَيَبْرَكُ فِي سَوَادٍ، أَيْ أَنَّ مَوَاضِعَ هَذِهِ مِنْهُ سُودٌ وَمَا عَدَا ذَلِكَ أَبْيَضُ، وَحَكَى ذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ غَرِيبٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْحَدِيثَ الَّذِي جَاءَ عَنْهَا كَذَا لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ وَصْفُهُ بِالْأَمْلَحِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ فَإِنْ ثَبَتَ فَلَعَلَّهُ كَانَ فِي مَرَّةٍ أُخْرَى، وَاخْتُلِفَ فِي اخْتِيَارِ هَذِهِ الصِّفَةِ: فَقِيلَ لِحُسْنِ مَنْظَرِهِ، وَقِيلَ لِشَحْمِهِ وَكَثْرَةِ لَحْمِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اخْتِيَارِ الْعَدَدِ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ إِنَّ الْأُضْحِيَّةَ بِسَبْعِ شِيَاهٍ أَفْضَلُ مِنَ الْبَعِيرِ لِأَنَّ الدَّمَ الْمُرَاقَ فِيهَا أَكْثَرُ وَالثَّوَابُ يَزِيدُ بِحَسَبِهِ، وَأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ يُعَجِّلُهُ

ص: 10

وَحَكَى الرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ اسْتِحْبَابَ التَّفْرِيقِ عَلَى أَيَّامِ النَّحْرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا أَرْفَقُ بِالْمَسَاكِينِ لَكِنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ، كَذَا قَالَ وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى اخْتِيَارِ التَّثْنِيَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ بِعَدَدٍ فَضَحَّى أَوَّلَ يَوْمٍ بِاثْنَيْنِ ثُمَّ فَرَّقَ الْبَقِيَّةَ عَلَى أَيَّامِ النَّحْرِ أَنْ يَكُونَ

مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ، وَفِيهِ أَنَّ الذَّكَرَ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَفْضَلُ مِنَ الْأُنْثَى وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ رِوَايَةُ أَنَّ الْأُنْثَى أَوْلَى، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِيهِ قَوْلَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَحَدُهُمَا عَنْ نَصِّهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ الذَّكَرُ لِأَنَّ لَحْمَهُ أَطْيَبُ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَالثَّانِي أَنَّ الْأُنْثَى أَوْلَى، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَإِنَّمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ عِنْدَ التَّقْوِيمِ، وَالْأُنْثَى أَكْثَرُ قِيمَةً فَلَا تُفْدَى بِالذَّكَرِ، أَوْ أَرَادَ الْأُنْثَى الَّتِي لَمْ تَلِدْ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْأَصَحُّ أَفْضَلِيَّةُ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ فِي الضَّحَايَا وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّضْحِيَةِ بِالْأَقْرَنِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَجَمِّ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ التَّضْحِيَةِ بِالْأَجَمِّ وَهُوَ الَّذِي لَا قَرْنَ لَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَكْسُورِ الْقَرْنِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ مُبَاشَرَةِ الْمُضَحِّي الذَّبْحَ بِنَفْسِهِ وَاسْتُدِلَّ به عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اسْتِحْسَانِ الْأُضْحِيَّةِ صِفَةً وَلَوْنًا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنِ اجْتَمَعَ حُسْنُ الْمَنْظَرِ مَعَ طِيبِ الْمَخْبَرِ فِي اللَّحْمِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنِ انْفَرَدَا فَطِيبُ الْمَخْبَرِ أَوْلَى مِنْ حُسْنِ الْمَنْظَرِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: أَفْضَلُهَا الْبَيْضَاءُ ثُمَّ الصَّفْرَاءُ ثُمَّ الْغَبْرَاءُ ثُمَّ الْبَلْقَاءُ ثُمَّ السَّوْدَاءُ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ فَوَائِدِ حَدِيثِ أَنَسٍ بَعْدَ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ) سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ، وَحَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ) يَعْنِي أَنَّهُمَا خَالَفَا عَبْدَ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيَّ فِي شَيْخِ أَيُّوبَ فَقَالَ هُوَ أَبُو قِلَابَةَ، وَقَالَا: مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، فَأَمَّا حَدِيثُ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ فَقَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَهُوَ مُصَيِّرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ الطَّرِيقَيْنِ صَحِيحَانِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ سِيَاقِهِمَا. وَأَمَّا حَدِيثُ حَاتِمِ بْنِ وَرْدَانَ فَوَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدَّمَ الْبَاقُونَ مُتَابَعَةَ وُهَيْبٍ عَلَى رِوَايَتَيْ إِسْمَاعِيلَ، وَحَاتِمٍ وَهُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ وُهَيْبًا إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ مُتَابِعًا لِعَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ كَذَلِكَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا قَالَ أَوَّلًا قَالَ إِسْمَاعِيلُ وَثَانِيًا تَابَعَهُ وُهَيْبٌ لِأَنَّ الْقَوْلَ يُسْتَعْمَلُ عَلَى سَبِيلِ الْمُذَاكَرَةِ، وَالْمُتَابَعَةُ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ النَّقْلِ وَالتَّحَمُّلِ. قُلْتُ: لَوْ كَانَ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ طَرِيقَ إِسْمَاعِيلَ فِي الْأُصُولِ، وَلَمْ يَنْحَصِرِ التَّعْلِيقُ الْجَازِمُ فِي الْمُذَاكَرَةِ، بَلِ الَّذِي قَالَ إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْمُذَاكَرَةِ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (اللَّيْثُ، عَنْ زَيْد) هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ.

قَوْلُهُ: (أَعْطَاهُ غَنَمًا) هُوَ أَعَمُّ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى صَحَابَتِهِ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعُقْبَةَ فَعَلَى كُلٍّ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْغَنَمُ مِلْكًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِقِسْمَتِهَا بَيْنَهُمْ تَبَرُّعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْفَيْءِ وَإِلَيْهِ جَنَحَ الْقُرْطُبِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الضَّحَايَا عَلَى مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنْ كَانَ قَسَمَهَا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ فَهِيَ مِنَ الْفَيْءِ وَإِنْ كَانَ خَصَّ بِهَا الْفُقَرَاءَ فَهِيَ مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الشَّرِكَةِ بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَمِ وَالْعَدْلِ فِيهَا وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لِعُقْبَةَ مَا يُعْطِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَهُوَ لَا يُوَكِّلُ إِلَّا بِالْعَدْلِ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ وَكَلَ ذَلِكَ لِرَأْيِهِ لَعَسُرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْغَنَمَ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا قِسْمَةُ الْإِجْزَاءِ، وَأَمَّا قِسْمَةُ التَّعْدِيلِ فَتَحْتَاجُ إِلَى رَدٍّ، لِأَنَّ اسْتِوَاءَ قِسْمَتِهَا عَلَى التَّحْرِيرِ بَعِيدٌ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِهَا عَنْهُمْ، وَوَقَعَتِ الْقِسْمَةُ فِي اللَّحْمِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ الْإِجْزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ عَنِ ابْنِ الْمُنِيرِ قَبْلَ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (فَبَقِيَ عَتُودٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْخَفِيفَةِ، وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ مَا قَوِيَ وَرَعَى وَأَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ، وَالْجَمْعُ أَعْتِدَةٌ وَعِتْدَانٌ، وَتُدْغَمُ

ص: 11

التَّاءُ فِي الدَّالِ فَيُقَالُ عِدَّانٌ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْعَتُودُ الْجَذَعُ مِنَ الْمَعْزِ ابْنُ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَهَذَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ عُقْبَةَ كَمَا مَضَى قَرِيبًا جَذَعَةً وَأَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْمَعْزِ، وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْعَتُودَ لَا يُقَالُ إِلَّا لِلْجَذَعِ مِنَ الْمَعْزِ، وَتَعَقَّبَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْمُحْكَمِ أَنَّ الْعَتُودَ الْجَدْيُ الَّذِي اسْتَكْرَشَ، وَقِيلَ الَّذِي بَلَغَ السِّفَادَ، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي أَجْذَعَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ ضَحِّ بِهِ أَنْتَ) زَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ: وَلَا رُخْصَةَ فِيهَا لِأَحَدٍ بَعْدَكَ وَسَأَذْكُرُ الْبَحْثَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِجْزَاءِ الْأُضْحِيَّةِ بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِإِيرَادِ حَدِيثِ عُقْبَةَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ - وَهِيَ ضَحِيَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ - الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ عَلَى الِاخْتِيَارِ، فَمَنْ ذَبَحَ وَاحِدَةً أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَمَنْ زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ، وَالْأَفْضَلُ الِاتِّبَاعُ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِكَبْشَيْنِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى كَثْرَةِ اللَّحْمِ قَالَ كَالشَّافِعِيِّ: الْأَفْضَلُ الْإِبِلُ ثُمَّ الضَّأْنُ ثُمَّ الْبَقَرُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَافَقَ الشَّافِعِيُّ، أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا يُعْدَلُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ، لَكِنْ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - يَعْنِي الْمَاضِيَ قَرِيبًا - كَانَ يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى، أَيْ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْإِبِلَ وَغَيْرَهَا، قَالَ: لَكِنَّهُ عُمُومٌ، وَالتَّمَسُّكُ بِالصَّرِيحِ أَوْلَى وَهُوَ الْكَبْشُ.

قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُضَحِّي بِالْمَدِينَةِ بِالْجَزُورِ أَحْيَانًا وَبِالْكَبْشِ إِذَا لَمْ يَجِدْ جَزُورًا فَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَكَانَ نَصًّا فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ، لَكِنْ فِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ فِي بَابِ مَنْ ذَبَحَ ضَحِيَّةَ غَيْرِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُهَا يَطَأُ فِي سَوَادٍ إِلَخْ تُرِيدُ أَنَّ أَظْلَافَهُ وَمَوَاضِعَ الْبُرُوكِ مِنْهُ وَمَا أَحَاطَ بِمَلَاحِظِ عَيْنَيْهِ مِنْ وَجْهِهِ أَسْوَدُ، وَسَائِرُ بَدَنِهِ أَبْيَضُ.

‌8 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بُرْدَةَ: ضَحِّ بِالْجَذَعِ مِنْ الْمَعَزِ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ

5556 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنْ الْمَعَزِ، قَالَ: اذْبَحْهَا وَلَنْ تَصْلُحَ لِغَيْرِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ.

تَابَعَهُ عُبَيْدَةُ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ، وَتَابَعَهُ وَكِيعٌ عَنْ حُرَيْثٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَقَالَ عَاصِمٌ وَدَاوُدُ عَنْ الشَّعْبِيِّ: عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ، وَقَالَ زُبَيْدٌ وَفِرَاسٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ: عِنْدِي جَذَعَةٌ، وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ: عَنَاقٌ جَذَعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: عَنَاقٌ جَذَعٌ، عَنَاقُ لَبَنٍ.

5557 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "ذَبَحَ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم" أَبْدِلْهَا قَالَ لَيْسَ عِنْدِي إِلاَّ جَذَعَةٌ قَالَ شُعْبَةُ وَأَحْسِبُهُ

ص: 12

قَالَ هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ قَالَ اجْعَلْهَا مَكَانَهَا وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ".

وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ "عَنَاقٌ جَذَعَةٌ"

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بُرْدَةَ ضَحِّ بِالْجَذَعِ مِنَ الْمَعْزِ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي سَاقَهَا اذْبَحْهَا لِلْجَذَعَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: إِنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنَ الْمَعْزِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ) هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ بِمُهْمَلَةٍ وَزْنُ عَقِيلٍ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ.

قَوْلُهُ: (ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ) فِي رِوَايَةِ زُبَيْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي أَوَّلِ الْأَضَاحِيِّ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَهُوَ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ وَآخِرُهُ رَاءٌ وَاسْمُهُ هَانِئٌ وَاسْمُ جَدِّهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَهُوَ بَلَوِيٌّ مِنْ حُلَفَاءِ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ اسْمَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ اسْمُ خَالِي قَلِيلًا فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا، وَقَالَ: يَا كَثِيرُ إِنَّمَا نُسُكُنَا بَعْدَ صَلَاتِنَا ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الْبَابِ بِطُولِهِ، وَجَابِرٌ ضَعِيفٌ وَأَبُو بُرْدَةَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ وَعَاشَ إِلَى سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَقِيلَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَلَهُ فِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثٌ سَيَأْتِي فِي الْحُدُودِ.

قَوْلُهُ: (شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ) أَيْ لَيْسَتْ أُضْحِيَّةً بَلْ هُوَ لَحْمُ يُنْتَفَعُ بِهِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ زُبَيْدٍ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لِأَهْلِهِ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ فِرَاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: ذَاكَ شَيْءٌ عَجَّلْتُهُ لِأَهْلِكَ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَتِ الْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ شَاةُ لَحْمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِضَافَةَ قِسْمَانِ: مَعْنَوِيَّةٌ وَلَفْظِيَّةٌ، فَالْمَعْنَوِيَّةُ إِمَّا مُقَدَّرَةٌ بِمِنْ كَخَاتَمِ حَدِيدٍ أَوْ بِاللَّامِ كَغُلَامِ زَيْدٍ أَوْ بِفِي كَضَرْبِ الْيَوْمِ مَعْنَاهُ ضَرَبَ فِي الْيَوْمِ. وَأَمَّا اللَّفْظِيَّةُ فَهِيَ صِفَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى مَعْمُولِهَا كَضَارِبِ زَيْدٍ وَحَسَنِ الْوَجْهِ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ فِي شَاةِ لَحْمٍ، قَالَ الْفَاكِهِيُّ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّ شَاتَهُ شَاةُ أُضْحِيَّةٍ أَوْقَعَ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَوَابِ قَوْلَهُ شَاةُ لَحْمٍ مَوْقِعَ قَوْلِهِ شَاةُ غَيْرِ أُضْحِيَّةٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ عِنْدِي دَاجِنًا) الدَّاجِنُ الَّتِي تَأْلَفُ الْبُيُوتَ وَتُسْتَأْنَسُ وَلَيْسَ لَهَا سِنٌّ مُعَيَّنٌ، وَلَمَّا صَارَ هَذَا الِاسْمُ عَلَمًا عَلَى مَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ اضْمَحَلَّ الْوَصْفُ عَنْهُ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. وَالْجَذَعَةُ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا مِنَ الْمَعْزِ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فَإِنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: عَنَاقُ لَبَنٍ، وَالْعَنَاقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَمْ يُصِبِ الدَّاوُدِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْعَنَاقَ هِيَ الَّتِي اسْتَحَقَّتْ أَنْ تَحْمِلَ وَأَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَأَنَّهُ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ لَبَنٍ أَنَّهَا أُنْثَى، قَالَ ابْنُ التِّينِ: غَلِطَ فِي نَقْلِ اللُّغَةِ وَفِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ مَعْنَى عَنَاقُ لَبَنٍ أَنَّهَا صَغِيرَةُ سِنٍّ تُرْضِعُ أُمُّهَا. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ ذَبَحَ ذَبِيحَتَهُ بِسَحَرٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّمَا الْأُضْحِيَّةُ مَا ذُبِحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، اذْهَبْ فَضَحِّ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا جَذَعَةً مِنَ الْمَعْزِ الْحَدِيثَ.

قُلْتُ: وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ التَّعَالِيقِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَقِبَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَطْيَبُ لَحْمًا وَأَنْفَعُ لِلْآكِلِينَ لِسِمَنِهَا وَنَفَاسَتِهَا، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا بِمَا ذَكَرَ أَنَّ عِتْقَ نَفْسَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عِتْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ كَانَتْ أَنْفَس مِنْهُمَا، وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ وَالْعِتْقِ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ يُطْلَبُ فِيهَا كَثْرَةُ اللَّحْمِ فَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ السَّمِينَةُ أَوْلَى مِنَ الْهَزِيلَتَيْنِ. وَالْعِتْقُ يُطْلَبُ فِيهِ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِفَكِّ الرَّقَبَةِ فَيَكُونُ عِتْقُ الِاثْنَيْنِ أَوْلَى مِنْ عِتْقِ الْوَاحِدَةِ، نَعَمْ إِنْ عَرَضَ لِلْوَاحِدِ وَصْفٌ يَقْتَضِي رِفْعَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ -

ص: 13

كَالْعِلْمِ وَأَنْوَاعِ الْفَضْلِ الْمُتَعَدِّي - فَقَدْ جَزَمَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ بِأَنَّهُ أَوْلَى لِعُمُومِ نَفْعِهِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ وَهِيَ: خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْمُسِنَّةَ الَّتِي سَقَطَتْ أَسْنَانُهَا لِلْبَدَلِ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْمُسِنُّ الثَّنِيُّ الَّذِي يُلْقِي سِنَّهُ، وَيَكُونُ فِي ذَاتِ الْخُفِّ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، وَفِي ذَاتِ الظِّلْفِ وَالْحَافِرِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: إِذَا دَخَلَ وَلَدُ الشَّاةِ فِي الثَّالِثَةِ فَهُوَ ثَنِيٌّ وَمُسِنٌّ.

قَوْلُهُ (قَالَ اذْبَحْهَا وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِكَ) فِي رِوَايَةِ فِرَاسٍ الْآتِيَةِ فِي بَابِ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الْإِمَامِ: أَأَذْبَحُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ لَا تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَنْ تَجْزِيَ إِلَخْ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ كَمَا فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْبَابِ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ، وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَلَيْسَتْ فِيهَا رُخْصَةٌ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ، وَقَوْلُهُ تَجْزِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ أَيْ تَقْضِي، يُقَالُ جَزَا عَنِّي فُلَانٌ كَذَا أَيْ قَضَى، وَمِنْهُ:{لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أَيْ لَا تَقْضِي عَنْهَا، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ لَا تُجْزِئُ بِالضَّمِّ وَالْهَمْزِ فِي مَوْضِعِ لَا تَقْضِي وَالصَّوَابُ بِالْفَتْحِ وَتَرْكِ الْهَمْزِ، قَالَ: لَكِنْ يَجُوزُ الضَّمُّ وَالْهَمْزُ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ، يُقَالُ أَجْزَأَ عَنْكَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْأَسَاسِ: بَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ الْبَدَنَةُ تُجْزِي عَنْ سَبْعَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ تَجْزِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَبِهِمَا قُرِئَ:{لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى مَنْعِ ضَمِّ أَوَّلِهِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَخْصِيصُ أَبِي بُرْدَةَ بِإِجْزَاءِ الْجَذَعِ مِنَ الْمَعْزِ فِي الْأُضْحِيَّةِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ التَّصْرِيحُ بِنَظِيرِ ذَلِكَ لِغَيْرِ أَبِي بُرْدَةَ، فَفِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا وَلَا رُخْصَةَ فِيهَا لِأَحَدٍ بَعْدَكَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مَحْفُوظَةً كَانَ هَذَا رُخْصَةً لِعُقْبَةَ كَمَا رَخَّصَ لِأَبِي بُرْدَةَ.

قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْجَمْعِ نَظَرٌ، لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا صِيغَةَ عُمُومٍ، فَأَيُّهُمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْآخَرِ اقْتَضَى انْتِفَاءَ الْوُقُوعِ لِلثَّانِي، وَأَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ ذَلِكَ صَدَرَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ تَكُونُ خُصُوصِيَّةُ الْأَوَّلِ نُسِخَتْ بِثُبُوتِ الْخُصُوصِيَّةِ لِلثَّانِي، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي السِّيَاقِ اسْتِمْرَارُ الْمَنْعِ لِغَيْرِهِ صَرِيحًا، وَقَدِ انْفَصَلَ ابْنُ التِّينِ - وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ - عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْعَتُودُ كَانَ كَبِيرَ السِّنِّ بِحَيْثُ يَجْزِي، لَكِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي فِي آخِرِهِ لَمْ تَقَعْ لَهُ، وَلَا يَتِمُّ مُرَادُهُ مَعَ وُجُودِهَا مَعَ مُصَادَمَتِهِ لِقَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْعَتُودِ، وَتَمَسَّكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِكَلَامِ ابْنِ التِّينِ فَضَعَّفَ الزِّيَادَةَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَإِنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ مَخْرَجِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّهَا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ الْبُوشَنْجِيِّ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ فِي الْحِفْظِ وَالْفِقْهِ وَسَائِرِ فُنُونِ الْعِلْمِ، رَوَاهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ بِالسَّنَدِ الَّذِي سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ الْحَدِيثَ فِي الْمُتَّفَقِ لِلْجَوْزَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِلْحَانَ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ وَلَيْسَتِ الزِّيَادَةُ فِيهِ، فَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قَوْلِ الْبَيْهَقِيِّ إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً، فَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى التَّفَرُّدَ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ عَلَى رَاوِيهَا حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّ الَّذِينَ ثَبَتَتْ لَهُمُ الرُّخْصَةُ أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ، وَاسْتَشْكَلَ الْجَمْعُ وَلَيْسَ بِمُشْكِلٍ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ

الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذ لِكَ لَيْسَ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالنَّفْيِ إِلَّا فِي قِصَّةِ أَبِي بُرْدَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي قِصَّةِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِي الْبَيْهَقِيِّ، وَأَمَّا ما عَدَا ذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ عَتُودًا جَذَعًا فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ جَذَعٌ أَفَأُضَحِّي بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ضَحِّ بِهِ، فَضَحَّيْتُ بِهِ، لَفْظُ أَحْمَدَ، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عُوَيْمِرِ بْنِ أَشْقَرَ أَنَّهُ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعِيدَ أُضْحِيَّةً أُخْرَى، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ جَذَعًا مِنَ الْمَعْزِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ

ص: 14

مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَلِأَبِي يَعْلَى، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا جَذَعٌ مِنَ الضَّأْنِ مَهْزُولٌ، وَهَذَا جَذَعٌ مِنَ الْمَعْزِ سَمِينٌ وَهُوَ خَيْرُهُمَا أَفَأُضَحِّي بِهِ؟ قَالَ: ضَحِّ بِهِ فَإِنَّ لِلَّهِ الْخَيْرَ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثَيْ أَبِي بُرْدَةَ، وَعُقْبَةَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ ثُمَّ تقَرَّرَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الْمَعْزِ لَا يَجْزِي، وَاخْتُصَّ أَبُو بُرْدَةَ، وَعُقْبَةُ بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ زَعَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ شَارَكُوا عُقْبَةَ، وَأَبَا بُرْدَةَ فِي ذَلِكَ، وَالْمُشَارَكَةُ إِنَّمَا

وَقَعَتْ فِي مُطْلَقِ الْإِجْزَاءِ لَا فِي خُصُوصِ مَنْعِ الْغَيْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ فِيهِمْ عُوَيْمِرَ بْنَ أَشْقَرَ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ إِلَّا مُطْلَقُ الْإِعَادَةِ لِكَوْنِهِ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: اذْبَحْهَا وَلَنْ تَجْزِيَ جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ فَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَإِنَّهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّ رَجُلًا ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَجْزِي عَنْكَ، قَالَ: إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً، فَقَالَ: تَجْزِي عَنْكَ وَلَا تَجْزِي بَعْدُ، فَلَمْ يَثْبُتِ الْإِجْزَاءُ لِأَحَدٍ وَنَفْيُهُ عَنِ الْغَيْرِ إِلَّا لِأَبِي بُرْدَةَ، وَعُقْبَةَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ الَّذِي قَدَّمْتُهُ فَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ أَصَحُّ مَخْرَجًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْفَاكِهِيُّ: يَنْبَغِي النَّظَرُ فِي اخْتِصَاصِ أَبِي بُرْدَةَ بِهَذَا الْحُكْمِ وَكَشْفِ السِّرِّ فِيهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ قَالَ: إِنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فَاسْتُثْنِيَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ عُلِمَ مِنْ طَاعَتِهِ وَخُلُوصِ نِيَّتِهِ مَا مَيَّزَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ. قُلْتُ: وَفِي الْأَوَّلِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَابِقًا لَامْتَنَعَ وُقُوعُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ لِغَيْرِهِ، وَالْفَرْضُ ثُبُوتُ الْإِجْزَاءِ لِعَدَدٍ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الْمَعْزِ لَا يَجْزِي وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَصَاحِبِهِ الْأَوْزَاعِيِّ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ شَاذٌّ أَوْ غَلَطٌ، وَأَغْرَبَ عِيَاضٌ فَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ، قِيلَ وَالْإِجْزَاءُ مُصَادِرٌ لِلنَّصِّ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُهُ قَيَّدَ ذَلِكَ بِمَنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، وَيَكُونُ مَعْنَى نَفْيِ الْإِجْزَاءِ عَنْ غَيْرِ مَنْ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ وَجَدَ، وَأَمَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ، لَكِنْ حَكَى غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيِّ أَنَّ الْجَذَعَ لَا يَجْزِي مُطْلَقًا سَوَاءً كَانَ مِنَ الضَّأْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْأَشْرَافِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَعَزَاهُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَأَطْنَبَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَيْضًا مُقَيَّدًا بِمَنْ لَمْ يَجِدْ، وَقَدْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رَفَعَهُ: لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ.

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ لَكِنْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُمْ حَمَلُوهُ عَلَى الْأَفْضَلِ، وَالتَّقْدِيرُ يُسْتَحَبُّ لَكُمْ أَنْ لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، فَإِنْ عَجَزْتُمْ فَاذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَنْعِ الْجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ وَأَنَّهَا لَا تَجْزِي، قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ الْجُمْهُورَ يُجَوِّزُونَ الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَعَدَمِهِ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيُّ يَمْنَعَانِهِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَعَدَمِهِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ. قُلْتُ: وَيَدُلُّ لِلْجُمْهُورِ الْأَحَادِيثُ الْمَاضِيَةُ قَرِيبًا، وَكَذَا حَدِيثُ أُمِّ هِلَالِ بِنْتِ هِلَالٍ عَنْ أَبِيهَا رَفَعَهُ: يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ أُضْحِيَّةً، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَحَدِيثُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ يُقَالُ لَهُ مُجَاشِعٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْجَذَعَ يُوَفِّي مَا يُوَفِّي مِنْهُ الثَّنِيُّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ الصَّحَابِيَّ، بَلْ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَحَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجَذَعٍ مِنَ الضَّأْنِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَحَدِيثُ

ص: 15

أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: نِعْمَتِ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.

وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِإِجْزَاءِ الْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - فِي سِنِّهِ عَلَى آرَاءٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَا أَكْمَلَ سَنَةً وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، ثَانِيهَا نِصْفَ سَنَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، ثَالِثُهَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ، رَابِعُهَا سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ وَكِيعٍ، خَامِسُهَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ شَابَّيْنِ فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ سَنَةٍ أَوْ بَيْنَ هَرَمَيْنِ فَيَكُونُ ابْنَ ثَمَانِيَةٍ، سَادِسُهَا ابْنُ عَشْرٍ، سَابِعُهَا لَا يَجْزِي حَتَّى يَكُونَ عَظِيمًا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ إِنَّهُ إِذَا كَانَتْ عَظِيمَةً بِحَيْثُ لَوِ اخْتَلَطَتْ بِالثَّنِيَّاتِ اشْتَبَهَتْ عَلَى النَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ أَجْزَأَتْ، وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَجْذَعَ قَبْلَ السَّنَةِ أَيْ سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ أَجْزَأَ كَمَا لَوْ تَمَّتِ السَّنَةُ قَبْلَ أَنْ يُجْذِعَ وَيَكُونَ ذَلِكَ كَالْبُلُوغِ إِمَّا بِالسِّنِّ وَإِمَّا بِالِاحْتِلَامِ، وَهَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْجَذَعُ مَا اسْتَكْمَلَ السَّنَةَ أَوْ أَجْذَعَ قَبْلَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ) أَيْ صَلَاةِ الْعِيدِ (فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ) أَيْ وَلَيْسَ أُضْحِيَّةً (وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ) أَيْ عِبَادَتُهُ (وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ طَرِيقَتَهُمْ. هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَقَعَ بَعْدَ قِصَّةِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، وَالَّذِي فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ زُبَيْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَعَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَأَنَّ خِطَابَ أَبِي بُرْدَةَ بِمَا وَقَعَ لَهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا نُسُكَ لَهُ؟ فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْحُكْمِ فِي هَذَا قَرِيبًا فِي بَابِ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَعَادَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى مَنِ التَزَمَ الْأُضْحِيَّةَ فَأَفْسَدَ مَا يُضَحِّي بِهِ، وَرَدَّهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَعَرَّضَ إِلَى قِيمَةِ الْأُولَى لِيُلْزَمَ بِمِثْلِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعَادَةِ كَانَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا يَجْزِي فِي الْأُضْحِيَّةِ، لَا عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْأَحْكَامِ إِنَّمَا هُوَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ قَدْ يَخُصُّ بَعْضَ أُمَّتِهِ بِحُكْمٍ وَيَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَأَنَّ خِطَابَهُ لِلْوَاحِدِ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ حَتَّى يَظْهَرَ دَلِيلُ الْخُصُوصِيَّةِ، لِأَنَّ السِّيَاقَ يُشْعِرُ بِأَنَّ قَوْلَهُ لِأَبِي بُرْدَةَ ضَحِّ بِهِ أَيْ بِالْجَذَعِ، وَلَوْ كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ تَخْصِيصُهُ بِذَلِكَ لَمَا احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَقُولَ لَهُ: وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَةُ ذَلِكَ قَطْعَ إِلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لَا أَنَّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَهُوَ قَوِيٌّ.

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: اذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَفِي لَفْظٍ: أَعِدْ نُسُكًا، وَفِي لَفْظٍ: ضَحِّ بِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهَا أَوْ مَنْ أَوْقَعَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ خَطَأً أَوْ جَهْلًا، فَبَيَّنَ لَهُ وَجْهَ تَدَارُكِ مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ أَيْ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ الْقُرْبَةِ وَلَا الثَّوَابُ، كَمَا يُقَالُ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ: لَا تَجْزِي إِلَّا بِطَهَارَةٍ وَسِتْرِ عَوْرَةٍ، قَالَ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِلْوُجُوبِ بِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِهِ، وَيَلْزَمُهُمُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَاجِبَةً وَلَا سَبِيلَ إِلَى

ص: 16

عِلْمِ ذَلِكَ، وَلَا دَلَالَةَ فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ لِلْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ يُعَلِّمُ النَّاسَ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ أَحْكَامَ النَّحْرِ.

وَفِيهِ جَوَازُ الِاكْتِفَاءِ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ عَنِ الرَّجُلِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَبْلُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ: يُكْرَهُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحَّى بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عَنِ اثْنَيْنِ، وَادَّعَى نَسْخَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْآتِي فِي بَابِ مَنْ ذَبَحَ ضَحِيَّةَ غَيْرِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: وَفِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ وَإِنْ وَافَقَ نِيَّةً حَسَنَةً لَمْ يَصِحَّ إِلَّا إِذَا وَقَعَ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ. وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ اللَّحْمِ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْ غَيْرِ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ لِقَوْلِهِ: إِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ. وَفِيهِ كَرَمُ الرَّبِّ سبحانه وتعالى لِكَوْنِهِ شَرَعَ لِعَبِيدِهِ الْأُضْحِيَّةَ مَعَ مَا لَهُمْ فِيهَا مِنَ الشَّهْوَةِ بِالْأَكْلِ وَالِادِّخَارِ وَمَعَ ذَلِكَ فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْأَجْرَ فِي الذَّبْحِ، ثُمَّ مَنْ تَصَدَّقَ أُثِيبَ وَإِلَّا لَمْ يَأْثَمْ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عُبَيْدَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَتَابَعَهُ وَكِيعٌ، عَنْ حُرَيْثٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ) قُلْتُ: أَمَّا عُبَيْدَةُ فَهُوَ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ وَهُوَ ابْنُ مُعَتِّبٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِهَا بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ الضَّبِّيُّ، وَرِوَايَتُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ يَعْنِي عَنِ الْبَرَاءِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَإِبْرَاهِيمُ فَيَعْنِي النَّخَعِيَّ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ مُنْقَطِعٌ، وَلَيْسَ لِعُبَيْدَةَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ حُرَيْثٍ وَهُوَ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي مَطَرٍ وَاسْمُهُ عَمْرٌو الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ وَمَا لَهُ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ حُرَيْثٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ خَالَهُ سَأَلَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: عِنْدِي جَذَعَةٌ مِنَ الْمَعْزِ أَوْفَى مِنْهَا، وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْإِفْرَادِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مُوسَى تَفَرَّدَ بِهَذَا عَنْ حُرَيْثٍ وَسَاقَهُ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: قَالَ: فَعِنْدِي جَذَعَةُ مَعْزٍ سَمِينَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَاصِمٌ، وَدَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ) أَمَّا عَاصِمٌ فَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بِلَفْظِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ نَحْرٍ فَقَالَ: لَا يُضَحِّيَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يُصَلِّيَ. فَقَالَ رَجُلٌ: عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ - وَقَالَ فِي آخِرِهِ - وَلَا تَجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. وَأَمَّا دَاوُدُ فَهُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ فَوَصَلَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ عَنْهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بِلَفْظِ: إِنَّ خَالَهُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارٍ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ وَفِيهِ: لِأُطْعِمُ أَهْلِي وَجِيرَانِي وَأَهْلَ دَارِي، فَقَالَ: أَعِدْ نُسُكًا. فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي عَنَاقَ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، قَالَ: هِيَ

خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ، وَلَا تَجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ زُبَيْدٌ، وَفِرَاسٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: عِنْدِي جَذَعَةٌ) أَمَّا رِوَايَةُ زُبَيْدٍ وَهُوَ بِالزَّايِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّر فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَوَّلِ الْأَضَاحِيِّ كَذَلِكَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ فِرَاسٍ وَهُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ ابْنِ يَحْيَى فَوَصَلَهَا أَيْضًا الْمُؤَلِّفُ فِي بَابِ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَعَادَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنَاقُ جَذَعَةٍ) هُوَ بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا، وَرِوَايَةُ مَنْصُورٍ هَذِهِ وَهُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ مِنَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ عَنْهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ فِي الْعِيدَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ (عَنَاقُ جَذَعٍ، عَنَاقُ لَبَنٍ) يَعْنِي أَنَّ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بِاللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا لَفْظَ عَاصِمٍ وَمَنْ تَابَعَهُ وَلَفْظَ مَنْصُورٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَقَدْ وَصَلَ الْمُؤَلِّفُ رِوَايَةَ ابْنِ عَوْنٍ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ.

وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: عَنَاقٌ جَذَعَةٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَلَمَةَ) هُوَ ابْنُ كُهَيْلٍ وَصَرَّحَ أَحْمَدُ بِهِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَبُو جُحَيْفَةَ هُوَ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ.

قَوْلُهُ: (ذَبَحَ أَبُو بُرْدَةَ) هُوَ ابْنُ نِيَارٍ الْمَاضِي ذِكْرُهُ.

قَوْلُهُ: (أَبْدَلَهَا) بِمُوَحَّدَةٍ وَفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: اذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ شُعْبَةُ وَأَحْسَبُهُ قَالَ هِيَ

ص: 17

خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ وَلَمْ يَشُكَّ.

قَوْلُهُ: (اجْعَلْهَا مَكَانَهَا) أَيِ اذْبَحْهَا. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْأَمْرِ مَنِ ادَّعَى وُجُوبَ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ وَلَوْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ إِلَّا أَنَّ قَرِينَةَ إِفْسَادِ الْأُولَى تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ لِلْوُجُوبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا تَقَعُ أُضْحِيَّةً، فَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ لِيَكُونَ فِي عِدَادِ مَنْ ضَحَّى، فَلَمَّا احْتَمَلَ ذَلِكَ وَجَدْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَرْفُوعِ: إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ فَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، قَالَ: فَلَوْ كَانَتِ الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةً لَمْ يَكِلْ ذَلِكَ إِلَى الْإِرَادَةِ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ بِأَنَّ التَّعْلِيقَ عَلَى الْإِرَادَةِ لَا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ، فَهُوَ كَمَا قِيلَ: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُكْثِرْ مِنَ الزَّادِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ بِالْإِعَادَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ احْتِمَالِ إِرَادَةِ الْكَمَالِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ إِلَخْ) تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَنْ وَصَلَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ، لَكِنَّهُ قَالَ: بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا يَعْنِي رِوَايَةَ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ وَرِوَايَةَ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.

‌9 - بَاب مَنْ ذَبَحَ الْأَضَاحِيَّ بِيَدِهِ

5558 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ ذَبَحَ الْأَضَاحِيَّ بِيَدِهِ) أَيْ وَهَلْ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ أَوْ هُوَ الْأَوْلَى، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِيهَا لِلْقَادِرِ، لَكِنْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَةٌ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَعِنْدَ أَكْثَرِهِمْ يُكْرَهُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْهَدَهَا، وَيُكْرَهُ أَنْ تَسْتَنِيبَ حَائِضًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ كِتَابِيًّا، وَأَوَّلُهُمْ أَوْلَى ثُمَّ مَا يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (ضَحَّى) كَذَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا عَنْ قَتَادَةَ، وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْآتِيَةِ قَرِيبًا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ كَانَ يُضَحِّي وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ أَقْرَنَيْنِ وَسَيَأْتِيَانِ قَرِيبًا، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ قَبْلَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا) أَيْ عَلَى صِفَاحِ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ ذَبْحِهِ، وَالصِّفَاحُ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةُ الْجَوَانِبِ، وَالْمُرَادُ الْجَانِبُ الْوَاحِدُ مِنْ وَجْهِ الْأُضْحِيَّةِ، وَإِنَّمَا ثَنَّى إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فِعْلَ ذلك فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْجَمْعِ إِلَى الْمُثَنَّى بِإِرَادَةِ التَّوْزِيعِ.

قَوْلُهُ: (يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ عِنْدَ الذَّبْحِ. وَفِي الْحَدِيثِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مَشْرُوعِيَّةُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الذَّبَائِحِ بَيَانُ مَنِ اشْتَرَطَهَا فِي صِفَةِ الذَّبْحِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّكْبِيرِ مَعَ التَّسْمِيَةِ وَاسْتِحْبَابُ وَضْعِ الرِّجْلِ عَلَى صَفْحَةِ عُنُقِ الْأُضْحِيَّةِ الْأَيْمَنِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إِضْجَاعَهَا يَكُونُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ لِيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَى الذَّابِحِ فِي أَخْذِ السِّكِّينِ بِالْيَمِينِ وَإِمْسَاكِ رَأْسِهَا بِيَدِهِ الْيَسَارِ.

ص: 18

‌10 - بَاب مَنْ ذَبَحَ ضَحِيَّةَ غَيْرِهِ، وَأَعَانَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فِي بَدَنَتِهِ وَأَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتِهِ أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ

5559 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَرِفَ وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: مَا لَكِ؟ أَنَفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، اقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ، وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ ذَبَحَ ضَحِيَّةَ غَيْرِهِ) أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانَ أَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَيْسَتْ لِلِاشْتِرَاطِ.

قَوْلُهُ: (وَأَعَانَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فِي بَدَنَتِهِ) أَيْ عِنْدَ ذَبْحِهَا، وَهَذَا وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَنْحَرُ بَدَنَةً بِمِنًى وَهِيَ بَارِكَةٌ مَعْقُولَةٌ، وَرَجُلٌ يُمْسِكُ بِحَبْلٍ فِي رَأْسِهَا وَابْنُ عُمَرَ يَطْعَنُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: هَذَا الْأَثَرُ لَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ إِذَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً التَحَقَتْ بِهَا الِاسْتِنَابَةُ، وَجَاءَ فِي نَحْوِ قِصَّةِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَضْجَعَ أُضْحِيَتَهُ فَقَالَ: أَعِنِّي عَلَى أُضْحِيَتِي فَأَعَانَهُ. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتَهُ أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ) وَصَلَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي خَبَرَيْنِ كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ يَأْمُرُ بَنَاتَهُ أَنْ يَذْبَحْنَ نَسَائِكَهُنَّ بِأَيْدِيهِنَّ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِيهِ جَوَازُ ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ، وَنَقَلَ مُحَمَّدٌ، عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتَهُ. قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ فِي الذَّبَائِحِ مُبَيَّنًا. وَهَذَا الْأَثَرُ مُبَايِنٌ لِلتَّرْجَمَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَوْ أَرَادَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُضَحِّي، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ الْأَوْلَى لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُوَكِّلَ فِي ذَبْحِ أُضْحِيَّتِهَا وَلَا تُبَاشِرُ الذَّبْحَ بِنَفْسِهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَمَّا حَاضَتْ بِسَرِفَ وَفِيهِ: هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ - وَفِي آخِرِهِ - وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: نَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بَقَرَةً فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.

‌11 - بَاب الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّلَاةِ

5560 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي زُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ، فَقَالَ: اجْعَلْهَا مَكَانَهَا وَلَنْ تَجْزِيَ - أَوْ تُوفِيَ - عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّلَاةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ فِي قِصَّةِ أَبِي بُرْدَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا، وَسَأَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي الَّتِي بَعْدَهَا.

وقَوْلُهُ فِيهِ: وَلَنْ تَجْزِيَ أَوْ تُوُفِّيَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَمَعْنَى تُوُفِّيَ أَيْ تُكْمِلَ الثَّوَابَ

ص: 19

وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ وَلَنْ تَفِيَ بِغَيْرِ وَاوٍ وَلَا شَكَّ، يُقَالُ وَفَّى إِذَا أَنْجَزَ فَهُوَ بِمَعْنَى تَجْزِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ.

‌12 - بَاب مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَعَادَ

5561 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ، فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ - وَذَكَرَ هَنَةً مِنْ جِيرَانِهِ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَذَرَهُ - وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ، فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا أَدْرِي بَلَغَتْ الرُّخْصَةُ أَمْ لَا؟ ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ - يَعْنِي فَذَبَحَهُمَا - ثُمَّ انْكَفَأَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَذَبَحُوهَا.

5562 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ سُفْيَانَ الْبَجَلِيَّ قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ.

5563 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، فَلَا يَذْبَحْ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَلْتُ. فَقَالَ: هُوَ شَيْءٌ عَجَّلْتَهُ، قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ آذْبَحُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ لَا تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ، قَالَ عَامِرٌ: هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَعَادَ) أَيْ أَعَادَ الذَّبْحَ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ فِيهِ: (وَذَكَرَ هَنَةً) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالنُّونِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا هَاءُ تَأْنِيثٍ أَيْ حَاجَةً مِنْ جِيرَانِهِ إِلَى اللَّحْمِ.

قَوْلُهُ: (فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَذَرَهُ) بِتَخْفِيفِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْعُذْرِ أَيْ قَبِلَ عُذْرَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَجْعَلْ مَا فَعَلَهُ كَافِيًا وَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَاتِ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْأَمْرِ لَمْ يُعْذَرْ فِيهَا بِالْجَهْلُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ إِقَامَةُ مَصَالِحِهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْفِعْلِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ الْكَفُّ عَنْهَا بِسَبَبِ مَفَاسِدِهَا، وَمَعَ الْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ لَمْ يَقْصِدِ الْمُكَلَّفُ فِعْلَهَا فَيُعْذَرُ.

قَوْلُهُ: (وَعِنْدِي جَذَعَةٌ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَلَامِ الرَّجُلِ الَّذِي كَنَّى عَنْهُ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ: وَذَكَرَ هَنَةً مِنْ جِيرَانِهِ تَقْدِيرُهُ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ وَلِجِيرَانِي حَاجَةٌ فَذَبَحْتُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَعِنْدِي جَذَعَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.

الثَّانِي حَدِيثُ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَتَقَدَّمَ فِي الذَّبَائِحِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ أَتَمُّ مِنْهُ وَأَوَّلُهُ: ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَضْحَاةً، فَإِذَا نَاسٌ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلَاةِ. الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ: وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ أَيْ فَلْيَذْبَحْ قَائِلًا بِسْمِ اللَّهِ أَوْ مُسَمِّيًا، وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَذْبَحْ وَهَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَقَالَ عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَلْيَذْبَحْ

ص: 20

لِلَّهِ، وَالْبَاءُ تَجِيءُ بِمَعْنَى اللَّامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُتَبَرِّكًا بِاسْمِهِ كَمَا يُقَالُ سِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَلْيَذْبَحْ بِسُنَّةِ اللَّهِ. قَالَ: وَأَمَّا كَرَاهَةُ بَعْضِهِمُ افْعَلْ كَذَا عَلَى اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ اسْمُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَضَعِيفٌ.

قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا خَامِسًا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ مُطْلَقُ الْإِذْنِ فِي الذَّبِيحَةِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْإِذْنَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ لِلْمُسْتَأْذِنِ بِسْمِ اللَّهِ أَيِ ادْخُلْ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: صِيغَةُ مَنْ فِي قَوْلِهِ مَنْ ذَبَحَ صِيغَةُ عُمُومٍ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، وَقَدْ جَاءَتْ لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةٍ، وَتَنْزِيلِ صِيغَةِ الْعُمُومِ إِذَا وَرَدَتْ لِذَلِكَ عَلَى الصُّورَةِ النَّادِرَةِ يُسْتَنْكَرُ، فَإِذَا بَعُدَ تَخْصِيصُهُ بِمَنْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً مُعَيَّنَةً بَقِيَ التَّرَدُّدُ هَلِ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى مَنْ سَبَقَتْ لَهُ أُضْحِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ أَوْ حَمْلُهُ عَلَى ابْتِدَاءِ أُضْحِيَّةٍ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَعْيِينٍ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ حُجَّةً لِمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ عَلَى مَنِ اشْتَرَى الْأُضْحِيَّةَ كَالْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّ الْأُضْحِيَّةَ عِنْدَهُمْ تَجِبُ بِالْتِزَامِ اللِّسَانِ وَبِنِيَّةِ الشِّرَاءِ وَبِنِيَّةِ الذَّبْحِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ لَا حُجَّةَ لِمَنْ أَوْجَبَ الضَّحِيَّةَ مُطْلَقًا، لَكِنْ حَصَلَ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ لَمْ يَقُلْ بِالْوُجُوبِ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ لِلنَّدَبِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنِ اشْتَرَطَ تَقَدُّمَ الذَّبْحِ مِنَ الْإِمَامِ بَعْدَ صَلَاتِهِ وَخُطْبَتِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، إِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ وَخُطْبَتِهِ وَذَبْحِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ فِعْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلْيُعِدْ، أَيْ فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا ذَبَحَهُ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِمُخَالَفَتِهِ التَّقْيِيدَ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالتَّعْقِيبِ بِالْفَاءِ.

الْحَدِيثُ الثالث حَدِيثُ الْبَرَاءِ، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ فِرَاسِ بْنِ يَحْيَى عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا) الْمُرَادُ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَذْبَحْ) أَيِ الْأُضْحِيَّةَ (حَتَّى يَنْصَرِفَ) تَمَسَّكَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْأُضْحِيَّة قَدْرُ فَرَاغِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، وَإِنَّمَا شَرَطُوا فَرَاغَ الْخَطِيبِ لِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ مَقْصُودَتَانِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ، فَيُعْتَبَرُ مِقْدَارُ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ عَلَى أَخَفِّ مَا يَجْزِي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِذَا ذَبَحَ بَعْدَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ الذَّبْحُ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ، سَوَاءٌ صَلَّى الْعِيدَ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ ذَبَحَ الْإِمَامُ أُضْحِيَّتَهُ أَمْ لَا، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْمِصْرِ وَالْحَاضِرِ وَالْبَادِ وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ: لَا تَجُوزُ أُضْحِيَّةٌ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ الْإِمَامُ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ لَا الشَّافِعِيِّ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى تَعْلِيقِ الذَّبْحِ بِالصَّلَاةِ، لَكِنْ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَنْ لَا صَلَاةَ عِيدٍ عَلَيْهِ مُخَاطَبٌ بِالتَّضْحِيَةِ حَمَلَ الصَّلَاةَ عَلَى وَقْتِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاللَّيْثُ: لَا ذَبْحَ قَبْلِ الصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ بَعْدَهَا وَلَوْ لَمْ يَذْبَحِ الْإِمَامُ، وَهُوَ خَاصٌ بِأَهْلِ الْمِصْرِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى وَالْبَوَادِي فَيَدْخُلُ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ فِي حَقِّهِمْ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي. وَقَالَ مَالِكٌ: يَذْبَحُونَ إِذَا نَحَرَ أَقْرَبُ أَئِمَّةِ الْقُرَى إِلَيْهِمْ، فَإِنْ نَحَرُوا قَبْلُ أَجْزَأَهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَرَبِيعَةُ: يَذْبَحُ أَهْلُ الْقُرَى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ جَازَتِ الْأُضْحِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ قَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلِ وَإِنْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ: يَجُوزُ بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَبْلَ خُطْبَتِهِ وَفِي أَثْنَائِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: حَتَّى يَنْصَرِفَ أَيْ مِنَ الصَّلَاةِ، كَمَا فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخَرِ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ إِنَّمَا الذَّبْحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جُنْدَبٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا اللَّفْظُ أَظْهَرُ فِي اعْتِبَارِ فِعْلِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، أَيْ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، قَالَ: لَكِنْ إِنْ أَجْرَيْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ اقْتَضَى أَنْ لَا تُجْزِئَ الْأُضْحِيَّةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الْعِيدَ، فَإِنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَحَدٌ فَهُوَ أَسْعَدُ

ص: 21

النَّاسِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِلَّا وَجَبَ الْخُرُوجُ عَنِ هذا الظَّاهِرِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَيَبْقَى مَا عَدَاهَا فِي مَحَلِّ الْبَحْثِ.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ نُصَلِّيَ بِالشَّكِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأُولَى بِالْيَاءِ وَالثَّانِيَةِ بِالنُّونِ، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ يُصَلِّي سَاوَى لَفْظَ حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ جُنْدَبٍ فِي الذَّبَائِحِ بِمِثْلِ لَفْظِ الْبَرَاءِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يُوهِمُهُ سِيَاقُ صَاحِبِ الْعُمْدَةِ، فَإِنَّهُ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي اعْتِبَارِ فِعْلِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَإِرَادَةَ وَقْتِهَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَأَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ نُصَلِّيَ بِالنُّونِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ نَنْصَرِفَ سَوَاءٌ قُلْنَا مِنَ الصَّلَاةِ أَمْ مِنَ الْخُطْبَةِ. وَادَّعَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى أَيْ بَعْدَ أَنْ يَتَوَجَّهَ مِنْ مَكَانِ هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ مَنْ حَضَرَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ فِعْلِ هَذَا مِنَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى، أَيْ لَا يَعْتَدَّ بِمَا ذَبَحَهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَأَوْرَدَ الطَّحَاوِيُّ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمَدِينَةِ، فَتَقَدَّمَ رِجَالٌ فَنَحَرُوا وَظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَحَرَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا.

قَالَ: وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: أَنَّ رَجُلًا ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَى أَنْ يَذْبَحَ أَحَدٌ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَصْنَعُ أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ، فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الذَّبْحِ يَدْخُلُ بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّأْخِيرُ إِلَى نَحْرِ الْإِمَامِ. وَيُؤَيِّدُ - مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ - أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ لَمْ يَنْحَرْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْقِطًا عَنِ النَّاسِ مَشْرُوعِيَّةَ النَّحْرِ، وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ لَمْ يُجْزِئْهُ نَحْرُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ وَالنَّاسُ فِي وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ سَوَاءٌ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا كُرِهَ الذَّبْحُ قَبْلَ الْإِمَامِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ النَّاسُ بِالذَّبْحِ عَنِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلْتُ) أَيْ ذَبَحْتُ قَبْلَ الصَّلَاةِ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: نَسَكْتُ عَنِ ابْنٍ لِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ.

قَوْلُهُ: (هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ) كَذَا وَقَعَ هُنَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَهِيَ مُبَالَغَةٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: مِنْ مُسِنَّةٍ بِالْإِفْرَادِ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَامِرٌ هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْهِ) كَذَا فِيهِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَفِيهِ ضَمُّ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ النَّسِيكَةَ، هِيَ الَّتِي أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَهِيَ الثَّانِيَةُ، وَالْأُولَى لَمْ تُجْزِ عَنْهُ، لَكِنْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا نَسِيكَةً لِأَنَّهُ نَحَرَهَا عَلَى أَنَّهَا نَسِيكَةٌ أَوْ نَحَرَهَا فِي وَقْتِ النَّسِيكَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خَيْرَهُمَا لِأَنَّهَا أَجْزَأَتْ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ بِخِلَافِ الْأُولَى، وَفِي الْأُولَى خَيْرٌ فِي الْجُمْلَةِ بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ الْجَمِيلِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: قَالَ ضَحِّ بِهَا فَإِنَّهَا خَيْرُ نَسِيكَةٍ وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ يَعْنِي ابْنَ الْقَصَّارِ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِتَسْمِيَتِهَا نَسِيكَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَوْ ذُبِحَتْ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَخْفَى وَجْهُ الضَّعْفِ عَلَيْهِ.

‌13 - بَاب وَضْعِ الْقَدَمِ عَلَى صَفْحِ الذَّبِيحَةِ

5564 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، وَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَتِهِمَا وَيَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ وَضْعِ الْقَدَمِ عَلَى صَفْحِ الذَّبِيحَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ: وَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَتِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ قَرِيبًا.

ص: 22

‌14 - بَاب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ

5565 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا.

‌15 - بَاب إِذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ لِيُذْبَحَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ

5566 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَجُلًا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَجْلِسُ فِي الْمِصْرِ فَيُوصِي أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنَتُهُ، فَلَا يَزَالُ مِنْ ذَلِكِ الْيَوْمِ مُحْرِمًا حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ. قَالَ: فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا حَلَّ لِلرِّجَالِ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ لِيُذْبَحَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ. وأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ شَيْخُهُ هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: إِنَّ رَجُلًا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ هُوَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ أَيْ ضَرَبَتْ إِحْدَى يَدَيْهَا عَلَى الْأُخْرَى تَعَجُّبًا أَوْ تَأَسُّفًا عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ. وَاسْتَدَلَّ الدَّاوُدِيُّ بِقَوْلِهَا هَدْيُهُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَتْهُ مَيْمُونَةُ مَرْفُوعًا: إِذَا دَخَلَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ يَكُونُ مَنْسُوخًا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَوْ نَاسِخًا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ عَائِشَةَ إِنَّمَا أَنْكَرَتْ أَنْ يَصِيرَ مَنْ يَبْعَثُ هَدْيَهُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ بَعْثِهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ عَلَى مَا يُسْتَحَبُّ فِي الْعَشْرِ خَاصَّةً مِنَ اجْتِنَابِ إِزَالَةِ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ. ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ عُمُومُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ الدَّاوُدِيُّ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

قُلْتُ: هُوَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ لَا مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، فَوَهِمَ الدَّاوُدِيُّ فِي النَّقْلِ وَفِي الِاحْتِجَاجِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ عَلَى الْمُضَحِّي أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌16 - بَاب مَا يُؤْكَلُ مِنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا

5567 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ غَيْرَ مَرَّةٍ: لُحُومَ الهدي.

5568 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ ابْنَ خَبَّابٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ

ص: 23

سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَ غَائِباً فَقَدِمَ فَقُدِّمَ إِلَيْهِ لَحْمٌ قَالُوا هَذَا مِنْ لَحْمِ ضَحَايَانَا فَقَالَ أَخِّرُوهُ لَا أَذُوقُهُ قَالَ ثُمَّ قُمْتُ فَخَرَجْتُ حَتَّى آتِيَ أَخِي أَبَا قَتَادَةَ وَكَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ وَكَانَ بَدْرِيّاً فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ بَعْدَكَ أَمْرٌ".

5569 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَبَقِيَ فِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ الْمَاضِي قَالَ: كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا".

5570 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "الضَّحِيَّةُ كُنَّا نُمَلِّحُ مِنْهُ فَنَقْدَمُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا إِلاَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

5571 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ "أَنَّهُ شَهِدَ الْعِيدَ يَوْمَ الأَضْحَى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَاكُمْ عَنْ صِيَامِ هَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيَوْمٌ تَأْكُلُونَ مِنْ نُسُكِكُمْ".

5572 -

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: "ثُمَّ شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ قَدْ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِيهِ عِيدَانِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي فَلْيَنْتَظِرْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ".

5573 -

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: "ثُمَّ شَهِدْتُهُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لُحُومَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلَاثٍ".

وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ نَحْوَهُ

5574 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا مِنْ الأَضَاحِيِّ ثَلَاثاً وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَأْكُلُ بِالزَّيْتِ حِينَ يَنْفِرُ مِنْ مِنًى مِنْ أَجْلِ لُحُومِ الْهَدْيِ".

ص: 24

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُؤْكَلُ مِنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ) أَيْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِثُلُثٍ وَلَا نِصْفٍ (وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا) أَيْ لِلسَّفَرِ وَفِي الْحَضَرِ. وَبَيَانُ التَّقْيِيدِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِمَّا مَنْسُوخٌ وَإِمَّا خَاصٌّ بِسَبَبٍ. فِيهِ أَحَادِيثُ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الْمَدِينَةِ فِي بَابِ مَا كَانَ السَّلَفُ يَدَّخِرُونَ مِنْ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُ مَرَّةٍ لُحُومُ الْهَدْيِ) فَاعِلٌ قَالَ هُوَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَقَائِلُ ذَلِكَ الرَّاوِي عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ بَيَّنَ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ تَارَةً يَقُولُ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ وَمِرَارًا يَقُولُ لُحُومُ الْهَدْيِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا وَقَالَ غَيْرُهُ وَهُوَ تَصْحِيفٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ سُفْيَانَ لُحُومُ الْهَدْيِ.

الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَالْقَاسِمُ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُ خَبَّابٍ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى ثَقِيلَةٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقِ: ويَحْيَى، وَالْقَاسِمِ وَشَيْخِهِ، وَفِيهِ صَحَابِيَّانِ: أَبُو سَعِيدٍ، وَقَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.

قَوْلُهُ: (فَقَدِمَ) أَيْ مِنَ السَّفَرِ (فَقُدِّمَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَخِّرُوهُ) فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ التَّأْخِيرِ (لَا أَذُوقُهُ) أَيْ لَا آكُلُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ثُمَّ قُمْتُ فَخَرَجْتُ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: إنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ لَحْمًا مِنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِآكِلِهِ حَتَّى أَسْأَلَ.

قَوْلُهُ: (فَخَرَجْتُ حَتَّى آتِي أَخِي أَبَا قَتَادَةَ، وَكَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَوَافَقَهُ الْأَصِيلِيُّ، وَالْقَابِسِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: حَتَّى آتِي أَخِي قَتَادَةَ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ: فَانْطَلَقَ إِلَى أَخِيهِ لِأُمِّهِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي كُلِّ النُّسَخِ أَبَا قَتَادَةَ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ فِي تَقْيِيدِهِ وَتَبِعَهُ عِيَاضٌ وَآخَرُونَ، وَأُمُّ أَبِي سَعِيدٍ وَقَتَادَةُ الْمَذْكُورَةُ أُنَيْسَةُ بِنْتُ أَبِي خَارِجَةَ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ

قَوْلُهُ: (حَدَثَ بَعْدَكَ أَمْرٌ) زَادَ اللَّيْثُ: نَقْضٌ لِمَا كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْهُ مِنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ مُطَوَّلًا، وَلَفْظُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ لُحُومَ نُسُكِنَا فَوْقَ ثَلَاثٍ، قَالَ فَخَرَجْتُ فِي سَفَرٍ ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى أَهْلِي - وَذَلِكَ بَعْدَ الْأَضْحَى بِأَيَّامٍ - فَأَتَتْنِي صَاحِبَتِي بِسِلْقٍ قَدْ جَعَلَتْ فِيهِ قَدِيدًا فَقَالَتْ: هَذَا مِنْ ضَحَايَانَا، فَقُلْتُ لَهَا: أَوَلَمْ يَنْهَنَا؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ رَخَّصَ لِلنَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ أُصَدِّقْهَا حَتَّى بَعَثْتُ إِلَى أَخِي قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ - فَذَكَرَهُ وَفِيهِ - قَدْ أَرَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَقَلَبَ الْمَتْنَ جَعَلَ رَاوِيَ الْحَدِيثِ أَبَا سَعِيدٍ وَالْمُمْتَنِعَ مِنَ الْأَكْلِ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَجَعَلَ الْقِصَّةَ لِأَبِي قَتَادَةَ وَأَنَّهُ سَأَلَ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا الْأَضَاحِيَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِتِسْعِكُمْ، وَإِنِّي أُحِلُّهُ لَكُمْ، فَكُلُوا مِنْهُ مَا شِئْتُمُ الْحَدِيثَ. فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقْتَ الْإِحْلَالِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ مَا سَمِعَ ذَلِكَ.

وَبَيَّنَ فِيهِ أَيْضًا السَّبَبَ فِي التَّقْيِيدِ، وَأَنَّهُ لِتَحْصِيلِ التَّوْسِعَةِ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِمَنْ لَمْ يُضَحِّ.

الثَّالِثُ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَهُوَ مِنْ ثُلَاثِيَّاتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي)؟ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ النَّهْيَ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ

ص: 25

لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الْإِذْنَ كَانَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ قَوْلِهِمْ هَلْ نَفْعَلُ كَمَا كُنَّا نَفْعَلُ؟ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الِاسْتِمْرَارَ، لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَلَمَّا احْتَمَلَ عِنْدَهُمْ عُمُومَ النَّهْيِ أَوْ خُصُوصَهُ مِنْ أَجْلِ السَّبَبِ سَأَلُوا، فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِذَلِكَ الْعَامِّ مِنْ أَجْلِ السَّبَبِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: كُلُوا وَأَطْعِمُوا تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بَعْدَ حَظْرٍ فَيَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ إِذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ ضَعُفَتْ دَلَالَةُ الْعُمُومِ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى أَصَالَتِهِ، لَكِنْ لَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى السَّبَبِ.

قَوْلُهُ: (وَادَّخِرُوا) بِالْمُهْمَلَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ ذَخَرَ بِالْمُعْجَمَةِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَاءُ الِافْتِعَالِ ثُمَّ أُدْغِمَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} وَيُؤْخَذُ مِنَ الْإِذْنِ فِي الِادِّخَارِ الْجَوَازُ خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الِادِّخَارِ: كَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ لَا يَدَّخِرُ لِغَدٍ، وَالْأَوَّلُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالثَّانِي فِي مُسْلِمٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَدَّخِرُ لِنَفْسِهِ وَيَدَّخِرُ لِعِيَالِهِ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فَيَتْرُكُهُ عِنْدَ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَيَفْعَلُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ.

قَوْلُهُ (كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ) بِالْفَتْحِ أَيْ مَشَقَّةٌ مِنْ جَهْدِ قَحْطِ السَّنَةِ.

قَوْلُهُ: (فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا) كَذَا هُنَا مِنَ الْإِعَانَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَثْنَى، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: فَأَرَدْتُ أَنْ تَفْشُوَا فِيهِمْ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ: فَأَرَدْتُ أَنْ تَقْسِمُوا فِيهِمْ، كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا قَالَ عِيَاضٌ: الضَّمِيرُ فِي تُعِينُوا فِيهَا لِلْمَشَقَّةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْجَهْدِ أَوْ مِنَ الشِّدَّةِ أَوْ مِنَ السَّنَةِ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْجَهْدِ، وَفِي تَفْشُوَا فِيهِمْ أَيْ فِي النَّاسِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا، قَالَ فِي الْمَشَارِقِ: وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَوْجَهُ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ أَشْبَهُ. قُلْتُ: قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ مَخْرَجَ الْحَدِيثِ وَاحِدٌ وَمَدَارُهُ عَلَى أَبِي عَاصِمٍ، وَأَنَّهُ تَارَةً قَالَ هَذَا وَتَارَةً قَالَ هَذَا، وَالْمَعْنَى فِي كُلٍّ صَحِيحٌ فَلَا وَجْهَ لِلتَّرْجِيحِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ الَّذِي رَوَى عَنْهُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنِي أَخِي هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ. فَإِسْمَاعِيلُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ يَرْوِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا يَرْوِي عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَقَدْ تَكَرَّرَ لَهُ هَذَا فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَذَلِكَ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يُدَلِّسُ.

قَوْلُهُ: (الضَّحِيَّةُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (نُمَلِّحُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْهَا أَيْ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (فَنَقْدَمُ) بِسُكُونِ الْقَافِ وَفَتْحِ الدَّالِ مِنَ الْقُدُومِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ نَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ أَوْجُهٌ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا) أَيْ مِنْهُ، هَذَا صَرِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنْهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ؟ فَقَالَتْ: لَا. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا نَفَتْ نَهْيَ التَّحْرِيمِ لَا مُطْلَقَ النَّهْيِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ نُطْعِمَ مِنْهُ) بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الطَّاءِ أَيْ نُطْعِمَ غَيْرَنَا. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنِ الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى قَوْلِهِ بِالْمَدِينَةِ: كَأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ قَوْلِهِ بِالْمَدِينَةِ إِلَخْ مِنْ كَلَامِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ.

قُلْتُ: بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْبُخَارِيِّ بِتَمَامِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْكَلَ مِنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ؟ قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَكَانَ يُحَرِّمُ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَفَعَلَ لِيُطْعِمَ مَنْ ضَحَّى مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُضَحِّ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ

ص: 26

حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ، وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا، وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: دَفَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الْأَضْحَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ادَّخِرُوا لِثَلَاثٍ، وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ، فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الدَّفُّ يَعْنِي بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ الثَّقِيلَةِ السَّيْرَ السَّرِيعَ، وَالدَّافَّةُ مَنْ يَطْرَأُ مِنَ الْمُحْتَاجِينَ، وَاسْتُدِلَّ بِإِطْلَاقِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقْيِيدَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَجْزِي مِنَ الْإِطْعَامِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ شَيْئًا وَيُطْعِمُ الْبَاقِيَ صَدَقَةً وَهَدِيَّةً. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: يُسْتَحَبُّ قِسْمَتُهَا ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ: كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَأَطْعِمُوا.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَكَانَ غَيْرُهُ يَقُولُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ النِّصْفَ وَيُطْعِمَ النِّصْفَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ ضَحَّى فَلْيَأْكُلْ مِنْ أُضْحِيَتِهِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ لَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: الصَّوَابُ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِذْنِ. وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَأَمَّا الصَّدَقَةُ مِنْهَا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ التَّصَدُّقُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَالْأَكْمَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمُعْظَمِهَا.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ أَحَادِيثُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عُمَرَ ثُمَّ عَنْ عُثْمَانَ ثُمَّ عَنْ عَلِيٍّ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ أَيْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَوْفٍ ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ اسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (قَدْ نَهَاكُمْ عَنْ صِيَامِ هَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ) تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الصِّيَامِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا اتَّحَدَتْ جِهَتُهُ لَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ كَصَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الصَّوْمِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ جِهَتَانِ فَلَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَعَدَّدَتِ الْجِهَةُ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَغْصُوبِ فَيَصِحُّ فِي الْمَغْصُوبِ مَعَ التَّحْرِيمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ شَهِدْتُ الْعِيدَ) لَمْ يُبَيِّنْ كَوْنَهُ أَضْحًى أَوْ فِطْرًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْأَضْحَى الَّذِي قَدَّمَهُ فِي حَدِيثِهِ عَنْ عُمَرَ فَتَكُونُ اللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) أَيْ يَوْمَ الْعِيدِ.

قَوْلُهُ: (قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِيهِ عِيدَانِ) أَيْ يَوْمُ الْأَضْحَى وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي) جَمْعُ الْعَالِيَةِ وَهِيَ قُرًى مَعْرُوفَةٌ بِالْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَنْتَظِرْ) أَيْ يَتَأَخَّرْ إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِسُقُوطِ الْجُمُعَةِ عَمَّنْ صَلَّى الْعِيدَ إِذَا وَافَقَ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَذِنْتُ لَهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِعَدَمِ الْعَوْدِ، وَأَيْضًا فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ فِي كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ لِبُعْدِ مَنَازِلِهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ شَهِدْتُهُ) أَيِ الْعِيدَ، وَدَلَّ السِّيَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَضْحَى، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا يَقُولُ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ بِسَنَدِهِ: شَهِدْتُ عَلِيًّا فِي يَوْمِ عِيدٍ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ - ثُمَّ قَالَ - سَمِعْتُ، فَذَكَرَ الْمَرْفُوعَ.

قَوْلُهُ: (نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لُحُومَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلَاثٍ) زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ: فَلَا تَأْكُلُوهَا بَعْدَهَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ الثَّلَاثِ الَّتِي كَانَ الِادِّخَارُ فِيهَا جَائِزًا، فَقِيلَ أَوَّلُهَا يَوْمُ النَّحْرِ، فَمَنْ ضَحَّى فِيهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ يَوْمَيْنِ بَعْدَهُ، وَمَنْ ضَحَّى بَعْدَهُ أَمْسَكَ مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَقِيلَ أَوَّلُهَا يَوْمَ يُضَحِّي، فَلَوْ ضَحَّى فِي آخِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ جَازَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ ثَلَاثًا بَعْدَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قَوْلِهِ

ص: 27

فَوْقَ ثَلَاثٍ أَنْ لَا يُحْسَبَ الْيَوْمُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ النَّحْرُ مِنَ الثَّلَاثِ، وَتُعْتَبَرُ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِيهِ وَمَا بَعْدَهَا. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثِ مِنًى، فَإِنَّ ثَلَاثَ مِنًى تُتَنَاوَلُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَهْلِ النَّفْرِ الثَّانِي، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَعَلَّ عَلِيًّا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ الَّذِي قَالَ عَلِيٌّ فِيهِ ذَلِكَ كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ كَمَا وَقَعَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: إِنَّمَا خَطَبَ عَلِيٌّ بِالْمَدِينَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ عُثْمَانُ حُوصِرَ فِيهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي قَدْ أَلْجَأَتْهُمُ الْفِتْنَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَصَابَهُمُ الْجَهْدُ، فَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ مَا قَالَ.

قُلْتُ: أَمَّا كَوْنُ عَلِيٍّ خَطَبَ بِهِ وَعُثْمَانُ مَحْصُورًا فَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ: صَلَّيْتُ مَعَ عَلِيٍّ الْعِيدَ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ، وَأَمَّا الْحَمْلُ الْمَذْكُورُ فَلِمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّحَاوِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُخَارِقِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَادَّخِرُوا مَا بَدَا لَكُمْ، ثُمَّ جَمَعَ الطَّحَاوِيُّ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ يُجَابُ عَمَّا أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ سُلَيْمَانَ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَسَأَلْتُهَا عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ، فَقَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا، فَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ السَّفَرِ فَأَتَتْهُ فَاطِمَةُ بِلَحْمٍ مِنْ ضَحَايَاهَا فَقَالَ: أَوَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ قَدْ رُخِّصَ فِيهَا، فَهَذَا عَلِيٌّ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ خَطَبَ بِالْمَنْعِ، فَطَرِيقُ الْجَمْعِ مَا ذَكَرْتُهُ. وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ فِي آخِرِ بَابِ الْعِلَلِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ مَا نَصُّهُ: فَإِذَا دَفَّتِ الدَّافَّةُ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ إِمْسَاكِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَإِنْ لَمْ تَدُفَّ دَافَّةٌ فَالرُّخْصَةُ ثَابِتَةٌ بِالْأَكْلِ وَالتَّزَوُّدِ وَالِادِّخَارِ وَالصَّدَقَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ إِمْسَاكِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ مَنْسُوخًا فِي كُلِّ حَالٍ.

قُلْتُ: وَبِهَذَا الثَّانِي أَخَذَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْيَوْمُ بِحَالٍ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الِادِّخَارُ الْيَوْمَ بِحَالٍ، وَحَكَى فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مِنْ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ نَسْخُ النَّهْيِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ تَحْرِيمٌ وَلَا كَرَاهَةٌ، فَيُبَاحُ الْيَوْمَ الِادِّخَارُ فَوْقَ ثَلَاثٍ وَالْأَكْلُ إِلَى مَتَى شَاءَ اهـ. وَإِنَّمَا رَجَّحَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ إِذَا دَفَّتِ الدَّافَّةُ إِيجَابَ الْإِطْعَامِ، وَقَدْ قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَا يُوَافِقُ مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِجَازَةِ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، كَذَا أَطْلَقَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَدِيثُ سَلَمَةَ، وَعَائِشَةَ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِعِلَّةٍ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعَ لِارْتِفَاعِ مُوجِبِهِ فَتَعَيَّنَ الْأَخْذُ بِهِ، وَبِعَوْدِ الْحُكْمِ تَعُودُ الْعِلَّةُ، فَلَوْ قَدِمَ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ نَاسٌ مُحْتَاجُونَ فِي زَمَانِ الْأَضْحَى وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ سَعَةٌ يَسُدُّونَ بِهَا فَاقَتَهُمْ إِلَّا الضَّحَايَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَدَّخِرُوهَا فَوْقَ ثَلَاثٍ.

قُلْتُ: وَالتَّقْيِيدُ بِالثَّلَاثِ وَاقِعَةُ حَالٍ، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ تَسْتَدَّ الْخَلَّةُ إِلَّا بِتَفْرِقَةِ الْجَمِيعِ لَزِمَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ عَدَمُ الْإِمْسَاكِ وَلَوْ لَيْلَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ كَانَ لِعِلَّةٍ فَلَمَّا زَالَتْ زَالَ الْحُكْمُ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ عَوْدُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَوْدِ الْعِلَّةِ. قُلْتُ: وَاسْتَبْعَدُوهُ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الْخَلَّةَ لَمْ تَسْتَدَّ يَوْمَئِذٍ إِلَّا بِمَا ذَكَرَ فَأَمَّا الْآنَ فَإِنَّ الْخَلَّةَ تَسْتَدُّ بِغَيْرِ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ فَلَا يَعُودُ الْحُكْمُ إِلَّا لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْخَلَّةَ لَا تَسْتَدُّ إِلَّا بِلَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ النُّدُورِ. وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلتَّنْزِيهِ، قَالَ: وَهُوَ كَالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} ؛ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ احْتِمَالًا، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ وَلَيْسَ بِعَزِيمَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ

ص: 28

الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْأَكْلِ فَوْقَ ثَلَاثٍ خَاصٌّ بِصَاحِبِ الْأُضْحِيَّةِ، فَأَمَّا مَنْ أُهْدِيَ لَهُ أَوْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلَا، لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى مَا يُفِيدُ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ قَدْ نُهِيَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ لَحْمِ نُسُكِهِمْ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِمَا أُهْدِيَ لَنَا؟ قَالَ: أَمَّا مَا أُهْدِيَ إِلَيْكُمْ فَشَأْنُكُمْ بِهِ فَهَذَا نَصٌّ فِي الْهَدِيَّةِ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَإِنَّ الْفَقِيرَ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيمَا يُهْدَى لَهُ لِأَنَّ الْقَصْدَ أَنْ تَقَعَ الْمُوَاسَاةُ مِنَ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ وَقَدْ حَصَلَتْ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ نَحْوُهُ) هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّنَدِ الْمَذْكُورِ، فَيَكُونُ مِنْ رِوَايَةِ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو الْعَبَّاسِ الطَّرْقِيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْمِزِّيِّ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى فَسَاقَ رِوَايَةَ يُونُسَ بِتَمَامِهَا. ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَقِبَ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ قُلْتُ: فَاحْتَمَلَ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ مُعَلَّقَةً، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ قَبْلُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَخْرَجَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ حِبَّانَ بِسَنَدِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، وَمَالِكٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ به، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْخَبَرَ، أَيْ لَمْ يُوَصِّلِ السَّنَدَ إِلَى مَعْمَرٍ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ.

قَوْلُهُ: (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِصَاعِقَةَ، وَابْنُ أَخِي ابْنُ شِهَابٍ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (كُلُوا مِنَ الْأَضَاحِيِّ ثَلَاثًا) أَيْ فَقَطْ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ: نَهَى أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَا يَأْكُلُ أَحَدٌ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ (يَأْكُلُ بِالزَّيْتِ) سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

قَوْلُهُ: (حِينَ يَنْفِرُ مِنْ مِنًى) هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ حَتَّى بَدَلَ حِينَ وَهُوَ تَصْحِيفٌ يُفْسِدُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَكَانَ إِذَا انْقَضَتْ ثَلَاثُ مِنًى ائْتَدَمَ بِالزَّيْتِ وَلَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ تَمَسُّكًا بِالْأَمْرِ الْمَذْكُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ أَجْلِ لُحُومِ الْهَدْيِ، وَكَأَنَّهُ أَيْضًا لَمْ يَبْلُغْهُ الْإِذْنُ بَعْدَ الْمَنْعِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَنْعَكِسُ الْأَمْرُ وَيَصِيرُ الْمَعْنَى: كَانَ يَأْكُلُ بِالزَّيْتِ إِلَى أَنْ يَنْفِرَ، فَإِذَا نَفَرَ أَكَلَ بِغَيْرِ الزَّيْتِ. فَيَدْخُلُ فِيهِ لَحْمُ الْأُضْحِيَّةِ. وَأَمَّا تَعْبِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ بِالْهَدْيِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ لَحْمِ الْهَدْيِ وَلَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْحُكْمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ عَلَى لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ لَحْمَ الْهَدْي لِمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ كَانَ بِمِنًى. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ نَسْخُ الْأَثْقَلِ بِالْأَخَفِّ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ ادِّخَارِ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ ثَلَاثٍ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَى الْمُضَحِّينَ، وَالْإِذْنُ فِي الِادِّخَارِ أَخَفُّ مِنْهُ.

وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْأَثْقَلِ لِلْأَخَفِّ، وَعَكَسَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ زَاعِمًا أَنَّ الْإِذْنَ فِي الِادِّخَارِ نُسِخَ بِالنَّهْيِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الِادِّخَارَ كَانَ مُبَاحًا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَالنَّهْيُ عَنْهُ لَيْسَ نَسْخًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا فَفِيهِ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الْإِذْنَ فِي أَكْلِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَخْصِيصٌ لَا نَسْخٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ.

(خَاتِمَةٌ):

اشْتَمَلَ كِتَابُ الْأَضَاحِيِّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا وَالْخَالِصُ خَمْسَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ فِي الْبَابِ الْأَخِيرِ، وَسِوَى زِيَادَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَهِيَ قَوْلُهُ بِكَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ فَإِنَّ

ص: 29

أَصْلَ الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ سِوَى قَوْلِهِ سَمِينَيْنِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ سَبْعَةُ آثَارٍ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌74 - كِتَاب الْأَشْرِبَةِ

‌1 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

5575 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ.

5576 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ".

تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَابْنُ الْهَادِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَالزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ

5577 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثاً لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ غَيْرِي قَالَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ".

5578 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولَانِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ: "وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ".

قَوْلُه: (كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ) وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} ، الْآيَةَ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ الْبَاقُونَ إِلَى الْمُفْلِحُونَ كَذَا ذَكَرَ الْآيَةَ وَأَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ تَتَعَلَّقُ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْرِبَةَ مِنْهَا

ص: 30

مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ فَيُنْظَرُ فِي حُكْمِ كُلٍّ مِنْهُمَا ثُمَّ فِي الْآدَابِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّرْبِ، فَبَدَأَ بِتَبْيِينِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا لَقِلَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَلَالِ، فَإِذَا عُرِفَ مَا يَحْرُمُ كَانَ مَا عَدَاهُ حَلَالًا، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ الْوَقْتَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ وَأَنَّهُ كَانَ فِي عَامِ الْفَتْحِ قَبْلَ الْفَتْحِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الدِّمْيَاطِيَّ فِي سِيرَتِهِ جَزَمَ بِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ كَانَ سَنَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالْحُدَيْبِيَةُ كَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ.

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَاقِعَةِ بَنِي النَّضِيرِ، وَهِيَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ عَلَى الرَّاجِحِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَنَسًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ كَانَ السَّاقِيَ يَوْمَ حُرِّمَتْ، وَأَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الْمُنَادِيَ بِتَحْرِيمِهَا بَادَرَ فَأَرَاقَهَا، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ لَكَانَ أَنَسٌ يَصْغُرُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفُ لَمَّحَ بِذِكْرِ الْآيَةِ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ فِي نُزُولِهَا، وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا، فَلَمَّا ثَمِلَ الْقَوْمُ عَبِثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا أَنْ صَحَوْا جَعَلَ الرَّجُلُ يَرَى فِي وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ الْأَثَرَ فَيَقُولُ: صَنَعَ هَذَا أَخِي فُلَانٌ، وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ بِي رَحِيمًا مَا صَنَعَ بِي هَذَا، حَتَّى وَقَعَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الضَّغَائِنُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل هَذِهِ الْآيَةَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} - إِلَى - {مُنْتَهُونَ} قَالَ فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ: هِيَ رِجْسٌ، وَهِيَ فِي بَطْنِ فُلَانٍ وَقَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} - إِلَى - {الْمُحْسِنِينَ} ، وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا مَضَى فِي الْمَائِدَةِ، وَوَقَعَتْ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: لَمَّا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ قَالَ نَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،

أَصْحَابُنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ الَّذِي سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ نَحْوَ الْأَوَّلِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ لَتَرَكُوهُ كَمَا تَرَكْتُمْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: يُسْتَفَادُ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَسْمِيَتِهَا رِجْسًا. وَقَدْ سُمِّيَ بِهِ مَا أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمِنْ قَوْلُهُ: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ؛ لِأَنَّ مَهْمَا كَانَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ حَرُمَ تَنَاوُلُهُ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ وَمَا وَجَبَ اجْتِنَابُهُ حَرُمَ تَنَاوُلُهُ، وَمِنَ الْفَلَاحِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الِاجْتِنَابِ، وَمِنْ كَوْنِ الشُّرْبِ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعَاطِي مَا يُوقِعُ ذَلِكَ حَرَامٌ، وَمِنْ كَوْنِهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَمِنْ خِتَامِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ؟ فَإِنَّهُ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ لَمَّا سَمِعَهَا: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا. وَسَبَقَهُ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ.

وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مَشَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَجُعِلَتْ عِدْلًا لِلشِّرْكِ قِيلَ: يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} الْآيَةَ، فَإِنَّ الْأَنْصَابَ وَالْأَزْلَامَ مِنْ عَمَلِ الْمُشْرِكِينَ بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ، فَنُسِبَ الْعَمَلُ إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ فِيهَا أَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهَا عَادَلَتْ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَدَلَّ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْخَمْرِ إِثْمًا كَبِيرًا ثُمَّ صَرَّحَ بِتَحْرِيمِ الْإِثْمِ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِذَلِكَ، قَالَ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْخَمْرَ تُسَمَّى الْإِثْمُ لَمْ نَجِدُ لَهُ أَصْلًا فِي الْحَدِيثِ وَلَا فِي اللُّغَةِ، وَلَا دَلَالَةَ أَيْضًا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

ص: 31

شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي

كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ

فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْإِثْمَ عَلَى الْخَمْرِ مَجَازًا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهَا الْإِثْمُ. وَاللُّغَةُ الْفُصْحَى تَأْنِيثُ الْخَمْرِ، وَأَثْبَتَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا جَوَازَ التَّذْكِيرِ، وَيُقَالُ لَهَا الْخَمْرَةُ أَثْبَتَهُ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمُ الْجَوْهَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْمُثَلَّثِ: الْخَمْرَةُ هِيَ الْخَمْرُ فِي اللُّغَةِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتِ الْخَمْرُ لِأَنَّهَا تُغَطِّي الْعَقْلَ وَتُخَامِرُهُ أَيْ تُخَالِطُهُ، أَوْ لِأَنَّهَا هِيَ تُخَمَّرُ أَيْ تُغَطَّى حَتَّى تَغْلِي، أَوْ لِأَنَّهَا تَخْتَمِرُ أَيْ تُدْرِكُ كَمَا يُقَالُ لِلْعَجِينِ اخْتَمَرَ، أَقْوَالٌ سَيَأْتِي بَسْطُهَا عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثٌ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ

قَوْلُهُ: (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرُ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ) حُرِمَهَا بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْخَفِيفَةِ مِنَ الْحِرْمَانِ، زَادَ مُسْلِمٌ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ فِي آخِرِهِ: لَمْ يُسْقَهَا، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: فَمَاتَ وَهُوَ مُدْمِنُهَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَأَوْرَدَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مُسْتَقِلَّةً أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي بَابِ الْخَمْرِ مِنَ الْعَسَلِ وَيَأْتِي كَلَامُ ابْنِ بَطَّالٍ فِيهَا فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، أَيْ مِنْ شُرْبِهَا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ، وَالْبَغْوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، لِأَنَّ الْخَمْرَ شَرَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا حُرِّمَ شُرْبُهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى حِرْمَانِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ أَنْهَارَ الْخَمْرِ لَذَّةٌ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ.

فَلَوْ دخَلَهَا - وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ فِيهَا خَمْرًا أَوْ أَنَّهُ حُرِمَهَا عُقُوبَةً لَهُ - لَزِمَ وُقُوعُ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا هَمَّ فِيهَا وَلَا حُزْنَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُودِهَا فِي الْجَنَّةِ وَلَا أَنَّهُ حُرِمَهَا عُقُوبَةً لَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي فَقْدِهَا أَلَمٌ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَنْ تَقَدَّمَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَصْلًا، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، قَالَ: وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِيهَا إِلَّا إِنْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْكَبَائِرِ وَهُوَ فِي الْمَشِيئَةِ، فَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: جَزَاؤُهُ فِي الْآخِرَةِ أَنْ يُحْرَمَهَا لِحِرْمَانِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ إِلَّا إِنْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: وَجَائِزٌ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ بِالْعَفْوِ ثُمَّ لَا يَشْرَبُ فِيهَا خَمْرًا وَلَا تَشْتَهِيهَا نَفْسُهُ وَإِنْ عَلِمَ بِوُجُودِهَا فِيهَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبَسهُ هُوَ، قُلْتُ: أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي وَهُوَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ شُرْبَهَا فِي الْجَنَّةِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَقَدْ لَخَّصَ عِيَاضٌ كَلَامَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَزَادَ احْتِمَالًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِحِرْمَانِهِ شُرْبَهَا أَنَّهُ يُحْبَسُ عَنِ الْجَنَّةِ مُدَّةً إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ، وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ.

قَالَ: وَمَنْ قَالَ لَا يَشْرَبُهَا فِي الْجَنَّةِ بِأَنْ يَنْسَاهَا أَوْ لَا يَشْتَهِيهَا يَقُولُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَسْرَةٌ وَلَا يَكُونُ تَرْكُ شَهْوَتِهِ إِيَّاهَا عُقُوبَةً فِي حَقِّهِ، بَلْ هُوَ نَقْصُ نَعِيمٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ هُوَ أَتَمُّ نَعِيمًا مِنْهُ كَمَا تَخْتَلِفُ دَرَجَاتُهُمْ، وَلَا يُلْحَقُ مَنْ هُوَ أُنْقَصُ دَرَجَةً حِينَئِذٍ بِمَنْ هُوَ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْهُ اسْتِغْنَاءً بِمَا أُعْطِيَ وَاغْتِبَاطًا لَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِيهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أُمِرَ بِتَأْخِيرِهِ وَوُعِدَ بِهِ فَحُرِمَهُ عِنْدَ مِيقَاتِهِ، كَالْوَارِثِ فَإِنَّهُ إِذَا قَتَلَ مُوَرِّثَهُ فَإِنَّهُ يُحْرَمُ مِيرَاثُهُ لِاسْتِعْجَالِهِ. وَبِهَذَا قَالَ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَوْضِعُ احْتِمَالٍ وَمَوْقِفُ إِشْكَالٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ. وَفَصَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ مَنْ يَشْرَبُهَا مُسْتَحِلًّا

ص: 32

فَهُوَ الَّذِي لَا يَشْرَبُهَا أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَصْلًا، وَعَدَمُ الدُّخُولِ يَسْتَلْزِمُ حِرْمَانَهَا، وَبَيْنَ مَنْ يَشْرَبُهَا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهَا فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَهُوَ الَّذِي يُحْرَمُ شُرْبَهَا مُدَّةً وَلَوْ فِي حَالِ تَعْذِيبِهِ إِنْ عُذِّبَ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ جَزَاؤُهُ إِنْ جُوزِيَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ التَّوْبَةَ تُكَفِّرُ الْمَعَاصِيَ الْكَبَائِرَ، وَهُوَ فِي التَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ قَطْعِيٌّ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ هَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَقْوَى أَنَّهُ ظَنِّيٌّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَنِ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الصَّادِقِينَ قَطْعًا.

وَلِلتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ شُرُوطٌ سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهَا فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى صِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ. وَفِيهِ أَنَّ الْوَعِيدَ يَتَنَاوَلُ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلُ لَهُ السُّكْرُ، لِأَنَّهُ رَتَّبَ الْوَعِيدَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مُجَرَّدِ الشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْخَمْرِ الْمُتَّخَذِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَكَذَا فِيمَا يُسْكِرُ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَمَّا مَا لَا يُسْكِرُ مِنْ غَيْرِهَا فَالْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا أَنَّ التَّوْبَةَ مَشْرُوعَةٌ فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْغَرْغَرَةِ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ثُمَّ مِنَ التَّرَاخِي، وَلَيْسَ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّوْبَةِ شَرْطًا فِي قَبُولِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَانِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (بِإِيلِيَاءَ) بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ الْخَفِيفَةِ مَعَ الْمَدِّ: هِيَ مَدِينَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ عَرْضَ ذَلِكَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَقَعَ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ الَّتِي تَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا إِلَى إِيلِيَاءَ وَلَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي ذَلِكَ، لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ تَعْيِينَ لَيْلَةِ الْإِيتَاءِ لَا مَحَلَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِهِ فِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَلَوْ أَخَذْتُ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ هُوَ مَحَلُّ التَّرْجَمَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ

(1)

: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم نَفَرَ مِنَ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ تَفَرَّسَ أَنَّهَا سَتُحَرَّمُ لِأَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ مُبَاحَةً، وَلَا مَانِعَ مِنَ افْتِرَاقِ مُبَاحَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ فِي أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فِي أَنَّ أَحَدَهُمَا سَيُحَرَّمُ وَالْآخَرُ تَسْتَمِرُّ إِبَاحَتُهُ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفَرَ مِنْهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْتَدْ شُرْبَهَا فَوَافَقَ بِطَبْعِهِ مَا سَيَقَعُ مِنْ تَحْرِيمِهَا بَعْدُ، حِفْظًا مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُ وَرِعَايَةً، وَاخْتَارَ اللَّبَنَ لِكَوْنِهِ مَأْلُوفًا لَهُ، سَهْلًا طَيِّبًا طَاهِرًا، سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، سَلِيمَ الْعَاقِبَةِ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ هُنَا الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ. وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الْحَمْدِ عِنْدِ حُصُولِ مَا يُحْمَدُ وَدَفْعِ مَا يُحْذَرِ. وَقَوْلُهُ: غَوَتْ أُمَّتُكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْ طَرِيقِ الْفَأْلِ، أَوْ تَقَدَّمَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِتَرَتُّبِ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ أَظْهَرُ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مَعْمَرٌ، وَابْنُ الْهَادِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) يَعْنِي بِسَنَدِهِ. وَوَقَعَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ زِيَادَةُ الزُّبَيْدِيِّ مَعَ الْمَذْكُورِينَ بَعْدَ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، فَأَمَّا مُتَابَعَةُ مَعْمَرَ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ ذِكْرُ مُوسَى وَعِيسَى وَصِفَتُهُمَا، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ إِيلِيَاءَ، وَفِيهِ: اشْرَبْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ. وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ الْهَادِ - وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيُّ يُنْسَبُ لِجَدِّ أَبِيهِ - فَوَصَلَهَا النَّسَائِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، فَعَلَى هَذَا فَقَدْ سَقَطَ ذِكْرُ عَبْدِ الْوَهَّابِ مِنَ الْأَصْلِ بَيْنَ ابْنِ الْهَادِ، وَابْنِ شِهَابٍ، عَلَى أَنَّ ابْنَ الْهَادِ قَدْ رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ أَحَادِيثَ غَيْرَ هَذَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ: وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَهُ، وَوَصَلَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْهَادِ، عَنِ

(1)

في نسخة أخرى "قال ابن المنير".

ص: 33

الزُّهْرِيِّ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَأَمَّا رِوَايَةُ الزُّبَيْدِيِّ فَوَصَلَهَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ عَنْهُ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ إِيلِيَاءَ أَيْضًا. وَأَمَّا رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهَا تَمَّامٌ الرَّازِيُّ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ عَنِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ قَالَ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: تَابَعَهُ ابْنُ الْهَادِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدِيثَ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَحَدِيثَ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ، عَنْ يُونُسَ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ. قُلْتُ: وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ الْحَاكِمُ وَأَقَرَّهُ الْمِزِّيُّ فِي عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ الرَّاوِي عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، وَلَيْسَ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ التَّيْمِيُّ، وَلَيْسَ لِعُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ وَلَدٌ اسْمُهُ عُمَرُ يَرْوِي عَنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ وَلَدُ التَّيْمِيِّ كَمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ فَوَائِدِ تَمَّامٍ وَهُوَ مَدَنِيٌّ، وَقَدْ ذَكَرَ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ وَلَا أَعْرِفُ أَبَاهُ. قُلْتُ: وَقَدْ عَرَفَهُمَا غَيْرُهُ، وَذَكَرَه الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي النَّسَبِ عَنْ عُثْمَانَ الْمَذْكُورِ فَقَالَ: إِنَّهُ وَلِيَ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ لِلْمَنْصُورِ وَمَاتَ مَعَهُ بِالْعِرَاقِ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَأَكْثَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْعِلَلِ عِنْدَ ذِكْرِهِ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي تَخْتَلِفُ رُوَاتُهَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَثِيرًا مَا تُرَجَّحُ رِوَايَتُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ غَيْرِي) كَأَنَّ أَنَسًا حَدَّثَ بِهِ فِي أَوَاخِرِ عُمْرِهِ فَأَطْلَقَ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَنْ كَانَ قَدْ مَاتَ.

قَوْلُهُ: (وَتَشْرَبُ الْخَمْرَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَشُرْبُ الْخَمْرِ بِالْإِضَافَةِ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى لِلْمُشَاكَلَةِ.

قَوْلُهُ (حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَتَّى يَكُونَ خَمْسُونَ امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَسَبَقَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَثْرَةَ شُرْبِ الْخَمْرِ كَسَائِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ هُنَا: لَا يَزْنِي حِينَ يَزْنِي بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، فَقَدَّرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الرَّجُلَ أَوِ الْمُؤْمِنْ أَوِ الزَّانِيَ، وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَعْيِينَ الِاحْتِمَالِ الثَّالِثِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا أَشَدُّ مَا وَرَدَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِهِ تَعَلَّقَ الْخَوَارِجُ فَكَفَّرُوا مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، وَحَمَلَ أَهْلُ السُّنَّةِ الْإِيمَانَ هُنَا عَلَى الْكَامِلِ، لِأَنَّ الْعَاصِيَ يَصِيرُ أَنْقَصَ حَالًا فِي الْإِيمَانِ مِمَّنْ لَا يَعْصِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يَئُولُ أَمْرُهُ إِلَى ذَهَابِ الْإِيمَانِ، كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ الَّذِي أَوَّلُهُ: اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ - وَفِيهِ - وَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ هِيَ وَالْإِيمَانُ إِلَّا وَأَوْشَكَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُخْرِجَ صَاحِبَهُ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مَرْفُوعًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي هَذَا الْبَابِ لِيَكُونَ عِوَضًا عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي هَذَا الْبَابِ لِكَوْنِهِ رُوِيَ مَوْقُوفًا، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ فِي الْوَعِيدِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مُطْلَقِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَخْبَرَهُ) هُوَ وَالِدُ عَبْدِ الْمَلِكِ شَيْخُ ابْنِ شِهَابٍ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ كَانَ أَبُو بَكْرٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ، وَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

‌2 - بَاب الْخَمْرُ مِنْ الْعِنَبِ وغيره

ص: 34

5579 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "لَقَدْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ".

5580 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلاَّ قَلِيلاً وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ".

5581 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ حَدَّثَنَا عَامِرٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "أَمَّا بَعْدُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَمْرِ مِنَ الْعِنَبِ وَغَيْرِهِ) كَذَا فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ، وَلَمْ أَرَ لَفْظَ وَغَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الصَّحِيحِ وَلَا الْمُسْتَخْرَجَاتِ وَلَا الشُّرُوحِ سِوَاهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ الرَّدُّ عَلَى الْكُوفِيِّينَ إِذْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَاءِ الْعِنَبِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يُحَرِّمُوا مِنْ غَيْرِهِ إِلَّا الْقَدْرَ الْمُسْكِرَ خَاصَّةً، وَزَعَمُوا أَنَّ الْخَمْرَ مَاءُ الْعِنَبِ خَاصَّةً، قَالَ: لَكِنْ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - يَعْنِي الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ - عَلَى أَنَّ الْأَنْبِذَةَ الَّتِي كَانَتْ يَوْمئِذٍ تُسَمَّى خَمْرًا نَظَرٌ، بَلْ هُوَ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ مِنَ الْعِنَبِ خَاصَّةً أَجْدَرُ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَمَا مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ شَيْءٌ - يَعْنِي الْخَمْرَ - وَقَدْ كَانَتِ الْأَنْبِذَةُ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ مَوْجُودَةً حِينَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِذَةَ لَيْسَتْ خَمْرًا، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ كَلَامَ ابْنِ عُمَرَ يَتَنَزَّلُ عَلَى جَوَابِ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا خَمْرَ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ، فَيُقَالُ: قَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ، بَلْ كَانَ الْمَوْجُودُ بِهَا مِنَ الْأَشْرِبَةِ مَا يُصْنَعُ مِنَ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفَهِمَ الصَّحَابَةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحْرِيمَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا بَادَرُوا إِلَى إِرَاقَتِهَا.

قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَمَا بَعْدَهَا أَنَّ الْخَمْرَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَيُطْلَقُ عَلَى نَبِيذِ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعَسَلِ، فَعَقَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بَابًا، وَلَمْ يُرِدْ حَصْرَ التَّسْمِيَةِ فِي الْعِنَبِ، بِدَلِيلِ مَا أَوْرَدَهُ بَعْدَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالتَّرْجَمَةِ الْأُولَى الْحَقِيقيةِ وَبِمَا عَدَاهَا الْمَجَازَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْ تَصَرُّفِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ أَرَادَ بَيَانَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا الْأَخْبَارُ عَلَى شَرْطِهِ لِمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْخَمْرُ، فَبَدَأَ بِالْعِنَبِ لِكَوْنِهِ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِيهِ عَنْ أَنَسٍ ظَاهِرٌ فِي الْمُرَادِ جِدًّا، ثُمَّ ثَلَّثَ بِالْعَسَلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ، ثُمَّ أَتَى بِتَرْجَمَةٍ عَامَّةٍ لِذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَهِيَ الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَصْرَ فِيهِمَا، وَالْمُجْمَعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ بِالِاتِّفَاقِ. وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ مُجَّانَ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا لِلْكَرَاهَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَهْجُورٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَائِلِهِ.

وَحَكَى أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْحَرَامَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، قَالَ: وَهَذَا عَظِيمٌ مِنَ الْقَوْلِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِحِلِّ كُلِّ شَيْءٍ اخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَلَوْ كَانَ

ص: 35

مُسْتَنَدُ الْخِلَافِ وَاهِيًا. وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْخَمْرُ حَرَامٌ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ غَيْرِهَا حَرَامٌ وَلَيْسَ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَالنَّبِيذُ الْمَطْبُوخُ لَا بَأْسَ بِهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُسْكِرُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِالنَّقِيعِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ غَلَا إِلَّا الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ، قَالَ: وَكَذَا حَكَاهُ مُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَا أَشْرَبَهُ وَلَا أُحَرِّمِهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: أَكْرَهُ نَقِيعَ التَّمْرِ وَنَقِيعَ الزَّبِيبِ إِذَا غُلِيَ، وَنَقِيعُ الْعَسَلِ لَا بَأْسَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ) هُوَ الْبَزَّارُ آخِرُهُ رَاءٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ يُحَدِّثُ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَهَذَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ) كَانَ شَيْخَ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَ بِهِ فَقَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ وَلَمْ يَنْسُبْهُ فَنَسَبَهُ هُوَ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ فَقَالَ: عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ.

قَوْلُهُ: (وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ نَفَى ذَلِكَ بِمُقْتَضَى مَا عَلِمَ، أَوْ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ مِنْ أَجْلِ قِلَّتِهَا حِينَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ فَأَطْلَقَ النَّفْيَ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ مُبَالَغَةً، وَيُؤَيِّدهُ قَوْلُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الْأَعْنَابِ إِلَّا قَلِيلًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ ابْنِ عُمَرَ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ أَيْ يُعْصَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا شَرَابُ الْعِنَبِ وَحُمِلَ عَلَى مَا كَانَ يُصْنَعُ بِهَا لَا عَلَى مَا يُجْلَبُ إِلَيْهَا. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ فِي ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ تُصْنَعُ مِنَ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبِلَادِ، لَا فِي خُصُوصِ الْمَدِينَةِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ بَعْدَ بَابَيْنِ مَعَ شَرْحِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ) أَيِ النَّبِيذُ الَّذِي يَصِيرُ خَمْرًا كَانَ أَكْثَرَ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ مَجَازٌ عَنِ الشَّرَابِ الَّذِي يُصْنَعُ مِنْهُمَا، وَهُوَ عَكْسُ:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أَوْ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ عَامَّةُ أَصْلِ خَمْرِنَا أَوْ مَادَّتِهِ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمئِذٍ الْبُسْرُ، وَتَقْرِيرُ الْحَذْفِ فِيهِ ظَاهِرٌ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ هُوَ الْخَمْرُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَظَاهِرُهُ الْحَصْرُ لَكِنِ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ حِينَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ مَوْجُودًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَقِيلَ: مُرَادُ أَنَسٍ الرَّدُّ عَلَى مَنْ خَصَّ اسْمَ الْخَمْرِ بِمَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ، وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَصُّ بِالْخَمْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْعِنَبِ بَلْ يُشْرِكُهَا فِي التَّحْرِيمِ كُلِّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ، وَهَذَا أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَأَبُو حَيَّانَ هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التَّيْمِيُّ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ.

قَوْلُهُ (قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ) سَاقَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي بَعْدَ قَلِيلٍ مُطَوَّلًا. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ جَوَازُ حَذْفِ الْفَاءِ فِي جَوَابِ أَمَّا بَعْدُ. قُلْتُ: لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ هَذِهِ رِوَايَةَ مُسَدَّدٍ هُنَا، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ بِلَفْظِ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ لَيْسَ فِيهِ أَمَّا بَعْدُ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هُنَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ شَيْخِ مُسَدَّدٍ وَفِيهِ بِلَفْظِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْخَمْرَ فَظَهَرَ أَنَّ حَذْفَ الْفَاءِ وَإِثْبَاتَهَا مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةٍ.

‌3 - بَاب نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ

5582 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،

ص: 36

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ، وَأَبَا طَلْحَةَ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ فَهْرِقْهَا، فَأَهْرَقْتُهَا.

5583 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَساً قَالَ كُنْتُ قَائِماً عَلَى الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ عُمُومَتِي وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ الْفَضِيخَ فَقِيلَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فَقَالُوا أَكْفِئْهَا فَكَفَأْتُهَا قُلْتُ لِأَنَسٍ مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ".

وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ".

5584 -

حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا يُوسُفُ أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ

قَوْلُهُ: (بَابُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنَ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ) أَيْ تُصْنَعُ أَوْ تُتَّخَذُ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ أَتَمَّ سِيَاقًا مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ) هُوَ ابْنُ الْجَرَّاحِ، (وَأَبَا طَلْحَةَ) هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ أُمِّ أَنَسٍ، (وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ)، كَذَا اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا أَبُو طَلْحَةَ فَلِكَوْنِ الْقِصَّةِ كَانَتْ فِي مَنْزِلِهِ كَمَا مَضَى فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ وَأَمَّا أَبُو عُبَيْدَةَ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي طَلْحَةَ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَكَانَ كَبِيرَ الْأَنْصَارِ وَعَالِمَهُمْ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ إِنِّي لَقَائِمٌ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَفُلَانًا وَفُلَانًا كَذَا وَقَعَ بِالْإِبْهَامِ، وَسَمَّى فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْهُمْ أَبَا أَيُّوبَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: إِنِّي كُنْتُ لَأَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ، وَأَبَا دُجَانَةَ، وَسُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ وَأَبُو دُجَانَةَ بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ نُونٌ اسْمُهُ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ بِمُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ مَفْتُوحَاتٌ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوُهُ وَسَمَّى فِيهِمْ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَسُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ وَنَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ وَوَقَعَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي أَوْرَدْتُهَا تَسْمِيَةُ سَبْعَةٍ مِنْهُمْ، وَأَبْهَمَهُمْ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ وَهِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَفْظُهُ: كُنْتُ قَائِمًا عَلَى الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ عُمُومَتِي، وَقَوْلُهُ عُمُومَتِي فِي مَوْضِعِ خَفَضٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهُ: الْحَيِّ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ عُمُومَتَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَسَنَّ مِنْهُ وَلِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَمِنَ الْمُسْتَغْرَبَاتِ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ كَانَا فِيهِمْ، وَهُوَ مُنْكَرٌ مَعَ نَظَافَةِ سَنَدِهِ، وَمَا أَظُنُّهُ إِلَّا غَلَطًا.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ شُعْبَةَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَرَّمَ أَبُو بَكْرٍ الْخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَشْرَبْهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ وَيَحْتَمِلُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ زَارَا أَبَا طَلْحَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَمْ يَشْرَبَا مَعَهُمْ. ثُمَّ وَجَدْتُ عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ

ص: 37

أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا شَرِبَ قَالَ: تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمَّ بَكْرٍ الْأَبْيَاتَ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ الْحَدِيثُ. وَأَبُو بَكْرٍ هَذَا يُقَالُ لَهُ ابْنُ شَغُوبٍ، فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَكِنْ قَرِينَةُ ذِكْرِ عُمَرَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْغَلَطِ فِي وَصْفِ الصِّدِّيقِ، فَحَصَّلْنَا تَسْمِيَةَ عَشَرَةٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنَ الْمَغَازِي تَرْجَمَةَ أَبِي بَكْرِ بْنِ شَغُوبٍ الْمَذْكُورِ. وَفِي كِتَابِ مَكَّةَ لِلْفَاكِهِيِّ مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلٍ مَا يَشِيدُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ) أَمَّا الْفَضِيخُ فَهُوَ بِفَاءٍ وَضَادٍ مُعْجَمَتَيْنِ وَزْنُ عَظِيمٍ: اسْمُ لِلْبُسْرِ إِذَا شُدِخَ وَنُبِذَ، وَأَمَّا الزَّهْوُ فَبِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدَهَا وَاوٌ: وَهُوَ الْبُسْرُ الَّذِي يَحْمَرُّ أَوْ يَصْفَرُّ قَبْلَ أَنْ يَتَرَطَّبَ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْفَضِيخُ عَلَى خَلِيطِ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى خَلِيطِ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، وَكَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْبُسْرِ وَحْدَهُ وَعَلَى التَّمْرِ وَحْدَهُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي آخِرَ الْبَابِ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ وَمَا خَمْرُهُمْ يَوْمئِذٍ إِلَّا الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ مَخْلُوطَيْنِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَسْقِيهِمْ مِنْ مَزَادَةٍ فِيهَا خَلِيطُ بُسْرٍ وَتَمْرٍ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَهُمْ آتٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بَعْدَ قَوْلِهِ أَسْقِيهِمْ: حَتَّى كَادَ الشَّرَابُ يَأْخُذُ فِيهِمْ، وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ: حَتَّى أَسْرَعَتْ فِيهِمْ، وَلِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ: حَتَّى مَالَتْ رُءُوسُهُمْ، فَدَخَلَ دَاخِلٌ وَمَضَى فِي الْمَظَالِمِ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا فَنَادَى، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ وَزَادَ: فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ وَمَضَى فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ بَلَغَكُمُ الْخَبَرُ؟ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، وَهَذَا الرَّجُلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُنَادِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَدَخَلَ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَحَلَفَ عَلَيَّ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي وَهِيَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَضَرَبْتُهَا بِرِجْلِي وَقُلْتُ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ خَرَجَ فَاسْتَخْبَرَ الرَّجُلَ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الرَّجُلَ قَامَ عَلَى الْبَابِ فَذَكَرَ لَهُمْ تَحْرِيمَهَا، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَتَانَا فُلَانٌ مِنْ عِنْدِ نَبِيِّنَا فَقَالَ: قَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، قُلْنَا: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ عِنْدِهِ أَتَيْتُكُمْ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ، فَهَرِقْهَا) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ، وَالْأَصْلُ أَرِقْهَا، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَهَرَقْتُهَا وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِالْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ مَعًا وَهُوَ نَادِرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي الطَّهَارَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي التَّفْسِيرِ بِلَفْظِ فَأَرِقْهَا، وَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ فَقَالُوا أَرِقْ هَذِهِ الْقِلَالَ يَا أَنَسُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطِبَ لَهُ بِذَلِكَ أَبُو طَلْحَةَ، وَرَضِيَ الْبَاقُونَ بِذَلِكَ فَنُسِبَ الْأَمْرُ بِالْإِرَاقَةِ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْبَابِ أَكْفِئْهَا بِكَسْرِ الْفَاءِ مَهْمُوزٌ بِمَعْنَى أَرِقْهَا، وَأَصْلُ الْإِكْفَاءِ الْإِمَالَةُ. وَوَقَعَ فِي بَابِ إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا، قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى انْكَسَرَتْ وَهَذَا لَا يُنَافِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى بَلْ يُجْمَعُ بِأَنَّهُ أَرَاقَهَا وَكَسَرَ أَوَانِيَهَا، أَوْ أَرَاقَ بَعْضًا وَكَسَرَ بَعْضًا. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ تَفَرَّدَ عَنْ أَنَسٍ بِذِكْرِ الْكَسْرِ، وَأَنَّ ثَابِتًا، وَعَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ صُهَيْبٍ، وَحُمَيْدًا وَعَدَّ جَمَاعَةً مِنَ الثِّقَاتِ رَوَوُا الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ عَنْ أَنَسٍ مِنْهُمْ مَنْ طَوَّلَهُ وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ، فَلَمْ يَذْكُرُوا إِلَّا إِرَاقَتَهَا.

وَالْمِهْرَاسُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ إِنَاءٌ يُتَّخَذُ مِنْ صَخْرٍ وَيُنَقَّرُ وَقَدْ يَكُونُ كَبِيرًا كَالْحَوْضِ وَقَدْ يَكُونُ صَغِيرًا بِحَيْثُ يَتَأَتَّى الْكَسْرُ بِهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُ مَا

ص: 38

يَكْسِرُ بِهِ غَيْرَهُ، أَوْ كَسَرَ بِآلَةِ الْمِهْرَاسِ الَّتِي يُدَقُّ بِهَا فِيهِ كَالْهَاوُنِ فَأَطْلَقَ اسْمُهُ عَلَيْهَا مَجَازًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَوَاللَّهِ مَا قَالُوا حَتَّى نَنْظُرَ وَنَسْأَلَ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ فِي التَّفْسِيرِ: فَوَاللَّهِ مَا سَأَلُوا عَنْهَا وَلَا رَاجَعُوهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ، وَوَقَعَ فِي الْمَظَالِمِ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ أَيْ طُرُقِهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَوَارُدِ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِرَاقَتِهَا حَتَّى جَرَتْ فِي الْأَزِقَّةِ مِنْ كَثْرَتِهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ بَعْضُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْخَمْرَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ لَيْسَتْ نَجِسَةً لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ التَّخَلِّي فِي الطُّرُقِ، فَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً مَا أَقَرَّهُمْ عَلَى إِرَاقَتِهَا فِي الطَّرَقَاتِ حَتَّى تَجْرِيَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَصْدَ بِالْإِرَاقَةِ كَانَ لِإِشَاعَةِ تَحْرِيمِهَا، فَإِذَا اشْتَهَرَ ذَلِكَ كَانَ أَبْلَغَ فَتُحْتَمَلُ أَخَفُّ الْمَفْسَدَتَيْنِ لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الِاشْتِهَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا إِنَّمَا أُرِيقَتْ فِي الطُّرُقِ الْمُنْحَدِرَةِ بِحَيْثُ تَنْصَبُّ إِلَى الْأَسرِبَةِ وَالْحُشُوشِ أَوِ الْأَوْدِيَةِ فَتُسْتَهْلَكُ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ فِي قِصَّةِ صَبِّ الْخَمْرِ قَالَ: فَانْصَبَّتْ حَتَّى اسْتَنْقَعَتْ فِي بَطْنِ الْوَادِي.

وَالتَّمَسُّكُ بِعُمُومِ الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِهَا كَافٍ فِي الْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهَا.

وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِأَنَسٍ) الْقَائِلُ هُوَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَالِدُ مُعْتَمِرٍ، وَقَوْلُهُ: فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ: وَكَانَتْ خَمْرُهُمْ زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَوْمئِذٍ، وَقَوْلُهُ: فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ زَادَ مُسْلِمٌ ذَلِكَ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَنَسٍ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ أَنَسٍ لَمَّا حَدَّثَهُمْ فَكَأَنَّ أَنَسًا حِينَئِذٍ لَمْ يُحَدِّثْهُمْ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ إِمَّا نِسْيَانًا وَإِمَّا اخْتِصَارًا، فَذَكَّرَهُ بِهَا ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ تَحْدِيثُ أَنَسٍ بِهَا كَمَا سَأَذْكُرُهُ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي) الْقَائِلُ هُوَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ أَيْضًا، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَفْرَدَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الطَّرِيقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمئِذٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ حَدَّثَ بِهَا حِينَئِذٍ فَلَمْ يَسْمَعْهُ سُلَيْمَانُ، أَوْ حَدَّثَ بِهَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ فَحَفِظَهَا عَنْهُ الرَّجُلُ الَّذِي حَدَّثَ بِهَا سُلَيْمَانَ، وَهَذَا الْمُبْهَمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، فَإِنَّ رِوَايَتَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ تُومِئُ إِلَى ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَتَادَةُ، فَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: وَإِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمئِذٍ الْخَمْرَ وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا يُسْكِرُ، سَوَاءً كَانَ مِنَ الْعِنَبِ أَوْ مِنْ نَقِيعِ الزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ أَوِ الْعَسَلِ أَوْ غَيْرِهَا. وَأَمَّا دَعْوَى بَعْضِهِمْ أَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي مَاءِ الْعِنَبِ، مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ سَلِمَ فِي اللُّغَةِ لَزِمَ مَنْ قَالَ بِهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَالْكُوفِيُّونَ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الشَّرْعِ فَالْخَمْرُ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ، لِثُبُوتِ حَدِيثِ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي هَذَا اللَّفْظِ لَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَهُ، وَهَذَا مَا لَا انْفِكَاكَ لَهُمْ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يُوسُفُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَهُوَ أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنَ اسْمِهِ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا الْقَطَّانُ وَشُهْرَتُهُ بِالْبَرَّاءِ أَكْثَرُ، وَكَانَ يَبْرِي السِّهَامَ ; وَهُوَ بَصْرِيٌّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرَ سَيَأْتِي فِي الطِّبِّ وَكِلَاهُمَا فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَقَدْ لَيَّنَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَوَثَّقَهُ الْمُقَدَّمِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ اسْمُ جَدِّهِ جُبَيْرٌ بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرًا ابْنُ حَيَّةَ بِالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَثَّقَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ الْحَاكِمُ، عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَمَا لَهُ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرَ تَقَدَّمَ فِي الْجِزْيَةِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمئِذٍ الْبُسْرُ) هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو مَعْشَرٍ مُخْتَصَرًا، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِهَذَا السَّنَدِ مُطَوَّلًا، وَلَفْظُهُ عَنْ أَنَسٍ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَدَخَلْتُ عَلَى أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِي وَهِيَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَضَرَبْتُهَا بِرِجْلِي فَقُلْتُ: انْطَلِقُوا فَقَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَشَرَابُهُمْ

ص: 39

يَوْمئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْ أَنَسٍ كَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ فَسَمِعَ النِّدَاءَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَرَجَعَ فَأَخْبَرَهُمْ. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ: فَأَرَاقُوا الشَّرَابَ وَتَوَضَّأَ بَعْضٌ وَاغْتَسَلَ بَعْضٌ، وَأَصَابُوا مِنْ طِيبِ أُمِّ سُلَيْمٍ وَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الْآيَةَ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَانَ مُبَاحًا لَا إِلَى نِهَايَةٍ، ثُمَّ حُرِّمَتْ. وَقِيلَ: كَانَ الْمُبَاحُ الشُّرْبَ لَا السُّكْرَ الْمُزِيلَ لِلْعَقْلِ، وَحَكَاهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي تَفْسِيرُهُ عَنِ الْقَفَّالِ، وَنَازَعَهُ فِيهِ. وَبَالَغَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: مَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْصِيلَ عِنْدَهُ أَنَّ السُّكْرَ لَمْ يَزَلْ مُحَرَّمًا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ وُجُودُ السُّكْرِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، وَنُهُوا عَنِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا فِي غَيْرِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاقِعًا. وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ حَمْزَةَ وَالشَّارِفَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي مَكَانِهِ.

وَعَلَى هَذَا فَهَلْ كَانَتْ مُبَاحَةً بِالْأَصْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ ثُمَّ نُسِخَتْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ يُسَمَّى خَمْرًا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا فِي بَابِ مَا جَاءَ أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَعَلَى أَنَّ السَّكَرَ الْمُتَّخَذَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهِ كَمَا يَحْرُمُ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنَ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ إِذَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ تَحْرِيمَ مَا يُتَّخَذُ لِلسُّكْرِ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا. وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ مِنَ الْكُوفِيِّينَ فَقَالُوا: يَحْرُمُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا إِلَّا إِذَا طُبِخَ عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ.

وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْخَمْرِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَعَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِهِ كَوْنُهُ يَدْعُو إِلَى تَنَاوُلِ كَثِيرِهِ، فَيَلْزَمُ ذَلِكَ مَنْ فَرَّقَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ وَبَيْنَ الْمُتَّخَذِ مِنْ غَيْرِهَا فَقَالَ فِي الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ: يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ وَالْكَثِيرُ إِلَّا إِذَا طُبِخَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَفِي الْمُتَّخَذِ مِنْ غَيْرِهَا لَا يَحْرُمُ مِنْهُ إِلَّا الْقَدْرُ الَّذِي يُسْكِرُ وَمَا دُونَهُ لَا يَحْرُمُ، فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِدَعْوَى الْمُغَايَرَةِ فِي الِاسْمِ مَعَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ فِيهِمَا، فَإِنَّهُ كُلُّ مَا قُدِّرَ فِي الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ يُقَدَّرُ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا مِنْ أَرْفَعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ لِمُسَاوَاةِ الْفَرْعِ فِيهِ لِلْأَصْلِ فِي جَمِيعِ أَوْصَافِهِ، مَعَ مُوَافَقَتِهِ فِيهِ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ الْخَمْرُ حَرَامٌ، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ حَرَامٌ، وَلَا يَحْرُمُ الْمُسْكِرُ مِنْهُ حَتَّى يُسْكِرَ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهَا. فَقُلْتُ: كَيْفَ خَالَفْتَ مَا جَاءَ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَنْ عُمَرَ ثُمَّ عَنْ عَلِيٍّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافَهُ؟ قَالَ: وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ، قُلْتُ: فِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَشَارَ إِلَى رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ ذِي لَعْوَةَ أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ سَطِيحَةٍ لِعُمَرَ فَسَكِرَ فَجَلَدَهُ عُمَرُ، قَالَ: إِنَّمَا شَرِبْتُ مِنْ سَطِيحَتِكَ. قَالَ: أَضْرِبُكَ عَلَى السُّكْرِ. وَسَعِيدٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يُعْرَفُ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَعِيدُ بْنُ ذِي حُدَّانَ، وَهُوَ غَلَطٌ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي جَاءَتْ فِي كَسْرِ النَّبِيذِ بِالْمَاءِ، مِنْهَا حَدِيثُ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَ مِنْهُ فَقَطَّبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَبِيذَ الطَّائِفِ لَهُ عُرَامٌ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ - ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ، وَهُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّهُ بَلَغَ حَدَّ الْإِسْكَارِ، فَلَوْ كَانَ بَلَغَ حَدَّ الْإِسْكَارِ لَمْ يَكُنْ صَبُّ الْمَاءِ عَلَيْهِ مُزِيلًا لِتَحْرِيمِهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الطَّحَاوِيُّ بِذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ كَانَ بَلَغَ التَّحْرِيمَ لَكَانَ لَا يَحِلُّ، وَلَوْ ذَهَبَتْ شِدَّتُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ كَانَ غَيْرَ حَرَامٍ. قُلْتُ: وَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِسْكَارِ فَلَا خِلَافَ فِي إِبَاحَةِ شُرْبِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ،

ص: 40

فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَقْطِيبَهُ لِأَمْرٍ غَيْرُ الْإِسْكَارِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَمْلُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ عَلَى أَنَّهُمْ خَشُوا أَنْ تَتَغَيَّرَ فَتَشْتَدُّ، فَجَوَّزُوا صَبَّ الْمَاءِ فِيهَا لِيَمْتَنِعَ الِاشْتِدَادُ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ بَلَغَتْ حَدَّ الْإِسْكَارِ، فَكَانَ صَبُّ الْمَاءِ عَلَيْهَا لِذَلِكَ. لِأَنَّ مَزْجَهَا بِالْمَاءِ لَا يَمْنَعُ إِسْكَارَهَا إِذَا كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ حَدَّ الْإِسْكَارِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ صَبِّ الْمَاءِ كَوْنَ ذَلِكَ الشَّرَابِ كَانَ حَمُضَ، وَلِهَذَا قَطَّبَ عُمَرُ لَمَّا شَرِبَهُ، فَقَدْ قَالَ نَافِعٌ: وَاللَّهِ مَا قَطَّبَ عُمَرُ وَجْهَهُ لِأَجْلِ الْإِسْكَارِ حِينَ ذَاقَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ تَخَلَّلَ.

وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيذُ الَّذِي شَرِبَهُ عُمَرُ قَدْ تَخَلَّلَ، قُلْتُ: وَهَذَا الثَّانِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَعَنِ الْعُمَرِيِّ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا كَسَرَهُ بِالْمَاءِ لِشِدَّةِ حَلَاوَتِهِ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى حَالَتَيْنِ: هَذِهِ لَمَّا لَمْ يُقَطِّبْ حِينَ ذَاقَهُ وَأَمَّا عِنْدَمَا قَطَّبَ فَكَانَ لِحُمُوضَتِهِ. وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لِمَذْهَبِهِمْ أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، قَالَ: هِيَ الشَّرْبَةُ الَّتِي تُسْكِرُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ النَّخَعِيِّ، وَحَجَّاجٌ هُوَ ضَعِيفٌ وَمُدَلِّسٌ أَيْضًا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ذُكِرَ هَذَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: هَذَا بَاطِلٌ. وَرَوَى بِسَنَدٍ لَهُ صَحِيحٍ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: إِذَا سَكِرَ مِنْ شَرَابٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَعُودَ فِيهِ أَبَدًا. قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ ثُمَّ رَوَى النَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مَا وَجَدْتُ الرُّخْصَةَ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ إِلَّا عَنِ النَّخَعِيِّ مِنْ قَوْلِهِ.

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْأَثْرَمُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: عَطِشَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَطُوفُ فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ مِنَ السِّقَايَةِ فَقَطَّبَ، فَقِيلَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، عَلَيَّ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَصَبَّ عَلَيْهِ وَشَرِبَ، قَالَ الْأَثْرَمُ: احْتَجَّ بِهِ الْكُوفِيُّونَ لِمَذْهَبِهِمْ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّبِيذَ إِذَا اشْتَدَّ بِغَيْرِ طَبْخٍ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ الَّذِي شَرِبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَقَدْ نَسَبُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَ الْمُسْكِرَ، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ قَطَّبَ مِنْ حُمُوضَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّ النَّقِيعَ مَا لَمْ يَشْتَدَّ فَكَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ حَلَالٌ بِالِاتِّفَاقِ. قُلْتُ: وَقَدْ ضُعِّفَ حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ الْمَذْكُورُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِهِمْ، لِتَفَرُّدِ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ بِرَفْعِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ رَوَى النَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مَا وَجَدْتُ الرُّخْصَةَ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ إِلَّا عَنِ النَّخَعِيِّ مِنْ قَوْلِهِ.

‌4 - بَاب الْخَمْرُ مِنْ الْعَسَلِ،

وَهُوَ الْبِتْعُ. وَقَالَ مَعْنٌ سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ الْفُقَّاعِ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يُسْكِرْ فَلَا بَأْسَ به. وَقَالَ ابْنُ الدَّرَاوَرْدِيِّ سَأَلْنَا عَنْهُ فَقَالُوا: لَا يُسْكِرُ، لَا بَأْسَ بِهِ

5585 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبِتْعِ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ.

5586 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبِتْعِ - وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ.

5587 -

وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَنْتَبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَلَا فِي الْمُزَفَّتِ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهَا الْحَنْتَمَ وَالنَّقِيرَ.

ص: 41

قَوْلُهُ (بَابُ الْخَمْرِ مِنَ الْعَسَلِ وَهُوَ الْبِتْعُ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ وَقَدْ تُفْتَحُ وَهِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ مَعْنُ) ابْنُ عِيسَى (سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنِ الْفُقَّاعِ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مَعْرُوفٌ، قَدْ يُصْنَعُ مِنَ الْعَسَلِ وَأَكْثَرُ مَا يُصْنَعُ مِنَ الزَّبِيبِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ مَا دَامَ طَرِيًّا يَجُوزُ شُرْبُهُ مَا لَمْ يَشْتَدَّ.

قوله (فقال إذا لم يسكر فلا بأس به) أي وإذا أسكر حرم كثيره وقليله.

قوله (وقال ابن الدراوردي) هو عبد العزيز بن محمد، وهذا من رواية معن بن عيسى عنه أيضا.

قوله (فقالوا لا يسكر لا بأس به) لم أعرف الذين سألهم الدراوردي عن ذلك، لكن الظاهر أنهم فقهاء أهل المدينة في زمانه، وهو قد شارك مالكا في لقاء أكثر مشايخه المدنيين، والحكم في الفقاع ما أجابوه به، لأنه لا يسمى فقاعا إلا إذا لم يشتد. وهذا الأثر ذكره معن بن عيسى القزاز في الموطأ رواية عن مالك، وقد وقع لنا بالإجازة. وغفل بعض الشراح فقال: إن معن بن عيسى من شيوخ البخاري فيكون له حكم الاتصال، كذا قال والبخاري لم يلق معن بن عيسى لأنه مات بالمدينة والبخاري حينئذ ببخارى وعمره حينئذ أربع سنين، وكأن البخاري أراد بذكر هذا الأثر في الترجمة أن المراد بتحريم قليل ما أسكر كثيره أن يكون الكثير في تلك الحالة مسكرا، فلو كان الكثير في تلك الحالة لا يسكر لم يحرم قليله ولا كثيره، كما لو عصر العنب وشربه في الحال. وسيأتي مزيد في بيان ذلك في باب البازق إن شاء الله تعالى.

قَوْلُهُ: (سُئِلَ عَنِ الْبِتْعِ) زَادَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ وَمِثْلُهُ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ مَنْ دُونَهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ مِثْلُ رِوَايَةِ مَالِكٍ، لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: وَالْبِتْعُ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي احْتِمَالِ الْإِدْرَاجِ. لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَقَعُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّائِلِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ صَرِيحًا، لَكِنَّنِي أَظُنُّهُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا فَقَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ.

قُلْتُ لِأَبِي بُرْدَةَ: مَا الْبِتْعُ؟ قَالَ: نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بِلَفْظِ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ: الْبِتْعُ مِنَ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْمِزْرُ مِنَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ، فَقَالَ: أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تَفْسِيرَ الْبِتْعِ مَرْفُوعٌ وَلَفْظُهُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَرَابٍ مِنَ الْعَسَلِ، فَقَالَ: ذَاكَ الْبِتْعُ، قُلْتُ: وَمِنَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، قَالَ: ذَاكَ الْمِزْرُ. ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَقَدْ سَأَلَ أَبُو وَهْبٍ الْجَيْشَانِيُّ عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَهُ أَبُو مُوسَى، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمِزْرِ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَفْسِيرُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَخْصِيصَ التَّحْرِيمِ بِحَالَةِ الْإِسْكَارِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ فِيهِ صَلَاحِيَةُ الْإِسْكَارِ حَرُمَ تَنَاوُلُهُ وَلَوْ لَمْ يَسْكَرِ الْمُتَنَاوِلُ بِالْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مِنْهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ لَفْظِ السُّؤَالِ أَنَّهُ وَقَعَ عَنْ حُكْمِ جِنْسِ الْبِتْعِ لَا عَنِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ السَّائِلُ ذَلِكَ لَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَمَّا يَحِلُّ مِنْهُ وَمَا يَحْرُمُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ إِذَا سَأَلُوا عَنِ الْجِنْسِ قَالُوا: هَلْ هَذَا نَافِعٌ أَوْ ضَارٌّ؟ مَثَلًا.

وَإِذَا سَأَلُوا عَنِ الْقَدْرِ قَالُوا: كَمْ يُؤْخَذُ مِنْهُ؟ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُفْتِيَ يُجِيبُ السَّائِلَ بِزِيَادَةٍ عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ

ص: 42

مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّائِلُ. وَفِيهِ تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ سَوَاءٌ كَانَ مُتَّخَذًا مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَصِيرَ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ حَلَالٌ، وَعَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ وَغَلَى وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ حَرُمَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، ثُمَّ لَوْ حَصَلَ لَهُ تَخَلُّلٌ بِنَفْسِهِ حَلَّ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا، فَوَقَعَ النَّظَرُ فِي تَبَدُّلُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ عِنْدَ هَذِهِ الْمُتَّخَذَاتِ فَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ الْإِسْكَارُ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَرَابٍ وُجِدَ فِيهِ الْإِسْكَارُ حَرُمَ تَنَاوُلُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ اسْتِنْبَاطًا ثَبَتَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْخَبَرِ، فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مِثْلُهُ، وَسَنَدُهُ إِلَى عَمْرٍو صَحِيحٌ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرْقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ، وَلِابْنِ حِبَّانَ، وَالطَّحَاوِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الطَّحَاوِيُّ بِصِحَّةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، لَكِنْ قَالَ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ جِنْسَ مَا يُسْكِرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ أَرَادَ بِهِ مَا يَقَعُ السُّكْرُ عِنْدَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُسَمَّى قَاتِلًا حَتَّى يَقْتُلَ، قَالَ: وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ. قُلْتُ: وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَانْقِطَاعِهِ وَفِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَقَدْ رَجَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ بِلَفْظِ وَالْمُسْكِرِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ لَا السُّكْرُ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ أَوْ بِفَتْحَتَيْنِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا فَهُوَ حَدِيثُ فَرْدٍ وَلَفْظُهُ مُحْتَمَلٌ، فَكَيْفَ يُعَارِضُ عُمُومَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ مَعَ صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا؟ وَجَاءَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَالطَّبَرَانِيِّ وَعَنْ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْحَاكِمِ، وَالطَّبَرَانِيِّ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَفِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ، لَكِنَّهَا تَزِيدُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي قَبْلَهَا قُوَّةً وَشُهْرَةً.

قَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ - وَكَانَ حَنَفِيًّا فَتَحَوَّلَ شَافِعِيًّا -: ثَبَتَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ، ثُمَّ سَاقَ كَثِيرًا مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: وَالْأَخْبَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَلَا مَسَاغَ لِأَحَدٍ فِي الْعُدُولِ عَنْهَا وَالْقَوْلُ بِخِلَافِهَا، فَإِنَّهَا حُجَجٌ قَوَاطِعُ. قَالَ: وَقَدْ زَلَّ الْكُوفِيُّونَ فِي هَذَا الْبَابِ وَرَوَوْا أَخْبَارًا مَعْلُولَةً لَا تُعَارِضَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِحَالٍ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ مُسْكِرًا فَقَدْ دَخَلَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ وَبَاءَ بِإِثْمٍ كَبِيرٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي شَرِبَهُ كَانَ حُلْوًا وَلَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا. وَقَدْ رَوَى ثُمَامَةُ بْنُ حَزْنٍ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيذِ فَدَعَتْ جَارِيَةً حَبَشِيَّةً فَقَالَتْ: سَلْ هَذِهِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتِ الْحَبَشِيَّةُ: كُنْتُ أَنْبِذُ لَهُ فِي سِقَاءٍ مِنَ اللَّيْلِ وَأُوكِئُهُ وَأُعَلِّقُهُ فَإِذَا أَصْبَحَ شَرِبَ مِنْهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَرَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ ثُمَّ قَالَ: فَقِيَاسُ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ وَالِاضْطِرَابِ مِنْ أَجَلِّ الْأَقْيِسَةِ وَأَوْضَحِهَا، وَالْمَفَاسِدُ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْخَمْرِ تُوجَدُ فِي النَّبِيذِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عِلَّةَ الْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ لِكَوْنِ قَلِيلِهِ يَدْعُو إِلَى كَثِيرِهِ مَوْجُودَةٌ فِي النَّبِيذِ، لِأَنَّ السُّكْرَ مَطْلُوبٌ عَلَى الْعُمُومِ، وَالنَّبِيذُ عِنْدَهُمْ عِنْدَ عَدَمِ الْخَمْرِ يَقُومُ مَقَامَ الْخَمْرِ لِأَنَّ حُصُولَ الْفَرَحِ وَالطَّرَبِ مَوْجُودٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ فِي النَّبِيذِ غِلَظٌ وَكُدْرَةٌ وَفِي الْخَمْرِ رِقَّةٌ وَصَفَاءٌ لَكِنِ الطَّبْعُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فِي النَّبِيذِ لِحُصُولِ السُّكْرِ كَمَا تُحْتَمَلُ الْمَرَارَةُ فِي الْخَمْرِ لِطَلَبِ السُّكْرِ، قَالَ: وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالنُّصُوصُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مُغْنِيَةٌ عَنِ الْقِيَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَا يَصِحُّ فِي حِلِّ النَّبِيذِ الَّذِي يُسْكِرُ كَثِيرُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ، إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ عَائِشَةَ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ

ص: 43

ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي وَائِلٍ: كُنَّا نَدْخُلُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَيَسْقِينَا نَبِيذًا شَدِيدًا، وَمِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ: أَكَلْتُ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأُتِينَا بِنَبِيذٍ شَدِيدٍ نَبَذَتْهُ سِيرِينُ فَشَرِبُوا مِنْهُ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا لَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَكُنْ مُعَارِضًا لِلْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ.

ثَانِيهَا أَنَّهُ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ تَحْرِيمُ الْمُسْكِرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، فَإِذَا اخْتَلَفَ النَقْلُ عَنْهُ كَانَ قوله الْمُوَافِقُ لِقَوْلِ إِخْوَانِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعَ مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَوْلَى. ثَالِثُهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشِّدَّةِ شِدَّةَ الْحَلَاوَةِ أَوْ شِدَّةَ الْحُمُوضَةِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلًا. وَأَسْنَدَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ، وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ نَقَلَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَصْلَ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْهِدَايَةِ وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِهِمُ اطِّلَاعًا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ نَقْلُ هَذَا عَنِ ابْنِ مَعِينٍ اهـ.

وَكَيْفَ يَتَأَتَّى الْقَوْلُ بِتَضْعِيفِهِ مَعَ وُجُودِ مَخَارِجِهِ الصَّحِيحَةِ ثُمَّ مَعَ كَثْرَةِ طُرُقِهِ، حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنَّهَا جَاءَتْ عَنْ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا، فَأَوْرَدَ كَثِيرًا مِنْهَا فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ الْمُفْرَدِ، فَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ أَوَّلَ الْبَابِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ بِلَفْظِ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى وَفِيهِ الْإِفْرِيقِيُّ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: اجْتَنِبُوا مَا أَسْكَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَهُوَ حَسَنٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقٍ لَيِّنٍ بِلَفْظِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَيِّنٍ أَيْضًا بِلَفْظِ عَلِيٍّ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ: مَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ الْأَشَجِّ الْعَصْرِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى كَذَلِكَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَحَدِيثُ دَيْلَمٍ الْحِمْيَرِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ فِي حَدِيثٍ فِيهِ: قَالَ هَلْ يُسْكِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاجْتَنِبُوهُ، وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِلَفْظِ: وَكُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ جَيِّدٍ بِلَفْظِ عُمَرَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقٍ لَيِّنٍ بِلَفْظِ: وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ، وَحَدِيثُ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ حَدِيثِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِلَفْظِ: وَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِلَفْظِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ

أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَحَدِيثُ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ الْمُزَنِيِّ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ عُمَرَ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِ: اجْتَنِبُوا الْمُسْكِرَ، وحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِلَفْظِ: نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ وَلَفْظُهُ مِثْلُ لَفْظِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ كَذَلِكَ، ذَكَرَ أَحَادِيثَ هَؤُلَاءِ التِّرْمِذِيُّ فِي الْبَابِ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ عُمَرَ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ عَلِيٍّ: اجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ، وَعَنِ الرَّسِيمِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِ: اشْرَبُوا فِيمَا شِئْتُمْ وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا، وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِنَحْوِ هَذَا اللَّفْظِ، وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ: يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنِ الْمُسْكِرِ لَا تَشْرَبْهُ وَلَا تَسْقِهْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ صُحَارٍ الْعَبْدِيِّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِنَحْوِ هَذَا، وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ النُّعْمَانِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ فِي الْأَشْرِبَةِ وَكَذَا عِنْدَهُ عَنْ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَإِذَا انْضَمَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي مُوسَى، وَعَائِشَةَ زَادَتْ عَنْ ثَلَاثِينَ صَحَابِيًّا، وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَنْهُمْ جِيَادٌ وَمَضْمُونُهَا أَنَّ الْمُسْكِرَ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ بَلْ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ رَدَّ أَنَسٌ الِاحْتِمَالَ الَّذِي جَنَحَ إِلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ سَمِعْتُ

ص: 44

الْمُخْتَارَ بْنَ فُلْفُلٍ يَقُولُ: سَأَلْتُ أَنَسًا فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَفَّتِ وَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: صَدَقْتَ الْمُسْكِرُ حَرَامٌ، فَالشَّرْبَةُ وَالشَّرْبَتَانِ عَلَى الطَّعَامِ؟ فَقَالَ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ، وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَالصَّحَابِيُّ أَعْرَفُ بِالْمُرَادِ مِمَّنْ تَأَخَّرَ بَعْدَهُ، وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مَا قَالَ، وَاسْتُدِلَّ بِمُطْلَقِ قَوْلِهِ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُسْكِرُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرَابًا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَشِيشَةُ وَغَيْرُهَا، وَقَدْ جَزَمَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهَا مُسْكِرَةٌ، وَجَزَمَ آخَرُونَ بِأَنَّهَا مُخَدِّرَةٌ، وَهُوَ مُكَابَرَةٌ لِأَنَّهَا تُحْدِثُ بِالْمُشَاهَدَةِ مَا يُحْدِثُ الْخَمْرُ مِنَ الطَّرَبِ وَالنَّشْأَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا وَالِانْهِمَاكِ فِيهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُسْكِرَةٍ فَقَدْ ثَبَتَ فِي أَبِي دَاوُدَ النَّهْيُ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ وَهُوَ بِالْفَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَعَنِ الزُّهْرِيِّ) هُوَ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ وَأَفْرَدَهُ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهُمَا الْحَنْتَمَ وَالنَّقِيرَ) الْقَائِلُ هَذَا هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَقَعَ ذَلِكَ عِنْدَ شُعَيْبٍ عَنْهُ مُرْسَلًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا تَنْبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَلَا فِي الْمُزَفَّتِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاجْتَنِبُوا الْحَنَاتِمَ، وَرَفَعَهُ كُلَّهُ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: نَهَى عَنِ الْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ، وَمِثْلُهُ لِابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ فِيهِ وَالدُّبَّاءُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي أَوَائِلِ الصَّحِيحِ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ.

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ زَاذَانَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الْأَوْعِيَةِ فَقُلْتُ: أُخْبِرْنَاهُ بِلُغَتِكُمْ وَفَسِّرْهُ لَنَا بِلُغَتِنَا، فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَنْتَمَةِ وَهِيَ الْجَرَّةُ، وَعَنِ الدُّبَّاءِ وَهِيَ الْقَرْعَةِ، وَعَنِ النَّقِيرِ وَهِيَ أَصْلُ النَّخْلَةِ تُنْقَى نَقْرًا، وَعَنِ الْمُزَفَّتِ وَهُوَ الْمُقَيَّرُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: نُهِينَا عَنْ الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ، فَأَمَّا الدُّبَّاءُ فَإِنَّا مَعْشَرُ ثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ كُنَّا نَأْخُذُ الدُّبَّاءَ فَنَخْرُطُ فِيهَا عَنَاقِيدَ الْعِنَبِ ثُمَّ نَدْفِنُهَا ثُمَّ نَتْرُكُهَا حَتَّى تُهْدَرَ ثُمَّ تَمُوتُ، وَأَمَّا النَّقِيرُ فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَامَةِ كَانُوا يَنْقُرُونَ أَصْلَ النَّخْلَةِ فَيَشْدَخُونَ فِيهِ الرُّطَبَ وَالْبُسْرَ ثُمَّ يَدْعُونَهُ حَتَّى يُهْدَرَ ثُمَّ يَمُوتُ، وَأَمَّا الْحَنْتَمُ فَجِرَارٌ جَاءَتْ تُحْمَلُ إِلَيْنَا فِيهَا الْخَمْرُ، وَأَمَّا الْمُزَفَّتُ فَهِيَ هَذِهِ الْأَوْعِيَةُ الَّتِي فِيهَا هَذَا الزِّفْتُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ نَسْخِ النَّهْيِ عَنِ الْأَوْعِيَةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

(تَنْبِيهٌ):

قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَجْهُ إِدْخَالِ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي النَّهْيِ فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَرْجَمَةِ الْخَمْرِ مِنَ الْعَسَلِ أَنَّ الْعَسَلَ لَا يَكُونُ مُسْكِرًا إِلَّا بَعْدَ الِانْتِبَاذِ، وَالْعَسَلُ قَبْلَ الِانْتِبَاذِ مُبَاحٌ، فَأَشَارَ إِلَى اجْتِنَابِ بَعْضِ مَا يُنْتَبَذُ فِيهِ لِكَوْنِهِ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْإِسْكَارُ.

‌5 - بَاب مَا جَاءَ فِي أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ الشَّرَابِ

5588 -

حَدَّثَني أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا عَهْدًا: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّياء. قَالَ قُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، فَشَيْءٌ يُصْنَعُ

ص: 45

بِالسِّنْدِ مِنْ الْأُرْزِ؟ قَالَ: ذَاكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ: عَلَى عَهْدِ عُمَرَ.

وَقَالَ حَجَّاجٌ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ مَكَانَ الْعِنَبِ: الزَّبِيبَ.

5589 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: الْخَمْرُ تصْنَعُ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنْ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنَ الشَّرَابِ) كَذَا قَيَّدَهُ بِالشَّرَابِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ غَيْرَ الشَّرَابِ مَا يُسْكِرُ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسَمَّى خَمْرًا أَمْ لَا؟

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ) هُوَ أَبُو الْوَلِيدِ الْهَرَوِيُّ وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَأَبُو حَيَّانَ هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التَّيْمِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الشَّعْبِيِّ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.

قَوْلُهُ: (خَطَبَ عُمَرُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِدْرِيسٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ بِسَنَدِهِ سَمِعْتُ عُمَرَ يَخْطُبُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي التَّفْسِيرِ وَزَادَ فِيهِ أَيُّهَا النَّاسُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ) زَادَ مُسَدَّدٌ فِيهِ عَنِ الْقَطَّانِ فِيهِ أَمَّا بَعْدُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْأَشْرِبَةِ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُسَدَّدٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي حَالِ كَوْنِهَا تُصْنَعُ مِنْ خَمْسَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافِيَّةً أَوْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْخَمْرَ تُصْنَعُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِوَقْتِ نُزُولِهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: أَلَا وَإِنَّ الْخَمْرَ نَزَلَ تَحْرِيمُهَا يَوْمَ نَزَلَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ نَعَمْ وَقَعَ فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَإِنَّ الْخَمْرَ تُصْنَعُ مِنْ خَمْسَةٍ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْعِنَبِ إِلَخْ) هَذَا الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ أَصْحَابُ الْمَسَانِيدِ وَالْأَبْوَابِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ لِأَنَّ لَهُ عِنْدَهُمْ حُكْمَ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ خَبَرُ صَحَابِيٍّ شَهِدَ التَّنْزِيلَ أَخْبَرَ عَنْ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَقَدْ خَطَبَ بِهِ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِحَضْرَةِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ إِنْكَارُهُ، وَأَرَادَ عُمَرُ بِنُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَهِيَ آيَةُ الْمَائِدَةِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إِلَى آخِرِهَا. فَأَرَادَ عُمَرُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ خَاصًّا بِالْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ بَلْ يَتَنَاوَلُ الْمُتَّخَذَ مِنْ غَيْرِهَا، وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمَاضِي فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْعِنَبِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الَّذِي قَالَهُ عُمَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَرِيحًا: فَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ الْخَمْرَ مِنَ الْعَصِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، وَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ، لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ، وَزَادَ فِيهِ أَنَّ النُّعْمَانَ خَطَبَ النَّاسَ بِالْكُوفَةِ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بِلَفْظِ: إِنَّ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْبُرِّ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهَا أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا فِيهَا الزَّبِيبُ دُونَ الْعَسَلِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ قَالَ: الْخَمْرُ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ قَالَ: الْخَمْرُ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَهِيَ فَذَكَرَهَا وَزَادَ الذُّرَةَ، وَأَخْرَجَ الْخُلَعِيُّ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ خَلَّادِ بْنِ

ص: 46

السائِبِ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ مِثْلَ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، لَكِنْ ذَكَرَ الزَّبِيبَ بَدَلَ الشَّعِيرِ، وَسَنَدُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمئِذٍ خَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا شَرَابُ الْعِنَبِ.

قَوْلُهُ: (الذُّرَةُ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ مِنَ الْحُبُوبِ مَعْرُوفَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي الْبَابِ قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ (وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ) أَيْ غَطَّاهُ أَوْ خَالَطَهُ فَلَمْ يَتْرُكْهُ عَلَى حَالِهِ وَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، وَالْعَقْلُ هُوَ آلَةُ التَّمْيِيزِ فَلِذَلِكَ حُرِّمَ مَا غَطَّاهُ أَوْ غَيْرُهُ، لِأَنَّ بِذَلِكَ يَزُولُ الْإِدْرَاكُ الَّذِي طَلَبَهُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ لِيَقُومُوا بِحُقُوقِهِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا تَعْرِيفٌ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الْعُرْفِ فَهُوَ مَا يُخَامِرُ الْعَقْلَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَاصَّةً، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ عُمَرَ لَيْسَ فِي مَقَامِ تَعْرِيفِ اللُّغَةِ بَلْ هُوَ فِي مَقَامِ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْخَمْرُ الَّذِي وَقَعَ تَحْرِيمُهُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ هُوَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. عَلَى أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ اخْتِلَافًا فِي ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ الْخَمْرَ فِي اللُّغَةِ يَخْتَصُّ بِالْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ، فَالِاعْتِبَارُ بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ تَوَارَدَتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْمُسْكِرَ مِنَ الْمُتَّخَذِ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ يُسَمَّى خَمْرًا، وَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ.

لَيْسَ الْمُرَادُ الْحَصْرَ فِيهِمَا لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْخَمْرَ تُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِهِمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ شَرْعًا لَا تَخْتَصُّ بِالْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ، قُلْتُ: وَجَعَلَ الطَّحَاوِيُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُتَعَارِضَةً، وَهِيَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ شَيْئَيْنِ مَعَ حَدِيثِ عُمَرَ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ الْخَمْرَ تُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَكَذَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ وَحَدِيثُ أَنَسٍ يَعْنِي الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ وَبَيَانُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ مِنْهَا: أنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَشَرَابُهُمُ الْفَضِيخُ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ إِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمئِذٍ خَمْرًا، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: إِنَّ الْخَمْرَ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، قَالَ: فَلَمَّا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ وَوَجَدْنَا اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ عَصِيرَ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ وَغَلَى وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَهُوَ خَمْرٌ وَأَنَّ مُسْتَحِلَّهُ كَافِرٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِذْ لَوْ عَمِلُوا بِهِ لَكَفَّرُوا مُسْتَحِلَّ نَبِيذِ التَّمْرِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخَمْرِ غَيْرُ الْمُتَّخَذِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ اهـ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ لَمْ يُكَفِّرُوا مُسْتَحِلَّ نَبِيذِ التَّمْرِ أَنْ يَمْنَعُوا تَسْمِيَتَهُ خَمْرًا فَقَدْ يَشْتَرِكُ الشَّيْئَانِ فِي التَّسْمِيَةِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي بَعْضِ الْأَوْصَافِ، مَعَ أَنَّهُ هُوَ يُوَافِقُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُسْكِرِ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ حُكْمُ قَلِيلِ الْعِنَبِ فِي التَّحْرِيمِ، فَلَمْ تَبْقَ الْمُشَاحَحَةُ إِلَّا فِي التَّسْمِيَةِ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ بِحَمْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الْغَالِبِ ; أَيِ أَكْثَرُ مَا يُتَّخَذُ الْخَمْرُ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ عُمَرَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى إِرَادَةِ اسْتِيعَابِ ذِكْرِ مَا عُهِدَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يُتَّخَذُ مِنْهُ الْخَمْرُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فَعَلَى إِرَادَةِ تَثْبِيتِ أَنَّ الْخَمْرَ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ، لِأَنَّ نُزُولَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لَمْ يُصَادِفْ عِنْدَ مَنْ خُوطِبَ بِالتَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ إِلَّا مَا يُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ أَوْ عَلَى إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ، فَأَطْلَقَ نَفْيَ وُجُودِهَا بِالْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيهَا بِقِلَّةٍ، فَإِنَّ تِلْكَ الْقِلَّةَ بِالنِّسْبَةِ لِكَثْرَةِ الْمُتَّخَذِ مِمَّا عَدَاهَا كَالْعَدَمِ. وَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ سُمِّيَ الْخَمْرُ لِكَوْنِهِ خَامِرًا لِلْعَقْلِ أَيْ سَاتِرًا لَهُ، وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لِلْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ خَاصَّةً، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لِلْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لِغَيْرِ الْمَطْبُوخِ، فَرُجِّحَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَسْتُرُ الْعَقْلَ يُسَمَّى خَمْرًا حَقِيقَةً، وَكَذَا قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا لِسَتْرِهَا الْعَقْلَ أَوْ لِاخْتِمَارِهَا. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ، وَأَبُو نَصْرٍ الْجَوْهَرِيُّ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: سُمِّيَتِ الْخَمْرُ لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى اخْتَمَرَتْ، وَاخْتِمَارُهَا تَغَيُّرُ رَائِحَتِهَا.

وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمُخَامَرَتِهَا الْعَقْلَ، نَعَمْ جَزَمَ ابْنُ سِيدَهْ فِي

ص: 47

الْمُحْكَمِ بِأَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةٌ إِنَّمَا هِيَ لِلْعِنَبِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْمُسْكِرَاتِ يُسَمَّى خَمْرًا مَجَازًا. وَقَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ فِي حَدِيثِ إِيَّاكُمْ وَالْغُبَيْرَاءَ فَإِنَّهَا خَمْرُ الْعَالَمِ هِيَ نَبِيذُ الْحَبَشَةِ مُتَّخَذَةٌ مِنَ الذُّرَةِ سُمِّيَتِ الْغُبَيْرَاءَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَبَرَةِ. وَقَوْلُهُ: خَمْرُ الْعَالَمِ أَيْ هِيَ مِثْلُ خَمْرِ الْعَالَمِ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا. قُلْتُ: وَلَيْسَ تَأْوِيلُهُ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ قَالَ: أَرَادَ أَنَّهَا مُعْظَمُ خَمْرِ الْعَالَمِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْخَمْرُ عِنْدَنَا مَا اعْتُصِرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَقَوْلُهُ: الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ، قَالَ: وَلَنَا إِطْبَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى تَخْصِيصِ الْخَمْرِ بِالْعِنَبِ، وَلِهَذَا اشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ قَطْعِيٌّ وَتَحْرِيمُ مَا عَدَا الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ ظَنِّيٌّ، قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْخَمْرُ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ لَا لِمُخَامَرَةِ الْعَقْلَ، قَالَ: وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنَ الِاسْمِ خَاصًّا فِيهِ، كَمَا فِي النَّجْمِ فَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الظُّهُورِ ثُمَّ هُوَ خَاصٌّ بِالثُّرَيَّا اهـ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى ثُبُوتُ النَّقْلِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ يُسَمَّى خَمْرًا.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْرِفُ الْخَمْرَ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ سَمَّوْا غَيْرَ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرًا، عَرَبٌ فُصَحَاءُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْمُ صَحِيحًا لَمَا أَطْلَقُوهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ الْكُوفِيُّونَ إِنَّ الْخَمْرَ مِنَ الْعِنَبِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {أَعْصِرُ خَمْرًا} قَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ هُوَ مَا يُعْتَصَرُ لَا مَا يُنْتَبَذُ، قَالَ: وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْحَصْرِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَسَائِرُ الْحِجَازِيِّينَ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا اتُّخِذَ مِنَ الْعِنَبِ، وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا نَزَلَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَهِمَ الصَّحَابَةُ وَهُمُ أَهْلُ اللِّسَانِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُسَمَّى خَمْرًا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ فَأَرَاقُوا الْمُتَّخَذَ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ وَلَمْ يَخُصُّوا ذَلِكَ بِالْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَإِذَا ثَبَتَ تَسْمِيَةُ كُلِّ مُسْكِرٍ خَمْرًا مِنَ الشَّرْعِ كَانَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ.

وَعَنِ الثَّانِيَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أنَّ اخْتِلَافَ مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْحُكْمِ فِي الْغَلَطِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ افْتِرَاقُهُمَا فِي التَّسْمِيَةِ، كَالزِّنَا مَثَلًا فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى مَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً وَعَلَى مَنْ وَطِئَ امْرَأَةَ جَارِهِ، وَالثَّانِي أَغْلَظُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَعَلَى مَنْ وَطِئَ مَحْرَمًا لَهُ وَهُوَ أَغْلَظُ، وَاسْمُ الزِّنَا مَعَ ذَلِكَ شَامِلٌ الثَّلَاثَةَ، وَأَيْضًا فَالْأَحْكَامُ الْفَرْعِيَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ، وَعَدَمِ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ الْمُتَّخَذِ مِنْ غَيْرِهِ، أَنْ لَا يَكُونَ حَرَامًا بَلْ يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ إِذَا ثَبَتَ بِطَرِيقٍ ظَنِّيٍّ تَحْرِيمُهُ، وَكَذَا تَسْمِيَتُهُ خَمْرًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ ثُبُوتُ النَّقْلِ عَنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ بِمَا نَفَاهُ هُوَ، وَكَيْفَ يَسْتَجِيزُ أَنْ يَقُولَ لَا لِمُخَامَرَةِ الْعَقْلِ مَعَ قَوْلِ عُمَرَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ كَأَنَّ مُسْتَنَدَهُ مَا ادَّعَاهُ مِنَ اتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَيُحْمَلُ قَوْلُ عُمَرَ عَلَى الْمَجَازِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ الْخَمْرِ خَمْرًا. فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا لِأَنَّهَا تُخَامِرُ الْعَقْلَ أَيْ تُخَالِطُهُ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ خَامَرَهُ الدَّاءُ أَيْ خَالَطَهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ الْعَقْلَ أَيْ تَسْتُرُهُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآتِي قَرِيبًا: خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ، وَمِنْهُ خِمَارُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ وَجْهَهَا، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ التَّغْطِيَةُ.

وَقِيلَ: سُمِّيَتْ خَمْرًا لِأَنَّهَا تُخَمَّرُ حَتَّى تُدْرِكَ كَمَا يُقَالُ خَمَّرْتُ الْعَجِينَ فَتَخَمَّرَ أَيْ تَرَكْتُهُ حَتَّى أَدْرَكَ، وَمِنْهُ خَمَّرْتُ الرَّأْيَ أَيْ تَرَكْتُهُ حَتَّى ظَهَرَ وَتَحَرَّرَ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ خَمْرًا لِأَنَّهَا تُغَطَّى حَتَّى تَغْلِي، وَمِنْهُ حَدِيثُ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ قُلْتُ لِأَنَسٍ: الْخَمْرُ مِنَ الْعِنَبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا؟ قَالَ: مَا خَمَّرْتَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الْخَمْرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَلَا مَانِعَ مِنْ صِحَّةِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا لِثُبُوتِهَا عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللِّسَانِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْأَوْجُهُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَمْرَةِ لِأَنَّهَا تُرِكَتْ

ص: 48

حَتَّى أَدْرَكَتْ وَسَكَنَتْ، فَإِذَا شُرِبَتْ خَالَطَتِ الْعَقْلَ حَتَّى تَغْلِبَ عَلَيْهِ وَتُغَطِّيَهُ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ - عَلَى صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا - تُبْطِلُ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ، وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ وَلِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَلِلصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ وَبَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا يُسْكِرُ نَوْعَهُ وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا وَلَا اسْتَفْصَلُوا، وَلَمْ يُشْكِلْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ بَادَرُوا إِلَى إِتْلَافِ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ وَبِلُغَتِهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ فِيهِ تَرَدُّدٌ لَتَوَقَّفُوا عَنِ الْإِرَاقَةِ حَتَّى يَسْتَكْشِفُوا وَيَسْتَفْصِلُوا وَيَتَحَقَّقُوا التَّحْرِيمَ لِمَا كَانَ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّهْيِ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَبَادَرُوا إِلَى الْإِتْلَافِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ فَهِمُوا التَّحْرِيمَ نَصًّا، فَصَارَ الْقَائِلُ بِالتَّفْرِيقِ سَالِكًا غَيْرَ سَبِيلِهِمْ، ثُمَّ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ خُطْبَةُ عُمَرَ بِمَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّنْ جَعَلَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، وَسَمِعَهُ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِنْكَارُ ذَلِكَ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُسَمَّى خَمْرًا لَزِمَ تَحْرِيمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. وَقَدْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَلِكَ.

ثُمَّ ذَكَرَهَا قَالَ: وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ عَنِ الصَّحَابَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُخَالِفُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى مَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَقِيعِ الزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْخُلَ حَدُّ الْإِسْكَارِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدهُ ثُبُوتُ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ نَقِيعِ التَّمْرِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحِلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوَّلَ مَا يُعْصَرُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا اشْتَدَّ مِنْهُمَا هَلْ يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِيهِ أَوْ لَا؟ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى مُوَافَقَةِ الْكُوفِيِّينَ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ خَاصٌّ بِمَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ فِي تَفْرِقَتِهِمْ فِي الْحُكْمِ وَقَوْلِهِمْ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، فَقَالَ الرَّافِعِيُّ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةً فِيمَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فَنَقَلَ عَنِ الْمُزَنِيِّ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْجَمِيعَ يُسَمَّى خَمْرًا حَقِيقَةً.

قَالَ: وَمِمَّنْ نَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ الْقَاضِيَانِ أَبُو الطَّيِّبِ، وَالرُّويَانِيُّ، وَأَشَارَ ابْنُ الرِّفْعَةِ إِلَى أَنَّ النَّقْلَ الَّذِي عَزَاهُ الرَّافِعِيُّ لِلْأَكْثَرِ لَمْ يَجِدْ نَقْلَهُ عَنِ الْأَكْثَرِ إِلَّا فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ، لَكِنَّ كَلَامَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ يُوَافِقُهُ وَفِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ مخالفة، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يُوَافِقُ مَا نَقَلُوا عَنِ الْمُزَنِيِّ فَقَالَ: قَالَ إِنَّ الْخَمْرَ مِنَ الْعِنَبِ وَمِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَسَعِيدٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَآخَرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ عَلَى غَيْرِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ حَقِيقَةً يَكُونُ أَرَادَ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَمَنْ نَفَى أَرَادَ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ، وَقَدْ أَجَابَ بِهَذَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ: إِنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْمِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ قَدَّمَتْ فِي بَابِ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهُوَ مِنَ الْبُسْرِ إِلْزَامُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي مَاءِ الْعِنَبِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُجَوِّزُوا إِطْلَاقَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا بَلَغَهُمْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ أَرَاقُوا كُلَّ مَا كَانَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْخَمْرِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَإِذَا لَمْ يُجَوِّزُوا ذَلِكَ صَحَّ أَنَّ الْكُلَّ خَمْرٌ حَقِيقَةً وَلَا انْفِكَاكَ عَنْ ذَلِكَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ وَالتَّسْلِيمِ أَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي مَاءِ الْعِنَبِ خَاصَّةً فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَالْكُلُّ خَمْرٌ حَقِيقَةً لِحَدِيثِ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ فَكُلُّ مَا اشْتَدَّ

ص: 49

كَانَ خَمْرًا، وَكُلُّ خَمْرٍ يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ: (وَثَلَاثٌ) هِيَ صِفَةُ مَوْصُوفٍ أَيْ أُمُورٌ أَوْ أَحْكَامٌ.

قَوْلُهُ: (وَدِدْتُ) أَيْ تَمَنَّيْتُ، وَإِنَّمَا تَمَنَّى ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ مَحْذُورِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ الْخَطَأُ فِيهِ، فَثَبَتَ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ، وَلَوْ كَانَ مَأْجُورًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ بِذَلِكَ الْأَجْرُ الثَّانِي، وَالْعَمَلُ بِالنَّصِّ إِصَابَةٌ مَحْضَةٌ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا عَهْدًا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَهْدًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصٌّ فِيهَا، وَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْخَمْرِ مَا لَمْ يَحْتَجْ مَعَهُ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ حَتَّى خَطَبَ بِذَلِكَ جَازِمًا بِهِ.

قَوْلُهُ: (الْجَدُّ وَالْكَلَالَةُ وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا) أَمَّا الْجَدُّ فَالْمُرَادُ قَدْرُ مَا يَرِثُ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِيهِ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ. وَأَمَّا الْكَلَالَةُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ فَسَيَأْتِي بَيَانُهَا أَيْضًا فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ. وَأَمَّا أَبْوَابُ الرِّبَا فَلَعَلَّهُ يُشِيرُ إِلَى رِبَا الْفَضْلِ لِأَنَّ رِبَا النَّسِيئَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَسِيَاقُ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ نَصٌّ فِي بَعْضٍ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا دُونَ بَعْضٍ، فَلِهَذَا تَمَنَّى مَعْرِفَةَ الْبَقِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ يَا أَبَا عَمْرٍو) الْقَائِلُ هُوَ أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو هِيَ كُنْيَةُ الشَّعْبِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَشَيْءٌ يُصْنَعُ بِالسِّنْدِ مِنَ الْأُرْزِ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ يُقَالُ لَهُ السَّادِيَّةُ، يُدْعَى الْجَاهِلُ فَيَشْرَبُ مِنْهَا شَرْبَةً فَتَصْرَعُهُ. قُلْتُ: وَهَذَا الِاسْمُ لَمْ يَذْكُرْهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ لَا فِي السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَلَا فِي الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَا رَأَيْتُهُ فِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ وَمَا عَرَفْتُ ضَبْطَهُ إِلَى الْآنَ، وَلَعَلَّهُ فَارِسِيٌّ، فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَلَعَلَّهُ الشَّاذِبَةُ بِشِينٍ وَذَالٍ مُعْجَمَتَيْنِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الشَّاذِبُ الْمُتَنَحِّي عَنْ وَطَنِهِ، فَلَعَلَّ الشَّاذِبَةَ تَأْنِيثُهُ، وَسُمِّيَتِ الْخَمْرُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا إِذَا خَالَطَتِ الْعَقْلَ تَنَحَّتْ بِهِ عَنْ وَطَنِهِ.

قَوْلُهُ: (ذَاكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيِ اتِّخَاذُ الْخَمْرِ مِنَ الْأُرْزِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَمْ يَكُنْ هَذَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ لَنَهَى عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ عَمَّ الْأَشْرِبَةَ كُلَّهَا فَقَالَ: الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا الْكَلَامُ الْأَخِيرُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا عَدَّ عُمَرُ الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ لِاشْتِهَارِ أَسْمَائِهَا فِي زَمَانِهِ، وَلَمْ تَكُنْ كُلُّهَا تُوجَدُ بِالْمَدِينَةِ الْوُجُودَ الْعَامَّ، فَإِنَّ الْحِنْطَةَ كَانَتْ بِهَا عَزِيزَةً، وَكَذَا الْعَسَلُ بَلْ كَانَ أَعَزَّ، فَعَدَّ عُمَرُ مَا عَرَفَ فِيهَا، وَجَعَلَ مَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا يُتَّخَذُ مِنَ الْأُرْزِ وَغَيْرِهِ خَمْرًا إِنْ كَانَ مِمَّا يُخَامِرُ الْعَقْلَ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِحْدَاثِ الِاسْمِ بِالْقِيَاسِ وَأَخْذِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ، كَذَا قَالَ، وَرَدَّ ذَلِكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي جَوَابِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ مَعْنَاهُ مِثْلُ الْخَمْرِ، لِأَنَّ حَذْفَ مِثْلِ ذَلِكَ مَسْمُوعٌ شَائِعٌ، قَالَ: بَلِ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ، وَلَا يُصَارُ إِلَى التَّقْدِيرِ إِلَّا إِلَى الْحَاجَةِ، فَإِنْ قِيلَ احْتَجْنَا إِلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبْعَثْ لِبَيَانِ الْأَسْمَاءِ قُلْنَا: بَلْ بَيَانُ الْأَس مَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهَا. وَلَا سِيَّمَا لِيَقْطَعَ تَعَلُّقَ الْقَصْدِ بِهَا.

قَالَ: وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنِ الْفَضِيخُ خَمْرًا وَنَادَى الْمُنَادِي حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لَمْ يُبَادِرُوا إِلَى إِرَاقَتِهَا وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْخَمْرِ، وَهُمُ الْفُصَّحُ اللُّسْنُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إِثْبَاتُ اسْمٍ بِقِيَاسٍ، قُلْنَا: إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتُ اللُّغَةِ عَنْ أَهْلِهَا، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ عَرَبٌ فُصَحَاءُ فَهِمُوا مِنَ الشَّرْعِ مَا فَهِمُوهُ مِنَ اللُّغَةِ وَمِنَ اللُّغَةِ مَا فَهِمُوهُ مِنَ الشَّرْعِ. وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ بَعْضَ الْكُوفِيِّينَ احتَجَّ بِمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ قَالَ: أَمَّا الْخَمْرُ فَحَرَامٌ لَا سَبِيلَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا مَا عَدَاهَا مِنَ الْأَشْرِبَةِ فَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. قَالَ: وَجَوَابُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرًا انْحِصَارُ اسْمِ الْخَمْرِ فِيهِ، وَكَذَا احْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ مُرَادُهُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ غَيْرَهَا لَا يُسَمَّى خَمْرًا، بِدَلِيلِ حَدِيثِهِ

ص: 50

الْآخَرِ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ خَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ كُلُّهَا تُدْعَى الْخَمْرَ مَا فِيهَا خَمْرُ الْعِنَبِ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِتَشْتَهِرَ بَيْنَ السَّامِعِينَ، وَذِكْرُ مَا بَعْدُ فِيهَا، وَالتَّنْبِيهُ بِالنِّدَاءِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى شَرَفِ الْعَقْلِ وَفَضْلِهِ، وَتَمَنِّي الْخَيْرِ، وَتَمَنِّي الْبَيَانِ لِلْأَحْكَامِ، وَعَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَجَّاجٌ) هُوَ ابْنُ مِنْهَالٍ، وَحَمَّادٌ هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَيَّانَ مَكَانَ الْعِنَبِ الزَّبِيبُ) يَعْنِي أَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ بِهَذَا السَّنَدِ وَالْمَتْنِ فَذَكَرَ الزَّبِيبَ بَدَلَ الْعِنَبِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهِ سُؤَالُ أَبِي حَيَّانَ الْأَخِيرُ وَجَوَابُ الشَّعْبِيِّ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ وَمِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي حَيَّانَ الزَّبِيبُ بَدَلَ الْعِنَبِ كَمَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌6 - بَاب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ

5590 -

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ - أَوْ أَبُو مَالِكٍ - الْأَشْعَرِيُّ وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِي الْفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ، وَيَضَعُ الْعَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: ذَكَرَهُ بِاعْتِبَارِ الشَّرَابِ، وَإِلَّا فَالْخَمْرُ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيٌّ. قُلْتُ: بَلْ فِيهِ لُغَةٌ بِالتَّذْكِيرِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَسْمِيَتُهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا. وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِالْأُمَّةِ مَنْ يَتَسَمَّى بِهِمْ وَيَسْتَحِلُّ مَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ، فَهُوَ كَافِرٌ إِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ، وَمُنَافِقٌ إِنْ أَسَرَّهُ، أَوْ مَنْ يَرْتَكِبِ الْمَحَارِمَ مُجَاهَرَةً وَاسْتِخْفَافًا فَهُوَ يُقَارِبُ الْكُفْرَ وَإِنْ تَسَمَّى بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْسِفُ بِمَنْ تَعُودُ عَلَيْهِ رَحْمَتُهُ فِي الْمَعَادِ. كَذَا قَالَ ; وَفِيهِ نَظَرٌ يَأْتِي تَوْجِيهُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: التَّرْجَمَةُ مُطَابِقَةٌ لِلْحَدِيثِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَكَأَنَّهُ قَنَعَ بِالِاسْتِدْلَالِ لَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: مِنْ أُمَّتِي لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ يَبْعُدُ أَنْ يَسْتَحِلَّ الْخَمْرَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، إِذْ لَوْ كَانَ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً لَكَانَ خَارِجًا عَنِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ قَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ. قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ فِي غَيْرِ هَذَا الطريقِ التَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَى التَّرْجَمَةِ، لَكِنْ لَمْ يُوَافِقْ شَرْطَهُ فَاقْتَنَعَ بِمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي سَاقَهَا مِنَ الْإِشَارَةِ.

قُلْتُ: الرِّوَايَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا لِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ السَّمْطِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَفَعَهُ: يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِ: لَيَسْتَحِلَّنَّ طَائِفَةٌ مِنَ أُمَّتِي الْخَمْرَ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَلَكِنِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ فَقَالَ: عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلِابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ: لَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي

ص: 51

حَتَّى تَشْرَبَ طَائِفَةٌ مِنَ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، وَالدَّارِمِيِّ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُكْفَأُ الْإِسْلَامُ كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ كَفْءُ الْخَمْرِ، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا فَيَسْتَحِلُّونَهَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ، وَلِابْنِ وَهْبٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيَّ حَجَّ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَجَعَلَتْ تَسْأَلُهُ عَنِ الشَّامِ وَعَنْ بَرْدِهَا فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ يَشْرَبُونَ شَرَابًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ الطِّلَاءُ، فَقَالَتْ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ وَبَلَغَ حَتَّى سَمِعَتْهُ يَقُولُ: إِنَّ نَاسًا مِنَ أُمَّتِي يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا

بِغَيْرِ اسْمِهَا، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: جَاءَتْ فِي الْخَمْرِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ بِأَسْمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فَذَكَرَ مِنْهَا السَّكَرَ بِفَتْحَتَيْنِ قَالَ: وَهُوَ نَقِيعُ التَّمْرِ إِذَا غُلِيَ بِغَيْرِ طَبْخٍ، وَالْجِعَةُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْعَيْنِ نَبِيذُ الشَّعِيرِ، وَالسُّكْرُكَةُ خَمْرُ الْحَبَشَةِ مِنَ الذُّرَةِ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَهَذِهِ الْأَشْرِبَةُ الْمُسَمَّاةُ كُلُّهَا عِنْدِي كِنَايَةٌ عَنِ الْخَمْرِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ: الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ) هَكَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ مِنَ الصَّحِيحِ مِنْ جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ مَعَ تَنَوُّعِهَا عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، وَذَهَلَ الزَّرْكَشِيُّ فِي تَوْضِيحِهِ فَقَالَ: مُعْظَمُ الرُّوَاةِ يَذْكُرُونَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْبُخَارِيِّ مُعَلَّقًا، وَقَدْ أَسْنَدَهُ أَبُو ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ فَقَالَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَدِيثُ صَحِيحًا عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. وَبِذَلِكَ يُرَدُّ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ دَعْوَاهُ الِانْقِطَاعَ اهـ.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ نَشَأَ عَنْ عَدَمِ تَأَمُّلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِدْرِيسَ هُوَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ شَيْخُ أَبِي ذَرٍّ لَا الْبُخَارِيُّ، ثُمَّ هُوَ الْحُسَيْنُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَزِيَادَةِ التَّحْتَانِيَّةِ السَّاكِنَةِ وَهُوَ الْهَرَوِيُّ لَقَبُهُ خُرَّمٌ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَهُوَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ، وَإِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ مِنَ الْفَائِدَةِ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ إِلَى هِشَامٍ، عَلَى عَادَةِ الْحُفَّاظِ إِذَا وَقَعَ لَهُمُ الْحَدِيثُ عَالِيًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ الْمَرْوِيِّ لَهُمْ يُورِدُونَهَا عَالِيَةً عَقِبَ الرِّوَايَةِ النَّازِلَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ أَسَانِيدِ الْكِتَابِ الْمَرْوِيِّ خَلَلٌ مَا مِنَ انْقِطَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَكَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ سَالِمًا أَوْرَدُوهُ، فَجَرَى أَبُو ذَرٍّ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ شُيُوخِهِ الثَّلَاثَةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ سِيَاقِهِ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ النَّضْرَوِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ بِهِ، وَأَمَّا دَعْوَى ابْنِ حَزْمٍ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا فَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا ابْنُ الصَّلَاحِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ فَقَالَ: التَّعْلِيقُ فِي أَحَادِيثَ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قُطِعَ إِسْنَادُهَا، وَصُورَتُهُ صُورَةُ الِانْقِطَاعِ وَلَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ وَلَا خَارِجًا - مَا وُجِدَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الصَّحِيحِ - إِلَى قَبِيلِ الضَّعِيفِ، وَلَا الْتِفَاتٌ إِلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ الْحَافِظِ فِي رَدِّ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ،

وَأَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيَكُونَنَّ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ الْحَدِيثَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَهُ قَائِلًا: قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَسَاقَهُ بِإِسْنَادِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ فِيمَا بَيْنَ الْبُخَارِيِّ، وَهِشَامٍ وَجَعَلَهُ جَوَابًا عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَعَازِفِ، وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَعْرُوفُ الِاتِّصَالِ بِشَرْطِ الصَّحِيحِ، وَالْبُخَارِيُّ قَدْ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ مُسْنَدًا مُتَّصِلًا، وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَصْحَبُهَا خَلَلُ الِانْقِطَاعِ اهـ. وَلَفْظُ ابْنِ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى: وَلَمْ يَتَّصِلْ مَا بَيْنَ الْبُخَارِيِّ، وَصَدَقَةَ بْنِ خَالِدٍ. وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الَّذِي يَقُولُ الْبُخَارِيُّ فِيهِ قَالَ فُلَانٌ وَيُسَمِّي

ص: 52

شَيْخًا مِنْ شُيُوخِهِ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْنَادِ الْمُعَنْعَنِ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِيمَا يَتَحَمَّلُهُ عَنْ شَيْخِهِ مُذَاكَرَةً، وَعَنْ بَعْضِهِمُ أَنَّهُ فِيمَا يَرْوِيهِ مُنَاوَلَةً. وَقَدْ تَعَقَّبَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ كَلَامَ ابْنِ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ وَجَدَ فِي الصَّحِيحِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ يَرْوِيهَا الْبُخَارِيُّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ قَائِلًا قَالَ فُلَانٌ وَيُورِدُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْخِ.

قُلْتُ: الَّذِي يُورِدُهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنْحَاءٍ: مِنْهَا مَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِالسَّمَاعِ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ بِعَيْنِهِ إِمَّا فِي نَفْسِ الصَّحِيحِ وَإِمَّا خَارِجَهُ، وَالسَّبَبُ فِي الْأَوَّلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعَادَهُ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ وَضَاقَ عَلَيْهِ مَخْرَجُهُ فَتَصَرَّفَ فِيهِ حَتَّى لَا يُعِيدَهُ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَكَانَيْنِ، وَفِي الثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى شَرْطِهِ إِمَّا لِقُصُورٍ فِي بَعْضِ رُوَاتِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَوْقُوفًا، وَمِنْهَا مَا يُورِدُهُ بِوَاسِطَةٍ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ وَالسَّبَبُ فِيهِ كَالْأَوَّلِ، لَكِنَّهُ فِي غَالِبِ هَذَا لَا يَكُونُ مُكْثِرًا عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُورِدُهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ مِنَ الصَّحِيحِ مِثْلُ حَدِيثِ الْبَابِ، فَهَذَا مِمَّا كَانَ أَشْكَلَ أَمْرُهُ عَلَيَّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِيَ الْآنَ أَنَّهُ لِقُصُورٍ فِي سِيَاقِهِ، وَهُوَ هُنَا تَرَدُّدُ هِشَامٍ فِي اسْمِ الصَّحَابِيِّ، وَسَيَأْتِي مِنْ كَلَامِهِ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ: إِنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَسَاقَهُ فِي التَّارِيخِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا كَوْنُهُ سَمِعَهُ مِنْ هِشَامٍ بِلَا وَاسِطَةٍ وَبِوَاسِطَةٍ فَلَا أَثَرَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَجْزِمُ إِلَّا بِمَا يَصْلُحُ لِلْقَبُولِ، وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ يَسُوقُهُ مَسَاقَ الِاحْتِجَاجِ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: إنَّ الَّذِي يُورِدُهُ بِصِيغَةِ قَالَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِسْنَادِ الْمُعَنْعَنِ، وَالْعَنْعَنَةُ مِنْ غَيْرِ الْمُدَلِّسِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاتِّصَالِ، وَلَيْسَ الْبُخَارِيُّ مُدَلِّسًا، فَيَكُونُ مُتَّصِلًا، فَهُوَ بَحْثٌ وَافَقَهُ عَلَيْهِ ابْنُ مَنْدَهْ وَالْتَزَمَهُ فَقَالَ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ قَالَ وَهُوَ تَدْلِيسٌ، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا بِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَصِفِ الْبُخَارِيَّ بِالتَّدْلِيسِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُرَادَ ابْنِ مَنْدَهْ أَنَّ صُورَتَهُ صُورَةُ التَّدْلِيسِ لِأَنَّهُ يُورِدُهُ بِالصِّيغَةِ الْمُحْتَمَلَةِ وَيُوجَدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ وَهَذَا هُوَ التَّدْلِيسُ بِعَيْنِهِ، لَكِنِ الشَّأْنُ فِي تَسْلِيمِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مِنْ غَيْرِ الْمُدَلِّسِ لَهَا حُكْمُ الْعَنْعَنَةِ فَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: وَهُوَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْفَنِّ أَنَّ قَالَ لَا تُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ إِلَّا مِمَّنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا فِي مَوْضِعِ السَّمَاعِ، مِثْلُ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ، فَعَلَى هَذَا فَفَارَقَتِ الْعَنْعَنَةُ فَلَا تُعْطَى حُكْمَهَا وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهَا مِنَ التَّدْلِيسِ وَلَا سِيَّمَا مِمَّنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُورِدَهَا لِغَرَضٍ غَيْرِ التَّدْلِيسِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْحُفَّاظِ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنَ التَّعَالِيقِ كُلِّهَا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ يَكُونُ صَحِيحًا إِلَى مَنْ عَلَّقَ عَنْهُ ولَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شُيُوخِهِ، لَكِنِ إِذَا وُجِدَ الْحَدِيثُ الْمُعَلَّقُ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِ الْحُفَّاظِ مَوْصُولًا إِلَى مَنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الصِّحَّةِ أَزَالَ الْإِشْكَالَ، وَلِهَذَا عَنَيْتُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ بِهَذَا النَّوْعِ وَصَنَّفَتْ كِتَابَ تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ.

وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَفِي كَلَامِهِ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ حَدِيثَ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ جَاءَ عَنْهُ مَوْصُولًا فِي مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ بِسَنَدِهِ انْتَهَى. وَنُنَبِّهُ فِيهِ عَلَى مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ عَنْ مُوسَى بْنِ سَهْلٍ الْجُوَيْنِيِّ وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، وَالْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ أَشْهَرُ مِنْ مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ فَعَزْوُهُ إِلَيْهِ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَقَدِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَلَى الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْبَاغَنْدِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَطَّانِ عَنْ هِشَامٍ.

ثَانِيهُمَا: قَوْلُهُ: إِنَّ أَبَا دَاوُدَ أَخْرَجَهُ يُوهِمُ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ

ص: 53

بِاللَّفْظِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ وَهُوَ الْمَعَازِفُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْخَمْرَ الَّذِي وَقَعَتْ تَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ لِأَجَلِهِ فَإِنَّ لَفْظَهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيَّ يَقُولُ حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيَكُونَنَّ مِنَ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ - وَذَكَرَ كَلَامًا قَالَ - يُمْسَخُ مِنْهُمْ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، نَعَمْ سَاقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَدِيثَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ دُحَيْمٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ: يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ الْحَدِيثُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ) هُوَ الدِّمَشْقِيُّ مِنْ مَوَالِي آلِ أَبِي سُفْيَانَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ وَآخَرُ تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْهُ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، وَصَدَقَةَ هَذَا ثِقَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ، ثِقَةٌ ابْنُ ثِقَةٍ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، أَثْبَتُ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ. وَذَهَلَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَقَالَ: لَيْتَهُ - يَعْنِي ابْنَ حَزْمٍ - أَعَلَّ الْحَدِيثَ بِصَدَقَةَ فَإِنَّ ابْنَ الْجُنَيْدِ رَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَرَوَى الْمَرْوَزِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ: ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ وَلَمْ يَرْضَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا قَالَ يَحْيَى، وَأَحْمَدُ ذَلِكَ فِي صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّمِينِ وَهُوَ أَقْدَمُ مِنْ صَدَقَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَقَدْ شَارَكَهُ فِي كَوْنِهِ دِمَشْقِيًّا، وَفِي الرِّوَايَةِ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ كَزَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، وَأَمَّا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ فَقَدْ قَدَّمْتُ قَوْلَ أَحْمَدَ فِيهِ، وَأَمَّا ابْنُ مَعِينٍ فَالْمَنْقُولُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ أَحَبَّ إِلَى أَبِي مُسْهِرٍ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ. وَنَقَلَ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّ صَدَقَةَ بْنَ خَالِدٍ ثِقَةٌ، ثُمَّ إِنَّ صَدَقَةَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ بَلْ تَابَعَهُ عَلَى أَصْلِهِ بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ) هُوَ شَامِيٌّ تَابِعِيٌّ قَوَّاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ وَمَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ وَقِيلَ: بَعْدَ ذَلِكَ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ وَلَا لِشَيْخِهِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ شَامِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ ابْنُ كُرَيْبِ بْنُ هَانِئٍ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صُحْبَةُ أَبِي مُوسَى، وَذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَانَ مَعَ أَبِيهِ حِينَ وَفَدَ، وَأَمَّا أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حُفَّاظِ الشَّامِ فَقَالُوا: أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَلْقَهُ، وَقَدَّمَهُ دُحَيْمٌ عَلَى الصُّنَابِحِيِّ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا: بَعَثَهُ عُمَرُ يُفَقِّهُ أَهْلَ الشَّامِ، وَوَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ وَآخَرُونَ. وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَامَ رَبِيعَةُ الْجُرَشِيُّ فِي النَّاسِ - فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ طُولٌ - فَإِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ فَقَالَ: يَمِينًا حَلَفْتُ عَلَيْهَا حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَاللَّهِ يَمِينًا أُخْرَى حَدَّثَنِي أَنَّهُ سَمِعَ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ مَعَنَا رَبِيعَةُ الْجُرَشِيُّ فَذَكَرُوا الشَّرَابَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ) هَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ الْحُفَّاظِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ بِالشَّكِّ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَامِرٍ، وَأَبَا مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّيْنِ يَقُولَانِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، كَذَا قَالَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْفُوظُ هُوَ الشَّكُّ، فَالشَّكُّ فِي اسْمِ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ، وَقَدْ أَعَلَّهُ ابْنُ حَزْمٍ وَهُوَ مَرْدُودٌ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّ ابْنَ بَطَّالٍ حَكَى عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّ سَبَبَ كَوْنِ الْبُخَارِيِّ لَمْ يَقُلْ فِيهِ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وُجُودُ الشَّكِّ فِي اسْمِ الصَّحَابِيِّ، وَهُوَ شَيْءٌ لَمْ يُوَافَقْ عَلَيْهِ، وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَمَّنِ

ص: 54

أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَوْ أَبِي عَامِرٍ عَلَى الشَّكِّ أَيْضًا وَقَالَ: إِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيَشْرَبَنَّ أُنَاسٌ مِنَ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا تَغْدُو عَلَيْهِمُ الْقِيَانُ وَتَرُوحُ الْمَعَازِفُ، الْحَدِيثَ.

فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ لِأَنَّ مَالِكَ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ - وَهُوَ رَفِيقُهُ فِيهِ عَنْ شَيْخِهِمَا - لَمْ يَشُكَّ فِي أَبِي مَالِكٍ، عَلَى أَنَّ التَّرَدُّدَ فِي اسْمِ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ أَعَلَّ الْحَدِيثَ بِسَبَبِ التَّرَدُّدِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ أَنَّهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ.

قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي) هَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ لَا عَنِ اثْنَيْنِ.

قَوْلُهُ: (يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ) ضَبَطَهُ ابْنُ نَاصِرٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ وَالرَّاءِ الْخَفِيفَةِ وَهُوَ الْفَرْجُ، وَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ غَيْرَهُ. وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: إِنَّهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِالْمُعْجَمَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ بِالْمُعْجَمَتَيْنِ تَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا رُوِّينَاهُ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ الْفَرْجُ وَالْمَعْنَى يَسْتَحِلُّونَ الزِّنَا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ ارْتِكَابَ الْفَرْجِ بِغَيْرِ حِلِّهِ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ تَسْتَعْمِلُهُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ كَمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَحَكَى عِيَاضٌ فِيهِ تَشْدِيدَ الرَّاءِ، وَالتَّخْفِيفُ هُوَ الصَّوَابُ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ بِالْيَاءِ بَعْدَ الرَّاءِ فَحُذِفَتْ. وَذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى فِي ذَيْلِ الْغَرِيبِ فِي (ح ر) وَقَالَ هُوَ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَأَصْلُهُ حِرَحٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ أَيْضًا وَجَمْعُهُ أَحْرَاحٌ قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَدِّدُ الرَّاءَ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ.

وَتَرْجَمَ أَبُو دَاوُدَ لِلْحَدِيثِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحِرِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ بِمُعْجَمَتَيْنِ وَالتَّشْدِيدِ وَالرَّاجِحُ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي الزُّهْدِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: يُوشِكُ أَنْ تَسْتَحِلَّ أُمَّتِي فُرُوجَ النِّسَاءِ وَالْحَرِيرَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّاوُدِيِّ بِالْمُعْجَمَتَيْنِ ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ لَبِسُوهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْمَشْهُورُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بِالْإِعْجَامِ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِبْرَيْسَمِ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْخَزُّ بِالْمُعْجَمَتَيْنِ وَالتَّشْدِيدِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْأَقْوَى حِلُّهُ، وَلَيْسَ فِيهِ وَعِيدٌ وَلَا عُقُوبَةٌ بِإِجْمَاعٍ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمْ تَقَعْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَلَا أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، بَلْ فِي رِوَايَتِهِمَا: يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَقَوْلُهُ: يَسْتَحِلُّونَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ حَلَالًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَلَى الِاسْتِرْسَالِ أَيْ يَسْتَرْسِلُونَ فِي شُرْبِهَا كَالِاسْتِرْسَالِ فِي الْحَلَالِ، وَقَدْ سَمِعْنَا وَرَأَيْنَا مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَالْمَعَازِفَ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ بَعْدَهَا فَاءٌ جَمْعُ مِعْزَفَةٍ بِفَتْحِ الزَّايِ وَهِيَ آلَاتُ الْمَلَاهِي. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ أَنَّ الْمَعَازِفَ الْغِنَاءُ، وَالَّذِي فِي صِحَاحِهِ أَنَّهَا آلَاتُ اللَّهْوِ، وَقِيلَ: أَصْوَاتُ الْمَلَاهِي. وَفِي حَوَاشِي الدِّمْيَاطِيِّ: الْمَعَازِفُ الدُّفُوفُ وَغَيْرُهَا مِمَّا يُضْرَبُ بِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْغِنَاءِ عَزْفٌ، وَعَلَى كُلِّ لَعِبٍ عَزْفٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ: تَغْدُو عَلَيْهِ الْقِيَانُ وَتَرُوحُ عَلَيْهِمُ الْمَعَازِفُ.

قَوْلُهُ: (وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ) بِفَتْحَتَيْنِ وَالْجَمْعُ أَعْلَامٌ وَهُوَ الْجَبَلُ الْعَالِي وَقِيلَ: رَأْسُ الْجَبَلِ.

قَوْلُهُ. (يَرُوحُ عَلَيْهِمْ) كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ الرَّاعِي بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، إِذِ السَّارِحَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حَافِظٍ.

قَوْلُهُ: (بِسَارِحَةٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ الْمَاشِيَةُ الَّتِي تَسْرَحُ بِالْغَدَاةِ إِلَى رَعْيِهَا وَتَرُوحُ أَيْ تَرْجِعُ بِالْعَشِيِّ إِلَى مَأْلَفِهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ سَارِحَةَ بِغَيْرِ مُوَحَّدَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَلَا حَذْفَ فِيهَا.

قَوْلُهُ (يَأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ) كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ الْفَاعِلِ أَيْضًا، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: التَّقْدِيرُ الْآتِي أَوِ الرَّاعِي أَوِ الْمُحْتَاجُ أَوْ الرَّجُلُ. قُلْتُ: وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ يَأْتِيهِمْ طَالِبُ حَاجَةٍ

ص: 55

فَتَعَيَّنَ بَعْضُ الْمُقَدَّرَاتِ.

قَوْلُهُ: (فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ) أَيْ يُهْلِكُهُمْ لَيْلًا، وَالْبَيَاتُ هُجُومُ الْعَدُوِّ لَيْلًا.

قَوْلُهُ: (وَيَضَعُ الْعَلَمَ) أَيْ يُوقِعُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنْ كَانَ الْعَلَمُ جَبَلًا فَيُدَكْدِكُهُ وَإِنْ كَانَ بِنَاءً فَيَهْدِمُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَغْرَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَشَرَحَهُ عَلَى أَنَّهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ اللَّامِ فَقَالَ: وَضْعُ الْعِلْمِ إِمَّا بِذَهَابِ أَهْلِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَإِمَّا بِإِهَانَةِ أَهْلِهِ بِتَسْلِيطِ الْفَجَرَةِ عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) يُرِيدُ مِمَّنْ لَمْ يُهْلِكْ فِي الْبَيَاتِ الْمَذْكُورِ، أَوْ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَيَّتُوا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَيَمْسَخُ مِنْهُمُ آخَرِينَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ كَمَا وَقَعَ لِلْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ تَبَدُّلِ أَخْلَاقِهِمْ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِالسِّيَاقِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى مَنْ يَتَحَيَّلُ فِي تَحْلِيلِ مَا يَحْرُمُ بِتَغْيِيرِ اسْمِهِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ. وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ الْإِسْكَارُ، فَمَهْمَا وُجِدَ الْإِسْكَارُ وُجِدَ التَّحْرِيمُ وَلَوْ لَمْ يَسْتَمِرَّ الِاسْمُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ أَصْلٌ فِي أَنَّ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ لَا بِأَلْقَابِهَا، رَدًّا عَلَى مَنْ حَمَلَهُ عَلَى اللَّفْظِ.

‌7 - بَاب الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ وَالتَّوْرِ

5591 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلًا يَقُولُ: أَتَى أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُرْسِهِ، فَكَانَتْ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ - وَهِيَ الْعَرُوسُ - قَالَت: أَتَدْرُونَ مَا سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَنْقَقتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ وَالتَّوْرِ) هُوَ مِنْ عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ التَّوْرَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَوْعِيَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ إِنَاءٌ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ مِنْ نُحَاسٍ أَوْ مِنْ خَشَبٍ، وَيُقَالُ: لَا يُقَالُ لَهُ تَوْرٌ إِلَّا إِذَا كَانَ صَغِيرًا، وَقِيلَ هُوَ قَدَحٌ كَبِيرٌ كَالْقِدْرِ، وَقِيلَ مِثْلُ الطَّسْتِ، وَقِيلَ كَالْإِجَّانَةِ، وَهِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ نُونٌ: وِعَاءٌ.

قَوْلُهُ: (أَتَى أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُرْسِهِ) تَقَدَّمَ فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُرْسِهِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَتَدْرُونَ) الْقَائِلُ هُوَ سَهْلٌ و (مَا سَقَتْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ قَالَتْ وَسَقَيْتُ بِسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَ الْقَافِ وَفِي آخِرِهِ مُثَنَّاةٌ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي أَنْقَعَتْ وَنَقَعَتْ وَأَنْقَعَ بِالْهَمْزَةِ لُغَةٌ، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى نَقَعَتْ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَتَقَدَّمَ فِي الْوَلِيمَةِ بِلَفْظِ بَلَّتْ تَمَرَاتٍ.

قَوْلُهُ: (فِي تَوْرٍ) زَادَ فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ حِجَارَةٍ وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي رِوَايَةِ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنْبَذُ لَهُ فِي سِقَاءٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ سِقَاءً يُنْبَذُ لَهُ فِي تَوْرٍ قَالَ أَشْعَثُ: وَالتَّوْرُ مِنْ لِحَاءِ الشَّجَرِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَعَبَّرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ بِالِانْتِبَاذِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ النَّقِيعَ يُسَمَّى نَبِيذًا، فَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ بِلَفْظِ النَّبِيذِ عَلَى النَّقِيعِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ بَعْدَ قَلِيلٍ بَابُ نَقِيعِ التَّمْرِ مَا لَمْ يُسْكِرْ قَالَ الْمُهَلَّبُ: النَّقِيعُ حَلَالٌ مَا لَمْ يَشْتَدَّ فَإِذَا اشْتَدَّ وَغَلَى حَرُمَ. وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَقْذِفَ بِالزَّبَدِ، قَالَ: وَإِذَا نُقِعَ مِنَ اللَّيْلِ وَشُرِبَ النَّهَارَ أَوْ بِالْعَكْسِ لَمْ يَشْتَدَّ، وَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ، يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ كَانَتْ تَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سِقَاءٍ تُوكِي أَعْلَاهُ فَيَشْرَبُهُ عِشَاءً، وَتَنْبِذُهُ عِشَاءً فَيَشْرَبُهُ غَدْوَةً، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَنْبِذُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَدْوَةً، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْعَشِيِّ تَعَشَّى فَشَرِبَ عَلَى عَشَائِهِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ صَبَّتْهُ ثُمَّ تَنْبِذُ لَهُ بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ وَتَغَدَّى شَرِبَ عَلَى غَدَائِهِ، قَالَتْ نَغْسِلُ السِّقَاءَ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ

ص: 56

بْنِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قُلْنَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا نَصْنَعُ بِالزَّبِيبِ؟ قَالَ: انْبِذُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ، وَاشْرَبُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا التَّقْيِيدُ بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ مِنَ اللَّيْلِ فِي السِّقَاءِ، فَإِذَا أَصْبَحَ شَرِبَهُ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ وَمِنَ الْغَدِ، فَإِذَا كَانَ مَسَاءً شَرِبَهُ أَوْ سَقَاهُ الْخَدَمَ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَرَاقَهُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الشَّرَابُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي ذَكَرَتْهَا عَائِشَةُ يُشْرَبُ حُلْوًا، وَأَمَّا الصِّفَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ يَنْتَهِي إِلَى الشِّدَّةِ وَالْغَلَيَانِ، لَكِنْ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنَ أَمْرِ الْخَدَمِ بِشُرْبِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَرُبَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ بَلَغَ ذَلِكَ لَأَسْكَرَ وَلَوِ أَسْكَرَ لَحَرُمَ تَنَاوُلُهُ مُطْلَقًا انْتَهَى. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ شُرْبِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ بَدَأ فِيهِ بَعْضُ تَغَيُّرٍ فِي طَعْمِهِ مِنْ حَمْضٍ أَوْ نَحْوِهِ فَسَقَاهُ الْخَدَمَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو دَاوُدَ فَقَالَ بَعْدَ أَنِ أَخْرَجَهُ: قَوْلُهُ: سَقَاهُ الْخَدَمَ يُرِيدُ أَنَّهُ تَبَادَرَ بِهِ الْفَسَادَ، انْتَهَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَوْ فِي الْخَبَرِ لِلتَّنْوِيعِ لِأَنَّهُ قَالَ: سَقَاهُ الْخَدَمَ أَوِ أَمَرَ بِهِ فَأُهْرِيق أَيِ إِنْ كَانَ بَدَا فِي طَعْمِهِ بَعْضُ التَّغَيُّرِ وَلَمْ يَشْتَدَّ سَقَاهُ الْخَدَمَ، وَإِنْ كَانَ اشْتَدَّ أَمَرَ بِإِهْرَاقِهِ، وَبِهَذَا جَزَمَ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَافٌ عَلَى حَالَيْنِ إِنْ ظَهَرَ فِيهِ شِدَّةٌ صَبَّهُ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ شِدَّةٌ سَقَاهُ الْخَدَمَ لِئَلَّا تَكُونَ فِيهِ إِضَاعَةُ مَالٍ، وَأنَّمَا يَتْرُكُهُ هُوَ تَنَزُّهًا.

وَجُمِعَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ بِأَنَّ شُرْبَ النَّقِيعِ فِي يَوْمِهِ لَا يَمْنَعُ شُرْبَ النَّقِيعِ فِي أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِاخْتِلَافِ حَالٍ أَوْ زَمَانٍ يُحْمَلُ الَّذِي يَشْرَبُ فِي يَوْمِهِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ قَلِيلًا وَذَاكَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ كَثِيرًا فَيَفْضُلُ مِنْهُ مَا يَشْرَبُهُ فِيمَا بَعْدُ، وَإِمَّا بِأَنْ يَكُونَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ مَثَلًا فَيُسَارِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَذَاكَ فِي شِدَّةِ بَرْدٍ فَلَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ.

‌8 - بَاب تَرْخِيصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ بَعْدَ النَّهْيِ

5592 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الظُّرُوفِ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَنَا مِنْهَا. قَالَ: فَلَا إِذن، وَقَالَ لي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ بِهَذَا، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا، وَقَالَ فِيهِ: لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْأَوْعِيَةِ.

5593 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: "لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الأَسْقِيَةِ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ".

5594 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ".

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ بِهَذَا.

ص: 57

5595 -

حَدَّثَنِي عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: "قُلْتُ لِلأَسْوَدِ هَلْ سَأَلْتَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ فَقَالَ نَعَمْ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ قَالَتْ نَهَانَا فِي ذَلِكَ أَهْلَ الْبَيْتِ أَنْ نَنْتَبِذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ قُلْتُ أَمَا ذَكَرَتْ الْجَرَّ وَالْحَنْتَمَ قَالَ إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ أَفَأُحَدِّثُ مَا لَمْ أَسْمَعْ؟ ".

5596 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَرِّ الأَخْضَرِ قُلْتُ أَنَشْرَبُ فِي الأَبْيَضِ قَالَ: لَا".

قَوْلُهُ: (بَابُ تَرْخِيصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ بَعْدَ النَّهْيِ) ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ.

أَوَّلُهَا حَدِيثُ جَابِرٍ وَهُوَ عَامٌّ فِي الرُّخْصَةِ، ثَانِيهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهِ اسْتِثْنَاءُ الْمُزَفَّتِ، ثَالِثُهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي النَّهْيِ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ، رَابِعُهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ مِثْلُهُ، خَامِسُهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَرِّ الْأَخْضَرِ. وَظَاهِرُ صَنِيعِهِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ عُمُومَ الرُّخْصَةِ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ: فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُمُ وَقَالَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ: يُبَاحُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. وَقَدْ أَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عُمَرَ مَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأَنِ أَشْرَبَ مِنْ قُمْقُمٍ مَحْمِيٍّ فَيُحَرِّقُ مَا أَحْرَقَ وَيُبْقِي مَا أَبْقَى أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ أَنْ أَشْرَبَ نَبِيذَ الْجَرِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يُشْرَبُ نَبِيذُ الْجَرِّ وَلَوْ كَانَ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَسْنَدَ النَّهْيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: النَّهْيُ عَنِ الْأَوْعِيَةِ إِنَّمَا كَانَ قَطْعًا لِلذَّرِيعَةِ. فَلَمَّا قَالُوا لَا نَجِدُ بُدًّا مِنَ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ قَالَ: انْتَبِذُوا. وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ نَهَى عَنْهُ بِمَعْنَى النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ لِلضَّرُورَةِ، كَالنَّهْيِ عَنِ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقَاتِ، فَلَمَّا قَالُوا لَا بُدَّ لَنَا مِنْهَا قَالَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبُ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ بَاقٍ، مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ كَذَا أُطْلِقَ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَالْمَعْنَى فِي النَّهْيِ أَنَّ الْعَهْدَ بِإِبَاحَةِ الْخَمْرِ كَانَ قَرِيبًا، فَلَمَّا اشْتُهِرَ التَّحْرِيمُ أُبِيحَ لهم الِانْتِبَاذُ فِي كُلِّ وِعَاءٍ بِشَرْطِ تَرْكِ شُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَكَأَنَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى اسْتِمْرَارِ النَّهْيِ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ. وَقَالَ الْحَازِمِيُّ: لِمَنْ نَصَرَ قَوْلَ مَالِكٍ أَنْ يَقُولَ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الظُّرُوفِ كُلِّهَا ثُمَّ نُسِخَ مِنْهَا ظُرُوفُ الْأُدُمِ وَالْجِرَارِ غَيْرِ الْمُزَفَّتَةِ، وَاسْتَمَرَّ مَا عَدَاهَا عَلَى الْمَنْعِ، ثُمَّ تُعُقِّبَ ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ مِنَ التَّصْرِيحِ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ: نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ إِلَّا فِي ظُرُوفِ الْأُدُمِ، فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا قَالَ وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا وَقَعَ النَّهْيُ عَامًّا شَكَوْا إِلَيْهِ الْحَاجَةَ فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي ظُرُوفِ الْأُدُمِ، ثُمَّ شَكَوْا إِلَيْهِ أَنَّ كُلَّهُمْ لَا يَجِدُ ذَلِكَ فَرَخَّصَ لَهُمُ في الظُّرُوفَ كُلَّهَا. الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَالِمٍ) وَقَعَ مُفَسَّرًا فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بَعْدَهَا أَنَّهُ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ. وَالظُّرُوفُ بِظَاءٍ مُشَالَةٍ مُعْجَمَةٍ جَمْعُ ظَرْفٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ الْوِعَاءُ.

قَوْلُهُ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الظُّرُوفِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ نَهَى عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَكَأَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ أَوْرَدَ عَقِبَ حَدِيثِ جَابِرٍ أَحَادِيثَ

ص: 58

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (لَا بُدَّ لَنَا مِنْهَا) فِي رِوَايَةِ الْحَفْرِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَيْسَ لَنَا وِعَاءٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ فِي قِصَّةِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ لَا ظُرُوفَ لَهُمْ، فَقَالَ: اشْرَبُوهُ إِذَا طَابَ، فَإِذَا خَبُثَ فَذَرُوهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ الْأَشَجِّ الْعَصْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمْ: مَا لِي أَرَى وُجُوهَكُمْ قَدْ تَغَيَّرَتْ؟ قَالُوا: نَحْنُ بِأَرْضٍ وَخِمَةٍ، وَكُنَّا نَتَّخِذُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْبِذَةِ مَا يَقْطَعُ اللُّحْمَانِ فِي بُطُونِنَا، فَلَمَّا نَهَيْتَنَا عَنِ الظُّرُوفِ فَذَلِكَ الَّذِي تَرَى فِي وُجُوهِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الظُّرُوفَ لَا تُحِلُّ وَلَا تُحَرِّمُ، وَلَكِنْ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ.

قَوْلُهُ: (فَلَا إِذًا) جَوَابٌ وَجَزَاءٌ، أَيِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْهَا فَلَا تَدَعُوهَا. وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّهْيَ كَانَ وَرَدَ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ، أَوْ وَقَعَ وَحْيٌ فِي الْحَالِ بِسُرْعَةٍ أَوْ كَانَ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مُفَوَّضًا لِرَأْيِهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذِهِ الاحْتِمَالَات تَرُدُّ عَلَى مَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْكُمُ بِالِاجْتِهَادِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ) هُوَ ابْنُ خَيَّاطٍ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْقَطَّانُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عِيَاضٍ الْعَنْسِيِّ) بِالنُّونِ، وَعِيَاضٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ، وَقِيلَ قَيْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نَصْرٍ الْكَلَابَاذِيُّ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، وَكَأَنَّهُ تَبِعَ مَا نَقَلَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي الْكُنَى أَبُو عِيَاضٍ عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيُّ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ شُرَحْبِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ الْحِمْصِيِّ أَبِي عِيَاضٍ. ثُمَّ رَوَى عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيُّ يُكَنَّى أَبَا عِيَاضٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ لِي عَلِيٌّ - يَعْنِي ابْنَ الْمَدِينِيِّ - إِنْ لَمْ يَكُنِ اسْمُ أَبِي عِيَاضٍ قَيْسَ بْنَ ثَعْلَبَةَ فَلَا أَدْرِي قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ غَيْرُهُ عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ. قَالَ النَّسَائِيُّ: وَيُقَالُ كُنْيَةُ عَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قُلْتُ: أَوْرَدَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِي الْكُنَى مُحَصَّلَ مَا أَوْرَدَهُ النَّسَائِيُّ إِلَّا قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَأَنَّهُ رَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ، وَخَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ، وَأَرْطَاةُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى مَجْلِسٍ فَسَلَّمَ فَقَالُوا: لَوْ جَلَسْتَ إِلَيْنَا يَا أَبَا عِيَاضٍ. وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيَاضٍ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ أَنَّ عُمَرَ أَثْنَى عَلَى أَبِي عِيَاضٍ.

وَذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى فِي ذَيْلِ الصَّحَابَةِ وَعَزَاهُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَأَظُنُّهُ ذَكَرَهُ لِإِدْرَاكِهِ وَلَكِنْ لَا تَثْبُتُ لَهُ صُحْبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً قَلِيلَ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالرَّاجِحُ فِي أَبِي عِيَاضٍ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ مُجَاهِدٌ أَنَّهُ عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ وَأَنَّهُ شَامِيٌّ، وَأَمَّا قَيْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ فَهُوَ أَبُو عِيَاضٍ آخَرُ وَهُوَ كُوفِيٌّ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ وَقَالَ: إِنَّهُ يَرْوِي عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ، رَوَى عَنْهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ. وَإِنَّمَا بَسَطْتُ تَرْجَمَتَهُ لِأَنَّ الْمِزِّيَّ لَمْ يَسْتَوْعِبْهَا، وَخَلَطَ تَرْجَمَةً بِتَرْجَمَةٍ، وَأَنَّهُ صَغَّرَ اسْمَهُ فَقَالَ: عُمَيْرُ بْنُ الْأَسْوَدِ الشَّامِيُّ الْعَنْسِيُّ صَاحِبُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ غَيْرُهُ ; فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ الْمِزِّيُّ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ حَدِيثًا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْجِهَادِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، وَكَأَنَّ عُمْدَتَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ رَوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ أَيْضًا، وَقَدْ فَرَّقَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ بَيْنَ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ الَّذِي يُكَنَّى أَبَا عِيَاضٍ وَبَيْنَ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ الَّذِي يَرْوِي

ص: 59

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا عُمَيْرٌ بِالتَّصْغِيرِ، فَإِنْ كَانَ ضَبَطَهُ فَلَعَلَّ أَبَا عِيَاضٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ عَمْرٌو، وَعُمَيْرٌ، وَلَكِنَّهُ آخَرُ غَيْرُ صَاحِبِ عُبَادَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ ابْنُ الْعَاصِ، كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ.

قَوْلُهُ (لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْأَسْقِيَةِ) كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَقَدْ تَفَطَّنَ الْبُخَارِيُّ لِمَا فِيهَا فَقَالَ بَعْدَ سِيَاقِ الْحَدِيثِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا، وَقَالَ عَنِ الْأَوْعِيَةِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ كَأَحْمَدَ، وَالْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنِ أَبِي عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ عِيَاضٌ: ذِكْرُ الْأَسْقِيَةِ وَهْمٌ مِنَ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا هُوَ عَنِ الْأَوْعِيَةِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ قَطُّ عَنِ الْأَسْقِيَةِ وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ الظُّرُوفِ وَأَبَاحَ الِانْتِبَاذَ فِي الْأَسْقِيَةِ، فَقِيلَ لَهُ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً فَاسْتَثْنَى مَا يُسْكِرُ ; وَكَذَا قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَغَيْرِهَا، قَالُوا: فَفِيمَ نَشْرَبُ؟ قَالَ: فِي أَسْقِيَةِ الْأُدُمِ. قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ فِي الْأَصْلِ كَانَتْ لَمَّا نَهَى عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي الْأَسْقِيَةِ، فَسَقَطَ مِنَ الرِّوَايَةِ شَيْءٌ انْتَهَى. وَسَبَقَهُ إِلَى هَذَا الْحُمَيْدِيُّ فَقَالَ فِي الْجَمْعِ: لَعَلَّهُ نَقَصَ مِنْ لَفْظِ الْمَتْنِ، وَكَانَ فِي الْأَصْلِ لَمَّا نَهَى عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي الْأَسْقِيَةِ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَاهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الظُّرُوفِ إِلَّا الْأَسْقِيَةَ وَهُوَ عَجِيبٌ، وَالَّذِي قَالَهُ الْحُمَيْدِيُّ أَقْرَبُ، وَإِلَّا فَحَذْفُ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَإِثْبَاتُ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا إِنِ ادَّعَى مَا قَالَ الْحُمَيْدِيُّ أَنَّهُ سَقَطَ عَلَى الرَّاوِي. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ معناه لَمَّا نَهَى فِي مَسْأَلَةِ الْأَنْبِذَةِ عَنِ الْجِرَارِ بِسَبَبِ الْأَسْقِيَةِ قَالَ: وَمَجِيءُ عَنْ سَبَبِيَّةً شَائِعٌ، مِثْلُ يُسَمِّنُونَ عَنِ الْأَكْلِ أَيْ بِسَبَبِ الْأَكْلِ، وَمِنْهُ:{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أَيْ بِسَبَبِهَا. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَيَظْهَرُ لِي أَنْ لَا غَلَطَ وَلَا سَقْطَ، وَإِطْلَاقُ السِّقَاءِ عَلَى كُلِّ مَا يُسْقَى مِنْهُ جَائِزٌ، فَقَوْلُهُ نَهَى عَنِ الْأَسْقِيَةِ بِمَعْنَى الْأَوْعِيَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْعِيَةِ، الْأَوْعِيَةُ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا، وَاخْتِصَاصُ اسْمِ الْأَسْقِيَةِ بِمَا يُتَّخَذُ مِنَ الْأُدُمِ إِنَّمَا هُوَ بِالْعُرْفِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: السِّقَاءُ يَكُونُ لِلَّبَنِ وَالْمَاءِ وَالْوَطْبِ بِالْوَاوِ لِلَّبَنِ خَاصَّةً، وَالنِّحْيُ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ لِلسَّمْنِ وَالْقِرْبَةُ لِلْمَاءِ، وَإِلَّا فَمَنْ يُجِيزُ الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ لَا يَمْنَعُ مَا صَنَعَ سُفْيَانُ، فَكَأَنَّهُ كَانَ يَرَى اسْتِوَاءَ اللَّفْظَيْنِ، فَحَدَّثَ بِهِ مَرَّةً هَكَذَا وَمِرَارًا هَكَذَا، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَعُدُّهَا الْبُخَارِيُّ وَهْمًا.

قَوْلُهُ: (فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْجَرِّ غَيْرَ الْمُزَفَّتِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ فَأَرْخَصَ وَهِيَ لُغَةٌ، يُقَالُ أَرْخَصَ وَرَخَّصَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ لَمْ تَقَعْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الِانْتِبَاذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ فَلَمَّا شَكَوْا رَخَّصَ لَهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْعِيَةِ دُونَ بَعْضٍ ; ثُمَّ وَقَعَتِ الرُّخْصَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَّةً، لَكِنْ يَفْتَقِرُ مَنْ قَالَ إِنَّ الرُّخْصَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ الدَّالَّ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو هَذَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَلَيْسَ هُوَ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ وَإِنْ كَانَ هُوَ أَيْضًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ. لِأَنَّ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ سِيَاقَهُ مِثْلُ سِيَاقِ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ إِلَّا فِي اللَّفْظَةِ الَّتِي اخْتَلَفَا فِيهَا، وَسِيَاقُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ لَا يُشْبِهُ سِيَاقَ عَلِيٍّ.

قَوْلُهُ: (بِهَذَا) أَيْ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى عَلِيٍّ وَالْمَتْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ: بِإِسْنَادِهِ مِثْلُهُ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَوْعِيَةِ) فِيهِ حَذْفُ تَقْدِيرِهِ: نَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: لَا تَنْبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَسْقِيَةِ مِنَ الْأُدُمِ

ص: 60

وَبَيْنَ غَيْرِهَا أَنَّ الْأَسْقِيَةَ يَتَخَلَّلُهَا الْهَوَاءُ مِنْ مَسَامِّهَا فَلَا يَسْرُعُ إِلَيْهَا الْفَسَادُ مِثْلُ مَا يَسْرُعُ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْجِرَارِ وَنَحْوِهَا مِمَّا نَهَى عَنِ الِانْتِبَاذِ فِيهِ. وَأَيْضًا فَالسِّقَاءُ إِذَا نُبِذَ فِيهِ ثُمَّ رُبِطَ أُمِنَتْ مَفْسَدَةُ الْإِسْكَارِ بِمَا يُشْرَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَتَى تَغَيَّرَ وَصَارَ مُسْكِرًا شَقَّ الْجِلْدَ، فَلَمَّا لَمْ يَشُقَّهُ فَهُوَ غَيْرُ مُسْكِرٍ، بِخِلَافِ الْأَوْعِيَةِ لِأَنَّهَا قَدْ تُصَيِّرُ النَّبِيذَ فِيهَا مُسْكِرًا وَلَا يُعْلَمُ بِهِ، وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فِي بَعْضِ الْأَوْعِيَةِ دُونَ بَعْضٍ فَمِنْ جِهَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى صِيَانَةِ الْمَالِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ إِضَاعَتِهِ، لِأَنَّ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا يَسْرُعُ التَّغَيُّرُ إِلَى مَا يُنْبَذُ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا أُذِنَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْرُعُ إِلَيْهِ التَّغَيُّرُ، وَلَكِنْ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ ظَاهِرٌ فِي تَعْمِيمِ الْإِذْنِ فِي الْجَمِيعِ، يُفِيدُ أَنْ لَا تَشْرَبُوا الْمُسْكِرَ، فَكَأَنَّ الْأَمْنَ حَصَلَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى تَرْكِ الشُّرْبِ مِنَ الْوِعَاءِ ابْتِدَاءً حَتَّى يُخْتَبَرَ حَالُهُ هَلْ تَغَيَّرَ أَوْ لَا، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الِاخْتِبَارُ بِالشُّرْبِ بَلْ يَقَعُ بِغَيْرِ الشُّرْبِ، مِثْلُ أَنْ يَصِيرَ شَدِيدَ الْغَلَيَانِ أَوْ يَقْذِفُ بِالزَّبَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالُوا لَا بُدَّ لَنَا) فِي رِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ أَعْرَابِيٌّ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ) هُوَ الْأَعْمَشُ، وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ بْنِ شَرِيكٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عُثْمَانُ) هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ النَّخَعِيُّ (قُلْتُ لِلْأَسْوَدِ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ وَهُوَ خَالُ إِبْرَاهِيمَ الرَّاوِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (عَمَّ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ) أَيِ أَخْبِرْنِي عَمَّا نَهَى، وَعَمَّا أَصْلُهَا عَنْ مَا فَأُدْغِمَتْ وَلَا تُشْبَعُ الْمِيمُ غَالِبًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَا نَهَى بِحَذْفِ عَنْ.

قَوْلُهُ: (أَهْلَ الْبَيْتِ) بِالْفَتْحِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ.

قَوْلُهُ: (أَمَا ذَكَرْتَ) الْقَائِلُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ، وَقَوْلُهُ قَالَ أَيِ الْأَسْوَدُ، وَقَوْلُهُ أَفَنُحَدِّثُ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالنُّونِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَفَأُحَدِّثُ بِالْإِفْرَادِ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَفَأُحَدِّثُكَ مَا لَم أَسْمَعْ وَإِنَّمَا اسْتَفْهَمَ إِبْرَاهِيمُ عَنِ الْجَرِّ وَالْحَنْتَمِ لِاشْتِهَارِ الْحَدِيثِ بِالنَّهْيِ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَرْبَعَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي التَّقْيِيدِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ، فَإِنَّ الدُّبَّاءَ وَالْمُزَفَّتَ كَانَ عِنْدَهُمْ مُتَيَسِّرًا، فَلِذَلِكَ خُصَّ نَهْيُهُمْ عَنْهُمَا.

الحديث الخامس.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَالشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ سُلَيْمَانُ بْنُ فَيْرُوزَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْجَرِّ الْأَخْضَرِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ الْأَخْضَرِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ) الْقَائِلُ هُوَ الشَّيْبَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ لَا) يَعْنِي أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْأَخْضَرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ بِالْخُضْرَةِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَكَأَنَّ الْجِرَارَ الْخُضْرَ حِينَئِذٍ كَانَتْ شَائِعَةً بَيْنَهُمْ فَكَانَ ذِكْرُ الْأَخْضَرِ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لَا لِلِاحْتِرَازِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا عِنْدِي كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى جَوَابِ سُؤَالٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ الْجَرُّ الْأَخْضَرُ، فَقَالَ: لَا تَنْبِذُوا فِيهِ، فَسَمِعَهُ الرَّاوِي فَقَالَ: نَهَى عَنِ الْجَرِّ الْأَخْضَرِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ، قَالَ: وَالْجَرُّ كُلُّ مَا يُصْنَعُ مِنْ مَدَرٍ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ الْأَخْضَرِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَحْمَرِ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَفِي الْأَوَّلِ اخْتِصَارٌ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يُعَلَّقِ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِالْخُضْرَةِ وَالْبَيَاضِ، وَإِنَّمَا عُلِّقَ بِالْإِسْكَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجِرَارَ تُسْرِعُ التَّغَيُّرَ لِمَا يُنْبَذُ فِيهَا، فَقَدْ يَتَغَيَّرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُشْعَرَ بِهِ، فَنَهَوْا عَنْهَا. ثُمَّ لَمَّا وَقَعَتِ الرُّخْصَةُ أُذِنَ لَهُمْ فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مُسْكِرًا.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ نَبِيذَ الْجَرِّ الْأَخْضَرِ وَأَخْرَجَ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فِي الْجَرِّ الْأَخْضَرِ وَمِنْ طَرِيقِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَجَمَاعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَهُ، وَقَدْ خَصَّ جَمَاعَةٌ النَّهْيَ عَنِ الْجَرِّ بِالْجِرَارِ الْخُضْرِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي

ص: 61

هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُ - أَوِ الْكَثِيرُ - مِنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا، وَقِيلَ إِنَّهَا جِرَارٌ مُقَيَّرَةُ الْأَجْوَافِ يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقِيلَ مِثْلُهُ عَنْ عَائِشَةَ بِزِيَادَةِ: أَعْنَاقُهَا فِي جَنُوبِهَا، وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: جِرَارُ أَفْوَاهُهَا فِي جَنُوبِهَا يُجْلَبُ فِيهَا الْخَمْرُ مِنَ الطَّائِفِ وَكَانُوا يَنْبِذُونَ فِيهَا يُضَاهُونَ بِهَا الْخَمْرَ. وَعَنْ عَطَاءٍ: جِرَارٌ تُعْمَلُ مِنْ طِينٍ وَدَمٍ وَشَعْرٍ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ الْجَرَّ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ مَدَرٍ، وَكَذَا فَسَّرَ ابْنُ عُمَرَ الْجَرَّ بِالْجَرَّةِ وَأَطْلَقَ، وَمِثْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

‌9 - بَاب نَقِيعِ التَّمْرِ مَا لَمْ يُسْكِرْ

5597 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِعُرْسِهِ، فَكَانَتْ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ الْعَرُوسُ، فَقَالَتْ: هل تَدْرُونَ مَا أَنْقَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ نَقِيعِ التَّمْرِ مَا لَمْ يُسْكِرْ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ امْرَأَةِ أَبِي أُسَيْدٍ وَفِيهِ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا، وَتَقَدَّمَ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ فِي أَبْوَابِ الْوَلِيمَةِ، وَأَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْقِلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ كَرَاهَةِ نَقِيعِ الزَّبِيبِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَغَيَّرَ وَكَادَ يَبْلُغُ حَدَّ الْإِسْكَارِ، أَوِ أَرَادَ قَائِلُهُ حَسْمَ الْمَادَّةِ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَحْدَثَ النَّاسُ أَشْرِبَةً لَا أَدْرِي مَا فِيهَا، فَمَا لِي شَرَابٌ إِلَّا الْمَاءَ وَاللَّبَنَ، الْحَدِيثُ، وَتَقْيِيدُهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِمَا لَمْ يُسْكِرْ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِلسُّكْرِ لَا إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا، أَمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا سَهْلٌ وَهُوَ مِنَ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى أَثْنَاءِ نَهَارِهِ لَا يَحْصُلُ فِيهَا التَّغَيُّرُ جُمْلَةً، وَأَمَّا خَصَّهُ بِمَا لَا يُسْكِرُ مِنْ جِهَةِ الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌10 - بَاب الْبَاذَقِ، وَمَنْ نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ

وَرَأَى عُمَرُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ شُرْبَ الطِّلَاءِ عَلَى الثُّلُثِ. وَشَرِبَ الْبَرَاءُ، وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اشْرَبْ الْعَصِيرَ مَا دَامَ طَرِيًّا. وَقَالَ عُمَرُ: وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ شَرَابٍ، وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ.

5598 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْبَاذَقِ، فَقَالَ: سَبَقَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم الْبَاذَقَ، فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ، قَالَ: الشَّرَابُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ. قَالَ: لَيْسَ بَعْدَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ إِلَّا الْحَرَامُ الْخَبِيثُ.

5599 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ".

ص: 62

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبَاذَقِ) ضَبَطَهُ ابْنُ التِّينِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ يَعْنِي الْقَابِسِيَّ أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ بِكَسْرِ الذَّالِ، وَسُئِلَ عَنْ فَتْحِهَا فَقَالَ: مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ. قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ الْخَمْرُ إِذَا طُبِخَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. وَقَالَ الْجَوَالِيقِيُّ: أَصْلُهُ باذه وَهُوَ الطِّلَاءُ وَهُوَ أَنْ يُطْبَخَ الْعَصِيرُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ طِلَاءِ الْإِبِلِ. وَقَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ: الْبَاذَقُ الْمَطْبُوخُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ إِذَا أَسْكَرَ، أَوِ إِذَا طُبِخَ بَعْدَ أَنِ اشْتَدَّ. وَذَكَرَ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ أَنَّهُ مِنَ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ يُشْبِهُ الْفُقَّاعَ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا اشْتَدَّ وَأَسْكَرَ، وَكَلَامُ مَنْ هو أَعْرَفَ مِنْهُ بِذَلِكَ يُخَالِفُهُ، وَيُقَال لِلْبَاذَقِ أَيْضًا الْمُثَلَّثُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ ذَهَبَ مِنْهُ بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ، وَكَذَلِكَ الْمُنَصَّفُ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ، وَتُسَمِّيهِ الْعَجَمُ مَيْنُخْتَجُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضُمُّ الْمُثَنَّاةَ، وَرِوَايَتُهُ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِدَالٍ بَدَلَ الْمُثَنَّاةِ وَبِحَذْفِ الْمِيمِ وَالْيَاءِ مِنَ أَوَّلِهِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ) كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ مَعَ نَقْلِهِ عَنْهُ تَجْوِيزَ شُرْبِ الطِّلَاءِ عَلَى الثُّلُثِ، فَكَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ الَّذِي أَبَاحَهُ مَا لَمْ يُسْكِرِ أَصْلًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنَ الْأَشْرِبَةِ فَلِأَنَّ الْآثَارَ الَّتِي أَوْرَدَهَا مَرْفُوعَهَا وَمَوْقُوفَهَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُشْرَبُ. وَقَدْ سَبَقَ جَمْعُ طُرُقِ حَدِيثِ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فِي بَابِ الْخَمْرِ مِنَ الْعَسَلِ.

قَوْلُهُ: (وَرَأَى عُمَرُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ شُرْبَ الطِّلَاءِ عَلَى الثُّلُثِ) أَيْ رَأَوْا جَوَازَ شُرْبِ الطِّلَاءِ إِذَا طُبِخَ فَصَارَ عَلَى الثُّلُثِ وَنَقَصَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآثَارِ، فَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ فَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ شَكَا إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّامِ وَبَاءَ الْأَرْضِ وَثِقَلَهَا، وَقَالُوا لَا يُصْلِحُنَا إِلَّا هَذَا الشَّرَابُ، فَقَالَ عُمَرُ: اشْرَبُوا الْعَسَلَ، قَالُوا مَا يُصْلِحُنَا الْعَسَلُ، فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ أَهْلِ الْأَرْضِ: هَلْ لَكَ أَنْ نجْعَلَ لَكَ مِنْ هَذَا الشَّرَابِ شَيْئًا لَا يُسْكِرُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَطَبَخُوهُ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ ثُلُثَانِ وَبَقِيَ الثُّلُثُ، فَأَتَوْا بِهِ عُمَرَ فَأَدْخَلَ فِيهِ إِصْبَعَهُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ فَتَبِعَهَا يَتَمَطَّطُ، فَقَالَ: هَذَا الطِّلَاءُ مِثْلُ طِلَاءِ الْإِبِلِ، فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ أَنْ يَشْرَبُوهُ. وَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ شَيْئًا حَرَّمْتَهُ عَلَيْهِمْ وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَمَّارٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ جَاءَنِي عِيرٌ تَحْمِلُ شَرَابًا أَسْوَدَ كَأَنَّهُ طِلَاءُ الْإِبِلِ، فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَطْبُخُونَهُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ الْأَخْبَثَانِ: ثُلُثٌ بِرِيحِهِ وَثُلُثٌ بِبَغْيِهِ.

فَمُرْ مَنْ قِبَلَكَ أَنْ يَشْرَبُوهُ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ أَحَلَّ مِنَ الشَّرَابِ مَا طُبِخَ فَذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ: اطْبُخُوا شَرَابَكُمْ حَتَّى يَذْهَبَ نَصِيبُ الشَّيْطَانِ مِنْهُ، فَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ اثْنَيْنِ وَلَكُمْ وَاحِدٌ وَهَذِهِ أَسَانِيدٌ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ أَفْصَحَ بَعْضُهَا بِأَنَّ الْمَحْذُورَ مِنْهُ السُّكْرُ فَمَتَى أَسْكَرَ لَمْ يَحِلَّ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِنَصِيبِ الشَّيْطَانِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عليه السلام قَالَ لَمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ فَقَدَ الْحَبْلَةَ

(1)

فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ أَخَذَهَا ثُمَّ أُحْضِرَتْ لَهُ وَمَعَهَا الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: إِنَّهُ شَرِيكُكَ فِيهَا فَأَحْسِنِ الشَّرِكَةَ، قَالَ: لَهُ النِّصْفُ. قَالَ: أَحْسِنْ. قَالَ: لَهُ الثُّلُثَانِ وَلِيَ الثُّلُثُ. قَالَ: أَحْسَنْتَ وَأَنْتَ مِحْسَانٌ إنْ تَأْكُلَهُ عِنَبًا وَتَشْرَبَهُ عَصِيرًا، وَمَا طُبِخَ عَلَى الثُّلُثِ فَهُوَ لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ، وَمَا جَازَ عَنِ الثُّلُثِ فَهُوَ مِنْ نَصِيبِ الشَّيْطَانِ وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَهُ.

وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ،

(1)

قوله: "الحبلة" بفتح الحاء وسكون الباء، وهي الكرمة.

ص: 63

وَأَغْرَبَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَمْ يُدْرِكْ نُوحًا فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا، وَأَمَّا أَثَرُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَهُوَ ابْنُ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذٍ وَهُوَ ابْنُ جَبَلٍ فَأَخْرَجَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَأَبَا طَلْحَةَ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنَ الطِّلَاءِ مَا طُبِخَ عَلَى الثُّلُثِ وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَالطِّلَاءُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ هُوَ الدِّبْسُ شُبِّهَ بِطِلَاءِ الْإِبِلِ وَهُوَ الْقَطِرَانُ الَّذِي يُدْهَنُ بِهِ، فَإِذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ حَتَّى تَمَدَّدَ أَشْبَهَ طِلَاءَ الْإِبِلِ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ غَالِبًا لَا يُسْكِرُ. وَقَدْ وَافَقَ عُمَرُ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ أَبُو مُوسَى، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْهُمَا، وَعَلِيٌّ وَأَبُو أُمَامَةَ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَغَيْرُهُمُ أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ، وَشَرْطُ تَنَاوُلِهِ عِنْدَهُمْ مَا لَمْ يُسْكِرْ، وَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ تَوَرُّعًا.

قَوْلُهُ: (وَشَرِبَ الْبَرَاءُ، وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ) أَمَّا أَثَرُ الْبَرَاءِ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ الطِّلَاءَ عَلَى النِّصْفِ، أَيْ إِذَا طُبِخَ فَصَارَ عَلَى النِّصْفِ. وَأَمَّا أَثَرُ أَبِي جُحَيْفَةَ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَوَافَقَ الْبَرَاءُ، وَأَبُو جُحَيْفَةَ، وَجَرِيرٌ، وَأَنَسٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَشُرَيْحٌ، وَأَطْبَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُسْكِرُ حَرُمَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْأَشْرِبَةِ: بَلَغَنِي أَنَّ النِّصْفِ يُسْكِرُ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَعْنَابِ الْبِلَادِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ إِنَّهُ شَاهَدَ مِنَ الْعَصِيرِ مَا إِذَا طُبِخَ إِلَى الثُّلُثِ يَنْعَقِدُ وَلَا يَصِيرُ مُسْكِرًا أَصْلًا، وَمِنْهُ مَا إِذَا طُبِخَ إِلَى النِّصْفِ كَذَلِكَ. وَمِنْهُ مَا إِذَا طُبِخَ إِلَى الرُّبْعِ كَذَلِكَ، بَلْ قَالَ: إِنَّهُ شَاهَدَ مِنْهُ مَا يَصِيرُ رُبًّا خَاثِرًا لَا يُسْكِرُ. وَمِنْهُ مَا لَوْ طُبِخَ لَا يَبْقَى غَيْرَ رُبُعِهِ لَا يَخْثُرُ وَلَا يَنْفَكُّ السُّكْرُ عَنْهُ، قَالَ: فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَمْرِ الطِّلَاءِ عَلَى مَا لَا يُسْكِرُ بَعْدَ الطَّبْخِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ النَّارَ لَا تُحِلُّ شَيْئًا وَلَا تُحَرِّمُهُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْهُ وَقَالَ: إِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي الطِّلَاءِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَصِيرُ مِثْلَ الْعَسَلِ وَيُؤْكَلُ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَيُشْرَبَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اشْرَبِ الْعَصِيرَ مَا دَامَ طَرِيًّا) وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَابِتٍ الثَّعْلَبِيِّ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنِ الْعَصِيرِ. فَقَالَ: اشْرَبْهُ مَا كَانَ طَرِيًّا. قَالَ: إِنِّي طَبَخْتُ شَرَابًا وَفِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَ: أَكُنْتَ شَارِبَهُ قَبْلَ أَنْ تَطْبُخَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنَّ النَّارَ لَا تُحِلُّ شَيْئًا قَدْ حُرِّمَ وَهَذَا يُقَيِّدُ مَا أُطْلِقَ فِي الْآثَارِ الْمَاضِيَةِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُطْبَخُ إِنَّمَا هُوَ الْعَصِيرُ الطَّرِيُّ قَبْلَ أَنْ يَتَخَمَّرَ، أَمَّا لَوْ صَارَ خَمْرًا فَطُبِخَ فَإِنَّ الطَّبْخَ لَا يُطَهِّرُهُ وَلَا يُحِلُّهُ إِلَّا عَلَى رَأْي مَنْ يُجِيزُ تَخْلِيلَ الْخَمْرِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، وَحُجَّتُهُمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ أَنَسٍ، وَأَبِي طَلْحَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ اشْرَبِ الْعَصِيرَ مَا لَمْ يَغْلِ وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ إِذَا بَدَأَ فِيهِ التَّغَيُّرُ يَمْتَنِعُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْغَلَيَانِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَقِيلَ إِذَا انْتَهَى غَلَيَانُهُ وَابْتَدَأَ فِي الْهُدُوِّ بَعْدَ الْغَلَيَانِ، وَقِيلَ إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْرُمُ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيءُ حَتَّى يَغْلِيَ وَيَقْذِفَ بِالزَّبَدِ. فَإِذَا غَلَى وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ حَرُمَ. وَأَمَّا الْمَطْبُوخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ فَلَا يَمْتَنِعُ مُطْلَقًا وَلَوْ غَلَى وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ بَعْدَ الطَّبْخِ.

وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ: يَمْتَنِعُ إِذَا صَارَ مُسْكِرًا شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ غَلَى أَمْ لَمْ يَغْلِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ حَدَّ الْإِسْكَارِ بِأَنْ يَغْلِيَ ثُمَّ يَسْكُنَ غَلَيَانُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُرَادُ مَنْ قَالَ: حَدُّ مَنْعِ شُرْبِهِ أَنْ يَتَغَيَّرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ) هُوَ ابْنُ الْخَطَّابِ (وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ

ص: 64

وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ (رِيحُ شَرَابٍ، وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ) وَصَلَهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ مِنْ فُلَانٍ رِيحَ شَرَابٍ، فَزَعَمَ أَنَّهُ شَرَابُ الطِّلَاءِ، وَإِنِّي سَائِلٌ عَمَّا شَرِبَ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ. فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ تَامًّا وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَفِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَسَأَلَ عَنْهُ فَوَجَدَهُ يُسْكِرُ فَجَلَدَهُ.

وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعَ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَأَصْحَابَهُ شَرِبُوا شَرَابًا، وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ حَدَدْتُهُمْ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ قَالَ: فَرَأَيْتُ عُمَرَ يَجْلِدُهُمْ وَهَذَا الْأَثَرُ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْتُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَحَلَّهُ عُمَرُ مِنَ الْمَطْبُوخِ الَّذِي يُسَمَّى الطِّلَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ بَلَغَ حَدَّ الْإِسْكَارِ، فَإِنْ بَلَغَهُ لَمْ يَحِلَّ عِنْدَهُ، وَلِذَلِكَ جَلَدَهُمْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ هَلْ شَرِبُوا مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنِ احْتَجَّ بِعُمَرَ فِي جَوَازِ شُرْبِ الْمَطْبُوخِ إِذَا ذَهَبَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ وَلَوِ أَسْكَرَ، فَإِنَّ عُمَرَ أَذِنَ فِي شُرْبِهِ وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَثَرَيْنِ عَنْهُ يَقْتَضِي التَّفْصِيلَ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَاسْتَغْنَى عَنِ التَّفْصِيلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ ابْنَهُ فَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ شَرِبَ كَذَا فَسَأَلَ غَيْرَهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُسْكِرُ، أَوْ سَأَلَ ابْنَهُ فَاعْتَرَفَ أَنَّ الَّذِي شَرِبَ يُسْكِرُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَعْمَرٍ فَقَالَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ: شَهِدْتُ عُمَرَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رِيحَ شَرَابٍ، وَإِنِّي سَأَلْتُهُ عَنْهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ الطِّلَاءُ، وَإِنِّي سَائِلٌ عَنِ الشَّرَابِ الَّذِي شَرِبَ فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا جَلَدْتُهُ. قَالَ: فَشَهِدْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْلِدُهُ.

قُلْتُ: وَهَذَا السِّيَاقُ يُوَضِّحُ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ جُرَيْجٍ الَّتِي أَخْرَجَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عنه عَنِ الزُّهْرِيِّ مختصرة مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَفْظُهُ عَنِ السَّائِبِ أَنَّهُ حَضَرَ عُمَرُ يَجْلِدُ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ شَرَابٍ. فَجَلَدَهُ الْحَدَّ تَامًّا فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ جَلَدَهُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الرِّيحِ مِنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ.

وَكَذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَضْرِبُ فِي الرِّيحِ فَإِنَّهَا أَشَدُّ اخْتِصَارًا وَأَعْظَمُ لَبْسًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ أَنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ يُجَوِّزُ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِوُجُودِ الرِّيحِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ النَّسَائِيُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ كَسَرَ النَّبِيذَ بِالْمَاءِ لَمَّا شَرِبَ مِنْهُ فَقَطَّبَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِحُمُوضَتِهِ لَا لِاشْتِدَادِهِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ عَمَّمَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ مِنْهُ هَلْ شَرِبَ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّبِيذَ الَّذِي قَطَّبَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ بَلَغَ حَدَّ الْإِسْكَارِ أَصْلًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إقَامَةِ الْحَدِّ بِالرَّائِحَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ عَمِلَ بِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٍ مِثْلَهُ، قَالَ مَالِكٌ: إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ مِمَّنْ كَانَ يَشْرَبُ ثُمَّ تَابَا أَنَّهُ رِيحُ خَمْرٍ وَجَبَ الْحَدُّ، وَخَالَفَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: لَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلَّا بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مُشَاهَدَةِ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ الرَّوَائِحَ قَدْ تَتَّفِقُ، وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ التَّصْرِيحُ أَنَّهُ جَلَدَ بِالرَّائِحَةِ، بَلْ ظَاهِرُ سِيَاقِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْلِدْهُمْ حَتَّى سَأَلَ.

وَفِي قَوْلِ عُمَرَ: اللَّهُمَّ لَا أُحِلُّ لَهُمْ شَيْئًا حَرَّمْتَهُ عَلَيْهِمْ رَدٌّ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِإِجَازَتِهِ شُرْبَ الْمَطْبُوخِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ الشُّرْبُ مِنْهُ وَلَوِ أَسْكَرَ شَارِبَهُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إِذَا أَسْكَرَ أَوْ لَمْ يُسْكِرْ، فَإِنَّ بَقِيَّةَ أَثَرِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَصَلَ، بِخِلَافِ مَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ) بِالْجِيمِ مُصَغَّرًا اسْمُهُ حِطَّانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَالِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو الْجَوْرِيَةِ.

قَوْلُهُ: (سَبَقَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم الْبَاذَقَ، مَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: أَيْ سَبَقَ مُحَمَّدٌ

ص: 65

بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَسْمِيَتَهُمْ لَهَا الْبَاذَقُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَالْبَاذَقُ شَرَابُ الْعَسَلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى سَبَقَ حُكْمَ مُحَمَّدٍ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَسْمِيَتَهُمْ لَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، وَلَيْسَ تَغْيِيرُهُمْ لِلِاسْمِ بِمُحَلِّلٍ لَهُ إِذَا كَانَ يُسْكِرُ، قَالَ: وَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَهِمَ مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْبَاذَقَ حَلَالٌ، فَحَسَمَ مَادَّتَهُ وَقَطَعَ رَجَاءَهُ وَبَاعَدَ مِنْهُ أَصْلَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُسْكِرَ حَرَامٌ وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّسْمِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يَعْنِي أَنَّ الْبَاذَقَ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: وَسِيَاقُ قِصَّةِ عُمَرَ الْأُولَى يُؤَيِّدُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: شَارِبُ الْمَطْبُوخِ إِذَا كَانَ يُسْكِرُ أَعْظَمُ ذَنْبًا مِنْ شَارِبِ الْخَمْرِ لِأَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَاصٍ بِشُرْبِهَا، وَشَارِبُ الْمَطْبُوخِ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ وَيَرَاهُ حَلَالًا، وَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ قَلِيلَ الْخَمْرِ وَكَثِيرَهُ حَرَامٌ، وَثَبَتَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَنِ اسْتَحَلَّ مَا هُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ كَفَرَ. قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ إِلَى نَحْوِ هَذَا بَعْضُ قُدَمَاءِ الشُّعَرَاءِ فِي أَوَّلِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَالَ يُعَرِّضُ بِبَعْضِ مَنْ كَانَ يُفْتِي بِإِبَاحَةِ الْمَطْبُوخِ:

وَأَشْرَبُهَا وَأَزْعُمُهَا حَرَامًا

وَأَرْجُو عَفْوَ رَبٍّ ذِي امْتِنَانِ

وَيَشْرَبُهَا وَيَزْعُمُهَا حَلَالًا

وَتِلْكَ عَلَى الْمُسِيءِ خَطِيئَتَانِ

قَوْلُهُ: (قَالَ الشَّرَابُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ، قَالَ لَيْسَ بَعْدَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ إِلَّا الْحَرَامُ الْخَبِيثُ) هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الصَّحِيحِ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْقَائِلَ هَلْ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ مَنْ بَعْدَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ فِي أَحْكَامِهِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ قَالَ: الشَّرَابُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ لَا الْحَرَامُ الْخَبِيثُ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ وَهُوَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَفْتِنِي عَنِ الْبَاذَقِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنَّا نَعْمِدُ إِلَى الْعِنَبِ فَنَعْصِرُهُ حَتَّى نَطْبُخَهُ حَتَّى يَكُونَ حَلَالًا طَيِّبًا، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ، اشْرَبِ الْحَلَالَ الطَّيِّبَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ إِلَّا الْحَرَامُ الْخَبِيثُ وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قُلْتُ: نَأْخُذُ الْعِنَبَ فَنَعْصِرُهُ فَنَشْرَبُ مِنْهُ حُلْوًا حَلَالًا؟ قَالَ: اشْرَبِ الْحُلْوَ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمُشَبَّهَاتِ تَقَعُ فِي حَيِّزِ الْحَرَامِ وَهُوَ الْخَبِيثُ، وَمَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ حَلَالٌ طَيِّبٌ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: هَذَا الْأَثَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُضَعِّفُ الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا الْحَدِيثُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْخَمْرِ مِنَ الْعَسَلِ.

ثُمَّ أُسْنِدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ أَحَدِ الثِّقَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِنَّ النَّارَ لَا تُحِلُّ شَيْئًا وَلَا تُحَرِّمُهُ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَيُسْكِرُ؟ قَالُوا: إِذَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَسْكَرَ، قَالَ: فَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ وقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَالْحَلْوَاءُ تُعْقَدُ مِنَ السُّكَّرِ، وَعَطْفُ الْعَسَلِ عَلَيْهَا مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَقَدْ تُعْقَدُ الْحَلْوَاءُ مِنَ السُّكَّرِ فَيَتَقَارَبَانِ. وَوَجْهُ إِيرَادِهِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الَّذِي يَحِلُّ مِنَ الْمَطْبُوخِ هُوَ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْحَلْوَاءِ، وَالَّذِي يَجُوزُ شُرْبُهُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ بِغَيْرِ طَبْخٍ هُوَ مَا كان فِي مَعْنَى الْعَسَلِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَمْزُجُونَهُ بِالْمَاءِ وَيَشْرَبُونَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌11 - بَاب مَنْ رَأَى أَنْ لَا يَخْلِطَ الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ إِذَا كَانَ مُسْكِرًا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ إِدَامَيْنِ فِي إِدَامٍ

5600 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي لَأَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ،

ص: 66

وَأَبَا دُجَانَةَ، وَسُهَيْلَ بْنَ الْبَيْضَاءِ خَلِيطَ بُسْرٍ وَتَمْرٍ إِذْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ، فَقَذَفْتُهَا وَأَنَا سَاقِيهِمْ وَأَصْغَرُهُمْ، وَإِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمَئِذٍ الْخَمْرَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ سَمِعَ أَنَسًا.

5601 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِراً رضي الله عنه يَقُولُ: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَالرُّطَبِ".

5602 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَأَى أَنْ لَا يُخْلَطَ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ إِذَا كَانَ مُسْكِرًا) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ إِذَا كَانَ مُسْكِرًا خَطَأٌ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ عَامٌّ وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ كَثِيرُهُمَا، لِسُرْعَةِ سَرَيَانِ الْإِسْكَارِ إِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ صَاحِبُهُ بِهِ، فَلَيْسَ النَّهْيُ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ لِأَنَّهُمَا يُسْكِرَانِ حَالًا، بَلْ لِأَنَّهُمَا يُسْكِرَانِ مَآلًا؛ فَإِنَّهُمَا إِذَا كَانَا مُسْكِرَيْنِ فِي الْحَالِ لَا خِلَافَ فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ هُوَ خَطَأٌ، بَلْ يَكُونُ أطلق ذلك عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ مَشْهُورٌ. وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَلَى الْبُخَارِيِّ، إِمَّا لِأَنَّهُ يَرَى جَوَازَ الْخَلِيطَيْنِ قَبْلَ الْإِسْكَارِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ تَرْجَمَ عَلَى مَا يُطَابِقُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَهُوَ حَدِيثُ أَنَسٍ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَسْقِيهِ الْقَوْمَ حِينَئِذٍ كَانَ مُسْكِرًا، وَلِهَذَا دَخَلَ عِنْدَهُمْ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنِ الْخَمْرِ، حَتَّى قَالَ أَنَسٌ: وَإِنَّا لَنَعُدُّهَا يَوْمئِذٍ الْخَمْرَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُسْكِرًا. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا يَجْعَلَ إدَامَيْنِ فِي إِدَامٍ فَيُطَابِقُ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَأَبِي قَتَادَةَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ مُعَلَّلًا بِعِلَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ، إِمَّا تَحْقِيقُ إِسْكَارِ الْكَثِيرِ وَإِمَّا تَوَقُّعُ الْإِسْكَارِ بِالْخَلْطِ سَرِيعًا وَإِمَّا الْإِسْرَافُ وَالشَّرَهُ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْإِسْرَافِ مُبَيَّنٌ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قِرَانِ التَّمْرِ.

قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَوَّلَ النَّهْيَ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ بِأَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَمْلُ الْخَلِيطِ عَلَى الْمَخْلُوطِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَبِيذُ تَمْرٍ وَحْدَهُ مَثَلًا قَدِ اشْتَدَّ، وَنَبِيذُ زَبِيبٍ وَحْدَهُ مَثَلًا قَدِ اشْتَدَّ، فَيُخْلَطَانِ لِيَصِيرَا خَلًّا، فَيَكُونُ النَّهْيُ مِنْ أَجْلِ تَعَمُّدِ التَّخْلِيلِ، وَهَذَا مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ. ثَانِيهُمَا أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ الْخَلْطِ الْإِسْرَافُ، فَيَكُونُ كَالنَّهْيِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ إدَامَيْنِ. وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي قَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: وَأَنْ لَا يَجْعَلُ إدَامَيْنِ فِي إِدَامٍ وَقَدْ حَكَى أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ ح مَلُوا النَّهْيَ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ عَلَى الثَّانِي، وَجَعَلُوهُ نَظِيرَ النَّهْيِ عَنِ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَطْعِمَةِ، قَالُوا: فَإِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتيْنِ وَهُمَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ إِذَا وَقَعَ الْقِرَانُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ؟ وَلِهَذَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ مَنْ رَأَى وَلَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ. وَقَدْ نَصَرَ الطَّحَاوِيُّ مَنْ حَمَلَ النَّهْيَ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ عَلَى مَنْعِ السَّرَفِ فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ. وَسَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَحَدُ مَنْ رَوَى النَّهْيَ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ وَكَانَ يَنْبِذُ الْبُسْرَ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى بُسْرَةٍ فِي بَعْضِهَا تَرْطِيبٌ قَطَعَهُ كَرَاهَةَ أَنْ يَقَعَ فِي النَّهْيِ، وَهَذَا عَلَى قَاعِدَتِهِمْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ فَهِمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ كَالنَّهْيِ عَنِ الْقِرَانِ لِمَا خَالَفَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ عَلَى غَيْرِهِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ الَّذِي تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَفِيهِ أَنَّهُ سَقَاهُ خَلِيطَ بُسْرٍ وَتَمْرٍ، فَدَلَّ عَلَى: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ خَلْطِ الْبُسْرِ بِالتَّمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ عَادَةً يَقْتَضِي إِسْرَاعَ الْإِسْكَارِ

ص: 67

بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا فِي الْخَلِيطَيْنِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ صَاحِبُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَحَمْلُ عِلَّةِ النَّهْيِ لِخَوْفِ الْإِسْرَاعِ أَظْهَرُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْإِسْرَافِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ نِصْفِ رِطْلٍ مِنْ تَمْرٍ وَنِصْفِ رِطْلٍ مِنْ بُسْرٍ إِذَا خُلِطَا مَثَلًا، وَبَيْنَ رِطْلٍ مِنْ زَبِيبٍ صِرْفٍ، بَلْ هُوَ أَوْلَى لِقِلَّةِ الزَّبِيبِ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّمْرِ وَالرُّطَبِ، وَقَدْ وَقَعَ الْإِذْنُ بِأَنْ يُنْبَذَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الْإِسْرَافَ لَمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَنِ اللَّيْثِ قَالَ: لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يُخْلَطَ نَبِيذُ التَّمْرِ وَنَبِيذُ الزَّبِيبِ ثُمَّ يُشْرَبَانِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ أَنْ يُنْبَذَا جَمِيعًا ثُمَّ يُشْرَبَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَشْتَدُّ بِهِ صَاحِبُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ سَمِعَ أَنَسًا) أَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانَ سَمَاعِ قَتَادَةَ، لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي سَاقَهَا قَبْلَ مُعَنْعَنًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَلَفْظُهُ نَهَى أَنْ يُخْلَطَ التَّمْرُ وَالزَّهْوُ ثُمَّ يُشْرَبُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَامَّةَ خَمْرِهِمْ يَوْمئِذٍ، وَهَذَا السِّيَاقُ أَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ الَّذِي حُمِلَتْ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّرْجَمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَهِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ جَابِرٍ، وأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ: نَهَى عَنِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي النَّهْيِ عَنِ الْخَلِيطِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ: لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ الرُّطَبِ والْبُسْرِ وَبَيْنَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ نَبِيذًا وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عَطَاءٍ نُهِيَ أَنْ يُنْبَذَ التَّمْرُ والزبيب جَمِيعًا وَالرُّطَبُ وَالْبُسْرُ جَمِيعًا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ أَيْضًا، وَهِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ) هُوَ الْأَنْصَاريُّ الْمَشْهُورُ.

قَوْلُهُ: (نَهَى) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: لَا تَنْبِذُوا الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

قَوْلُهُ: (عَلَى حِدَةٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ بَعْدَهَا هَاءُ تَأْنِيثٍ أَيْ وَحْدَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَى حِدَتِهِ وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ رَدَّ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا كَمَا بَيَّنْتُهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: مَنْ شَرِبَ مِنْكُمُ النَّبِيذَ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا أَوْ تَمْرًا فَرْدًا أَوْ بُسْرًا فَرْدًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ سَبَبَ النَّهْيِ مِنْ طَرِيقِ الْحَرَّانِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَكْرَانَ فَضَرَبَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ شربِهِ، فَقَالَ: شَرِبْتُ نَبِيذَ تَمْرٍ وزبيب، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَخْلِطُوهُمَا، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكْفِي وَحْدَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ عَنِ الْخَلِيطِ أَنَّ الْإِسْكَارَ يَسْرُعُ إِلَيْهِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ فَيَظُنُّ الشَّارِبُ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِسْكَارِ، وَيَكُونُ قَدْ بَلَغَهُ. قَالَ: وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّهْيَ، فِي ذَلِكَ لِلتَّنْزِيهِ. وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ إِذَا صَارَ مُسْكِرًا، وَلَا تَخْفَى عَلَامَتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ لِلتَّحْرِيمِ. وَاخْتُلِفَ فِي خَلْطِ نَبِيذِ الْبُسْرِ الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ مَعَ نَبِيذِ التَّمْرِ الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ عِنْدَ الشُّرْبِ هَلْ يَمْتَنِعُ أَوْ يَخْتَصُّ النَّهْيُ عَنِ الْخَلْطِ عِنْدَ الِانْتِبَاذِ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا فَرْقَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدَ الشُّرْبِ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ أَنَّ النَّبِيذَ يَكُونُ حُلْوًا، فَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ الْآخَرُ أَسْرَعَتِ إِلَيْهِ الشِّدَّةُ.

وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى، كَأَنَّهُ يَخُصُّ النَّهْيَ بِمَا إِذَا نُبِذَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْآخَرُ، لَا مَا إِذَا نُبِذَا مَعًا. وَاخْتُلِفَ فِي الْخَلِيطَيْنِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ غَيْرِ النَّبِيذِ، فَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخْلَطَ لِلْمَرِيضِ شَرَابَيْنِ، وَرَدَّهُ بِأَنَّهُمَا لَا يَسْرُعُ إِلَيْهِمَا الْإِسْكَارُ اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ يَرَى أَنَّ الْعِلَّةَ الْإِسْرَافُ كَمَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ يُقَيَّدُ كَلَامُ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَرِيضِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُفْرَدُ كَافِيًا فِي دَوَاءِ ذَلِكَ

ص: 68

الْمَرَضِ، وَإِلَّا فَلَا مَانِعَ حِينَئِذٍ مِنَ التَّرْكِيبِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ لِمَا يَحْدُثُ عَنْهَا مِنَ السُّكْرِ، وَجَوَازُ النَّبِيذِ الْحُلْوِ الَّذِي لَا يَحْدُثُ عَنْهُ سُكْرٌ، وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ ثُمَّ نُسِخَ، وَعَنِ الْخَلِيطَيْنِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: فَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ بِالتَّحْرِيمِ وَلَوْ لَمْ يُسْكِرْ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ بِالْحِلِّ. قَالَ: وَاتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْكَرَاهَةِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ؟ وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ الْمَنْعِ: فَقِيلَ: لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَشُدُّ الْآخَرَ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْإِسْكَارَ يَسْرُعُ إِلَيْهِمَا. قَالَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْعَسَلَ بِاللَّبَنِ لَيْسَ بِخَلِيطَيْنِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يُنْبَذُ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يَجُوزُ خَلْطُ شَرَابَيْ سُكَّرٍ كَالْوَرْدِ وَالْجُلَّابِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَلِيطَيْنِ لِأَجْلِ التَّخْلِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَتَحَصَّلُ لَنَا أَرْبَعُ صُوَرٍ: أَنْ يَكُونَ الْخَلِيطَانِ مَنْصُوصَيْنِ فَهُوَ حَرَامٌ، أَوْ مَنْصُوصٌ وَمَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ قِيَاسًا عَلَى الْمَنْصُوصِ، أَوْ مَسْكُوتٌ عَنْهُمَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ لَمْ يُسْكِرْ جَازَ. قَالَ: وَهُنَا مَرْتَبَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ مَا لَوْ خَلَطَ شَيْئَيْنِ وَأَضَافَ إِلَيْهِمَا دَوَاءً يَمْنَعُ الْإِسْكَارَ فَيَجُوزُ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَيُكْرَهُ فِي الْمَنْصُوصِ. وَمَا نَقَلَهُ عَنِ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وُجِدَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ بِمَا يُوَافِقُهُ فَقَالَ: ثَبَتَ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَلِيطَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَعَنْ مَالِكٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ عَلَى ذَلِكَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ إِلَى تَحْرِيمِ الْخَلِيطَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّرَابُ مِنْهُمَا مُسْكِرًا جَمَاعَةٌ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالُوا: مَنْ شَرِبَ الْخَلِيطَيْنِ أَثِمَ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الشِّدَّةِ أَثِمَ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَخَصَّ اللَّيْثُ النَّهْيَ بِمَا إِذَا نُبِذَا مَعًا اهـ.

وَجَرَى ابْنُ حَزْمٍ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْجُمُودِ فَخَصَّ النَّهْيَ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ بِخَلْطٍ وَاحِدٍ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ وَهِيَ: التَّمْرُ وَالرُّطَبُ وَالزَّهْوُ وَالْبُسْرُ وَالزَّبِيبُ فِي أَحَدِهَا أَوْ فِي غَيْرِهَا، فَأَمَّا لَوْ خُلِطَ وَاحِدٌ مِنْ غَيْرِهَا فِي وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهَا لَمْ يَمْتَنِعْ كَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ مَثَلًا، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ نَبِيذًا مِمَّا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: النَّهْيُ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَعَنْ مَالِكٍ يُكْرَهُ فَقَطْ، وَشَذَّ مَنْ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَحِلُّ مُنْفَرِدًا فَلَا يُكْرَهُ مُجْتَمِعًا، قَالَ: وَهَذِهِ مُخَالَفَةٌ لِلنَّصِّ، وَقِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ، فَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ.

ثُمَّ هُوَ مُنْتَقَضٌ بِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْتَيْنِ مُنْفَرِدَةً وَتَحْرِيمُهُمَا مُجْتَمِعَتَيْنِ، قَالَ: وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ مِنْهُمُ: إِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ السَّرَفِ، قَالَ: وَهَذَا تَبْدِيلٌ لَا تَأْوِيلَ، وَيَشْهَدُ بِبُطْلَانِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، قَالَ: وَتَسْمِيَةُ الشَّرَابِ إِدَامًا قَوْلُ مَنْ ذَهَلَ عَنِ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَالْعُرْفِ، قَالَ: وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنَ الْأَحَادِيثِ التَّعْلِيلُ بِخَوْفِ إِسْرَاعِ الشِّدَّةِ بِالْخَلْطِ، وَعَلَى هَذَا يُقْتَصَرُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْخَلْطِ عَلَى مَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِسْرَاعُ، قَالَ: وَأَفْرَطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، فَمَنَعَ الْخَلْطَ وَإِنْ لَمْ تُوجَدِ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ خَلْطِ الْعَسَلِ وَاللَّبَنِ وَالْخَلِّ وَالْعَسَلِ، قُلْتُ: حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَقَالَ: إِنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ عَلَى عُمُومِهِ، وَاسْتَغْرَبَهُ.

‌12 - بَاب شُرْبِ اللَّبَنِ، وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}

5603 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَقَدَحِ خَمْرٍ.

5604 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، سَمِعَ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَيْرًا مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ يُحَدِّثُ

ص: 69

عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ قَالَتْ: شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِإِنَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ فَشَرِبَ. فَكَانَ سُفْيَانُ رُبَّمَا قَالَ: شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ. فَإِذَا وُقِّفَ عَلَيْهِ قَالَ: هُوَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ.

عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ قَالَتْ شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِإِنَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ فَشَرِبَ فَكَانَ سُفْيَانُ رُبَّمَا قَالَ شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ" فَإِذَا وُقِّفَ عَلَيْهِ قَالَ: هُوَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ.

5605 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنْ النَّقِيعِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُوداً".

[الحديث 5605 - طرفه في: 5606]

5606 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَذْكُرُ أُرَاهُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ النَّقِيعِ بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَا خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُوداً". وَحَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا

5607 -

حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَرَرْنَا بِرَاعٍ وَقَدْ عَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَحَلَبْتُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فِي قَدَحٍ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ وَأَتَانَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ فَدَعَا عَلَيْهِ فَطَلَبَ إِلَيْهِ سُرَاقَةُ أَنْ لَا يَدْعُوَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَرْجِعَ فَفَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم".

5608 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِآخَرَ".

5609 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَناً فَمَضْمَضَ وَقَالَ إِنَّ لَهُ دَسَماً".

5610 -

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ وَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ فَأُتِيتُ بِثَلَاثَةِ أَقْدَاحٍ: قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ فَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ فَقِيلَ لِي أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ". قَالَ هِشَامٌ وَسَعِيدٌ وَهَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الأَنْهَارِ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا ثَلَاثَةَ أَقْدَاحٍ.

ص: 70

قَوْلُهُ: (بَابُ شُرْبِ اللَّبَنِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَطَالَ التَّفَنُّنَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِيَرُدَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّبَنَ يُسْكِرُ كَثِيرُهُ فَرَدَّ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ، وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يُسْكِرُ بِمُجَرَّدِهِ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ فِيهِ ذَلِكَ نَادِرًا بِصِفَةٍ تَحْدُثُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمُ أنَّ اللَّبَنَ إِذَا طَالَ الْعَهْدُ بِهِ وَتَغَيَّرَ صَارَ يُسْكِرُ، وَهَذَا رُبَّمَا يَقَعُ نَادِرًا إِنْ ثَبَتَ وُقُوعُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَأْثِيمُ شَارِبِهِ إِلَّا إِنْ عَلِمَ أَنَّ عَقْلَهُ يَذْهَبُ بِهِ فَشَرِبَهُ لِذَلِكَ. نَعَمْ قَدْ يَقَعُ السُّكْرُ بِاللَّبَنِ إِذَا جُعِلَ فِيهِ مَا يَصِيرُ بِاخْتِلَاطِهِ مَعَهُ مُسْكِرًا فَيَحْرُمُ.

قُلْتُ: أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ سَمِعَ ابن عُمَرَ يَسْأَلُ عَنِ الْأَشْرِبَةِ فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ كَذَا يَتَّخِذُونَ مِنْ كَذَا وَكَذَا خَمْرًا حَتَّى عَدَّ خَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ لَمْ أَحْفَظْ مِنْهَا إِلَّا الْعَسَلَ وَالشَّعِيرَ وَاللَّبَنَ، قَالَ فَكُنْتُ أَهَابُ أَنْ أُحَدِّثَ بِاللَّبَنِ حَتَّى أُنْبِئْتُ أَنَّهُ بِأَرْمِينِيَّةَ يُصْنَعُ شَرَابٌ مِنَ اللَّبَنِ لَا يَلْبَثُ صَاحِبُهُ أَنْ يُصْرَعَ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلَ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ ثُمَّ طَالَ مُكْثُهُ حَتَّى زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ، وَرَجَعَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِذَلِكَ، وَهَذَا فِي الْكَثِيرِ، وَبِغَيْرِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْقَلِيلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْقَلِيلُ الْمُتَغَيِّرُ بِالنَّجَاسَةِ فَفِيمَا إِذَا زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ خِلَافٌ: هَلْ يَطْهُرُ؟ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَطْهُرُ، وَظَاهِرُ الِاسْتِدْلَالِ يُقَوِّي الْقَوْلَ بِالتَّطْهِيرِ، لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِذَلِكَ نَظَرٌ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْبُعْدِ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ الْمَنِيِّ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّبَنَ خَالَطَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، ثُمَّ اسْتَحَالَ فَخَرَجَ خَالِصًا طَاهِرًا، وَكَذَلِكَ الْمَنِيُّ يَنْقَصِرُ مِنَ الدَّمِ فَيَكُونُ عَلَى غَيْرِ صِفَةِ الدَّمِ فَلَا يَكُونُ نَجِسًا.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ)، زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ: لَبَنًا خَالِصًا، وَزَادَ غَيْرُهُ وَغَيْرُ النَّسَفِيِّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ، وَوَقَعَ بِلَفْظِ يَخْرُجُ فِي أَوَّلِهِ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ، وَالَّذِي فِي الْقُرْآنِ:{نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} وَأَمَّا لَفْظُ: يَخْرُجُ فَهُوَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنَ السُّورَةِ {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَعَلَيْهِ جَرَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا بِحَذْفِ يَخْرُجُ مِنْ أَوَّلِهِ وَأَوَّلِ الْبَابِ عِنْدَهُمْ: وَقَوْلُ اللَّهِ {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} فَكَأَنَّ زِيَادَةَ لَفْظِ يَخْرُجُ مِمَّنْ دُونَ الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي إِحْلَالِ شُرْبِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، لِوُقُوعِ الِامْتِنَانِ بِهِ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَلْبَانِ الْأَنْعَامِ فِي حَالِ حَيَاتِهَا. وَالْفَرْثُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ هُوَ مَا يَجْتَمِعُ فِي الْكَرِشِ، وَقَالَ الْقَزَّازُ: هُوَ مَا أُلْقِيَ مِنَ الْكَرِشِ، تَقُولُ: فَرَثْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخْرَجْتُهُ مِنْ وِعَائِهِ فَشَرِبْتُهُ، فَأَمَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ سِرْجِينُ وَزِبْلٌ. وَأَخْرَجَ الْقَزَّازُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الدَّابَّةَ إِذَا أَكَلَتِ الْعَلَفَ وَاسْتَقَرَّ فِي كَرِشِهَا طَبَخَتْهُ فَكَانَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا وَأَعْلَاهُ دَمًا، وَالْكَبِدُ مُسَلَّطَةٌ عَلَيْهِ فَتَقْسِمُ الدَّمَ وَتُجْرِيهِ فِي الْعُرُوقِ وَتُجْرِي اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ وَيَبْقَى الْفَرْثُ فِي الْكَرِشِ وَحْدَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{لَبَنًا خَالِصًا} أَيْ مِنْ حُمْرَةِ الدَّمِ وَقَذَارَةِ الْفَرْثِ، وَقَوْلُهُ:{سَائِغًا} أَيْ لَذِيذًا هَنِيئًا لَا يُغَصُّ بِهِ شَارِبُهُ.

وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (بِقَدَحِ لَبَنٍ وَقَدَحِ خَمْرٍ) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَرِيبًا، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْخَمْرِ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا وَاللَّبَنِ مَعَ كَوْنِهِ حَلَالًا؛ إِمَّا لِأَنَّ الْخَمْرَ حِينَئِذٍ لَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ. أَوْ لِأَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ، وَخَمْرُ الْجَنَّةِ لَيْسَتْ حَرَامًا. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ حُكِيَ فِيهِ تَنْوِينُ لَيْلَةٍ. وَالَّذِي أَعْرِفُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْإِضَافَةُ.

الحديث الثاني: حَدِيثُ أُمِّ الْفَضْلِ فِي شُرْبِ اللَّبَنِ بِعَرَفَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الصِّيَامِ. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: وَكَانَ سُفْيَانُ رُبَّمَا قَالَ: شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُرْسِلَتْ إلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ، فَإِذَا وُقِفَ عَلَيْهِ قَالَ: هُوَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ يَعْنِي أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ رُبَّمَا أَرْسَلَ الْحَدِيثَ فَلَمْ يَقُلْ فِي الْإِسْنَادِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ. فَإِذَا سُئِلَ عَنْهُ هَلْ هُوَ مَوْصُولٌ أَوْ مُرْسَلٌ قَالَ: هُوَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ. وَهُوَ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: هُوَ مَوْصُولٌ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وُقِفَ عَلَيْهِ. وَهُوَ

ص: 71

بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْقَافِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: وُوقِفَ بِزِيَادَةِ وَاوٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ، وَالْقَائِلُ وَكَانَ سُفْيَانُ هُوَ الرَّاوِي عَنْهُ وَهُوَ الْحُمَيْدِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ أُمُّ الْفَضْلِ عَنْ نَفْسِهَا فَأُرْسِلَتْ أُمُّ الْفَضْلِ أَيْ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ، كَذَا قَالَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ) كَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ عَنْهُ عَنْ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَحْدَهُ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (مِنَ النَّقِيعِ) بِالنُّونِ، قِيلَ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي حُمِيَ لِرَعْيِ النِّعَمِ وَقِيلَ: غَيْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ ذِكْرُ نَقِيعِ الْخَضِمَاتِ فَدَلَّ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَكَانَ وَادِيًا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَالْمَاءُ النَّاقِعُ هُوَ الْمُجْتَمِعُ، وَقِيلَ: كَانَتْ تُعْمَلُ فِيهِ الْآنِيَةُ، وَقِيلَ: هُوَ الْبَاعُ، حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، وَعَنِ الْخَلِيلِ: الْوَادِي الذي يَكُونُ فِيهِ الشَّجَرُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: رَوَاهُ أَبُو الْحَسَنِ يَعْنِي الْقَابِسِيَّ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَكَذَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ، عَنْ أَبِي بَحْرِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، فَإِنَّ الْبَقِيعَ مَقْبَرَةٌ بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَكْثَرُ عَلَى النُّونِ وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقِيقِ عَلَى عِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنَ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (أَلَّا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى هَلَّا. وَقَوْلُهُ: خَمَّرْتُهُ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ غَطَّيْتُهُ، وَمِنْهُ خِمَارُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يَسْتُرُهَا.

قَوْلُهُ: (تَعْرُضُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الرَّاءِ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ، وَأَجَازَ أَبُو عُبَيْدٍ كَسْرَ الرَّاءِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَرْضِ أَيْ تَجْعَلُ الْعُودَ عَلَيْهِ بِالْعَرْضِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُغَطِّهِ فَلَا أَقَلَّ مِنَ أنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَأَظُنُّ السِّرَّ فِي الِاكْتِفَاءِ بِعَرْضِ الْعُودِ أَنَّ تَعَاطِيَ التَّغْطِيَةِ أَوِ الْعَرْضِ يَقْتَرِنُ بِالتَّسْمِيَةِ فَيَكُونُ الْعَرْضُ عَلَامَةً عَلَى التَّسْمِيَةِ فَتَمْتَنِعُ الشَّيَاطِينُ مِنَ الدُّنُوِّ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ فِي بَابٌ فِي تَغْطِيَةِ الْإِنَاءِ بَعْدَ أَبْوَابٍ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَحْدَهُ عَنْ جَابِرٍ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَسْقِيكَ نَبِيذًا؟ قَالَ: بَلَى، فَخَرَجَ الرَّجُلُ يَسْعَى فَجَاءَ بِقَدَحٍ فِيهِ نَبِيذٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا خَمَّرْتَهُ الْحَدِيثَ. وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحِ لَبَنٍ مِنَ النَّقِيعِ لَيْسَ مُخَمَّرًا الْحَدِيثَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قِصَّةَ اللَّبَنِ كَانَتْ لِأَبِي حُمَيْدٍ وَأَنَّ جَابِرًا أَحْضَرَهَا، وَأَنَّ قِصَّةَ النَّبِيذِ حَمَلَهَا جَابِرٌ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبْهَمَ أَبُو حُمَيْدٍ صَاحِبَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَبَا حُمَيْدٍ رَاوِيهَا أَبْهَمَ نَفْسَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، فَقَالَ الْبَرَاءُ

(1)

: إِنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الَّذِي رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: وَرَوَاهُ إِسْرَائِيلُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مُطَوَّلًا. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهِجْرَةِ وَأَوَّلُهُ: إنَّ عَازِبًا بَاعَ رَحْلًا لِأَبِي بَكْرٍ وَسَأَلَهُ عَنْ قِصَّتِهِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِجْرَةِ وَقَوْلُهُ: فَحَلَبْتُ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ فَأَمَرْتُ الرَّاعِيَ فَحَلَبَ فَتَكُونُ نِسْبَةُ الْحَلْبِ لِنَفْسِهِ هُنَا مَجَازِيَّةً. وَقَوْلُهُ: كُثْبَةٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ. قَالَ الْخَلِيلُ: كُلُّ قَلِيلٍ جَمَعْتَهُ فهُوَ كُثْبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: هِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّبَنِ أَوِ التَّمْرِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: هِيَ مِنَ اللَّبَنِ مِلْءُ الْقَدَحِ، وَقِيلَ: قَدْرُ حَلْبَةِ نَاقَةٍ. وَمَحْمُودٌ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَالنَّضْرُ هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ. وَأَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ فِي شُرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّبَنِ مَعَ كَوْنِ الرَّاعِي أَخْبَرَهُمُ أنَّ الْغَنَمَ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي عُرْفِهِمُ التَّسَامُحُ بِذَلِكَ، أَوْ كَانَ صَاحِبُهَا أَذِنَ لِلرَّاعِي أَنْ يَسْقِيَ مَنْ يَمُرُّ بِهِ إِذَا الْتَمَسَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَقِيلَ فِيهِ احْتِمَالَاتٌ

(1)

كذا في الأصل

ص: 72

أُخْرَى تَقَدَّمَتْ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَسُكُونِ الْقَافِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ. وَهِيَ الَّتِي قَرُبَ عَهْدُهَا بِالْوِلَادَةِ - وَالصَّفِيُّ - بِمُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ وَزْنُ فَعِيلٍ - هِيَ الْكَثِيرَةُ اللَّبَنِ، وَهِيَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مُصْطَفَاةٌ مُخْتَارَةٌ. وَفِي قَوْلِهِ: تَغْدُو وَتَرُوحُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَسْتَأْصِلُ لَبَنَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ.

الحديث السادس: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَضْمَضَةِ مِنَ اللَّبَنِ؛ أَيْ بِسَبَبِ شُرْبِ اللَّبَنِ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الطَّهَارَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ: تَمَضْمَضُوا مِنَ اللَّبَنِ

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْأَقْدَاحِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي غَرَائِبِ شُعْبَةَ، لِابْنِ مَنْدَهْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ شُعْبَةَ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، تَفَرَّدَ بِهِ حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَالسِّدْرَةُ مَرْفُوعَةٌ. وَلِلْمُسْتَمْلِي دُفِعْتُ بِدَالٍ بَدَلَ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ بِنِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، وَإِلَى بِالسُّكُونِ حَرْفُ جَرٍّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ هِشَامٌ) يَعْنِي الدَّسْتُوَائِيَّ، وَهَمَّامٌ يَعْنِي ابْنَ يَحْيَى، وَسَعِيدٌ يَعْنِي ابْنَ أَبِي عَرُوبَةَ، يَعْنِي أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى رِوَايَةِ الْحَدِيثِ عَنْ قَتَادَةَ فَزَادُوا هُمْ فِي الْإِسْنَادِ بَعْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ شُعْبَةُ. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَنْهَارِ نَحْوَهُ يُرِيدُ أَنَّهُمْ تَوَافَقُوا مِنَ الْمَتْنِ عَلَى ذِكْرِ الْأَنْهَارِ، وَزَادُوا هُمْ قِصَّةَ الْإِسْرَاءِ بِطُولِهَا، وَلَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ هَذِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِمْ هُنَا بَعْدَ قَوْلِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا كَأَنَّهُ قِلَالُ هَجَرٍ، وَوَرَقُهَا كَأَنَّهَا آذَانُ الْفِيَلَةِ، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ، وَاقْتَصَرَ شُعْبَةُ عَلَى فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَذْكُرُوا ثَلَاثَةَ أَقْدَاحٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ بِالْإِفْرَادِ، وَظَاهِرُ هَذَا النَّفْيِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذِكْرُ الْأَقْدَاحِ فِي رِوَايَةِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ مُعْتَرَضٌ بِمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْ هُدْبَةَ، عَنْ هَمَّامٍ بِلَفْظِ: ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ فيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ نَفْيَ ذِكْرِ الْأَقْدَاحِ بِخُصُوصِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ الَّتِي بِالْإِفْرَادِ هِيَ الْمَحْفُوظَةُ، وَالْفَاعِلُ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ بِطُولِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْآنِيَةِ أَصْلًا، لَكِنْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ هِشَامٍ، وَفِيهِ ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا خَمْرٌ وَالْآخَرُ لَبَنٌ، فَعُرِضَا عَلَيَّ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ نَحْوُهُ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَقَدْ سَاقَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ هِشَامٍ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْآنِيَةِ أَصْلًا، فَوَضَحَ مِنْ هَذَا أَنَّ رِوَايَةَ هَمَّامٍ فِيهَا ذِكْرُ ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ الْعَدَدِ وَلَا وَصْفِ الظَّرْفِ، وَرِوَايَةُ سَعِيدٍ فِيهَا ذِكْرُ إِنَاءَيْنِ فَقَطْ، وَرِوَايَةُ هِشَامٍ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا، وَقَدْ رَجَّحَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ رِوَايَةَ إِنَاءَيْنِ فَقَالَ عَقِبَ حَدِيثَ شُعْبَةَ هُنَا: هَذَا حَدِيثُ شُعْبَةَ، وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ الْبَابِ أَصَحُّ إِسْنَادًا مِنْ هَذَا، وَأَوْلَى مِنْ هَذَا.

كَذَا قَالَ، مَعَ أَنَّهُ أَخْرَجَ حَدِيثَ هَمَّامٍ عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ هُدْبَةَ عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ سَوَاءً، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الْحَافِظِ مَقْبُولَةٌ، وَقَدْ تُوبِعَ، وَذِكْرُ إِنَاءَيْنِ لَا يَنْفِي الثَّالِثَ، مَعَ أَنَّنِي قَدَّمْتُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ عَرْضَ الْآنِيَةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَعَ مَرَّتَيْنِ: قَبْلَ الْمِعْرَاجِ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعْدَهُ وَهُوَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ جُمْلَةً. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَذْكُرِ السِّرَّ فِي عُدُولِهِ عَنِ الْعَسَلِ إِلَى اللَّبَنِ كَمَا ذَكَرَ السِّرَّ فِي عُدُولِهِ عَنِ الْخَمْرِ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ كَوْنُ اللَّبَنِ أَنْفَعَ، وَبِهِ يَشْتَدُّ الْعَظْمُ وَيَنْبُتُ اللَّحْمُ، وَهُوَ بِمُجَرَّدِهِ قُوتٌ، وَلَا يَدْخُلُ فِي السَّرَفِ بِوَجْهٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الزُّهْدِ، وَلَا

ص: 73

مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَعِ بِوَجْهٍ. وَالْعَسَلُ وَإِنْ كَانَ حَلَالًا، لَكِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَلَذَّاتِ الَّتِي قَدْ يُخْشَى عَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يَنْدَرِجَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ فِيهِ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَطِشَ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مُبَيَّنًا هُنَاكَ - فَأُتِيَ بِالْأَقْدَاحِ، فَآثَرَ اللَّبَنَ دُونَ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ حَاجَتِهِ دُونَ الْخَمْرِ وَالْعَسَلِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ فِي إِيثَارِ اللَّبَنِ، وَصَادَفَ مَعَ ذَلِكَ رُجْحَانَهُ عَلَيْهِمَا مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يُحِبُّهُ مُقْتَصِدًا فِي تَنَاوُلِهِ لَا فِي جَعْلِهِ دَيْدَنًا وَلَا تَنَطُّعًا. وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ جِبْرِيلَ فِي الْخَمْرِ: غَوَتْ أُمَّتُكَ أَنَّ الْخَمْرَ يَنْشَأُ عَنْهَا الْغَيُّ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ. وَيُؤْخَذُ مِنْ عَرْضِ الْآنِيَةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم إِرَادَةُ إِظْهَارِ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى تَفْوِيضِ الْأُمُورِ إِلَيْهِ.

‌13 - بَاب اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ

5611 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَخٍ! ذَلِكَ مَالٌ رَايحٌ - أَوْ رَابحٌ - شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ. وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى: رَايِحٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ طَلَبِ الْمَاءِ الْعَذْبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحُلْوُ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي صَدَقَةِ أَبِي طَلْحَةَ لِقَوْلِهِ فِيهِ: وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ وَقَدْ وَرَدَ فِي خُصُوصِ هَذَا اللَّفْظِ - وَهُوَ اسْتِعْذَابُ الْمَاءِ - حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ بُيُوتِ السُّقْيَا وَالسُّقْيَا بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْقَافِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ قَالَ قُتَيْبَةُ: هِيَ عَيْنٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ، هَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ بَعْدَ سِيَاقِ الْحَدِيثِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَفِي قِصَّةِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ أَنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَهُمْ يَسْأَلُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ بَعْدُ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَى امْرَأَةِ أَبِي رَافِعٍ: كَانَ أَبُو أَيُّوبَ حِينَ نَزَلَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ بِئْرِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ وَالِدِ أَنَسٍ ثُمَّ كَانَ أَنَسٌ وَهِنْدٌ وَحَارِثَةُ أَبْنَاءُ أَسْمَاءَ يَحْمِلُونَ الْمَاءَ إِلَى بُيُوتِ نِسَائِهِ مِنْ بُيُوتِ السُّقْيَا، وَكَانَ رَبَاحٌ الْأَسْوَدُ عَبْدُهُ يَسْتَقِي لَهُ مِنْ بِئْرِ عُرُسٍ مَرَّةً وَمِنْ بُيُوتِ السُّقْيَا مَرَّةً.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتِعْذَابُ الْمَاءِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَلَا يَدْخُلُ فِي التَّرَفُّهِ الْمَذْمُومِ، بِخِلَافِ تَطْيِيبِ الْمَاءِ بِالْمِسْكِ وَنَحْوِهِ، فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ لِمَا فِيهِ مِنَ السَّرَفِ، وَأَمَّا شُرْبُ الْمَاءِ الْحُلْوِ وَطَلَبِهِ فَمُبَاحٌ، فَقَدْ فَعَلَهُ

ص: 74

الصَّالِحُونَ. وَلَيْسَ فِي شُرْبِ الْمَاءِ الْمِلْحِ فَضِيلَةٌ، قَالَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اسْتِطَابَةَ الْأَطْعِمَةِ جَائِزَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} نَزَلَ فِي الَّذِينَ أَرَادُوا الِامْتِنَاعَ مِنْ لَذَائِذِ الْمَطَاعِمِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَنَاوُلَهُ مَا امْتَنَّ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، بَلْ نَهْيُهُ عَنْ تَحْرِيمِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُمْ تَنَاوَلَهَا لِيُقَابِلُوا نِعْمَتَهُ بِهَا عَلَيْهِمْ بِالشُّكْرِ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ نِعَمُهُ لَا يُكَافِئُهَا شُكْرُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَمَّا أَنَّ اسْتِعْذَابَ الْمَاءِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالْوَرَعَ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى لَذِيذِ الْأَطْعِمَةِ فَبَعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي جَوَازِ شُرْبِ الْمَاءِ مِنَ الْبُسْتَانِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ. قُلْتُ: الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الدُّخُولِ فِيهِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلِمَا اقْتَضَاهُ الْعُرْفُ مِنَ الْمُسَامَحَةِ بِذَلِكَ، وَثُبُوتُ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ نَظَرٌ. وقَوْلُهُ: ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ أَوْ رَابِحٌ الْأَوَّلُ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَالثَّانِي بِمُوَحَّدَةٍ وَالْحَاءُ مُهْمَلَةٌ فِيهِمَا، فَالْأَوَّلُ مَعْنَاهُ أَنَّ أَجْرَهُ يَرُوحُ إِلَى صَاحِبِهِ أَيْ يَصِلُ إِلَيْهِ وَلَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ، وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ كَثِيرُ الرِّبْحِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ صِفَةُ صَاحِبِهِ الْمُتَصَدِّقِ بِهِ.

وَقَوْلُهُ: شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ هُوَ الْقَعْنَبِيُّ، وَقَوْلُهُ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ يَحْيَى، وَرَايِحٌ فِي رِوَايَتِهِمَا بِالتَّحْتَانِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ مُصَرِّحًا فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ، وَرِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى كَذَلِكَ فِي الْوَكَالَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ.

‌14 - بَاب شربِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ

5612 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا وَأَتَى دَارَهُ، فَحَلَبْتُ شَاةً، فَشُبْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْبِئْرِ فَتَنَاوَلَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ.

5613 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي شَنَّةٍ وَإِلَا كَرَعْنَا" قَالَ وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطِهِ قَالَ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي مَاءٌ بَائِتٌ فَانْطَلِقْ إِلَى الْعَرِيشِ قَالَ فَانْطَلَقَ بِهِمَا فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ قَالَ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ شَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ".

[الحديث 5613 - طرفه في: 5621]

قَوْلُهُ: (بَابُ شُرْبِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ) أَيْ مَمْزُوجًا، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالشُّرْبِ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ الْخَلْطِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ غِشٌّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْوَاوِ بَدَلَ الرَّاءِ، وَالشَّوْبُ الْخَلْطُ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَقْصُودُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ فَائِدَةِ تَقْيِيدِهِ الْخَلِيطَيْنِ بِالْمُسْكِرِ، أَيْ إِنَّمَا يُنْهَى عَنِ الْخَلِيطَيْنِ إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ

ص: 75

مِنْهُمَا مِنْ جِنْسِ مَا يُسْكِرُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَمْزُجُونَ اللَّبَنَ بِالْمَاءِ لِأَنَّ اللَّبَنَ عِنْدَ الْحَلبِ يَكُونُ حَارًّا وَتِلْكَ الْبِلَادُ فِي الْغَالِبِ حَارَّةٌ، فَكَانُوا يَكْسِرُونَ حَرَّ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَينِ: الْأَوَّلُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا وَأَتَى دَارَهُ) أَيْ دَارَ أَنَسٍ، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ رَآهُ حِينَ أَتَى دَارَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِنَا هَذِهِ فَاسْتَسْقَى، فَحَلَبْنَا شَاةً لَنَا.

قَوْلُهُ: (فَحَلَبْتُ) عَيَّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْحَلْبَ، وَقَوْلُهُ: فَشُبْتُ كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنَ الشَّوْبِ بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: (وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ، وَعُمَرُ تُجَاهَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا فِي الْهِبَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي الشُّرْبِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ عُمَرُ وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْأَعْرَابِيُّ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَتِ الْعَادَةُ جَارِيَةً لِمُلُوكِ الْجَاهِلِيَّةِ وَرُؤَسَائِهِمْ بِتَقْدِيمِ الْأَيْمَنِ فِي الشُّرْبِ، حَتَّى قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:

وَكَانَ الْكَأْسُ مَجْرَاهَا الْيَمِينَا

فَخَشِيَ عُمَرُ لِذَلِكَ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَعْرَابِيُّ عَلَى أَبِي بِكْرٍ فِي الشُّرْبِ، فَنَبَّهَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ احْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُؤْثِرُ تَقْدِيمَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ، فَتَصِيرَ السُّنَّةُ تَقْدِيمَ الْأَفْضَلِ فِي الشُّرْبِ عَلَى الْأَيْمَنِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ أَنَّ تِلْكَ الْعَادَةَ لَمْ تُغَيِّرْهَا السُّنَّةُ، وَأَنَّهَا مُسْتَمِرَّةٌ، وَأَنَّ الْأَيْمَنَ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَفْضَلِ فِي ذَلِكَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ حَطُّ رُتْبَةِ الْأَفْضَلِ، وَكَانَ ذَلِكَ لِفَضْلِ الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ.

قَوْلُهُ: (فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ) أَيِ اللَّبَنَ الَّذِي فَضَلَ مِنْهُ بَعْدَ شُرْبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ ذِكْرُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَأَنَّهُ وَهِمَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ عَنْ يَمِينِهِ، وَجَلَسَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ دَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ وَنَاوَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ الصَّحَابِيَّ، وَلَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الْمُبْهَمِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ بِهِ أَيْضًا لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بِقُبَاءَ وَتِلْكَ فِي دَارِ أَنَسٍ أَيْضًا فَهُوَ أَنْصَارِيٌّ، وَلَا يُقَالُ لَهُ أَعْرَابِيٌّ، كَمَا اسْتُبْعِدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَقَالَ بِالْوَاوِ بَدَلَ ثُمَّ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ الْأَيْمَنُونَ فَالْأَيْمَنُونَ وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ الْأَيْمَنُونَ مُقَدَّمُونَ أَوْ أَحقُّ أَوْ يُقَدَّمُ الْأَيْمَنُونَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبَابِ فَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالنَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ قَدِّمُوا أَوِ أَعْطُوا. وَوَقَعَ فِي الْهِبَةِ بِلَفْظِ: أَلَا فَيَمِّنُوا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا. وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ تَكْرَارِ الْأَيْمَنِ أَنَّ السُّنَّةَ إِعْطَاءُ مَنْ عَلَى الْيَمِينِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَرِبَ بَعْدَ الْأَعْرَابِيِّ، ثُمَّ شَرِبَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، لَكِنِ الظَّاهِرُ عَنْ عُمَرَ إِيثَارُهُ أَبَا بَكْرٍ بِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ أَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَجْلِسِ عِلْمٍ أَوْ مَجْلِسِ رَئِيسٍ لَا يُنَحَّى مِنْهُ لِمَجِيءِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْجُلُوسِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَذْكُورِ، بَلْ يَجْلِسُ الْآتِي حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ، لَكِنْ إِنْ آثَرَهُ السَّابِقُ جَازَ، وَأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ شَيْئًا لَمْ يُدْفَعْ عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ إِذْنُهُ. وَفِيهِ أَنَّ الْجُلَسَاءَ شُرَكَاءُ فِيمَا يَقْرُبُ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلِ لَا اللُّزُومِ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ لَا تَجِبُ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَمَحَلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَإِنْ كَانَ فَالتَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ لَهُ. وَفِيهِ دُخُولُ الْكَبِيرِ بَيْتَ خَادِمِهِ وَصَاحِبِهِ وَلَوْ كَانَ صَغِيرَ السِّنِّ وَتَنَاوُلُهُ مِمَّا عِنْدَهُمْ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ.

وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ فَوَائِدِهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَأَبُو

ص: 76

عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) كُنْتُ ذَكَرْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّهُ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ الْأَنْصَارِيُّ، ثُمَّ وَقَفْتُ عَنْ ذَلِكَ لِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، عَنْ فُلَيْحٍ فِي أَوَّلِ حَدِيثَيِ الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى قَوْمًا مِنَ الْأَنْصَارِ يَعُودُ مَرِيضًا لَهُمْ، وَقِصَّةُ أَبِي الْهَيْثَمِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاسْتَوْعَبَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ التَّكَاثُرِ طُرُقَهُ فَزَادَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي عَسِيبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ عُبَادَةَ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى، ثُمَّ وَقَفَتْ عَلَى الْمُسْتَنَدِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْهَيْثَمِ بْنِ نَصْرٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَزِمْتُ بَابَهُ، فَكُنْتُ آتِيهِ بِالْمَاءِ مِنْ بِئْرِ جَاشِمٍ - وَهِيَ بِئْرُ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ وَكَانَ مَاؤُهَا طَيِّبًا - وَلَقَدْ دَخَلَ يَوْمًا صَائِفًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ عَلَى أَبِي الْهَيْثَمِ فَقَالَ: هَلْ مِنْ مَاءٍ بَارِدٍ؟ فَأَتَاهُ بِشَجْبٍ فِيهِ مَاءٌ كَأَنَّهُ الثَّلْجُ، فَصَبَّهُ عَلَى لَبَنِ عَنْزٍ لَهُ وَسَقَاهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ لَنَا عَرِيشًا بَارِدًا فَقِلْ فِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَنَا، فَدَخَلَهُ وَأَبُو بَكْرٍ، وَأَتَى أَبُو الْهَيْثَمِ بِأَلْوَانٍ مِنَ الرُّطَبِ الْحَدِيثَ. وَالشَّجْبُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ يُتَّخَذُ مِنْ شَنَّةٍ تُقْطَعُ وَيُخْرَزُ رَأْسُهَا.

قَوْلُهُ: (وَمَعَهُ صَاحِبُهُ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ كَمَا تَرَى.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ قَبْلِ هَذَا وَإِلَى جَانِبِهِ مَاءٌ فِي رَكِيٍّ وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ وَبَعْدَهَا شِدَّةُ الْبِئْرِ الْمَطْوِيَّةِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ سَتَأْتِي بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ فَسَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبُهُ فَرَدَّ الرَّجُلُ - أَيْ عَلَيْهِمَا - السَّلَامَ.

قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي شَنَّةٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَهِيَ الْقِرْبَةُ الْخَلِقَةُ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هِيَ الَّتِي زَالَ شَعْرُهَا مِنَ الْبِلَى. قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْحِكْمَةُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ الْبَائِتِ أَنَّهُ يَكُونُ أَبْرَدَ وَأَصْفَى، وَأَمَّا مَزْجُ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ فِي يَوْمٍ حَارٍّ كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ مَعَ الرَّاعِي. قُلْتُ: لَكِنِ الْقِصَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَصَنِيعُ أَبِي بَكْرٍ ذَلِكَ بِاللَّبَنِ لِشِدَّةِ الْحَرِّ، وَصَنِيعُ الْأَنْصَارِيِّ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَسْقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَاءً صِرْفًا فَأَرَادَ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهِ اللَّبَنَ فَأَحْضَرَ لَهُ مَا طُلِبَ مِنْهُ وَزَادَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسٍ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالرَّغْبَةِ فِيهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا فِي رِوَايَةِ الْهَيْثَمِ بْنِ نَصْرٍ قَبْلُ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ مِثْلَ الثَّلْجِ.

قَوْلُهُ: (وَإِلَّا كَرَعْنَا) فِيهِ حَذَفٌ تَقْدِيرُهُ: فَاسْقِنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ كَرَعْنَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ التَّصْرِيحُ بِطَلَبِ السَّقْيِ. وَالْكَرْعُ بِالرَّاءِ تَنَاوُلُ الْمَاءِ بِالْفَمِ مِنْ غَيْرِ إِنَاءٍ وَلَا كَفٍّ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ حَكَى أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ الشُّرْبُ بِالْيَدَيْنِ مَعًا، قَالَ: وَأَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى خِلَافِهِ. قُلْتُ: وَيَرُدُّهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَرَرْنَا عَلَى بِرْكَةٍ فَجَعَلْنَا نَكْرَعُ فِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَكْرَعُوا وَلَكِنِ اغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ ثُمَّ اشْرَبُوا بِهَا الْحَدِيثَ. وَلَكِنْ فِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَالنَّهْيُ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ، وَالْفِعْلُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ قِصَّةُ جَابِرٍ قَبْلَ النَّهْيِ، أَوِ النَّهْيُ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ، وَهَذَا الْفِعْلُ كَانَ لِضَرُورَةِ شُرْبِ الْمَاءِ الَّذِي لَيْسَ بِبَارِدٍ فَيَشْرَبُ بِالْكَرْعِ لِضَرُورَةِ الْعَطَشِ لِئَلَّا تَكْرَهَهُ نَفْسُهُ إِذَا تَكَرَّرَتِ الْجَرْعَ، فَقَدْ لَا يَبْلُغُ الْغَرَضَ مِنَ الرِّيِّ، أَشَارَ إِلَى هَذَا الْأَخِيرِ ابْنُ بَطَّالٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلشُّرْبِ بِالْفَمِ كَرْعٌ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْبَهَائِمِ لِشُرْبِهَا بِأَفْوَاهِهَا وَالْغَالِبُ أَنَّهَا تُدْخِلُ أَكَارِعَهَا حِينَئِذٍ فِي الْمَاءِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْرَبَ عَلَى بُطُونِنَا وَهُوَ الْكَرْعُ، وَسَنَدُهُ أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَهَذَا إِنْ ثَبَتَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الشَّارِبُ مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِهِ، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ جَابِرٍ عَلَى الشُّرْبِ بِالْفَمِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِانْبِطَاحِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَإِلَّا تَجَرَّعْنَا بِمُثَنَّاةٍ وَجِيمٍ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ شَرِبْنَا جَرْعَةً جَرْعَةً، وَهَذَا قَدْ يُعَكِّرُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطِهِ) أَيْ يَنْقُلُ الْمَاءَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ مِنَ الْبُسْتَانِ لِيَعُمَّ

ص: 77

أَشْجَارَهُ بِالسَّقْيِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ وَهُوَ يُحَوِّلُ فِي حَائِطٍ لَهُ يَعْنِي الْمَاءَ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي الْحَائِطِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ مِنْهُ تَحْوِيلُ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ مَثَلًا إِلَى أَعْلَاهَا ثُمَّ حَوَّلَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.

قَوْلُهُ: (إِلَى الْعَرِيشِ) هُوَ خَيْمَةٌ مِنْ خَشَبٍ، وَثُمَامٍ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ مُخَفَّفًا، وَهُوَ نَبَاتٌ ضَعِيفٌ لَهُ خَوَاصٌّ، وَقَدْ يُجْعَلُ مِنَ الْجَرِيدِ كَالْقُبَّةِ أَوْ مِنَ الْعِيدَانِ وَيُظَلَّلُ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: نسَكَبَ مَاءً فِي قَدَحٍ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ فَحَلَبَ لَهُ شَاةً ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهِ مَاءً بَاتَ فِي شَنٍّ، وَالدَّاجِنُ بِجِيمٍ وَنُونٍ: الشَّاةُ الَّتِي تَأْلَفُ الْبُيُوتَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ شَرِبَ الرَّجُلُ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَشَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَقَى صَاحِبَهُ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الرَّجُلَ شَرِبَ فَضْلَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ أَيْضًا وَابْنِ مَاجَهْ ثُمَّ سَقَاهُ ثُمَّ صَنَعَ لِصَاحِبِهِ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْ حَلَبَ لَهُ أَيْضًا وَسَكَبَ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَائِتَ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمِثْلِيَّةُ فِي مُطْلَقِ الشُّرْبِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِشُرْبِ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْيَوْمِ الْحَارِّ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَمْ أُصِحَّ جِسْمَكَ، وَأَرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟

‌15 - بَاب شَرَابِ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ؛ لِأَنَّهُ رِجْسٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.

5614 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ شَرَابِ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الْحَلْوَاءُ بِالْمَدِّ وَلِغَيْرِهِ بِالْقَصْرِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هِيَ مَا يُعْقَدُ مِنَ الْعَسَلِ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ: هِيَ النَّقِيعُ الْحُلْوُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ تَبْوِيبُ الْبُخَارِيِّ شَرَابُ الْحَلْوَاءِ كَذَا قَالَ، وَإِنَّمَا هُوَ نَوْعٌ مِنْهَا، وَالَّذِي قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ هُوَ مُقْتَضَى الْعُرْفِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْحَلْوَى كُلُّ شَيْءٍ حُلْوٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنِ اسْتَقَرَّ الْعُرْفُ عَلَى تَسْمِيَةِ مَا لَا يُشْرَبُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُلْوِ حَلْوَى لِأَنْوَاعِ مَا يُشْرَبُ مَشْرُوبٌ وَنَقِيعٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِمَّا قَالَ اخْتِصَاصُ الْحَلْوَى بِالْمَشْرُوبِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ لِأَنَّهُ رِجْسٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ التِّينِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّى الْبَوْلَ رِجْسًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وَالرِّجْسُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَبَائِثِ، وَيَرُدُّ عَلَى اسْتِدْلَالِ الزُّهْرِيِّ جَوَازُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الشِّدَّةِ، وَهِيَ رِجْسٌ أَيْضًا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْفُقَهَاءُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَأَشَدُّ حَالِ الْبَوْلِ أَنْ يَكُونَ فِي النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمِ مِثْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي جَوَازِ تَنَاوُلِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُدْخِلُ الرُّخَصَ، وَالرُّخْصَةُ فِي الْمَيْتَةِ لَا فِي الْبَوْلِ. قُلْتُ: وَلَيْسَ هَذَا بَعِيدًا مِنْ مَذْهَبِ الزُّهْرِيِّ، فَقَدِ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ الزُّهْرِيُّ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي السَّفَرِ، فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ تُفْطِرُ فِي

ص: 78

رَمَضَانَ إِذَا كُنْتَ مُسَافِرًا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي رَمَضَانَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعَاشُورَاءَ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمَيْتَةَ لِسَدِّ الرَّمَقِ، وَالْبَوْلُ لَا يَدْفَعُ الْعَطَشَ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا صَحَّ مَا قَالَ الزُّهْرِيُّ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي الْأَثَرِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ). قَالَ ابْنُ التِّينِ: اخْتُلِفَ فِي السَّكَرِ بِفَتْحَتَيْنِ: فَقِيلَ هُوَ الْخَمْرُ، وَقِيلَ: مَا يَجُوزُ شُرْبُهُ كَنَقِيعِ التَّمْرِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ وَكَالْخَلِّ، وَقِيلَ: هُوَ نَبِيذُ التَّمْرِ إِذَا اشْتَدَّ. قُلْتُ: وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ النَّحْلِ عَنِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ السَّكَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} وَهُوَ مَا حُرِّمَ مِنْهَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا أُحِلَّ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَزِينٍ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَمِنْ طَرِيقِ النَّخَعِيِّ نَحْوُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِمَعْنَاهُ. ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: السَّكَرُ نَقِيعُ الزَّبِيبِ يَعْنِي قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ وَالْخَلُّ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَانْتَصَرَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مِنْهُ دَعْوَى نَسْخٍ، وَيَسْتَمِرُّ الِامْتِنَانُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهِ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ النَّسْخَ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.

قُلْتُ: وَهَذَا فِي الْآيَةِ مُحْتَمَلٌ، لَكِنَّهُ فِي هَذَا الْأَثَرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْكِرِ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنِ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: السَّكَرُ خَمْرٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ السَّكَرَ بِلُغَةِ الْعَجَمِ الْخَمْرُ وَبِلُغَةِ الْعَرَبِ النَّقِيعُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: السَّكَرُ خُمُورُ الْأَعَاجِمِ، وَعَلَى هَذَا يَنْطَبِقُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ يَعْنِي ابْنَ الْقَصَّارِ: إِنْ كَانَ أَرَادَ مُسْكِرَ الْأَشْرِبَةِ فَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرُ السُّؤَالِ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ السُّكْرَ بِالضَّمِّ وَسُكُونِ الْكَافِ قَالَ: فَأَحْسَبُهُ هَذَا أَرَادَ؛ لِأَنَّنِي أَظُنُّ أَنَّ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ التَّدَاوِي بِشَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَأَجَابَ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ الْبُخَارِيِّ. قُلْتُ: قَدْ رَوَيْتُ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ فِي فَوَائِدِ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ الطَّائِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: اشْتَكَى رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ خُثَيْمُ بْنُ الْعَدَّاءِ دَاءً بِبَطْنِهِ يُقَالُ لَهُ الصُّفْرُ فَنُعِتَ لَهُ السَّكَرُ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ يَسْأَلُهُ، فَذَكَرَهُ.

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي وَائِلٍ نَحْوَهُ، وَرُوِّينَا فِي نُسْخَةِ دَاوُدَ بْنِ نَصِيرٍ الطَّائِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا تَسْقُوا أَوْلَادَكُمُ الْخَمْرَ فَإِنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَذَلِكَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا فِي تَفْسِيرِ السَّكَرِ. وَأَخْرَجَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ فِي مُجَدَّرِينَ أَوْ مُحَصَّبِينَ نُعِتَ لَهُمُ السَّكَرُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَلِجَوَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ شَاهِدٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتِ: اشْتَكَتْ بِنْتٌ لِي فَنَبَذْتُ لَهَا فِي كُوزٍ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْلِي فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ثُمَّ حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَقٌّ لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا ضَرُورَةً وَأَبَاحَ الْمَيْتَةَ وَأَخَوَاتِهَا فِي الضَّرُورَةِ. قَالَ: فَفَهِمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ تَكَلَّمَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْخَمْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ عَلَى التَّدَاوِي بِهَا فَمَنَعَهُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِدُ مَنْدُوحَةً عَنِ التَّدَاوِي بِهَا وَلَا يُقْطَعُ بِنَفْعِهِ، بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ فِي سَدِّ الرَّمَقِ.

وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ جَوَازِ إِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ لِمَنْ شَرِقَ بِهَا بِالْجَرْعَةِ مِنَ الْخَمْرِ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ التَّدَاوِي بِهَا فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِسَاغَةَ تَتَحَقَّقُ بِهَا بِخِلَافِ الشِّفَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ. وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ

ص: 79

قَالَ: لَا يَجُوزُ سَدُّ الرَّمَقِ مِنَ الْجُوعِ وَلَا مِنَ الْعَطَشِ بِالْخَمْرِ لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُهُ إِلَّا جُوعًا وَعَطَشًا، وَلِأَنَّهَا تَذْهَبُ بِالْعَقْلِ. وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ لَا تَسُدُّ مِنَ الْجُوعِ وَلَا تَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ لَمْ يَرِدِ السُّؤَالُ أَصْلًا، وَأَمَّا إِذْهَابُهَا الْعَقْلَ فَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ بَلْ هُوَ فِيمَا يُسَدُّ بِهِ الرَّمَقُ وَقَدْ لَا يَبْلُغُ إِلَى حَدِّ إِذْهَابِ الْعَقْلِ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ أَنْ يُرَدِّدَ الْأَمْرَ بِأَنَّ التَّنَاوُلَ مِنْهَا إِنْ كَانَ يَسِيرًا فَهُوَ لَا يُغْنِي مِنَ الْجُوعِ وَلَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرًا فَهُوَ يُذْهِبُ الْعَقْلَ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّدَاوِي بِمَا يُذْهِبُ الْعَقْلَ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَتَدَاوَى مِنْ شَيْءٍ فَيَقَعُ فِي أَشَدَّ مِنْهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي وَلِلْعَطَشِ، قَالَ مَالِكٌ: لَا يَشْرَبُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُهُ إِلَّا عَطَشًا. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنِ التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي قَصْرَ الْمَنْعِ عَلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ بِطَبْعِهِ حَارًّا كَالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ، أَمَّا الْمُتَّخَذُ مِنْ شَيْءٍ بَارِدٍ كَالشَّعِيرِ فَلَا.

وَأَمَّا التَّدَاوِي فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ سُلِبَتْ بَعْدَ التَّحْرِيمِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَأَيْضًا فَتَحْرِيمُهَا مَجْزُومٌ بِهِ، وَكَوْنُهَا دَوَاءٌ مَشْكُوكٌ بَلْ يَتَرَجَّحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. ثُمَّ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يُسْكِرُ مِنْهَا، أَمَّا مَا يُسْكِرُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعَاطِيهِ فِي التَّدَاوِي إِلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مَنِ اضْطُرَّ إِلَى إِزَالَةِ عَقْلِهِ لِقَطْعِ عُضْوٍ مِنَ الْأَكِلَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَقَدِ أطْلَقَ الرَّافِعِيُّ تَخْرِيجَهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي التَّدَاوِي، وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ هُنَا الْجَوَازَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا تَعَيَّنَ ذَاكَ طَرِيقًا إِلَى سَلَامَة بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ وَلَمْ يَجِدْ مَرْقَدًا غَيْرَهَا، وَقَدْ صَرَّحَ مَنْ أَجَازَ التَّدَاوِي بِالثَّانِي، وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ مُطْلَقًا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ الْمَيْتَةَ وَهِيَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْقَلِبَ إِلَى حَالَةٍ تَحِلُّ فِيهَا، فَالْخَمْرُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْقَلِبَ خَلًّا فَتَصِيرُ حَلَالًا أَوْلَى، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ دَعَتْهُ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَتَخَلَّصُ بِشُرْبِهَا جَازَ كَمَا لَوْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْغَصِّ الْجَوَازُ. وَهَذَا لَيْسَ مِنَ التَّدَاوِي الْمَحْضِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الطِّبِّ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ.

ثُمَّ سَاقَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَائِشَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: تَرْجَمَ عَلَى شَيْءٍ وَأَعْقَبَهُ بِضِدِّهِ وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ نَصًّا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ الْإِشَارَةَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إِلَى أَنَّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَبِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْإِشَارَةَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} فَدَلَّ الِامْتِنَانُ بِهِ عَلَى حِلِّهِ، فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ الشِّفَاءَ فِيمَا حَرَّمَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ شَرَابُ الْحَلْوَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتِ الْحَلْوَى الْمَعْهُودَةَ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا الْمُتْرَفُونَ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا هِيَ حُلْوٌ يُشْرَبُ إِمَّا عَسَلٌ بِمَاءٍ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُشَاكِلُهُ انْتَهَى. ويحتمل أَنْ تَكُونَ الْحَلْوَى كَانَتْ تُطْلَقُ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا يُعْقَدُ أَوْ يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ، كَمَا أَنَّ الْعَسَلَ قَدْ يُؤْكَلُ إِذَا كَانَ جَامِدًا وَقَدْ يُشْرَبُ إِذَا كَانَ مَائِعًا، وَقَدْ يُخْلَطُ فِيهِ الْمَاءُ وَيُذَابُ ثُمَّ يُشْرَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ زِيَادَةٌ: وَإِنَّ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِ حَفْصَةَ أَهْدَتْ لَهَا عُكَّةَ عَسَلٍ فَشَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَرْبَةً الْحَدِيثَ فِي ذِكْرِ الْمَغَافِيرِ. فَقَوْلُهُ: سَقَتْهُ شَرْبَةً مِنْ عَسَلٍ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ صِرْفًا حَيْثُ يَكُونُ مَائِعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَمْزُوجًا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْحَلْوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّ شَيْءٍ حُلْوٍ، وَذِكْرُ الْعَسَلِ بَعْدَهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى شَرَفِهِ وَمَزِيَّتِهِ، وَهُوَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ.

وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ لَذِيذِ الْأَطْعِمَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالْمُرَاقَبَةَ، لَا سِيَّمَا إِنْ حَصَلَ اتِّفَاقًا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ قَالَ: قَوْلُ عَائِشَةَ: كَانَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَى لَيْسَ عَلَى مَعْنَى كَثْرَةِ التَّشَهِّي لَهَا وَشِدَّةِ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَيْهَا وَتَأَنُّقِ الصَّنْعَةِ فِي اتِّخَاذِهَا كَفِعْلِ أَهْلِ التَّرَفُّهِ وَالشَّرَهِ. وَإِنَّمَا كَانَ إِذَا قُدِّمَتْ إِلَيْهِ يَنَالُ مِنْهَا نَيْلًا جَيِّدًا فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ

ص: 80

يُعْجِبُهُ طَعْمُهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّخَاذِ الْحَلَاوَاتِ وَالْأَطْعِمَةِ مِنْ أَخْلَاطٍ شَتَّى.

‌16 - بَاب الشُّرْبِ قَائِمًا

5615 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ النَّزَّالِ قَالَ: أُتِي عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ بماء، فَشَرِبَ قَائِمًا، فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ.

[الحديث 5615 - طرفه في: 5616]

5616 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ، حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ، فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ - وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ - ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قائما، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرْبِ قَائِمًا) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي كَرَاهَةِ الشُّرْبِ قَائِمًا. كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلِ الَّذِي يُشْبِهُ صَنِيعَهُ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَحَادِيثُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ. وَذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَينِ: الْأَوَّلُ:

قَوْلُهُ: (عَنِ النَّزَّالِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ وَآخِرُهُ لَامٌ، فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، تَقَدَّمَتْ لَهُ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ. وَقَدْ رَوَى مِسْعَرٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ مُخْتَصَرًا، وَرَوَاهُ عَنْهُ شُعْبَةُ مُطَوَّلًا، وَسَاقَهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَوَافَقَ الْأَعْمَشَ، شُعْبَةُ عَلَى سِيَاقِهِ مُطَوَّلًا. وَمِسْعَرٌ وَشَيْخُهُ وَشَيْخُ شَيْخِهِ هِلَالِيُّونَ كُوفِيُّونَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا كُوفِيٌّ، وَعَلِيٌّ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا، فَالْإِسْنَادُ الْأَوَّلُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (أُتي عَلِيٌّ) وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِيهَا: عَنْ عَلِيٍّ وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ رَأَيْتُ عَلِيًّا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ، وَالرَّحَبَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْمَكَانُ الْمُتَّسَعُ، وَالرَّحْبُ بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ الْمُتَّسَعُ أَيْضًا، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَمِنْهُ أَرْضٌ رَحْبَةٌ بِالسُّكُونِ أَيْ مُتَّسِعَةٌ، وَرَحَبَةُ الْمَسْجِدِ بِالتَّحْرِيكِ وَهِيَ سَاحَتُهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَعَلَى هَذَا يُقْرَأُ الْحَدِيثُ بِالسُّكُونِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا صَارَتْ رَحَبَةَ للْكُوفَةِ بِمَنْزِلَةِ رَحَبَةِ الْمَسْجِدِ، فَيُقْرَأُ بِالتَّحْرِيكِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

قال: وقَوْلُهُ: حَوَائِجُ هُوَ جَمْعُ حَاجَةٍ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، وَذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ أَنَّهُ مُوَلَّدٌ، وَالْجَمْعُ حَاجَاتٌ وَحَاجٌّ.

وَقَالَ ابْنُ وَلَّادٍ: الْحَوْجَاءُ الْحَاجَةُ وَجَمْعُهَا حَوَاجِيٌّ بِالتَّشْدِيدِ، وَيَجُوزُ التَّخْفِيفُ، قَالَ: فَلَعَلَّ حَوَائِجَ مَقْلُوبَةٌ مِنْ حَوَاجِيٍّ مِثْلِ: سَوَائِعَ مِنْ سَوَاعِيٍّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ: قِيلَ: الْأَصْلُ حَائِجَةٌ، فَيَصِحُّ الْجَمْعُ عَلَى حَوَائِجَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ) فِي

ص: 81

رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَدَعَا بِوُضُوءٍ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ ثُمَّ أُتِيَ عَلِيٌّ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ وَمِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَكَذَا لِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ) كَذَا هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ بَهْزٍ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفًّا فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ الطَّيَالِسِيِّ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ وَأَنَّ آدَمَ تَوَقَّفَ فِي سِيَاقِهِ، فَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسِهِ وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ: ذَكَرَ الْغَسْلَ وَالتَّثْلِيثَ فِي الْجَمِيعِ، وَهِيَ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَةِ أَكْثَرِ أَصْحَابِ شُعْبَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَهْمَ فِيهَا مِنَ الرَّاوِي عنْه أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَاسِطِيِّ شَيْخِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِيهَا فَقَدْ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالصِّفَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا هِيَ صِفَةُ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ الْكَامِلِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَوْلُ عَلِيٍّ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ) هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، وَالَّذِي وَقَعَ هُنَا مِنْ ذِكْرِ الشُّرْبِ مَرَّةً قَبْلَ الْوُضُوءِ وَمَرَّةً بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَمُ أَرَهُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ آدَمَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَضْلُهُ بَقِيَّةُ الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَشْرَبَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَائِمًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ قِيَامًا وَهِيَ وَاضِحَةٌ، وَلِلطَّيَالِسِيِّ أَنْ يَشْرَبُوا قِيَامًا.

قَوْلُهُ: (صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ) أَيْ مِنَ الشُّرْبِ قَائِمًا، وَصَرَّحَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ: شَرِبَ فَضْلَةَ وُضُوئِهِ قَائِمًا كَمَا شَرِبْتُ وَلِأَحْمَدَ وَرَأَيْتُهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا، فَرَأَى النَّاسَ كَأَنَّهُمُ أَنْكَرُوهُ فَقَالَ: مَا تَنْظُرُونَ أَنْ أَشْرَبَ قَائِمًا؟ فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ قَائِمًا، وَإِنْ شَرِبْتُ قَاعِدًا فَقَدْ رَأَيْتُهُ يَشْرَبُ قَاعِدًا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ زِيَادَةٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ وَهَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ وَهِيَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَكَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ لِلْقَائِمِ، وَقَدْ عَارَضَ ذَلِكَ أَحَادِيثَ صَرِيحَةً فِي النَّهْيِ عَنْهُ. وَمِنْهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا وَمِثْلُهُ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ نَهَى وَمِثْلُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ الْجَارُودِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي غَطَفَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدُكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ بِلَفْظِ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِي يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ لَاسْتَقَاءَ وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَشْرَبُ قَائِمًا فَقَالَ: قِهْ، قَالَ: لِمَهْ؟ قَالَ: أَيَسُرُّكُ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الْهِرُّ؟ قَالَ: لَا.

قَالَ: قَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، الشَّيْط انُ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي زِيَادٍ الطَّحَّانِ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْهُ، وَأَبُو زِيَادٍ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَقَدْ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْنَا لِأَنَسٍ: فَالْأَكْلُ؟ قَالَ: ذَاكَ أَشَرُّ وَأَخْبَثُ قِيلَ: وَإِنَّمَا جُعِلَ الْأَكْلُ أَشَرَّ لِطُولِ زَمَنِهِ بِالنِّسْبَةِ لِزَمَنِ الشُّرْبِ. فَهَذَا مَا وَرَدَ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ، وَكَرِهَهُ قَوْمٌ، فَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: لَعَلَّ النَّهْيَ يَنْصَرِفُ لِمَنِ أَتَى أَصْحَابُهُ بِمَاءٍ فَبَادَرَ لِشُرْبِهِ قَائِمًا قَبْلَهُمُ اسْتِبْدَادًا بِهِ وَخُرُوجًا عَنْ كَوْنِ سَاقِي الْقَوْمِ آخِرَهُمْ شُرْبًا. قَالَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالِاسْتِقَاءِ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ

ص: 82

فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَسْتَقِيءَ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: وَتَضَمَّنَ حَدِيثُ أَنَسٍ الْأَكْلَ أَيْضًا، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْأَكْلِ قَائِمًا. قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ أَحَادِيثَ شُرْبِهِ قَائِمًا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْحَثِّ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى وَأَكْمَلُ. أَوْ لِأَنَّ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا ضَرَرًا فَأَنْكَرَهُ مِنْ أَجْلِهِ وَفَعَلَهُ هُوَ لِأَمْنِهِ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا الثَّانِي يُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّكُ خِلْطًا يَكُونُ الْقَيْءُ دَوَاءَهُ.

وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ النَّخَعِيِّ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِدَاءِ الْبَطْنِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يُخَرِّجْ مَالِكٌ وَلَا الْبُخَارِيُّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ، وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ وَمِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي عِيسَى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ مُعَنْعَنٌ، وَكَانَ شُعْبَةُ يَتَّقِي مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ مَا لَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ، وَأَبُو عِيسَى غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَاضْطِرَابُ قَتَادَةَ فِيهِ مِمَّا يُعِلُّهُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى وَالْأَئِمَّةِ لَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَفِي سَنَدِهِ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ، وَلَا يُحْتَمَلُ مِنْهُ مِثْلُ هَذَا لِمُخَالَفَةِ غَيْرِهِ لَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَوَقَعَ لِلنَّوَوِيِّ مَا مُلَخَّصُهُ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَشْكَلَ مَعْنَاهَا عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى قَالَ فِيهَا أَقْوَالًا بَاطِلَةً، وَزَادَ حَتَّى تَجَاسَرَ وَرَامَ أَنْ يُضَعِّفَ بَعْضَهَا، وَلَا وَجْهَ إِشَاعَةِ الْغَلَطَاتِ، بَلْ يُذْكَرُ الصَّوَابُ، وَيُشَارُ إِلَى التَّحْذِيرِ عَنِ الْغَلَطِ، وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ إِشْكَالٌ وَلَا فِيهَا ضَعِيفٌ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ النَّهْيَ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَشُرْبُهُ قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ نَسْخًا أَوْ غَيْرَهُ فَقَدْ غَلِطَ، فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ لَوْ ثَبَتَ التَّارِيخُ، وَفِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِبَيَانِ الْجَوَازِ لَا يَكُونُ فِي حَقِّهِ مَكْرُوهًا أَصْلًا، فَإِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ لِلْبَيَانِ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ، وَيُوَاظِبُ عَلَى الْأَفْضَلِ، وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِقَاءَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقِيءَ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.

وَأَمَّا قَوْلُ عِيَاضٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ مَنْ شَرِبَ قَائِمًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّأَ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِشَارَتِهِ، وَكَوْنُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يُوجِبُوا الِاسْتِقَاءَةَ لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْبَابِهِ، فَمَنِ ادَّعَى مَنْعَ الِاسْتِحْبَابِ بِالْإِجْمَاعِ فَهُوَ مُجَازِفٌ، وَكَيْفَ تُتْرَكُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِالتَّوَهُّمَاتِ، وَالدَّعَاوَى وَالتُّرَّهَاتِ؟ اهـ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ عِيَاضٍ التَّعَرُّضُ لِلِاسْتِحْبَابِ أَصْلًا، بَلْ وَنَقْلُ الِاتِّفَاقِ الْمَذْكُورِ إِنَّمَا هُوَ كَلَامُ الْمَازِرِيِّ كَمَا مَضَى، وَأَمَّا تَضْعِيفُ عِيَاضٍ لِلْأَحَادِيثِ فَلَمْ يَتَشَاغَلِ النَّوَوِيُّ بِالْجَوَابِ عَنْهُ. وَطَرِيقُ الْإِنْصَافِ أَنْ لَا تُدْفَعَ حُجَّةُ الْعَالِمِ بِالصَّدْرِ، فَأَمَّا إِشَارَتُهُ إِلَى تَضْعِيفِ حَدِيثِ أَنَسٍ بِكَوْنِ قَتَادَةَ مُدَلِّسًا وَقَدْ عَنْعَنَهُ فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي نَفْسِ السَّنَدِ بِمَا يَقْتَضِي سَمَاعَهُ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، فَإِنَّ فِيهِ: قُلْنَا لِأَنَسٍ: فَالْأَكْلُ وَأَمَّا تَضْعِيفُهُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ بِأَنَّ أَبَا عِيسَى غَيْرُ مَشْهُورٍ فَهُوَ قَوْلٌ سَبَقَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمَدِينِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا قَتَادَةُ، لَكِنْ وَثَّقَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَمِثْلُ هَذَا يُخَرَّجُ فِي الشَّوَاهِدِ، وَدَعْوَاهُ اضْطِرَابَةٌ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّ لِقَتَادَةَ فِيهِ إِسْنَادَيْنِ وَهُوَ حَافِظٌ، وَأَمَّا تَضْعِيفُهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِعُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ فَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ وَمِثْلُهُ يُخَرِّجُ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَقَدْ تَابَعَهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، فَالْحَدِيثُ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ صَحِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّ قَوْلَهُ فَمَنْ نَسِيَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْعَامِدِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا خُصَّ النَّاسِي بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ الْمُؤْمِنِ لَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ النَّهْيِ غَالِبًا إِلَّا نِسْيَانًا. قُلْتُ: وَقَدْ يُطْلَقُ النِّسْيَانُ وَيُرَادُ بِهِ التَّرْكُ فَيَشْمَلُ السَّهْوُ وَالْعَمْدُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ تَرَكَ امْتِثَالَ الْأَمْرِ وَشَرِبَ قَائِمًا فَلْيَسْتَقِئْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: لَمْ يَصِرِ أَحَدٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى أُصُولِ الظَّاهِرِيَّةِ وَالْقَوْلِ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ابْنَ حَزْمٍ مِنْهُمْ جَزَمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَتَمَسَّكَ مَنْ

ص: 83

لَمْ يَقُلْ بِالتَّحْرِيمِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَمْشِي، وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ وَفِي الْبَابِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَعَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالْأَثْرَمُ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ فِي الْأَحْكَامِ وَعَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ نَحْوَهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ شَاهِينَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ خَبَّابٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَعَنْ كَبْشَةَ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ مِنْ قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَعَنْ كَلْثَمَ نَحْوَهُ أَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

وَثَبَتَ الشُّرْبُ قَائِمًا عَنْ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا كَانُوا يَشْرَبُونَ قِيَامًا، وَكَانَ سَعْدٌ، وَعَائِشَةُ لَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَسَلَكَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ مَسَالِكَ: أَحَدُهَا: التَّرْجِيحُ وَأَنَّ أَحَادِيثَ الْجَوَازِ أَثْبَتُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّهْيِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي بَكْرٍ، الْأَثْرَمِ فَقَالَ: حَدِيثُ أَنَسٍ - يَعْنِي فِي النَّهْيِ - جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، وَلَكِنْ قَدْ جَاءَ عَنْهُ خِلَافُهُ، يَعْنِي فِي الْجَوَازِ، قَالَ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ فِي النَّهْيِ أَثْبَتَ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ فِي الْجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ الَّذِي يُقَابِلُهُ أَقْوَى لِأَنَّ الثَّبْتَ قَدْ يَرْوِي مَنْ هُوَ دُونَهُ الشَّيْءَ فَيُرَجَّحُ عَلَيْهِ، فَقَدْ رُجِّحَ نَافِعٌ عَلَى سَالِمٍ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَالِمٍ مُقَدَّمٌ عَلَى نَافِعٍ فِي الثَّبْتِ، وَقُدِّمَ شَرِيكٌ عَلَى الثَّوْرِيِّ فِي حَدِيثَيْنِ وَسُفْيَانُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي جُمْلَةِ أَحَادِيثَ. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ قَائِمًا قَالَ الْأَثْرَمُ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ فِي النَّهْيِ لَيْسَتْ ثَابِتَةً، وَإِلَّا لَمَا قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى وَهَاءِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ أَيْضًا اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقِيءَ.

الْمَسْلَكُ الثَّانِي: دَعْوَى النَّسْخِ، وَإِلَيْهَا جَنَحَ الْأَثْرَمُ، وَابْنُ شَاهِينَ فَقَرَّرَا عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ - عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا - مَنْسُوخَةٌ بِأَحَادِيثِ الْجَوَازِ بِقَرِينَةِ عَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمُعْظَمِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِالْجَوَازِ، وَقَدْ عَكَسَ ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ فَادَّعَى نَسْخَ أَحَادِيثِ الْجَوَازِ بِأَحَادِيثِ النَّهْيِ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ الْجَوَازَ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ مُقَرِّرَةٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ. فَمَنِ ادَّعَى الْجَوَازَ بَعْدَ النَّهْيِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ أَحَادِيثَ الْجَوَازِ مُتَأَخِّرَةٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْأَخِيرُ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَيَتَأَيَّدُ بِفِعْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ. الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، فَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الثَّقَفِيُّ فِي نَصْرِة الصِّحَاحَ: وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ هُنَا الْمَشْيُ، يُقَالُ قَامَ فِي الْأَمْرِ إِذَا مَشَى فِيهِ، وَقُمْتُ فِي حَاجَتِي إِذَا سَعَيْتُ فِيهَا وَقَضَيْتُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} أَيْ مُوَاظِبًا بِالْمَشْيِ عَلَيْهِ. وَجَنَحَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى تَأْوِيلٍ آخَرَ وَهُوَ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَمَّ عِنْدَ شُرْبِهِ، وَهَذَا إِنْ سَلِمَ لَهُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ فِي بَقِيَّتِهَا.

وَسَلَكَ آخَرُونَ فِي الْجَمْعِ حَمْلَ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَأَحَادِيثَ الْجَوَازِ عَلَى بَيَانِهِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْخَطَّابِيِّ، وَابْنِ بَطَّالٍ فِي آخَرِينَ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْمَسَالِكِ وَأَسْلَمُهَا وَأَبْعَدُهَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ، وَقَدْ أَشَارَ الْأَثْرَمُ إِلَى ذَلِكَ أَخِيرًا فَقَالَ: إِنْ ثَبَتَتِ الْكَرَاهَةُ حُمِلَتْ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالتَّأْدِيبِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ وَأَيَّدَهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا ثُمَّ حَرَّمَهُ أَوْ كَانَ حَرَامًا ثُمَّ جَوَّزَهُ لَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بَيَانًا وَاضِحًا، فَلَمَّا تَعَارَضَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ جَمَعْنَا بَيْنَهَا بِهَذَا. وَقِيلَ إِنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ مَخَافَةَ وُقُوعِ ضَرَرٍ بِهِ، فَإِنَّ الشُّرْبَ قَاعِدًا أَمْكَنُ وَأَبْعَدُ مِنَ الشَّرَقِ وَحُصُولِ الْوَجَعِ فِي الْكَبِدِ أَوِ الْحَلْقِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَأْمَنُ مِنْهُ مَنْ شَرِبَ قَائِمًا. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ عَلَى الْعَالِمِ إِذَا رَأَى النَّاسَ اجْتَنَبُوا شَيْئًا وَهُوَ

ص: 84

يَعْلَمُ جَوَازَهُ أَنْ يُوَضِّحَ لَهُمْ وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهِ خَشْيَةَ أَنْ يَطُولَ الْأَمْرُ فَيُظَنُّ تَحْرِيمُهُ، وَأَنَّهُ مَتَى خَشِيَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ لِلْإِعْلَامِ بِالْحُكْمِ وَلَوْ لَمْ يُسْأَلْ، فَإِنْ سُئِلَ تَأَكَّدَ الْأَمْرُ بِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا كَرِهَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا لَا يُشْهِرُه بِاسْمِهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ بَلْ يُكَنِّي عَنْهُ كَمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: ذَكَرَ الْكَلَابَاذِيُّ أَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ سَمِعَ مِنْ سُفْيَانَ، الثَّوْرِيِّ وَمِنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَوَى عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا. قُلْتُ: لَيْسَ الِاحْتِمَالَانِ فِيهِمَا هُنَا عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنَّ أَبَا نُعَيْمٍ مَشْهُورٌ بِالرِّوَايَةِ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَعْرُوفٌ بِمُلَازَمَتِهِ، وَرِوَايَتُهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَلِيلَةٌ، وَإِذَا أَطْلَقَ اسْمَ شَيْخِهِ حُمِلَ عَلَى مَنْ هُوَ أَشْهَرُ بِصُحْبَتِهِ وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، وَلِهَذَا جَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ سُفْيَانَ هَذَا هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فِي مِثْلِ هَذَا، وَلِلْخَطِيبِ فِيهِ تَصْنِيفٌ سَمَّاهُ الْمُكْمِلِ لِبَيَانِ الْمُهْمَلِ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ، الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، لَكِنْ خُصُوصُ رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِيهِ إِنَّمَا هِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (شَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا مِنْ زَمْزَمَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَاصِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ - أَيْ عَاصِمٌ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ، فَحَلَفَ أَنَّهُ مَا كَانَ حِينَئِذٍ إِلَّا رَاكِبًا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ ثُمَّ أَنَاخَهُ بَعْدَ طَوَافِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَلَعَلَّهُ حِينَئِذٍ شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إِلَى بَعِيرِهِ وَيَخْرُجَ إِلَى الصَّفَا، بَلْ هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ عُمْدَةَ عِكْرِمَةَ فِي إِنْكَارِ كَوْنِهِ شَرِبَ قَائِمًا إِنَّمَا هُوَ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ وَخَرَجَ إِلَى الصَّفَّا عَلَى بَعِيرِهِ، وَسَعَى كَذَلِكَ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَخَلُّلِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ بَيْنَ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّاهُمَا عَلَى الْأَرْضِ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِهِ شَرِبَ حِينَئِذٍ مِنْ سِقَايَةِ زَمْزَمَ قَائِمًا كَمَا حَفِظَهُ الشَّعْبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؟

‌17 - بَاب مَنْ شَرِبَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ

5618 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ: أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَأَخَذَه بِيَدِهِ فَشَرِبَهُ. زَادَ مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ: عَلَى بَعِيرِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ شَرِبَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا حُجَّةَ فِي هَذَا عَلَى الشُّرْبِ قَائِمًا؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ عَلَى الْبَعِيرِ قَاعِدٌ غَيْرُ قَائِمٍ، كَذَا قَالَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ حُكْمَ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَلْ تَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ أَوْ لَا وَإِيرَادُهُ الْحَدِيثَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الصُّورَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَكَأَنَّهُ لَمَّحَ بِمَا قَالَ عِكْرِمَةُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي جَاءَتْ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا إِنَّمَا أَرَادَ وَهُوَ رَاكِبٌ وَالرَّاكِبُ يُشْبِهُ الْقَائِمَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ سَائِرًا، وَيُشْبِهُ الْقَاعِدَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُسْتَقِرًّا عَلَى الدَّابَّةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ الْكُوفِيُّ، مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: زَادَ مَالِكٌ إِلَخْ هُوَ ابْنُ أَنَسٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مَالِكًا تَابَعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ عَلَى رِوَايَتِهِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: شَرِبَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى

ص: 85

بَعِيرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَامَّةً فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِ الْحَدِيثِ.

‌18 - بَاب الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ فِي الشُّرْبِ

5619 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ وَعَنْ شِمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ: الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ فِي الشُّرْبِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَاضِي قَرِيبًا فِي بَاب شُرْب اللَّبَنِ وَتَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ هُنَاكَ. وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ. وَكَذَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ: الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ؛ أَيْ: يُقَدَّمُ مَنْ عَلَى يَمِينِ الشَّارِبِ فِي الشُّرْبِ، ثُمَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِ الثَّانِي وَهَلُمَّ جَرًّا، وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: يَجِبُ. وَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: فِي الشُّرْبِ يَعُمُّ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ، وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَحْدَهُ أَنَّهُ خَصَّهُ بِالْمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَصِحُّ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ عِيَاضٌ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ السُّنَّةَ ثَبَتَتْ نَصًّا فِي الْمَاءِ خَاصَّةً، وَتَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ فِي غَيْرِ شُرْبِ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَأَنَّ اخْتِصَاصَ الْمَاءِ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يُمْلَكُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَشْرُوبَاتِ. وَمِنْ ثَمَّ اخْتُلِفَ هَلْ يَجْرِي الرِّبَا فِيهِ، وَهَلْ يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ؟ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فِي الشُّرْبِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجْرِي فِي الْأَكْلِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ خِلَافُهُ كَمَا سَيَأْتِي.

‌19 - بَاب هَلْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الشُّرْبِ لِيُعْطِيَ الْأَكْبَرَ؟

5620 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ - وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ - فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا. قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الشُّرْبِ لِيُعْطِيَ الْأَكْبَرَ)؟ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ لِكَوْنِهَا وَاقِعَةَ عَيْنٍ فَيَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا احْتِمَالُ الِاخْتِصَاصِ، فَلَا يَطَّرِدُ الْحُكْمُ فِيهَا لِكُلِّ جَلِيسَيْنِ.

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائ لِ الشُّرْبِ، وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْغُلَامِ وَبَعْضِ الْأَشْيَاخِ. وَقَوْلُهُ: أَتَأْذَنُ لِي لَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ، فَأَجَابَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّ الْغُلَامَ كَانَ ابْنَ عَمِّهِ فَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ إِدْلَالٌ، وَكَانَ مَنْ عَلَى الْيَسَارِ أَقَارِبُ الْغُلَامِ أَيْضًا، وَطَيَّبَ نَفْسَهُ مَعَ ذَلِكَ بِالِاسْتِئْذَانِ لِبَيَانِ الْحُكْمِ وَأَنَّ السُّنَّةَ تَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عَلَى الْيَسَارِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلَطَّفَ بِهِ حَيْثُ قَالَ لَهُ: الشَّرْبَةُ لَكَ، وَإِنْ شِئْتَ آثَرْتَ بِهَا خَالِدًا كَذَا فِي السُّنَنِ، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَإِنْ شِئْتَ آثَرْتَ بِهِ عَمَّكَ وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ عَمَّهُ لِكَوْنِهِ أَسَنَّ مِنْهُ، وَلَعَلَّ سِنَّهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ سِنِّ الْعَبَّاسِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى مِنْ أَقْرَانِهِ لِكَوْنِهِ ابْنَ خَالَتِهِ، وَكَانَ خَالِدٌ مَعَ رِيَاسَتِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَشَرَفِهِ فِي قَوْمِهِ قَدْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ فَلِذَلِكَ اسْتَأْذَنَ لَهُ، بِخِلَافِ

ص: 86

أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّ رُسُوخَ قَدَمِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَسَبْقِهِ يَقْتَضِي طُمَأْنِينَتَهُ بِجَمِيعِ مَا يَقَعُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَتَأَثَّرُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَأْذِنِ الْأَعْرَابِيُّ لَهُ، وَلَعَلَّهُ خَشِيَ مِنَ اسْتِئْذَانِهِ أَنْ يَتَوَهَّمَ إِرَادَةَ صَرْفِهِ إِلَى بَقِيَّةِ الْحَاضِرِينَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ دُونَهُ، فَرُبَّمَا سَبَقَ إِلَى قَلْبِهِ مِنْ أَجْلِ قُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ شَيْءٌ فَجَرَى صلى الله عليه وسلم عَلَى عَادَتِهِ فِي تَأْلِيفِ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ وَلِهَذَا جَلَسَ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ سُنَّةَ الشُّرْبِ الْعَامَّةَ تَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، وَأَنَّ تَقْدِيمَ الَّذِي عَلَى الْيَمِينِ لَيْسَ لِمَعْنًى فِيهِ بَلْ لِمَعْنًى فِي جِهَةِ الْيَمِينِ وَهُوَ فَضْلُهَا عَلَى جِهَةِ الْيَسَارِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ تَرْجِيحًا لِمَنْ هُوَ عَلَى الْيَمِينِ بَلْ هُوَ تَرْجِيحٌ لِجِهَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ فِي ذَلِكَ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ. وَقَدْ يُعَارِضُ حَدِيثَ سَهْلٍ هَذَا وَحَدِيثَ أَنَسٍ الَّذِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ وَحَدِيثَ سَهْلِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ الْآتِي فِي الْقَسَامَةِ كَبِّرْ كَبِّرْ وَتَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْأَمْرِ بِمُنَاوَلَةِ السِّوَاكَ الْأَكْبَرَ، وَأَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ قَوِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَقَى قَالَ: ابْدَءُوا بِالْكَبِيرِ وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَجْلِسُونَ فِيهَا مُتَسَاوِينَ إِمَّا بَيْنَ يَدَيِ الْكَبِيرِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ كُلُّهُمْ أَوْ خَلْفَهُ أَوْ حَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِمْ، فَتُخَصُّ هَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ عُمُومِ تَقْدِيمِ الْأَيْمَنِ، أَوْ يُخَصُّ مِنْ عُمُومِ هَذَا الْأَمْرُ بِالْبُدَاءَةِ بِالْكَبِيرِ مَا إِذَا جَلَسَ بَعْضٌ عَنْ يَمِينِ الرَّئِيسِ وَبَعْضٌ عَنْ يَسَارِهِ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُقَدَّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَفْضُولُ عَلَى الْفَاضِلِ. وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْأَيْمَنَ مَا امْتَازَ بِمُجَرَّدِ الْجُلُوسِ فِي الْجِهَةِ الْيُمْنَى بَلْ بِخُصُوصِ كَوْنِهَا يَمِينَ الرَّئِيسِ فَالْفَضْلُ إِنَّمَا فَاضَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْضَلِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: تَفْضِيلُ الْيَمِينِ شَرْعِيٌّ وَتَفْضِيلُ الْيَسَارِ طَبْعِيٌّ، وَإِنْ كَانَ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أُدْخِلَ فِي التَّعَبُّدِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتْ فَضِيلَةُ الْفَاعِلِ وَفَضِيلَةُ الْوَظِيفَةِ اعْتُبِرَتْ فَضِيلَةُ الْوَظِيفَةِ، كَمَا لَوْ قُدِّمَتْ جِنَازَتَانِ لِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ أَفْضَلُ مِنْ وَلِيِّ الرَّجُلِ قُدِّمَ وَلِيُّ الرَّجُلِ، وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا؛ لِأَنَّ الْجِنَازَةَ هِيَ الْوَظِيفَةُ فَتُعْتَبَرُ أَفْضَلِيَّتُهَا لَا أَفْضَلِيَّةُ الْمُصَلِّي عَلَيْهَا، قَالَ: وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ الرُّجُولِيَّةَ وَالْمَيْمَنَةَ أَمْرٌ يَقْطَعُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ، بِخِلَافِ أَفْضَلِيَّةِ الْفَاعِلِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الظَّنُّ وَلَوْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنَّهُ مِمَّا يَخْفَى مِثْلُهُ عَنْ بَعْضٍ، كَأَبِي بَكْرٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْأَعْرَابِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَتَأْذَنُ لِي أَنِ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَوِ أَذِنَ لَهُ لَأَعْطَاهُمْ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الْإِيثَارِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى مَا اشْتُهِرَ مِنْ أَنَّهُ لَا إِيثَارَ بِالْقُرْبِ، وَعِبَارَةُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي هَذَا: لَا يَجُوزُ التَّبَرُّعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهَا. وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ الْقُرْبَ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ أُورِدَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَجْوِيزُ جَذْبِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِيُصَلِّيَ مَعَهُ لِيَخْرُجَ الْجَاذِبُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُصَلِّيًا خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ لِثُبُوتِ الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ، فَفِي مُسَاعَدَةِ الْمَجْذُوبِ لِلْجَاذِبِ إِيثَارٌ بِقُرْبَةٍ كَانَتْ لَهُ وَهِيَ تَحْصِيلُ فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِيُحَصِّلَ فَضِيلَةً تَحْصُلُ لِلْجَاذِبِ وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ لَا إِيثَارَ، إِذْ حَقِيقَةُ الْإِيثَارِ إِعْطَاءُ مَا اسْتَحَقَّهُ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا لَمْ يُعْطِ الْجَاذِبَ شَيْئًا وَإِنَّمَا رَجَّحَ مَصْلَحَتَهُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ، لِأَنَّ مُسَاعَدَةَ الْجَاذِبِ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودةٍ لَيْسَ فِيهِ إِعْطَاؤُهُ مَا كَانَ يَحْصُلُ لِلْمَجْذُوبِ لَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَتَلَّهُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ وَضَعَهُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَضَعَهُ بِعُنْفٍ.

وَأَصْلُهُ مِنَ الرَّمْيِ عَلَى التَّلِّ وَهُوَ الْمَكَانُ الْعَالِي الْمُرْتَفِعُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُرْمَى بِهِ وَفِي كُلٍّ إِلْقَاءٌ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ التَّلْتَلِ بِلَامٍ سَاكِنَةٍ بَيْنَ الْمُثَنَّاتَيْنِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ وَآخِرُهُ لَامٌ وَهُوَ الْعُنُقُ، وَمِنْهُ: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أَيْ صَرَعَهُ فَأَلْقَى عُنُقَهُ وَجَعَلَ جَنْبَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِمَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ تَقْيِيدَ الْخَطَّابِيِّ الْوَضْعَ بِالْعُنُقِ.

ص: 87

‌20 - بَاب الْكَرْعِ فِي الْحَوْضِ

5621 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ، فَسَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبُهُ، فَرَدَّ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَهِيَ سَاعَةٌ حَارَّةٌ، وَهُوَ يُحَوِّلُ فِي حَائِطٍ لَهُ - يَعْنِي الْمَاءَ - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنَّةٍ وَإِلَّا كَرَعْنَا، وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطٍ. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي مَاءٌ بَاتَ فِي شَنَّةٍ. فَانْطَلَقَ إِلَى الْعَرِيشِ فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ مَاءً، ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ، فَشَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَعَادَ فَشَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَرْعِ فِي الْحَوْضِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ مُسْتَوْفًى، وَإِنَّمَا قَيَّدَ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْحَوْضِ لِمَا بَيَّنْتُهُ هُنَاكَ أَنَّ جَابِرًا أَعَادَ قَوْلَهُ: وَهُوَ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْقُلُهُ مِنْ أَسْفَلِ الْبِئْرِ إِلَى أَعْلَاهُ، فَكَأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ حَوْضٌ يَجْمَعُهُ فِيهِ ثُمَّ يُحَوِّلُهُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ.

‌21 - بَاب خِدْمَةِ الصِّغَارِ الْكِبَارَ

5622 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عَلَى الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ عُمُومَتِي - وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ - الْفَضِيخَ، فَقِيلَ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ. فَقَالَ: اكْفِئْهَا، فَكَفَأْنَا. قُلْتُ لِأَنَسٍ: مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ: وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ. فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ.

وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ خِدْمَةِ الصِّغَارِ الْكِبَارَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ كُنْتُ قَائِمًا عَلَى الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ الْأَشْرِبَةِ.

‌22 - بَاب تَغْطِيَةِ الْإِنَاءِ

5623 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ، أَوْ أَمْسَيْتُمْ، فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ، فَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ.

ص: 88

5624 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الْأَبْوَابَ، وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرُضُهُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَغْطِيَةِ الْإِنَاءِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي الْأَمْرِ بِغَلْقِ الْأَبْوَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآدَابِ، وَفِيهِ وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَمَعْنَى التَّخْمِيرِ التَّغْطِيَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ شُرْبِ اللَّبَنِ شَرْحُ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيْهِ عُودًا.

‌23 - بَاب اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ

5625 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ، يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا.

[الحديث 5625 - طرفه في: 5626]

5626 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ مَعْمَرٌ أَوْ غَيْرُهُ: هُوَ الشُّرْبُ مِنْ أَفْوَاهِهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ) افْتِعَالٌ مِنَ الْخَنَثِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ وَالْمُثَلَّثَةِ، وَهُوَ الِانْطِوَاءُ وَالتَّكَسُّرُ وَالِانْثِنَاءُ. وَالْأَسْقِيَةُ جَمْعُ السِّقَاءِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْأُدُمِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. وَقِيلَ: الْقِرْبَةُ قَدْ تَكُونُ كَبِيرَةً وَقَدْ تَكُونُ صَغِيرَةً، وَالسِّقَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا صَغِيرًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بِالتَّكْبِيرِ (ابْنِ عُتْبَةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَصَرَّحَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِيهَا بِتَحْدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ، لِلزُّهْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ فِي الَّتِي تَلِيهَا أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الَّتِي بَعْدَهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى.

قَوْلُهُ: (يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبُ مِنْهَا) الْمُرَادُ بِكَسْرِهَا ثَنْيُهَا لَا كَسْرُهَا حَقِيقَةً وَلَا إِبَاتهَا، وَالْقَائِلُ يَعْنِي لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِحَذْفِ لَفْظِ يَعْنِي فصار التَّفْسِيرُ مُدْرَجًا فِي الْخَبَرِ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ مَعْمَرٌ هُوَ ابْنُ رَاشِدٍ أَوْ غَيْرُهُ هُوَ الشُّرْبُ مِنْ أَفْوَاهِهَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَوَى الْمَرْفُوعَ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَى التَّفْسِيرَ عَنْ مَعْمَرٍ مَعَ التَّرَدُّدِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مَعًا مُدْرَجًا، وَلَفْظُهُ: يَنْهَى عَنِ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ أَوِ الشُّرْبِ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ أَفْوَاهِهَا كَذَا فِيهِ بِحَرْفِ التَّرَدُّدِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ وَحْدَهُ بِلَفْظِ عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ أَفْوَاهِهَا وَهَذَا

ص: 89

أَشْبَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَفْسِيرُ الِاخْتِنَاثِ لَا أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي فِي أَيِّ اللَّفْظَيْنِ وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ، لَكِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ التَّفْسِيرَ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ لَكِنْ قَالَ: مِثْلُهُ قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَاخْتِنَاثُهَا أَنْ يَقْلِبَ رَأْسَهَا ثُمَّ يَشْرَبُ وَهُوَ مُدْرَجٌ أَيْضًا، وَقَدْ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ تَفْسِيرَ الِاخْتِنَاثِ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، وَيُحْمَلُ التَّفْسِيرُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الشُّرْبُ مِنْ أَفْوَاهِهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ بِكَسْرِ فَمِهَا أَوْ قَلْبِ رَأْسِهَا، وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ

أَبِي ذِئْبٍ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ شَرِبَ رَجُلٌ مِنْ سِقَاءٍ فَانْسَابَ فِي بَطْنِهِ جِنَّانِ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَرَّقَهُمَا عَنْ يَزِيدَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (أَفْوَاهُهَا) جَمْعُ فَمٍ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الرَّدِّ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْفَمِ أَنَّهُ فُوهٌ نَقَصَتْ مِنْهُ الْهَاءُ لِاسْتِثْقَالِ هَاءَيْنِ عِنْدَ الضَّمِيرِ لَوْ قَالَ فُوهُهُ، فَلَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ حَذْفَ الْوَاوِ بَعْدَ حَذْفِ الْهَاءِ الْإِعْرَابُ لِسُكُونِهَا عُوِّضَتْ مِيمًا فَقِيلَ فَمٌ، وَهَذَا إِذَا أُفْرِدَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى الْفَاءِ إِذَا أُضِيفَتْ لَكِنْ تُزَادُ حَرَكَةٌ مُشْبَعَةٌ يَخْتَلِفُ إِعْرَابُهَا بِالْحُرُوفِ، فَإِنِ أُضِيفَ إِلَى مُضْمَرٍ كَفَتِ الْحَرَكَاتُ وَلَا يُضَافُ مَعَ الْمِيمِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ يُصْبِحُ عَطْشَانَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهْ فَإِذَا أَرَادُوا الْجَمْعَ أَوِ التَّصْغِيرَ رَدُّوهُ إِلَى الْأَصْلِ فَقَالُوا فُوَيْهٌ وَأَفْوَاهٌ، وَلَمْ يَقُولُوا فُمَيْمٌ وَلَا أَفْمَامٌ.

‌24 - بَاب الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ

5627 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، قَالَ لَنَا عِكْرِمَةُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ؟ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوْ السِّقَاءِ، وَأَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي دَارِهِ.

5628 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ".

5629 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ) الْفَمُ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَقْنَعْ بِالتَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِصُورَةِ الِاخْتِنَاثِ، فَبَيَّنَ أَنَّ النَّهْيَ يَعُمُّ مَا يُمْكِنُ اخْتِنَاثُهُ وَمَا لَا يُمْكِنُ كَالْفَخَّارِ مَثَلًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: قَالَ لَنَا عِكْرِمَةُ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ أَخْبَرَنَا عِكْرِمَةُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ مَثَلًا: فَقُلْنَا نَعَمْ، أَوْ فَقُلْنَا حَدِّثْنَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوِ السِّقَاءِ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَكَأَنَّهُ مِنْ سُفْيَانَ، فقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عِنْدَهُ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْ

ص: 90

يَمْنَعَ جَارَهُ إِلَخْ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمَظَالِمِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ وَلَمْ يَذْكُرِ الَّا شَيْئَيْنِ، فَلَعَلَّهُ أَخْبَرَ بِأَكْثَرَ فَاخْتَصَرَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَوْ أَقَلُّ الْجَمْعِ عِنْدَهُ اثْنَانِ. قُلْتُ: وَاخْتِصَارُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِسْيَانًا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ فَذَكَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ الشَّيْئَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَزَادَ النَّهْيَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا، وَفِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ أَوِ الْقِرْبَةِ، وَقَالَ: هَذَا آخِرُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قوله (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ) زَادَ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ قَالَ أَيُّوبُ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَوَهِمَ الْحَاكِمُ فَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِزِيَادَتِهِ وَالزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ رَاوِيَهَا لَمْ يُسَمَّ وَلَيْسَتْ مَوْصُولَةً، لَكِنْ أَخْرَجَهَا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بِنَحْوِ الْمَرْفُوعِ، وَفِي آخِرِهِ وَإِنَّ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ بَعْدَ النَّهْيِ إِلَى سِقَاءٍ فَاخْتَنَثَهُ فَخَرَجَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ حَيَّةٌ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَ النَّهْيِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ النَّهْيِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ النَّهْيِ فَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ النَّهْيِ، ثُمَّ وَقَعَ أيضا بَعْدَ النَّهْيِ تَأْكِيدًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ هُنَا لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، كَذَا قَالَ، وَفِي نَقْلِ الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ لِمَا سَأَذْكُرُهُ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَجَازَ الشُّرْبَ مِنْ أَفْوَاهِ الْقِرَبِ وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ نَهْيٌ، وَبَالَغَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْمِلُ النَّهْيَ فِيهِ عَلَى التَّحْرِيمِ، كَذَا قَالَ مَعَ النَّقْلِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ فِيهِ نَهْيٌ، فَالِاعْتِذَارُ عَنْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ أَوْلَى، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ النَّهْيُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ هَذَا النَّهْيِ لِلتَّنْزِيهِ أَحَادِيثُ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ.

قُلْتُ: لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ إِلَّا مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ كُلُّهَا مِنْ قَوْلِهِ. فَهِيَ أَرْجَحُ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَأْمُونٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، أَمَّا أَوَّلًا فَلِعِصْمَتِهِ وَلِطِيبِ نَكْهَتِهِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِرِفْقِهِ فِي صَبِّ الْمَاءِ وَبَيَانُ ذَلِكَ بِسِيَاقِ مَا وَرَدَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ، فَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ دُخُولُ شَيْءٍ مِنَ الْهَوَامِّ مَعَ الْمَاءِ فِي جَوْفِ السِّقَاءِ فَيَدْخُلُ فَمَ الشَّارِبِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ مَلَأَ السِّقَاءَ وَهُوَ يُشَاهِدُ الْمَاءَ يَدْخُلُ فِيهِ ثُمَّ رَبَطَهُ رَبْطًا مُحْكَمًا ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ حَلَّهُ فَشَرِبَهُ مِنْهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ، وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ بِلَفْظِ نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْتِنُهُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا بِمَنْ يَشْرَبُ فَيَتَنَفَّسُ دَاخِلَ الْإِنَاءِ أَوْ بَاشَرَ بِفَمِهِ بَاطِنَ السِّقَاءِ، أَمَّا مَنْ صَبَّ مِنَ الْقِرْبَةِ دَاخِلَ فَمِهِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ فَلَا، وَمِنْهَا أَنَّ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ قَدْ يَغْلِبُهُ الْمَاءُ فَيَنْصَبُّ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَتِهِ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَشْرَقَ بِهِ أَوْ تَبْتَلَّ ثِيَابُهُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَوَاحِدَةٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ تَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْكَرَاهَةِ، وَبِمَجْمُوعِهَا تَقْوَى الْكَرَاهَةُ جِدًّا.

وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ مَا مُلَخَّصُهُ: اخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ فَقِيلَ: يُخْشَى أَنْ يَكُونَ فِي الْوِعَاءِ حَيَوَانٌ أَوْ يَنْصَبُّ بِقُوَّةٍ فَيَشْرَقَ بِهِ أَوْ يَقْطَعَ الْعُرُوقَ الضَّعِيفَةَ الَّتِي بِإِزَاءِ الْقَلْبِ، فَرُبَّمَا كَانَ سَبَبُ الْهَلَاكِ أَوْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِفَمِ السِّقَاءِ مِنْ بُخَارِ النَّفْسِ أَوْ بِمَا يُخَالِطُ الْمَاءَ مِنْ رِيقِ الشَّارِبِ فَيَتَقَذَّرُهُ غَيْرُهُ، أَوْ لِأَنَّ الْوِعَاءَ يَفْسُدُ بِذَلِكَ فِي الْعَادَةِ فَيَكُونُ مِنَ إِضَاعَةِ الْمَالِ، قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْفِقْهُ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَفِيهَا مَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ وَفِيهَا مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَالْقَاعِدَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ تَرْجِيحُ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ بِالتَّحْرِيمِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ

ص: 91

وَحَمَلَ أَحَادِيثَ الرُّخْصَةِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَأَطْلَقَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ صَاحِبُ أَحْمَدَ أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ نَاسِخَةٌ لِلْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلًا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ دُخُولُ الْحَيَّةِ فِي بَطْنِ الَّذِي شَرِبَ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ فَنُسِخَ الْجَوَازُ.

قُلْتُ: وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْجَوَازِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ جَدَّتِهِ كَبْشَةَ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الشَّمَائِلِ وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ وَالْمَعَانِي لِلطَّحَاوِيِّ، قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: لَوْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يَكُونُ لِعُذْرٍ كَأَنْ تَكُونَ الْقِرْبَةُ مُعَلَّقَةً وَلَمْ يَجِدِ الْمُحْتَاجُ إِلَى الشُّرْبِ إِنَاءً مُتَيَسِّرًا وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّنَاوُلِ بِكَفِّهِ فَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ وَعَلَى ذَلِكَ تُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَتُحْمَلُ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ النَّهْيِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَحَادِيثَ الْجَوَازِ كُلَّهَا فِيهَا أَنَّ الْقِرْبَةَ كَانَتْ مُعَلَّقَةً وَالشُّرْبُ مِنَ الْقِرْبَةِ الْمُعَلَّقَةِ أَخَصُّ مِنَ الشُّرْبِ مِنْ مُطْلَقِ الْقِرْبَةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي أَخْبَارِ الْجَوَازِ عَلَى الرُّخْصَةِ مُطْلَقًا، بَلْ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ وَحْدَهَا، وَحَمْلُهَا عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى النَّسْخِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ سَبَقَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى نَحْوِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا فَقَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ ضَرُورَةٍ، إِمَّا عِنْدَ الْحَرْبِ وَإِمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِنَاءِ أَوْ مَعَ وُجُودِهِ، لَكِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لِشُغْلِهِ مِنَ التَّفْرِيغِ مِنَ السِّقَاءِ فِي الْإِنَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَرِبَ مِنَ إِدَاوَةٍ، وَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْقِرْبَةُ كَبِيرَةً لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ وُجُودِ الْهَوَامِّ، كَذَا قَالَ، وَالْقِرْبَةُ الصَّغِيرَةُ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ شَيْءٍ مِنَ الْهَوَامِّ فِيهَا، وَالضَّرَرُ يَحْصُلُ بِهِ وَلَوْ كَانَ حَقِيرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌25 - بَاب النَّهْيِ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ

5630 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ، وَإِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ) زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ النَّهْيُ عَنِ النَّفْخِ فِي الْإِنَاءِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ، وَأَنْ يُنْفَخَ فِيهِ وَجَاءَ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّفْخِ فِي الْإِنَاءِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا حَصَلَ لَهُ تَغَيُّرٌ مِنَ النَّفَسِ إِمَّا لِكَوْنِ الْمُتَنَفِّسِ كَانَ مُتَغَيِّرَ الْفَمِ بِمَأْكُولٍ مَثَلًا، أَوْ لِبُعْدِ عَهْدِهِ بِالسِّوَاكِ وَالْمَضْمَضَةِ، أَوْ لِأَنَّ النَّفَسَ يَصْعَدُ بِبُخَارِ الْمَعِدَةِ، وَالنَّفْخُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا أَشَدُّ مِنَ التَّنَفُّسِ.

‌26 - بَاب الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ

5631 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا.

ص: 92

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ) كَذَا تَرْجَمَ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ كَانَ يَتَنَفَّسُ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ وَالَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ ظَاهِرَهُمَا التَّعَارُضُ، إِذِ الْأَوَّلُ صَرِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ وَالثَّانِي يُثْبِتُ التَّنَفُّسَ، فَحَمَلَهُمَا عَلَى حَالَتَيْنِ: فَحَالَةُ النَّهْيِ عَلَى التَّنَفُّسِ دَاخِلَ الْإِنَاءِ، وَحَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى مَنْ تَنَفَّسَ خَارِجَهُ، فَالْأَوَّلُ: عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ النَّهْيِ، وَالثَّانِي: تَقْدِيرُهُ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي حَالَةِ الشُّرْبِ مِنَ الْإِنَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَوْرَدَ ابْنُ بَطَّالٍ سُؤَالَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَأَجَابَ بالجمع بَيْنَهُمَا فَأَطْنَبَ، وَلَقَدِ أَغْنَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ لَفْظِ التَّرْجَمَةِ: فَجَعَلَ الْإِنَاءَ فِي الْأَوَّلِ ظَرْفًا لِلتَّنَفُّسِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ لِاسْتِقْذَارِهِ، وَقَالَ فِي الثَّانِي الشُّرْبُ بِنَفَسَيْنِ فَجَعَلَ النَّفَسَ الشُّرْبَ، أَيْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى نَفَسٍ وَاحِدٍ بَلْ يَفْصِلُ بَيْنَ الشُّرْبَيْنِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ خَارِجَ الْإِنَاءِ. فَعُرِفَ بِذَلِكَ انْتِفَاءُ التَّعَارُضِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَتَنَفَّسُ أَيْ عَلَى الشَّرَابِ لَا فِيهِ دَاخِلَ الْإِنَاءِ، قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا صَارَ الْحَدِيثَانِ مُخْتَلِفَيْنِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مَنْسُوخًا لَا مَحَالَةَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّسْخِ، وَالْجَمْعُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ، فَقَالَ رَجُلٌ: الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ، قَالَ: أَهْرِقْهَا.

قَالَ: فَإِنِّي لَا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ، قَالَ: فَأَبِنِ الْقَدَحَ إِذًا عَنْ فِيكَ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيُنَحِّ الْإِنَاءَ ثُمَّ لْيَعُدِ إِنْ كَانَ يُرِيدُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا دَالٌّ عَلَى الْجَوَازِ وَعَلَى اخْتِيَارِ الثَّلَاثِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ أَنْ لَا يَجْعَلَ نَفَسَهُ دَاخِلَ الْإِنَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَتَنَفَّسَ خَارِجَهُ طَلَبَ الرَّاحَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِمَالِكٍ عَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْجَوَازَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَطَائِفَةٍ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنَّمَا نَهَى عَنِ التَّنَفُّسِ دَاخِلَ الْإِنَاءِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَنَفَّسْ فَإِنْ شَاءَ فَلْيَشْرَبْ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ. قُلْتُ: وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ. وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالشُّرْبِ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَزْرَةُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا رَاءٌ ابْنُ ثَابِتٍ، هُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ أَنْصَارِيُّ أَصْلُهُ مِنَ الْمَدِينَةِ نَزَلَ الْبَصْرَةَ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْ جَدِّهِ لِأُمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَغَيْرِهِمَا، فَهَذَا الْإِسْنَادُ لَهُ حُكْمُ الثُّلَاثِيَّاتِ وَإِنْ كَانَ شَيْخُ تَابِعِيهِ فِيهِ تَابِعِيًّا آخَرَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا) يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَأَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَرَّةِ، بَلِ إِنْ رُوِيَ مِنْ نَفَسَيْنِ اكْتَفَى بِهِمَا وَإِلَّا فَثَلَاثٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَوْ لِلشَّكِّ، فَقَدْ أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ عَزْرَةَ بِلَفْظِ كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا وَلَمْ يَقُلْ أَوْ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: لَا تَشْرَبُوا وَاحِدَةً كَمَا يَشْرَبُ الْبَعِيرُ، وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلَاثَ. فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ يُقَوِّي مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّنْوِيعِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا شَرِبَ تَنَفَّسَ مَرَّتَيْنِ وَهَذَا لَيْسَ نَصًّا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَرَّتَيْنِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّنَفُّسُ فِي أَثْنَاءِ الشُّرْبِ فَيَكُونُ قَدْ شَرِبَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَسَكَتَ عَنِ التَّنَفُّسِ الْأَخِيرِ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاقِعِ.

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: هُوَ أَرْوَى وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: أَهْنَأُ بَدَلَ قَوْلِهِ أَرْوَى، وَقَوْلُهُ: أَرْوَى هُوَ مِنَ الرِّيِّ بِكَسْرِ الرَّاءِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ أَيْ أَكْثَرُ الري، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ مَهْمُوزًا لِلْمُشَاكَلَةِ، وَأَمْرَأُ بِالْهَمْزِ مِنَ الْمَرَاءَةِ، يُقَالُ مَرَأَ الطَّعَامُ بِفَتْحِ الرَّاءِ يَمْرَأُ بِفَتْحِهَا وَيَجُوزُ

ص: 93

كَسْرُهَا صَارَ مَرِيًّا، وَأَبْرَأُ بِالْهَمْزِ مِنَ الْبَرَاءَةِ أَوْ مِنَ الْبُرْءِ أَيْ يُبْرِئُ مِنَ الْأَذَى وَالْعَطَشِ. وَأَهْنَأُ بِالْهَمْزِ مِنَ الْهَنْءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ هَنِيئًا مَرِيًّا بَرِيًّا أَيْ سَالِمًا أَوْ مُبْرِيًا مِنْ مَرَضٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ أَذًى. وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَقْمَعُ لِلْعَطَشِ وَأَقْوَى عَلَى الْهَضْمِ وَأَقَلُّ أَثَرًا فِي ضَعْفِ الْأَعْضَاءِ وَبَرْدِ الْمَعِدَةِ. وَاسْتِعْمَالُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فِي هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمَرَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ مَدْخَلًا فِي الْفَضْلِ الْمَذْكُورِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشُّرْبِ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ لِلتَّنْزِيهِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: النَّهْيُ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الشُّرْبِ كَالنَّهْيِ عَنْ النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الرِّيقِ فَيَعَافُهُ الشَّارِبُ وَيَتَقَذَّرُهُ. إِذْ كَانَ التَّقَذُّرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَادَةً غَالِبَةً عَلَى طِبَاعِ أَكْثَرِ النَّاسِ، وَمَحَلُّ هَذَا إِذَا أَكَلَ وَشَرِبَ مَعَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا لَوْ أَكَلَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ أَهْلِهِ أَوْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَقَذَّرُ شَيْئًا مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ فَلَا بَأْسَ.

قُلْتُ: وَالْأَوْلَى تَعْمِيمُ الْمَنْعِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَفْضُلَ فَضْلَةٌ أَوْ يَحْصُلَ التَّقَذُّرُ مِنَ الْإِنَاءِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا هُوَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلَكِنْ يحَرَّمٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُنَاوِلَ أَخَاهُ مَا يَتَقَذَّرُهُ، فَإِنْ فَعَلَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ ثُمَّ جَاءَ غَيْرُهُ فَنَاوَلَهُ إِيَّاهُ فَلْيُعْلِمْهُ، فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ فَهُوَ غِشٌّ، وَالْغِشُّ حَرَامٌ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ لِئَلَّا يُتَقَذَّرَ بِهِ مِنْ بُزَاقٍ أَوْ رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَاءِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يَتَنَفَّسْ يَجُوزُ الشُّرْبُ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: يُمْنَعُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ شُرْبُ الشَّيْطَانِ، قَالَ: وَقَوْلُ أَنَسٍ كان يَتَنَفَّسُ فِي الشُّرْبِ ثَلَاثًا قَدْ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مُعَارِضًا لِلنَّهْيِ، وَحُمِلَ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أوْمَأَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَتَقَذَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ.

(تَكْمِلَةٌ): أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَشْرَبُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ، إِذَا أَدْنَى الْإِنَاءَ إِلَى فِيهِ يُسَمِّي اللَّهَ، فَإِذَا أَخَّرَهُ حَمِدَ اللَّهَ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَأَصْلُهُ فِي ابْنِ مَاجَهْ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَبْلَ: وَسَمُّوا إِذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ، وَاحْمَدُوا إِذَا أَنْتُمْ رَفَعْتُمْ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ فَقَطْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌27 - بَاب الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ

5632 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائنِ، فَاسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا عَنْ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَالَ: هُنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وهن لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ) كَذَا أَطْلَقَ التَّرْجَمَةَ، وَكَأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْحُكْمِ بِمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْدُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّحْرِيمِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ. وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِالنَّهْيِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِلَّا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ أَحَدِ التَّابِعِينَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَنَقَلَ عَنْ نَصِّهِ فِي حَرْمَلَةَ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ لِأَنَّ عِلَّتَهُ مَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ، وَنَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَمِنَ أَصْحَابِهِ مَنْ قَطَعَ بِهِ عَنْهُ، وَهَذَا اللَّائِقُ بِهِ لِثُبُوتِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الَّذِي يَلِيهِ. وَإِذَا ثَبَتَ مَا نُقِلَ عَنْهُ فَلَعَلَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ،

ص: 94

وَيُؤَيِّدُ وَهْمَ النَّقْلِ أَيْضًا عَنْ نَصِّهِ فِي حَرْمَلَةَ أَنَّ صَاحِبَ التَّقْرِيبِ نَقَلَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ عَنْ نَصِّهِ فِي حَرْمَلَةَ تَحْرِيمَ اتِّخَاذِ الْإِنَاءِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَإِذَا حُرِّمَ الِاتِّخَاذُ فَتَحْرِيمُ الِاسْتِعْمَالِ أَوْلَى، وَالْعِلَّةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا لَيْسَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا، بَلْ ذَكَرُوا لِلنَّهْيِ عِدَّةَ عِلَلٍ: مِنْهَا مَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، أَوْ مِنَ الْخُيَلَاءِ وَالسَّرَفِ، وَمِنْ تَضْيِيقِ النَّقْدَيْنِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَفِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

قَوْلُهُ: (كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ) عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى كُنْتُ مَعَ حُذَيْفَةَ بِالْمَدَائِنِ وَالْمَدَائِنُ اسْمٌ بِلَفْظٍ جَمْعُ مَدِينَةٍ، وَهُوَ بَلَدٌ عَظِيمٌ عَلَى دِجْلَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَغْدَادَ سَبْعَةُ فَرَاسِخَ كَانَتْ مَسْكَنَ مُلُوكِ الْفُرْسِ، وَبِهَا إِيوَانُ كِسْرَى الْمَشْهُورُ، وَكَانَ فَتْحُهَا عَلَى يَدِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَقِيلَ: قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ حُذَيْفَةُ عَامِلًا عَلَيْهَا فِي خِلَافَةِ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ إِلَى أَنْ مَاتَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ) بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا بَعْدَهَا هَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ قَافٌ، هُوَ كَبِيرُ الْقَرْيَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ اسْتَسْقَى حُذَيْفَةُ مِنْ دِهْقَانٍ أَوْ عِلْجٍ وَتَقَدَّمَ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ سَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ حُذَيْفَةَ، فَاسْتَسْقَى، فَسَقَاهُ مَجُوسِيٌّ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ.

قَوْلُهُ: (بِقَدَحٍ فِضَّةٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ حَفْصٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَجَاءَهُ دِهْقَانٌ بِشَرَابٍ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ وَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ.

قَوْلُهُ: (فَرَمَاهُ بِهِ) فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ فَحَذَفَهُ بِهِ وَيَأْتِي فِي الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ فَرَمَى بِهِ فِي وَجْهِهِ وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى مَا يَأْلُوا أَنْ يُصِيبَ بِهِ وَجْهَهُ زَادَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَرَمَاهُ بِهِ فَكَسَرَهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْمَذْكُورَةِ لَمْ أَكْسِرْهُ إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَقْبَلْ وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَاعْتَذَرَ وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ لَوْلَا أَنِّي تَقَدَّمْتُ إِلَيْهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لَمْ أَفْعَلْ بِهِ هَذَا وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ إِنِّي أَمَرْتُهُ أَنْ لَا يَسْقِيَنِي فِيهِ وَيَأْتِي فِي الَّذِي بَعْدَهُ مَزِيدٌ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا عَنِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ) سَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ التَّصْرِيحُ بِبَيَانِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِهِمَا، وَفِيهِ بَيَانُ الدِّيبَاجِ مَا هُوَ.

قَوْلُهُ: (وَالشُّرْبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَقَعَ فِي الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ: لَا تَشْرَبُوا وَلَا تَلْبَسُوا وَكَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَكَمِ، كَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ عَنْ حُذَيْفَةَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الشُّرْبِ وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بِلَفْظِ نَهَى أَنْ يُشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ يُؤْكَلَ فِيهَا وَيَأْتِي نَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: هُنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُنَّ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ) كَذَا فِيهِ بِلَفْظِ هُنَّ بِضَمِّ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ هِيَ بِكَسْرِ الْهَاءِ ثُمَّ التَّحْتَانِيَّةِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ هُوَ أَيْ جَمِيعُ مَا ذَكَرَ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فِي الدُّنْيَا إِبَاحَةَ اسْتِعْمَالِهِمْ إِيَّاهُ وَإِنَّمَا الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ لَهُمْ أَيْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَهُ مُخَالَفَةً لِزِيِّ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَا قَوْلُهُ وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْ تَسْتَعْمِلُونَهُ مُكَافَأَةً لَكُمْ عَلَى تَرْكِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيَمْنَعُهُ أُولَئِكَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ بِاسْتِعْمَالِهِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَتَعَاطَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لَا يَتَعَاطَاهُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، وَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ، بَلْ وَقَعَ فِي هَذَا بِخُصُوصِهِ مَا سَأُبَيِّنُهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.

ص: 95

‌28 - بَاب آنِيَةِ الْفِضَّةِ

5633 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ، وَذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ.

5634 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ.

5635 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ أَوْ قَالَ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَالْقَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالإِسْتَبْرَقِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ آنِيَةِ الْفِضَّةِ) ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ.

قَوْلُهُ: (خَرَجْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَا ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ وَكِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ بِلَفْظِ خَرَجْتُ مَعَ حُذَيْفَةَ إِلَى بَعْضِ هَذَا السَّوَادِ، فَاسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ الدِّهْقَانُ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمَى بِهِ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: فَقُلْنَا: اسْكُتُوا، فَإِنَّا إِنْ سَأَلْنَاهُ لَمْ يُحَدِّثْنَا، قَالَ: فَسَكَتْنَا. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: أَتَدْرُونَ لِمَ رَمَيْتُ بِهَذَا فِي وَجْهِهِ؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: ذَلِكَ أَنِّي كُنْتُ نَهَيْتُهُ. قَالَ فَذَلك النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَفِي رِوَايَةِ مُعَاذٍ: وَلَا فِي الْفِضَّةِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي.

قَوْله: (عَنْ زَيْد بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر) هُوَ تَابِعِيّ ثِقَة، تَقَدَّمَتْ رِوَايَته عَنْ أَبِيهِ فِي إِسْلَام عُمَر، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيّ سِوَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ. وَهَذَا الْإِسْنَاد كُلّه مَدَنِيُّونَ، وَقَدْ تَابَعَ مَالِكًا عَنْ نَافِع عَلَيْهِ مُوسَى بْن عُقْبَة وَأَيُّوب وَغَيْرهمَا وَذَلِكَ عِنْد مُسْلِم، وَخَالَفَهُمْ إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة عَنْ نَافِع فَلَمْ يَذْكُر زَيْدًا فِي إِسْنَاده، جَعَلَهُ عَنْ نَافِع عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحُكْم لِمَنْ زَادَ مِنْ الثِّقَات، وَلَا سِيَّمَا وَهُمْ حُفَّاظ وَقَدْ اِجْتَمَعُوا وَانْفَرَدَ إِسْمَاعِيل. وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ نَافِع عَنْ صَفِيَّة بِنْت أَبِي عُبَيْد عَنْ أُمّ سَلَمَة، وَوَافَقَهُ سَعْد بْن إِبْرَاهِيم عَنْ نَافِع فِي صَفِيَّة، لَكِنْ خَالَفَهُ، فَقَالَ عَنْ عَائِشَة بَدَل أُمّ سَلَمَة، وَقَوْل مُحَمَّد بْن إِسْحَاق أَقْرَب، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ لِنَافِعٍ فِيهِ إِسْنَادَيْنِ، وَشَذَّ عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي رَوَّادٍ فَقَالَ: عَنْ نَافِع عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَسَلَكَ بُرْد بْن سِنَان وَهِشَام بْن الْغَاز الْجَادَّة، فَقَالَا: عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر أَخْرَجَ الْجَمِيع النَّسَائِيُّ وَقَالَ:

ص: 96

الصَّوَاب مِنْ ذَلِكَ كُلّه رِوَايَة أَيُّوب وَمَنْ تَابَعَهُ.

قَوْله: (عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق) هُوَ اِبْن أُخْت أُمّ سَلَمَة الَّتِي رُوِيَ عَنْهَا هَذَا الْحَدِيث، أُمّه قَرِيبَة بِنْت أَبِي أُمَيَّة بْن الْمُغِيرَة الْمَخْزُومِيَّة، وَهُوَ ثِقَة مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيّ غَيْر هَذَا الْحَدِيث.

قَوْله: (الَّذِي يَشْرَب فِي آنِيَة الْفِضَّة) فِي رِوَايَة مُسْلِم مِنْ طَرِيق عُثْمَان بْن مُرَّة عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن: مَنْ شَرِبَ مِنْ إِنَاء ذَهَب أَوْ فِضَّة وَلَهُ مِنْ رِوَايَة عَلِيّ بْن مُسْهِر عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر الْعُمَرِيّ عَنْ نَافِع إِنَّ الَّذِي يَأْكُل وَيَشْرَب فِي آنِيَة الذَّهَب وَالْفِضَّة وَأَشَارَ مُسْلِم إِلَى تَفَرُّد عَلِيّ بْن مُسْهِر بِهَذِهِ اللَّفْظَة، أَعْنِي الْأَكْل.

قَوْله (إِنَّمَا يُجَرْجِر) بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّة وَفَتْح الْجِيم وَسُكُون الرَّاء ثُمَّ جِيم مَكْسُورَة ثُمَّ رَاء مِنْ الْجَرْجَرَة، وَهُوَ صَوْت يُرَدِّدهُ الْبَعِير فِي حَنْجَرَته إِذَا هَاجَ نَحْو صَوْت اللِّجَام فِي فَكِّ الْفَرَس، قَالَ النَّوَوِيّ: اِتَّفَقُوا عَلَى كَسْر الْجِيم الثَّانِيَة مِنْ يُجَرْجِر، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُوَفَّق بْن حَمْزَة فِي كَلَامه عَلَى الْمَذْهَب حَكَى فَتْحهَا، وَحَكَى اِبْن الْفِرْكَاح عَنْ وَالِده أَنَّهُ قَالَ: رُوِيَ يُجَرْجِر عَلَى الْبِنَاء لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُول، وَكَذَا جَوَّزَهُ اِبْن مَالِك فِي شَوَاهِد التَّوْضِيح نَعَمْ رَدَّ ذَلِكَ اِبْن أَبِي الْفَتْح تِلْمِيذه فَقَالَ فِي جُزْء جَمَعَهُ فِي الْكَلَام عَلَى هَذَا الْمَتْن: لَقَدْ كَثُرَ بَحْثِي عَلَى أَنْ أَرَى أَحَدًا رَوَاهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَلَمْ أَجِدهُ عِنْد أَحَد مِنْ حُفَّاظ الْحَدِيث، وَإِنَّمَا سَمِعْنَاهُ مِنْ الْفُقَهَاء الَّذِينَ لَيْسَتْ لَهُمْ عِنَايَة بِالرِّوَايَةِ، وَسَأَلْت أَبَا الْحُسَيْن الْيُونِينِيّ فَقَالَ: مَا قَرَأْته عَلَى وَالِدِي، وَلَا عَلَى شَيْخنَا الْمُنْذِر إِلَّا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ: وَيَبْعُد اِتِّفَاق الْحُفَّاظ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى تَرْك رِوَايَة ثَابِتَة. قَالَ: وَأَيْضًا فَإِسْنَاده إِلَى الْفَاعِل هُوَ الْأَصْل، وَإِسْنَاده إِلَى الْمَفْعُول فَرْع فَلَا يُصَار إِلَيْهِ بِغَيْرِ حَاجَة، وَأَيْضًا فَإِنَّ عُلَمَاء الْعَرَبِيَّة قَالُوا: يُحْذَف الْفَاعِل إِمَّا لِلْعِلْمِ بِهِ أَوْ لِلْجَهْلِ بِهِ، أَوْ إِذَا تُخَوَّف مِنْهُ أَوْ عَلَيْهِ، أَوْ لِشَرَفِهِ أَوْ لِحَقَارَتِهِ، أَوْ لِإِقَامَةِ وَزْن، وَلَيْسَ هُنَا شَيْء مِنْ ذَلِكَ.

قَوْله: (فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم) وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ بِنَصْبِ نَار عَلَى أَنَّ الْجَرْجَرَة بِمَعْنَى الصَّبّ أَوْ التَّجَرُّع فَيَكُون نَار نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّة وَالْفَاعِل الشَّارِب أَيْ يَصُبّ أَوْ يَتَجَرَّع، وَجَاءَ الرَّفْع عَلَى أَنَّ الْجَرْجَرَة هِيَ الَّتِي تُصَوِّت فِي الْبَطْن، قَالَ النَّوَوِيّ: النَّصْب أَشْهَر، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة عُثْمَان بْن مُرَّة عِنْد مُسْلِم بِلَفْظِ فَإِنَّمَا يُجَرْجِر فِي بَطْنه نَارًا مِنْ جَهَنَّم وَأَجَازَ الْأَزْهَرِيّ النَّصْب عَلَى أَنَّ الْفِعْل عُدِّيَ إِلَيْهِ، وَابْن السَّيِّد الرَّفْع عَلَى أَنَّهُ خَبَر إِنَّ وَمَا مَوْصُولَة، قَالَ: وَمَنْ نَصَبَ جَعَلَ مَا زَائِدَة كَافَّة لِإِنَّ عَنْ الْعَمَل، وَهُوَ نَحْو:{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} فَقُرِئَ بِنَصْبِ كَيْد وَرَفْعه، وَيَدْفَعهُ أَنَّهُ لَمْ يَقَع فِي شَيْء مِنْ النُّسَخ بِفَصْلِ مَا مِنْ إِنَّ. وَقَوْله: إِنَّ النَّار تُصَوِّت فِي بَطْنه كَمَا يُصَوِّت الْبَعِير بِالْجَرْجَرَةِ مَجَاز تَشْبِيه، لِأَنَّ النَّار لَا صَوْت لَهَا، كَذَا قِيلَ. وَفِي النَّفْي نَظَرٌ لَا يَخْفَى.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ.

قَوْلُهُ: (وَعَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ أَوْ قَالَ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْبَرَاءِ فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَنْ شَرِبَ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ، وَآنِيَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّبَاسِ مِنْهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَلَا يَلْتَحِقُ ذَلِكَ بِالْحُلِيِّ لِلنِّسَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ التَّزَيُّنِ الَّذِي أُبِيحَ لَهَا فِي شَيْءٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: فِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَيُلْحَقُ بِهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِثْلُ التَّطَيُّبِ وَالتَّكَحُّلِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَأَغْرَبَتْ طَائِفَةٌ شَذَّتْ فَأَبَاحَتْ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَ التَّحْرِيمَ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الشُّرْبِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي

ص: 97

الْأَكْلِ، قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ الْمَنْعِ فَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى عَيْنِهِمَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ هِيَ لَهُمْ وَإِنَّهَا لَهُمْ، وَقِيلَ: لِكَوْنِهِمَا الْأَثْمَانَ وَقِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ، فَلَوْ أُبِيحَ اسْتِعْمَالُهَا لَجَازَ اتِّخَاذُ الْآلَاتِ مِنْهُمَا فَيُفْضِي إِلَى قِلَّتِهِمَا بِأَيْدِي النَّاسِ فَيُجْحَفُ بِهِمْ، وَمَثَّلَهُ الْغَزَالِيُّ بِالْحُكَّامِ الَّذِينَ وَظِيفَتُهُمُ التَّصَرُّفُ لِإِظْهَارِ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَوْ مُنِعُوا التَّصَرُّفَ لَأَخَلَّ ذَلِكَ بِالْعَدْلِ، فَكَذَا فِي اتِّخَاذِ الْأَوَانِي مِنَ النَّقْدَيْنِ حَبْسٌ لَهُمَا عَنِ التَّصَرُّفِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ. وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا جَوَازُ الْحُلِيِّ لِلنِّسَاءِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَيُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْهُ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ هِيَ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ صَرَّحَ أَبُو عَلِيٍّ السَّنْجِيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ. وَقِيلَ: عِلَّةُ التَّحْرِيمِ السَّرَفُ وَالْخُيَلَاءُ، أَوْ كَسْرُ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ.

وَيَرُدُّ عَلَيْهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْأَوَانِي مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ وَغَالِبُهَا أَنْفَسُ وَأَكْثَرُ قِيمَةً مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَمْ يَمْنَعْهَا إِلَّا مَنْ شَذَّ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الشَّامِلِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْجَوَازِ، وَتَبِعَهُ الرَّافِعِيُّ وَمَنْ بَعْدَهُ. لَكِنْ فِي زَوَائِدِ الْعُمْرَانِيِّ عَنْ صَاحِبِ الْفُرُوعِ نَقَلَ وَجْهَيْنِ. وَقِيلَ: الْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ التَّشَبُّهُ بِالْأَعَاجِمِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ لِثُبُوتِ الْوَعِيدِ لِفَاعِلِهِ، وَمُجَرَّدُ التَّشَبُّهِ لَا يَصِلُ إِلَى ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي اتِّخَاذِ الْأَوَانِي دُونَ اسْتِعْمَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْأَشْهَرُ الْمَنْعُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَرَخَّصَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِلَّةِ فِي مَنْعِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ غَرَامَةُ أَرْشِ مَا أُفْسِدَ مِنْهَا وَجَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهَا.

‌29 - بَاب الشُّرْبِ فِي الْأَقْدَاحِ

5636 -

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ: أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَبُعِثَ إِلَيْهِ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرْبِ فِي الْأَقْدَاحِ) أَيْ هَلْ يُبَاحُ أَوْ يُمْنَعُ لِكَوْنِهِ مِنْ شِعَارِ الْفَسَقَةِ؟ وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الشُّرْبَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ شِعَارِ الْفَسَقَةِ لَكِنْ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَشْرُوبِ وَإِلَى الْهَيْئَةِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَرَاهَةُ الشُّرْبِ فِي الْقَدَحِ إِذَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ وَمُوَحَّدَةٍ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى حَدِيثِ أُمِّ الْفَضْلِ الْمَذْكُورِ قَرِيبًا، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ مَرَّ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.

‌30 - بَاب الشُّرْبِ مِنْ قَدَحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَآنِيَتِهِ

وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَلَا أَسْقِيكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ؟

5637 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ، فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ: قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي. فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَتْ: لَا. قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَخْطُبَكِ. قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ حَتَّى

ص: 98

جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. ثُمَّ قَالَ: اسْقِنَا يَا سَهْلُ، فَأخرجْتُ لَهُمْ هَذَا الْقَدَحِ فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ. فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَوَهَبَهُ لَهُ.

5638 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ قَالَ: "رَأَيْتُ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَدْ انْصَدَعَ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ قَالَ وَهُوَ قَدَحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ مِنْ نُضَارٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْقَدَحِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا".

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرْبِ مِنْ قَدَحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ تَبَرُّكًا بِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ دَفْعَ تَوَهُّمِ مَنْ يَقَعُ فِي خَيَالِهِ أَنَّ الشُّرْبَ فِي قَدَحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُورَثُ، وَمَا تَرَكَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْأَغْنِيَاءَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ، لِأَنَّ الْجَوَابَ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الصَّدَقَةِ هُوَ الْمَفْرُوضُ مِنْهَا، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ مُقْنِعٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ جِنْسِ الْأَوْقَافِ الْمُطْلَقَةِ، يَنْتَفِعُ بِهَا مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَتُقَرُّ تَحْتَ يَدِ مَنْ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ سَهْلٍ قَدَحٌ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ آخَرُ، وَالْجُبَّةُ عِنْدَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ) هُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) هُوَ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، وَلَامُ سَلَامٍ مُخَفَّفَةٌ.

قَوْلُهُ: (أَلَا) بِتَخْفِيفِ اللَّامِ لِلْعَرْضِ، وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنْ طَرِيقِ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَتَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْجَوْنِيَّةِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ ثُمَّ نُونٍ فِي قِصَّةِ اسْتِعَاذَتِهَا لَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ قِصَّتِهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: فَنَزَلَتْ فِي أُجُمٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْجِيمِ هُوَ بِنَاءٌ يُشْبِهُ الْقَصْرَ، وَهُوَ مِنْ حُصُونِ الْمَدِينَةِ، وَالْجَمْعُ آجَامٌ مِثْلُ أُطُمٍ وَآطَامٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْأُطُمُ وَالْأُجُمُ بِمَعْنًى، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: الْآجَامُ الْأَشْجَارُ وَالْحَوَائِطُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْكِرْمَانِيِّ: الْأُجُمُ بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ أَجَمَةٍ وَهِيَ الْغَيْضَةُ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ: أَنَا كُنْتُ أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ) لَيْسَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ مُرَادُهَا إِثْبَاتُ الشَّقَاءِ لَهَا لِمَا فَاتَهَا مِنَ التَّزَوُّجِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ) هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْبَيْعَةُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِالْخِلَافَةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: اسْقِنَا يَا سَهْلُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اسْقِنَا لِسَهْلٍ أَيْ قَالَ لِسَهْلٍ اسْقِنَا، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فَقَالَ: اسْقِنَا يَا أَبَا سَعْدٍ، وَالَّذِي أَعْرِفُهُ فِي كُنْيَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ، فَلَعَلَّ لَهُ كُنْيَتَيْنِ، أَوْ كَانَ الْأَصْلُ يَا ابْنَ سَعْدٍ فَتَحَرَّفَتْ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْرَجْتُ لَهُمْ هَذَا الْقَدَحَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فَخَرَجْتُ لَهُمْ بِهَذَا الْقَدَحِ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ أَبُو حَازِمٍ الرَّاوِي عَنْهُ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَهَبَهُ لَهُ) كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَئِذٍ قَدْ وَلِيَ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَتِ الْهِبَةُ هُنَا حَقِيقَةً، بَلْ مِنْ جِهَةِ

ص: 99

الِاخْتِصَاصِ. وَفِي الْحَدِيثِ التَّبَسُّطُ عَلَى الصَّاحِبِ وَاسْتِدْعَاءُ مَا عِنْدِهُ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ، وَتَعْظِيمُهُ بِدُعَائِهِ بِكُنْيَتِهِ، وَالتَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ، وَاسْتِيهَابُ الصِّدِّيقِ مَا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ هِبَتُهُ، وَلَعَلَّ سَهْلًا سَمَحَ بِذَلِكَ لِبَدَلٍ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا فَعَوَّضَهُ الْمُسْتَوْهِبُ مَا يَسُدُّ بِهِ حَاجَتَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ مِنْ جِهَةِ رَغْبَةِ الَّذِينَ سَأَلُوا سَهْلًا أَنْ يُخْرِجَ لَهُمُ الْقَدَحَ الْمَذْكُورَ لِيَشْرَبُوا فِيهِ تَبَرُّكًا بِهِ.

قَالَ: وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لَا تُغَيِّرَنَّ شَيْئًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَتَرَكَهُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ) كَذَا أَخْرَجَ هُنَا، وَفِي غَيْرِه مَوْضِعٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ بِوَاسِطَةٍ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَالْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ كَانَ صِهْرَ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ فَكَانَ عِنْدَهُ عَنْهُ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، وَلَا وَجَدَ لَهُ أَبُو نُعَيْمٍ إِسْنَادًا غَيْرَ إِسْنَادِ الْبُخَارِيِّ فَأَخْرَجَهُ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُدْرِكٍ، وَيُقَالُ إِنَّهُ حَدِيثُهُ، يَعْنِي أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (رَأَيْتُ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) تَقَدَّمَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيِّ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْقَدَحَ وَشَرِبْتُ مِنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ ثُمَّ قَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ: وَأَنَا رَأَيْتُ الْقَدَحَ وَشَرَّبْتُ مِنْهُ وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ: رَأَيْتَ هَذَا الْقَدَحَ بِالْبَصْرَةِ وَشَرِبْتُ مِنْهُ، وَكَانَ اشْتَرَى مِنْ مِيرَاثِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ بِثَمَانِمِائَةِ أَلْفٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ قَدِ انْصَدَعَ) أَيِ انْشَقَّ.

قَوْلُهُ: (فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ) أَيْ وَصَلَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الَّذِي وَصَلَهُ هُوَ أَنَسٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظِ إِنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ لَكِنْ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ انْصَدَعَ فَجَعَلْتُ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ. قَالَ - يَعْنِي أَنَسًا - هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ كَذَا فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ، فَمَا أَدْرِي مَنْ قَالَهُ مِنْ رُوَاتِهِ هَلْ هُوَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ أَوْ غَيْرُهُ. قُلْتُ: لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَنْ قَالَ هَذَا وَهُوَ جَعَلْتُ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى أَنَّهُ ضَمِيرُ الْقَائِلِ وَهُوَ أَنَسٌ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُعِلَتْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ فَتُسَاوِي الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي الصَّحِيحِ. وَوَقَعَ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ عَاصِمٍ رَأَيْتُ عِنْدَ أَنَسٍ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ ضَبَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ. وَالشَّعْبُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الصَّدْعُ، وَكَأَنَّهُ سَدَّ الشُّقُوقَ بِخُيُوطٍ مِنْ فِضَّةٍ فَصَارَتْ مِثْلَ السِّلْسِلَةِ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ قَدَحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ مِنْ نُضَارٍ) الْقَائِلُ هُوَ عَاصِمٌ رَاوِيهِ، وَالْعَرِيضُ الَّذِي لَيْسَ بِمُتَطَاوِلٍ بَلْ يَكُونُ طُولُهُ أَقْصَرَ مِنْ عُمْقِهِ، وَالنُّضَارُ بِضَمِّ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْخَالِصُ مِنَ الْعُودِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَيُقَالُ أَصْلُهُ مِنْ شَجَرِ النَّبْعِ، وَقِيلَ: مِنَ الْأَثْلِ، وَلَوْنُهُ يَمِيلُ إِلَى الصُّفْرَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ: هُوَ أَجْوَدُ الْخَشَبِ لِلْآنِيَةِ. وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ النُّضَارُ التِّبْرُ وَالْخَشَبُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ) أَيْ عَاصِمٌ (قَالَ أَنَسٌ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْقَدَحِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا) وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحِي هَذَا الشَّرَابَ كُلَّهُ الْعَسَلَ وَالنَّبِيذَ وَالْمَاءَ وَاللَّبَنَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صِفَةُ النَّبِيذِ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُهُ، وَأَنَّهُ نَقِيعُ التَّمْرِ أَوِ الزَّبِيبِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ) أَيْ عَاصِمٌ (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ) هُوَ مُحَمَّدٌ، وَقَدْ فَصَّلَ أَبُو عَوَانَةَ فِي رِوَايَتِهِ هَذِهِ مَا حَمَلَهُ عَاصِمٌ، عَنْ أَنَسٍ مِمَّا حَمَلَهُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ الْمَاضِيَةِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُ كَانَ فِيهِ حَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّرَدُّدُ مِنْ أَنَسٍ عِنْدَ إِرَادَةِ ذَلِكَ أَوِ اسْتِشَارَتُهُ أَبَا طَلْحَةَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ وَالِدَةُ

ص: 100

أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (لَا تُغَيِّرَنَّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّوْكِيدِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ لَا تُغَيِّرْ بِصِيغَةِ النَّهْيِ بِغَيْرِ تَأْكِيدٍ، وَكَلَامُ أَبِي طَلْحَةَ هَذَا إِنْ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ سَمِعَهُ مِنْ أَنَسٍ وَإِلَّا فَيَكُونُ أَرْسَلَهُ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اتِّخَاذِ ضَبَّةَ الْفِضَّةِ وَكَذَلِكَ السِّلْسِلَةِ وَالْحَلْقَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَنَعَهُ مُطْلَقًا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ. وَعَنْ مَالِكٍ: يَجُوزُ مِنَ الْفِضَّةِ إِنْ كَانَ يَسِيرًا. وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ قَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ شَارِبًا عَلَى فِضَّةٍ، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَخْتَصُّ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ فِي مَوْضِعِ الشُّرْبِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ. وَقَالَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ تَبَعًا لِأَبِي عُبَيْدٍ: الْمُفَضَّضُ لَيْسَ هُوَ إِنَاءُ فِضَّةٍ. وَالَّذِي تَقَرَّرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الضَّبَّةَ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْفِضَّةِ وَهِيَ كَبِيرَةٌ لِلزِّينَةِ تَحْرُمُ، أَوْ لِلْحَاجَةِ فَتَجُوزُ مُطْلَقًا، وَتَحْرُمُ ضَبَّةُ الذَّهَبِ مُطْلَقًا. وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ ضَبَّتَيِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَزَادَ فِيهِ أَوْ فِي إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ بِجَهَالَةِ حَالِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ وَوَلَدِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّوَابُ مَا رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْرَبُ فِي قَدَحٍ فِيهِ ضَبَّةُ فِضَّةٍ وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ وَتَفْضِيضِ الْأَقْدَاحِ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي تَفْضِيضِ الْأَقْدَاحِ وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ حُجَّةً فِي الْجَوَازِ، لَكِنْ فِي سَنَدِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِنَاءِ مِنَ النُّحَاسِ أَوِ الْحَدِيدِ الْمَطْلِيِّ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهُ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ حُرِّمَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا، وَفِي الْعَكْسِ وَجْهَانِ كَذَلِكَ، وَلَوْ غُلِّفَ إِنَاءُ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ بِالنُّحَاسِ مَثَلًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَكَذَلِكَ. وَجَزَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ كَحَشْوِ الْجُبَّةِ الَّتِي مِنَ الْقُطْنِ مَثَلًا بِالْحَرِيرِ، وَاسْتُدِلَّ بِجَوَازِ اتِّخَاذِ السَّلْسَلَةِ وَالْحَلْقَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ لِلْإِنَاءِ رَأْسٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْمُتَوَلِّي، وَالْبَغَوِيُّ، وَالْخُوَارِزْمِيُّ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ كَالتَّضْبِيبِ وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ وَالتَّفْصِيلُ.

وَاخْتَلَفُوا فِي ضَابِطِ الصِّغَرِ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: الْعُرْفُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: مَا يَلْمَعُ عَلَى بُعْدٍ كَبِيرٍ وَمَا لَا فَصَغِيرٌ، وَقِيلَ: مَا اسْتَوْعَبَ جُزْءًا مِنَ الْإِنَاءِ كَأَسْفَلِهِ أَوْ عُرْوَتِهِ أَوْ شَفَتِهِ كَبِيرًا، وَمَا لَا فَلَا. وَمَتَى شَكَّ فَالْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌31 - شُرْبِ الْبَرَكَةِ وَالْمَاءِ الْمُبَارَكِ

5639 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ حَضَرَتْ الْعَصْرُ، وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ، فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى أَهْلِ الْوُضُوءِ، الْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. فَتَوَضَّأَ النَّاسُ وَشَرِبُوا، فَجَعَلْتُ لَا آلُو مَا جَعَلْتُ فِي بَطْنِي مِنْهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ. قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ. تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ، وَقَالَ حُصَيْنٌ وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ جَابِرٍ.

ص: 101

قَوْلُهُ: (بَابُ شُرْبِ الْبَرَكَةِ، وَالْمَاءُ الْمُبَارَكُ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: سُمِّيَ الْمَاءُ بَرَكَةً؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُبَارَكًا فِيهِ يُسَمَّى بَرَكَةً.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ سَمِعْتُ جَابِرًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (قَدْ رَأَيْتُنِي) بِضَمِّ التَّاءِ، وَفِيهِ نَوْعُ تَجْرِيدٍ.

قَوْلُهُ: (وَحَضَرَتِ الْعَصْرُ) أَيْ وَقْتَ صَلَاتِهَا، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى أَهْلِ الْوُضُوءِ) كَذَا وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ حَيَّ عَلَى الْوُضُوءِ بِإِسْقَاطِ لَفْظِ أَهْلٍ وَهِيَ أَصْوَبُ، وَقَدْ وُجِّهَتْ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا بِأَنْ يَكُونَ أَهْلُ بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْوُضُوءِ الْمُبَارَكِ يَا أَهْلَ الْوُضُوءِ، كَذَا قَالَ عِيَاضٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَجْرُورَ بِعَلَى غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الصَّوَابُ حَيَّ هَلًا عَلَى الْوُضُوءِ الْمُبَارَكِ، فَتَحَرَّفَ لَفْظُ هَلًا فَصَارَتْ أَهْلُ وَحُوِّلَتْ عَنْ مَكَانِهَا، وَحَيَّ اسْمُ فِعْلٍ لِلْأَمْرِ بِالْإِسْرَاعِ، وَتُفْتَحُ لِسُكُونِ مَا قَبْلَهَا مِثْلَ لَيْتَ وَهَلًا بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَالتَّنْوِينِ كَلِمَةُ اسْتِعْجَالٍ.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلْتُ لَا آلُو) بِالْمَدِّ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ الْمَضْمُومَةِ أَيْ لَا أُقَصِّرُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ يَسْتَكْثِرُ مِنْ شُرْبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ لِأَجْلِ الْبَرَكَةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا سَرَفَ وَلَا شَرَهَ فِي الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ الْبَرَكَةُ بِالْمُعْجِزَةِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ الِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِي تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الشُّرْبِ مِنْهُ الْإِكْثَارُ دُونَ الْمُعْتَادِ الَّذِي وَرَدَ بِاسْتِحْبَابِ جَعْلِ الثُّلُثِ لَهُ، وَلِئَلَّا يُظَنُّ أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ فِعْلَ جَابِرٍ مَا ذَكَرَ دَالٌ عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْبَرَكَةِ أَكْثَرُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّيِّ، وَالظَّاهِرُ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مَمْنُوعًا لَنَهَاهُ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِجَابِرٍ) الْقَائِلُ هُوَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ رَاوِيهِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (كَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ) كَذَا لَهُمْ بِالرَّفْعِ، وَالتَّقْدِيرُ نَحْنُ يَوْمئِذٍ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ عَلَى جَابِرٍ فِي عَدَدِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بَابِ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْمَغَازِي، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ هُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ شَرْحِ الْمَتْنِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ) وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ مُخْتَصَرًا كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ مَقْصُودُهُ بِالْمُتَابَعَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا جَمِيعُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حُصَيْنٌ، وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ (خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةٍ) أَمَّا رِوَايَةُ حُصَيْنٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْمَغَازِي، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ بِلَفْظِ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُمْ كَانُوا زِيَادَةً عَلَى أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا أَلْغَى الْكَسْرَ، وَمَنْ قَالَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ جَبَرَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَبَيَانُ تَوْجِيهِ مَنْ قَالَ أَلْفٌ وَثَلَثُمِائَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. (خَاتِمَةٌ)

اشْتَمَلَ كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى أَحَدٍ وَتِسْعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقِ مِنْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ طَرِيقًا وَالْبَاقِي مَوْصُولٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى سَبْعُونَ طَرِيقًا وَالْبَاقِي خَالِصٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي عَامِرٍ فِي الْمَعَازِفِ، وَحَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فِي الْجَرِّ الْأَخْضَرِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْأَقْدَاحِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَهُوَ مُعَلَّقٌ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْكَرْعِ، وَحَدِيثِ عَلِيٍّ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ، وَحَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ فِي قَدَحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَثَرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 102

بسم الله الرحمن الرحيم

‌75 - كِتَاب الْمَرْضَى

‌1 - بَاب مَا جَاءَ فِي كَفَّارَةِ الْمَرَضِ. وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}

5640 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا.

5641، 5642 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ".

5643 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالأَرْزَةِ لَا تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً".

وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ حَدَّثَنِي سَعْدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

5644 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ وَالْفَاجِرُ كَالأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ".

[الحديث 5644 - طرفه في: 7466]

5645 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ أَبَا الْحُبَابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ".

ص: 103

قَوْلُهُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابُ الْمَرْضَى. بَابُ مَا جَاءَ فِي كَفَّارَةِ الْمَرَضِ) كَذَا لَهُمْ، إِلَّا أَنَّ الْبَسْمَلَةَ سَقَطَتْ لِأَبِي ذَرٍّ، وَخَالَفَهُمُ النَّسَفِيُّ فَلَمْ يُفْرِدْ كِتَابَ الْمَرْضَى مِنْ كِتَابِ الطِّبِّ، بَلْ صَدَّرَ بِكِتَابِ الطِّبِّ ثُمَّ بَسْمَلَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَابُ مَا جَاءَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ إِلَى آخِرِ كِتَابِ الطِّبِّ، وَلِكُلٍّ وَجْهٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كِتَابُ. وَالْمَرْضَى جَمْعُ مَرِيضٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمَرَضِ هُنَا مَرَضُ الْبَدَنِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْمَرَضُ عَلَى مَرَضِ الْقَلْبِ إِمَّا لِلشُّبْهَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وَإِمَّا لِلشَّهْوَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وَوَقَعَ ذِكْرُ مَرَضِ الْبَدَنِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مُنَاسَبَةِ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الطِّبِّ. وَالْكَفَّارَةُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ التَّكْفِيرِ، وَأَصْلُهُ التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ، وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِ تَتَغَطَّى بِمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ أَلَمِ الْمَرَضِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَتْ لَهُ كَفَّارَةٌ بَلْ هُوَ الْكَفَّارَةُ نَفْسُهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ شَجَرُ الْأَرَاكِ.

أَوِ الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى فِي، أَوْ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَأَسْنَدَ التَّكْفِيرَ لِلْمَرَضِ لِكَوْنِهِ سَبَبَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِلْبَابِ أَنَّ الْآيَةَ أَعَمُّ، إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ سَيِّئَةً فَإِنَّهُ يُجَازَى بِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرَضَ كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُكَفِّرًا لِلْخَطَايَا فَكَذَلِكَ يَكُونُ جَزَاءً لَهَا. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُجَازَى عَلَى خَطَايَاهُ فِي الدُّنْيَا بِالْمَصَائِبِ الَّتِي تَقَعُ لَهُ فِيهَا فَتَكُونُ كَفَّارَةً لَهَا. وَعَنِ الْحَسَنِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ نَزَلَتْ فِي الْكَفَّارَةِ خَاصَّةً، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ تَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ انْتَهَى. وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا أَوْرَدَهُ الطَّبَرِيُّ وَتَعَقَّبَهُ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ ذَكَرَهَا ثُمَّ أَوْرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى شَرْطِهِ مَا يُوَافِقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ تَأْوِيلِهَا، وَمِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فَقَالَ: إِنَّا لَنُجْزَى بِكُلِّ مَا عَمِلْنَاهُ؟ هَلَكْنَا إِذًا.

فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: نَعَمْ يُجْزَى بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُصِيبَةٍ فِي جَسَدِهِ مِمَّا يُؤْذِيهِ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} ؟ فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ، أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا وَالشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ في الباب سِتَّةَ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (مَا مِنْ مُصِيبَةٍ) أَصْلُ الْمُصِيبَةِ الرَّمْيَةُ بِالسَّهْمِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي كُلِّ نَازِلَةٍ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصَابَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} الْآيَةَ قَالَ: وَقِيلَ: الْإِصَابَةُ فِي الْخَيْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الصَّوْبِ وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يَنْزِلُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَفِي الشَّرِّ مَأْخُوذَةٌ مِنْ إِصَابَةِ السَّهْمِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمُصِيبَةُ فِي اللُّغَةِ مَا يَنْزِلُ بِالْإِنْسَانِ مُطْلَقًا، وَفِي الْعُرْفِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ خَاصَّةً، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.

قَوْلُهُ: (تُصِيبُ الْمُسْلِمَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَيُونُسَ جَمِيعًا عَنِ الزُّهْرِيِّ: مَا مِنْ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُ وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ بِهَذَا السَّنَدِ مَا مِنْ وَجَعٍ أَوْ مَرَضٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ، وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي السَّرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا وَنَحْوُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ

ص: 104

طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى الشَّوْكَةَ) جَوَّزُوا فِيهِ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثَةَ، فَالْجَرُّ بِمَعْنَى الْغَايَةِ أَيْ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الشَّوْكَةِ أَوْ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ مُصِيبَةٍ، وَالنَّصْبُ بِتَقْدِيرِ عَامِلٍ أَيْ حَتَّى وِجْدَانِهِ الشَّوْكَةَ، وَالرَّفْعُ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي تُصِيبُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَيَّدَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَحَلِّ. كَذَا قَالَ، وَوَجَّهَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ يَسُوغُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مِنْ زَائِدَةٍ.

قَوْلُهُ: (يُشَاكُهَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يَشُوكُهُ غَيْرُهُ بِهَا، وَفِيهِ وَصْلُ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ يُشَاكُ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ - يَعْنِي قَوْلَهُ: يُشَاكُهَا - أَنْ يُدْخِلَهَا غَيْرُهُ. قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ الْحَقِيقَةَ أَنْ لَا يُرَادَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَدْخُلَ مَا إِذَا دَخَلَتْ هِيَ بِغَيْرِ إِدْخَالِ أَحَدٍ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ شَوْكَةٌ فَإِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَيْهَا هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَهِيَ أَنْ تَدْخُلَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ أَوْ بِفِعْلِ أَحَدٍ. فَمَنْ لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَ إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ يُجَوِّزُ مِثْلَ هَذَا، وَيُشَاكُهَا ضُبِطَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ بِفَتْحِهِ، وَنَسَبَهَا بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ لِصِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ، لَكِنِ الْجَوْهَرِيُّ إِنَّمَا ضَبَطَهَا لِمَعْنًى آخَرَ فَقَدَّمَ لَفْظَ يُشَاكُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ ثُمَّ قَالَ: وَالشَّوْكَةُ حِدَّةُ النَّاسِ وَحِدَّةُ السِّلَاحِ، وَقَدْ شَاكَ الرَّجُلُ يُشَاكُ شَوْكًا إِذَا ظَهَرَتْ فِيهِ شَوْكَتُهُ وَقَوِيَتْ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ إِلَّا كَانَ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ أَيْ يَكُونُ ذَلِكَ عُقُوبَةً بِسَبَبِ مَا كَانَ صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَغْفِرَةِ ذَنْبِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وحطت عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً. وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ، وَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا: حُصُولَ الثَّوَابِ، وَرَفْعَ الْعِقَابِ. وَشَاهِدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: مَا ضُرِبَ عَلَى مُؤْمِنٍ عِرْقٌ قَطُّ إِلَّا حَطَّ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ خَطِيئَةً، وَكَتَبَ لَهُ حَسَنَةً، وَرَفَعَ لَهُ دَرَجَةً وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْهَا إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، أَوْ حَطَّ عنه بِهَا خَطِيئَةً كَذَا وَقَعَ فِيهِ بِلَفْظِ أَوْ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي، وَيَحْتَمِلُ التَّنْوِيعَ، وَهَذَا أَوْجَهُ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ بِهَا حَسَنَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَطَايَا، أَوْ حَطَّ عَنْهُ خَطَايَا إِنْ كَانَ لَهُ خَطَايَا. وَعَلَى هَذَا فَمُقْتَضَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ يُزَادُ فِي رَفْعِ دَرَجَتِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَالْفَضْلُ وَاسِعٌ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَيْبَةَ الْعَبْدَرِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَجَعٌ، فَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ عَلَى فِرَاشِهِ وَيَشْتَكِي، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لَوْ صَنَعَ هَذَا بَعْضُنَا لَوَجَدْتَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ الصَّالِحِينَ يُشَدَّدُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ نَكْبَةٌ شَوْكَةٌ الْحَدِيثَ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَعَقُّبٌ عَلَى الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ قَالَ: ظَنَّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَنَّ الْمُصَابَ مَأْجُورٌ، وَهُوَ خَطَأٌ صَرِيحٌ، فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْكَسْبِ، وَالْمَصَائِبُ لَيْسَتْ مِنْهَا، بَلِ الْأَجْرُ عَلَى الصَّبْرِ وَالرِّضَا. وَوَجْهُ التَّعَقُّبِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ صَرِيحَةٌ فِي ثُبُوتِ الْأَجْرِ، بِمُجَرَّدِ حُصُولِ الْمُصِيبَةِ، وَأَمَّا الصَّبْرُ وَالرِّضَا فَقَدْرٌ زَائِدٌ يُمْكِنُ أَنْ يُثَابَ عَلَيْهِمَا زِيَادَةً عَلَى ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمَصَائِبُ كَفَّارَاتٌ جَزْمًا سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِهَا الرِّضَا أَمْ لَا، لَكِنْ إِنِ اقْتَرَنَ بِهَا الرِّضَا عَظُمَ التَّكْفِيرُ وَإِلَّا قَلَّ، كَذَا قَالَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةٌ لِذَنْبٍ يُوَازِيهَا، وَبِالرِّضَا يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَابِ ذَنْبٌ عُوِّضَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ بِمَا يُوَازِنه. وَزَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِلْمُصَابِ: جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً لِذَنْبِكَ، لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ جَعَلَهَا كَفَّارَةً، فَسُؤَالُ التَّكْفِيرِ طَلَبٌ لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَهُوَ إِسَاءَةُ أَدَبٍ عَلَى الشَّارِعِ. كَذَا قَالَ.

وَتُعُقِّبَ بِمَا وَرَدَ مِنْ جَوَازِ الدُّعَاءِ بِمَا

ص: 105

هُوَ وَاقِعٌ كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسُؤَالُ الْوَسِيلَةِ لَهُ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فَهُوَ مَشْرُوعٌ، لِيُثَابَ مَنِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَعًا.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو) هُوَ أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرُ مِنَ اسْمِهِ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ أَبُو الْمُنْذِرِ التَّمِيمِيُّ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي حِفْظِهِ، لَكِنْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ: مَا رَوَى عَنْهُ أَهْلُ الشَّامِ فَإِنَّهُ مَنَاكِيرُ، وَمَا رَوَى عَنْهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ. قُلْتُ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ: كَانَ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ الشَّامِيُّونَ آخَرُ لِكَثْرَةِ الْمَنَاكِيرِ انْتَهَى. وَمَعَ ذَلِكَ فَمَا أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ وَحَدِيثًا آخَرَ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ أَيْضًا عَنْهُ، وَأَبُو عَامِرٍ بَصْرِيٌّ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَنْ شَيْخِهِ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَحَلْحَلَةُ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا لَامٌ سَاكِنَةٌ، وَبَعْدَ الثَّانِيَةِ لَامٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ هَاءٌ.

قَوْلُهُ: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ (مِنْ نَصَبٍ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ: هُوَ التَّعَبُ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (وَلَا وَصَبٍ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةُ أَيْ مَرَضٌ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَقِيلَ هُوَ الْمَرَضُ اللَّازِمُ.

قَوْلُهُ: (وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٌ) هُمَا مِنْ أَمْرَاضِ الْبَاطِنِ، وَلِذَلِكَ سَاغَ عَطْفُهُمَا عَلَى الْوَصَبِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا أَذًى) هُوَ أَعَمُّ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِمَا يَلْحَقُ الشَّخْصَ مِنْ تَعَدِّي غَيْرِهِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا غَمٌّ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَمْرَاضِ الْبَاطِنِ وَهُوَ مَا يُضَيِّقُ عَلَى الْقَلْبِ. وَقِيلَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْهَمُّ وَالْغَمُّ وَالْحُزْنُ أَنَّ الْهَمَّ يَنْشَأُ عَنِ الْفِكْرِ فِيمَا يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ مِمَّا يُتَأَذَّى بِهِ، وَالْغَمُّ كَرْبٌ يَحْدُثُ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ مَا حَصَلَ، وَالْحُزْنُ يَحْدُثُ لِفَقْدِ مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ فَقْدُهُ. وَقِيلَ: الْهَمُّ وَالْغَمُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْغَمُّ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَكْرُوهَاتِ لِأَنَّهُ إِمَّا بِسَبَبِ مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ أَوِ النَّفْسِ، وَالْأَوَّلُ: إِمَّا بِحَيْثُ يَخْرُجُ عَنِ الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ أَوْ لَا، وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ يُلَاحِظَ فِيهِ الْغَيْرَ أَوْ لَا، وَإِمَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ الِانْقِبَاضُ أَوْ لَا، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَاضِي أَوْ لَا.

وَقَالَ زَكَرِيَّا: حَدَّثَنِي سَعْدٌ، حَدَّثَني ابْنُ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ كَعْبٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَسَعْدٌ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَيِ ابْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (كَالْخَامَةِ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ هِيَ الطَّاقَةُ الطَّرِيَّةُ اللَّيِّنَةُ أَوِ الْغَضَّةُ أَوِ الْقَضْبَةُ، قَالَ الْخَلِيلُ: الْخَامَةُ الزَّرْعُ أَوَّلَ مَا يَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدٍ وَالْأَلِفُ مِنْهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الْقَزَّازِ أَنَّهُ ذَكَرَهَا بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ، وَفَسَّرَهَا بِالطَّاقَةِ مِنَ الزَّرْعِ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ السُّنْبُلَةِ تَسْتَقِيمُ مَرَّةً وَتَخِرُّ أُخْرَى. وَلَهُ فِي حَدِيثِ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْخَامَةِ تَحْمَرُّ مَرَّةً وَتَصْفَرُّ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (تُفَيِّئُهَا) بِفَاءٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ مَهْمُوزٍ أَيْ تُمَيِّلُهَا وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: هُنَا لَمْ يَذْكُرِ الْفَاعِلُ وَهُوَ الرِّيحُ، وَبِهِ يَتِمُّ الْكَلَامُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي بَابِ كَفَّارَةِ الْمَرَضِ وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ مَا وَقَعَ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا الْبَابَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ ذَلِكَ هُوَ بَابُ كَفَّارَةِ الْمَرَضِ وَلَفْظُ الرِّيحِ ثَابِتٌ فِيهِ عِنْدَ مُعْظَمِ الرُّوَاةِ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ مَعْنَى تُفَيِّئُهَا تُرْقِدُهَا، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ فَاءَ إِذَا رَقَدَ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ تَفْسِيرُ مَعْنًى، لِأَنَّ الرُّقُودَ رُجُوعٌ عَنِ الْقِيَامِ وَفَاءَ يَجِيءُ بِمَعْنَى رَجَعَ.

قَوْلُهُ: (وَتَعْدِلُهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ، وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْضًا وَفَتْحِ ثَانِيهِ وَالتَّشْدِيدِ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى، وَكَأَنَّ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الرِّيحِ: فَإِنْ كَانَتْ شَدِيدَةً حَرَّكَتْهَا فَمَالَتْ يَمِينًا وَشِمَالًا حَتَّى تُقَارِبَ السُّقُوطُ، وَإِنْ كَانَتْ سَاكِنَةً أَوْ إِلَى السُّكُونِ أَقْرَبَ أَقَامَتْهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ حَتَّى تَهِيجَ أَيْ تَسْتَوِي وَيَكْمُلُ نُضْجُهَا، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مِثْلهُ.

قَوْلُهُ:

ص: 106

(وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ الْفَاجِرُ وَفِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ الْكَافِرُ.

قَوْلُهُ: (كَالْأَرْزَةِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ بِوَزْنِ فَاعِلِهِ وَهِيَ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرْضِ، وَرَدَّهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِأَنَّ الرُّوَاةَ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ الْمَدِّ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي سُكُونِ الرَّاءِ وَتَحْرِيكِهَا وَالْأَكْثَرُ عَلَى السُّكُونِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ: الرَّاءُ سَاكِنَةٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ نَبَاتِ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَلَا يَنْبُتُ فِي السِّبَاخِ بَلْ يُطَوِّلُ طُولًا شَدِيدًا وَيَغْلُظُ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي الْخَبِيرُ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّنَوْبَرَ، وَأَنَّهُ لَا يَحْمِلُ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ أَعْجَازِهِ وَعُرُوقِهِ الزِّفْتُ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْأَرْزُ الْعَرْعَرُ، وَقِيلَ: شَجَرٌ بِالشَّامِ يُقَالُ لِثَمَرِهِ الصَّنَوْبَرُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْأَرَزَةُ مَفْتُوحَةُ الرَّاءِ وَاحِدَةُ الْأَرْزِ وَهُوَ شَجَرُ الصَّنَوْبَرِ فِيمَا يُقَالُ. وَقَالَ الْقَزَّازُ: قَالَهُ قَوْمٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَقَالُوا: هُوَ شَجَرٌ مُعْتَدِلٌ صَلْبٌ لَا يُحَرِّكُهُ هُبُوبُ الرِّيحِ، وَيُقَالُ لَهُ الْأَرْزَنُ.

قَوْلُهُ: (انْجِعَافُهَا) بِجِيمٍ وَمُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ، أَيِ انْقِلَاعِهَا ; تَقُولُ جَعَفْتُهُ فَانْجَعَفَ مِثْلَ قَلَعْتُهُ فَانْقَلَعَ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ مَعْنَاهُ انْكِسَارُهَا مِنْ وَسَطِهَا أَوْ أَسْفَلِهَا. قَالَ الْمُهَلَّبُ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ حَيْثُ جَاءَهُ أَمْرُ اللَّهِ انْطَاعَ لَهُ، فَإِنْ وَقَعَ لَهُ خَيْرٌ فَرِحَ بِهِ وَشَكَرَ، وَإِنْ وَقَعَ لَهُ مَكْرُوهٌ صَبَرَ وَرَجَا فِيهِ الْخَيْرَ وَالْأَجْرَ، فَإِذَا انْدَفَعَ عَنْهُ اعْتَدِلْ شَاكِرًا. وَالْكَافِرُ لَا يَتَفَقَّدُ اللَّهَ بِاخْتِيَارِهِ، بَلْ يَحْصُلُ لَهُ التَّيْسِيرُ فِي الدُّنْيَا لِيَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ الْحَالُ فِي الْمَعَادِ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَهُ قَصَمَهُ فَيَكُونُ مَوْتُهُ أَشَدَّ عَذَابًا عَلَيْهِ وَأَكْثَرَ أَلَمًا فِي خُرُوجِ نَفْسِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَتَلَقَّى الْأَعْرَاضَ الْوَاقِعَةَ عَلَيْهِ لِضَعْفِ حَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا، فَهُوَ كَأَوَائِلِ الزَّرْعِ شَدِيدُ الْمَيَلَانِ لِضَعْفِ سَاقِهِ، وَالْكَافِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي الْغَالِبِ مِنْ حَالِ الِاثْنَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ زَكَرِيَّا) هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ عَنْهُ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ كِلَاهُمَا عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي سَعْدٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبٍ) يُرِيدُ أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِرِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ سَعْدٍ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِيهَامُهُ اسْمَ ابْنِ كَعْبٍ، وَالثَّانِي: تَصْرِيحُهُ بِالتَّحْدِيثِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ رِوَايَةِ تَسْمِيَتِهِ وَمِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا التَّصْرِيحُ بِاتِّصَالِهِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عِنْدَ سُفْيَانَ تَسْمِيَتُهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيهَامِهِ فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا. وَيُسْتَفَادُ مِنْ صَنِيعِ مُسْلِمٍ فِي تَخْرِيجِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ إِذَا دَارَ عَلَى ثِقَةٍ لَا يَضُرُّ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبِي) هُوَ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ) كَذَا فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَوَالِيهِمْ وَاسْمُ جَدِّهِ أُسَامَةُ وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا هِلَالُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ، وَهِلَالُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مُوَثَّقٌ، وَفِي الرُّوَاةِ هِلَالُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ سَلَمَةُ الْفِهْرِيُّ تَابِعِيٌّ مَدَنِيٌّ أَيْضًا يَرْوِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَى عَنْهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ وَحْدَهُ، وَوَهِمَ مَنْ خَلَطَهُ بِهِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ. وَفِيهِمْ أَيْضًا هِلَالُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ مَذْحِجِيٌّ تَابِعِيٌّ أَيْضًا يَرْوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهِلَالُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ أَبُو ظِلَالٍ بَصْرِيٌّ تَابِعِيٌّ أَيْضًا، يَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ وَهِلَالُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ شَيْخٌ يَرْوِي عَنْ أَنَسٍ أَفْرَدَهُ الْخَطِيبُ فِي الْمُتَّفَقِ عَنْ أَبِي ظِلَالٍ وَقَالَ إِنَّهُ مَجْهُولٌ، وَلَسْتُ أَسْتَبْعِدُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا.

قَوْلُهُ: (مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْفَاءِ وَالْهَمْزِ أَيْ أَمَالَتْهَا، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّهُ سَهَّلَ الْهَمْزَ، وَهُوَ كَمَا ظَنَّ وَالْمَعْنَى أَمَالَتْهَا.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأَ بِالْبَلَاءِ) قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا فِيهِ، وَصَوَابُهُ فَإِذَا انْقَلَبَتْ، ثُمَّ يَكُونُ قَوْلُهُ: تَكَفَّأَ رُجُوعًا إِلَى وَصْفِ الْمُسْلِمِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ فِي التَّوْحِيدِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأَ بِالرِّيحِ كَمَا يَتَكَفَّأُ الْمُؤْمِنُ بِالْبَلَاءِ،

ص: 107

لَكِنِ الرِّيحُ أَيْضًا بَلَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَامَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَ الْمُؤْمِنَ بِالْخَامَةِ أَثْبَتَ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ مَا هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْمُشَبَّهِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفًا. وَالتَّقْدِيرُ: اسْتَقَامَتْ، أَيْ فَإِذَا اعْتَدَلَتِ الرِّيحُ اسْتَقَامَتِ الْخَامَةُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَكَفَّأَ بِالْبَلَاءِ رُجُوعًا إِلَى وَصْفِ الْمُسْلِمِ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ، وَسِيَاقُ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ يُؤَيِّدُ مَا قُلْتُ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ فُلَيْحٍ عَالِيًا بِإِسْنَادِهِ الَّذِي هُنَا وَقَالَ فِيهِ: فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكْفَأُ بِالْبَلَاءِ.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فِي تَرْجَمَةِ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ خَامَةِ الزَّرْعِ خ فِي الطِّبِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ فُلَيْحٍ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ بِهِ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - يَعْنِي ابْنَ عَسَاكِرَ - لَمْ أَجِدْ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ وَلَا ذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ خَلَفًا تَفَرَّدَ بِذِكْرِهِ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِ الْمَرْضَى كَمَا تَرَى لَا فِي الطِّبِّ، لَكِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ سَهْلٌ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ فَقَدْ بَيَّنْتُ أَيْنَ ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، فَيُتَعَجَّبُ مِنْ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَى هَذَيْنِ الْحَافِظَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ ابْنِ عَسَاكِرَ، وَالْمِزِّيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَنْعَمَ.

قَوْلُهُ: (وَالْفَاجِرُ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ وَالْكَافِرُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُنَافِقِ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ نِفَاقُ الْكُفْرِ.

قَوْلُهُ: (صَمَّاءُ) أَيْ صُلْبَةٌ شَدِيدَةٌ بِلَا تَجْوِيفٍ.

قَوْلُهُ: (يَقْصِمُهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِالْقَافِ أَيْ يَكْسِرُهَا، وَكَأَنَّهُ مُسْتَنَدُ الدَّاوُدِيِّ فِيمَا فَسَّرَ بِهِ الِانْجِعَافَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْكَسْرِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الِانْقِلَاعَ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْإِزَالَةُ، وَالْمُرَادُ خُرُوجُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) هَكَذَا جَرَّدَ مَالِكٌ نَسَبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ إِلَى جَدِّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى جَدِّهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (أَبَا الْحُبَابِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ مُخَفَّفًا.

قَوْلُهُ: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِكَسْرِ الصَّادِ وَالْفَاعِلُ اللَّهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَاهُ يَبْتَلِيهِ بِالْمَصَائِبِ لِيُثِيبَهُ عَلَيْهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ الْبَلَاءَ فَيُصِيبُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ يَرْوِيهِ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَسَمِعْتُ ابْنَ الْخَشَّابِ يَفْتَحُ الصَّادَ، وَهُوَ أَحْسَنُ وَأَلْيَقُ. كَذَا قَالَ، وَلَوْ عَكَسَ لَكَانَ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَجَّهَ الطِّيبِيُّ الْفَتْحَ بِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِالْأَدَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لِلْكَسْرِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رَفَعَهُ: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزَعَ فَلَهُ الْجَزَعُ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ رَآهُ وَهُوَ صَغِيرٌ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، لِأَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْفَكُّ غَالِبًا مِنْ أَلَمٍ بِسَبَبِ مَرَضٍ أَوْ هَمٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَاضَ وَالْأَوْجَاعَ وَالْآلَامَ - بَدَنِيَّةً كَانَتْ أَوْ قَلْبِيَّةً - تُكَفِّرُ ذُنُوبَ مَنْ تَقَعُ لَهُ.

وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلَّا حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَظَاهِرُهُ تَعْمِيمُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، لَكِنِ الْجُمْهُورُ خَصُّوا ذَلِكَ بِالصَّغَائِرِ، لِلْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ فَحَمَلُوا الْمُطْلَقَاتِ الْوَارِدَةَ فِي التَّكْفِيرِ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّعْمِيمُ أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ صَالِحَةٌ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ، فَيُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا مَا شَاءَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيَكُونُ كَثْرَةُ التَّكْفِيرِ وَقِلَّتُهُ

ص: 108

بِاعْتِبَارِ شِدَّةِ الْمَرَضِ وَخِفَّتِهِ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِتَكْفِيرِ الذَّنْبِ سَتْرُهُ أَوْ مَحْوُ أَثَرِهِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ حُصُولِ الْمَرَضِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ الْمَذْكُورُ سَوَاءٌ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ صَبْرُ الْمُصَابِ أَمْ لَا، وَأَبَى ذَلِكَ قَوْمٌ كَالْقُرْطُبِيِّ فِي الْمُفْهِمِ فَقَالَ: مَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا صَبَرَ الْمُصَابُ وَاحْتَسَبَ وَقَالَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} الْآيَةَ، فَحِينَئِذٍ يَصِلُ إِلَى مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى دَعْوَاهُ بِدَلِيلٍ، وَإنَّ فِي تَعْبِيرِهِ بِقَوْلِهِ: بِمَا أَمَرَ اللَّهُ نَظَرًا إِذْ لَمْ يَقَعْ هُنَا صِيغَةُ أَمْرٍ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ بِالْأَمْرِ فَسِيَاقُهُ يَقْتَضِي الْحَثَّ عَلَيْهِ وَالطَّلَبَ لَهُ، فَفِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ.

وَعَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ حَمْلُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالتَّقْيِيدِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمُطْلَقَةِ، وَهُوَ حَمْلٌ صَحِيحٌ، لَكِنْ كَانَ يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ شَيْءٌ مِنْهَا، بَلْ هِيَ إِمَّا ضَعِيفَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِهَا وَإِمَّا قَوِيَّةٌ لَكِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِثَوَابٍ مَخْصُوصٍ، باعْتِبَارُ الصَّبْرِ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ لِحُصُولِ ذَلِكَ الثَّوَابِ الْمَخْصُوصِ، مِثْلُ مَا سَيَأْتِي فِيمَنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلَدٍ هُوَ فِيهَا فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَمِثْلُ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ فَلَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلٍ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ ثُمَّ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ خَالِدًا لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَأَبُوهُ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ لَكِنْ إِبْهَامُ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ.

وَحَدِيثُ سَخْبَرَةَ - بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ وَزْنُ مَسْلَمَةَ - رَفَعَهُ: مَنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ، وَظُلِمَ فَغَفَرَ، أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَالْحَدِيثُ الْآتِي قَرِيبًا مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ يَدْخُلُ فِي هَذَا أَيْضًا، هَكَذَا زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ أَنَّهُ اسْتَقْرَأَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الصَّبْرِ فَوَجَدَهَا لَا تَعْدُو أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ صَحَّ التَّقْيِيدُ بِالصَّبْرِ مَعَ إِطْلَاقِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم[عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمَرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ]

(1)

وَلَيْسَ ذَلِكَ [لِأَحَدٍ] لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ اللَّهَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ فَلَهُ أَجْرٌ، فَكُلُّ قَضَاءِ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِ خَيْرٌ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِلَفْظِ: عَجِبْتُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ وَشَكَرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ وَصَبَرَ، فَالْمُؤْمِنُ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ أَمْرِهِ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ.

وَمِمَّنْ جَاءَ عَنْهُ التَّصْرِيحُ - بِأَنَّ الْأَجْرَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ الْمُصِيبَةِ، بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِهَا التَّكْفِيرُ فَقَطْ - مِنَ السَّلَفِ الْأَوَّلِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَصْلَهُ فِي النَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عِيَاضِ بْنِ غُطَيْفٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ نَعُودُهُ مِنْ شَكْوَى أَصَابَتْهُ فَقُلْنَا: كَيْفَ بَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ؟ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ نُحَيْفَةُ: لَقَدْ بَاتَ بِأَجْرٍ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا بِتُّ بِأَجْرٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ فَهُوَ لَهُ حِطَّةٌ وَكَأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعِ الْحَدِيثَ الَّذِي صَرَّحَ فِيهِ بِالْأَجْرِ لِمَنْ أَصَابَتْهُ الْمُصِيبَةُ، أَوْ سَمِعَهُ وَحَمَلَهُ عَلَى التَّقْيِيدِ بِالصَّبْرِ، وَالَّذِي نَفَاهُ مُطْلَقُ حُصُولِ الْأَجْرِ الْعَارِي عَنِ الصَّبْرِ. وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَدَلَّ عَلَى حُصُولِ الْأَجْرِ بِالْمَرَضِ بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمَاضِي فِي الْجِهَادِ بِلَفْظِ إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا قَالَ: فَقَدْ زَادَ عَلَى التَّكْفِيرِ، وَأَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ لِهَذَا إِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ نِيَّتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَدَامَ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَتَفَضَّلَ

(1)

كان بياضا في الطبعات السابقة، وأكملناه من صحيح مسلم 53 كتاب الزهد، 13 - باب المؤمن أمره كله خير، الحديث 64.

ص: 109

اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَكْتُبَ لَهُ ثَوَابَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُسَاوِيَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ شَيْئًا.

وَمِمَّنْ جَاءَ عَنْهُ أَنَّ الْمَرِيضَ يُكْتَبُ لَهُ الْأَجْرُ بِمَرَضِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ مَرَضٍ يُصِيبُنِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْحُمَّى. لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنِّي، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي كُلَّ عُضْوٍ قِسْطَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقُولُهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِرَأْيِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا جَزَاءُ الْحُمَّى؟ قَالَ:: تَجْرِي الْحَسَنَاتُ عَلَى صَاحِبِهَا مَا اخْتَلَجَ عَلَيْهِ قَدَمٌ أَوْ ضُرِبَ عَلَيْهِ عِرْقٌ الْحَدِيثَ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ عَلَى حَالَيْنِ: فَمَنْ كَانَتْ لَهُ ذُنُوبٌ مَثَلًا أَفَادَ الْمَرَضُ تَمْحِيصَهَا، وَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ذُنُوبٌ كُتِبَ لَهُ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ بَنِي آدَمَ وُجُودَ الْخَطَايَا فِيهِمْ أَطْلَقَ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّ الْمَرَضَ كَفَّارَةٌ فَقَطْ، وَعَلَى ذَلِكَ تُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْمُطْلَقَةُ، وَمَنْ أَثْبَتَ الْأَجْرَ بِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَحْصِيلِ ثَوَابٍ يُعَادِلُ الْخَطِيئَةَ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ خَطِيئَةٌ تَوَفَّرَ لِصَاحِبِ الْمَرَضِ الثَّوَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَدِ اسْتَبْعَدَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ حُصُولَ الْأَجْرِ عَلَى نَفْسِ الْمُصِيبَةِ، وَحَصَرَ حُصُولَ الْأَجْرِ بِسَبَبِهَا فِي الصَّبْرِ، وَتُعُقِّبَ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَتِ الْحُمَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِهَا إِلَى أَهْلِ قُبَاءَ، فَشَكَوْا إِلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللَّهَ لَكُمْ فَكَشَفَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ طَهُورًا.

قَالُوا: فَدَعْهَا وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِشَكْوَاهُمْ، وَوَعَدَهُمْ بِأَنَّهَا طَهُورٌ لَهُمْ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ إِذَا قَارَنَهَا الصَّبْرُ حَصَلَ التَّكْفِيرُ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الصَّبْرُ نُظِرَ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنَ الْجَزَعِ مَا يُذَمُّ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَالْفَضْلُ وَاسِعٌ، وَلَكِنِ الْمَنْزِلَةُ مُنْحَطَّةٌ عَنْ مَنْزِلَةِ الصَّابِرِ السَّابِقَةِ، وَإِنْ حَصَلَ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَقْصِ الْأَجْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ أَوِ التَّكْفِيرِ، فَقَدْ يَسْتَوِيَانِ، وَقَدْ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَبِقَدْرِ ذَلِكَ يُقْضَى لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَيُشِيرُ إِلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ حَدِيثُ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ الَّذِي ذَكَرْتُهُ قَرِيبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌2 - بَاب شِدَّةِ الْمَرَضِ

5646 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ ح

وحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

5647 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً وَقُلْتُ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً قُلْتُ إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ أَجَلْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلاَّ حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ".

[الحديث 5647 - أطرافه في: 5648، 5660، 5661، 5667]

قَوْلُهُ (بَابُ شِدَّةِ الْمَرَضِ) أَيْ وَبَيَانِ مَا فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ

ص: 110

الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْمَشِ) كَذَا أَعَادَ الْأَعْمَشُ بَعْدَ التَّحْوِيلِ، وَلَوْ وَقْفَ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ عِنْدَ سُفْيَانَ وَحَوَّلَ ثُمَّ قَالَ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ لَكَانَ سَائِغًا، لَكِنْ أَظُنُّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ شُعْبَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِلَفْظِ: مَا رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدَّ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، وَالْمُرَادُ بِالْوَجَعِ الْمَرَضُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ وَجَعٍ مَرَضًا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: إِلَّا حَاتَّ اللَّهُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَمَدٍّ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ أَصْلُهُ حَاتَتْ بِمُثَنَّاتَيْنِ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، وَالْمَعْنَى فَتَّتَ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ إِذْهَابِ الْخَطَايَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

‌3 - بَاب أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ

5648 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. قَالَ: أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ. قُلْتُ: ذَلِكَ بأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: أَجَلْ، ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى - شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا - إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا

قَوْلُهُ: (بَابُ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلنَّسَفِيِّ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ وَجَمَعَهُمَا الْمُسْتَمْلِي، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَوَّلِيَّةُ فِي الْفَضْلِ، وَالْأَمْثَلُ أَفْعَلُ مِنَ الْمَثَالَةِ وَالْجَمْعُ أَمَاثِلُ وَهُمُ الْفُضَلَاءُ. وَصَدْرُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ مُصْعَبٍ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: الْعُلَمَاءُ.

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: الصَّالِحُونَ الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا فِي آخِرِ حَدِيثِ سَعْدٍ. وَلَعَلَّ الْإِشَارَةَ بِلَفْظِ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْيَمَانِ أُخْتِ حُذَيْفَةَ قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نِسَاءٍ نَعُودُهُ، فَإِذَا بِسِقَاءٍ يَقْطُرُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْحُمَّى، فَقَالَ: إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ) هُوَ السُّكَّرِيُّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ بْنِ شَرِيكٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ هُوَ تَيْمِيٌّ أَيْضًا، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ كُوفِيُّونَ، وَلَيْسَ لِلْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ يَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ، لَكِنَّهُمَا عِنْدَهُ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، وَلَهُ عِنْدَهُ ثَالِثٌ مَضَى فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.

قَوْلُهُ: (دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الَّتِي قَبْلَهَا أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ وَالْوَعْكُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْحُمَّى وَقَدْ تُفْتَحُ، وَقِيلَ أَلَمُ الْحُمَّى، وَقِيلَ تَعَبُهَا، وَقِيلَ إِرْعَادُهَا الْمَوْعُوكَ وَتَحْرِيكُهَا إِيَّاهُ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ الْوَعْكُ

ص: 111

الْحَرُّ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ الْحُمَّى سُمِّيَتْ وَعْكًا لِحَرَارَتِهَا.

قَوْلُهُ: (ذَلِكَ) إِشَارَةٌ إِلَى مُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ بِشِدَّةِ الْحُمَّى، وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ حَذْفًا يُعْرَفُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ.

قَوْلُهُ: (أَجَلْ) أَيْ نَعَمْ وَزْنًا وَمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (أَذًى شَوْكَةً) التَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّقْلِيلِ لَا لِلْجِنْسِ لِيَصِحَّ تَرَتُّبُ فَوْقِهَا وَدُونِهَا فِي الْعِظَمِ وَالْحَقَارَةِ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ فَوْقَهَا فِي الْعِظَمِ وَدُونَهَا فِي الْحَقَارَةِ وَعَكْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (كَمَا تَحُطُّ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تُلْقِيهِ مُنْتَثِرًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّ الْمَرَضَ إِذَا اشْتَدَّ ضَاعَفَ الْأَجْرَ، ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَنْتَهِي إِلَى أَنْ تُحَطَّ السَّيِّئَاتُ كُلُّهَا، أَوِ الْمَعْنَى: قَالَ: نَعَمْ شِدَّةُ الْمَرَضِ تَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ وَتَحُطُّ الْخَطِيئَاتِ أَيْضًا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ حَدِيثُ سَعْدٍ الَّذِي ذَكَرْتُهُ قَبْلُ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ: لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا مِنْ وَجَعٍ يُصِيبُنِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْحُمَّى، إِنَّهَا تَدْخُلُ فِي كُلِّ مَفْصِلٍ مِنَ ابْنِ آدَمَ، وَاللَّهُ يُعْطِي كُلَّ مَفْصِلٍ قِسْطَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَوَجْهُ دَلَالَةِ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى التَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ قِيَاسِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِلْحَاقِ الْأَوْلِيَاءِ بِهِمْ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَتْ دَرَجَتُهُمْ مُنْحَطَّةً عَنْهُمْ، وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْبَلَاءَ فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ، فَمَنْ كَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ كَانَ بَلَاؤُهُ أَشَدَّ، وَمِنْ ثَمَّ ضُوعِفَ حَدُّ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ، وَقِيلَ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ:{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوِيَّ يَحْمِلُ مَا حَمَلَ، وَالضَّعِيفَ يُرْفَقُ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ كُلَّمَا قَوِيَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالْمُبْتَلَى هَانَ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى أَجْرِ الْبَلَاءِ فَيَهُونُ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ، وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ دَرَجَةُ مَنْ يَرَى أَنَّ هَذَا تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ فَيُسَلِّمُ وَلَا يَعْتَرِضُ، وَأَرْفَعُ مِنْهُ مَنْ شَغَلَتْهُ الْمَحَبَّةُ عَنْ طَلَبِ رَفْعِ الْبَلَاءِ، وَأَنْهَى الْمَرَاتِبِ مَنْ يَتَلَذَّذُ بِهِ لِأَنَّهُ عَنِ اخْتِيَارِهِ نَشَأَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌4 - بَاب وُجُوبِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ

5649 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ.

5650 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَعَنْ الْقَسِّيِّ وَالْمِيثَرَةِ. وَأَمَرَنَا أَنْ نَتْبَعَ الْجَنَائِزَ، وَنَعُودَ الْمَرِيضَ، وَنُفْشِيَ السَّلَامَ. .

قَوْلُهُ: (بَابُ وُجُوبِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ) كَذَا جَزَمَ بِالْوُجُوبِ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِالْعِيَادَةِ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْجَنَائِزِ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ فَذَكَرَ مِنْهَا عِيَادَةَ الْمَرِيضِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَذَكَرَهَا مِنْهَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ كَإِطْعَامِ الْجَائِعِ وَفَكِّ الْأَسِيرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّدْبِ لِلْحَثِّ عَلَى التَّوَاصُلِ وَالْأُلْفَةِ، وَجَزَمَ الدَّاوُدِيُّ بِالْأَوَّلِ فَقَالَ: هِيَ فَرْضٌ يَحْمِلُهُ

ص: 112

بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ فِي الْأَصْلِ نَدْبٌ، وَقَدْ تَصِلُ إِلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ. وَعَنِ الطَّبَرِيِّ: تَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ مَنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ، وَتُسَنُّ فِيمَنْ يُرَاعَى حَالُهُ، وَتُبَاحُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَفِي الْكَافِرِ خِلَافٌ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ. وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، يَعْنِي عَلَى الْأَعْيَانِ.

وقد تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْمَذْكُورُ هُنَا فِي الْجِهَادِ وَفِي الْوَلِيمَةِ، وذكر بعده حديث البراء مختصرا مقتصرا على بعض الخصال السبع، ويأتي شرحه مستوفى في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. وَاسْتُدِلَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: عُودُوا الْمَرِيضَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعِيَادَةِ فِي كُلِّ مَرِيضٍ، لَكِنِ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمُ الْأَرْمَدَ لِكَوْنِ عَائِدِهِ قَدْ يَرَى مَا لَا يَرَاهُ هُوَ، وَهَذَا الْأَمْرُ خَارِجِيٌّ قَدْ يَأْتِي مِثْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْأَمْرَاضِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَقَدْ عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي عِيَادَةِ الْأَرْمَدِ بِخُصُوصِهَا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنَيَّ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحّ حَهُ الْحَاكِمُ وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهُمْ عِيَادَةٌ: الْعَيْنُ وَالدُّمَّلُ وَالضِّرْسُ فَصَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَيُؤْخَذُ مِنْ إِطْلَاقِهِ أَيْضًا عَدَمُ التَّقْيِيدِ بِزَمَانٍ يَمْضِي مِنَ ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَجَزَمَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ بِأَنَّهُ لَا يُعَادُ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَاسْتَنَدَ إِلَى حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَعُودُ مَرِيضًا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ جِدًّا تَفَرَّدَ بِهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ، وَوَجَدْتُ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ وَفِيهِ رَاوٍ مَتْرُوكٌ أَيْضًا.

وَيَلْتَحِقُ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ تَعَهُّدُهُ وَتَفَقُّدُ أَحْوَالِهِ وَالتَّلَطُّفُ بِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ سَبَبًا لِوُجُودِ نَشَاطِهِ وَانْتِعَاشِ قُوَّتِهِ. وَفِي إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعِيَادَةَ لَا تَتَقَيَّدُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، لَكِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِهَا فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَتَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ الْعِيَادَةُ فِي اللَّيْلِ، وَسَاقَ عَنْ خَالِدِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ حُذَيْفَةُ أَتَوْهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ أَوْ عِنْدَ الصُّبْحِ فَقَالَ: أَيُّ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ صَبَاحٍ إِلَى النَّارِ الْحَدِيثَ، وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فِي الصَّيْفِ: تَعُودُ فُلَانًا؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا وَقْتَ عِيَادَةٍ. وَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ، عَنِ الْفُرَاوِيِّ أَنَّ الْعِيَادَةَ تُسْتَحَبُّ فِي الشِّتَاءِ لَيْلًا وَفِي الصَّيْفِ نَهَارًا، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَمِنْ آدَابِهَا أَنْ لَا يُطِيلَ الْجُلُوسَ حَتَّى يَضْجَرَ الْمَرِيضُ أَوْ يَشُقُّ عَلَى أَهْلِهِ. فَإِنِ اقْتَضَتْ ذَلِكَ ضَرُورَةٌ فَلَا بَأْسَ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي بَعْدَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْعِيَادَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ جِيَادٌ، مِنْهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ، وَخُرْفَةٌ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ ثُمَّ هَاءٌ هِيَ الثَّمَرَةُ إِذَا نَضِجَتْ، شَبَّهَ مَا يَحُوزُهُ عَائِدُ الْمَرِيضِ مِنَ الثَّوَابِ بِمَا يَحُوزُهُ الَّذِي يَجْتَنِي الثَّمَرَ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الطَّرِيقُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَائِدَ يَمْشِي فِي طَرِيقٍ تُؤَدِّيهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِيهِ قُلْتُ لِأَبِي قِلَابَةَ: مَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: جَنَاهَا وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمَرْفُوعِ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ مَنْ عَادَ مَرِيضًا خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى إِذَا قَعَدَ اسْتَقَرَّ فِيهَا وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَلْفَاظُهُمْ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ، وَلِأَحْمَدَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

‌5 - بَاب عِيَادَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ

ص: 113

5651 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: مَرِضْتُ مَرَضًا، فَأَتَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ، فَأَفَقْتُ، فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ عِيَادَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ) أَيِ الَّذِي يُصِيبُهُ غَشًى تَتَعَطَّلُ مَعَهُ قُوَّتُهُ الْحَسَّاسَةُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فَائِدَةُ التَّرْجَمَةِ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ أَنَّ عِيَادَةَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ سَاقِطَةُ الْفَائِدَةِ لِكَوْنِهِ لَا يَعْلَمُ بِعَائِدِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمَا عَلِمَا أَنَّهُ مُغْمًى عَلَيْهِ قَبْلَ عِيَادَتِهِ، فَلَعَلَّهُ وَافَقَ حُضُورَهُمَا. قُلْتُ: بَلِ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ وُقُوعُ ذَلِكَ حَالَ مَجِيئِهِمَا وَقَبْلَ دُخُولِهِمَا عَلَيْهِ، وَمُجَرَّدُ عِلْمِ الْمَرِيضِ بِعَائِدِهِ لَا تَتَوَقَّفُ مَشْرُوعِيَّةُ الْعِيَادَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ جَبْرُ خَاطِرِ أَهْلِهِ، وَمَا يُرْجَى مِنْ بَرَكَةِ دُعَاءِ الْعَائِدِ وَوَضْعِ يَدِهِ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمَسْحِ عَلَى جَسَدِهِ وَالنَّفْثِ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّعْوِيذِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وقد تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.

‌6 - بَاب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ مِنْ الرِّيحِ

5652 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي. قَالَ: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ. فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ. فَدَعَا لَهَا.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ، تِلْكَ المْرَأَةً الطَوِيلَةً السَوْدَاءَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ مِنَ الرِّيحِ) انْحِبَاسُ الرِّيحِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلصَّرْعِ، وَهِيَ عِلَّةٌ تَمْنَعُ الْأَعْضَاءَ الرَّئِيسَةَ عَنِ انْفِعَالِهَا مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ، وَسَبَبُهُ رِيحٌ غَلِيظَةٌ تَنْحَبِسُ فِي مَنَافِذِ الدِّمَاغِ، أَوْ بُخَارٌ رَدِيءٌ يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَقَدْ يَتْبَعُهُ تَشَنُّجٌ فِي الْأَعْضَاءِ فَلَا يَبْقَى الشَّخْصُ مَعَهُ مُنْتَصِبًا بَلْ يَسْقُطُ وَيَقْذِفُ بِالزَّبَدِ لِغِلَظِ الرُّطُوبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الصَّرْعُ مِنَ الْجِنِّ، وَلَا يَقَعُ إِلَّا مِنَ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ مِنْهُمْ، إِمَّا لِاسْتِحْسَانِ بَعْضِ الصُّوَرِ الْإِنْسِيَّةِ وَإِمَّا لِإِيقَاعِ الْأَذِيَّةِ بِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُهُ جَمِيعُ الْأَطِبَّاءِ وَيَذْكُرُونَ عِلَاجَهُ، وَالثَّانِي يَجْحَدُهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَبَعْضُهُمْ يُثْبِتُهُ وَلَا يَعْرِفُ لَهُ عِلَاجًا إِلَّا بِمُقَاوَمَةِ الْأَرْوَاحِ الْخَيِّرَةِ الْعُلْوِيَّةِ لِتَنْدَفِعَ آثَارُ الْأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ السُّفْلِيَّةِ وَتَبْطُلُ أَفْعَالُهَا. وَمِمَّنْ نَصَّ منهم عَلَى ذَلِكَ أَبُقْرَاطُ، فَقَالَ لَمَّا ذَكَرَ عِلَاجَ الْمَصْرُوعِ: هَذَا إِنَّمَا يَنْفَعُ فِي الَّذِي سَبَبُهُ أَخْلَاطٌ، وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْأَرْوَاحِ فَلَا.

قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْقَصِيرِ، وَاسْمُ أَبِيهِ مُسْلِمٌ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ.

قَوْلُهُ: (أَلَا أُرِيكَ) أَلَا بِتَخْفِيفِ اللَّامِ قَبْلَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ.

قَوْلُهُ: (هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ) فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ الْمُسْتَغْفِرِيِّ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى فِي الذَّيْلِ مِنْ

ص: 114

طَرِيقِهِ ثُمَّ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَأَرَانِي حَبَشِيَّةً صَفْرَاءَ عَظِيمَةً فَقَالَ: هَذِهِ سُعَيْرَةُ الْأَسَدِيَّةُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ إِنَّ بِي هَذِهِ الْمُؤْتَةَ)

(1)

وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ: الْجُنُونُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: إِنَّ بِي هَذِهِ الْمُؤْتَةَ يَعْنِي الْجُنُونَ وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ وَكَذَا ابْنُ مَنْدَهْ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْمَعُ الصُّوفَ وَالشَّعْرَ وَاللِّيفَ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لَهَا كُبَّةٌ عَظِيمَةٌ نَقَضَتْهَا فَنَزَلَ فِيهَا:{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ النَّحْلِ أَنَّهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ) بِمُثَنَّاةٍ وَتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ التَّكَشُّفِ، وَبِالنُّونِ السَّاكِنَةِ مُخَفَّفًا مِنَ الِانْكِشَافِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا خَشِيَتْ أَنْ تَظْهَرَ عَوْرَتُهَا وَهِيَ لَا تَشْعُرُ.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ سَلَامٍ وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَمَخْلَدٌ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ) بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الْفَاءِ.

قَوْلُهُ: (تِلْكَ الْمَرْأَةُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تِلْكَ امْرَأَةٌ.

قَوْلُهُ: (عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ جَالِسَةٌ عَلَيْهَا مُعْتَمِدَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ رَأَى. ثُمَّ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ بِهَذَا السَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا بِعَيْنِهِ وَقَالَ عَلَى سُلَّمِ الْكَعْبَةِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنِّي أَخَافُ الْخَبِيثَ أَنْ يُجَرِّدَنِي، فَدَعَا لَهَا فَكَانَتْ إِذَا خَشِيَتْ أَنْ يَأْتِيَهَا تَأْتِي أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِهَا وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ هَذَا الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالْمَجَانِينِ فَيَضْرِبُ صَدْرَ أَحَدِهِمْ فَيَبْرَأُ، فَأُتِيَ بِمَجْنُونَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ زُفَرَ، فَضَرَبَ صَدْرَهَا فَلَمْ تَبْرَأْ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ فَذَكَرَ كَالَّذِي هُنَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ طَاوُسٍ فَزَادَ وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهَا خَيْرًا وَزَادَ فِي آخره فَقَالَ: إِنْ يَتْبَعْهَا فِي الدُّنْيَا فَلَهَا فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَعُرِفَ مِمَّا أَوْرَدْتُهُ أَنَّ اسْمَهَا سُعَيْرَةُ وَهِيَ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّر، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْدَهْ بِقَافٍ بَدَلَ الْعَيْنِ، وَفِي أُخْرَى لِلْمُسْتَغْفِرِيِّ بِالْكَافِ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ الْغَنِيِّ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ هِيَ مَاشِطَةُ خَدِيجَةَ الَّتِي كَانَتْ تَتَعَاهَدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالزِّيَارَةِ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي أَوْرَدَتْهَا أَنَّ الَّذِي كَانَ بِأُمِّ زُفَرَ كَانَ مِنْ صَرْعِ الْجِنِّ لَا مِنْ صَرْعِ الْخَلْطِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ شَبِيهًا بِقِصَّتِهَا وَلَفْظُهُ جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِهَا لَمَمٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ. فَقَالَ: إِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكِ وَإِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَا حِسَابَ عَلَيْكِ. قَالَتْ: بَلْ أَصْبِرُ وَلَا حِسَابَ عَلَيَّ. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ مَنْ يُصْرَعُ، وَأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى بَلَايَا الدُّنْيَا يُورِثُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ الْأَخْذَ بِالشِّدَّةِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الطَّاقَةَ وَلَمْ يَضْعُفْ عَنِ الْتِزَامِ الشِّدَّةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ التَّدَاوِي، وَفِيهِ أَنَّ عِلَاجَ الْأَمْرَاضِ كُلَّهَا بِالدُّعَاءِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ أَنْجَعُ وَأَنْفَعُ مِنَ الْعِلَاجِ بِالْعَقَاقِيرِ، وَأَنَّ تَأْثِيرَ ذَلِكَ وَانْفِعَالَ الْبَدَنِ عَنْهُ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَدْوِيَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنْجَعُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ جِهَةِ الْعَلِيلِ وَهُوَ صِدْقُ الْقَصْدِ، وَالْآخَرُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَاوِي وَهُوَ قُوَّةُ تَوَجُّهِهِ وَقُوَّةُ قَلْبِهِ بِالتَّقْوَى وَالتَّوَكُّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌7 - بَاب فَضْلِ مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ

(1)

لعل هذه رواية الشارح، وهي غير رواية الجامع الصحيح الذي في الأيدي.

ص: 115

5653 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أخبرنا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ. يُرِيدُ عَيْنَيْهِ. تَابَعَهُ أَشْعَثُ بْنُ جَابِرٍ وَأَبُو ظِلَالِ بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ) سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَحَدِيثُهَا مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَقَدْ جَاءَ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِلَفْظِ: مَا ابْتُلِيَ عَبْدٌ بَعْدَ ذَهَابِ دِينِهِ بِأَشَدَّ مِنْ ذَهَابِ بَصَرِهِ، وَمَنِ ابْتُلِيَ بِبَصَرِهِ فَصَبَرَ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ لَقِيَ اللَّهَ - تَعَالَى - وَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ. وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: مَنْ أَذْهَبَ اللَّهُ بَصَرَهُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ) فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) أَيِ ابْنِ أَبِي عَمْرٍو مَيْسَرَةَ (مَوْلَى الْمُطَّلِبِ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ.

قَوْلُهُ: (إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ) بِالتَّثْنِيَةِ، وَقَدْ فَسَرَّهُمَا آخِرَ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ يُرِيدُ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالَّذِي فَسَّرَهُمَا، وَالْمُرَادُ بِالْحَبِيبَتَيْنِ الْمَحْبُوبَتَانِ لِأَنَّهُمَا أَحَبُّ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ إِلَيْهِ، لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِفَقْدِهِمَا مِنَ الْأَسَفِ عَلَى فَوَاتِ رُؤْيَةِ مَا يُرِيدُ رُؤْيَتَهُ مِنْ خَيْرٍ فَيُسَرُّ بِهِ، أَوْ شَرٍّ فَيَجْتَنِبُهُ.

قَوْلُهُ: (فَصَبَرَ) زَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَنَسٍ وَاحْتَسَبَ، وَكَذَا لِابْنِ حِبَّانَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَصْبِرُ مُسْتَحْضِرًا مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الصَّابِرَ مِنَ الثَّوَابِ، لَا أَنْ يَصْبِرَ مُجَرَّدًا عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَابْتِلَاءُ اللَّهِ عَبْدَهُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مِنْ سُخْطِهِ عَلَيْهِ، بَلْ إِمَّا لِدَفْعِ مَكْرُوهٍ أَوْ لِكَفَّارَةِ ذُنُوبٍ أَوْ لِرَفْعِ مَنْزِلَةٍ، فَإِذَا تَلَقَّى ذَلِكَ بِالرِّضَا تَمَّ لَهُ الْمُرَادُ وَإِلَّا يَصِيرُ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ أَنَّ مَرَضَ الْمُؤْمِنِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ لَهُ كَفَّارَةً وَمُسْتَعْتَبًا، وَأَنَّ مَرَضَ الْفَاجِرِ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ فَلَا يَدْرِي لِمَ عُقِلَ وَلِمَ أُرْسِلَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مَوْقُوفًا.

قَوْلُهُ: (عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ) وَهَذَا أَعْظَمُ الْعِوَضِ، لِأَنَّ الِالْتِذَاذَ بِالْبَصَرِ يَفْنَى بِفِنَاءِ الدُّنْيَا، وَالِالْتِذَاذَ بِالْجَنَّةِ بَاقٍ بِبَقَائِهَا، وَهُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ بِالشَرْطِ الْمَذْكُورِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ فِيهِ قَيْدٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِلَفْظِ إِذَا أَخَذْتُ كَرِيمَتَيْكَ فَصَبَرْتَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ وَاحْتَسَبْتَ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ النَّافِعَ هُوَ مَا يَكُونُ فِي أَوَّلِ وُقُوعِ الْبَلَاءِ فَيُفَوِّضُ وَيُسَلِّمُ، وَإِلَّا فَمَتَى تَضَجَّرَ وَتَقَلَّقَ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ ثُمَّ يَئِسَ فَيَصْبِرُ لَا يَكُونُ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَقَدْ مَضَى حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْجَنَائِزِ: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأَوْلَى وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ فِيمَا صَحِّحْهُ ابْنُ حِبَّانَ فِيهِ بِشَرْطٍ آخَرَ وَلَفْظُهُ: إِذَا سَلَبْتُ مِنْ عَبْدِي كَرِيمَتَيْهِ وَهُوَ بِهِمَا ضَنِينٌ لَمْ أَرْضَ لَهُ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ إِذَا هُوَ حَمِدَنِي عَلَيْهِمَا، وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَإِذَا كَانَ ثَوَابُ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ الْجَنَّةَ فَالَّذِي لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ أُخْرَى يُزَادُ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَشْعَثُ بْنُ جَابِرٍ، وَأَبُو ظِلَالِ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسٍ) أَمَّا مُتَابَعَةُ أَشْعَثَ بْنِ جَابِرٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْمَى الْبَصْرِيُّ الْحُدَّانِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَحُدَّانُ بَطْنٌ مِنَ الْأَزْدِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ الْأَزْدِيُّ، وَهُوَ الْحُمْلِيُّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يُعْتَدُّ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ بِلَفْظِ: قَالَ رَبُّكُمْ: مَنْ أَذْهَبْتُ كَرِيمَتَيْهِ ثُمَّ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ كَانَ ثَوَابُهُ الْجَنَّةَ. وَأَمَّا مُتَابَعَةُ أَبِي ظِلَالٍ فَأَخْرَجَهَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسٍ فَقَالَ

ص: 116

لِي: ادْنُهْ، مَتَى ذَهَبَ بَصَرُكَ؟ قُلْتُ: وَأَنَا صَغِيرٌ. أَلَّا أُبَشِّرُكَ؟ قُلْتُ: بَلَى فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: مَا لِمَنْ أَخَذْتُ كَرِيمَتَيْهِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي ظِلَالٍ بِلَفْظِ: إِذَا أَخَذْتُ كَرِيمَتَيْ عَبْدِي فِي الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ جَزَاءٌ عِنْدِي إِلَّا الْجَنَّةُ.

(تَنْبِيهٌ): أَبُو ظِلَالٍ بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُشَالَةِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّخْفِيفِ اسْمُهُ هِلَالٌ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي الْأَصْلِ أَبُو ظِلَالِ بْنُ هِلَالٍ صَوَابُهُ إِمَّا أَبُو ظِلَالٍ هِلَالٌ بِحَذْفِ ابْنُ وَإِمَّا أَبُو ظِلَالِ بْنُ أَبِي هِلَالٍ بِزِيَادَةِ أَبِي وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِيهِ فَقِيلَ مَيْمُونٌ وَقِيلَ سُوَيْدٌ وَقِيلَ يَزِيدُ وَقِيلَ زَيْدٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ إِنَّهُ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي صَحِيحِهِ غَيْرُ هَذِهِ الْمُتَابَعَةِ. وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ ذَكَرَهُ فِي الثِّقَاتِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ ابْنَ حِبَّانَ ذَكَرَهُ فِي الضُّعَفَاءِ.

فَقَالَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الثِّقَاتِ هِلَالَ بْنَ أَبِي هِلَالٍ آخَرَ رَوَى عَنْهُ يَحْيَى بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، وَقَدْ فَرَّقَ الْبُخَارِيُّ بَيْنَهُمَا، وَلَهُمْ شَيْخٌ ثَالِثٌ يُقَالُ لَهُ هِلَالُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ تَابِعِيٌّ أَيْضًا رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ أَصْلَحُ حَالًا فِي الْحَدِيثِ مِنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌8 - بَاب عِيَادَةِ النِّسَاءِ الرِّجَالَ، وَعَادَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْأَنْصَارِ

5654 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ: وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ رضي الله عنهما. قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، قُلْتُ: يَا أَبَتِ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ

وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ يَقُولُ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ

وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ عِيَادَةِ النِّسَاءِ الرِّجَالَ) أَيْ وَلَوْ كَانُوا أَجَانِبَ بِالشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ.

قَوْلُهُ: (وَعَادَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنَ الْأَنْصَارِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لِأَبِي الدَّرْدَاءِ زَوْجَتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا أُمُّ الدَّرْدَاءِ، فَالْكُبْرَى اسْمُهَا خَيْرَةُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ صَحَابِيَّةٌ، وَالصُّغْرَى اسْمُهَا هُجَيْمَةُ بِالْجِيمِ وَالتَّصْغِيرِ وَهِيَ تَابِعِيَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْكُبْرَى، وَالْمَسْجِدُ مَسْجِدُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ. قُلْتُ: وَمَا ادَّعَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ الصُّغْرَى، لِأَنَّ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَهُوَ شَامِيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ لَمْ يَلْحَقْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ الْكُبْرَى، فَإِنَّهَا مَاتَتْ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: رَأَيْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ عَلَى رَحَّالَةِ أَعْوَادٍ لَيْسَ لَهَا غِشَاءٌ تَعُودُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ أَنَّ أُمَّ الدَّرْدَاءِ كَانَتْ تَجْلِسُ فِي

ص: 117

الصَّلَاةِ جِلْسَةَ الرَّجُلِ، وَكَانَتْ فَقِيهَةً، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّهَا الصُّغْرَى وَالصُّغْرَى عَاشَتْ إِلَى أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَمَاتَتْ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ بَعْدَ الْكُبْرَى بِنَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا الْحَدِيثَ، وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ الْحِجَابِ قَطْعًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ الْحِجَابِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِشَرْطِ التَّسَتُّرِ، وَالَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مَا قَبْلَ الْحِجَابِ وَمَا بَعْدَهُ الْأَمْنُ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ الْهِجْرَةِ مِنْ أَوَائِلِ الْمَغَازِي، وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الَّذِي أَوَّلُهُ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ

كَذَا هُوَ بِالتَّنْكِيرِ وَالْإِبْهَامِ، وَالْمُرَادُ بِهِ وَادِي مَكَّةَ. وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الشِّعْرَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ لِبِلَالٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ بِلَالٌ يَتَمَثَّلُ بِهِ، وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ:

هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِمَكَّةَ حَوْلِي

وَقَوْلُهُ شَامَةُ وَطُفَيْلُ هُمَا جَبَلَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَصَوَّبَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ، وَقَوْلُهُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ أَيْ تَجِدُ نَفْسَكَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِحْسَاسُ، أَيْ كَيْفَ تَعْلَمُ حَالَ نَفْسِكَ.

‌9 - بَاب عِيَادَةِ الصِّبْيَانِ

5655 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَاصِمٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، أَنَّ ابْنَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَعْدٌ، وَأُبَيٌّ: نَحْسِبُ أَنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ فَاشْهَدْنَا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا السَّلَامَ، وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى، فَلْتَحْتَسِبْ وَلْتَصْبِرْ. فَأَرْسَلَتْ تُقْسِمُ عَلَيْهِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقُمْنَا، فَرُفِعَ الصَّبِيُّ فِي حَجْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَفْسُهُ تقمقع، فَفَاضَتْ عَيْنَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ وَضَعَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الرُّحَمَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ عِيَادَةِ الصِّبْيَانِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي قِصَّةِ وَلَدِ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ.

وقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنَّ ابْنَةَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنَّ بِنْتًا وَقَوْلُهُ فَأَشْهَدَنَا كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَاشْهَدَهَا وَالْمُرَادُ بِهِ الْحُضُورُ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ الرَّحْمَةُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَيْضًا هَذِهِ رَحْمَةٌ بِالتَّنْكِيرِ.

‌10 - بَاب عِيَادَةِ الْأَعْرَابِ

5656 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ لَهُ: لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: قُلْتَ: طَهُورٌ؟ كَلَّا، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ - أَوْ تَثُورُ - عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَنَعَمْ إِذًا.

ص: 118

قَوْلُهُ: (بَابُ عِيَادَةِ الْأَعْرَابِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ هُمْ سُكَّانُ الْبَوَادِي. 8456 قَوْلُهُ: (خَالِدٌ) هُوَ الْحَذَّاءُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: رَوَاهُ وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فَأَرْسَلَهُ. قُلْتُ: قَدْ وَصَلَهُ أَيْضًا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا هُنَا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَوَصَلَهُ أَيْضًا الثَّقَفِيُّ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، فَإِذَا وَصَلَهُ ثَلَاثَةٌ من الثقات لَمْ يَضُرَّهُ إِرْسَالُ وَاحِدٍ.

قَوْلُهُ: (دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ) تَقَدَّمَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ بَيَانُ اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (لَا بَأْسَ) أَيْ أَنَّ الْمَرَضَ يُكَفِّرُ الْخَطَايَا، فَإِنْ حَصَلَتِ الْعَافِيَةُ فَقَدْ حَصَلَتِ الْفَائِدَتَانِ، وَإِلَّا حَصَلَ رِبْحُ التَّكْفِيرِ. وَقَوْلُهُ طَهُورٌ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ طَهُورٌ لَكَ مِنْ ذُنُوبِكَ أَيْ مَطْهَرَةٌ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ لَفْظَ الطَّهُورِ لَيْسَ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ فَقَطْ، وَقَوْلُهُ إِنَّ شَاءَ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ طَهُورٌ دُعَاءٌ لَا خَبَرٌ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ) بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ.

قَوْلُهُ: (بَلْ هِيَ) أَيِ الْحُمَّى، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَلْ هُوَ أَيِ الْمَرَضُ.

قَوْلُهُ: (تَفُورُ أَوْ تَثُورُ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي هَلْ قَالَهَا بِالْفَاءِ أَوْ بِالْمُثَلَّثَةِ وَهُمَا بِمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (تُزِيرُهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ أَزَارَهُ إِذَا حَمَلَهُ عَلَى الزِّيَارَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.

قَوْلُهُ: (فَنَعَمْ إِذًا) الْفَاءُ فِيهِ مُعَقِّبَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ إِذَا أَبَيْتُ فَنَعَمْ، أَيْ كَانَ كَمَا ظَنَنْتَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دُعَاءً عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَمَّا يَئولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّهُ سَيَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ فَدَعَا لَهُ بِأَنْ تَكُونَ الْحُمَّى لَهُ طُهْرَةً لِذُنُوبِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ بِذَلِكَ لَمَّا أَجَابَهُ الْأَعْرَابِيُّ بِمَا أَجَابَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ أَنَّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ شُرَحْبِيلَ وَالِدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ الْمَذْكُورَ أَصْبَحَ مَيِّتًا. وَأَخْرَجَهُ الدُّولَابِيُّ فِي الْكُنَى وَابْنُ السَّكَنِ فِي الصَّحَابَةِ وَلَفْظُهُ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا قَضَى اللَّهُ فَهُوَ كَائِنٌ. فَأَصْبَحَ الْأَعْرَابِيُّ مَيِّتًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا نَحْوَهُ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: فَائِدَةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا نَقَصَ عَلَى الْإِمَامِ فِي عِيَادَةِ مَرِيضٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَلَوْ كَانَ أَعْرَابِيًّا جَافَيَا، وَلَا عَلَى الْعَالَمِ فِي عِيَادَةِ الْجَاهِلِ لَيُعَلِّمَهُ وَيُذَكِّرَهُ بِمَا يَنْفَعُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِالصَّبْرِ لِئَلَّا يَتَسَخَّطَ قَدَرَ اللَّهِ فَيَسْخَطُ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّيهِ عَنْ أَلَمِهِ بَلْ يَغْبِطُهُ بِسَقَمِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جَبْرِ خَاطِرِهِ وَخَاطِرِ أَهْلِهِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَلَقَّى الْمَوْعِظَةَ بِالْقَبُولِ، وَيُحْسِنُ جَوَابَ مَنْ يُذَكِّرُهُ بِذَلِكَ.

‌11 - بَاب عِيَادَةِ الْمُشْرِكِ

5657 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ غُلَامًا لِيَهُودَ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَالَ: أَسْلِمْ. فَأَسْلَمَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ: لَمَّا حُضِرَ أَبُو طَالِبٍ جَاءَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (بَابُ عِيَادَةِ الْمُشْرِكِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا تُشْرَعُ عِيَادَتُهُ إِذَا رُجِيَ أَنْ يُجِيبَ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَطْمَعْ فِي ذَلِكَ فَلَا. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ، فَقَدْ يَقَعُ بِعِيَادَتِهِ مَصْلَحَةٌ أُخْرَى. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عِيَادَةُ الذِّمِّيِّ جَائِزَةٌ، وَالْقُرْبَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى نَوْعِ حُرْمَةٍ تَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ جِوَارٍ أَوْ قَرَابَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْغُلَامِ الْيَهُودِيِّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَذَكَرَ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الْقُدُّوسِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَصَصِ وَفِي الْجَنَائِزِ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْجَنَائِزِ.

ص: 119

‌12 - بَاب إِذَا عَادَ مَرِيضًا فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً

5658 -

حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ يَعُودُونَهُ فِي مَرَضِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا، فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ: أن اجْلِسُوا، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ: إِنَّ الْإِمَامَ لَيُؤْتَمُّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِنْ صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخِرَ مَا صَلَّى صَلَّى قَاعِدًا وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا عَادَ مَرِيضًا فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى) أَيِ الْمَرِيضُ (بِهِمْ) أَيْ بِمَنْ عَادَهُ.

قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ يَعُودُونَهُ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا قَوْلُ الْحُمَيْدِيِّ الْمَذْكُورُ فِي آخِرِهِ.

‌13 - بَاب وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ

5659 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْجُعَيْدُ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ: أَنَّ أَبَاهَا قَالَ: تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ شَكْوى شَدِيدة، فَجَاءَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أَتْرُكُ مَالًا، وَإِنِّي لَمْ أَتْرُكْ إِلَّا بنتا وَاحِدَةً، فَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي وَأَتْرُكُ الثُّلُثَ؟ فَقَالَ: لَا. قُلْتُ: فَأُوصِي بِالنِّصْفِ وَأَتْرُكُ النِّصْفَ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَأُوصِي بِالثُّلُثِ، وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ. ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وَبَطْنِي، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ. فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيمَا يُخَالُ إِلَيَّ حَتَّى السَّاعَةِ.

5660 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قال: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ. فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَجَلْ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى: مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ تَأْنِيسٌ لَهُ وَتَعَرُّفٌ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ لِيَدْعُوَ لَهُ بِالْعَافِيَةِ عَلَى حَسَبِ مَا يَبْدُو لَهُ مِنْهُ، وَرُبَّمَا رَقَاهُ بِيَدِهِ وَمَسَحَ عَلَى أَلَمِهِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَلِيلُ إِذَا كَانَ الْعَائِدُ صَالِحًا. قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ الْعَائِدُ عَارِفًا بِالْعِلَاجِ فَيَعْرِفُ الْعِلَّةَ فَيَصِفُ لَهُ مَا يُنَاسِبُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ

ص: 120

تَقَدَّمَا:

أَحَدُهُمَا حَدِيثُ سَعدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْوَصَايَا، وَأَوْرَدَهُ هُنَا عَالِيًا مِنْ طَرِيقِ الْجُعَيْدِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ شَكْوَى شَدِيدَةً فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي شَدِيدًا بِالتَّذْكِيرِ عَلَى إِرَادَةِ الْمَرَضِ وَالشَّكْوَى بِالْقَصْرِ الْمَرَضُ وَقَوْلُهُ: وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَيْنِ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مَحْفُوظَةً، فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدْ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الرَّدِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ سَعْدًا كَانَ لَهُ حِينَئِذٍ عَصَبَاتٌ وَزَوْجَاتٌ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ، وَيَكُونُ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَيْنِ، أَيْ وَلِغَيْرِهَا مِنَ الْوَرَثَةِ. وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِتَقَدُّمِهَا عِنْدَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي فَتَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنَاهُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَلَمْ يُرِدْ ظَاهِرَ الْحَصْرِ. وَقَوْلُهُ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَى جَبْهَتِي وَبِهَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَجْرِيدًا، وَقَوْلُهُ فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ أَيْ بَرْدَ يَدِهِ، وَذُكِّرَ بِاعْتِبَارِ الْعُضْوِ أَوِ الْكَفِّ أَوِ الْمَسْحِ. وَقَوْلُهُ فِيمَا يُخَالُ إِلَيَّ قَالَ ابْنُ التِّينِ: صَوَابُهُ فِيمَا يُخَيَّلُ إِلَيَّ بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّهُ مِنَ التَّخَيُّلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} قُلْتُ: وَأَقَرَّهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَهُوَ عَجِيبٌ. فَإِنَّ الْكَلِمَةَ صَوَابٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى يُخَيَّلُ قَالَ فِي الْمُحْكَمِ: خَالَ الشَّيْءَ يَخَالُهُ يَظُنُّهُ وَتَخَيَّلَهُ ظَنَّهُ، وَسَاقَ الْكَلَامَ عَلَى الْمَادَّةِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كَفَّارَةِ الْمَرْضَى. وَقَوْلُهُ: فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي بِكَسْرِ السِّينِ الْأُولَى وَهِيَ مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ، وَجَاءَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَادَ مَرِيضًا يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَأْلَمُ ثُمَّ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ رَفَعَهُ تَمَام عِيَادَةُ الْمَرِيضِ أَنْ يَضَعَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ فَيَسْأَلُهُ كَيْفَ هُوَ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ وَلَفْظُهُ: فَيَقُولُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ أَوْ كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟

‌14 - بَاب مَا يُقَالُ لِلْمَرِيضِ وَمَا يُجِيبُ

5661 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ، فَمَسِسْتُهُ - وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا - فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: أَجَلْ، وَمَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلَّا حَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ

5662 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ: كَلَّا، بَلْ هي حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، حتى تُزِيرَهُ الْقُبُورَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَنَعَمْ إِذًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُقَالُ لِلْمَرِيضِ وَمَا يُجِيبُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: حُمَّى تَفُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا قَرِيبًا، وَفِيهِ بَيَانُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عِنْدَ الْمَرِيضِ وَفَائِدَةُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي الْأَجَلِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَهُوَ يُطَيِّبُ نَفْسَ الْمَرِيضِ. وَفِي سَنَدِهِ لِينٌ. وَقَوْلُهُ: نَفِّسُوا أَيْ أَطَمِعُوهُ فِي الْحَيَاةِ، فَفِي ذَلِكَ تَنْفِيسٌ لِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ

ص: 121

الْكَرْبِ وَطُمَأْنِينَةِ لِقَلْبِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْأَعْرَابِيِّ لَا بَأْسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا بِسَنَدٍ حَسَنٍ، لَكِنْ فِيهِ انْقِطَاعٌ عَنْ عُمَرَ رَفَعَهُ: إِذَا دَخَلْتُ عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ يَدْعُو لَكَ فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مَا يُجِيبُ بِهِ الْمَرِيضُ، وَأَوْرَدَ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ، لِلْحَجَّاجِ لَمَّا قَالَ لَهُ: مَنْ أَصَابَكَ؟ قَالَ: أَصَابَنِي مَنْ أَمَرَ يحَمْلِ السِّلَاح فِي يَوْمِ لَا يَحِلُّ فِيهِ حَمْلُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْعِيدَيْنِ.

‌15 - بَاب عِيَادَةِ الْمَرِيضِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَرِدْفًا عَلَى الْحِمَارِ

5663 -

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ، يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَسَارَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بْنُ سَلُولَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ، وَفِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا. فَسَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَوَقَفَ وَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا، فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ.

فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يخفضهم حَتَّى سَكَتُوا، فَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَيْ سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ - يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ - قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ، فَلَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ مَا أَعْطَاكَ، وَلَقَدْ اجْتَمَعَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ، فَلَمَّا رَدَّ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ الله شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ.

5664 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ المُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلَا بِرْذَوْنٍ".

قَوْلُهُ: (بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَرِدْفًا عَلَى الْحِمَارِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارِ وَفِيهِ أَنَّهُ أَرْدَفَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ. وقَوْلُهُ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَى قَطِيفَةٍ، عَلَى الثَّالِثَةُ بَدَلٌ مِنَ الثَّانِيَةِ وَهِيَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِكَافَ يَلِي الْحِمَارَ وَالْقَطِيفَةَ فَوْقَ الْإِكَافِ وَالرَّاكِبَ فَوْقَ الْقَطِيفَةِ، وَالْإِكَافُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ مَا يُوضَعُ عَلَى الدَّابَّةِ كَالْبَرْذَعَةِ، وَالْقَطِيفَةُ كِسَاءٌ، وَقَوْلُهُ فَدَكِيَّةٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالدَّالِ وَكَسْرِ الْكَافِ نِسْبَةٌ إِلَى فَدَكٍ الْقَرْيَةِ الْمَشْهُورَةِ، كَأَنَّهَا صُنِعَتْ فِيهَا، وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ فَرَكِبَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ مِنَ

ص: 122

الرُّكُوبِ وَالضَّمِيرُ لِلْحِمَارِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ بَيِّنٌ.

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ جَاءَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلَا بِرْذَوْنٍ هَذَا الْقَدْرُ أَفْرَدَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَجَعَلَهُ الْحُمَيْدِيُّ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوَّلُهُ: مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ وَأَظُنُّ الَّذِي صَنَعَهُ هُوَ الصَّوَابُ.

‌16 - بَاب ما رخص للمريض أن يقول: إِنِّي وَجِعٌ، أَوْ وَا رَأْسَاهْ، أَوْ اشْتَدَّ بِي الْوَجَعُ

وَقَوْلِ أَيُّوبَ عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}

5665 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَأَيُّوبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قال: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ الْقِدْرِ، فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَا الْحَلَّاقَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ أَمَرَنِي بِالْفِدَاءِ.

5666 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَبُو زَكَرِيَّاءَ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ وَارَأْسَاهْ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرَ لَكِ وَأَدْعُوَ لَكِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَا ثُكْلِيَاهْ وَاللَّهِ إِنِّي لَاظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّساً بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ وَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ ثُمَّ قُلْتُ يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ".

[الحديث 5666 - طرفه في: 7217]

5667 -

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً قَالَ أَجَلْ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ قَالَ لَكَ أَجْرَانِ قَالَ نَعَمْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلاَّ حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا".

5668 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي زَمَنَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقُلْتُ بَلَغَ بِي مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا قُلْتُ بِالشَّطْرِ قَالَ لَا قُلْتُ الثُّلُثُ قَالَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا رُخِّصَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقُولَ إِنِّي وَجِعٌ أَوْ وَارَأْسَاهُ أَوِ اشْتَدَّ بِي الْوَجَعُ، وَقَوْلُ أَيُّوبَ عليه السلام:{مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أَمَّا قَوْلُهُ إِنِّي وَجِعٌ فَتَرْجَمَ بِهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَوْرَدَهُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ

ص: 123

هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى أَسْمَاءَ - يَعْنِي بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَهِيَ أُمُّهُمَا - وَأَسْمَاءُ وَجِعَةٌ، فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ: كَيْفَ تَجِدِينَكِ؟ قَالَتْ: وَجِعْتُ الْحَدِيثَ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا رَوَى صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَأَلْتُهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَقُلْتُ: أَصْبَحْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا؟ قَالَ: أَمَا إِنِّي عَلَى مَا تَرَى وَجِعٌ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَارَأْسَاهُ فَصَرِيحٌ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: اشْتَدَّ بِي الْوَجَعُ، فَهُوَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ الَّذِي فِي آخِرِ الْبَابِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَيُّوبَ عليه السلام فَاعْتَرَضَ ابْنُ التِّينِ، ذَكَرَهُ فِي التَّرْجَمَةِ، فَقَالَ: هَذَا لَا يُنَاسِبُ التَّبْوِيبَ، لِأَنَّ أَيُّوبَ إِنَّمَا قَالَهُ دَاعِيًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِلْمَخْلُوقِينَ.

قُلْتُ: لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مُطْلَقَ الشَّكْوَى لَا يُمْنَعُ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الدُّعَاءَ بِكَشْفِ الْبَلَاءِ يَقْدَحُ فِي الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الطَّلَبَ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ مَمْنُوعًا، بَلْ فِيهِ زِيَادَةُ عِبَادَةٍ، لِمَا ثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الْمَعْصُومِ، وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَثْبَتَ لَهُ اسْمَ الصَّبْرِ مَعَ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِّينَا فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ فِي فَوَائِدِ مَيْمُونَةَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: أَنَّ أَيُّوبَ لَمَّا طَالَ بَلَاؤُهُ رَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، غَيْرَ رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَيُّوبَ - يَعْنِي فَجَزِعَ مِنْ قَوْلِهِ - وَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ مَا بِهِ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ نُمَيْرٍ مَو قُوفًا عَلَيْهِ نَحْوُهُ، وَقَالَ فِيهِ: فَجَزِعَ مِنْ قَوْلِهِمَا جَزَعًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: بِعِزَّتِكَ لَا أَرْفَعُ رَأْسِي حَتَّى تَكْشِفَ عَنِّي، وَسَجَدَ، فَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى كَشَفَ عَنْهُ. فَكَأَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ مِنْ شَكْوَى الْمَرِيضِ مَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ طَرِيقِ التَّسَخُّطِ لِلْقَدْرِ وَالتَّضَجُّرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَلَمَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَفْعِهِ، وَالنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى وِجْدَانِ ذَلِكَ فَلَا يُسْتَطَاعُ تَغْيِيرُهَا عَمَّا جُبِلَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ الْعَبْدُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُ فِي حَالِ الْمُصِيبَةِ مَا لَهُ سَبِيلٌ إِلَى تَرْكِهِ كَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّأَوُّهِ وَالْجَزَعِ الزَّائِدِ كَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مَعَانِي أَهْلِ الصَّبْرِ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ التَّشَكِّي فَلَيْسَ مَذْمُومًا حَتَّى يَحْصُلَ التَّسَخُّطُ لِلْمَقْدُورِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ شَكْوَى الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَشَكْوَاهُ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُهُ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ التَّضَجُّرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَى أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنِينُ الْمَرِيضِ شَكْوَى، وَجَزَمَ أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ أَنِينَ الْمَرِيضِ وَتَأَوُّهَهُ مَكْرُوهٌ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: هَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ مَا ثَبَتَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ، وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ ذَلِكَ. ثُمَّ احْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْبَابِ، ثُمَّ قَالَ: فَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِالْكَرَاهَةِ خِلَافَ الْأَوْلَى، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالذِّكْرِ أَوْلَى اهـ. وَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوهُ بِالْمَعْنَى مِنْ كَوْنِ كَثْرَةِ الشَّكْوَى تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْيَقِينِ، وَتُشْعِرُ بِالتَّسَخُّطِ لِلْقَضَاءِ، وَتُورِثُ شَمَاتَةَ الْأَعْدَاءِ. وَأَمَّا إِخْبَارُ الْمَرِيضِ صَدِيقَهُ أَوْ طَبِيبَهُ عَنْ حَالِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ اتِّفَاقًا، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي حَلْقِ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ إِذَا آذَاهُ الْقَمْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ، هُوَ مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ لِنِسْبَةِ الْأَذَى لِلْهَوَامِّ، وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ اسْمٌ لِلْحَشَرَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَهُمُّ أَنْ تَدُبَّ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الرَّأْسِ اخْتَصَّتْ بِالْقَمْلِ.

الثَّانِي حَدِيثُ عَائِشَةَ

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَبُو زَكَرِيَّا)، هُوَ النَّيْسَابُورِيُّ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ فِي الزَّكَاةِ وَالْوَكَالَةِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْأَحْلَامِ، وَأَكْثَرَ عَنْهُ مُسْلِمٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَأنَّ أَحْمَدَ كَانَ يَتَمَنَّى لَوْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ إِلَى نَيْسَابُورَ لِيَسْمَعَ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَكِنْ

ص: 124

أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ.

قَوْلُهُ: (وَا رَأْسَاهُ) هُوَ تَفَجُّعٌ عَلَى الرَّأْسِ لِشِدَّةِ مَا وَقَعَ بِهِ مِنَ أَلْمِ الصُّدَاعِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِنَازَةٍ مِنَ الْبَقِيعِ فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي وَأَنَا أَقُولُ: وَا رَأْسَاهُ.

قَوْلُهُ: (ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ) ذَاكِ بِكَسْرِ الْكَافِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَسْتَلْزِمُ الْمَرَضُ مِنَ الْمَوْتِ، أَيْ: لَوْ مُتَّ وَأَنَا حَيٌّ، وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ جَوَابُ عَائِشَةَ، وَقَدْ وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ قَالَ: مَا ضَرَّكَ لَوْ مُتَ قَبْلِي فَكَفَّنْتُكَ ثُمَّ صَلَّيْتُ عَلَيْكَ وَدَفَنْتُكَ، وَقَوْلُهَا: وَاثُكْلَيَاهُ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَبِكَسْرِهَا مَعَ التَّحْتَانِيَّةِ الْخَفِيفَةِ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ هَاءٌ لِلنُّدْبَةِ، وَأَصْلُ الثَّكَلِ فَقْدُ الْوَلَدِ أَوْ مَنْ يَعِزُّ عَلَى الْفَاقِدِ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَهُ هُنَا مُرَادَةً، بَلْ هُوَ كَلَامٌ كَانَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ عِنْدَ حُصُولِ الْمُصِيبَةِ أَوْ تَوَقُّعِهَا. وَقَوْلُهَا: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي كَأَنَّهَا أَخَذَتْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ لَهَا: لَوْ مُتِّ قَبْلِي، وَقَوْلُهَا: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: ذَاكَ بِغَيْرِ لَامٍ أَيْ مَوْتُهَا لَظَلَلْتُ آخِرَ يَوْمِكِ مُعَرِّسًا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَالتَّخْفِيفِ، يُقَالُ: أَعْرَسَ وَعَرَّسَ إِذَا بَنَى عَلَى زَوْجَتِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ جِمَاعٍ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، فَإِنَّ التَّعْرِيسَ النُّزُولُ بِلَيْلٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ: لَكَأَنِّي بِكَ وَاللَّهِ لَوْ قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَقَدْ رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي فَأَعْرَسْتُ بِبَعْضِ نِسَائِكِ.

قَالَتْ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُا: بَلِ أَنَا وَا رَأْسَاهُ، هِيَ كَلِمَةُ إِضْرَابٍ، وَالْمَعْنَى: دَعِي ذِكْرَ مَا تَجِدِينَهُ مِنْ وَجَعِ رَأْسِكِ وَاشْتَغِلِي بِي، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ: ثُمَّ بُدِئَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ: أَوْ وَدِدْتُ، بَدَلَ: أَرَدْتُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْوَاوِ وَأَلِفِ الْوَصْلِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالنُّونِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَوِ ابْنِهِ بِلَفْظِ أَوِ الَّتِي لِلشَّكِّ، وأَوْ لِلتَّخْيِيرِ، وَفِي أُخْرَى: أَوِ آتِيهِ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ مِنَ الْإِتْيَانِ بِمَعْنَى الْمَجِيءِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ تَصْوِيبَهَا وَخَطَأَهُ. وَقَالَ: وَيُوَضِّحُ الصَّوَابَ قَوْلُهُا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَجِيئَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ كَانَ مُتَعَسِّرًا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ حُضُورِ الصَّلَاةِ مَعَ قُرْبِ مَكَانِهَا مِنْ بَيْتِهِ. قُلْتُ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدِ اسْتَمَرَّ يُصَلِّي بِهِمْ وَهُوَ مَرِيضٌ وَيَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ حَتَّى عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَانْقَطَعَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ هَمَمْتُ إِلَخْ، وَقَعَ بَعْدَ الْمُفَاوَضَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَائِشَةَ بِمُدَّةٍ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ بِخِلَافِهِ.

وَيُؤَيِّدُ أَيْضًا مَا فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمَقَامَ كَانَ مَقَامُ اسْتِمَالَةِ قَلْبِ عَائِشَةَ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ يُفَوَّضُ لِأَبِيكِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِحُضُورِ أَخِيكِ، هَذَا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ الْعَهْدَ بِالْخِلَافَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ إِحْضَارَ بَعْضِ مَحَارِمِهَا حَتَّى لَوِ احْتَاجَ إِلَى قَضَاءِ حَاجَةٍ أَوِ الْإِرْسَالَ إِلَى أَحَدٍ لَوَجَدَ مَنْ يُبَادِرُ لِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَأَعْهَدُ)، أَيْ: أُوصِي.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ) أَيْ لِئَلَّا يَقُولَ، أَوْ كَرَاهَةُ أَنْ يَقُولَ.

قَوْلُهُ: (أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ) بِضَمِّ النُّونِ جَمْعُ مُتَمَنِّي بِكَسْرِهَا، وَأَصْلُ الْمُتَمَنِّيُونَ فَاسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْيَاءِ فَحُذِفَتْ فَاجْتَمَعَتْ كَسْرَةُ النُّونِ بَعْدَهَا الْوَاوُ فَضُمَّتِ النُّونُ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْغَيْرَةِ، وَفِيهِ مُدَاعَبَةُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَالْإِفْضَاءُ إِلَيْهِمْ بِمَا يَسْتُرُهُ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَفِيهِ أَنَّ ذِكْرَ الْوَجَعِ لَيْسَ بِشِكَايَةٍ، فَكَمْ مِنْ

ص: 125

سَاكِتٍ وَهُوَ سَاخِطٌ، وَكَمْ مِنْ شَاكٍّ وَهُوَ رَاضٍ، فَالْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ عَلَى عَمَلِ الْقَلْبِ لَا عَلَى نُطْقِ اللِّسَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الحديث الثالث حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَمَسْتُهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ تَحْرِيفٌ، وَوُجِّهَتْ بِأَنَّ هُنَاكَ حَذْفًا وَالتَّقْدِيرُ فَسَمِعْتُ أَنِينَهُ.

الحديث الرابع حَدِيثُ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، وَقَوْلُهُ: زَمَنُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: إنَّ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْفَتْحِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌17 - بَاب قَوْلِ الْمَرِيضِ قُومُوا عَنِّي

5669 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ. ح، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الْمَرِيضِ قُومُوا عَنِّي) أَيْ إِذَا وَقَعَ مِنَ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيِّ، وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْمُسْنَدِيُّ، وَسَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا عَلَى لَفْظِ هِشَامٍ، وَسَبَقَ لَفْظُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَوَقَعَ هُنَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا عَنِّي، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَلَمْ أَسْتَحْضِرْهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْمَغَازِي، فَنَسَبْتُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِابْنِ سَعْدٍ، وَعَزْوُهَا لِلْبُخَارِيِّ أَوْلَى. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَدَبَ فِي الْعِيَادَةِ أَنْ لَا يُطِيلَ الْعَائِدُ عِنْدَ الْمَرِيضِ حَتَّى يُضْجِرَهُ، وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمُ عِنْدَهُ بِمَا يُزْعِجُهُ. وَجُمْلَةُ آدَابِ الْعِيَادَةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ، وَمِنْهَا مَا لَا يَخْتَصُّ بِالْعِيَادَةِ: أَنْ لَا يُقَابِلَ الْبَابَ عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ، وَأَنْ يَدُقَّ الْبَابِ بِرِفْقٍ، وَأَنْ لَا يُبْهِمَ نَفْسَهُ كَأَنْ يَقُولَ أَنَا، وَأَنْ لَا يَحْضُرَ فِي وَقْتٍ يَكُونُ غَيْرَ لَائِقٍ بِالْعِيَادَةِ كَوَقْتِ شُرْبِ الْمَرِيضِ الدَّوَاءَ، وَأَنْ يُخَفِّفَ الْجُلُوسَ، وَأَنْ يَغُضَّ الْبَصَرَ، وَيُقَلِّلَ السُّؤَالَ، وَأَنْ يُظْهِرَ الرِّقَّةَ، وَأَنْ يُخْلِصَ الدُّعَاءَ، وَأَنْ يُوَسِّعَ لِلْمَرِيضِ فِي الْأَمَلِ، وَيُشِيرَ عَلَيْهِ بِالصَّبْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ جَزِيلِ الْأَجْرِ، وَيُحَذِّرُهُ مِنَ الْجَزَعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوِزْرِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ) سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ.

‌18 - بَاب مَنْ ذَهَبَ بِالصَّبِيِّ الْمَرِيضِ لِيُدْعَى لَهُ

ص: 126

5670 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ - هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ -، عَنْ الْجُعَيْدِ، قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ. فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ. ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، وَقُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ ذَهَبَ بِالصَّبِيِّ الْمَرِيضِ لِيُدْعَى لَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لِيَدْعُوَ لَهُ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْجُعَيْدِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالسَّائِبُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مَشْرُوحًا فِي التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ خَالَةَ السَّائِبِ لَا يُعْرَفُ اسْمُهَا، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى خُصُوصِ الْمَسْحِ عَلَى رَأْسِ الْمَرِيضِ وَالدُّعَاءِ بِالْبَرَكَةِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌19 - بَاب تَمَنِّي الْمَرِيضِ الْمَوْتَ

5671 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي.

[الحديث 5671 - طرفاه في: 6351، 7233]

5672 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: "دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ نَعُودُهُ وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ فَقَالَ إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ سَلَفُوا مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعاً إِلاَّ التُّرَابَ وَلَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يَبْنِي حَائِطاً لَهُ فَقَالَ إِنَّ الْمُسْلِمَ لَيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ إِلاَّ فِي شَيْءٍ يَجْعَلُهُ فِي هَذَا التُّرَابِ".

[الحديث 5672 - أطرافه في: 6349، 6350، 6430، 6431، 7234]

5673 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا وَلَا أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْراً وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ".

5674 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأعلى".

ص: 127

قَوْلُهُ: (بَابُ تَمَنِّي الْمَرِيضِ الْمَوْتَ) أَيْ هَلْ يُمْنَعُ مُطْلَقًا أَوْ يَجُوزُ فِي حَالَةٍ؟ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ نَهْيُ تَمَنِّي الْمَرِيضِ الْمَوْتَ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُ تَمَنِّي الْمَرِيضِ. وَذَكَرَ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ أَنَسٍ

قَوْلُهُ: (لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ) الْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ، وَالْمُرَادُ هُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا، وَقَوْلُهُ: مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، حَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى الضُّرِّ الدُّنْيَوِيِّ، فَإِنْ وَجَدَ الضر الْأُخْرَوِيَّ بِأَنْ خَشِيَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَنَّ فِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ أَمْرٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: فَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلَا مُفَرِّطٍ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبَسٍ وَيُقَالُ: عَابِسٌ الْغِفَارِيُّ أَنَّهُ قَالَ: يَا طَاعُونُ خُذْنِي. فَقَالَ لَهُ عُلَيْمٌ الْكِنْدِيُّ: لِمَ تَقُولُ هَذَا؟ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا، إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ الشُّرَطِ، وَبَيْعَ الْحُكْمِ، الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ نَحْوَهُ وَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا عَمَّرَ الْمُسْلِمُ كَانَ خَيْرًا لَهُ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ الْجَوَابُ نَحْوَهُ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ مُعَاذٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فِي الْقَوْلِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَفِيهِ: وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمِ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ: فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَقُلِ

إِلَخْ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ، لِأَنَّ فِي التَّمَنِّي الْمُطْلَقِ نَوْعَ اعْتِرَاضٍ وَمُرَاغَمَةٍ لِلْقَدْرِ الْمَحْتُومِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا نَوْعُ تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ لِلْقَضَاءِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ إِلَخْ، فِيهِ مَا يَصْرِفُ الْأَمْرَ عَنْ حَقِيقَتِهِ مِنَ الْوُجُوبِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِمُطْلَقِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ لَا يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ. الْحَدِيثَ، أَيِ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى اللُّقَيْمَاتِ فَلِيَقْتَصِرْ عَلَى الثُّلُثِ، فَهُوَ إِذْنٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الثُّلُثِ، لَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَلَا الِاسْتِحْبَابَ.

قَوْلُهُ: (مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ) عَبَّرَ فِي الْحَيَاةِ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَتْ؛ لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ، فَحَسَنٌ أَنْ يَأْتِيَ بِالصِّيغَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاتِّصَافِ بِالْحَيَاةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْوَفَاةُ لَمْ تَقَعْ بَعْدُ حَسُنَ أَنْ يَأْتِيَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ يشمل مَا إِذَا كَانَ الضُّرُّ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا، وَسَيَأْتِي فِي التَّمَنِّي مِنْ رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَتَمَنَّيْتُهُ، فَلَعَلَّهُ رَأَى أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ مِنَ التَّمَنِّي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ خَبَّابٍ

قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ) لِشُعْبَةَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ عَنْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى خَبَّابٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ) فِي رِوَايَةِ حَارِثَةَ: وَقَدِ اكْتَوَى فِي بَطْنِهِ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَقِيتُ، أَيْ: مِنَ الْوَجَعِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَحَكَى شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْبَلَاءِ مَا فُتِحَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَجِدُ دِرْهَمًا، كَمَا وَقَعَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ حَارِثَةَ الْمَذْكُورَةِ عَنْهُ، قَالَ: لَقَدْ كُنْتُ وَمَا أَجِدُ دِرْهَمًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي نَاحِيَةِ بَيْتِي أَرْبَعُونَ أَلْفًا، يَعْنِي الْآنَ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ أَكْثَرَ مَالًا مِنْهُ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا لَقِيَ مِنَ التَّعْذِيبِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنَ

ص: 128

الْمُشْرِكِينَ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ اتِّسَاعَ الدُّنْيَا عَلَيْهِ يَكُونُ ثَوَابَ ذَلِكَ التَّعْذِيبِ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ لَوْ بَقِيَ لَهُ أَجْرُهُ مُوَفَّرًا فِي الْآخِرَةِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا فَعَلَ مِنَ الْكَيِّ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: نُهِينَا عَنِ الْكَيِّ فَاكْتَوَيْنَا فَمَا أَفْلَحْنَا، أَخْرَجَهُ

(1)

قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ. وَكَذَلِكَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ الْكَيِّ قَرِيبًا فِي كِتَابِ الطِّبِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ سَلَفُوا مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا) زَادَ فِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ شَيْئًا أَيْ: لَمْ تَنْقُصْ أُجُورُهُمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَجَّلُوهَا فِي الدُّنْيَا، بَلْ بَقِيَتْ مُوَفَّرَةً لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَكَأَنَّهُ عَنَى بِأَصْحَابِهِ بَعْضَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ مَاتَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّا مَنْ عَاشَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُمُ اتَّسَعَتْ لَهُمُ الْفُتُوحُ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُهُ الْآخَرُ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَقَدْ مَضَى فِي الْجَنَائِزِ وَفِي الْمَغَازِي أَيْضًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَنَى جَمِيعَ مَنْ مَاتَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ مَنِ اتَّسَعَتْ لَهُ الدُّنْيَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ إِمَّا لِكَثْرَةِ إِخْرَاجِهِمُ الْمَالَ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَكَانَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذْ ذَاكَ كَثِيرًا، فَكَانَتْ تَقَعُ لَهُمُ الْمَوْقِعُ، ثُمَّ لَمَّا اتَّسَعَ الْحَالُ جِدًّا وَشَمَلَ الْعَدْلَ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ اسْتَغْنَى النَّاسُ بِحَيْثُ صَارَ الْغَنِيُّ لَا يَجِدُ مُحْتَاجًا يَضَعُ بِرَّهُ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ خَبَّابٌ: وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا التُّرَابَ أَيِ الْإِنْفَاقَ فِي الْبُنْيَانِ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: أَرَادَ خَبَّابٌ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمَوْتَ، أَيْ: لَا يَجِدُ لِلْمَالِ الَّذِي أَصَابَهُ إِلَّا وَضَعَهُ فِي الْقَبْرِ، حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ، وَرَدَّهُ فَأَصَابَ، وَقَالَ: بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا أَصَابُوا مِنَ الْمَالِ.

قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ لِأَحْمَدَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ إِلَّا التُّرَابَ، وَكَانَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ، وَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ نَحْوَهُ بِاخْتِصَارٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَأَوَّلُهُ: دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ نَعُودُهُ وَهُوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَلَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ) الدُّعَاءُ بِالْمَوْتِ أَخَصُّ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ، وَكُلُّ دُعَاءٍ تَمَنّي مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَلِذَلِكَ أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ)، هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ تَكْرَارُ الْمَجِيءِ، وَهُوَ أَحْفَظُ الْجَمِيعِ، فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قِصَّةَ بِنَاءِ الْحَائِطِ كَانَتْ سَبَبَ قَوْلِهِ أَيْضًا: وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا التُّرَابَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْمُسْلِمَ لِيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ إِلَّا فِي شَيْءٍ يَجْعَلُهُ فِي هَذَا التُّرَابِ) أَيِ الَّذِي يُوضَعُ فِي الْبُنْيَانِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي آخِرِ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ)

هَكَذَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَوْقُوفًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ جَمِيعًا عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ نَعُودُهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَهُوَ يُعَالِجُ حَائِطًا لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ يُؤْجَرُ فِي نَفَقَتِهِ كُلِّهَا إِلَّا مَا يَجْعَلُهُ فِي التُّرَابِ، وَعُمَرُ كَذَّبَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) هُوَ أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَابْنُ أَزْهَرَ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ ; هَكَذَا اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، وَخَالَفَهُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ: رِوَايَةُ الزُّبَيْدِيِّ أَوْلَى

(1)

بياض بالأصل

ص: 129

بِالصَّوَابِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ ثِقَةٌ، يَعْنِي وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا.

قَوْلُهُ: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ)، الْحَدِيثَ. يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ مُفْرَدًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ هُنَا اسْتِطْرَادًا لَا قَصْدًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا يَتَمَنَّى

إِلَخْ، وَقَدْ أَفْرَدَهُ فِي كِتَابِ التَّمَنِّي مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَتَمَنَّى)، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِإِثْبَاتِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهُوَ لَفْظُ نَفْيٍ بِمَعْنَى النَّهْيِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَا يَتَمَنَّ، عَلَى لَفْظِ النَّهْيِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ الْآتِيَةِ بِلَفْظِ: لَا يَتَمَنَّى، لِلْأَكْثَرِ، وَبِلَفْظِ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةِ نُونِ التَّأْكِيدِ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ: وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَهُوَ قَيْدٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا حَلَّ بِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَمَنِّيهِ رِضًا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَلَا مِنْ طَلَبِهِ مِنَ اللَّهِ لِذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَقَّبَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْحَالَةِ الَّتِي قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ، فَلِلَّهِ دَرُّهُ مَا كَانَ أَكْثَرُ اسْتِحْضَارِهِ وَإِيثَارِهِ لِلْأَخْفَى عَلَى الْأَجْلَى شَحْذًا لِلْأَذْهَانِ. وَقَدْ خَفِيَ صَنِيعُهُ هَذَا عَلَى مَنْ جَعَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي الْبَابِ مُعَارِضًا لِأَحَادِيثِ الْبَابِ أَوْ نَاسِخًا لَهَا، وَقَوِيَ ذَلِكَ بِقَوْلِ يُوسُفَ عليه السلام:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} قَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ: إِنَّ النَّهْيَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ يُوسُفَ، فَذَكَرَهُ، وَبِقَوْلِ سُلَيْمَانَ:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْبَابِ، وَبِدُعَاءِ عُمَرَ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ. قَالَ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا سَأَلُوا مَا قَارَبَ الْمَوْتَ.

قُلْتُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُرَادِ يُوسُفَ عليه السلام، فَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ أَحَدٌ إِلَّا يُوسُفُ حِينَ تَكَامَلَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ، وَجُمِعَ لَهُ الشَّمْلُ اشْتَاقَ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ مُرَادُهُ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِي، كَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، وَكَذَلِكَ مُرَادُ سُلَيْمَانَ عليه السلام. وَعَلَى تَقْدِيرِ الْحَمْلِ عل قَالَ قَتَادَةُ: فَهُوَ لَيْسَ مِنْ شَرْعِنَا، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا مَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا النَّهْيُ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ نُزُولَ الْمَوْتِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَكَمْ مَنِ انْتَهَى إِلَى غَايَةٍ جَرَتِ الْعَادَةُ بِمَوْتِ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهَا ثُمَّ عَاشَ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ حَالُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَالَ مَنْ يَتَمَنَّى نُزُولَهُ بِهِ وَيَرْضَاهُ أَنْ لَوْ وَقَعَ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ إِلَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَيَرْضَى بِهِ وَلَا يَقْلَقُ، وَلَوْ لَمْ يَتَّفِقِ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ.

قَوْلُهُ: (إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ) أَيْ يَرْجِعُ عَنْ مُوجِبِ الْعَتْبِ عَلَيْهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَأَنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنُ عُمْرَهُ إِلَّا خَيْرًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَالدُّعَاءِ بِهِ هُوَ انْقِطَاعُ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ يَتَسَبَّبُ مِنْهَا الْعَمَلُ، وَالْعَمَلُ يُحَصِّلُ زِيَادَةَ الثَّوَابِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ إِلَّا اسْتِمْرَارُ التَّوْحِيدِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ. وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الِارْتِدَادُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - تَعَالَى - عَنِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ، وَالْإِيمَانُ بَعْدَ أَنْ تُخَالِطَ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ ذَلِكَ - وَقَدْ وَقَعَ لَكِنْ نَادِرًا - فَمَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ خَاتِمَةُ السُّوءِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا طَالَ عُمْرُهُ أَوْ قَصُرَ، فَتَعْجِيلُهُ بِطَلَبِ الْمَوْتِ لَا خَيْرَ لَهُ فِيهِ.

وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِسَعْدٍ: يَا سَعْدُ إِنْ كُنْتَ خُلِقْتَ لِلْجَنَّةِ فَمَا طَالَ مِنْ عُمْرِكَ أَوْ حَسُنَ مِنْ عَمَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، أَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ: وَأَنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنُ عُمْرَهُ إِلَّا خَيْرًا، وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّهُ قَدْ يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ فَيَزِيدُهُ عُمُرُهُ شَرًّا، وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا حَمْلُ الْمُؤْمِنِ

ص: 130

عَلَى الْكَامِلِ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِصَدَدِ أَنْ يَعْمَلَ مَا يُكَفِّرُ ذُنُوبَهُ إِمَّا مِنَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَإِمَّا مِنْ فِعْلِ حَسَنَاتٍ أُخَرَ قَدْ تُقَاوِمُ بِتَضْعِيفِهَا سَيِّئَاتُهُ، وَمَا دَامَ الْإِيمَانُ بَاقٍ فَالْحَسَنَاتُ بِصَدَدِ التَّضْعِيفِ، وَالسَّيِّئَاتُ بِصَدَدِ التَّكْفِيرِ. وَالثَّالِثُ يُقَيِّدُ مَا أُطْلِقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ مِنَ التَّرَجِّي حَيْثُ جَاءَ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّهُ، وَالتَّرَجِّي مُشْعِرٌ بِالْوُقُوعِ غَالِبًا لَا جَزْمًا، فَخَرَجَ الْخَبَرُ مَخْرَجَ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، وَأَنَّ الْمُحْسِنَ يَرْجُو مِنَ اللَّهِ الزِّيَادَةَ بِأَنْ يُوَفِّقَهُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ الْمُسِيءَ لَا يَنْبَغِي لَهُ الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا قَطْعُ رَجَائِهِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَرَ الْعُمُرِ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا لِلْمُؤْمِنِ حَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي فِي أَوَّلِ الْبَابِ: وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، وَهُوَ لَا يُنَافِي حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَزِيدُهُ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا، إِذَا حُمِلَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الْأَغْلَبِ وَمُقَابِلُهُ عَلَى النَّادِرِ، وَسَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ التَّمَنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الحديث الخامس حديث عائشة: وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأعلى، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَالدُّعَاءَ بِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ، أَنَّهُ لَا يُقْبَضُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ الْمَوْتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ وَاضِحًا هُنَاكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

‌20 - بَاب دُعَاءِ الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا: اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا. قَالَه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا

5675 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا أَوْ أُتِيَ بِهِ قَالَ عليه الصلاة والسلام: أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا.

وقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي الضُّحَى: إِذَا أُتِى الْمَرِيضِ، وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى وَحْدَهُ، وَقَالَ: إِذَا أَتَى مَرِيضًا.

[الحديث 5675 - أطرافه في: 5743، 5744، 5750]

قَوْلُهُ: (بَابُ دُعَاءِ الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ) أَيْ بِالشِّفَاءِ وَنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَابِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ)، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَتَى مَرِيضًا أَوِ أتِيَ بِهِ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَقَدْ حَكَى الْمُصَنِّفُ الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي الرِّوَايَاتِ الْمُعَلَّقَةِ بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (لَا يُغَادِرُ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: لَا يَتْرُكُ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ فَيَخْلُفُهُ مَرَضٌ آخَرُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، فَكَانَ يَدْعُو لَهُ بِالشِّفَاءِ الْمُطْلَقِ لَا بِمُطْلَقِ الشِّفَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبِي الضُّحَى إِذَا أَتَى الْمَرِيضَ)، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِذَا أُتِى الْمَرِيضِ وَهُوَ أَصْوَبُ، فَأَمَّا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ فَهُوَ الرَّازِيُّ وَأَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ وَلَا يُعْرَفُ اسْمُ أَبِيهِ وَهُوَ صَدُوقٌ، وَلَمْ يُخْرِجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا تَعْلِيقًا، وَقَدْ وَقَعَ لَنَا حَدِيثُهُ هذا مَوْصُولًا فِي: فَوَائِدِ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ نَجِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ الْقَزْوِينِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا أُتِيَ

ص: 131

بِالْمَرِيضِ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ فَوَصَلَ طَرِيقَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ التَّمِيمِيِّ الْكُوفِيِّ نَزِيلِ بَغْدَادَ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا أُتِيَ بِمَرِيضِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى وَحْدَهُ، وَقَالَ: إِذَا أَتَى مَرِيضًا)، وَهَذَا وَصَلَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ بِلَفْظِ: إِذَا أَتَى إِلَى الْمَرِيضِ فَدَعَا لَهُ، وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا، وَقَدْ دَلَّتْ رِوَايَةُ كُلٍّ مِنْ جَرِيرٍ، وَأَبِي عَوَانَةَ عَلَى أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي قَيْسٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ طَهْمَانَ حَفِظَا عَنْ مَنْصُورٍ أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَهُ عَنْ شَيْخَيْنِ، وَأَنَّهُ كان يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً عَنْ هَذَا، وَتَارَةً عَنْ هَذَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْهُمَا كَذَلِكَ، وَرَجُحَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ رِوَايَةُ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الثَّوْرِيَّ رَوَاهَا عَنْ مَنْصُورٍ كَذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الطِّبِّ، وَوَافَقَهُ وَرْقَاءُ، عَنْ مَنْصُورٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَسُفْيَانُ أَحْفَظُ الْجَمِيعِ، لَكِنْ رِوَايَةُ جَرِيرٍ غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الدُّعَاءُ لِلْمَرِيضِ بِالشِّفَاءِ مَعَ مَا فِي الْمَرَضِ مِنْ كَفَّارَةِ الذُّنُوبِ وَالثَّوَابِ كَمَا تَضَافَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، وَلَا يُنَافِي الثَّوَابَ وَالْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّهُمَا يَحْصُلَانِ بِأَوَّلِ مَرَضٍ وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَالدَّاعِي بَيْنَ حَسَنَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَقْصُودُهُ، أَوْ يُعَوَّضَ عَنْهُ بِجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَكُلٌّ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى.

‌21 - بَاب وُضُوءِ الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ

5676 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ:. دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَرِيضٌ، فَتَوَضَّأَ فَصَبَّ عَلَيَّ - أَوْ قَالَ: صُبُّوا عَلَيْهِ - فَعَقَلْتُ فَقُلْتُ: يا رسول الله لَا يَرِثُنِي إِلَّا كَلَالَةٌ، فَكَيْفَ الْمِيرَاثُ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ وُضُوءِ الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا فِي بَابِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّهُ إِذَا كَانَ الْعَائِدُ بِحَيْثُ يَتَبَرَّكُ الْمَرِيضُ بِهِ.

‌22 - بَاب مَنْ دَعَا بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْحُمَّى

5677 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ

وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فَيَقُولُ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ

وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

ص: 132

قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ.

قوله: (بَابُ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْحُمَّى) الْوَبَاءُ يُهْمَزُ وَلَا يُهْمَزُ، وَجَمْعُ الْمَقْصُورِ بِلَا هَمْزٍ: أَوْبِيَةٌ، وَجَمْعُ الْمَهْمُوزِ: أَوْبَاءٌ، يُقَالُ: أَوْبَأَتِ الْأَرْضُ فَهِيَ مُؤْبِئَةٌ، وَوَبِئَتْ فَهِيَ وَبِئَةٌ، وَوَبِئَتْ بِضَمِّ الْوَاوِ فَهِو مَوْبُوءَةٌ، قَالَ عِيَاضٌ: الْوَبَاءُ عُمُومُ الْأَمْرَاضِ، وَقَدْ أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ عَلَى الطَّاعُونِ أَنَّهُ وَبَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِهِ، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ وَبَاءٍ طَاعُونًا، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ قَوْلُ الدَّاوُدِيِّ لَمَّا ذَكَرَ الطَّاعُونَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ الْوَبَاءُ، وَكَذَا جَاءَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّاعُونَ هُوَ الْوَبَاءُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: الطَّاعُونُ الْمَرَضُ الْعَامُّ، وَالْوَبَاءُ الَّذِي يَفْسُدُ لَهُ الْهَوَاءُ فَتَفْسُدُ بِهِ الْأَمْزِجَةُ وَالْأَبْدَانُ. وَقَالَ ابْنُ سَيْنَاءَ: الْوَبَاءُ يَنْشَأُ عَنْ فَسَادِ جَوْهَرِ الْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الرُّوحِ وَمَدَدُهُ. قُلْتُ: وَيُفَارِقُ الطَّاعُونُ الْوَبَاءَ بِخُصُوصِ سَبَبِهِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْبَاءِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ كَمَا سَأَذْكُرُهُ مُبَيَّنًا فِي بَابِ مَا يُذْكَرُ مِنَ الطَّاعُونِ مِنْ كِتَابِ الطِّبِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَسَاقَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ، وَوَقَعَ فِيهِ ذِكْرُ الْحُمَّى وَلَمْ يَقَعْ فِي سِيَاقِهِ لَفْظُ: الْوَبَاءِ، لَكِنَّهُ تَرْجَمَ بِذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَهُوَ مَا سَبَقَ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ. وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْوَبَاءَ أَعَمُّ مِنَ الطَّاعُونِ، فَإِنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ مَا كَانَ إِلَّا بِالْحُمَّى كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، فَدَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْقَلَ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي بَابِ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَيَأْتِي شَيْءٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النَّاسِ الدُّعَاءَ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ؟ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ بِرَفْعِ الْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ حَتْمُ مَقْضِيٍّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَبَثًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّعَبُّدَ بِالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ فِي طُولِ الْعُمْرِ أَوْ رَفْعِ الْمَرَضِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَسَيِّئِ الْأَسْقَامِ وَمُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ، فَمَنْ يُنْكِرُ التَّدَاوِي بِالدُّعَاءِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُنْكِرَ التَّدَاوِي بِالْعَقَاقِيرِ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ إِلَّا شُذُوذٌ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وَفِي الِالْتِجَاءِ إِلَى الدُّعَاءِ مَزِيدُ فَائِدَةٍ لَيْسَتْ فِي التَّدَاوِي بِغَيْرِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ، بَلْ مَنْعُ الدُّعَاءِ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ اتِّكَالًا عَلَى مَا قُدِّرَ، فَيَلْزَمُ تَرْكُ الْعَمَلِ جُمْلَةً، وَرَدُّ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ كَرَدِّ السَّهْمِ بِالتُّرْسِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ بِالْقَدْرِ أَنْ لَا يَتَتَرَّسَ مِنْ رَمْي السَّهْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ):

اشْتَمَلَ كِتَابُ الْمَرْضَى مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سَبْعَةٌ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ طَرِيقًا وَالْبَقِيَّةُ خَالِصَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ. وَحَدِيثِ عَطَاءٍ أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْحَبِيبَتَيْنِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: وَا رَأْسَاهُ - إِلَى قَوْلِهِ -: بَلِ أَنَا وَا رَأْسَاهُ فَقَطْ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ثَلَاثَةُ آثَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 133

بسم الله الرحمن الرحيم

‌76 - كِتَاب الطِّبِّ

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، كِتَابُ الطِّبِّ)، كَذَا لَهُمْ، إِلَّا النَّسَفِيَّ، فَتَرْجَمَ كِتَابُ الطِّبِّ أَوَّلُ كَفَّارَةِ الْمَرَضِ، وَلَمْ يُفْرِدْ كِتَابَ الطِّبِّ، وَزَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ وَالْأَدْوِيَةِ. وَالطِّبُّ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، وَحَكَى ابْنُ السَّيِّدِ تَثْلِيثَهَا. وَالطَّبِيبُ هُوَ الْحَاذِقُ بِالطِّبِّ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: طَبَّ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَمُسْتَطَبٌّ، وَامْرَأَةُ طَبٍّ بِالْفَتْحِ، يُقَالُ اسْتَطَبَّ تَعَانى الطِّبَّ، وَاسْتَطَبَّ اسْتَوْصَفَهُ، وَنَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الطِّبَّ بِالْكَسْرِ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ لِلْمُدَاوِي وَلِلتَّدَاوِي وَلِلدَّاءِ أَيْضًا فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِلرِّفْقِ وَالسِّحْرِ، وَيُقَالُ لِلشَّهْوَةِ وَلِطَرَائِقَ تُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ وَلِلْحِذْقِ بِالشَّيْءِ، وَالطَّبِيبُ الْحَاذِقُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَخُصَّ بِهِ الْمُعَالِجُ عُرْفًا، وَالْجَمْعُ فِي الْقِلَّةِ أَطِبَّةٌ، وَفِي الْكَثْرَةِ أَطِبَّاءٌ. وَالطِّبُّ نَوْعَانِ: طِبُّ جَسَدٍ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَطِبُّ قَلْبٍ وَمُعَالَجَتُهُ خَاصَّةٌ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام عَنْ رَبِّهِ سبحانه وتعالى. وَأَمَّا طِبُّ الْجَسَدِ فَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُ مَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ، وَغَالِبُهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّجْرِبَةِ.

ثُمَّ هُوَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَنَظَرٍ بَلْ فَطَرَ اللَّهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ الْحَيَوَانَاتِ، مِثْلُ مَا يَدْفَعُ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ. وَنَوْعٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ كَدَفْعِ مَا يَحْدُثُ فِي الْبَدَنِ مِمَّا يُخْرِجُهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ، وَهُوَ إِمَّا إِلَى حَرَارَةٍ أَوْ بُرُودَةٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا إِلَى رُطُوبَةٍ، أَوْ يُبُوسَةٍ، أَوِ إِلَى مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُمَا. وَغَالِبُ مَا يُقَاوَمُ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا بِضِدِّهِ، وَالدَّفْعُ قَدْ يَقَعُ مِنْ خَارِجِ الْبَدَنِ، وَقَدْ يَقَعُ مِنْ دَاخِلِهِ وَهُوَ أَعْسَرُهُمَا. وَالطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَالْعَلَامَةِ، فَالطَّبِيبُ الْحَاذِقُ هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي تَفْرِيقِ مَا يَضُرُّ بِالْبَدَنِ جَمْعُهُ أَوْ عَكْسُهُ، وَفِي تَنْقِيصِ مَا يَضُرُّ بِالْبَدَنِ زِيَادَتُهُ أَوْ عَكْسُهُ، وَمَدَارُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: حِفْظُ الصِّحَّةِ، وَالِاحْتِمَاءُ عَنِ الْمُؤْذِي، وَاسْتِفْرَاغُ الْمَادَّةِ الْفَاسِدَةِ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الثَّلَاثَةِ فِي الْقُرْآنِ: فَالْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ النَّصَبِ وَهُوَ مِنْ مُغَيِّرَاتِ الصِّحَّةِ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ الصِّيَامُ ازْدَادَ فَأُبِيحَ الْفِطْرُ إِبْقَاءً عَلَى الْجَسَدِ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَرَضِ الثَّانِي وَهُوَ الْحَمِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فَإِنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ خَوْفِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ. وَالثَّالِثُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فَإِنَّهُ أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى جَوَازِ حَلْقِ الرَّأْسِ الَّذِي مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ لِاسْتِفْرَاغِ الْأَذَى الْحَاصِلِ مِنَ الْبُخَارِ الْمُحْتَقَنِ فِي الرَّأْسِ.

وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلَيْنِ: أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟ قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي الطِّبِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: أَنْزَلَ الدَّاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّوَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً)، كَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَابْنِ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَلَمْ أَرَ لَفْظَ بَابٍ مِنْ نُسَخِ الصَّحِيحِ إِلَّا لِلنَّسَفِيِّ.

‌1 - بَاب مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً

5678 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً.

قَوْلُهُ (أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْأَسَدِيُّ، نُسِبَ لِجَدِّهِ وَهُوَ

ص: 134

أَسَدٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، فَقَدْ يَلْتَبِسُ بِمَنْ يُنْسَبُ إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهَذَا مِنْ فُنُونِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَصَنَّفُوا فِيهِ الْأَنْسَابَ الْمُتَّفِقَةَ فِي اللَّفْظِ الْمُفْتَرِقَةِ فِي الشَّخْصِ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَمَّالِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَخَالَفَهُ شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ، فَقَالَ: عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، وَرَوَاهُ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، هَذِهِ رِوَايَةُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْهُ، وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَخْرَجَهُ ابْنُ عَاصِمٍ فِي الطِّبِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَهَذَا مِمَّا يَتَرَجَّحُ بِهِ رِوَايَةُ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ.

قَوْلُهُ: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً)، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ دَاءٍ، وَمِنْ زَائِدَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ أَنْزَلَ مَحْذُوفًا، فَلَا تَكُونُ مِنْ زَائِدَةً بَلْ لِبَيَانِ الْمَحْذُوفِ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً) فِي رِوَايَةِ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو مِنَ الزِّيَادَةِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَدَاوَوْا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً، فَتَدَاوَوْا. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَنَحْوُهُ لِلطَّحَاوِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ أَنَسٍ: إِنَّ اللَّهَ حَيْثُ خَلَقَ الدَّاءَ خَلَقَ الدَّوَاءَ، فَتَدَاوَوْا

وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ: تَدَاوَوْا يَا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلَّا دَاءً وَاحِدًا الْهَرَمَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَفِي لَفْظٍ: إِلَّا السَّامَ، بِمُهْمَلَةٍ مُخَفَّفَةٍ، يَعْنِي: الْمَوْتَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ حَدِيثِ الْبَابِ، وزاد فِي آخِرِهِ: عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ. وَلِمُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ وَفِي مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يُعْرَفُ مِنْهُ الْمُرَادُ بِالْإِنْزَالِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَهُوَ إِنْزَالُ عِلْمِ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَثَلًا، أَوْ عَبَّرَ بِالْإِنْزَالِ عَنِ التَّقْدِيرِ. وَفِيهَا التَّقْيِيدُ بِالْحَلَالِ، فَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْحَرَامِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْهَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الشِّفَاءَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْإِصَابَةِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّوَاءَ قَدْ يَحْصُلُ مَعَهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْكَيْفِيَّةِ أَوِ الْكَمِّيَّةِ فَلَا يَنْجَعُ، بَلْ رُبَّمَا أَحْدَثَ دَاءً آخَرَ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ لَا يَعْلَمُهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَفِيهَا كُلُّهَا إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ لِمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَبِتَقْدِيرِهِ، وَأَنَّهَا لَا تَنْجَعُ بِذَوَاتِهَا بَلْ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهَا، وَأَنَّ الدَّوَاءَ قَدْ يَنْقَلِبُ دَاءً إِذَا قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: بِإِذْنِ اللَّهِ، فَمَدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ. وَالتَّدَاوِي لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ كَمَا لَا يُنَافِي دَفْعُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَكَذَلِكَ يجَنُّبُ الْمُهْلِكَاتِ وَالدُّعَاءُ بِطَلَبِ الْعَافِيَةِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا الْبَحْثِ فِي بَابِ الرُّقْيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا أَيْضًا الدَّاءُ الْقَاتِلُ الَّذِي اعْتَرَفَ حُذَّاقُ الْأَطِبَّاءِ بِأَنْ لَا دَوَاءَ لَهُ، وَأَقَرُّوا بِالْعَجْزِ عَنْ مُدَاوَاتِهِ، وَلَعَلَّ الْإِشَارَةَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِقَوْلِهِ: وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَتَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى عُمُومِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَبَرِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: لَمْ يُنْزِلْ دَاءٌ يَقْبَلُ الدَّوَاءَ إِلَّا أُنْزِلَ لَهُ شِفَاءٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: جَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ مَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْمَرْضَى أَنَّهُ يَتَدَاوَى مِنْ دَاءٍ بِدَوَاءٍ فَيَبْرَأُ ثُمَّ يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ الدَّاءُ بِعَيْنِهِ فَيَتَدَاوَى بِذَلِكَ الدَّوَاءِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَنْجَعُ،

ص: 135

وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ الْجَهْلِ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الدَّوَاءِ، فَرُبَّ مَرَضَيْنِ تَشَابَهَا وَيَكُونُ أَحَدُهُمَا مُرَكَّبًا لَا يَنْجَعُ فِيهِ مَا يَنْجَعُ فِي الَّذِي لَيْسَ مُرَكَّبًا فَيَقَعُ الْخَطَأُ مِنْ هُنَا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَّحِدًا لَكِنْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ لَا يَنْجَعَ فَلَا يُنْجَعُ، وَمِنْ هُنَا تَخْضَعُ رِقَابُ الْأَطِبَّاءِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خُزَامَةَ وَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ وَزَايٍ خَفِيفَةٍ: عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، هَلْ يَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُصُولَ الشِّفَاءِ بِالدَّوَاءِ إِنَّمَا هُوَ كَدَفْعِ الْجُوعِ بِالْأَكْلِ، وَالْعَطَشِ بِالشُّرْبِ، وَهُوَ يَنْجَعُ فِي ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ لِمَانِعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الدَّاءُ وَالدَّوَاءُ كِلَاهُمَا بِفَتْحِ الدَّالِ وَبِالْمَدِّ، وَحُكِيَ كَسْرُ دَالِ الدَّوَاءِ. وَاسْتِثْنَاءُ الْمَوْتِ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ وَاضِحٌ، وَلَعَلَّ التَّقْدِيرَ: إِلَّا دَاءَ الْمَوْتِ، أَيِ: الْمَرَضُ الَّذِي قُدِّرَ عَلَى صَاحِبِهِ الْمَوْتُ. وَاسْتِثْنَاءُ الْهَرَمِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، إِمَّا لِأَنَّهُ جَعَلَهُ شَبِيهًا بِالْمَوْتِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا نَقْصُ الصِّحَّةِ، أَوْ لِقُرْبِهِ مِنَ الْمَوْتِ وَإِفْضَائِهِ إِلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنِ الْهَرَمُ لَا دَوَاءَ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌2 - بَاب هَلْ يُدَاوِي الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَوْ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ؟

5679 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ رُبَيِّعَ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، قَالَتْ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَسْقِي الْقَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ، وَنَرُدُّ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُدَاوِي الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَالْمَرْأَةُ الرَّجُلَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الرُّبَيِّعِ بِالتَّشْدِيدِ: كُنَّا نَغْزُو وَنَسْقِي الْقَوْمَ، وَنَخْدُمُهُمْ وَنَرُدُّ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا السِّيَاقِ تَعَرُّضٌ لِلْمُدَاوَاةِ، إِلَّا إِنْ كَانَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهَا: نَخْدُمُهُمْ، نَعَمْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بِلَفْظِ: وَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَذَلِكَ فِي بَابِ مُدَاوَاةِ النِّسَاءِ الْجَرْحَى فِي الْغَزْوِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ، فَجَرَى الْبُخَارِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، وَيُؤْخَذُ حُكْمُ مُدَاوَاةِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ مِنْهُ بِالْقِيَاسِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحِجَابِ، أَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَصْنَعُ ذَلِكَ بِمَنْ يَكُونُ زَوْجًا لَهَا أَوْ مَحْرَمًا. وَأَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فَتَجُوزُ مُدَاوَاةُ الْأَجَانِبِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ وَالْجَسِّ بِالْيَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.

‌3 - بَاب الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ

5680 -

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، حَدَّثَنَا سَالِمٌ الْأَفْطَسُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَ: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وَكَيَّةِ نَارٍ. وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ. رَفَعَ الْحَدِيثَ.

وَرَوَاهُ الْقُمِّيُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَسَلِ وَالْحَجْمِ.

5681 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ،. أَخْبَرَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ أَبُو الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، عَنْ

ص: 136

سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عباس رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا وأَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشِّفَاءِ فِي ثَلَاثٍ) سَقَطَتِ التَّرْجَمَةُ لِلنَّسَفِيِّ، وَلَفْظُ بَابُ لِلسَّرَخْسِيِّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ) كَذَا لَهُمْ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنُ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْقَبَّانِيِّ، قَالَ الْكَلَابَاذِيُّ: كَانَ يُلَازِمُ الْبُخَارِيَّ لَمَّا كَانَ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ عِنْدَهُ مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ سَمِعَهُ مِنْهُ، يَعْنِي: شَيْخَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُسَيْنِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثًا، فَقَالَ: كَتَبَ عَنِّي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا الْحَدِيثَ. وَرَأَيْتُ فِي كِتَابِ بَعْضِ الطَّلَبَةِ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ عَنِّي، اهـ. وَقَدْ عَاشَ الْحُسَيْنُ الْقَبَّانِيُّ بَعْدَ الْبُخَارِيِّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِ مُسْلِمٍ، فَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ. وَأَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ شَيْخُ الْحُسَيْنِ فِيهِ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، فَلَوْ رَوَاهُ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ لَمْ يَكُنْ عَالِيًا لَهُ. وَكَانَتْ وَفَاةُ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ - وَكُنْيَتُهُ أَبُو جَعْفَرٍ - سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَاسْمُ جَدِّهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَهُوَ جَدُّ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ لِأُمِّهِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: الْمَنِيعِيُّ، وَابْنُ بِنْتِ مَنِيعٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَجَزَمَ الْحَاكِمُ بِأَنَّ الْحُسَيْنَ الْمَذْكُورَ هُوَ ابْنُ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ الْبِيكَنْدِيُّ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِهِ، وَالْحُسَيْنُ أَصْغَرُ مِنَ الْبُخَارِيِّ بِكَثِيرٍ، وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنِ الْحُسَيْنِ سَوَاءً كَانَ الْقَبَّانِيُّ أَوِ الْبِيكَنْدِيُّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.

وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِصَاعِقَةَ يُكَنَّى أَبَا يَحْيَى، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ، وَهُوَ مِنْ أَصَاغِرِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبُخَارِيِّ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ. وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ شَيْخُهُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٌ مِنْ طَبَقَةِ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ وَمَاتَ قَبْلَهُ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَشَيْخُهُمَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ هُوَ الْحَرَّانِيُّ أَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ نَزَلَ بَغْدَادَ، وَقَوَّاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرُ تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ وُقُوعُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلْبُخَارِيِّ عَالِيًا، فَإِنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَصْحَابِ مَرْوَانَ بْنِ شُجَاعٍ هَذَا، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ إِلَّا بِوَاسِطَتَيْنِ، وَشَيْخُهُ سَالِمٌ الْأَفْطَسُ هُوَ ابْنُ عَجْلَانَ وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ مَرْوَانَ بْنِ شُجَاعٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي سَالِمٌ الْأَفْطَسُ)، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ سَالِمٍ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: عَنِ الْمَنِيعِيِّ، حَدَّثَنَا جَدِّي - هُوَ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ -، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، قَالَ: مَا أَحْفَظُهُ إِلَّا عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ حَدَّثَنِي، فَذَكَرَهُ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: صَارَ الْحَدِيثُ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ شُجَاعٍ بِالشَّكِّ مِنْهُ فِيمَنْ حَدَّثَهُ بِهِ. قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ شُجَاعٍ سَوَاءً، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ مِثْلَ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الْأُولَى بِغَيْرِ شَكٍّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي: فَوَائِدِ أَبِي طَاهِرٍ الْمُخْلِصِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ)، وَقَعَ فِي مُسْنَدِ دَعْلَجٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَاحِ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، أَظُنُّهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. كَذَا بِالشَّكِّ أَيْضًا، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنْ يَعْتَرِضَ بِهَذَا أَيْضًا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلشَّكِّ الْمَذْكُورِ، وَالْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ بِلَا رَيْبٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ). كَذَا أَوْرَدَهُ مَوْقُوفًا، لَكِنَّ آخِرَهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ لِقَوْلِهِ: وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ. وَقَوْلُهُ:

ص: 137

رَفَعَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ فِي رِوَايَةِ سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَيْضًا مَعَ نُزُولِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِهَا عَنِ الْأُولَى لِلتَّصْرِيحِ فِي الْأُولَى بِقَوْلِ مَرْوَانَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ، وَوَقَعَتْ فِي الثَّانِيَةِ بِالْعَنْعَنَةِ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ الْقُمِّيُّ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ هَانِئِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ، لِجَدِّهِ أَبِي عَامِرٍ صُحْبَةٌ، وَكُنْيَةُ يَعْقُوبَ أَبُو الْحَسَنِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ قُمَّ وَنَزَلَ الرَّيَّ، قَوَّاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَيْثٌ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمٍ الْكُوفِيُّ سَيِّئُ الْحِفْظِ. وَقَدْ وَقَعَ لَنَا هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ الْقُمِّيِّ مَوْصُولًا فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ وَفِي الْغَيْلَانِيَّاتِ وفِي جُزْءِ ابْنِ بَخِيتٍ، كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْهُ بِهَذَا السَّنَدِ، وَقَصَّرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَنَسَبَهُ إِلَى تَخْرِيجِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، وَالَّذِي عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ بِهَذَا السَّنَدِ حَدِيثٌ آخَرُ فِي الْحِجَامَةِ، لَفْظُهُ: احْتَجِمُوا، لَا يَتَبَيَّغْ بِكُمُ الدَّمُ فَيَقْتُلَكُمْ.

قَوْلُهُ: (فِي الْعَسَلِ وَالْحَجْمُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَالْحِجَامَةُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْخَطَّابِ الْمَذْكُورَةِ: إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ فَفِي مَصَّةٍ مِنَ الْحِجَامِ، أَوْ مَصَّةٍ مِنَ الْعَسَلِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: فِي الْعَسَلِ وَالْحَجْمِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْكَيَّ لَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَأَغْرَبَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ، فَقَالَ فِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ: الْحَدِيثُ الْخَامِسُ عَشَرَ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، قَالَ: وَبَعْضُ الرُّوَاةِ يَقُولُ فِيهِ: عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَسَلِ وَالْحَجْمِ الشِّفَاءُ.

وَهَذَا الَّذِي عَزَاهُ الْبُخَارِيِّ لَمْ أَرَهُ فِيهِ أَصْلًا، بَلْ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِيهِ هَلْ هُوَ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَا وَاسِطَةٍ؟ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَبْرَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا يُعَذَّبَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَلَمْ أَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ أَصْلًا، وَأَمَّا مُجَاهِدُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ إِلَّا تَعْلِيقًا كَمَا بَيَّنْتُهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ وَصَلَهُ، وَسِيَاقُ لَفْظِهِ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ انْتَظَمَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى جُمْلَةِ مَا يَتَدَاوَى بِهِ النَّاسُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجْمَ يَسْتَفْرِغُ الدَّمَ وَهُوَ أَعْظَمُ الْأَخْلَاطِ، وَالْحَجْمُ أَنْجَحُهَا شِفَاءً عِنْدَ هَيَجَانِ الدَّمِ، وَأَمَّا الْعَسَلُ فَهُوَ مُسَهِّلٌ لِلْأَخْلَاطِ الْبَلْغَمِيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَعْجُونَاتِ لِيَحْفَظَ عَلَى تِلْكَ الْأَدْوِيَةِ قُوَاهَا، وَيُخْرِجَهَا مِنَ الْبَدَنِ، وَأَمَّا الْكَيُّ فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَلْطِ الْبَاغِي الَّذِي لَا تَنْحَسِمُ مَادَّتُهُ إِلَّا بِهِ، وَلِهَذَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَهَى عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ الشَّدِيدِ وَالْخَطَرِ الْعَظِيمِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ فِي أَمْثَالِهَا: آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ، وَقَدْ كَوَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَغَيْرَهُ، وَاكْتَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.

قُلْتُ: وَلَمْ يُرِدِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَصْرَ فِي الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ الشِّفَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا نَبَّهَ بِهَا عَلَى أُصُولِ الْعِلَاجِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَاضَ الِامْتِلَائِيَّةَ تَكُونُ دَمَوِيَّةً وَصَفْرَاوِيَّةً وَبَلْغَمِيَّةً وَسَوْدَاوِيَّةً، وَشِفَاءُ الدَّمَوِيَّةِ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْحَجْمُ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَإِلْفِهِمْ لَهُ، بِخِلَافِ الْفَصْدِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْحَجْمِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا لَهَا غَالِبًا. عَلَى أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: شَرْطَةُ مِحْجَمٍ مَا قَدْ يَتَنَاوَلُ الْفَصْدَ، وَأَيْضًا فَالْحَجْمُ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ أَنْجَحُ مِنَ الْفَصْدِ، وَالْفَصْدُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَيْسَتْ بِحَارَّةٍ أَنْجَحُ مِنَ الْحَجْمِ. وَأَمَّا الِامْتِلَاءُ الصَّفْرَاوِيُّ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ فَدَوَاؤُهُ بِالْمُسَهِّلِ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَسَلِ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَأَمَّا الْكَيُّ فَإِنَّهُ يَقَعُ آخِرًا لِإِخْرَاجِ مَا يَتَعَسَّرُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْفَضَلَاتِ ; وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ مَعَ إِثْبَاتِهِ الشِّفَاءَ فِيهِ، إِمَّا لِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَحْسِمُ الْمَادَّةَ بِطَبْعِهِ فَكَرِهَهُ لِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يُبَادِرُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ حُصُولِ الدَّاءِ لِظَنِّهِمُ أَنَّهُ

ص: 138

يَحْسِمُ الدَّاءَ فَيتَعَجَّلَ الَّذِي يَكْتَوِي التَّعْذِيبَ بِالنَّارِ لِأمْرٍ مَظْنُونٍ، وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ أَنْ يَقَعَ لَهُ ذَلِكَ الْمَرَضُ الَّذِي يَقْطَعُهُ الْكَيُّ.

وَيُؤْخَذُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ كَرَاهَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْكَيِّ وَبَيْنَ اسْتِعْمَالِهِ لَهُ أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ مُطْلَقًا وَلَا يُسْتَعْمَلُ مُطْلَقًا، بَلْ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ طَرِيقًا إِلَى الشِّفَاءِ مَعَ مُصَاحَبَةِ اعْتِقَادِ أَنَّ الشِّفَاءَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يُحْمَلُ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ، رَفَعَهُ: مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: عُلِمَ مِنْ مَجْمُوعِ كَلَامِهِ فِي الْكَيِّ أَنَّ فِيهِ نَفْعًا، وَأَنَّ فِيهِ مَضَرَّةً، فَلَمَّا نَهَى عَنْهُ عُلِمَ أَنَّ جَانِبَ الْمَضَرَّةِ فِيهِ أَغْلَبُ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ إِخْبَارُ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنَّ فِي الْخَمْرِ مَنَافِعَ، ثُمَّ حَرَّمَهَا لِأَنَّ الْمَضَارَّ الَّتِي فِيهَا أَعْظَمُ مِنَ الْمَنَافِعِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فِي أَبْوَابٍ مُفْرَدَةٍ لَهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشِّفَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشِّفَاءُ مِنْ أَحَدِ قِسْمَيِ الْمَرَضِ، لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ كُلَّهَا إِمَّا مَادِّيَّةٌ أَوْ غَيْرُهَا ; وَالْمَادِّيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ حَارَّةٌ وَبَارِدَةٌ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَإِنِ انْقَسَمَ إِلَى رَطْبَةٍ وَيَابِسَةٍ وَمُرَكَّبَةٍ، فَالْأَصْلُ الْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ، وَمَا عَدَاهُمَا يَنْفَعِلُ مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَنَبَّهَ بِالْخَبَرِ عَلَى أَصْلِ الْمُعَالَجَةِ بِضَرْبٍ مِنَ الْمِثَالِ، فَالْحَارَّةُ تُعَالَجُ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِفْرَاغِ الْمَادَّةِ وَتَبْرِيدِ الْمِزَاجِ، وَالْبَارِدَةُ بِتَنَاوُلِ الْعَسَلِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْخِينِ وَالْإِنْضَاجِ وَالتَّقْطِيعِ وَالتَّلْطِيفِ وَالْجَلَاءِ وَالتَّلْيِينِ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ اسْتِفْرَاغُ الْمَادَّةِ بِرِفْقٍ، وَأَمَّا الْكَيُّ فَخَاصٌّ بِالْمَرَضِ الْمُزْمِنِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَنْ مَادَّةٍ بَارِدَةٍ فَقَدْ تُفْسِدُ مِزَاجَ الْعُضْوِ، فَإِذَا كُوِيَ خَرَجَتْ مِنْهُ، وَأَمَّا الْأَمْرَاضُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَادِّيَّةٍ فَقَدْ أُشِيرَ إِلَى عِلَاجِهَا بِحَدِيثِ: الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ شَرْحِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ تَرْكِهِ أَكْلَ الضَّبِّ مَعَ تَقْرِيرِهِ أَكْلَهُ عَلَى مَائِدَتِهِ وَاعْتِذَارِهِ بِأَنَّهُ يَعَافُهُ.

‌4 - بَاب الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ

5682 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ.

5683 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ أَوْ يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ".

[الحديث 5683 - أطرافه في: 5697، 5702، 5704]

5684 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلاً ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلاً ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلاً ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ قَدْ فَعَلْتُ فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ اسْقِهِ عَسَلاً فَسَقَاهُ فَبَرَأَ".

[الحديث 5684 - طرفه في: 5716]

ص: 139

قَوْلُهُ: (بَابُ الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ، وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} كَأَنَّهُ أَشَارَ بِذِكْرِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِيهَا لِلْعَسَلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لِلْقُرْآنِ. وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أَيْ: لِبَعْضِهِمْ، وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ تَنَاوُلَ الْعَسَلِ قَدْ يَضُرُّ بِبَعْضِ النَّاسِ كَمَنْ يَكُونُ حَارَّ الْمِزَاجِ، لَكِنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ مَا يَمْنَعُ أَنَّهُ قَدْ يَضُرُّ ببعض الْأَبْدَانَ بِطَرِيقِ الْعَرْضِ. وَالْعَسَلُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَأَسْمَاؤُهُ تَزِيدُ عَلَى الْمِائَةِ، وَفِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ مَا لَخَّصَهُ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُ، فَقَالُوا: يَجْلُو الْأَوْسَاخَ الَّتِي فِي الْعُرُوقِ وَالْأَمْعَاءِ، وَيَدْفَعُ الْفَضَلَاتِ، وَيَغْسِلُ خَمْلَ الْمَعِدَةِ، وَيُسَخِّنُهَا تَسْخِينًا مُعْتَدِلًا، وَيَفْتَحُ أَفْوَاهَ الْعُرُوقِ، وَيَشُدُّ الْمَعِدَةَ وَالْكَبِدَ وَالْكُلَى وَالْمَثَانَةَ وَالْمَنَافِذَ، وَفِيهِ تَحْلِيلٌ لِلرُّطُوبَاتِ أَكْلًا وَطِلَاءً وَتَغْذِيَةً، وَفِيهِ حِفْظُ الْمَعْجُونَاتِ وَإِذْهَابٌ لِكَيْفِيَّةِ الْأَدْوِيَةِ الْمُسْتَكْرَهَةِ، وَتَنْقِيَةُ الْكَبِدِ وَالصَّدْرِ، وَإِدْرَارُ الْبَوْلِ وَالطَّمْثِ، وَنَفْعٌ لِلسُّعَالِ الْكَائِنِ مِنَ الْبَلْغَمِ، وَنَفْعٌ لِأَصْحَابِ الْبَلْغَمِ وَالْأَمْزِجَةِ الْبَارِدَةِ. وَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ الْخَلُّ نَفَعَ أَصْحَابَ الصَّفْرَاءِ.

ثُمَّ هُوَ غِذَاءٌ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَدَوَاءٌ مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَشَرَابٌ مِنَ الْأَشْرِبَةِ، وَحَلْوَى مِنَ الْحَلَاوَاتِ، وَطِلَاءٌ مِنَ الْأَطْلِيَةِ، وَمُفْرِحٌ مِنَ الْمُفْرِحَاتِ. وَمِنْ مَنَافِعِهِ أَنَّهُ إِذَا شُرِبَ حَارًّا بِدُهْنِ الْوَرْدِ نَفَعَ مِنْ نَهْشِ الْحَيَوَانِ، وَإِذَا شُرِبَ وَحْدَهُ بِمَاءٍ نَفَعَ مِنْ عَضَّةِ الْكَلْبِ للْكَلِبِ، وَإِذَا جُعِلَ فِيهِ اللَّحْمُ الطَّرِيُّ حَفِظَ طَرَاوَتَهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَكَذَلِكَ الْخِيَارُ وَالْقَرْعُ وَالْبَاذِنْجَانُ وَاللَّيْمُونُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَاكِهِ، وَإِذَا لُطِّخَ بِهِ الْبَدَنُ لِلْقَمْلِ قَتَلَ الْقَمْلَ وَالصِّئْبَانَ، وَطَوَّلَ الشَّعْرَ وَحَسَّنَهُ وَنَعَّمَهُ، وَإِنِ اكْتُحِلَ بِهِ جَلَا ظُلْمَةَ الْبَصَرِ، وَإِنِ اسْتُنَّ بِهِ صَقَلُ الْأَسْنَانِ وَحَفِظَ صِحَّتَهَا. وَهُوَ عَجِيبٌ فِي حِفْظِ جُثَثِ الْمَوْتَى فَلَا يَسْرُعُ إِلَيْهَا الْبِلَى، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ قَلِيلُ الْمَضَرَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ يُعَوِّلُ قُدَمَاءُ الْأَطِبَّاءِ فِي الْأَدْوِيَةِ الْمُرَكَّبَةِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا ذِكْرَ لِلسُّكَّرِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِمْ أَصْلًا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: مَنْ لَعِقَ الْعَسَلَ ثَلَاثَ غَدَوَاتٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ لَمْ يُصِبْهُ عَظِيمُ بَلَاءٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ في الباب ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْإِعْجَابُ أَعَمُّ مِنْ أنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَاءِ أَوِ الْغِذَاءِ. فَتُؤْخَذُ الْمُنَاسَبَةُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَاقِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ الْغَسِيلِ) اسْمُ الْغَسِيلِ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْأَوْسِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَهُوَ جُنُبٌ، فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، فَقِيلَ لَهُ: الْغَسِيلُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ جَدُّ جَدِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مَعْدُودٌ فِي صِغَارِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَسًا، وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَجُلُّ رِوَايَتِهِ عَنِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ النَّسَائِيِّ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يُخْطِئُ كَثِيرًا، اهـ. وَكَانَ قَدْ عَمَّرَ فَجَازَ الْمِائَةَ فَلَعَلَّهُ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ فِي الْآخَرِ، وَقَدِ احتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ، وَشَيْخُهُ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَيِ: ابْنُ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، يُكَنَّى أَبَا عُمَرَ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ تَقَدَّمَ فِي: بَابِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ عِنْدَهُمْ، وَأَغْرَبَ عَبْدُ الْحَقِّ، فَقَالَ فِي الْأَحْكَامِ: وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُمَا. وَرَدَّ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَلَى عَبْدِ الْحَقِّ، فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ أَحَدًا ضَعَّفَهُ وَلَا ذَكَرَهُ فِي الضُّعَفَاءِ. اهـ. وَهُوَ كَمَا قَالَ.

قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمُ أَوْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ)، كَذَا وَقَعَ بِالشَّكِّ، وَكَذَا لِأَحْمَدَ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْغَسِيلِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَذُكِرَتْ فِيهِ فِي بَابِ الْحِجَامَةِ مِنَ الدَّاءِ قِصَّةٌ، وَقَوْلُهُ:

ص: 140

أَوْ يَكُونَ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: صَوَابُهُ: أَوْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَجْزُومٍ فَيَكُونُ مَجْزُومًا. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: إِنْ كَانَ أَوِ إِنْ يَكُنْ، فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ أَشْبَعَ الضَّمَّةَ فَظَنَّ السَّامِعُ أَنَّ فِيهَا وَاوًا فَأَثْبَتَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ أَوِ إِنْ كَانَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ، فَيَكُونُ التَّرَدُّدُ لِإِثْبَاتِ لَفْظِ يَكُونُ وَعَدَمِهَا، وَقَرَأَهَا بَعْضُهُمْ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْفُوظٍ.

قَوْلُهُ: (فَفِي شَرْطَةٍ مِحْجَمٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، اللَّذْعُ هُوَ الْخَفِيفُ مِنْ حَرْقِ النَّارِ. وَأَمَّا اللَّدْغُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ فَهُوَ ضَرَبَ أَوْ عَضَّ ذَاتَ السُّمِّ.

قَوْلُهُ: (تَوَافَقَ الدَّاءُ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَيَّ إِنَّمَا يُشْرَعُ مِنْهُ مَا يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا إِلَى إِزَالَةِ الدَّاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّجْرِبَةُ لِذَلِكَ، وَلَا اسْتِعْمَالُهُ إِلَّا بَعْدَ التَّحَقُّقِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُوَافَقَةِ مُوَافَقَةَ الْقَدَرِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ) سَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.

حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الَّذِي اشْتَكَى بَطْنَهُ، فَأُمِرَ بِشُرْبِ الْعَسَلِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي بَابِ دَوَاءِ الْمَبْطُونِ. وَشَيْخُهُ عَبَّاسٌ فِيهِ هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ النَّرْسِيُّ بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَسَعِيدُ هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

‌5 - بَاب الدَّوَاءِ بِأَلْبَانِ الْإِبِلِ

5685 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ أبو نوح البصري، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَاسًا كَانَ بِهِمْ سَقَمٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آوِنَا وَأَطْعِمْنَا. فَلَمَّا صَحُّوا قَالُوا: إِنَّ الْمَدِينَةَ وَخِمَةٌ. فَأَنْزَلَهُمْ الْحَرَّةَ فِي ذَوْدٍ لَهُ، فَقَالَ: اشْرَبُوا من أَلْبَانَهَا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَاقُوا ذَوْدَهُ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَكْدِمُ الْأَرْضَ بِلِسَانِهِ حَتَّى يَمُوتَ.

قَالَ سَلَّامٌ: فَبَلَغَنِي أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِأَنَسٍ: حَدِّثْنِي بِأَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثَهُ بِهَذَا، فَبَلَغَ الْحَسَنَ، فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الدَّوَاءِ بِأَلْبَانِ الْإِبِلِ) أَيْ فِي الْمَرَضِ الْمُلَائِمِ لَهُ.

قَوْلُهُ: (سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ) هُوَ الْأَزْدِيُّ، وَهُوَ بِالتَّشْدِيدِ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ. وَوَقَعَ فِي اللِّبَاسِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا سَلَّامٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَزَعَمَ الْكَلَابَاذِيُّ أَنَّهُ سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، وَسَأَذْكُرُ الْحُجَّةَ لِذَلِكَ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ثَابِتٌ) هُوَ الْبُنَانِيُّ، وَوَقَعَ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ: عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، قَالَ: حَدَّثَ ثَابِتٌ، الْحَسَنَ وَأَصْحَابَهُ وَأَنَا شَاهِدٌ مِعهُمْ، فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَوْلِ الرَّاوِي حَدَّثَنَا فُلَانٌ أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ قَدْ قَصَدَ إِلَيْهِ بِالتَّحْدِيثِ، بَلِ إِنْ سَمِعَ مِنْهُ اتِّفَاقًا جَازَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ، وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ أَيْضًا كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (إنَّ نَاسًا) زَادَ بَهْزٌ فِي رِوَايَتِهِ: مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ أَنَّهُمْ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ بِالشَّكِّ، وَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِيَةً، وَأَنَّ أَرْبَعَةً مِنْهُمْ كَانُوا مِنْ عُكْلٍ، وَثَلَاثَةً مِنْ عُرَيْنَةَ، وَالرَّابِعُ كَانَ تَبَعًا لَهُمْ.

قَوْلُهُ: (كَانَ بِهِمْ سَقَمٌ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آوِنَا وَأَطْعِمْنَا، فَلَمَّا صَحُّوا) فِي

ص: 141

السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَآوَاهُمْ وَأَطْعَمَهُمْ، فَلَمَّا صَحُّوا قَالُوا: إِنَّ الْمَدِينَةَ وَخِمَةٌ، وَكَانَ السَّقَمُ الَّذِي بِهِمُ أَوَّلًا مِنَ الْجُوعِ أَوْ مِنَ التَّعَبِ، فَلَمَّا زَالَ ذَلِكَ عَنْهُمْ خَشُوا مِنْ وَخَمِ الْمَدِينَةِ إِمَّا لِكَوْنِهِمُ أَهْلَ رِيفٍ فَلَمْ يَعْتَادُوا بِالْحَضَرِ، وَإِمَّا بِسَبَبِ مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْحُمَّى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا: اجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجَوَى فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ: بِهِمْ ضُرٌّ وَجَهْدٌ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (فِي ذَوْدٍ لَهُ) ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ عَدَدَ الذَّوْدِ كَانَ خَمْسَ عَشَرَةَ، وَفِي رِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ: أَنَّ الذَّوْدَ كَانَ مَعَ الرَّاعِي بِجَانِبِ الْحَرَّةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: اشْرَبُوا أَلْبَانَهَا) كَذَا هُنَا، وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسٍ: مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا صَحُّوا) فِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا فَلَمَّا صَحُّوا.

قَوْلُهُ: (وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِاللَّامِ بَدَلَ الرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا.

قَوْلُهُ: (فَرَأَيْتَ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَكْدُمُ الْأَرْضَ بِلِسَانِهِ حَتَّى يَمُوتَ) زَادَ بَهْزٌ فِي رِوَايَتِهِ: مِمَّا يَجِدُ مِنَ الْغَمِّ وَالْوَجَعِ، وَفِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ هُنَا يَعَضُّ الْأَرْضَ لِيَجِدَ بَرْدَهَا مِمَّا يَجِدُ مِنَ الْحَرِّ وَالشِّدَّةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سَلَّامٌ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: فَبَلَغَنِي أَنَّ الْحَجَّاجَ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الْأَمِيرُ الْمَشْهُورُ، وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ: فَذَكَرَ ذَلِكَ قَوْمٌ لِلْحَجَّاجِ فَبَعَثَ إِلَى أَنَسٍ، فَقَالَ: هَذَا خَاتَمِي فَلْيَكُنْ بِيَدِكَ - أَيْ يَصِيرُ خَازِنًا لَهُ - فَقَالَ أَنَسٌ: إِنِّي أَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ فَحَدِّثْنِي بِأَشَدِّ عُقُوبَةٍ. الْحَدِيثُ.

قَوْلُهُ: (بِأَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) كَذَا بِالتَّذْكِيرِ عَلَى إِرَادَةِ الْعِقَابِ، وَفِي رِوَايَةِ بَهْزٍ: عَاقَبَهَا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ.

قَوْلُهُ: (فَبَلَغَ الْحَسَنَ) هُوَ ابْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ (فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْهُ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ: بِهَذَا، وَفِي رِوَايَةِ بَهْزٍ: فَوَاللَّهِ مَا انْتَهَى الْحَجَّاجُ حَتَّى قَامَ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ، فَذَكَرَهُ وَقَالَ: قَطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ، وَسَمَلَ الْأَعْيُنَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، أَفَلَا نَفْعَلُ نَحْنُ ذَلِكَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ؟ وَسَاقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ ثَابِتٍ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ قَالَ: مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ مَا نَدِمْتُ عَلَى حَدِيثٍ حَدَّثْتُ بِهِ الْحَجَّاجَ، فَذَكَرَهُ، وَإِنَّمَا نَدِمَ أَنَسٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ مُسْرِفًا فِي الْعُقُوبَةِ، وَكَانَ يَتَعَلَّقُ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ. وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُمُ ارْتَدُّوا، وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ كَمَا فِي الَّذِي بَعْدَهُ، وَقَبْلَ النَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي، وَقَدْ حَضَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ الْأَمْرَ بِالتَّعْذِيبِ بِالنَّارِ، ثُمَّ حَضَرَ نَسْخَهُ، وَالنَّهْيَ عَنِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَكَانَ إِسْلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُتَأَخِّرًا عَنْ قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ أبوالِ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا أَشَرْتُ إِلَى الْيَسِيرِ مِنْهُ لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِهِ.

‌6 - بَاب الدَّوَاءِ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ

5686 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ نَاسًا اجْتَوَوْا فِي الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ - يَعْنِي الْإِبِلَ - فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَلَحِقُوا بِرَاعِيهِ، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَلَحَتْ أَبْدَانُهُمْ، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِمْ، فَجِيءَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ.

قَالَ قَتَادَةُ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ.

ص: 142

قَوْلُهُ: (بَابُ الدَّوَاءِ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْعُرَنِيِّينَ، وَوَقَعَ فِي خُصُوصِ التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: عَلَيْكُمْ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ؛ فَإِنَّهَا نَافِعَةٌ لِلذَّرِبَةِ بُطُونِهِمْ. وَالذَّرِبَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ ذَرِبٍ، وَالذَّرَبُ بِفَتْحَتَيْنِ فَسَادُ الْمَعِدَةِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ نَاسًا اجْتَوَوْا فِي الْمَدِينَةِ) كَذَا هُنَا بِإِثْبَاتِ فِي، وَهِيَ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ: حَصَلَ لَهُمُ الْجَوَى وَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ: اجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ يَعْنِي الْإِبِلَ) كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِي الْإِبِلِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى صَلَحَتْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: صَحَّتْ.

قَوْلُهُ: (قَالَ قَتَادَةُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ إِلَخْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌7 - بَاب الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ

5687 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: خَرَجْنَا وَمَعَنَا غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ، فَمَرِضَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَعَادَهُ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ، فَقَالَ لَنَا: عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَةِ السَّوْدَاءِ فَخُذُوا مِنْهَا خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، فَاسْحَقُوهَا ثُمَّ اقْطُرُوهَا فِي أَنْفِهِ بِقَطَرَاتِ زَيْتٍ فِي هَذَا الْجَانِبِ، وَفِي هَذَا الْجَانِبِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْنِي، أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا مِنْ السَّامِ. قُلْتُ: وَمَا السَّامُ؟ قَالَ: الْمَوْتُ.

5688 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّامَ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: "وَالسَّامُ الْمَوْتُ وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ) سَيَأْتِي بَيَانُ الْمُرَادِ بِهَا فِي آخِرِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ)، كَذَا سَمَّاهُ وَنَسَبَهُ لِجَدِّهِ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ، مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنَ اسْمِهِ، وَأَبُو شَيْبَةَ جَدُّهُ، وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَبُو شَيْبَةَ قَاضِيَ وَاسِطٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ، كَذَا لِلْجَمِيعِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَجَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِأَنَّهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْيَنِ، وَالْخَطِيبِ فِي كِتَابِ رِوَايَةِ الْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَسْعُودٍ الرَّازِيِّ، وَهُوَ عِنْدَنَا يعُلُوٍّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي غَرَزَةَ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَالزَّايِ - فِي مُسْنَدِهِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ الْخَطِيبُ أَيْضًا، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، وَهُوَ الْكُوفِيُّ الْمَشْهُورُ، وَرِجَالُ الْإسْنَادِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَرُبَّمَا حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَالَّذِي هُنَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ) هُوَ مَوْلَى أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ الْأَنْصَارِيِّ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمَنْجَنِيقِيُّ فِي كِتَابِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ

ص: 143

عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَأَدْخَلَ بَيْنَ مَنْصُورٍ، وَخَالِدِ بْنِ سَعْدٍ مُجَاهِدًا، وَتَعَقَّبَهُ الْخَطِيبُ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَنْجَنِيقِيِّ بِأَنَّ ذِكْرَ مُجَاهِدٍ فِيهِ وَهْمٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَنْجَنِيقِيِّ أَيْضًا: وخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِزِيَادَةِ يَاءٍ فِي اسْمِ أَبِيهِ، وَهُوَ وَهْمٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَمَعَنَا غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ) بِمُوَحَّدَةٍ وَجِيمٍ وَزْنُ أَحْمَدَ، يُقَالُ: إِنَّهُ الصَّحَابِيُّ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَحَدِيثُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ.

قَوْلُهُ: (فَعَادَهُ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْيَنِ: فَعَادَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ، وَكَذَا قَالَ سَائِرُ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي مُوسَى إِلَّا الْمَنْجَنِيقِيَّ، فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَاخْتَصَرَ الْقِصَّةَ، وَبِسِيَاقِهَا يَتَبَيَّنُ الصَّوَابُ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ: عَنْ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ، وَهْمٌ فَلَيْسَ لِغَالِبٍ فِيهِ رِوَايَةٌ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ خَالِدٌ مَعَ غَالِبٍ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، قَالَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ هَذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَبُو عَتِيقٍ كُنْيَةُ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ لِكَوْنِهِ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُوهُ وَجَدُّ أَبِيهِ صَحَابَةٌ مَشْهُورُينَ.

قَوْلُهُ: (عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَةِ السُّوَيْدَاءِ) كَذَا هُنَا بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا إِلَّا الْكُشْمِيهَنِيَّ، فَقَالَ: السَّوْدَاءُ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ مِمَّنْ قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي أَنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ)، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنَّ فِي هَذِهِ الْحَبَّةِ شِفَاءً كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْيَنِ: هَذِهِ الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمِلْحِ، وَكَانَ هَذَا قَدْ أَشْكَلَ عَلِيَّ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْكَمُّونَ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ جَرَتِ أَنْ يُخْلَطَ بِالْمِلْحِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا مِنَ السَّامِ) بِالْمُهْمَلَةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَلِابْنِ مَاجَهْ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ، وَفِي هَذَا أَنَّ الْمَوْتَ دَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْوَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَدَاءُ الْمَوْتِ لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ إِطْلَاقِ الدَّاءِ عَلَى الْمَوْتِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: وَمَا السَّامُ؟ قَالَ: الْمَوْتُ) لَمْ أَعْرِفِ اسْمَ السَّائِلِ وَلَا الْقَائِلِ، وَأَظُنُّ السَّائِلَ خَالِدَ بْنَ سَعْدٍ وَالْمُجِيبَ ابْنَ أَبِي عَتِيقٍ. وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ فِي عِلَاجِ الزُّكَامِ الْعَارِضِ معهُ عُطَاسٌ كَثِيرٌ، وَقَالُوا: تُقْلَى الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ ثُمَّ تُدَقُّ نَاعِمًا ثُمَّ تُنْقَعُ فِي زَيْتٍ، ثُمَّ يُقَطَّرُ مِنْهُ فِي الْأَنْفِ ثَلَاثَ قَطَرَاتٍ، فَلَعَلَّ غَالِبَ بْنَ أَبْجَرَ كَانَ مَزْكُومًا، فَلِذَلِكَ وَصَفَ لَهُ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ مَرْفُوعَةً أَيْضًا، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْيَنِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ دَاءٍ: وَأَقْطِرُوا عَلَيْهَا شَيْئًا مِنَ الزَّيْتِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أُخْرَى: وَرُبَّمَا قَالَ: وَأَقْطِرُوا إِلَخْ، وَادَّعَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مُدْرَجَةٌ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ أَوْضَحَتْ ذَلِكَ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ; ثُمَّ وَجَدْتُهَا مَرْفُوعَةً مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، فَأَخْرَجَ الْمُسْتَغْفِرِيُّ فِي كِتَابِ الطِّبِّ مِنْ طَرِيقِ حُسَامِ بْنِ مِصَكٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هذه الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ فِيهَا شِفَاءٌ، الْحَدِيثَ، قَالَ: وَفِي لَفْظٍ: قِيلَ: وَمَا الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ؟ قَالَ: الشُّونِيزُ.

قَالَ: وَكَيْفَ أَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: تَأْخُذُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ حَبَّةً فَتَصُرُّهَا فِي خِرْقَةٍ ثُمَّ تَضَعُهَا فِي مَاءٍ لَيْلَةً، فَإِذَا أَصْبَحْتَ قَطَرْتَ فِي الْمَنْخَرِ الْأَيْمَنِ وَاحِدَةً، وَفِي الْأَيْسَرِ اثْنَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَطَرْتَ فِي الْمَنْخَرِ الْأَيْمَنِ اثْنَتَيْنِ وَفِي الْأَيْسَرِ وَاحِدَةً، فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَطَرْتَ فِي الْأَيْمَنِ وَاحِدَةً، وَفِي الْأَيْسَرِ اثْنَتَيْنِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْحَبَّةِ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ دَاءٍ صِرْفًا، بَلْ رُبَّمَا اسْتُعْمِلَتْ مُفْرَدَةً، وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَتْ مُرَكَّبَةً، وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَتْ مَسْحُوقَةً وَغَيْرَ مَسْحُوقَةٍ، وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَتْ أَكْلًا وَشُرْبًا وَسَعُوطًا وَضِمَادًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: كُلِّ دَاءٍ تَقْدِيرُهُ: يَقْبَلُ الْعِلَاجَ بِهَا، فَإِنَّهَا تَنْفَعُ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْبَارِدَةِ، وَأَمَّا الْحَارَّةُ فَلَا.

نَعَمْ قَدْ تَدْخُلُ فِي بَعْضِ الْأَمْرَاضِ الْحَارَّةِ الْيَابِسَةِ بِالْعَرْضِ، فَتُوَصِّلُ قُوَى الْأَدْوِيَةِ الرَّطْبَةِ الْبَارِدَةِ إِلَيْهَا بِسُرْعَةِ تَنْفِيذِهَا، وَيُسْتَعْمَلُ

ص: 144

الْحَارُّ فِي بَعْضِ الْأَمْرَاضِ الْحَارَّةِ فِيهِ لَا يُسْتَنْكَرُ كَالْعَنْزَرُوتِ فَإِنَّهُ حَارٌّ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي أَدْوِيَةِ الرَّمَدِ الْمُرَكَّبَةِ، مَعَ أَنَّ الرَّمَدَ وَرَمٌ حَارٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاءِ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ: إِنَّ طَبْعَ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ حَارٌّ يَابِسٌ، وَهِيَ مُذْهِبَةٌ لِلنَّفْخِ، نَافِعَةٌ مِنْ حُمَّى الرِّبْعِ وَالْبَلْغَمِ، مُفَتِّحَةٌ لِلسُّدَدِ وَالرِّيحِ، مُجَفِّفَةٌ لِبَلَّةِ الْمَعِدَةِ، وَإِذَا دُقَّتْ وَعُجِنَتْ بِالْعَسَلِ وَشُرِبَتْ بِالْمَاءِ الْحَارِّ أَذَابَتِ الْحَصَاةَ وَأَدَرَّتِ الْبَوْلَ وَالطَّمْثَ، وَفِيهَا جَلَاءٌ وَتَقْطِيعٌ، وَإِذَا دُقَّتْ وَرُبِطَتْ بِخِرْقَةٍ مِنْ كَتَّانٍ وَأَدِيمٍ شَمُّهَا نَفَعٌ مِنَ الزُّكَامِ الْبَارِدِ، وَإِذَا نُقِعَ مِنْهَا سَبْعُ حَبَّاتٍ فِي لَبَنِ امْرَأَةٍ وَسَعَطَ بِهِ صَاحِبُ الْيَرَقَانِ أَفَادَهُ، وَإِذَا شُرِبَ مِنْهَا وَزْنُ مِثْقَالٍ بِمَاءٍ أَفَادَ مِنْ ضِيقِ النَّفْسِ، وَالضِّمَادُ بِهَا يَنْفَعُ مِنَ الصُّدَاعِ الْبَارِدِ، وَإِذَا طُبِخَتْ بِخَلٍّ وَتُمُضْمِضَ بِهَا نَفَعَتْ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ الْكَائِنِ عَنْ بَرْدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْبَيْطَارِ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْمُفْرَدَاتِ فِي مَنَافِعِهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ وَأَكْثَرُ مِنْهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُهُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ هُوَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي طَبْعِ شَيْءٍ مِنَ النَّبَاتِ مَا يَجْمَعُ جَمِيعَ الْأُمُورِ الَّتِي تُقَابِلُ الطَّبَائِعَ فِي مُعَالَجَةِ الْأَدْوَاءِ بِمُقَابِلِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهَا شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ يَحْدُثُ مِنَ الرُّطُوبَةِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: الْعَسَلُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَكُونَ دَوَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ مِنَ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مِنَ الْأَمْرَاضِ مَا لَوْ شَرِبَ صَاحِبُهُ الْعَسَلَ لَتَأَذَّى بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْعَسَلِ:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ، فَحَمْلُ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصِفُ الدَّوَاءَ بِحَسَبِ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ حَالِ الْمَرِيضِ، فَلَعَلَّ قَوْلَهُ: فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ وَافَقَ مَرَضَ مَنْ مِزَاجُهُ بَارِدٌ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، أَيْ: مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي وَقَعَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْحَيْثِيَّةِ كَثِيرٌ شَائِعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَخَصُّوا عُمُومَهُ وَرَدُّوهُ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الطِّبِّ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلَا خَفَاءَ بِغَلَطِ قَائِلِ ذَلِكَ، لِأَنَّا إِذَا صَدَّقْنَا أَهْلَ الطِّبِّ - وَمَدَارُ عِلْمِهِمْ غَالِبًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّجْرِبَةِ الَّتِي بِنَاؤُهَا عَلَى ظَنٍّ غَالِبٍ - فَتَصْدِيقُ مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ كَلَامِهِمْ. انْتَهَى وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ حَمْلِهِ عَلَى عُمُومِهِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ وَلَا خُرُوجَ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.

قَوْلُهُ: (وَسَعِيدٌ هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ اقْتَصَرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَا مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَفِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ مِنْهُ شِفَاءٌ إِلَّا السَّامَ.

قَوْلُهُ: (وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ) كَذَا عَطَفَهُ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ شِهَابٍ لِلسَّامِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ أَيْضًا لَهُ. وَالشُّونِيزُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا زَايٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَيَّدَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الشِّينَ بِالْفَتْحِ وَحَكَى عِيَاضٌ، عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ كَسَرَهَا فَأَبْدَلَ الْوَاوَ يَاءً، فَقَالَ: الشِّينِيزُ، وَتَفْسِيرُ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ بِالشُّونِيزِ لِشُهْرَةِ الشُّونِيزِ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ، وَأَمَّا الْآنَ فَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ أَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الشُّونِيزِ بِكَثِيرٍ، وَتَفْسِيرُهَا بِالشُّونِيزِ هُوَ الْأَكْثَرُ الْأَشْهَرُ، وَهِيَ الْكَمُّونُ الْأَسْوَدُ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْكَمُّونُ الْهِنْدِيُّ. وَنَقَلَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهَا الْخَرْدَلُ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ أَنَّهَا ثَمَرَةُ الْبُطْمِ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَاسْمُ شَجَرَتِهَا الضِّرْوُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ صَمْغُ شَجَرَةٍ تُدْعَى الْكَمْكَامُ تُجْلَبُ مِنَ الْيَمَنِ، وَرَائِحَتُهَا طَيِّبَةٌ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْبَخُورِ. قُلْتُ: وَلَيْسَتِ الْمُرَادُ هُنَا جَزْمًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَفْسِيرُهَا بِالشُّونِيزِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَالثَّانِي كَثْرَةُ مَنَافِعِهَا بِخِلَافِ الْخَرْدَلِ وَالْبُطْمِ.

ص: 145

‌8 - بَاب التَّلْبِينَةِ لِلْمَرِيضِ

5689 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ، وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ، وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ.

5690 -

حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عن هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينَةِ وَتَقُولُ: هُوَ الْبَغِيضُ النَّافِعُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّلْبِينَةِ لِلْمَرِيضِ)، هِيَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ نُونٌ ثُمَّ هَاءٌ، وَقَدْ يُقَالُ: بِلَا هَاءٍ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ حَسَاءٌ يُعْمَلُ مِنْ دَقِيقٍ أَوْ نُخَالَةٍ، وَيُجْعَلُ فِيهِ عَسَلٌ، قَالَ غَيْرُهُ: أَوْ لَبَنٌ. سُمِّيَتْ تَلْبِينَةً تَشْبِيهًا لَهَا بِاللَّبَنِ فِي بَيَاضِهَا وَرِقَّتِهَا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: يُخْلَطُ فِيهَا لَبَنٌ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمُخَالَطَةِ اللَّبَنِ لَهَا. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ: هِيَ دَقِيقٌ بَحْتٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: فِيهِ شَحْمٌ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُؤْخَذُ الْعَجِينُ غَيْرَ خَمِيرٍ، فَيُخْرَجُ مَاؤُهُ فَيُجْعَلُ حَسْوًا فَيَكُونُ لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ، فَلِذَلِكَ كَثُرَ نَفْعُهُ. وَقَالَ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ: التَّلْبِينَةُ الْحَسَاءُ، وَيَكُونُ فِي قِوَامِ اللَّبَنِ، وَهُوَ الدَّقِيقُ النَّضِيجُ لَا الْغَلِيظُ النِّيءُ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلٍ) هُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ. وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو عَلَيٍّ الْأَسْيُوطِيُّ عَنْهُ أَنَّ عُقَيْلًا تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَوَقَعَ فِي التِّرْمِذِيِّ عَقِبَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ بَرَكَةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي التَّلْبِينَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الطَّالْقَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. قَالَ الْمِزِّيُّ: كَذَا فِي النُّسَخِ لَيْسَ فِيهِ عُقَيْلٌ. قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ لَيْسَ فِيهِ عُقَيْلٌ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِإِثْبَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَكَأَنَّ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عُقَيْلًا جَرَى عَلَى الْجَادَّةِ؛ لِأَنَّ يُونُسَ مُكْثِرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ عُقَيْلٍ أَيْضًا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: بِالتَّلْبِينَةِ بِزِيَادَةِ الْهَاءِ.

قَوْلُهُ: (لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ)، أَيْ: بِصُنْعِهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتِ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ اجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ، أَمَرَتْ بِبُرْمَةِ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: كُلُوا مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (عَلَيْكُمْ بِالتَّلْبِينَةِ)، أَيْ: كُلُوهَا.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا تَجُمُّ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ وَهُمَا بِمَعْنًى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ: فَإِنَّهَا مَجَمَّةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَرُوِيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ، وَهُمَا بِمَعْنًى، يُقَالُ: جَمَّ وَأَجَمَّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تُرِيحُ فُؤَادَهُ وَتُزِيلُ عَنْهُ الْهَمَّ وَتُنَشِّطُهُ، وَالْجَامُّ بِالتَّشْدِيدِ الْمُسْتَرِيحُ، وَالْمَصْدَرُ الْجَمَامُ وَالْإِجْمَامُ، وَيُقَالُ: جَمَّ الْفَرَسُ وَأَجَمَّ إِذَا أُرِيحَ فَلَمْ يُرْكَبْ، فَيَكُونُ أَدْعَى لِنَشَاطِهِ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ رُوِيَ تُخَمَّ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ، قَالَ: وَالْمِخَمَّةُ الْمِكْنَسَةُ.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِي (حَدَّثَنَا فَرْوَةُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ (ابْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ هُوَ الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ، وَاسْمُ أَبِي الْمَغْرَاءِ مَعْدِ يكَرِبَ وَكُنْيَةُ فَرْوَةَ أَبُو الْقَاسِمِ، مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يُكْثِرْ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهَا

ص: 146

كَانَتْ تَأْمُرُنَا بِالتَّلْبِينَةِ وَتَقُولُ: هُوَ الْبَغِيضُ النَّافِعُ) كَذَا فِيهِ مَوْقُوفًا، وَقَدْ حَذَفَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذِهِ الطَّرِيقَ، وَضَاقَتْ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ فَأَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ عَنْ فَرْوَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ كَلْثَمَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: عَلَيْكُمْ بِالْبَغِيضِ النَّافِعِ التَّلْبِينَةِ، يَعْنِي: الْحَسَاءَ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ، وَزَادَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا يَغْسِلُ أَحَدُكُمُ الْوَسَخَ عَنْ وَجْهِهِ بِالْمَاءِ، وَلَهُ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ بَرَكَةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ أَهْلَهُ الْوَعْكُ أَمَرَ بِالْحَسَاءِ فَصُنِعَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ يَرْتُو فُؤَادَ الْحَزِينِ وَيَسْرُو عَنْ فُؤَادِ السَّقِيمِ، كَمَا تَسْرُو إِحْدَاكُنَّ الْوَسَخَ عَنْ وَجْهِهَا بِالْمَاءِ. وَيَرْتُو بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَيَسْرُو وَزْنُهُ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ رَاءٍ، وَمَعْنَى يَرْتُو يُقَوِّي وَمَعْنَى يَسْرُو يَكْشِفُ، وَالْبَغِيضُ بِوَزْنِ عَظِيمٍ مِنَ الْبُغْضِ أَيْ يُبْغِضُهُ الْمَرِيضُ مَعَ كَوْنِهِ يَنْفَعُهُ كَسَائِرِ الْأَدْوِيَةِ. وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ: وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا.

قَالَ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ: إِذَا شِئْتَ مَعْرِفَةَ مَنَافِعِ التَّلْبِينَةِ فَاعْرِفْ مَنَافِعَ مَاءِ الشَّعِيرِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ نُخَالَةً، فَإِنَّهُ يَجْلُو وَيَنْفُذُ بِسُرْعَةٍ وَيُغَذِّي غِذَاءً لَطِيفًا، وَإِذَا شُرِبَ حَارًّا كَانَ أَجْلَى وَأَقْوَى نُفُوذًا وَأَنْمَى لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْفُؤَادِ فِي الْحَدِيثِ رَأْسُ الْمَعِدَةِ، فَإِنَّ فُؤَادَ الْحَزِينِ يَضْعُفُ بِاسْتِيلَاءِ الْيُبْسِ عَلَى أَعْضَائِهِ وَعَلَى مَعِدَتِهِ خَاصَّةً لِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ، وَالْحَسَاءُ يُرَطِّبُهَا وَيُغَذِّيهَا وَيُقَوِّيهَا، وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ بِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، لَكِنِ الْمَرِيضُ كَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي مَعِدَتِهِ خِلْطٌ مَرَارِيٌّ أَوْ بَلْغَمِيٌّ أَوْ صَدِيدِيٌّ، وَهَذَا الْحَسَاءُ يَجْلُو ذَلِكَ عَنِ الْمَعِدَةِ. قَالَ: وَسَمَّاهُ الْبَغِيضَ النَّافِعَ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ يَعَافُهُ وَهُوَ نَافِعٌ لَهُ، قَالَ: وَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ مِنَ الْحَسَاءِ لِمَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ فِي غِذَائِهِ الشَّعِيرُ، وَأَمَّا مَنْ يَغْلِبُ عَلَى غِذَائِهِ الْحِنْطَةُ فَالْأَوْلَى بِهِ فِي مَرَضِهِ حَسَاءُ الشَّعِيرِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْهَدْيِ: التَّلْبِينَةُ أَنْفَعُ مِنَ الْحَسَاءِ؛ لِأَنَّهَا تُطْبَخُ مَطْحُونَةً فَتَخْرُجُ خَاصَّةُ الشَّعِيرِ بِالطَّحْنِ، وَهِيَ أَكْثَرُ تَغْذِيَةً وَأَقْوَى فِعْلًا وَأَكْثَرُ جَلَاءً، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الْأَطِبَّاءُ النَّضِيجَ؛ لِأَنَّهُ أَرَقُّ وَأَلْطَفُ فَلَا يَثْقُلُ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَرِيضِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْعَادَةِ فِي الْبِلَادِ، وَلَعَلَّ اللَّائِقَ بِالْمَرِيضِ مَاءُ الشَّعِيرِ إِذَا طُبِخَ صَحِيحًا، وَبِالْحَزِينِ إِذَا طُبِخَ مَطْحُونًا، لَمَّا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْخَاصِّيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌9 - بَاب السَّعُوطِ

5691 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: احْتَجَمَ، وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَاسْتَعَطَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السَّعُوطِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ: مَا يُجْعَلُ فِي الْأَنْفِ مِمَّا يُتَدَاوَى بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَاسْتَعَطَ)، أَيِ: اسْتَعْمَلَ السَّعُوطَ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَلْقِيَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَيَجْعَلَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مَا يَرْفَعُهُمَا لِيَنْحَدِرَ رَأْسُهُ وَيُقْطَرَ فِي أَنْفِهِ مَاءٌ أَوْ دُهْنٌ فِيهِ دَوَاءٌ مُفْرَدٌ أَوْ مُرَكَّبٌ، لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى دِمَاغِهِ لِاسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ مِنَ الدَّاءِ بِالْعُطَاسِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَا يُسْتَعَطُ بِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: إنَّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ.

‌10 - بَاب السَّعُوطِ بِالْقُسْطِ الْهِنْدِيِّ وَالْبَحْرِيِّ

ص: 147

وَهُوَ الْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ وَالْقَافُورِ، ومِثْلُ كُشِطَتْ وَقُشِطَتْ: نُزِعَتْ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قُشِطَتْ

5692 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ: يُسْتَعَطُ بِهِ مِنْ الْعُذْرَةِ وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ. .

[الحديث 5692 - أطرافه في: 5713، 5715، 5718]

5693 -

"وَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَيْهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّ عَلَيْهِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ السَّعُوطِ بِالْقُسْطِ الْهِنْدِيِّ وَالْبَحْرِيِّ). قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: الْقُسْطُ نَوْعَانِ: هِنْدِيٌّ وَهُوَ أَسْوَدُ، وَبَحْرِيٌّ وَهُوَ أَبْيَضُ، وَالْهِنْدِيُّ أَشَدُّهُمَا حَرَارَةً.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ الْكُسْتُ)، يَعْنِي: أَنَّهُ يُقَالُ بِالْقَافِ وَبِالْكَافِ، وَيُقَالُ بِالطَّاءِ وَبِالْمُثَنَّاةِ، وَذَلِكَ لِقُرْبِ كُلٍّ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ بِالْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا يجوز أَيْضًا مَعَ الْقَافِ بِالْمُثَنَّاةِ وَمَعَ الْكَافِ بِالطَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ عِنْدَ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضِ: نُبْذَةٌ مِنَ الْكُسْتِ، وَفِي رِوَايَةِ عَنْهَا: مِنْ قُسْطٍ، وَمَضَى لِلْمُصَنِّفِ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ فِي بَابِ الْقُسْطِ لِلْحَادَّةِ.

قَوْلُهُ: (مِثْلُ الْكَافُورِ وَالْقَافُورِ) تَقَدَّمَ هَذَا فِي بَابِ الْقُسْطِ لِلْحَادَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَمِثْلُ كُشِطَتْ وَقُشِطَتْ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ قُشِطَتْ)، زَادَ النَّسَفِيُّ: أَيْ نُزِعَتْ، يُرِيدُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ: وَإ ذَا السَّمَاءُ قُشِطَتْ بِالْقَافِ، وَلَمْ تَشْتَهِرْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ، وَقَدْ وَجَدْتُ سَلَفَ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا: فَقَرَأْتُ فِي كِتَابِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لِلْفَرَّاءِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} قَالَ: يَعْنِي نُزِعَتْ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ قُشِطَتْ بِالْقَافِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: الْكَافُورُ وَالْقَافُورُ وَالْقَشْطُ وَالْكَشْطُ، وَإِذَا تَقَارَبَ الْحَرْفَانِ فِي الْمَخْرَجِ تَعَاقَبَا فِي الْمَخْرَجِ هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ جَيِّدَةٍ مِنْهُ الْكَشْطُ بِالْكَافِ وَالطَّاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) سَيَأْتِي بِلَفْظِ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أُمِّ قَيْسِ بِنْتِ مِحْصَنٍ) وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْهَا، وَسَيَأْتِي أَيْضًا قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ) كَذَا وَقَعَ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ فِي أَوَّلِهِ قِصَّةٌ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لِي، وَقَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، فَقَالَ: عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَ وَلَدَهَا عُذْرَةٌ أَوْ وَجَعٌ فِي رَأْسِهِ فَلْتَأْخُذْ قُسْطًا هِنْدِيًّا فَتَحُكُّهُ بِمَاءٍ ثُمَّ تُسْعِطُهُ إِيَّاهُ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي بَعْدَ بَابَيْنِ إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِكُلِّ مَا يُلَائِمُهُ، فَحَيْثُ وُصِفَ الْهِنْدِيُّ كَانَ لِاحْتِيَاجٍ فِي الْمُعَالَجَةِ إِلَى دَوَاءٍ شَدِيدِ الْحَرَارَةِ، وَحَيْثُ وُصِفَ الْبَحْرِيُّ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الْحَرَارَةِ، لِأَنَّ الْهِنْدِيَّ كَمَا تَقَدَّمَ أَشَدُّ حَرَارَةً مِنَ الْبَحْرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ سِينَا: الْقُسْطُ حَارٌّ فِي الثَّالِثَةِ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ) جَمْعُ شَفَاءٍ كَدَوَاءٍ وَأَدْوِيَةٍ.

قَوْلُهُ: (يُسْتَعَطُ بِهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ) كَذَا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ فِي الْحَدِيثِ مِنَ السَّبْعَةِ عَلَى اثْنَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ السَّبْعَةَ فَاخْتَصَرَهُ الرَّاوِي أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الِاثْنَيْنِ لِوُجُودِهِمَا حِينَئِذٍ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَسَيَأْتِي مَا يُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الثَّانِي. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ مِنْ مَنَافِعِ الْقُسْطِ أَنَّهُ يُدِرُّ الطَّمْثَ وَالْبَوْلَ وَيَقْتُلُ دِيدَانَ الْأَمْعَاءِ وَيَدْفَعُ السُّمَّ وَحُمَّى الرِّبْعِ وَالْوِرْدِ وَيُسَخِّنُ الْمَعِدَةَ وَيُحَرِّكُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ وَيُذْهِبُ الْكَلَفَ طِلَاءً، فَذَكَرُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، وَأَجَابَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِأَنَّ السَّبْعَةَ عُلِمَتْ بِالْوَحْيِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا

ص: 148

بِالتَّجْرِبَةِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا هُوَ بِالْوَحْيِ لِتَحَقُّقِهِ. وَقِيلَ: ذَكَرَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ السَّبْعَةُ أُصُولٍ صِفَةَ التَّدَاوِي بِهَا ; لِأَنَّهَا إِمَّا طِلَاءٌ أَوْ شُرْبٌ أَوْ تَكْمِيدٌ أَوْ تَنْطِيلٌ أَوْ تَبْخِيرٌ أَوْ سَعُوطٌ أَوْ لَدُودٌ ; فَالطِّلَاءُ يَدْخُلُ فِي الْمَرَاهِمِ وَيُحَلَّى بِالزَّيْتِ وَيُلَطَّخُ، وَكَذَا التَّكْمِيدُ، وَالشُّرْبُ يُسْحَقُ وَيُجْعَلُ فِي عَسَلٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَكَذَا التَّنْطِيلُ، وَالسَّعُوطُ يُسْحَقُ فِي زَيْتٍ وَيُقْطَرُ فِي الْأَنْفِ، وَكَذَا الدُّهْنُ، وَالتَّبْخِيرُ وَاضِحٌ، وَتَحْتَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّبْعَةِ مَنَافِعُ لِأَدْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَا يُسْتَغْرَبُ ذَلِكَ مِمَّنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ.

وَأَمَّا الْعُذْرَةُ فَهِيَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَجَعٌ فِي الْحَلْقِ يَعْتَرِي الصِّبْيَانَ غَالِبًا، وَقِيلَ: هِيَ قُرْحَةٌ تَخْرُجُ بَيْنَ الْأُذُنِ وَالْحَلْقِ أَوْ فِي الْخُرْمِ الَّذِي بَيْنَ الْأَنْفِ وَالْحَلْقِ، قِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ غَالِبًا عِنْدَ طُلُوعِ الْعُذْرَةِ ; وَهِيَ خَمْسَةُ كَوَاكِبَ تَحْتَ الشِّعْرَى الْعَبُورِ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: الْعَذَارَى، وَطُلُوعُهَا يَقَعُ وَسَطَ الْحَرِّ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ مُعَالَجَتُهَا بِالْقُسْطِ مَعَ كَوْنِهِ حَارًّا، وَالْعُذْرَةُ إِنَّمَا تَعْرِضُ فِي زَمَنِ الْحَرِّ بِالصِّبْيَانِ وَأَمْزِجَتُهُمْ حَارَّةٌ، وَلَا سِيَّمَا وَقُطْرُ الْحِجَازِ حَارٌّ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَادَّةَ الْعُذْرَةِ دَمٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْبَلْغَمُ، وَفِي الْقُسْطِ تَخْفِيفٌ لِلرُّطُوبَةِ. وَقَدْ يَكُونُ نَفْعُهُ فِي هَذَا الدَّوَاءِ بِالْخَاصِّيَّةِ، وَأَيْضًا فَالْأَدْوِيَةُ الْحَارَّةُ قَدْ تَنْفَعُ فِي الْأَمْرَاضِ الْحَارَّةِ بِالْعَرَضِ كَثِيرًا، بَلْ وَبِالذَّاتِ أَيْضًا. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِينَا فِي مُعَالَجَةِ سُعُوطِ اللَّهَاةِ الْقُسْطَ مَعَ الشَّبِّ الْيَمَانِيِّ وَغَيْرِهِ. عَلَى أَنَّنَا لَوْ لَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنَ التَّوْجِيهَاتِ لَكَانَ أَمْرُ الْمُعْجِزَةِ خَارِجًا عَنِ الْقَوَاعِدِ الطِّبِّيَّةِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَاتِ الْجَنْبِ فِي بَابِ اللَّدُودِ، وَفِيهِ شَرْحُ بَقِيَّةِ حَدِيثِ أُمِّ قَيْسٍ هَذَا.

وَقَوْلُهَا: وَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لِي تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا فِي الطَّهَارَةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ آخَرُ لِأُمِّ قَيْسٍ وَقَعَ ذِكْرُهُ هُنَا اسْتِطْرَادًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌11 - بَاب أَيَّ سَاعَةٍ يَحْتَجِمُ، وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلًا

5694 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَيَّةَ سَاعَةٍ يَحْتَجِمُ)، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَيَّ سَاعَةٍ بِلَا هَاءٍ، وَالْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ فِي التَّرْجَمَةِ مُطْلَقُ الزَّمَانِ، ولَا خُصُوصُ السَّاعَةِ الْمُتَعَارَفَةِ.

قَوْلُهُ: (وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلًا) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَفِيهِ أَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنَ الْحِجَامَةِ نَهَارًا كَانَ بِسَبَبِ الصِّيَامِ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ خَلَلٌ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ فَكَرِهَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ لِئَلَّا يُغَرِّرَ بِصَوْمِهِ، لَا لِكَوْنِ الْحِجَامَةِ تُفْطِرُ الصَّائِمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي حَدِيثِ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ هُنَاكَ، وَوَرَدَ فِي الْأَوْقَاتِ اللَّائِقَةِ بِالْحِجَامَةِ أَحَادِيثُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ عَلَى شَرْطِهِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا تُصْنَعُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ وَلَا تَتَقَيَّدُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الِاحْتِجَامَ لَيْلًا.

وذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ وَهُوَ يَقْتَضِي كَوْنَ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ نَهَارًا، وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ أَنْفَعَ الْحِجَامَةِ مَا يَقَعُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ، وَأَنْ لَا يَقَعَ عَقِبَ اسْتِفْرَاغٍ عَنْ جِمَاعٍ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَا عَقِبَ شِبَعٍ وَلَا جُوعٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي تَعْيِينِ الْأَيَّامِ لِلْحِجَامَةِ، حَدِيثٌ لِابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، رَفَعَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَفِيهِ: فَاحْتَجِمُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ ; وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَالْجُمْعَةِ وَالسَّبْتِ وَالْأَحَدِ. أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ، وَلَهُ طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْأَفْرَادِ، وَأَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَنَقَلَ الْخَلَّالُ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ الْحِجَامَةَ فِي الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ، وَإنَّ كان الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ، وَحَكَى أَنَّ رَجُلًا احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَأَصَابَهُ بَرَصٌ

ص: 149

لِكَوْنِهِ تَهَاوَنَ بِالْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْحِجَامَةَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُرْقَأُ فِيهَا.

وَوَرَدَ فِي عَدَدٍ مِنَ الشَّهْرِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، وَسَعِيدٌ وَثَّقَهُ الْأَكْثَرُ، وَلَيَّنَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ. وَشَاهِدٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، لَكِنْ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ قَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ أَحْمَدُ يَحْتَجِمُ أَيْ وَقْتَ هَاجَ بِهِ الدَّمُ وَأَيَّ سَاعَةٍ كَانَتْ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الشَّهْرِ ثُمَّ فِي الرُّبُعِ الثَّالِثِ مِنْ أَرْبَاعِهِ أَنْفَعُ مِنَ الْحِجَامَةِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، قَالَ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الْأَخْلَاطَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تَهِيجُ وَفِي آخِرِهِ تَسْكُنُ، فَأَوْلَى مَا يَكُونُ الِاسْتِفْرَاغُ فِي أَثْنَائِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌12 - بَاب الْحَجْمِ فِي السَّفَرِ وَالْإِحْرَامِ، قَالَهُ ابْنُ بُحَيْنَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

5695 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَجْمِ فِي السَّفَرِ وَالْإِحْرَامِ، قَالَهُ ابْنُ بُحَيْنَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مَوْصُولًا عَنْ عُبَدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ مُحْرِمًا، فَانْتُزِعَتِ التَّرْجَمَةُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ مَعًا، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحْدَهُ كَافٍ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مِنْ لَازِمِ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُحْرِمًا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ قَطُّ وَهُوَ مُقِيمٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِحِجَامَةِ الْمُحْرِمِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَأَمَّا الْحِجَامَةُ لِلْمُسَافِرِ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا تُفْعَلُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا مِنْ هَيَجَانِ الدَّمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِحَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌13 - بَاب الْحِجَامَةِ مِنْ الدَّاءِ

5696 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَجْرِ الْحَجَّامِ، فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ، وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ، فَخَفَّفُوا عَنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ. وَقَالَ: لَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنْ الْعُذْرَةِ وَعَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ.

5697 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو وَغَيْرُهُ، أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما عَادَ الْمُقَنَّعَ ثُمَّ قَالَ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى يحْتَجِمَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ فِيهِ شِفَاءً.

ص: 150

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحِجَامَةِ مِنَ الدَّاءِ)، أَيْ: بِسَبَبِ الدَّاءِ. قَالَ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ: الْحِجَامَةُ تُنَقِّي سَطْحَ الْبَدَنِ أَكْثَرَ مِنَ الْفَصْدِ، وَالْفَصْدُ لِأَعْمَاقِ الْبَدَنِ، وَالْحِجَامَةُ لِلصِّبْيَانِ، وَفِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ أَوْلَى مِنَ الْفَصْدِ وَآمَنُ غَائِلَةً، وَقَدْ تُغْنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَلِهَذَا وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذِكْرِهَا دُونَ الْفَصْدِ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ غَالِبًا مَا كَانَتْ تَعْرِفُ إِلَّا الْحِجَامَةَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْهَدْيِ: التَّحْقِيقُ فِي أَمْرِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمَزَاجِ، فَالْحِجَامَةُ فِي الْأَزْمَانِ الْحَارَّةِ وَالْأَمْكِنَةِ الْحَارَّةِ وَالْأَبْدَانِ الْحَارَّةِ الَّتِي دَمُ أَصْحَابِهَا فِي غَايَةِ النُّضْجِ أَنْفَعُ، وَالْفَصْدُ بِالْعَكْسِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْحِجَامَةُ أَنْفَعَ لِلصِّبْيَانِ وَلِمَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْفَصْدِ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ: سَمِعْتُ أَنَسًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ.

قَوْلُهُ (عَنْ أَجْرِ الْحَجَّامِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ حُمَيْدٍ: كَسْبِ الْحَجَّامِ.

قَوْلُهُ: (حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، تَقَدَّمَ فِي الْإِجَارَةِ ذِكْرُ تَسْمِيَتِهِ وَتَعْيِينُ مَوَالِيهِ، وَكَذَا جِنْسُ مَا أُعْطِيَ مِنَ الْأُجْرَةِ وَأَنَّهُ تَمْرٌ، وَحُكْمُ كَسْبِهِ، فَأَغْنَى عَنِ إِعَادَتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُفْرَدًا مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ: أَفْضَلُ، قَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ: الْخِطَابُ بِذَلِكَ لِأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، لِأَنَّ دِمَاءَهُمْ رَقِيقَةٌ وَتَمِيلُ إِلَى ظَاهِرِ الْأَبْدَانِ لِجَذْبِ الْحَرَارَةِ الْخَارِجَةِ لَهَا إِلَى سَطْحِ الْبَدَنِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْخِطَابَ أَيْضًا لِغَيْرِ الشُّيُوخِ لِقِلَّةِ الْحَرَارَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَحْتَجِمْ. قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ حِينَئِذٍ فِي انْتِقَاصٍ مِنْ عُمُرِهِ وَانْحِلَالٍ مِنْ قُوَى جَسَدِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَهُ وَهْيًا بِإِخْرَاجِ الدَّمِ، اهـ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ سِينَا فِي أُرْجُوزَتِهِ:

وَمَنْ يَكُنْ تَعَوَّدَ الْفِصَادَهْ

فَلَا يَكُنْ يَقْطَعُ تِلْكَ الْعَادَهْ ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُقَلِّلُ ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ جُمْلَةً فِي عَشْرِ الثَّمَانِينَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: لَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنَ الْعُذْرَةِ ; وَعَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ) هُوَ مَوْصُولٌ أَيْضًا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَى حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. وَقَدْ أَوْرَدَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ مَضْمُومًا إِلَى حَدِيثِ: خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحِجَامَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْمُدَاوَاةِ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَعَلَى حُكْمِ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِجَارَةِ، وَعَلَى التَّدَاوِي بِالْقُسْطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْأَعْلَاقِ فِي الْعُذْرَةِ وَالْغَمْزَةِ فِي بَابِ اللَّدُودِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ) بِمُثَنَّاةٍ وَلَامٍ وَزْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عِيسَى بْنِ تَلِيدٍ نُسِبَ لِجَدِّهِ، وَهُوَ مِصْرِيٌّ، وَثَّقَهُ أَبُو يُونُسَ وَقَالَ: كَانَ فَقِيهًا ثَبْتًا فِي الْحَدِيثِ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِلْقُضَاةِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَمْرٌو وَغَيْرُهُ) أَمَّا عَمْرٌو فَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَمَا عَرَفْتُهُ ; وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَحْدَهُ، لَمْ يَقُلِ أَحَدٌ فِي الْإِسْنَادِ: وَغَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ) هَكَذَا أَفْرَدَ الضَّمِيرَ لِوَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ ذِكْرَ اثْنَيْنِ، وَبُكَيْرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَرُبَّمَا نُسِبَ لِجَدِّهِ، مَدَنِيٌّ سَكَنَ مِصْرَ، وَالْإِسْنَادُ إِلَيْهِ مِصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (عَادَ الْمُقَنَّعُ) بِقَافٍ

ص: 151

وَنُونٍ ثَقِيلَةٍ مَفْتُوحَةٍ هُوَ ابْنُ سِنَانٍ تَابِعِيٌّ. لَا أَعْرِفُهُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (أن فِيهِ شِفَاءً) كَذَا ذَكَرَهُ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ مُخْتَصَرًا، وَمَضَى فِي بَابِ الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْغَسِيلِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ مُطَوَّلًا، وَسَيَأْتِي أَيْضًا عَنْ قُرْبٍ.

‌14 - بَاب الْحِجَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ

5698 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ بُحَيْنَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ.

5699 -

وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ فِي رَأْسِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحِجَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ)، وَرَدَ فِي فَضْلِ الْحِجَامَةِ فِي الرَّأْسِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَفَعَهُ -: الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ تَنْفَعُ مِنْ سَبْعٍ: مِنَ الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَالنُّعَاسِ وَالصُّدَاعِ، وَوَجَعِ الضِّرْسِ وَالْعَيْنِ. وَعُمَرُ مَتْرُوكٌ رَمَاهُ الْفَلَّاسُ وَغَيْرُهُ بِالْكَذِبِ، وَلَكِنْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: إِنَّ الْحِجَامَةَ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ نَافِعَةٌ جِدًّا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهَا كَمَا فِي أَوَّلِ حَدِيثَيِ الْبَابِ وَآخِرِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِأَوَّلِهِمَا، وَوَرَدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ أَيْضًا فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ: فَصْدُ الْبَاسِلِيقِ يَنْفَعُ حَرَارَةَ الْكَبِدِ وَالطُّحَالِ وَالرِّئَةِ وَمِنَ الشَّوْصَةِ وَذَاتِ الْجَنْبِ وَسَائِرِ الْأَمْرَاضِ الدَّمَوِيَّةِ الْعَارِضَةِ مِنْ أَسْفَلِ الرُّكْبَةِ إِلَى الْوَرِكِ، وَفَصْدُ الْأَكْحَلِ يَنْفَعُ الِامْتِلَاءَ الْعَارِضَ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ إِذَا كَانَ دَمَوِيًّا وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فَسَدَ، وَفَصْدُ الْقِيفَالِ يَنْفَعُ مِنْ عِلَلِ الرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ إِذَا كَثُرَ الدَّمُ أَوْ فَسَدَ، وَفَصْدُ الْوَدَجَيْنِ لِوَجَعِ الطُّحَالِ وَالرَّبْوِ وَوَجَعِ الْجَنْبَيْنِ، وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْكَاهِلِ تَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْمَنْكِبِ وَالْحَلْقِ، وَتَنُوبُ عَنْ فَصْدِ الْبَاسِلِيقِ، وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْأَخْدَعَيْنِ تَنْفَعُ مِنْ أَمْرَاضِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ كَالْأُذُنَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأَسْنَانِ وَالْأَنْفِ وَالْحَلْقِ، وَتَنُوبُ عَنْ فَصْدِ الْقِيفَالِ، وَالْحِجَامَةُ تَحْتَ الذَّقَنِ تَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ وَالْوَجْهِ وَالْحُلْقُومِ وَتُنَقِّي الرَّأْسَ، وَالْحِجَامَةُ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ تَنُوبُ عَنْ فَصْدِ الصَّافِنِ، وَهُوَ عِرْقٌ عِنْدَ الْكَعْبِ، وَتَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْفَخِذَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَانْقِطَاعِ الطَّمْثِ وَالْحَكَّةِ الْعَارِضَةِ فِي الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْحِجَامَةُ عَلَى أَسْفَلِ الصَّدْرِ نَافِعَةٌ مِنْ دَمَامِيلِ الْفَخِذِ وَجَرَبِهِ وَبُثُورِهِ وَمِنَ النِّقْرِسِ وَالْبَوَاسِيرِ وَدَاءِ الْفِيلِ وَحَكَّةِ الظَّهْرِ، وَمَحِلُّ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا كَانَ عَنْ دَمٍ هَائِجٍ وَصَادَفَ وَقْتُ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْمَقْعَدَةِ تَنْفَعُ الْأَمْعَاءَ وَفَسَادَ الْحَيْضِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَعَلْقَمَةُ هُوَ ابْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَالِهِ فِي أَبْوَابِ الْمُحْصَرِ فِي الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (احْتَجَمَ بِلَحْيَيْ جَمَلٍ) كَذَا وَقَعَ بِالتَّثْنِيَةِ، وَتَقَدَّمَ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ وَاللَّامُ مَفْتُوحَةٌ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَجَمَلٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ، قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: هِيَ بُقْعَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ عَقَبَةُ الْجُحْفَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ السُّقْيَا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمُ أَنَّهُ الْآلَةُ الَّتِي احْتَجَمَ بِهَا أَيِ احْتَجَمَ بِعَظْمِ جَمَلٍ، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ، وَسَأَذْكُرُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ التَّصْرِيحَ بِقِصَّةِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فِي وَسَطِ رَأْسِهِ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ تَسْكِينُهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ

ص: 152

فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَقَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدٍ الله الْأَنْصَارِيُّ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: احْتَجَمَ احتِجَامَةً فِي رَأْسِهِ، وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ بِلَفْظِ: احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ صُدَاعٍ كَانَ بِهِ أَوْ دَاءٍ، وَاحْتَجَمَ فِيمَا يُقَالُ لَهُ لَحْيُ جَمَلٍ. وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: بِمَا يُقَالُ لَهُ لَحْيُ جَمَلٍ.

‌15 - بَاب الْحِجَامَةِ مِنْ الشَّقِيقَةِ وَالصُّدَاعِ

5700 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ لُحْيُ جَمَلٍ.

5701 -

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ.

5702 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ لَذْعَةٍ مِنْ نَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحِجَامَةِ مِنَ الشَّقِيقَةِ وَالصُّدَاعِ)، أَيْ: بِسَبَبِهِمَا، وَقَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَأَوْرَدَ مَا فِيهَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ مُتَّجَهٌ. وَالشَّقِيقَةُ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَقَافَيْنِ وَزْنُ عَظِيمَةٍ: وَجَعٌ يَأْخُذُ فِي أَحَدِ جَانِبَيِ الرَّأْسِ أَوْ فِي مُقَدَّمِهِ، وَذَكَرَ أَهْلُ الطِّبِّ أَنَّهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ، وَسَبَبُهُ أَبْخِرَةٌ مُرْتَفِعَةٌ أَوْ أَخْلَاطٌ حَارَّةٌ أَوْ بَارِدَةٌ تَرْتَفِعُ إِلَى الدِّمَاغِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَنْفَذًا أَحْدَثَ الصُّدَاعَ، فَإِنْ مَالَ إِلَى أَحَدِ شِقَّيِ الرَّأْسِ أَحْدَثَ الشَّقِيقَةَ، وَإِنْ مَلَكَ قِمَّةَ الرَّأْسِ أَحْدَثَ دَاءَ الْبَيْضَةِ. وَذِكْرُ الصُّدَاعِ بَعْدَهُ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ.

وَأَسْبَابُ الصُّدَاعِ كَثِيرَةٌ جِدًّا: مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ وَرَمٍ فِي الْمَعِدَةِ أَوْ فِي عُرُوقِهَا، أَوْ رِيحٍ غَلِيظَةٍ فِيهَا أَوْ لِامْتِلَائِهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنَ الْحَرَكَةِ الْعَنِيفَةِ كَالْجِمَاعِ وَالْقَيْءِ وَالِاسْتِفْرَاغِ أَوِ السَّهَرِ أَوْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ، وَمِنْهَا مَا يَحْدُثُ عَنِ الْأَغْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ كَالْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْحُزْنِ وَالْجُوعِ وَالْحُمَّى، وَمِنْهَا مَا يَحْدُثُ عَنْ حَادِثٍ فِي الرَّأْسِ كَضَرْبَةٍ تُصِيبُهُ، أَوْ وَرَمٍ فِي صِفَاقِ الدِّمَاغِ، أَوْ حَمْلِ شَيْءٍ ثَقِيلٍ يَضْغَطُ الرَّأْسَ، أَوْ تَسْخِينِهِ بِلُبْسِ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنِ الِاعْتِدَالِ، أَوْ تَبْرِيدِهِ بِمُلَاقَاةِ الْهَوَاءِ أَوِ الْمَاءِ فِي الْبَرْدِ: وَأَمَّا الشَّقِيقَةُ بِخُصُوصِهَا فَهِيَ فِي شَرَايِينِ الرَّأْسِ وَحْدَهَا، وَتَخْتَصُّ بِالْمَوْضِعِ الْأَضْعَفِ مِنَ الرَّأْسِ ; وَعِلَاجُهَا بِشَدِّ الْعِصَابَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ رُبَّمَا أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ ; فَيَمْكُثُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ لَا يَخْرُجُ الْحَدِيثَ. وَتَقَدَّمَ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ.

قوله في الطريق الأول (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ وَجَعٍ كَانَ قَدْ بَيَّنَهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدُه.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَمَدٍّ هُوَ السَّدُوسِيُّ، وَاسْمُ جَدِّهِ عَنْبَرٌ بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ ; بَصْرِيٌّ يُكَنَّى أَبَا الْخَطَّابِ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ

ص: 153

سِوَى حَدِيثٍ مَوْصُولٍ مَضَى فِي الْمَنَاقِبِ ; وَآخَرَ يَأْتِي فِي الْأَدَبِ وَهَذَا الْمُعَلَّقِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ فَذَكَرَهُ سَوَاءٌ. وَقَدِ اتَّفَقَتْ هَذِهِ الطُّرُقُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ احْتَجَمَ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ، وَوَافَقَهَا حَدِيثُ ابْنِ بُحَيْنَةَ، وَخَالَفَ ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ: فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ، قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ ; إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ حَكَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ فَأَرْسَلَهُ، وَسَعِيدٌ أَحْفَظُ مِنْ مَعْمَرٍ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ وَاضِحٌ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّعَدُّدِ ; أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا جَوَازُ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ وَأَنَّ إِخْرَاجَهُ الدَّمَ لَا يَقْدَحُ فِي إِحْرَامِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُحْرِمَ إِنِ احْتَجَمَ وَسَطَ رَأْسِهِ لِعُذْرٍ جَازَ مُطْلَقًا، فَإِنْ قَطَعَ الشَّعْرَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، فَإِنِ احْتَجَمَ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَقَطَعَ حَرُمَ ; وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ) هُوَ الْوَرَّاقُ الْأَزْدِيُّ الْكُوفِيُّ أَبُو إِسْحَاقَ - أَوْ أَبُو إِبْرَاهِيمَ - مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ. وَهُوَ صَدُوقٌ، تَكَلَّمَ فِيهِ الْجُوزَجَانِيُّ لِأَجْلِ التَّشَيُّعِ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَدُوقٌ. وَفِي عَصْرِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: الْغَنَوِيُّ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: الْغَنَوِيُّ كَذَّابٌ وَالْوَرَّاقُ ثِقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: الْوَرَّاقُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالْغَنَوِيُّ كَتَبْتُ عَنْهُ وَتَرَكْتُهُ، وَضَعَّفَهُ جِدًّا. وَكَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَحْمَدُ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَجَمَاعَةٌ، وَغَفَلَ مَنْ خَلَّطَهُمَا. وَكَانَتْ وَفَاةُ الْغَنَوِيِّ قَبْلَ الْوَرَّاقِ بِسِتِّ سِنِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ، تَقَدَّمَ شَرْحُ حَالِهِ قَرِيبًا.

‌16 - بَاب الْحَلْقِ مِنْ الْأَذَى

5703 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبٍ - هُوَ ابْنُ عُجْرَةَ - قَالَ: أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ بُرْمَةٍ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَنْ رَأْسِي، فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْلِقْ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةً، أَوْ انْسُكْ نَسِيكَةً. قَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي بِأَيَّتِهِنَّ بَدَأَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَلْقِ مِنَ الْأَذَى) أَيْ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْقَمْلِ، وقد مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَكَأَنَّهُ أَوْرَدَهُ عَقِبَ حَدِيثِ الْحِجَامَةِ وَسَطَ الرَّأْسِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ جَوَازَ حَلْقِ الشَّعْرِ لِلْمُحْرِمِ لِأَجْلِ الْحِجَامَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ جَوَازِ حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.

‌17 - بَاب مَنْ اكْتَوَى أَوْ كَوَى غَيْرَهُ وَفَضْلِ مَنْ لَمْ يَكْتَوِ

5704 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ،

ص: 154

أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ.

5705 -

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: "لَا رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمْ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ قُلْتُ مَا هَذَا؟ أُمَّتِي هَذِهِ؟ قِيلَ: بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ قِيلَ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلَا الأُفُقَ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلَا الأُفُقَ قِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفاً بِغَيْرِ حِسَابٍ ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ فَأَفَاضَ الْقَوْمُ وَقَالُوا نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ فَنَحْنُ هُمْ أَوْ أَوْلَادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلَامِ فَإِنَّا وُلِدْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَالَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا؟ قَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اكْتَوَى أَوْ كَوَى غَيْرَهُ، وَفَضْلُ مَنْ لَمْ يَكْتَوِ) كَأَنَّهُ أَرَادَ الْكَيَّ جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ، وَأَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَأَنَّهُ إِذَا جَازَ كَانَ أَعَمَّ مِنْ إِنْ يُبَاشِرَ الشَّخْصُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَعُمُومُ الْجَوَازِ مَأْخُوذٌ مِنْ نِسْبَةِ الشِّفَاءِ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَفَضْلُ تَرْكِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ عَلَى أَكْحَلِهِ فَحَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا ثُمَّ كَوَاهُ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَوَانِي أَبُو طَلْحَةَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ، وَأَنَّهُ كُوِيَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا.

وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنَ الشَّوْكَةِ، وَلِمُسْلِمٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ حَتَّى اكْتَوَيْتُ فَتُرِكْ، ثُمَّ تَرَكْتُ الْكَيَّ فَعَادَ، وَلَهُ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: إِنَّ الَّذِي كَانَ انْقَطَعَ عَنِّي رَجَعَ إِلَيَّ يَعْنِي تَسْلِيمَ الْمَلَائِكَةِ، كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ، فَلَمَّا اكْتَوَيْتُ أَمْسَكَ عَنِّي، فَلَمَّا تَرَكْتُهُ عَادَ إِلَيَّ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَيِّ فَاكْتَوَيْنَا، فَمَا أَفْلَحْنَا وَلَا أَنْجَحْنَا، وَفِي لَفْظٍ: فَلَمْ يُفْلِحْنَ وَلَمْ يُنْجِحْنَ، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ، وَالنَّهْيُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ أَوْ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى لِمَا يَقْتَضِيهِ مَجْمُوعُ الْأَحَادِيثِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِعِمْرَانَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِهِ الْبَاسُورُ، وَكَانَ مَوْضِعُهُ خَطِرًا فَنَهَاهُ عَنْ كَيِّهِ. فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ كَوَاهُ فَلَمْ يُنْجِحْ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْكَيُّ نَوْعَانِ: كَيُّ الصَّحِيحِ لِئَلَّا يَعْتَلَّ، فَهَذَا الَّذِي قِيلَ فِيهِ: لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنِ اكْتَوَى؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ الْقَدَرَ، وَالْقَدَرُ لَا يُدَافَعُ، وَالثَّانِي كَيُّ الْجُرْحِ إِذَا نَغِلَ، أَيْ: فَسَدَ، وَالْعُضْوُ إِذَا قُطِعَ، فَهُوَ الَّذِي يُشْرَعُ التَّدَاوِي بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْكَيُّ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْجِيلِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ لِأَمْرٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ. وَحَاصِلُ الْجَمْعِ أَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَعَدَمُ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ أَرْجَحُ مِنْ فِعْلِهِ، وَكَذَا الثَّنَاءُ عَلَى تَارِكِهِ.

وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْهُ فَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّنْزِيهِ وَإِمَّا عَمَّا لَا يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا إِلَى الشِّفَاءِ

ص: 155

وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي بَابِ الشِّفَاءِ فِي ثَلَاثٍ وَلَمْ أَرَ فِي أَثَرٍ صَحِيحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اكْتَوَى، إِلَّا أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ نَسَبَ إِلَى كِتَابِ أَدَبِ النُّفُوسِ لِلطَّبَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اكْتَوَى، وَذَكَرَهُ الْحَلِيمِيُّ بِلَفْظِ: رُوِيَ أَنَّهُ اكْتَوَى لِلْجُرْحِ الَّذِي أَصَابَهُ بِأُحُدٍ. قُلْتُ: وَالثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: أَنَّ فَاطِمَةَ أَحْرَقَتْ حَصِيرًا فَحَشَتْ بِهِ جُرْحَهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْكَيَّ الْمَعْهُودَ، وَجَزَمَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ اكْتَوَى، وَعَكَسَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ جَابِرًا) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ بِسَنَدِهِ أَتَانَا جَابِرٌ فِي بَيْتِنَا فَحَدَّثْنَا.

قَوْلُهُ: (فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ) كَذَا اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ عَلَى شَيْئَيْنِ، وَحَذَفَ الثَّالِثَ وَهُوَ الْعَسَلُ ; وَثَبَتَ ذِكْرُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ بَلِ أَحَالَ بِهِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ الْغَسِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ تَامًّا فِي بَابِ الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ وَاخْتَصَرَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَيْضًا قَوْلَهُ: تُوَافِقُ الدَّاءَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ.

قَوْلُهُ: (حُصَيْنٌ) بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَاسِطِيِّ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ)، كَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ مَوْقُوفًا، وَوَافَقَهُ هُشَيْمٌ، وَشُعْبَةُ، عَنْ حُصَيْنٍ عَلَى وَقْفِهِ، وَرِوَايَةُ هُشَيْمٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ، وَرِوَايَةُ شُعْبَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهَا ابْنَا أَبِي شَيْبَةَ، وَلَكِنْ قَالَا: عَنْ بُرَيْدَةَ بَدَلَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَخَالَفَ الْجَمِيعَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ فَرَوَاهُ مَرْفُوعًا وَقَالَ: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ حُصَيْنٍ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَذَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ: عَنْ حُصَيْنٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الشَّعْبِيِّ اخْتِلَافًا آخَرَ، فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ ابْنِ ذَرِيحٍ بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ بِوَزْنِ عَظِيمٍ، فَقَالَ: عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَنَسٍ وَرَفَعَهُ، وَشَذَّ الْعَبَّاسُ بِذَلِكَ، وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ حُصَيْنٍ مَعَ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَهَلْ هُوَ عَنْ عِمْرَانَ أَوْ بُرَيْدَةَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ عِنْدَهُ عَنْ عِمْرَانَ وَعَنْ بُرَيْدَةَ جَمِيعًا. وَوَقَعَ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ عَنِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلٌ، وَالْمُسْنَدُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ أَوْرَدَ حَدِيثَ الشَّعْبِيِّ اسْتِطْرَادًا وَلَمْ يَقْصِدِ إِلَى تَصْحِيحِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي حَذْفِ الْحُمَيْدِيِّ لَهُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْلًا. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْمُصَنِّفُ: إِنَّمَا أَرَدْنَا مِنْ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ مُرْسَلٌ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ.

قَوْلُهُ: (لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، قَالَ ثَعْلَبٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ سُمُّ الْعَقْرَبِ، وَقَالَ الْقَزَّازُ: قِيلَ: هِيَ شَوْكَةُ الْعَقْرَبِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: إِنَّهَا الْإِبْرَةُ الَّتِي تَضْرِبُ بِهَا الْعَقْرَبَ وَالزُّنْبُورَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحُمَةُ كُلُّ هَامَةٍ ذَاتِ سُمٍّ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مَرْفُوعًا: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ نَفْسٍ، أَوْ حُمَةٍ، أَوْ لَدْغَةٍ، فَغَايَرَ بَيْنَهُمَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى أَنَّ الْحُمَةَ خَاصَّةٌ بِالْعَقْرَبِ، فَيَكُونُ ذِكْرُ اللَّدْغَةِ بَعْدَهَا مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِ الرُّقْيَةِ فِي بَابِ رُقْيَةِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَكَذَلِكَ ذِكْرُ حُكْمِ الْعَيْنِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) الْقَائِلُ ذَلِكَ حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ بِزِيَادَةِ قِصَّةٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا. ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنْ لُدِغْتُ. قَالَ: وَكَيْفَ

ص: 156

فَعَلْتَ؟ قُلْتُ: اسْتَرْقَيْتُ. قَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنِاهُ الشَّعْبِيُّ، عَنْ بُرَيْدَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ. فَقَالَ سَعِيدٌ: قَدِ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وعُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: حَتَّى وَقَعَ فِي سَوَادٍ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِوَاوٍ وَقَافٍ، وَبِلَفْظِ: فِي، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: حَتَّى رُفِعَ بِرَاءٍ وَفَاءٍ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ فِي جَمِيعِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الرُّقْيَةِ بَعْدَ قَلِيلٍ، وَكَذَلِكَ يَأْتِي الْقَوْلُ فِي الطِّيَرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌18 - بَاب الْإِثْمِدِ وَالْكُحْلِ مِنْ الرَّمَدِ فِيهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ

5706 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، فَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا، فَذَكَرُوهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرُوا لَهُ الْكُحْلَ، وَأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى عَيْنِهَا، فَقَالَ: لَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي بَيْتِهَا فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا - أَوْ: فِي أَحْلَاسِهَا فِي شَرِّ بَيْتِهَا - فَإِذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بَعْرَةً، فَلَّا، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِثْمِدِ وَالْكُحْلِ مِنَ الرَّمَدِ)، أَيْ: بِسَبَبِ الرَّمَدِ، وَالرَّمَدُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمِيمِ: وَرَمٌ حَارٌّ يَعْرِضُ فِي الطَّبَقَةِ الْمُلْتَحِمَةِ مِنَ الْعَيْنِ وَهُوَ بَيَاضُهَا الظَّاهِرُ، وَسَبَبُهُ انْصِبَابُ أَحَدِ الْأَخْلَاطِ أَوْ أَبْخِرَةٍ تَصْعَدُ مِنَ الْمَعِدَةِ إِلَى الدِّمَاغِ، فَإِنِ انْدَفَعَ إِلَى الْخَيَاشِيمِ أَحْدَثَ الزُّكَامَ، أَوِ إِلَى الْعَيْنِ أَحْدَثَ الرَّمَدَ، أَوِ إِلَى اللَّهَاةِ وَالْمَنْخِرَيْنِ أَحْدَثَ الْخُنَانَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ، أَوِ إِلَى الصَّدْرِ أَحْدَثَ النَّزْلَةَ، أَوْ إِلَى الْقَلْبِ أَحْدَثَ الشَّوْصَةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَدِرْ وَطَلَبَ نَفَاذًا فَلَمْ يَجِدْ أَحْدَثَ الصُّدَاعَ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ مَرْفُوعًا: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ؛ فَإِنَّهَا لَا تَكْتَحِلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْعِدَّةِ، لَكِنْ لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ ذِكْرَ الْإِثْمِدِ، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُ لِكَوْنِ الْعَرَبِ غَالِبًا إِنَّمَا تَكْتَحِلُ بِهِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: اكْتَحِلُوا بِالْإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الشَّمَائِلِ، وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ وَابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ عَدِيٍّ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْهُ بِلَفْظِ: عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ، وَعَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَلَفْظُهُ: عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ مَنْبَتَةٌ لِلشَّعْرِ، مَذْهَبَةٌ لِلْقَذَى، مَصْفَاةٌ لِلْبَصَرِ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِهِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ وَعَنْ أَنَسٍ فِي غَرِيبِ مَالِكٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ بِلَفْظِ: كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْإِثْمِدِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ هَوْذَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِلَفْظِ: اكْتَحِلُوا بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ، الْحَدِيثَ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ: إِنَّهُ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: خَيْرُ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدُ فَإِنَّهُ.

الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ، وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ، وَعَنْ عَائِشَةَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِثْمِدٌ يَكْتَحِلُ بِهِ عِنْدَ مَنَامِهِ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثًا، أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَالْإِثْمِدُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ بَيْنَهُمَا ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ سَاكِنَةٌ وَحُكِيَ فِيهِ

ص: 157

ضَمُّ الْهَمْزَةِ: حَجَرٌ مَعْرُوفٌ أَسْوَدُ يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ يَكُونُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ، وَأَجْوَدُهُ يُؤْتَى بِهِ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَاخْتُلِفَ هَلْ هُوَ اسْمُ الْحَجْرِ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الْكُحْلُ أَوْ هُوَ نَفْسُ الْكُحْلِ؟ ذَكَرَهُ ابْنُ سِيدَهْ وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْجَوْهَرِيُّ، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اسْتِحْبَابُ الِاكْتِحَالِ بِالْإِثْمِدِ وَوَقَعَ الْأَمْرُ بِالِاكْتِحَالِ وِتْرًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا كَبَقِيَّةِ الِاكْتِحَالِ، وَحَاصِلُهُ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ، فَيَكُونُ الْوِتْرُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ، أَوِ اثْنَتَيْنِ فِي كُلِّ عَيْنٍ وَوَاحِدَةٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ فِي الْيَمِينِ ثَلَاثًا وَفِي الْيُسْرَى ثِنْتَيْنِ فَيَكُونُ الْوِتْرُ بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا جَمِيعًا، وَأَرْجَحُهَا الْأَوَّلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ رِوَايَةِ زَيْنَبَ وَهِيَ بِنْتُهَا عَنْهَا: أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا، فَذَكَرُوهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرُوا لَهُ الْكُحْلَ وَأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى عَيْنِهَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ مَرَّتْ مَبَاحِثُهُ فِي أَبْوَابِ الْإِحْدَادِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: فَلَا، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَهَلَّا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا؟ وَهِيَ وَاضِحَةٌ، وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى حَرْفِ النَّهْيِ فَالْمَنْفِيُّ مُقَدَّرٌ كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا تَكْتَحِلُ، ثُمَّ قَالَ: تَمْكُثُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

‌19 - بَاب الْجُذَامِ

5707 -

وَقَالَ عَفَّانُ: حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ. وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الْأَسَدِ.

[الحديث 5707 - أطرافه في: 5717، 5757، 5770، 5773، 5775]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجُذَامِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ، هُوَ عِلَّةٌ رَدِيئَةٌ تَحْدُثُ مِنَ انْتِشَارِ الْمِرَّةِ السَّوْدَاءِ فِي الْبَدَنِ كُلِّهِ، فَتُفْسِدُ مِزَاجَ الْأَعْضَاءِ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَ فِي آخِرِهِ إِيصَالَهَا حَتَّى يَتَأَكَّلَ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَجَذُّمِ الْأَصَابِعِ وَتَقَطُّعِهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَفَّانُ) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ الصَّفَّارُ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، لَكِنِ أَكْثَرُ مَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَهُوَ مِنَ الْمُعَلَّقَاتِ الَّتِي لَمْ يَصِلْهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَدْ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْهُ بِلَا رِوَايَةٍ، وَعَلَى طَرِيقَة ابْنِ الصَّلَاحِ يَكُونُ مَوْصُولًا. وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَأَبِي قُتَيْبَةَ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ كِلَاهُمَا عن سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ شَيْخِ عَفَّانَ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ سَلِيمٍ لَكِنْ مَوْقُوفًا، وَلَمْ يَسْتَخْرِجُهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا. وَسَلِيمٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ، وَحَيَّانُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ.

قَوْلُهُ: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ)، كَذَا جَمْعُ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَيَأْتِي مِثْلُهُ سَوَاءً بَعْدَ عِدَّةِ أَبْوَابٍ فِي بَابِ لَا هَامَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَأْتِي بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مِثْلُهُ. لَكِنْ بِدُونِ قَوْلِهِ: وَلَا طِيَرَةَ وَأَعَادَهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ بِزِيَادَةِ قِصَّةٍ، وَبَعْدَ عِدَّةِ أَبْوَابٍ فِي بَابِ لَا طِيَرَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا طِيَرَةَ، حَسْبٌ، وَفِي بَابِ لَا عَدْوَى مِنْ طَرِيقِ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا عَدْوَى، حَسْبٌ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا طِيَرَةَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مِثْلَ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، وَزَادَ: وَلَا نَوْءَ، وَيَأْتِي فِي بَابِ لَا عَدْوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَلِمُسْلِمٍ، وَابْنِ حَبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا بِلَفْظِ: لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ، وَلَا غُولَ. وَأَخْرَجَ

ص: 158

ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَادَ فِيهِ الْقِصَّةَ الَّتِي فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ فِي ابْنِ مَاجَهْ بِاخْتِصَارٍ.

فَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: الْعَدْوَى وَالطِّيَرَةُ وَالْهَامَةُ وَالصَّفَرُ وَالْغُولُ وَالنَّوْءُ، وَالْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ قَدْ أَفْرَدَ الْبُخَارِيُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا تَرْجَمَةً، فَنَذْكُرُ شَرْحَهَا فِيهِ، وَأَمَّا الْغُولُ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الْغِيلَانَ فِي الْفَلَوَاتِ، وَهِيَ جِنْسٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ وَتَتَغَوَّلُ لَهُمْ تَغَوُّلًا، أَيْ: تَتَلَوَّنُ تَلَوُّنًا فَتَضِلُّهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ فَتُهْلِكُهُمْ، وَقَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ: غَالَتْهُ الْغُولُ، أَيْ: أَهْلَكَتْهُ أَوِ أَضَلَّتْهُ، فَأَبْطَلَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ إِبْطَالُ وُجُودِ الْغِيلَانِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِبْطَالُ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُهُ مِنْ تَلَوُّنِ الْغُولِ بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَطِيعُ الْغُولُ أَنْ يُضِلَّ أَحَدًا. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: إِذَا تَغَوَّلَتِ الْغِيلَانُ فَنَادُوا بِالْأَذَانِ، أَيِ: ادْفَعُوا شَرَّهَا بِذَكَرِ اللَّهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَانَتْ لِي سَهْوَةٌ فِيهَا تَمْرٌ، فَكَانَتِ الْغُولُ تَجِيءُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ، الْحَدِيثَ، وَأَمَّا النَّوْءُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي كِتَابِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فَأَبْطَلَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَطَرَ إِنَّمَا يَقَعُ بِإِذْنِ اللَّهِ لَا بِفِعْلِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ جَرَتْ بِوُقُوعِ الْمَطَرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَكِنْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَتَقْدِيرِهِ، لَا صُنْعَ لِلْكَوَاكِبِ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ (وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ) لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوَكُّلِ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلَفْظُهُ: لَا عَدْوَى، وَإِذَا رَأَيْتَ الْمَجْذُومَ فَفِرَّ مِنْهُ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ، فَارْجِعْ. قَالَ عِيَاضٌ: اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ فِي الْمَجْذُومِ، فَجَاءَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مَعَ مَجْذُومٍ وَقَالَ: ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، قَالَ: فَذَهَبَ عُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى الْأَكْلِ مَعَهُ، وَرَأَوْا أَنَّ الْأَمْرَ بِاجْتِنَابِهِ مَنْسُوخٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ أَنْ لَا نَسْخَ، بَلْ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَحَمْلُ الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِهِ وَالْفِرَارُ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَالْأَكْلُ مَعَهُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، اهـ.

هَكَذَا اقْتَصَرَ الْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى حِكَايَةِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَحَكَى غَيْرُهُ قَوْلًا ثَالِثًا وَهُوَ التَّرْجِيحُ، وَقَدْ سَلَكَهُ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا سَلَكَ تَرْجِيحَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ الْعَدْوَى وَتَزْيِيفِ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ مِثْلِ حَدِيثِ الْبَابِ فَأَعَلُّوهُ بِالشُّذُوذِ، وَبِأَنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْهَا: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: مَا قَالَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: لَا عَدْوَى، وَقَالَ: فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ لِي مَوْلًى بِهِ هَذَا الدَّاءُ، فَكَانَ يَأْكُلُ فِي صِحَافِي وَيَشْرَبُ فِي أَقْدَاحِي وَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِي، وَبِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ تَرَدَّدَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فَيُؤْخَذُ الْحُكْمُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ فِي نَفْيِ الْعَدْوَى كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ الْمُرَخِّصَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِثْلُ حَدِيثِ: لَا تُدِيمُوا النَّظَرَ إِلَى الْمَجْذُومِينَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَمِثْلُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَفَعَهُ: كَلِّمِ الْمَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَيْدُ رُمْحَيْنِ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ بِسَنَدٍ وَاهٍ، وَمِثْلُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِمُعَيْقِيبٍ: اجْلِسْ مِنِّي قَيْدَ رُمْحٍ، وَمِنْ طَرِيقِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ نَحْوَهُ، وَهُمَا أَثَرَانِ مُنْقَطِعَانِ، وَأَمَّا حَدِيثُ الشَّرِيدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْجُذَامِ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ لَا يُصَارُ إِلَيْهَا إِلَّا مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ، وَهُوَ مُمْكِنٌ، فَهُوَ أَوْلَى.

الْفَرِيقُ الثَّانِي سَلَكُوا فِي التَّرْجِيحِ عَكْسَ

ص: 159

هَذَا الْمَسْلَكِ، فَرَدُّوا حَدِيثَ لَا عَدْوَى بِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْهُ إِمَّا لِشَكِّهِ فِيهِ، وَإِمَّا لِثُبُوتِ عَكْسِهِ عِنْدَهُ كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي بَابِ لَا عَدْوَى، قَالُوا: وَالْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى الِاجْتِنَابِ أَكْثَرُ مَخَارِجَ وَأَكْثَرُ طُرُقًا فَالْمَصِيرُ إِلَيْهَا أَوْلَى، قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَهَا فِي الْقَصْعَةِ وَقَالَ: كُلْ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، فَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَبَيَّنَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى رَاوِيهِ وَرَجَّحَ وَقْفَهُ عَلَى عُمَرَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْقَصْعَةِ، قَالَهُ الْكَلَابَاذِيُّ فِي مَعَانِي الْأَخْبَارِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ أَوْلَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فَحَدِيثُ لَا عَدْوَى ثَبَتَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا مَعْنًى لِدَعْوَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي طَرِيقِ الْجَمْعِ مَسَالِكُ أُخْرَى.

أَحَدُهَا: نَفْيُ الْعَدْوَى جُمْلَةً وَحَمْلُ الْأَمْرِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ عَلَى رِعَايَةِ خَاطِرِ الْمَجْذُومِ، لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى الصَّحِيحَ الْبَدَنِ السَّلِيمَ مِنَ الْآفَةِ تَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ وَتَزْدَادُ حَسْرَتُهُ، وَنَحْوُهُ حَدِيثُ لَا تُدِيمُوا النَّظَرَ إِلَى الْمَجْذُومِينَ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، ثَانِيهَا: حَمْلُ الْخِطَابِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَحَيْثُ جَاءَ: لَا عَدْوَى كَانَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ مَنْ قَوِيَ يَقِينُهُ وَصَحَّ تَوَكُّلُهُ بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ اعْتِقَادَ الْعَدْوَى، كَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ التَّطَيُّرَ الَّذِي يَقَعُ فِي نَفْسِ كُلِّ أَحَدٍ، لَكِنَّ الْقَوِيَّ الْيَقِينِ لَا يَتَأَثَّرُ بِهِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا تَدْفَعُ قُوَّةُ الطَّبِيعَةِ الْعِلَّةَ فَتُبْطِلُهَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي أَكْلِ الْمَجْذُومِ مِنَ الْقَصْعَةِ وَسَائِرِ مَا وَرَدَ مِنْ جِنْسِهِ، وَحَيْثُ جَاءَ: فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ، كَانَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ مَنْ ضَعُفَ يَقِينُهُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى دَفْعِ اعْتِقَادِ الْعَدْوَى، فَأُرِيدَ بِذَلِكَ سَدُّ بَابِ اعْتِقَادِ الْعَدْوَى عَنْهُ بِأَنْ لَا يُبَاشِرَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِثْبَاتِهَا. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا كَرَاهِيَتُهُ صلى الله عليه وسلم الْكَيَّ مَعَ إِذْنِهِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَقَدْ فَعَلَ هُوَ صلى الله عليه وسلم كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ لِيَتَأَسَّى بِهِ كُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ.

ثَالِثُ الْمَسَالِكِ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: إِثْبَاتُ الْعَدْوَى فِي الْجُذَامِ وَنَحْوِهِ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ نَفْيِ الْعَدْوَى، قَالَ: فَيَكُونُ مَعَنِي قَوْلِهِ: لَا عَدْوَى، أي: إِلَّا مِنَ الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالْجَرَبِ مَثَلًا، قَالَ: فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا إِلَّا مَا تَقَدَّمَ تَبْيِينِي لَهُ أَنَّ فِيهِ الْعَدْوَى. وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ. رَابِعُهَا: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْعَدْوَى فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ لِأَمْرٍ طَبِيعِيٍّ وَهُوَ انْتِقَالُ الدَّاءِ مِنْ جَسَدٍ لِجَسَدٍ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَشَمِّ الرَّائِحَةِ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ فِي الْعَادَةِ انْتِقَالُ الدَّاءِ مِنَ الْمَرِيضِ إِلَى الصَّحِيحِ بِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ قُتَيْبَةَ، فَقَالَ: الْمَجْذُومُ تَشْتَدُّ رَائِحَتُهُ حَتَّى يُسْقِمَ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَتَهُ وَمُحَادَثَتَهُ وَمُضَاجَعَتَهُ، وَكَذَا يَقَعُ كَثِيرًا بِالْمَرْأَةِ مِنَ الرَّجُلِ وَعَكْسِهِ، وَيَنْزِعُ الْوَلَدَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا يَأْمُرُ الْأَطِبَّاءَ بِتَرْكِ مُخَالَطَةِ الْمَجْذُومِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْعَدْوَى بَلْ عَلَى طَرِيقِ التَّأَثُّرِ بِالرَّائِحَةِ؛ لِأَنَّهَا تُسْقِمُ مَنْ وَاظَبَ اشْتِمَامَهَا، قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ؛ لِأَنَّ الْجَرَبَ الرَّطْبَ قَدْ يَكُونُ بِالْبَعِيرِ، فَإِذَا خَالَطَ الْإِبِلَ أَوْ حَكَّكَهَا وَأَوَى إِلَى مَبَارِكِهَا وَصَلَ إِلَيْهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُ، وَكَذَا بِالنَّظَرِ نَحْوُ مَا بِهِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا عَدْوَى فَلَهُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْمَرَضُ بِمَكَانٍ كَالطَّاعُونِ فَيَفِرُّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَهُ، لِأَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنَ الْفِرَارِ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ.

الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادَ ينَفْيِ الْعَدْوَى أَنَّ شَيْئًا لَا يُعْدِي بِطَبْعِهِ نَفْيًا لِمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْأَمْرَاضَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى اللَّهِ، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُمْرِضُ وَيَشْفِي، وَنَهَاهُمْ عَنِ الدُّنُوِّ مِنْهُ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا، فَفِي نَهْيُهُ إِثْبَاتَ الْأَسْبَابِ، وَفِي فِعْلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَإِنْ

ص: 160

شَاءَ أَبْقَاهَا فَأَثَّرَتْ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْمَجْذُومِ أَنَّهُ كَانَ بِهِ أَمْرٌ يَسِيرٌ لَا يُعْدِي مِثْلَهُ فِي الْعَادَةِ، إِذْ لَيْسَ الْجَذْمَى كُلُّهُمْ سَوَاءً، وَلَا تَحْصُلُ الْعَدْوَى مِنْ جَمِيعهِمْ بَلْ

(1)

لَا يَحْصُلُ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ عَدْوَى أَصْلًا كَالَّذِي أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَوَقَفَ فَلَمْ يَعُدْ بَقِيَّةُ جِسْمِهِ فَلَا يُعْدِي. وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ جَرَى أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنِ أَوْرَدَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ مَا نَصُّهُ: الْجُذَامُ وَالْبَرَصُ يَزْعُمُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ وَالتَّجَارِبِ أَنَّهُ يُعْدِي الزَّوْجَ كَثِيرًا، وَهُوَ دَاءٌ مَانِعٌ لِلْجِمَاعِ، لَا تَكَادُ نَفْسُ أَحَدٍ تَطِيبُ بِمُجَامَعَةِ مَنْ هُوَ بِهِ، وَلَا نَفْسُ امْرَأَةٍ أَنْ يُجَامِعَهَا مَنْ هُوَ بِهِ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ وَلَدِهِ أَجْذَمُ أَوِ أَبْرَصُ أَنَّهُ قَلَّمَا يَسْلَمُ، وَإِنْ سَلِمَ أَدْرَكَ نَسْلَهُ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَمَّا مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَا عَدْوَى فَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ بِمَشِيئَتِهِ مُخَالَطَةَ الصَّحِيحِ مَنْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ سَبَبًا لِحُدُوثِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ. وَقَالَ:: لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ. وَقَالَ فِي الطَّاعُونِ: مَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا يُقْدِمْ عَلَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَمَنْ بَعْدَهُ وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ قَبْلَهُ.

الْمَسْلَكُ السَّادِسُ: الْعَمَلُ بِنَفْيِ الْعَدْوَى أَصْلًا وَرَأْسًا، وَحَمْلُ الْأَمْرِ بِالْمُجَانَبَةِ عَلَى حَسْمِ الْمَادَّةِ وَسَدِّ الذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَحْدُثَ لِلْمُخَالِطِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَظُنُّ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْمُخَالَطَةِ فَيُثْبِتُ الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا الشَّارِعُ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ، إِثْبَاتُ الْعَدْوَى، بَلْ لِأَنَّ الصِّحَاحَ لَوْ مَرِضَتْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ - تَعَالَى - رُبَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ صَاحِبِهَا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَدْوَى فَيُفْتَتَنُ وَيَتَشَكَّكُ فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهِ. قَالَ: وَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاجْتِنَابِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَخَافَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ ذَوَاتِ الْعَاهَةِ، قَالَ: وَهَذَا شَرُّ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا الشَّارِعُ، وَلَكِنَّ وَجْهَ الْحَدِيثِ عِنْدِي مَا ذَكَرْتُهُ.

وَأَطْنَبَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي هَذَا فِي كِتَابِ التَّوَكُّلِ فَإِنَّهُ أَوْرَدَ حَدِيثَ: لَا عَدْوَى عَنْ عِدَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَدِيثُ لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَرْجَمَ لِلْأَوَّلِ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ فِي نَفْيِ الْعَدْوَى، وَلِلثَّانِي ذِكْرُ خَبَرٍ غَلِطَ فِي مَعْنَاهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَأَثْبَتَ الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ تَرْجَمَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ إِثْبَاتَ الْعَدْوَى بِهَذَا الْقَوْلِ فَسَاقَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا عَدْوَى، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: فَمَا بَالُ الْإِبِلِ يُخَالِطُهَا الْأَجْرَبُ فَتَجْرَبُ؟ قَالَ: فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ ثُمَّ ذَكَرَ طُرُقَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ تَرْجَمَ: ذِكْرُ خَبَرٍ رُوِيَ فِي الْأَمْرِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ قَدْ يَخْطُرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ الْعَدْوَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَسَاقَ حَدِيثَ: فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ فِي أَمْرِ الْمَجْذُومِ بِالرُّجُوعِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُدِيمُوا النَّظَرَ إِلَى الْمَجْذُومِينَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَمَرَهُمْ صلى الله عليه وسلم بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا نَهَاهُمُ إِنْ يُورِدَ الْمُمْرِضُ عَلَى الْمُصِحِّ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، وَخَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَ بَعْضَ مَنْ يُخَالِطُهُ الْمَجْذُومُ الْجُذَامُ، وَالصَّحِيحَ مِنَ الْمَاشِيَةِ الْجَرِبُ فَيَسْبِقُ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَدْوَى فَيُثْبِتُ الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ بِتَجَنُّبِ ذَلِكَ شَفَقَةً مِنْهُ وَرَحْمَةً لِيَسْلَمُوا مِنَ التَّصْدِيقِ بِإِثْبَاتِ الْعَدْوَى، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا. قَالَ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَكْلُهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْمَجْذُومِ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَسَاقَ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ إِدَامَةِ النَّظَرِ إِلَى الْمَجْذُومِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: لعله سقط من الناسخ بعد بل لفظ "البعض".

ص: 161

لِأَنَّ الْمَجْذُومَ يَغْتَمُّ وَيَكْرَهُ إِدْمَانَ الصَّحِيحِ نَظَرَهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَكُونُ بِهِ دَاءٌ إِلَّا وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ اهـ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ احْتِمَالًا سَبَقَهُ إِلَيْهِ مَالِكٌ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ فِيهِ بِكَرَاهِيَةٍ، وَمَا أَدْرِي مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ شَيْءٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الصَّوَابُ عِنْدَنَا الْقَوْلُ بِمَا صَحَّ بِهِ الْخَبَرُ، وَأَنْ لَا عَدْوَى، وَأَنَّهُ لَا يُصِيبُ نَفْسًا إِلَّا مَا كُتِبَ عَلَيْهَا.

وَأَمَّا دُنُوُّ عَلِيلٍ مِنْ صَحِيحٍ فَغَيْرُ مُوجِبٍ انْتِقَالَ الْعِلَّةِ لِلصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِذِي صِحَّةٍ الدُّنُوُّ مِنْ صَاحِبِ الْعَاهَةِ الَّتِي يَكْرَهُهَا النَّاسُ، لَا لِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، بَلْ لِخَشْيَةِ أَنْ يَظُنَّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ بِهِ ذَلِكَ الدَّاءُ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ دُنُوِّهُ مِنَ الْعَلِيلِ فَيَقَعُ فِيمَا أَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَدْوَى. قَالَ: وَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ مُعَارَضَةٌ لِأَكْلِهِ مَعَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْشَادِ أَحْيَانًا وَعَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْأَوَامِرِ عَلَى الْإِلْزَامِ، وإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ مَا نَهَى عَنْهُ أَحْيَانَا لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَرَامًا. وَقَدْ سَلَكَ الطَّحَاوِيُّ فِي مَعَانِي الْآثَارِ مَسْلَكَ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ فَأَوْرَدَ حَدِيثَ: لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ، ثُمَّ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُصِحَّ قَدْ يُصِيبُهُ ذَلِكَ الْمَرَضُ فَيَقُولُ الَّذِي أَوْرَدَهُ لَوْ أَنِّي مَا أَوْرَدْتُهُ عَلَيْهِ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ شَيْءٌ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُورِدْهُ لَأَصَابَهُ لِكَوْنِ اللَّهِ - تَعَالَى - قَدَّرَهُ، فَنَهَى عَنْ إِيرَادِهِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ غَالِبًا مِنْ وُقُوعِهَا فِي قَلْبِ الْمَرْءِ، ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ فَأَطْنَبَ، وَجَمَعَ بَيْنَهَا بِنَحْوِ مَا جَمَعَ بِهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

وَلِذَلِكَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ مَخَافَةَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ اعْتِقَادِ الْعَدْوَى، أَوْ مَخَافَةَ تَشْوِيشِ النُّفُوسِ وَتَأْثِيرِ الْأَوْهَامِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ، وَإِنْ كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْجُذَامَ لَا يُعْدِي، لَكِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا نُفْرَةً وَكَرَاهِيَةً لِمُخَالَطَتِهِ، حَتَّى لَوْ أَكْرَهَ إِنْسَانٌ نَفْسَهُ عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ وَعَلَى مُجَالَسَتِهِ لَتَأَذَّتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ فَالْأَوْلَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ إِلَى مَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مُجَاهَدَةٍ، فَيَجْتَنِبُ طُرُقَ الْأَوْهَامِ، وَيُبَاعِدُ أَسْبَابَ الْآلَامِ، مَعَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يُنَجِّي حَذَرٌ مِنْ قَدْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْأَمْرُ بِالْفِرَارِ مِنَ الْأَسَدِ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، بَلْ لِلشَّفَقَةِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَى أُمَّتَهُ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ ضَرَرٌ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ خَيْرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الطِّبِّ أَنَّ الرَّوَائِحَ تُحْدِثُ فِي الْأَبْدَانِ خَلَلًا فَكَانَ هَذَا وَجْهَ الْأَمْرِ بِالْمُجَانَبَةِ، وَقَدْ أَكَلَ هُوَ مَعَ الْمَجْذُومِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِمُجَانَبَتِهِ عَلَى الْوُجُوبِ لَمَا فَعَلَهُ.

قَالَ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ فِعْلِهِ، وَقَوْلِهِ بِأَنَّ الْقَوْلَ هُوَ الْمَشْرُوعُ مِنْ أَجْلِ ضَعْفِ الْمُخَاطَبِينَ، وَفِعْلُهُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ، فَمَنْ فَعَلَ الْأَوَّلَ أَصَابَ السُّنَّةَ، وَهِيَ أَثَرُ الْحِكْمَةِ، وَمَنْ فَعَلَ الثَّانِي كَانَ أَقْوَى يَقِينًا؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لَا تَأْثِيرَ لَهَا إِلَّا بِمُقْتَضَى إِرَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَتَقْدِيرُهُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} فَمَنْ كَانَ قَوِيَّ الْيَقِينِ فَلَهُ أَنْ يُتَابِعَهُ صلى الله عليه وسلم فِي فِعْلِهُ وَلَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ، وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ ضَعْفًا فَلْيَتْبَعْ أَمْرَهُ فِي الْفِرَارِ لِئَلَّا يَدْخُلَ بِفِعْلِهِ فِي إِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي يُتَوَقَّعُ مِنْهَا الضَّرَرُ، وَقَدْ أَبَاحَتِ الْحِكْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ الْحَذَرَ مِنْهَا فَلَا يَنْبَغِي لِلضُّعَفَاءِ أَنْ يَقْرَبُوهَا، وَأَمَّا أَصْحَابُ الصِّدْقِ وَالْيَقِينِ فَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ. قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ النَّاسِ هُوَ الضَّعْفُ، فَجَاءَ الْأَمْرُ بِالْفِرَارِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَاسْتُدِلَّ بِالْأَمْرِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلزَّوْجَيْنِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا وَجَدَهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَأَجَابَ فِيهِ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْفَسْخِ بِأَنَّهُ لَوْ أُخِذَ بِعُمُومِهِ لَثَبَتَ الْفَسْخُ إِذَا حَدَثَ الْجُذَامُ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ، بَلْ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا.

وَاخْتُلِفَ فِي أَمَةِ الْأَجْذَمِ: هَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنَ اسْتِمْتَاعِهِ إِذَا أَرَادَهَا؟

ص: 162

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَجْذُومِينَ إِذَا كَثُرُوا هَلْ يُمْنَعُونَ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَجَامِعِ؟ وَهَلْ يُتَّخَذُ لَهُمْ مَسكَانٌ مُنْفَرِدٌ عَنِ الْأَصِحَّاءِ؟ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي النَّادِرِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ وَلَا فِي شُهُودِ الْجُمُعَةِ.

‌20 - بَاب الْمَنُّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ

5708 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، قال: سَمِعْتُ عَمْرُو بْنَ حُرَيْثٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ. قَالَ شُعْبَةُ: وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ، عَنْ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ شُعْبَةُ: لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَنِّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: شِفَاءٌ مِنَ الْعَيْنِ، وَعَلَيْهَا شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ، وَيَأْتِي تَوْجِيهُهَا. وَفِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الصِّنْفُ الْمَخْصُوصُ ومِنَ الْمَأْكُولِ، لَا الْمَصْدَرُ الَّذِي بِمَعْنَى الِامْتِنَانِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الْمَنِّ شِفَاءٌ، لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ أَنَّ الْكَمْأَةَ مِنْهُ، وَفِيهَا شِفَاءٌ إِذَا ثَبَتَ الْوَصْفُ لِلْفَرْعِ كَانَ ثُبُوتُهُ لِلْأَصْلِ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ) هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَصَرَّحَ بِهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرٍ، وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ هُوَ الْمَخْزُومِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ) أَيِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ أَحَدَ الْعَشَرَةِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلٍ ابْنَ عَمِّ أَبِيهِ. كَذَا قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَخَالَفَهُمْ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْهُ، فَقَالَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ، أَخْرَجَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ السَّكَنِ فِي الصَّحَابَةِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ وَقَالَ فِي الْعِلَلِ، الصَّوَابُ رِوَايَةُ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَقَالَ ابْنُ السَّكَنِ: أَظُنُّ عَبْدَ الْوَارِثِ أَخْطَأَ فِيهِ. وَقِيلَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ تَزَوَّجَ أُمَّ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي وَأَرَادَ زَوْجَ أُمِّهِ مَجَازًا فَظَنَّهُ الرَّاوِي أَبَاهُ حَقِيقَةً.

قَوْلُهُ: (الْكَمْأَةُ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي الْعَامَّةِ مَنْ لَا يَهْمِزُهُ، وَاحِدَةُ الْكَمْءِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ مِثْلِ تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، وَعَكَسَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ: الْكَمْأَةُ جَمْعُ الْكَمْء الْوَاحِدُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، قَالَ: وَلَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِهِمْ نَظِيرُ هَذَا سِوَى خَبْأَةٍ وَخَبْءٍ. وَقِيلَ: الْكَمْأَةُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدةِ وَعَلَى الْجَمْعِ، وَقَدْ جَمَعُوهَا عَلَى أَكْمُؤٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَقَدْ جَنَيْتُكَ أَكْمُؤًا وَعَسَاقِلَا.

وَالْعَسَاقِلُ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَقَافٍ وَلَامٍ الشَّرَابُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْأَكْمُؤَ مَحَلُّ وِجْدَانِهَا الْفَلَوَاتُ. وَالْكَمْأَةُ نَبَاتٌ لَا وَرَقَ لَهَا وَلَا سَاقَ، تُوجَدُ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُزْرَعَ. قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاسْتِتَارِهَا، يُقَالُ: كَمَأَ الشَّهَادَةَ إِذَا كَتَمَهَا. وَمَادَّةُ الْكَمْأَةِ مِنْ جَوْهَرِ أَرْضِي بُخَارَي يَحْتَقِنُ نَحْوَ سَطْحِ الْأَرْضِ بِبَرْدِ الشِّتَاءِ وَيُنَمِّيهِ مَطَرُ الرَّبِيعِ فَيَتَوَلَّدُ وَيَنْدَفِعُ مُتَجَسِّدًا، وَلِذَلِكَ كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يُسَمِّيهَا جُدَرِيَّ الْأَرْضِ تَشْبِيهًا لَهَا بِجُدَرِيِّ مَادَّةً وَصُورَةً، لِأَنَّ مَادَّتَهُ رُطُوبَةٌ دَمَوِيَّةٌ تَنْدَفِعُ غَالِبًا عِنْدَ التَّرَعْرُعِ وَفِي ابْتِدَاءِ اسْتِيلَاءِ الْحَرَارَةِ وَنَمَاءِ الْقُوَّةِ وَمُشَابَهَتُهَا لَهُ فِي الصُّورَةِ ظَاهِرٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: الْكَمْأَةُ جُدَرِيُّ الْأَرْضِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ. الْحَدِيثَ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَثُرَتِ الْكَمْأَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَامْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْ أَكْلِهَا وَقَالُوا: هِيَ جُدَرِيُّ الْأَرْضِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ

ص: 163

فَقَالَ: إِنَّ الْكَمْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ جُدَرِيِّ الْأَرْضِ، أَلَا إِنَّ الْكَمْأَةَ مِنَ الْمَنِّ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْكَمْأَةَ أَيْضًا بَنَاتَ الرَّعْدِ؛ لِأَنَّهَا تَكْثُرُ بِكَثْرَتِهِ، ثُمَّ تَنْفَطِرُ عَنْهَا الْأَرْضُ. وَهِيَ كَثِيرَةٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، وَتُوجَدُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ، فَأَجْوَدهَا مَا كَانَتْ أَرْضُهُ رَمْلَةٌ قَلِيلَةُ الْمَاءِ، وَمِنْهَا صِنْفٌ قَتَّالٌ يَضْرِبُ لَوْنُهُ إِلَى الْحُمْرَةِ.

وَهِيَ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ فِي الثَّانِيَةِ رَدِيئَةٌ لِلْمَعِدَةِ بَطِيئَةُ الْهَضْمِ، وَإِدْمَانُ أَكْلِهَا يُورِثُ الْقُولَنْجَ وَالسَّكْتَةَ، وَالْفَالِجَ وَعُسْرَ الْبَوْلِ، وَالرَّطْبُ مِنْهَا أَقَلُّ ضَرَرًا مِنَ الْيَابِسِ، وَإِذَا دُفِنَتْ فِي الطِّينِ الرَّطْبِ ثُمَّ سُلِقَتْ بِالْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَالسَّعْتَرِ وَأُكِلَتْ بِالزَّيْتِ وَالتَّوَابِلِ الْحَارَّةِ قَلَّ ضَرَرُهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَفِيهَا جَوْهَرُ مَائِيٍّ لَطِيفٍ بِدَلِيلِ خِفَّتِهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ مَاؤُهَا شِفَاءً لِلْعَيْنِ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْمَنِّ) قِيلَ فِي الْمُرَادُ بِالْمَنِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ الطَّلُّ الَّذِي يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ فَيُجْمَعُ وَيُؤْكَلُ حُلْوًا، وَمِنْهُ التَّرَنْجَبِينُ فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ بِهِ الْكَمْأَةَ بِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُودِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَفْوًا بِغَيْرِ عِلَاجٍ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَذَكَرْتُ مَنْ زَادَ فِي مَتْنِ هَذَا الْحَدِيثِ: الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا مِنَ الْمَنِّ الَّذِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ عَفْوًا بِغَيْرِ عِلَاجٍ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ كَالتَّرَنْجَبِينِ الَّذِي يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الْكَمْأَةَ شَيْءٌ يَنْبُتُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ بِبَذْرٍ وَلَا سَقْيٍ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَنِّ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَقَعُ عَلَى الشَّجَرِ فَيَتَنَاوَلُونَهُ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ أَنْوَاعًا، مِنْهَا مَا يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ، وَمِنْهَا مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ فَتَكُونُ الْكَمْأَةُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَبِهِ جَزَمَ الْمُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْسَ هُوَ مَا يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ فَقَطْ، بَلْ كَانَ أَنْوَاعًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهَا مِنَ النَّبَاتِ الَّذِي يُوجَدُ عَفْو ا، وَمِنَ الطَّيْرِ الَّتِي تَسْقُطُ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ اصْطِيَادٍ، وَمِنَ الطَّلِّ الَّذِي يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ.

وَالْمَنُّ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ مَمْنُونٌ بِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ فِيهِ شَائِبَةُ كَسْبٍ كَانَ مَنًّا مَحْضًا، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيعُ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى عَبِيدِهِ مَنًّا مِنْهُ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ خُصَّ هَذَا بِاسْمِ الْمَنِّ لِكَوْنِهِ لَا صُنْعَ فِيهِ لِأَحَدٍ، فَجَعَلَ سبحانه وتعالى قُوتَهُمْ فِي التِّيهِ الْكَمْأَةَ وَهِيَ تَقُومُ مَقَامَ الْخُبْزِ، وَأُدُمُهُمُ السَّلْوَى وَهِيَ تَقُومُ مَقَامَ اللَّحْمِ، وَحَلْوَاهُمُ الطَّلُّ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الشَّجَرِ، فَكَمَّلَ بِذَلِكَ عَيْشَهُمْ. وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَنِّ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، فَالتَّرَنْجَبِينُ كَذَلِكَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَنِّ، وَإِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَنِّ عَلَيْهِ عُرْفًا، اهـ. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ:{لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَحْدَةِ دَوَامُ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَبَدُّلٍ وَذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمَطْعُومُ أَصْنَافًا لَكِنَّهَا، لَا تَتَبَدَّلُ أَعْيَانُهَا.

قَوْلُهُ: (وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: مِنَ الْعَيْنِ، أَيْ: شِفَاءٌ مِنْ دَاءِ الْعَيْنِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا اخْتَصَّتِ الْكَمْأَةُ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ الَّذِي لَيْسَ فِي اكْتِسَابِهِ شُبْهَةٌ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُرَادِ بِكَوْنِهَا شِفَاءً لِلْعَيْنِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَاؤُهَا حَقِيقَةً، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ صِرْفًا فِي الْعَيْنِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا كَيْفَ يُصْنَعُ بِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُخْلَطُ فِي الْأَدْوِيَةِ الَّتِي يُكْتَحَلُ بِهَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: وَيُصَدِّقُ هَذَا الَّذِي حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ بَعْضَ الْأَطِبَّاءِ قَالُوا: أَكْلُ الْكَمْأَةِ يَجْلُو الْبَصَرَ.

ثَانِيهُمَا: أَنْ تُؤْخَذَ فَتُشَقُّ وَتُوضَعُ عَلَى الْجَمْرِ حَتَّى يَغْلِيَ مَاؤُهَا، ثُمَّ يُؤْخَذُ الْمِيلُ فَيُجْعَلُ فِي ذَلِكَ الشِّقِّ وَهُوَ فَاتِرٌ فَيُكْتَحَلُ بِمَائِهَا، لِأَنَّ النَّارَ تُلَطِّفُهُ وَتُذْهِبُ فَضَلَاتَهُ الرَّدِيئَةَ وَيَبْقَى النَّافِعُ مِنْهُ، وَلَا يُجْعَلُ الْمِيلُ فِي

ص: 164

مَائِهَا وَهِيَ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ فَلَا يَنْجَعُ، وَقَدْ حَكَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، عَنْ صَالِحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ أَنَّهُمَا اشْتَكَتْ أَعْيُنُهُمَا، فَأَخَذَا كَمْأَةً وَعَصَرَاهَا وَاكْتَحَلَا بِمَائِهَا، فَهَاجَتْ أَعْيُنُهُمَا وَرَمِدَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَحَكَى شَيْخُنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ عَصَرَ مَاءَ كَمْأَةٍ فَاكْتَحَلَ بِهِ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ مَاؤُهَا الَّذِي تَنْبُتُ بِهِ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَطَرٍ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ فَتُرَبَّى بِهِ الْأَكْحَالُ حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي أَيْضًا، فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ إِضَافَةَ الْكُلِّ لَا إِضَافَةَ جُزْءٍ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا أَضْعَفُ الْوُجُوهِ. قُلْتُ: وَفِيمَا ادَّعَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ صِرْفًا نَظَرٌ، فَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الطِّبِّ فِي التَّدَاوِي بِمَاءِ الْكَمْأَةِ تَفْصِيلًا، وَهُوَ إِنْ كَانَ لِتَبْرِيدِ مَا يَكُونُ بِالْعَيْنِ مِنَ الْحَرَارَةِ فَتُسْتَعْمَلُ مُفْرَدَةً، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَتُسْتَعْمَلُ مُرَكَّبَةً، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْفَعُ بِصُورَتِهِ فِي حَالٍ، وَبِإِضَافَتِهِ فِي أُخْرَى، وَقَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ فَوُجِدَ صَحِيحًا.

نَعَمْ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِمَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، فَقَالَ: تُرَبَّى بِهَا التُّوتِيَاءُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَكْحَالِ، قَالَ: وَلَا تُسْتَعْمَلُ صِرْفًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْعَيْنَ. وَقَالَ الْغَافِقِيُّ فِي الْمُفْرَدَاتِ: مَاءُ الْكَمْأَةِ أَصْلَحُ الْأَدْوِيَةِ لِلْعَيْنِ إِذَا عُجِنَ بِهِ الْإِثْمِدُ وَاكْتُحِلَ بِهِ، فَإِنَّهُ يُقَوِّي الْجَفْنَ، وَيَزِيدُ الرُّوحَ الْبَاصِرَ حِدَّةً وَقُوَّةً، وَيَدْفَعُ عَنْهَا النَّوَازِلَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ مَاءَهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ مُطْلَقًا فَيُعْصَرُ مَاؤُهَا وَيُجْعَلُ فِي الْعَيْنِ مِنْهُ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَا وَغَيْرِي فِي زَمَانِنَا مَنْ كَانَ عَمِيَ وَذَهَبَ بَصَرُهُ حَقِيقَةً فَكَحَّلَ عَيْنَهُ بِمَاءِ الْكَمْأَةِ مُجَرَّدًا فَشُفِيَ وَعَادَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْعَدْلُ الْأَمِينُ الْكَمَالُ بْنُ عَبْدٍ الدِّمَشْقِيُّ صَاحِبُ صَلَاحٍ وَرِوَايَةٍ فِي الْحَدِيثِ، وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِمَاءِ الْكَمْأَةِ اعْتِقَادًا فِي الْحَدِيثِ وَتَبَرُّكًا بِهِ فَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ. قُلْتُ: الْكَمَالُ الْمَذْكُورُ هُوَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ الْخَضِرِ يُعْرَفُ ابْنِ عَبْدٍ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ الْحَارِثِيُّ الدِّمَشْقِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي طَاهِرٍ الْخُشُوعِيِّ، سَمِعَ مِنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ شُيُوخِنَا، عَاشَ ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سَنَةً وَمَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ قَبْلَ النَّوَوِيِّ بِأَرْبَعِ سِنِينَ.

وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةَ اعْتِقَادٍ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ آخِرُ كَلَامِهِ، وَهُوَ يُنَافِي قَوْلَهُ أَوَّلًا مُطْلَقًا، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى قَتَادَةَ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذْتُ ثَلَاثَةَ أَكْمُؤٍ أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَعَصَرْتُهُنَّ، فَجَعَلْتُ مَاءَهُنَّ فِي قَارُورَةٍ فَكَحَّلْتُ بِهِ جَارِيَةً لِي فَبَرِئَتْ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: اعْتَرَفَ فُضَلَاءُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ مَاءَ الْكَمْأَةِ يَجْلُو الْعَيْنَ، مِنْهُمُ الْمُسَبِّحِيُّ، وَابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُمَا. وَالَّذِي يُزِيلُ الْإِشْكَالَ عَنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْكَمْأَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ سَلِيمَةً مِنَ الْمَضَارِّ، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهَا الْآفَاتُ بِأُمُورٍ أُخْرَى مِنْ مُجَاوَرَةٍ أَوِ امْتِزَاجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَالْكَمْأَةُ فِي الْأَصْلِ نَافِعَةٌ لِمَا اخْتَصَّتْ بِهِ مِنْ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا عَرَضَتْ لَهَا الْمَضَارُّ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَاسْتِعْمَالُ كُلِّ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ بِصِدْقٍ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ، وَيَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُ الضَّرَرَ بِنِيَّتِهِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُعْبَةُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِوَاوٍ فِي أَوَّلِهِ وَصُورَتُهُ صُورَةُ التَّعْلِيقِ، وَسَقَطَتِ الْوَاوُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَوْلَى فَإِنَّهُ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَأَعَادَ الْإِسْنَادَ مِنْ أَوَّلِهِ لِلطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَا أَوْرَدَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا.

قَوْلُهُ: (وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ) هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مُصَغَّر وَالْحَسَنُ الْعُرَنِيُّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا نُونٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، كُوفِيٌّ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَالْعِجْلِيُّ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: صَدُوقٌ. قُلْتُ: وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ شُعْبَةُ لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ) كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ كَبِرَ وَتَغَيَّرَ حِفْظُهُ، فَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ شُعْبَةَ تَوَقَّفَ فِيهِ،

ص: 165

فَلَمَّا تَابَعَهُ الْحَكَمُ بِرِوَايَتِهِ ثَبَتَ عِنْدَ شُعْبَةَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَانْتَفَى عَنْهُ التَّوَقُّفُ فِيهِ. وَقَدْ تَكَلَّفَ الْكِرْمَانِيُّ لِتَوْجِيهِ كَلَامِ شُعْبَةَ أَشْيَاءَ فِيهَا نَظَرٌ.

أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَكَمَ مُدَلِّسٌ وَقَدْ عَنْعَنَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: سَمِعْتُهُ فَلَمَّا تَقَوَّى بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمْ يَبْقَ بِهِ مَحَلٌّ لِلْإِنْكَارِ. قُلْتُ: شُعْبَةُ مَا كَانَ يَأْخُذُ عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ ذَكَرَ عَنْهُمُ التَّدْلِيسَ إِلَّا مَا يَتَحَقَّقُ سَمَاعُهُمْ فِيهِ، وَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ بِبُعْدِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ كَانَ يَلْزَمُ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ بِأَنْ يَقُولَ لَمَّا حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمُلْكِ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ.

ثَانِيهَا: لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ مَنْكُورًا لِي لِأَنِّي كُنْتُ أَحْفَظُهُ.

ثَالِثُهَا: يَحْتَمِلُ الْعَكْسُ بِأَنْ يُرَادَ لَمْ يُنْكِرْ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ سَاقَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الطَّرِيقَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخْرَى عَنِ الْحَكَمِ. وَوَقَعَ عِنْدَهُ فِي الْمَتْنِ: مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي لَفْظِ: عَلَى مُوسَى وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى مَا فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْفَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

‌21 - بَاب اللَّدُودِ

5709، 5710 - ، 5711 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَيِّتٌ.

5712 -

قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لَا تَلُدُّونِي، فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي؟ قُلْنَا: كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: لَا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلَّا لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ.

5713 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أُمِّ قَيْسٍ، قَالَتْ: دَخَلْتُ بِابْنٍ لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَعْلَقْتُ عَنه مِنْ الْعُذْرَةِ، فَقَالَ: علامَ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا الْعِلَاقِ؟ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنْ الْعُذْرَةِ وَيُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ. فَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: بَيَّنَ لَنَا اثْنَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا خَمْسَةً. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ مَعْمَرًا يَقُولُ: أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ. قَالَ: لَمْ يَحْفَظْ، إِنَّمَا قَالَ: أَعْلَقْتُ عَنْهُ، حَفِظْتُهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ، وَوَصَفَ سُفْيَانُ الْغُلَامَ يُحَنَّكُ بِالْإِصْبَعِ وَأَدْخَلَ سُفْيَانُ فِي حَنَكِهِ، إِنَّمَا يَعْنِي رَفْعَ حَنَكِهِ بِإِصْبَعِهِ وَلَمْ يَقُلْ: أَعْلِقُوا عَنْهُ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ اللَّدُودِ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَبِمُهْمَلَتَيْنِ: هُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي يُصَبُّ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ فَمِ الْمَرِيضِ. وَاللُّدُودُ بِالضَّمِّ الْفِعْلُ. وَلَدَدَتَ الْمَرِيضَ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِهِ.

وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ الأول مُسْتَوْفًى فِي بَابِ وَفَاةِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَبَيَانُ مَا لَدُّوهُ صلى الله عليه وسلم بِهِ، وَبَيَانُ مَنْ عُرِفَ اسْمُهُ مِمَّنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ وَلُدَّ لِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

وأَمَّا الْحَدِيثُ الثاني فسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي بَابِ الْعُذْرَةِ قَرِيبًا.

ص: 166

‌22 - بَاب

5714 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، وَيُونُسُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ:، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ به وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَآخَرَ. فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الْآخَرُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: هُوَ عَلِيٌّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَهَا وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ: هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ. قَالَتْ: فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى جَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ. قَالَتْ: وَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى بهُمْ وَخَطَبَهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ) كَذَا لَهُمْ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، وَمِنْ قَبْلِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِيهِ فِي الطَّهَارَةِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ابْنُ بَطَّالٍ مُنَاسَبَةَ حَدِيثِ هَذَا الْبَابِ لِتَرْجَمَةِ الَّذِي قَبْلَهُ بَعْدَ أَنْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْبَابَ إِذَا كَانَ بِلَا تَرْجَمَةٍ يَكُونُ كَالْفَصْلِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُفْعَلُ بِالْمَرِيضِ بِأَمْرِهِ لَا يَلْزَمُ فَاعِلَ ذَلِكَ لَوْمٌ وَلَا قِصَاصٌ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى كُلِّ مَنْ حَضَرَهُ بِخِلَافِ مَا نَهَى عَنْهُ أَنْ لَا يُفْعَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ جِنَايَةٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ فِيهِ الْقِصَاصُ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى بُعْدَهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّبَ بِأَنْ يُقَالَ أَوَّلًا: إِنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ عَائِشَةَ فِي مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا اتَّفَقَ لَهُ فِيهِ وَاحِدٌ ذَكَرَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ تَامًّا وَاقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِهِ، وَقِصَّةُ اللُّدُودِ كَانَتْ عِنْدَمَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ السَّبْعِ قِرَبٍ، لَكِنَّ اللُّدُودَ كَانَ نَهَى عَنْهُ، وَلِذَلِكَ عَاتَبَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الصَّبِّ فَإِنَّهُ كَانَ أَمَرَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا كَانَ عَارِفًا لَا يُكْرَهُ عَلَى تَنَاوُلِ شَيْءٍ يَنْهَى عَنْهُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ شَيْءٍ يَأْمُرُ بِهِ.

‌23 - بَاب الْعُذْرَةِ

5715 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أُمَّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيَّةَ - أَسَدَ خُزَيْمَةَ - وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ اللَّاتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ أُخْتُ عُكَاشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهَا قَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم علامَ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا الْعِلَاقِ؟ عَلَيْكُن بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ، يُرِيدُ الْكُسْتَ وَهُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ. وَقَالَ يُونُسُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ: عَلَّقَتْ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْعُذْرَةِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: هُوَ وَجَعُ الْحَلْقِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى سُقُوطَ اللَّهَاةِ،

ص: 167

وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ اللَّهَاةِ وَالْمُرَادُ وَجَعُهَا سُمِّيَ بِاسْمِهَا، وَقِيلَ: هُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهَاةِ. وَاللَّهَاةُ بِفَتْحِ اللَّامِ اللَّحْمَةِ الَّتِي فِي أَقْصَى الْحَلْقِ.

قَوْلُهُ: (وَما كَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ إِلَخْ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، فَيَكُونُ مُدْرَجًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ شَيْخِهِ فَيَكُونُ مَوْصُولًا وَهُوَ الظَّاهِرُ.

قَوْلُهُ: (بِابْنٍ لَهَا) تَقَدَّمَ فِي بَابِ السُّعُوطِ أَنَّهُ الِابْنُ الَّذِي بَالَ فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (قَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ) تَقَدَّمَ قَبْلُ بِبَابٍ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِلَفْظِ: أَعْلَقَتْ عَنْهُ، وَفِيهِ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ مَعْمَرًا يَقُولُ: أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: لَمْ يُحْفَظْ، إِنَّمَا قَالَ: أَعْلَقَتْ عَنْهُ. وحَفِظْتُهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ، وَوَقَعَ هُنَا مُعَلَّقًا مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: عَلَّقَتْ عَلَيْهِ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَالصَّوَابُ: أَعْلَقَتْ. وَالِاسْمُ الْعَلَاقُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ. وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْمَاضِيَةِ: بِهَذَا الْعَلَاقِ، كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ: الْأَعْلَاقُ وَرِوَايَةُ يُونُسَ الْمُعَلَّقَةُ هُنَا وَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَرِوَايَةُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي بَابِ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا. وَرِوَايَةُ مَعْمَرٍ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سُفْيَانَ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ لَكِنْ بِلَفْظِ: جِئْتُ بِابْنٍ لِي قَدْ أَعَلَقَتْ عَنْهُ. قَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ: أَعْلَقَتْ، وَعَلَّقَتْ، وَالْعَلَاقُ، وَالْإِعْلَاقُ، وَلَمْ يَقَعْ فِي مُسْلِمٍ إِلَّا: أَعْلَقَتْ، وَذَكَرَ الْعَلَاقَ فِي رِوَايَةٍ، وَالْأعْلَاقَ فِي رِوَايَةٍ، وَالْكُلُّ بِمَعْنًى جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ، لَكِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ إِنَّمَا يَذْكُرُونَ أَعْلَقَتْ ; وَالْإعْلَاقُ رُبَاعِيٌّ، وَتَفْسِيرُهُ غَمْزُ الْعُذْرَةِ وَهِيَ اللَّهَاةُ بِالْإصْبُعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: قَالَ: أَعْلَقَتْ: غَمَزَتْ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ عَلَامَ أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ.

قَوْلُهُ: (تَدْغَرْنَ) خِطَابٌ لِلنِّسْوَةِ، وَهُوَ بَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَالدَّغْرُ غَمْزُ الْحَلْقِ.

قَوْلُهُ: (عَلَيْكُمْ)، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَلَيْكُنَّ.

قَوْلُهُ: (بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، يُرِيدُ الْكُسْتَ) فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، يَعْنِي: الْقُسْطَ، قَالَ: وَهِيَ لُغَةٌ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهَا فِي بَابِ السَّعُوطِ بِالْقُسْطِ الْهِنْدِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْمَاضِيَةِ قَرِيبًا، قَالَ: فَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: بَيَّنَ لَنَا اثْنَتَيْنِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا خَمْسَةً يَعْنِي مِنَ السَّبْعَةِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، فَذَكَرَ مِنْهَا ذَاتَ الْجَنْبِ وَيُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي بَابِ السَّعُوطِ مِنْ كَلَامِ الْأَطِبَّاءِ مَا لَعَلَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَمْسَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا.

‌24 - بَاب دَوَاءِ الْمَبْطُونِ

5716 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا، فَسَقَاهُ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ. تَابَعَهُ النَّضْرُ عَنْ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ دَوَاءِ الْمَبْطُونِ) الْمُرَادُ بِالْمَبْطُونِ مَنِ اشْتَكَى بَطْنَهُ لِإِفْرَاطِ الْإِسْهَالِ، وَأَسْبَابُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ.

قَوْلُهُ: (قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ) كَذَا لِشُعْبَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ. وَخَالَفَهُمَا شَيْبَانُ فَقَالَ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَلَمْ يُرَجِّحْ، وَالَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُ طَرِيقِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ لِاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ عَلَيْهَا، شُعْبَةَ، وَسَعِيدٍ أَوَّلًا، ثُمَّ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ ثَانِيًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ شُعْبَةَ: عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعْتُ أَبَا الْمُتَوَكِّلِ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَخِي) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

قَوْلُهُ: (اسْتُطْلِقَ بَطْنُهُ)

ص: 168

بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا قَافٌ، أَيْ: كَثُرَ خُرُوجُ مَا فِيهِ، يُرِيدُ الْإِسْهَالَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ فِي رَابِعِ بَابٍ مِنْ كِتَابِ الطِّبِّ: هَذَا ابْنُ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ: قَدْ عَرِبَ بَطْنُهُ، وَهِيَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: فَسَدَ هَضْمُهُ لِاعْتِلَالِ الْمَعِدَةِ، وَمِثْلُهُ ذَرِبَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بَدَلَ الْعَيْنِ وَزْنًا وَمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا) وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ: اسْقِهِ الْعَسَلَ، وَاللَّامُ عَهْدِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ عَسَلُ النَّحْلِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ، وَظَاهِرُهُ الْأَمْرُ بِسَقْيِهِ صِرْفَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَمْزُوجًا.

قَوْلُهُ: (فَسَقَاهُ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا) كَذَا فِيهِ، وَفِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَسَقَاهُ فَلَمْ يَبْرَأْ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَسَقَاهُ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزْدَدِ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، أَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ، لَكِنْ قَرَنَهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَقَالَ: إِنَّ اللَّفْظَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى. نَعَمْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ وَحْدَهُ بِلَفْظِ: ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ)، كَذَا اخْتَصَرَهُ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا، فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَ. فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقَالَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا، فَقَالَ: سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ شُعْبَةَ: فَذَهَبَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: قَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا فَسَقَاهُ، كَذَلِكَ ثَلَاثًا، وَفِيهِ: فَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ: اسْقِهِ عَسَلًا. وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ فِيهِنَّ مَا قَالَ فِي الْأُولَى. وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ بِلَفْظِ: ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ). زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: فَسَقَاهُ فَبَرَأَ. وَكَذَا لِلتِّرْمِذِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ: فَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ اسْقِهِ عَسَلًا، قَالَ: فَأَظُنُّهُ قَالَ: فَسَقَاهُ فَبَرَأَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّابِعَةِ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ. كَذَا وَقَعَ لِيَزِيدَ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ: فَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ. وَالَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَرْجَحُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْقِيَهُ عَسَلًا فَسَقَاهُ فِي الرَّابِعَةِ فَبَرَأَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ النَّضْرُ)، يَعْنِي: ابْنَ شُمَيْلٍ بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّر (عَنْ شُعْبَةَ) وَصَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ النَّضْرِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَتَابَعَهُ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ.

قُلْتُ: رِوَايَةُ يَحْيَى عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي الْكُبْرَى وَرِوَايَةُ خَالِدٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، وَرِوَايَةُ يَزِيدَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَتَابَعَهُمْ أَيْضًا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، وَرِوَايَتُهُمَا عِنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يُطْلِقُونَ الْكَذِبَ فِي مَوْضِعِ الْخَطَأِ، يُقَالُ: كَذَبَ سَمْعُكَ، أَيْ: زَلَّ فَلَمْ يُدْرِكْ حَقِيقَةَ مَا قِيلَ لَهُ، فَمَعْنَى: كَذَبَ بَطْنُهُ، أَيْ: لَمْ يَصْلُحْ لِقَبُولِ الشِّفَاءِ، بَلْ زَلَّ عَنْهُ، وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ، فَقَالَ: الْعَسَلُ مُسَهِّلٌ، فَكَيْفَ يُوصَفُ لِمَنْ وَقَعَ بِهِ الْإِسْهَالُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ الْوَاحِدَ يَخْتَلِفُ عِلَاجُهُ بِاخْتِلَافِ السِّنِّ وَالْعَادَةِ، وَالزَّمَانِ وَالْغِذَاءِ الْمَأْلُوفِ، وَالتَّدْبِيرِ وَقُوَّةِ الطَّبِيعَةِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِسْهَالَ يَحْدُثُ مِنْ أَنْوَاعٍ مِنْهَا الْهَيْضَةُ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ تُخَمَةٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عِلَاجَهَا بِتَرْكِ الطَّبِيعَةِ وَفِعْلِهَا، فَإِنَّ احتَاجَتِ إِلَى مُسَهِّلٍ مُعَيَّنٍ أُعِينَتْ مَا دَامَ بِالْعَلِيلِ قُوَّةٌ، فَكَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ اسْتِطْلَاقُ بَطْنِهِ عَنْ تُخَمَةٍ أَصَابَتْهُ فَوَصَفَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَسَلَ لِدَفْعِ الْفُضُولِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَوَاحِي الْمَعِدَةِ

ص: 169

وَالْأَمْعَاءِ لِمَا فِي الْعَسَلِ مِنَ الْجَلَاءِ وَدَفْعِ الْفُضُولِ الَّتِي تُصِيبُ الْمَعِدَةَ مِنْ أَخْلَاطٍ لَزِجَةٍ تَمْنَعُ اسْتِقْرَارَ الْغِذَاءِ فِيهَا، وَلِلْمَعِدَةِ خَمْلٌ كَخَمْلِ الْمِنْشَفَةِ، فَإِذَا عَلِقَتْ بِهَا الْأَخْلَاطُ اللَّزِجَةُ أَفْسَدَتْهَا وَأَفْسَدَتِ الْغِذَاءَ الْوَاصِلَ إِلَيْهَا، فَكَانَ

دَوَاؤُهَا بِاسْتِعْمَالِ مَا يَجْلُو تِلْكَ الْأَخْلَاطَ، وَلَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْعَسَلِ، لَا سِيَّمَا إِنْ مُزِجَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفِدْهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الدَّوَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِقْدَارٌ وَكَمِّيَّةٌ بِحَسَبِ الدَّاءِ، إِنْ قَصُرَ عَنْهُ لَمْ يَدْفَعْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ جَاوَزَهُ أَوْهَى الْقُوَّةَ وَأَحْدَثَ ضَرَرًا آخَرَ، فَكَأَنَّهُ شَرِبَ مِنْهُ أَوَّلًا مِقْدَارًا لَا يَفِي بِمُقَاوَمَةِ الدَّاءِ، فَأَمَرَهُ بِمُعَاوَدَةِ سَقْيِهِ، فَلَمَّا تَكَرَّرَتِ الشَّرَبَاتُ بِحَسَبِ مَادَّةِ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ - تَعَالَى -. وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الدَّوَاءَ نَافِعٌ، وَأَنَّ بَقَاءَ الدَّاءِ لَيْسَ لِقُصُورِ الدَّوَاءِ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ لِكَثْرَةِ الْمَادَّةِ الْفَاسِدَةِ، فَمِنْ ثَمَّ أَمَرَهُ بِمُعَاوَدَةِ شُرْبِ الْعَسَلِ لِاسْتِفْرَاغِهَا، فَكَانَ كَذَلِكَ، وَبَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالطِّبُّ نَوْعَانِ: طِبُّ الْيُونَانِ وَهُوَ قِيَاسِيٌّ، وَطِبُّ الْعَرَبِ وَالْهِنْدِ وَهُوَ تَجَارِبِيٌّ، وَكَانَ أَكْثَرُ مَا يَصِفهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يَكُونُ عَلِيلًا عَلَى طَرِيقَةِ طِبِّ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ. وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ الْمِائَةِ فِي الطِّبِّ: إِنَّ الْعَسَلَ تَارَةً يَجْرِي سَرِيعًا إِلَى الْعُرُوقِ وَيَنْفُذُ مَعَهُ جُلُّ الْغِذَاءِ، وَيُدِرُّ الْبَوْلَ فَيَكُونُ قَابِضًا، وَتَارَةً يَبْقَى فِي الْمَعِدَةِ فَيُهَيِّجُهَا بِلَذْعِهَا حَتَّى يَدْفَعَ الطَّعَامَ وَيُسَهِّلَ الْبَطْنَ فَيَكُونُ مُسَهِّلًا. فَإِنْكَارُ وَصْفِهِ لِلْمُسْهِلِ مُطْلَقًا قُصُورٌ مِنَ الْمُنْكِرِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: طِبُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَيَقَّنٌ الْبُرْءُ لِصُدُورِهِ عَنِ الْوَحْي، وَطِبُّ غَيْرِهِ أَكْثَرُهُ حَدْسٌ أَوْ تَجْرِبَةٌ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ الشِّفَاءُ عَنْ بَعْضِ مَنْ يَسْتَعْمِلُ طِبَّ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ لِمَانِعٍ قَامَ بِالْمُسْتَعْمِلِ مِنْ ضَعْفِ اعْتِقَادِ الشِّفَاءِ بِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، وَأَظْهَرُ الْأَمْثِلَةِ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ شِفَاءُ صَدْرِهِ لِقُصُورِهِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالتَّلَقِّي بِالْقَبُولِ، بَلْ لَا يَزِيدُ الْمُنَافِقَ إِلَّا رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِ وَمَرَضًا إِلَى مَرَضِهِ، فَطِبُّ النُّبُوَّةِ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا الْأَبْدَانَ الطَّيِّبَةَ، كَمَا أَنَّ شِفَاءَ الْقُرْآنِ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا الْقُلُوبَ الطَّيِّبَةَ ; وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي وَصْفِهِ صلى الله عليه وسلم الْعَسَلُ لِهَذَا الْمُنْسَهِلِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا فِي الشِّفَاءِ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: صَدَقَ اللَّهُ، أَيْ: فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} فَلَمَّا نَبَّهَهُ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ تَلَقَّاهَا بِالْقَبُولِ، فَشُفِيَ بِإِذْنِ اللَّهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ عَلَى الْمَأْلُوفِ مِنْ عَادَتِهِمْ مِنَ التَّدَاوِي بِالْعَسَلِ فِي الْأَمْرَاضِ كُلِّهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَهُ ذَلِكَ كَانَتْ بِهِ هَيْضَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. الرَّابِعُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِطَبْخِ الْعَسَلِ قَبْلَ شُرْبِهِ فَإِنَّهُ يَعْقِدُ الْبَلْغَمَ، فَلَعَلَّهُ شَرِبَهُ أَوَّلًا بِغَيْرِ طَبْخٍ، انْتَهَى.

وَالثَّانِي وَالرَّابِعُ ضَعِيفَانِ، وَفِي كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشِّفَاءُ يَحْصُلُ لِلْمَذْكُورِ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَرَكَةُ وَصْفِهِ وَدُعَائِهِ ; فَيَكُونُ خَاصًّا بِذَلِكَ الرَّجُلِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ: الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ مَوْقُوفًا، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. وَأَثَرُ عَلِيٍّ: إِذَا اشْتَكَى أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَوْهِبْ مِنَ امْرَأَتِهِ مِنْ صَدَاقِهَا فَلْيَشْتَرِ بِهِ عَسَلًا، ثُمَّ يَأْخُذُ مَاءَ السَّمَاءِ فَيُجْمَعُ هَنِيئًا مَرِيئًا شِفَاءً مُبَارَكًا، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، أَنَّ الْأَلْفَاظَ لَا تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَرِئَ الْعَلِيلُ مِنْ أَوَّلِ شَرْبَةٍ، فَلَمَّا لَمْ يَبْرَأْ إِلَّا بَعْدَ التَّكْرَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ تَقْتَصِرُ عَلَى مَعَانِيهَا. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُ هَذَا الِانْتِزَاعِ. وَقَالَ أَيْضًا: فِيهِ أَنَّ الَّذِي يَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ الشِّفَاءَ قَدْ يَتَخَلَّفُ لِتَتِمَّ الْمُدَّةُ الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهَا الدَّاءَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: فَسَقَاهُ فَبَرَأَ بِفَتْحِ الرَّاءِ والْهَمْزِ بِوَزْنِ قَرَأَ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَغَيْرُهُمْ يَقُولُهَا بِكَسْرِ الرَّاءِ

ص: 170

بِوَزْنِ عَلِمَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِي فِي آخِرِهِ فَسَقَاهُ فَعَافَاهُ اللَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌25 - بَاب لَا صَفَرَ وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَطْنَ

5717 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ إِبِلِي تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيَتأْتِى الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ: فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ. رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا صَفَرَ وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَطْنَ) كَذَا جَزَمَ بِتَفْسِيرِ الصَّفَرِ، وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَدْ نَقَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لَهُ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ الْجَرْمِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رُؤْبَةَ بْنَ الْعَجَّاجِ، فَقَالَ: هِيَ حَيَّةٌ تَكُونُ فِي الْبَطْنِ تُصِيبُ الْمَاشِيَةَ وَالنَّاسَ، وَهِيَ أَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ عِنْدَ الْعَرَبِ. فَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الصَّفَرِ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِيهِ مِنَ الْعَدْوَى. وَرَجَحَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْقَوْلُ لِكَوْنِهِ قُرِنَ فِي الْحَدِيثِ بِالْعَدْوَى. وَكَذَا رَجَّحَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِ الْأَعْشَى:

وَلَا يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ.

وَالشُّرْسُوفُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ: الضِّلْعُ، وَالصَّفَرُ دُودٌ يَكُونُ فِي الْجَوْفِ، فَرُبَّمَا عَضَّ الضِّلْعَ أَوِ الْكَبِدَ فَقَتَلَ صَاحِبَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّفَرِ الْحَيَّةُ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ نَفْيُ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ قَتَلَهُ، فَرَدَّ ذَلِكَ الشَّارِعُ بِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا فَرَغَ الْأَجَلُ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ حَدِيثِ: لَا صَفَرَ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ فِي الصَّفَرِ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَهْرُ صَفَرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُحَرِّمُ صَفَرَ وَتَسْتَحِلُّ الْمُحَرَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِرَدِّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا صَفَرَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ، وَالصَّفَرُ أَيْضًا وَجَعٌ فِي الْبَطْنِ يَأْخُذُ مِنَ الْجُوعِ وَمِنَ اجْتِمَاعِ الْمَاءِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الِاسْتِسْقَاءُ، وَمِنَ الْأَوَّلِ حَدِيثُ صَفَرَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حُمُرِ النِّعَمِ، أَيْ: جَوْعَةٌ، وَيَقُولُونَ: صَفَرَ الْإِنَاءُ إِذَا خَلَا عَنِ الطَّعَامِ، وَمِنَ الثَّانِي مَا سَبَقَ فِي الْأَشْرِبَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَهُ الصَّفَرُ، فَنُعِتَ لَهُ السَّكَرُ، أَيْ: حَصَلَ لَهُ الِاسْتِسْقَاءُ فَوُصِفَ لَهُ النَّبِيذُ، وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا لَا يَتَّجِهُ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْهَامَّةِ وَالْعَدْوَى كُلٌّ مِنْهُمَا فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَقَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ: رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ، يَعْنِي: كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابِ لَا عَدْوَى مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا، وَفِيهِ تَفْصِيلُ لَفْظِ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ لَفْظِ سِنَانٍ، وَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌26 - بَاب ذَاتِ الْجَنْبِ

5718 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ

ص: 171

اللَّهِ، أَنَّ أُمَّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ - وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ اللَّاتِي بَايَعْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ أُخْتُ عُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ - أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهَا، وقَدْ عَلَّقَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَةِ، فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، عَلَى مَ تَدْغَرُنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذِهِ الْأَعْلَاقِ؟ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ، يُرِيدُ الْكُسْتَ، يَعْنِي: الْقُسْطَ، قَالَ: وَهِيَ لُغَةٌ.

5719، 5720 - ، 5721 - حَدَّثَنَا عَارِمٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: قُرِئ عَلَى أَيُّوبَ مِنْ كُتُبِ أَبِي قِلَابَةَ، مِنْهُ مَا حَدَّثَ بِهِ، وَمِنْهُ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ، وَكَانَ هَذَا فِي الْكِتَابِ: عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ، وَأَنَسَ بْنَ النَّضْرِ كَوَيَاهُ وَكَوَاهُ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِهِ. وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ: عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنْ يَرْقُوا مِنْ الْحُمَةِ وَالْأُذُنِ. قَالَ أَنَسٌ: كُوِيتُ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ، وَشَهِدَنِي أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو طَلْحَةَ كَوَانِي.

[الحديث 5719 - طرفه في: 5721]

قَوْلُهُ: (بَابُ ذَاتِ الْجَنْبِ) هُوَ وَرَمٌ حَارٌّ يَعْرِضُ فِي الْغِشَاءِ الْمُسْتَبْطِنِ لِلْأَضْلَاعِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَعْرِضُ فِي نَوَاحِي الْجَنْبِ مِنْ رِيَاحٍ غَلِيظَةٍ تَحْتَقِنُ بَيْنَ الصِّفَاقَاتِ وَالْعَضَلِ الَّتِي فِي الصَّدْرِ وَالْأَضْلَاعِ، فَتُحْدِثُ وَجَعًا، فَالْأَوَّلُ: هو ذَاتُ الْجَنْبِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي تَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ، قَالُوا: وَيَحْدُثُ بِسَبَبِهِ خَمْسَةُ أَعْرَاضٍ: الْحُمَّى وَالسُّعَالُ وَالنَّخْسُ وَضِيقُ النَّفَسِ وَالنَّبْضُ الْمِنْشَارِيُّ.

وَيُقَالُ لِذَاتِ الْجَنْبِ أَيْضًا: وَجَعُ الْخَاصِرَةِ، وَهِيَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمَخُوفَةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ، وَهِيَ مِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَهَا عَلَيَّ، وَالْمُرَادُ بِذَاتِ الْجَنْبِ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ الثَّانِي، لِأَنَّ الْقُسْطَ وَهُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَرِيبًا هُوَ الَّذِي تُدَاوَى بِهِ الرِّيحُ الْغَلِيظَةُ، قَالَ الْمُسَبِّحِيُّ: الْعُودُ حَارٌّ يَابِسٌ قَابِضٌ يَحْبِسُ الْبَطْنَ وَيُقَوِّي الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ وَيَطْرُدُ الرِّيحَ وَيَفْتَحُ السُّدَدَ وَيُذْهِبُ فَضْلَ الرُّطُوبَةِ ; قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَعَ الْقُسْطُ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ الْحَقِيقِيِّ أَيْضًا إِذَا كَانَتْ نَاشِئَةً عَنْ مَادَّةٍ بَلْغَمِيَّةٍ، وَلَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ انْحِطَاطِ الْعِلَّةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا:

حَدِيثُ أُمِّ قَيْسِ بِنْتِ مِحْصَنٍ فِي قِصَّةِ وَلَدِهَا، وَالْأَعْلَاقُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ قَبْلَ بِبَابَيْنِ. وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ الذُّهْلِيُّ، وَقَوْلُهُ: عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ بِمُهْمَلَةٍ وَمُثَنَّاةٍ ثَقِيلَةٍ، وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ وَمُعْجَمَةٍ وَزْنُ عَظِيمٍ، وَشَيْخُهُ إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ رَاشِدٍ الْجَزَرِيُّ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: يُرِيدُ الْكُسْتَ، يَعْنِي الْقُسْطَ، قَالَ: وَهِيَ لُغَةٌ هُوَ تَفْسِيرُ الْعُودِ الْهِنْدِيِّ بِأَنَّهُ الْقُسْطُ، وَالْقَائِلُ: قَالَ هِيَ لُغَةٌ هُوَ الزُّهْرِيُّ.

ثَانِيهُمَا حَدِيثُ أَنَسٍ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَارِمٌ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَبُو النُّعْمَانِ السَّدُوسِيُّ، وَحَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (قُرِئَ عَلَى أَيُّوبَ) هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (مِنْ كُتُبِ أَبِي قِلَابَةَ مِنْهُ مَا حَدَّثَ بِهِ، وَمِنْهُ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ، فَكَانَ هَذَا فِي الْكِتَابِ) أَيْ: كِتَابُ أَبِي قِلَابَةَ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَدَلَ قَوْلِهِ: فِي الْكِتَابِ: قَرَأَ الْكِتَابَ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي الْكِتَابِ: غَيْرُ مَسْمُوعٍ، وَلَمْ أَرَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) هُوَ ابْنُ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ)

ص: 172

هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ زَوْجُ وَالِدَةِ أَنَسٍ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ هُوَ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (كَوَيَاهُ وَكَوَاهُ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِهِ) نُسِبَ الْكَيُّ إِلَيْهِمَا مَعًا لِرِضَاهُمَا بِهِ، ثُمَّ نُسِبَ الْكَيُّ لِأَبِي طَلْحَةَ وَحْدَهُ لِمُبَاشَرَتِهِ له. وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَيُّوبَ: وَشَهِدَنِي أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ) هُوَ النَّاجِي بِالنُّونِ وَالْجِيمِ، وَأَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ فَائِدَةً مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ، وَأُخْرَى مِنْ جِهَةِ الْمَتْنِ، أَمَّا الْإِسْنَادُ فَبَيَّنَ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ بَيَّنَ فِي رِوَايَتِهِ صُورَةَ أَخْذِ أَيُّوبَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ قَرَأَهُ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ، وَأَطْلَقَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ رِوَايَتَهُ بِالْعَنْعَنَةِ. وَأَمَّا الْمَتْنُ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْكَيَّ الْمَذْكُورَ كَانَ بِسَبَبِ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ فِيمَنْ حَضَرَ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ زِيَادَةٌ أُخْرَى فِي أَوَّلِهِ أَفْرَدَهَا بَعْضُهُمْ، وَهِيَ حَدِيثُ إِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْ يُرْقُوا مِنَ الْحُمَةِ وَالْأُذُنِ. وَلَيْسَ لِعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ - وَكُنْيَتُهُ أَبُو سَلَمَةَ - فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُعَلَّقِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، تَكَلَّمُوا فِيهِ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ: إِحْدَاهَا: أَنَّهُ رُمِيَ بِالْقَدَرِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً.

ثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ يُدَلِّسُ.

ثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ. وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ: لَمَّا رَأَيْنَاهُ كَانَ لَا يَحْفَظُ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ ضَعْفَهُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يكْتَبُ حَدِيثَهُ. وَوَصَلَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَبُو يَعْلَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيِّ، عَنْ رَيْحَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبَّادٍ بِطُولِهِ، وَأَخْرَجَهُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كَذَلِكَ، وَفَرَّقَهُ الْبَزَّارُ حَدِيثَيْنِ، وَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: تَفَرَّدَ بِهِ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَالْحُمَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَقَدْ تُشَدَّدُ، وَأَنْكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ، هِيَ السُّمُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي بَابِ مَنِ اكْتَوَى، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِهَا فِي بَابِ رُقْيَةِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ بَعْدَ أَبْوَابٍ. وَأَمَّا رُقْيَةُ الْأُذُنِ فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ وَجَعُ الْأُذُنِ، أَيْ: رَخَّصَ فِي رُقْيَةِ الْأُذُنِ إِذَا كَانَ بِهَا وَجَعٌ، وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى الْحَصْرِ الْمَاضِي فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ مَنِ اكْتَوَى حَيْثُ قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَخَّصَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ مَنْعَ مِنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا رُقْيَةَ أَنْفَعُ مِنْ رُقْيَةِ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ، وَلَمْ يُرِدْ نَفْيُ الرُّقَى عَنْ غَيْرِهِمَا. وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ، عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّهُ ضَبَطَهُ الْأُدْرُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ. وَأَنَّهُ جَمْعُ أُدْرَةٍ وَهِيَ نَفْخَةُ الْخُصْيَةِ، قَالَ: وَهُوَ غَرِيبٌ شَاذٌّ انْتَهَى. وَلَمُ أَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ ابْنِ بَطَّالٍ، فَلْيُحَرَّرْ.

وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي سِيَاقِ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ بِلَفْظِ: أَنْ يَرْقُوا مِنَ الْحُمَةِ، وَأَذِنَ بِرُقْيَةِ الْعَيْنِ وَالنَّفْسِ فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: وَالْأُذُنُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ تَصْحِيفٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَذِنَ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْإِذْنِ، لَكِنْ زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَةٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْقِي مِنَ الْأُذْنِ وَالنَّفْسِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ بَابُ رُقْيَةِ الْعَيْنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: رَخَّصَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ هُمْ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَقَعَ ذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَالْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ.

‌27 - بَاب حَرْقِ الْحَصِيرِ لِيُسَدَّ بِهِ الدَّمُ

5722 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: لَمَّا كُسِرَتْ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْضَةُ وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ، وَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً

ص: 173

عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ، فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَقَأَ الدَّمُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ حَرْقِ الْحَصِيرِ) كَذَا لَهُمْ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ التِّينِ، فَقَالَ: وَالصَّوَابُ إِحْرَاقُ الْحَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْرَقَ، أَوْ تَحْرِيقُ مِنْ حَرَّقَ، قَالَ: فَأَمَّا الْحَرْقُ فَهُوَ حَرْقُ الشَّيْءِ يُؤْذِيهِ.

قُلْتُ: لَكِنْ لَهُ تَوْجِيهٌ، وَقَوْلُهُ: لِيُسَدَّ بِهِ الدَّمُ هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: مَجَارِي الدَّمِ، أَوْ ضَمَّنَ سَدَّ مَعْنَى قَطَعَ وَهُوَ الْوَجْهُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفْعَلُ لِلضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ يَقُولُ: وَدِدْنَا لَوْ عَلِمْنَا ذَلِكَ الْحَصِيرَ مِمَّا كَانَ لِنَتَّخِذَهُ دَوَاءً لِقَطْعِ الدَّمِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَدْ زَعَمَ أَهْلُ الطِّبِّ أَنَّ الْحَصِيرَ كُلَّهَا إِذَا أُحْرِقَتْ تُبْطِلُ زِيَادَةَ الدَّمِ، بَلِ الرَّمَادُ كُلُّهُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الرَّمَادَ مِنْ شَأْنِهِ الْقَبْضُ، وَلِهَذَا تَرْجَمَ التِّرْمِذِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ: التَّدَاوِي بِالرَّمَادِ وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ أَنَّ قَطْعَ الدَّمِ بِالرَّمَادِ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْحَصِيرُ مِنْ دِيسِ السُّعْدِ فَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِالْقَبْضِ وَطِيبِ الرَّائِحَةِ، فَالْقَبْضُ يَسُدُّ أَفْوَاهَ الْجُرْحِ، وَطِيبُ الرَّائِحَةِ يَذْهَبُ بِزَهَمِ الدَّمِ، وَأَمَّا غَسْلُ الدَّمِ أَوَّلًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِذَا كَانَ الْجُرْحُ غَيْرَ غَائِرٍ، أَمَّا لَوْ كَانَ غَائِرًا فَلَا يُؤْمَنُ مَعَهُ ضَرَرُ الْمَاءِ إِذَا صُبَّ فِيهِ. وَقَالَ الْمُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيفِ: الرَّمَادُ فِيهِ تَجْفِيفٌ وَقِلَّةُ لَذْعٍ، وَالْمُجَفَّفُ إِذَا كَانَ فِيهِ قُوَّةُ لَذْعٍ رُبَّمَا هَيَّجَ الدَّمَ وَجَلَبَ الْوَرَمَ. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَحْرَقَتْ لَهُ - حِينَ لَمْ يَرْقَأْ - قِطْعَةَ حَصِيرٍ خَلِقٍ فَوَضَعَتْ رَمَادَهُ عَلَيْهِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ الْبَابِ، وَهُوَ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي غَسْلِ فَاطِمَةَ وَجْهَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدَّمِ لَمَّا جُرِحَ يَوْمَ أُحُدٍ، فِي كِتَابِ الْجِهَادِ. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَرَقَأَ بِقَافٍ وَهَمْزَةٍ، أَيْ: بَطَلَ خُرُوجُهُ، وَفِي رِوَايَةِ: فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ.

‌28 - بَاب الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ

5723 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ.

قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ.

5724 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ "أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ قَدْ حُمَّتْ تَدْعُو لَهَا أَخَذَتْ الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نَبْرُدَهَا بِالْمَاءِ".

5725 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ".

5726 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحُمَّى مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ رَافِعٍ آخِرَ

ص: 174

الْبَابِ: مِنْ فَوْحِ بِالْوَاوِ، وَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ فِي صِفَةِ النَّارِ بِلَفْظِ: فَوْرِ بِالرَّاءِ بَدَلَ الْحَاءِ وَكُلُّهَا بِمَعْنًى، وَالْمُرَادُ سُطُوعُ حَرِّهَا وَوَهَجِهِ. وَالْحُمَّى أَنْوَاعٌ كَمَا سَأَذْكُرُهُ. وَاخْتُلِفَ فِي نِسْبَتِهَا إِلَى جَهَنَّمَ فَقِيلَ حَقِيقَةً، وَاللَّهَبُ الْحَاصِلُ فِي جِسْمِ الْمَحْمُومِ قِطْعَةٌ مِنْ جَهَنَّمَ، وَقَدَّرَ اللَّهُ ظُهُورَهَا بِأَسْبَابٍ تَقْتَضِيهَا لِيَعْتَبِرَ الْعِبَادُ بِذَلِكَ، كَمَا أَنَّ أَنْوَاعَ الْفَرَحِ وَاللَّذَّةِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، أَظْهَرُهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ عِبْرَةٌ وَدَلَالَةٌ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُسْنَدِ الشِّهَابِ: الْحُمَّى حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ. وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَمْرِ بِالْإِبْرَادِ أَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، وَقِيلَ: بَلِ الْخَبَرُ وَرَدَ مَوْرِدَ التَّشْبِيهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حَرَّ الْحُمَّى شَبِيهٌ بَحَرِّ جَهَنَّمَ تَنْبِيهًا لِلنُّفُوسِ عَلَى شِدَّةِ حَرِّ النَّارِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحَرَارَةَ الشَّدِيدَةَ شَبِيهَةٌ بِفَيْحِهَا وَهُوَ مَا يُصِيبُ مَنْ قَرُبَ مِنْهَا مِنْ حَرِّهَا كَمَا قِيلَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْإِبْرَادِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي آخِرِ الْبَابِ.

وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ: لَمْ يَرْوِهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ إِلَّا ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ وَتَابَعَهُمَا الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: وَلَمْ يَأْتِ بِهِ مَعْنٌ وَلَا الْقَعْنَبِيُّ وَلَا أَبُو مَصْعَبٍ وَلَا ابْنُ بُكَيْرٍ، انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّقَصِّي. وَقَدْ أَخْرَجَهُ شَيْخُنَا فِي تَقْرِيبِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ ذُهُولُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى الْمُلَخَّصِ لِلْقَابِسِيِّ، وَالْقَابِسِيُّ إِنَّمَا أَخْرَجَ الْمُلَخَّصُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، وَهَذَا ثَانِي حَدِيثٍ عَثَرْتُ عَلَيْهِ فِي تَقْرِيبِ الْأَسَانِيدِ لِشَيْخِنَا عَفَا اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ نَصِيحَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عُفَيْرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَأَطْفِئُوهَا) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ ثُمَّ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ هَمْزَةِ أَمْرٍ بِالْإِطْفَاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ فِي صِفَةِ النَّارِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ بِلَفْظِ: فَأَبْرِدُوهَا وَالْمَشْهُورُ فِي ضَبْطِهَا بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَالرَّاءُ مَضْمُومَةُ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا، يُقَالُ: بَرَدْتِ الْحُمَّى أَبْرُدُهَا بَرْدًا بِوَزْنِ قَتَلْتُهَا أَقْتُلُهَا قَتْلًا، أَيْ: أَسْكَنْتُ حَرَارَتَهَا، قَالَ شَاعِرُ الْحَمَاسَةِ:

إِذَا وَجَدْتَ لَهَيْبَ الْحُبِّ فِي كَبِدِي

أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ

هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَاءِ ظَاهِرَهُ

فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الْأَحْشَاءِ تَتَّقِدُ

وَحَكَى عِيَاضٌ رِوَايَةً بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ، مِنْ أَبْرَدَ الشَّيْءَ إِذَا عَالَجَهُ فَصَيَّرَهُ بَارِدًا، مِثْلَ أَسْخَنَهُ إِذَا صَيَّرَهُ سُخْنَا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إِنَّهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ.

قَوْلُهُ: (بِالْمَاءِ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَاءِ زَمْزَمَ، كَمَا مَضَى فِي صِفَةِ النَّارِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَمْرَةَ بِالْجِيمِ، قَالَ: كُنْتُ أُجَالِسُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ فَأَخَذَتْنِي الْحُمَّى، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: كُنْتُ أَدْفَعُ النَّاسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاحْتَبَسْتُ أَيَّامًا، فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ الْحُمَّى، قَالَ: أَبْرِدْهَا بِمَاءِ زَمْزَمَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ أَوْ بِمَاءِ زَمْزَمَ، شَكَّ هَمَّامٌ. كَذَا فِي رَاوِيَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي

ص: 175

عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، عَنْ هَمَّامٍ. وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ ذِكْرَ مَاءِ زَمْزَمَ لَيْسَ قَيْدًا لِشَكِّ رَاوِيهِ فِيهِ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ: فَأَبْرِدُوهَا بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَلمْ يَشُكَّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عَفَّانَ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ وَهِمَ فِي اسْتِدْرَاكِهِ. وَتَرْجَمَ لَهُ ابْنُ حِبَّانَ بَعْدَ إِيرَادِهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: ذُكِرَ الْخَبَرُ الْمُفَسِّرُ لِلْمَاءِ الْمُجْمَلِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنَّ شِدَّةَ الْحُمَّى تُبَرَّدُ بِمَاءِ زَمْزَمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمِيَاهِ، وَسَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تُعُقِّبَ - عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا شَكَّ فِي ذِكْرِ مَاءِ زَمْزَمَ فِيهِ - بِأَنَّ الْخِطَابَ لِأَهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً لِتَيَسُّرِ مَاءِ زَمْزَمَ عِنْدَهُمْ، كَمَا خُصَّ الْخِطَابُ بِأَصْلِ الْأَمْرِ بِأَهْلِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ. وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: اعْتَرَضَ بَعْضُ سُخَفَاءِ الْأَطِبَّاءِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنْ قَالَ: اغْتِسَالُ الْمَحْمُومِ بِالْمَاءِ خَطَرٌ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْهَلَاكِ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَسَامَّ وَيَحْقِنُ الْبُخَارَ وَيَعْكِسُ الْحَرَارَةَ إِلَى دَاخِلِ الْجِسْمِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّلَفِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: غَلِطَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ فَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ لَمَّا أَصَابَتْهُ الْحُمَّى، فَاحْتَقَنَتِ الْحَرَارَةُ فِي بَاطِنِ بَدَنِهِ فَأَصَابَتْهُ عِلَّةٌ صَعْبَةٌ كَادَتْ تُهْلِكُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِلَّتِهِ، قَالَ قَوْلًا سَيِّئًا لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ جَهْلُهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ صَدَرَ عَنْ صَدْرٍ مُرْتَابٍ فِي صِدْقِ الْخَبَرِ، فَيُقَالُ لَهُ أَوَّلًا: مِنْ أَيْنَ حَمَلْتَ الْأَمْرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بَيَانُ الْكَيْفِيَّةِ فَضْلًا عَنِ اخْتِصَاصِهَا بِالْغُسْلِ، وَإِنَّمَا فِي الْحَدِيثِ الْإِرْشَادُ إِلَى تَبْرِيدِ الْحُمَّى بِالْمَاءِ، فَإِنْ أَظْهَرَ الْوُجُودَ أَوِ اقْتَضَتْ صِنَاعَةُ الطِّبِّ أَنَّ انْغِمَاسَ كُلِّ مَحْمُومٍ فِي الْمَاءِ أَوْ صَبِّهِ إِيَّاهُ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ يَضُرُّهُ فَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ صلى الله عليه وسلم اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ عَلَى وَجْهٍ يَنْفَعُ، فَلْيُبْحَثْ عَنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لِيَحْصُلَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُوَ كَمَا وَقَعَ فِي أَمْرِهِ الْعَائِنِ بِالِاغْتِسَالِ وَأَطْلَقَ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مُطْلَقَ الِاغْتِسَالِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاغْتِسَالَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَأَوْلَى مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَيْفِيَّةُ تَبْرِيدِ الْحُمَّى مَا صَنَعَتْهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَرُشُّ عَلَى بَدَنِ الْمَحْمُومِ شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ بَيْنَ

يَدَيْهِ وَثَوْبِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ النَّشْرَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا، وَالصَّحَابِيُّ وَلَا سِيَّمَا مِثْلُ أَسْمَاءَ الَّتِي هِيَ مِمَّنْ كَانَ يُلَازِمُ بَيْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ مِنْ غَيْرِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِهَا عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ تَرْتِيبِهِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: وَلَا شَكَّ أَنَّ عِلْمَ الطِّبِّ مِنْ أَكْثَرِ الْعُلُومِ احْتِيَاجًا إِلَى التَّفْصِيلِ، حَتَّى أَنَّ الْمَرِيضَ يَكُونُ الشَّيْءُ دَوَاءَهُ فِي سَاعَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ دَاءً لَهُ فِي السَّاعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، لِعَارِضٍ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ غَضَبٍ يَحْمِي مِزَاجَهُ مَثَلًا فَيَتَغَيَّرُ عِلَاجُهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، فَإِذَا فُرِضَ وُجُودُ الشِّفَاءِ لِشَخْصٍ بِشَيْءٍ فِي حَالَةٍ مَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ وُجُودُ الشِّفَاءِ بِهِ لَهُ أَوْ لغَيْرِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَطِبَّاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ الْوَاحِدَ يَخْتَلِفُ عِلَاجُهُ بِاخْتِلَافِ السِّنِّ وَالزَّمَانِ، وَالْعَادَةِ وَالْغِذَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالتَّأْثِيرِ الْمَأْلُوفِ، وَقُوَّةِ الطِّبَاعِ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. قَالُوا: وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرِيدَ التَّصْرِيحَ بِالِاغْتِسَالِ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ، فَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ إِقْلَاعِ الْحُمَّى، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَيَكُونُ مِنَ الْخَوَاصِّ الَّتِي اطَّلَعَ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا بِالْوَحْيِ، وَيَضْمَحِلُّ عِنْدَ ذَلِكَ جَمِيعُ كَلَامِ أَهْلِ الطِّبِّ.

وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمُ الْحُمَّى - وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ - فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ، يَسْتَنْقِعْ فِي نَهَرٍ جَارٍ وَيَسْتَقْبِلُ جِرْيَتَهُ وَلْيَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ وَصَدِّقْ رَسُولَكَ، بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلْيَنْغَمِسْ فِيهِ ثَلَاثَ غَمَسَاتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فَخَمْسٌ، وَإِلَّا فَسَبْعٌ، وَإِلَّا فَتِسْعٌ، فَإِنَّهَا لَا تَكَادُ تُجَاوِزُ تِسْعًا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ. قُلْتُ: وَفِي سَنَدِهِ سَعِيدُ بْنُ زَرْعَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ

ص: 176

الْحُمَّيَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ دُونَ بَعْضٍ، لِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ دُونَ بَعْضٍ. وَهَذَا أَوْجَهُ.

فَإِنَّ خِطَابَهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ يَكُونُ عَامًّا وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا كَمَا قَالَ: لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا، فَقَوْلُهُ: شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا، لَيْسَ عَامًّا لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ لِمَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَعَلَى سَمْتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَا وَالَاهُمُ إِذْ كَانَ أَكْثَرُ الْحُمَّيَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْعَرْضِيَّةِ الْحَادِثَةِ عَنْ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ، وَهَذِهِ يَنْفَعُهَا الْمَاءُ الْبَارِدُ شُرْبًا وَاغْتِسَالًا، لِأَنَّ الْحُمَّى حَرَارَةٌ غَرِيبَةٌ تَشْتَعِلُ فِي الْقَلْبِ وَتَنْتَشِرُ مِنْهُ بِتَوَسُّطِ الرُّوحِ وَالدَّمِ فِي الْعُرُوقِ إِلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَهِيَ قِسْمَانِ: عَرَضِيَّةٌ وَهِيَ الْحَادِثَةُ عَنْ وَرَمٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ إِصَابَةِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ أَوِ الْقَيْظِ الشَّدِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَرَضِيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، وَتَكُونُ عَنْ مَادَّةٍ، ثُمَّ مِنْهَا مَا يُسَخِّنُ جَمِيعَ الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَ مَبْدَأَ تَعَلُّقِهَا بِالرُّوحِ فَهِيَ حُمَّى يَوْمٍ لِأَنَّهَا تَقَعُ غَالِبًا فِي يَوْمٍ وَنِهَايَتُهَا إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُهَا بِالْأَعْضَاءِ الْأَصْلِيَّةِ فَهِيَ حُمَّى دِقٍّ وَهِيَ أَخْطَرُهَا، وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُهَا بِالْأَخْلَاطِ سُمِّيَتْ عَفَنِيَّةً وَهِيَ بِعَدَدِ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ، وَتَحْتَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ.

وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّوْعَ الْأَوَّلَ؛ فَإِنَّهَا تَسْكُنُ بِالِانْغِمَاسِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَشُرْبِ الْمَاءِ الْمُبَرَّدِ بِالثَّلْجِ وَبِغَيْرِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ صَاحِبُهَا إِلَى عِلَاجٍ آخَرَ، وَقَدْ قَالَ جَالِينُوسُ فِي كِتَابِ حِيلَةِ الْبُرْءِ: لَوْ أنَّ شَابًّا حَسَنَ اللَّحْمِ خَصِبَ الْبَدَنِ لَيْسَ فِي أَحْشَائِهِ وَرَمٌ اسْتَحَمَّ بِمَاءٍ بَارِدٍ أَوْ سَبَحَ فِيهِ وَقْتَ الْقَيْظِ عِنْدَ مُنْتَهَى الْحُمَّى لَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ

(1)

. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِذَا كَانَتِ الْقُوَى قَوِيَّةً وَالْحُمَّى حَادَّةً وَالنُّضْجُ بَيِّنٌ وَلَا وَرَمَ فِي الْجَوْفِ وَلَا فَتْقَ فَإِنَّ الْمَاءَ الْبَارِدَ يَنْفَعُ شُرْبُهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَلِيلُ خَصِبَ الْبَدَنِ وَالزَّمَانِ حَارًّا، وَكَانَ مُعْتَادًا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ اغْتِسَالًا فَلْيُؤَذَّنْ لَهُ فِيهِ. وَقَدْ نَزَّلَ ابْنُ الْقَيِّمِ حَدِيثَ ثَوْبَانَ عَلَى هَذِهِ الْقُيُودِ، فَقَالَ: هَذِهِ الصِّفَةُ تَنْفَعُ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ فِي الْحُمَّى الْعَرَضِيَّةِ أَوِ الْغِبِّ الْخَالِصَةِ الَّتِي لَا وَرَمَ مَعَهَا وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الرَّدِيئَةِ، وَالْمُرَادُ الْفَاسِدَةُ، فَيُطْفِئُهَا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَبْرَدُ مَا يَكُونُ لِبُعْدِهِ عَنْ مُلَاقَاةِ الشَّمْسِ، وَوُفُورِ الْقُوَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِكَوْنِهِ عَقِبَ النُّورِ وَالسُّكُونِ وَبَرْدِ الْهَوَاءِ، قَالَ: وَالْأَيَّامُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا هِيَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا بِحَرَارَةِ الْأَمْرَاضِ الْحَادَّةِ غَالِبًا وَلَا سِيَّمَا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالُوا: وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ اسْتِعْمَالُهُ صلى الله عليه وسلم الْمَاءَ الْبَارِدَ فِي عِلَّتِهِ كَمَا قَالَ: صُبُّوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَقَالَ سَمُرَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حُمَّ دَعَا بِقِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فَأَفْرَغَهَا عَلَى قَرْنِهِ، فَاغْتَسَلَ. أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَلَكِنْ فِي سَنَدِهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ. وَقَالَ أَنَسٌ: إِذَا حُمَّ أَحَدُكُمْ فَلْيُشِنَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ مِنَ السَّحَرِ ثَلَاثَ لَيَالٍ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ خَالِدِ بِنْتِ سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُرَقَّعِ رَفَعَهُ: الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ، وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَبَرِّدُوا لَهَا الْمَاءَ فِي الشِّنَانِ، وَصُبُّوهُ عَلَيْكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ: فَفَعَلُوا فَذَهَبَ عَنْهُمْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا تَرُدُّ التَّأْوِيلَ الَّذِي نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ، عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَأَبْرِدُوهَا الصَّدَقَةُ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: أَظُنُّ الَّذِي حَمَلَ قَائِلَ هَذَا أَنَّهُ أَشْكَلَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي الْحُمَّى فَعَدَلَ إِلَى هَذَا، وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا أَخْمَدَ لَهِيبَ الْعَطْشَانِ بِالْمَاءِ أَخْمَدَ اللَّهُ لَهِيبَ الْحُمَّى عَنْهُ، وَلَكِنْ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ فِقْهِ الْحَدِيثِ وَإِشَارَتِهِ، وَأَمَّا الْمُرَادُ بِهِ بِالْأَصْلِ فَهُوَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَدَنِ حَقِيقَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ (يَقُولُ:

(1)

لعله "لا نفع بذلك".

ص: 177

اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ) أَيِ الْعَذَابَ، وَهَذَا مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَهِمَ مِنْ كَوْنِ أَصْلِ الْحُمَّى مِنْ جَهَنَّمَ أَنَّ مَنْ أَصَابَتْهُ عُذِّبَ بِهَا، وَهَذَا التَّعْذِيبُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحِلِّهِ: فَيَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ تَكْفِيرًا لِذُنُوبِهِ وَزِيَادَةً فِي أُجُورِهِ كَمَا سَبَقَ، وَلِلْكَافِرِ عُقُوبَةً وَانْتِقَامًا. وَإِنَّمَا طَلَبَ ابْنُ عُمَرَ كَشْفَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ لِمَشْرُوعِيَّةِ طَلَبِ الْعَافِيَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، إِذْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُكَفِّرَ سَيِّئَاتِ عَبْدِهِ وَيُعْظِمَ ثَوَابَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَفَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، أَيِ: ابْنِ الزُّبَيْرِ، هِيَ بِنْتُ عَمِّهِ وَزَوْجَتُهُ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ جَدَّتُهُمَا لِأَبَوَيْهِمَا مَعًا.

قَوْلُهُ: (بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ: هُوَ مَا يَكُونُ مُفْرَجًا مِنَ الثَّوْبِ كَالْكُمِّ وَالطَّوْقِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَتَصُبُّهُ فِي جَيْبِهَا.

قَوْلُهُ: (أَنْ نَبْرُدَهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الرَّاءِ الْخَفِيفَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي ذَرٍّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ التَّبْرِيدِ، وَهُوَ بِمَعْنَى رِوَايَةِ أَبْرِدْ بِهَمْزَةٍ مَقْطُوعَةٍ، زَادَ عَبْدَةُ فِي رِوَايَتِهِ: وَقَالَ: إِنَّهَا مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ أَيْضًا. وَأَشَارَ بِإِيرَادِ رِوَايَتِهِ هَذِهِ عَقِبَ الْأُولَى إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ اخْتِلَافًا عَلَى هِشَامٍ، بَلْ لَهُ فِي هَذَا الْمَتْنِ إِسْنَادَانِ، بِقَرِينَةِ مُغَايَرَةِ السِّيَاقَيْنِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ: مِنْ فَوْحِ بِالْوَاوِ، وَتَقَدَّمَ فِي صِفَةِ النَّارِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: مِنْ فَوْرِ، وَكُلُّهَا بِمَعْنًى، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بِلَفْظِ: فَأَبْرِدُوهَا عَنْكُمْ بِزِيَادَةِ: عَنْكُمْ، وَكَذَا زَادَهَا مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا.

‌29 - بَاب مَنْ خَرَجَ مِنْ أَرْضٍ لَا تُلَايِمُهُ

5727 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَاسًا - أَوْ: رِجَالًا - مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، وَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وَبِرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى كَانُوا نَاحِيَةَ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، وَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ، وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَرْضٍ لَا تُلَايِمُهُ) بِتَحْتَانِيَّةٍ مَكْسُورَةٍ، وَأَصْلُهُ بِالْهَمْزِ ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فَسُهِّلَ، وَهُوَ مِنَ الْمُلَاءَمَةِ بِالْمَدِّ، أَيِ: الْمُوَافَقَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى. وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ الْعُرَنِيِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا قَرِيبًا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدَهُ بَعْدَهُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُونُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ. وَإِنَّمَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ خَرَجَ فِرَارًا مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌30 - بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الطَّاعُونِ

5728 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ،

ص: 178

قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ سَعْدًا، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ في أَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا، فَقُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ سَعْدًا وَلَا يُنْكِرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.

5729 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَالُوا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَفِرَاراً مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِياً لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ قَالَ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّباً فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْماً سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ" قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ".

[الحديث 5729 - طرفاه في: 5730، 6973]

5730 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ فَلَمَّا كَانَ بِسَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ".

5731 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ المَسِيحُ وَلَا الطَّاعُونُ".

ص: 179

5732 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ قَالَتْ "قَالَ لِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه يَحْيَى بِمَ مَاتَ؟ قُلْتُ: مِنْ الطَّاعُونِ؟ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ".

5733 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الطَّاعُونِ)، أَيْ: مِمَّا يَصِحُّ عَلَى شَرْطِهِ. وَالطَّاعُونُ بِوَزْنِ فَاعُولٍ مِنَ الطَّعْنِ، عَدَلُوا بِهِ عَنْ أَصْلِهِ، وَوَضَعُوهُ دَالًا عَلَى الْمَوْتِ الْعَامِّ كَالْوَبَاءِ، وَيُقَالُ: طُعِنَ فَهُوَ مَطْعُونٌ وَطَعِينٌ إِذَا أَصَابَهُ الطَّاعُونُ، وَإِذَا أَصَابَهُ الطَّعْنُ بِالرُّمْحِ فَهُوَ مَطْعُونٌ، هَذَا كَلَامُ الْجَوْهَرِيِّ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: الطَّاعُونُ الْوَبَاءُ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الطَّاعُونُ الْمَرَضُ الْعَامُّ الَّذِي يَفْسُدُ لَهُ الْهَوَاءُ، وَتَفْسُدُ بِهِ الْأَمْزِجَةُ وَالْأَبْدَانُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: الطَّاعُونُ الْوَجْهُ الْغَالِبُ الَّذِي يُطْفِئُ الرُّوحَ كَالذَّبْيحَةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِعُمُومِ مُصَابِهِ وَسُرْعَةِ قَتْلِهِ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِي: هُوَ مَرَضٌ يَعُمُّ الْكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ فِي جِهَةِ مِنَ الْجِهَاتِ، بِخِلَافِ الْمُعْتَادِ مِنْ أَمْرَاضِ النَّاسِ، وَيَكُونُ مَرَضُهُمْ وَاحِدًا بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ، فَتَكُونُ الْأَمْرَاضُ مُخْتَلِفَةً. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الطَّاعُونُ حَبَّةٌ تَخْرُجُ مِنَ الْأَرْقَاعِ، وَفِي كُلِّ طَيٍّ مِنَ الْجَسَدِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْوَبَاءُ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: أَصْلُ الطَّاعُونِ الْقُرُوحُ الْخَارِجَةُ فِي الْجَسَدِ، وَالْوَبَاءُ عُمُومُ الْأَمْرَاضِ، فَسُمِّيَتْ طَاعُونًا لِشَبَهِهَا بِهَا فِي الْهَلَاكِ، وَإِلَّا فَكُلُّ طَاعُونٍ وَبَاءٌ، وَلَيْسَ كُلُّ وَبَاءٍ طَاعُونًا. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ وَبَاءَ الشَّامِ الَّذِي وَقَعَ فِي عَمَوَاسَ إِنَّمَا كَانَ طَاعُونًا، وَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الطَّاعُونَ وَخْزُ الْجِنِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الطَّاعُونُ غُدَّةٌ تَخْرُجُ فِي الْمَرَاقِّ وَالْآبَاطِ، وَقَدْ تَخْرُجُ فِي الْأَيْدِي وَالْأَصَابِعِ، وَحَيْثُ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: قِيلَ: الطَّاعُونُ انْصِبَابُ الدَّمِ إِلَى عُضْوٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ هَيَجَانُ الدَّمِ وَانْتِفَاخُهُ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْجُذَامِ، مَنْ أَصَابَهُ تَأَكَّلَتْ أَعْضَاؤُهُ وَتَسَاقَطَ لَحْمُهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ انْتِفَاخُ جَمِيعِ الْبَدَنِ مِنَ الدَّمِ مَعَ الْحُمَّى أَوِ انْصِبَابُ الدَّمِ إِلَى بَعْضِ الْأَطْرَافِ، فيَنْتَفِخُ وَيَحْمَرُّ ; وَقَدْ يَذْهَبُ ذَلِكَ الْعُضْوُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا فِي تَهْذِيبِهِ: هُوَ بَثْرٌ وَوَرَمٌ مُؤْلِمٌ جِدًّا، يَخْرُجُ مَعَ لَهَبٍ، وَيَسْوَدُّ مَا حَوَالَيْهِ أَوْ يَخْضَرُّ أَوْ يَحْمَرُّ حُمْرَةً شَدِيدةً بَنَفْسَجِيَّةً كَدُرَّةٍ، وَيَحْصُلُ مَعَهُ خَفَقَانٌ وَقَيْءٌ، وَيَخْرُجُ غَالِبًا فِي الْمَرَاقِّ وَالْآبَاطِ، وَقَدْ يَخْرُجُ فِي الْأَيْدِي وَالْأَصَابِعِ وَسَائِرِ الْجَسَدِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَطِبَّاءِ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا: الطَّاعُونُ مَادَّةٌ سُمِّيَّةٌ تُحْدِثُ وَرَمًا قَتَّالًا يَحْدُثُ فِي الْمَوَاضِعِ الرَّخْوَةِ وَالْمَغَابِنِ مِنَ الْبَدَنِ ; وَأَغْلَبُ مَا تَكُونُ تَحْتَ الْإِبْطِ أَوْ خَلْفَ الْأُذُنِ أَوْ عِنْدَ الْأَرْنَبَةِ.

قَالَ: وَسَبَبُهُ دَمٌ رَدِيءٌ مَائِلٌ إِلَى الْعُفُونَةِ وَالْفَسَادِ يَسْتَحِيلُ إِلَى جَوْهَرٍ سُمِّيٍّ يُفْسِدُ الْعُضْوَ وَيُغَيِّرُ مَا يَلِيهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى الْقَلْبِ كَيْفِيَّةً رَدِيئَةً فَيُحْدِثُ الْقَيْءَ وَالْغَثَيَانَ وَالْغَشْيَ وَالْخَفَقَانَ، وَهُوَ لِرَدَاءَتِهِ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْأَعْضَاءِ إِلَّا مَا كَانَ أَضْعَفَ بِالطَّبْعِ، وَأَرْدَؤُهُ مَا يَقَعُ فِي الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ، وَالْأَسْوَدُ مِنْهُ قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهُ، وَأَسْلَمُهُ الْأَحْمَرُ ثم الْأَصْفَرُ. وَالطَّوَاعِينُ تَكْثُرُ عِنْدَ الْوَبَاءِ فِي الْبِلَادِ الْوَبِئَةِ، وَمِنْ ثَمَّ أُطْلِقَ عَلَى الطَّاعُونِ وَبَاءً وَبِالْعَكْسِ، وَأَمَّا الْوَبَاءُ فَهُوَ فَسَادُ جَوْهَرِ الْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الرُّوحِ وَمَدَدُهُ.

قُلْتُ: فَهَذَا مَا بَلَغَنَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَطِبَّاءِ فِي تَعْرِيفِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَقِيقَتَهُ وَرَمٌ يَنْشَأُ

ص: 180

عَنْ هَيَجَانِ الدَّمِ أَوِ انْصِبَابِ الدَّمِ إِلَى عُضْوٍ فَيُفْسِدُهُ، وَإنَّ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْعَامَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ فَسَادِ الْهَوَاءِ يُسَمَّى طَاعُونًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عُمُومِ الْمَرَضِ بِهِ أَوْ كَثْرَةِ الْمَوْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الطَّاعُونَ يُغَايِرُ الْوَبَاءَ مَا سَيَأْتِي فِي رَابِعِ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ الطَّاعُونَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ - وَفِيهِ قَوْلُ بِلَالٍ -: أَخْرَجُونَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ، وَمَا سَبَقَ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَهُمْ يَمُوتُونَ ذَرِيعًا وَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ فِي الطَّهَارَةِ أَنَّهُمُ اسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، وَفِي لَفْظٍ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهَا أَرْضٌ وَبِئَةٌ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَبَاءَ كَانَ مَوْجُودًا بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الطَّاعُونَ لَا يَدْخُلُهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَبَاءَ غَيْرُ الطَّاعُونِ. وَأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ عَلَى كُلِّ وَبَاءٍ طَاعُونًا فَبِطَرِيقِ الْمَجَازِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْوَبَاءُ هُوَ الْمَرَضُ الْعَامُّ، يُقَالُ: أَوْبَأَتِ الْأَرْضُ فَهِيَ مُوبِئَةٌ، وَوَبِئَتْ بِالْفَتْحِ فَهِيَ وَبِئَةٌ، وَبِالضَّمِّ فَهِيَ مَوْبُوءَةٌ.

وَالَّذِي يَفْتَرِقُ بِهِ الطَّاعُونُ مِنَ الْوَبَاءِ أَصْلُ الطَّاعُونِ الَّذِي لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأَطِبَّاءُ وَلَا أَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي تَعْرِيفِ الطَّاعُونِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ، وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مَا قَالَ الْأَطِبَّاءُ مِنْ كَوْنِ الطَّاعُونِ يَنْشَأُ عَنْ هَيَجَانِ الدَّمِ أَوِ انْصِبَابِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَحْدُثُ عَنِ الطَّعْنَةِ الْبَاطِنَةِ، فَتَحْدُثُ مِنْهَا الْمَادَّةُ السُّمِّيَّةُ وَيَهِيجُ الدَّمُ بِسَبَبِهَا أَوْ يَنْصَبُّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضِ الْأَطِبَّاءُ لِكَوْنِهِ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مِنَ الشَّارِعِ، فَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ قَوَاعِدُهُمْ. وَقَالَ الْكَلَابَاذِيُّ فِي مَعَانِي الْأَخْبَارِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الطَّاعُونُ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَحْصُلُ مِنْ غَلَبَةِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ مِنْ دَمٍ أَوْ صَفْرَاءَ مُحْتَرِقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَكُونُ مِنَ الْجِنِّ، وَقِسْمٌ يَكُونُ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ كَمَا تَقَعُ الْجِرَاحَاتُ مِنَ الْقُرُوحِ الَّتِي تَخْرُجُ فِي الْبَدَنِ مِنْ غَلَبَةِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَعْنٌ، وَتَقَعُ الْجِرَاحَاتُ أَيْضًا مِنْ طَعْنِ الْإِنْسِ. انْتَهَى.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الطَّاعُونَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ وُقُوعُهُ غَالِبًا فِي أَعْدَلِ الْفُصُولِ، وَفِي أَصَحِّ الْبِلَادِ هَوَاءً وَأَطْيَبِهَا مَاءً، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِسَبَبِ فَسَادِ الْهَوَاءِ لَدَامَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ يَفْسُدُ تَارَةً وَيَصِحُّ أُخْرَى، وَهَذَا يَذْهَبُ أَحْيَانًا وَيَجِيءُ أَحْيَانًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَلَا تَجْرِبَةٍ، فَرُبَّمَا جَاءَ سَنَةً عَلَى سَنَةٍ، وَرُبَّمَا أَبْطَأَ سِنِينَ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَعَمَّ النَّاسَ وَالْحَيَوَانَ، وَالْمَوْجُودُ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّهُ يُصِيبُ الْكَثِيرَ وَلَا يُصِيبُ مَنْ هُمْ بِجَانِبِهِمْ مِمَّا هو فِي مِثْلِ مِزَاجِهِمْ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَعَمَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ مِنَ الْجَسَدِ وَلَا يَتَجَاوَزُهُ، وَلِأَنَّ فَسَادَ الْهَوَاءِ يَقْتَضِي تَغَيُّرَ الْأَخْلَاطِ وَكَثْرَةَ الْأَسْقَامِ، وَهَذَا فِي الْغَالِبِ يَقْتُلُ بِلَا مَرَضٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ: مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَفَعَهُ فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ.

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، وَفِي كُلٍّ شَهَادَةٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ زِيَادٍ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: كُنَّا عَلَى بَابِ عُثْمَانَ نَنْتَظِرُ الْإِذْنَ، فَسَمِعْتُ أَبَا مُوسَى، قَالَ زِيَادٌ: فَلَمْ أَرْضَ بِقَوْلِهِ فَسَأَلْتُ سَيِّدَ الْحَيِّ فَقَالَ: صَدَقَ وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ زِيَادٍ، فَسَمَّيَا الْمُبْهَمَ يَزِيدَ بْنَ الْحَارِثِ، وَسَمَّاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أُسَامَةَ بْنَ شَرِيكٍ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ النَّهْشَلِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ علاقه، عن أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي بِضْعَ عَشْرَةَ نَفْسًا مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِأَبِي مُوسَى وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَمَّاهُ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ أُسَامَةَ هُوَ سَيِّدُ الْحَيِّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَاسْتَثْبَتَهُ فِيمَا حَدَّثَهُ بِهِ الْأَوَّلُ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا الْمُبْهَمَ، وَأُسَامَةُ بْنُ شَرِيكٍ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَالَّذِي سَمَّاهُ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ بِهَذَا

ص: 181

الِاعْتِبَارِ، وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَاهُ وَأَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هُوَ وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، وَهُوَ لَكُمْ شَهَادَةٌ.

وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا أَبَا بَلْجٍ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا جِيمٌ وَاسْمُهُ يَحْيَى وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ بِسَبَبِ التَّشَيُّعِ، وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ كُرَيْبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إِلَّا كُرَيْبًا، وَأَبَاهُ وَكُرَيْبٌ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ فِي الطَّاعُونِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ كُرَيْبِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ قَيْسٍ أَخِي أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَفَعَهُ -: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُحَصِّلَ لِأُمَّتِهِ أَرْفَعَ أَنْوَاعِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ إِمَّا مِنَ الْإِنْسِ وَإِمَّا مِنَ الْجِنِّ. وَلِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ رِوَايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ رِجَالِ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْهَا، وَهَذَا سَنَدٌ ضَعِيفٌ، وَآخَرُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ سَنَدُهُ أَضْعَفُ مِنْهُ، وَالْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِالصِّحَّةِ لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ إِلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: وَخْزُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا زَايٌ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ الطَّعْنُ إِذَا كَانَ غَيْرَ نَافِذٍ، وَوَصْفُ طَعْنِ الْجِنِّ بِأَنَّهُ وَخْزٌ لِأَنَّهُ يَقَعُ مِنَ الْبَاطِنِ إِلَى الظَّاهِرِ فَيُؤَثِّرُ بِالْبَاطِنِ أَوَّلًا ثُمَّ يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ وَقَدْ لَا يَنْفُذُ، وَهَذَا بِخِلَافِ طَعْنِ الْإِنْسِ فَإِنَّهُ يَقَعُ مِنَ الظَّاهِرِ إِلَى الْبَاطِنِ فَيُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ أَوَّلًا ثُمَّ يُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ، وَقَدْ لَا يَنْفُذُ.

(تَنْبِيهٌ):

يَقَعُ فِي الْأَلْسِنَةِ وَهُوَ فِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ تَبَعًا لِغَرِيبَيِ الْهَرَوِيِّ بِلَفْظِ: وَخْزُ إِخْوَانِكُمْ، وَلَمْ أَرَهُ بِلَفْظِ: إِخْوَانِكُمْ بَعْدَ التَّتَبُّعِ الطَّوِيلِ الْبَالِغِ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدُة لَا فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ وَلَا الْأَجْزَاءِ الْمَنْثُورَةِ، وَقَدْ عَزَاهُ بَعْضُهُمْ لِمُسْنَدِ أَحْمَدَ أَوِ الطَّبَرَانِيِّ أَوْ كِتَابِ الطَّوَاعِينِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَلَا وُجُودَ لِذَلِكَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ)، أَيِ: ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَعَ فِي سِيَاقِ أَحْمَدَ فِيهِ قِصَّةٌ عَنْ حَبِيبٍ قَالَ: كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ، فَبَلَغَنِي أَنَّ الطَّاعُونَ بِالْكُوفَةِ، فَلَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ فَسَأَلْتُهُ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَزَادَ: فَقَالَ لِي عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ: فَقُلْتُ: عَمَّنْ؟ قَالُوا: عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، فَأَتَيْتُهُ فَقَالُوا: غَائِبٌ، فَلَقِيتُ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ فَسَأَلْتُهُ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ سَعْدًا)، أَيْ: وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعْدٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبٍ وَزَادَ وَخُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ لَا يَضُرُّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سَعْدٌ تَذَكَّرَ لِمَا حَدَّثَهُ بِهِ أُسَامَةُ أَوْ نُسِبَتِ الرِّوَايَةُ إِلَى سَعْدٍ لِتَصْدِيقِهِ أُسَامَةَ. وَأَمَّا خُزَيْمَةُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ سَمِعَهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَضَمَّهُ إِلَيْهَا تَارَةً وَسَكَتَ عَنْهُ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أُسَامَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ عَلَى رِوَايَةِ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْرَجَهَا الْمُصَنِّفُ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ سَعْدًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الْوَجَعَ فَقَالَ: رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ، ثُمَّ بَقِيَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ وَيَأْتِي الْأُخْرَى الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ فِيهِ: إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ أَوِ السَّقَمَ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، وَمُغِيرَةِ بْنِ

ص: 182

عَبْدِ الرَّحْمَنِ كُلُّهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، زَادَ مَالِكٌ: وَسَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ كِلَاهُمَا عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّاعُونِ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ. الْحَدِيثَ، كَذَا وَقَعَ بِالشَّكِّ، وَوَقَعَ بِالْجَزْمِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ بِلَفْظِ: فَإِنَّهُ رِجْزٌ سُلِّطَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِالْجَزْمِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ لَكِنْ قَالَ: رِجْزٌ أُصِيبَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ الرِّجْسُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَوْضِعَ الرِّجْزِ بِالزَّايِ، وَالَّذِي بِالزَّايِ هُوَ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ الْعَذَابُ، وَالْمَشْهُورُ فِي الَّذِي بِالسِّينِ أَنَّهُ الْخَبِيثُ أَوِ النَّجِسُ أَوِ الْقَذِرُ، وَجَزَمَ الْفَارَابِيُّ، وَالْجَوْهَرِيُّ بِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَذَابِ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وَحَكَاهُ الرَّاغِبُ أَيْضًا. وَالتَّنصِيصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَصُّ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَادَ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ بَلْعَامَ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَحَدِ صِغَارِ التَّابِعِينَ عَنْ سَيَّارٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُقَالُ لَهُ بَلْعَامُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَأَنَّ مُوسَى أَقْبَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرِيدُ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا بَلْعَامُ، فَأَتَاهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: ادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي، فَمُنِعَ، فَأَتَوْهُ بِهَدِيَّةٍ فَقَبِلَهَا وَسَأَلُوهُ ثَانِيًا فَقَالَ حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَقَالُوا: لَوْ كَرِهَ لَنَهَاكَ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَصَارَ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مَا يَدْعُو بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَنْقَلِبُ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَامُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: سَأَدُلُّكُمْ عَلَى مَا فِيهِ هَلَاكُهُمُ؛ أَرْسِلُوا النِّسَاءَ فِي عَسْكَرِهِمْ وَمُرُوهُنَّ أَنْ لَا يَمْتَنِعْنَ مِنْ أَحَدٍ، فَعَسَى أَنْ يَزْنُوا فَيَهْلِكُوا، فَكَانَ فِيمَنْ خَرَجَ بِنْتُ الْمَلِكِ فَأَرَادَهَا رَأْسُ بَعْضِ الْأَسْبَاطِ وَأَخْبَرَهَا بِمَكَانِهِ فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الطَّاعُونُ، فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا فِي يَوْمٍ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَارُونَ وَمَعَهُ الرُّمْحُ فَطَعَنَهُمَا وَأَيَّدَهُ اللَّهُ فَانْتَظَمَهُمَا جَمِيعًا.

وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ وَسَيَّارٌ شَامِيٌّ مُوَثَّقٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَسَمَّى الْمَرْأَةَ كَشْتًا بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ، وَالرَّجُلُ زِمْرِي بِكَسْرِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ رَأْسُ سِبْطٍ شَمْعُونَ، وَسُمِّيَ الَّذِي طَعَنَهُمَا فِنْحَاصَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ ابْنُ هَارُونَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَحُسِبَ مَنْ هَلَكَ مِنَ الطَّاعُونِ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَالْمُقَلِّلُ يَقُولُ: عِشْرُونَ أَلْفًا. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ تُعَضِّدُ الْأُولَى. وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا عِيَاضٌ فَقَالَ: قَوْلُهُ: أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قِيلَ: مَاتَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَقِيلَ: سَبْعُونَ أَلْفًا. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَا أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثُرَ عِصْيَانُهُمْ، فَخَيِّرْهُمْ بَيْنَ ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ أَبْتَلِيَهُمْ بِالْقَحْطِ، أَوِ الْعَدُوِّ شَهْرَيْنِ، أَوِ الطَّاعُونِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالُوا: اخْتَرْ لَنَا. فَاخْتَارَ الطَّاعُونَ. فَمَاتَ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ زَالَتِ الشَّمْسُ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقِيلَ: مِائَةُ أَلْفٍ. فَتَضَرَّعَ دَاوُدُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَرَفَعَهُ. وَوَرَدَ وُقُوعُ الطَّاعُونِ فِي غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَمَرَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَذْبَحَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ كَبْشًا، ثُمَّ لْيُخَضِّبْ كَفَّهُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ لْيَضْرِبْ بِهِ عَلَى بَابِهِ. فَفَعَلُوا.

فَسَأَلَهُمُ الْقِبْطُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُ عَلَيْكُمْ عَذَابًا وَإِنَّمَا نَنْجُو مِنْهُ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ. فَأَصْبَحُوا وَقَدْ مَاتَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَقَالَ فِرْعَوْنُ عِنْدَ ذَلِكَ لِمُوسَى:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} الْآيَةَ، فَدَعَا فَكَشَفَهُ عَنْهُمْ وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ} الْمَوْتِ،

ص: 183

قَالَ: فِرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ، {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} لِيُكْمِلُوا بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قِصَّتَهُمْ مُطَوَّلَةً. فَأَقْدَمُ مَنْ وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَنْقُولِ مِمَّنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قِصَّةِ بَلْعَامَ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ، وَتَكَرَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي شَرْحُ قَوْلِهِ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا

إِلَخْ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي الْأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ: فقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إن كَانَت لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خصيبة وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخصيبة رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ - فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ،

الْحَدِيثُ الثَّانِي.

حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَفِيهِ قِصَّةُ عُمَرَ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ) هُوَ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْمِيمِ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ شَيْخِهِ فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ، وَفِي السَّنَدِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، وَصَحَابِيَّانِ فِي نَسَقٍ، وَكُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ) أَيِ ابْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لِجَدِّ أَبِيهِ نَوْفَلٍ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صُحْبَةٌ، وَكَذَا لِوَلَدِهِ الْحَارِثِ، وُوُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعُدَّ لِذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ فَهُمْ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي نَسَقٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ يُلَقَّبُ بَبَّةَ بِمُوَحَّدَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ الثَّانِيَةُ مُثْقَلَةٌ، وَمَعْنَاهُ الْمُمْتَلِئُ الْبَدَنِ مِنَ النِّعْمَةِ، وَيُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ، وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ. وَأَمَّا وَلَدُهُ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ مِمَّنْ وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَ أَبِيهِ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا يَحْيَى، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَافَقَ مَالِكًا عَلَى رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ هَكَذَا مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ وَخَالَفَهُمْ يُونُسُ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَسَاقَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَقَالَ: قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَصَحُّ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَابَعَ يُونُسُ، صَالِحَ بْنَ نَصْرٍ، عَنْ مَالِكٍ.

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَيُونُسَ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَأَظُنُّ ابْنَ وَهْبٍ حَمَلَ رِوَايَةَ مَالِكٍ عَلَى رِوَايَةِ يُونُسَ، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْوَزِيرُ، عَنْ مَالِكٍ كَالْجَمَاعَةِ، لَكِنْ قَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، زَادَ فِي السَّنَدِ: عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ خَطَأٌ. قُلْتُ: وَقَدْ خَالَفَ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ جَمِيعَ أَصْحَابِ ابْنِ شِهَابٍ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ وَعُمَرَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهِشَامٌ صَدُوقٌ سَيِّئُ الْحِفْظِ، وَقَدِ اضْطَرَبَ فِيهِ فَرَوَاهُ تَارَةً هَكَذَا وَمَرَّةً أُخْرَى عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ وَعُمَرَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا، وَلِابْنِ شِهَابٍ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ قَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ إِثْرَ هَذَا السَّنَدِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ) ذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ فِي الْفُتُوحِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ، وَأَنَّ الطَّاعُونَ كَانَ وَقَعَ أَوَّلًا فِي الْمُحَرَّمِ وَفِي صَفَرٍ ثُمَّ ارْتَفَعَ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الشَّامِ بَلَغَهُ أَنَّهُ أَشَدُّ مَا كَانَ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَذَكَرَ خَلِيفَةَ بْنَ خَيَّاطٍ أَنَّ خُرُوجَ عُمَرَ إِلَى سَرْغَ كَانَ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الطَّاعُونُ الَّذِي وَقَعَ بِالشَّامِ حِينَئِذٍ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى طَاعُونَ عَمَوَاسَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ، وَحُكِيَ تَسْكِينُهَا وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ عَمَّ وَوَاسَى.

قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ تَحْرِيكُ الرَّاءِ، وَخَطَّأَهُ بَعْضُهُمْ: مَدِينَةٌ افْتَتَحَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ، وَهِيَ وَالْيَرْمُوكُ وَالْجَابِيَةُ مُتَّصِلَاتٌ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ: إِنَّهُ وَادٍ بِتَبُوكَ، وَقِيلَ: بِقُرْبِ تَبُوكَ، وَقَالَ الْحَازِمِيُّ: هِيَ أَوَّلُ الْحِجَازِ، وَهِيَ مِنْ مَنَازِلِ حَاجِّ الشَّامِ، وَقِيلَ: بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً.

قَوْلُهُ: (لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ) هُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ قَسَّمَ الْبِلَادَ بَيْنَهُمْ وَجَعَلَ أَمْرَ الْقِتَالِ إِلَى خَالِدٍ، ثُمَّ رَدَّهُ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ

ص: 184

اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَسَّمَ الشَّامَ أَجْنَادًا: الْأُرْدُنُّ جُنْدٌ، وَحِمْصُ جُنْدٌ، وَدِمَشْقُ جُنْدٌ، وَفِلَسْطِينُ جُنْدٌ، وَقَنَّسْرِينُ جُنْدٌ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جُنْدٍ أَمِيرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَنَّسْرِينَ كَانَتْ مَعَ حِمْصَ فَكَانَتْ أَرْبَعَةً، ثُمَّ أُفْرِدَتْ قَنَّسْرِينُ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّامِ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ الْوَجَعُ بَدَلَ الْوَبَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ عُمَرَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الشَّامِ سَمِعَ بِالطَّاعُونِ، وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهَا، فَإِنَّ كُلَّ طَاعُونٍ وَبَاءٌ وَوَجَعٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: اجْمَعْ لِي.

قَوْلُهُ: (ارْتَفِعُوا عَنِّي) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فَأَمَرَهُمْ فَخَرَجُوا عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ) ضُبْطُ مَشْيَخَةٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ بَيْنَهُمَا مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ. وَبِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ جَمْعُ شَيْخٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى شُيُوخٍ بِالضَّمِّ، وَبِالْكَسْرِ، وَأَشْيَاخٌ، وَشِيَخَةٌ بِكَسْرٍ ثُمَّ فَتْحٌ، وَشِيخَانٌ بِكَسْرٍ ثُمَّ سُكُونٍ، وَمَشَايِخٌ، وَمَشْيُخَاءُ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ ثُمَّ ضَمٍّ وَمَدٍّ، وَقَدْ تُشْبَعُ الضَّمَّةُ حَتَّى تَصِيرَ وَاوًا فَتَتِمُّ عَشْرًا.

قَوْلُهُ: (مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ) أَيِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ عَامَ الْفَتْحِ، أَوِ الْمُرَادُ: مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ، أَوْ أَطْلِقَ عَلَى مَنْ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ مُهَاجِرًا صُورَةً وَإِنْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ بَعْدَ الْفَتْحِ حُكْمًا قَدِ ارْتَفَعَتْ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ احتِرَازًا عن غيرهم مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِمَّنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرْ أَصْلًا، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ لِمَنْ هَاجَرَ فَضْلًا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ وَإِنْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ الْفَاضِلَةُ فِي الْأَصْلِ إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ، فَالَّذِي يُهَاجِرُ مِنْهَا لِلْمَدِينَةِ إِنَّمَا يُهَاجِرُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ أَوِ الْجِهَادِ لَا لِلْفِرَارِ بِدِينِهِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْفَتْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بَقِيَّةُ النَّاسِ) أَيِ الصَّحَابَةُ، أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لَهُمْ، أَيْ لَيْسَ النَّاسُ إِلَّا هُمْ، وَلِهَذَا عَطَفَهُمْ عَلَى الصَّحَابَةِ عَطْفَ تَفْسِيرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِبَقِيَّةِ النَّاسِ أَيِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عُمُومًا، وَالْمُرَادُ بِالصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَازَمُوهُ وَقَاتَلُوا مَعَهُ.

قَوْلُهُ: (فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ) زَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ فَإِنِّي مَاضٍ لِمَا أَرَى، فَانْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَامْضُوا لَهُ، قَالَ: فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ) وَهُوَ إِذْ ذَاكَ أَمِيرُ الشَّامِ (أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ)؟ أَيِ أَتَرْجِعُ فِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمِنَ الْمَوْتِ نَفِرُّ؟ إِنَّمَا نَحْنُ بِقَدْرٍ، لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ) أَيْ لَعَاقَبْتُهُ، أَوْ لَكَانَ أَوْلَى مِنْكَ بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ أَتَعَجَّبْ مِنْهُ، وَلَكِنِّي أَتَعَجَّبُ مِنْكَ، مَعَ عِلْمِكَ وَفَضْلِكَ كَيْفَ تَقُولُ هَذَا؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ: لَأَدَّبْتُهُ، أَوْ هِيَ لِلتَّمَنِّي فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ غَيْرَكَ مِمَّنْ لَا فَهْمَ لَهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ يُعْذَرُ. وَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَهُ، أَيْ مُخَالَفَتُهُ.

قَوْلُهُ: (نَعَمْ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: إِنْ تَقَدَّمْنَا فَبِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ تَأَخَّرْنَا فَبِقَدَرِ اللَّهِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ فِرَارًا لِشَبَهِهِ بِهِ فِي الصُّورَةِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِرَارًا شَرْعِيًّا. وَالْمُرَادُ أَنَّ هُجُومَ الْمَرْءِ عَلَى مَا يُهْلِكُهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَلَوْ فَعَلَ لَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، وَتَجَنُّبِهِ مَا يُؤْذِيهِ مَشْرُوعٌ وَقَدْ يُقَدِّرُ اللَّهُ وُقُوعَهُ فِيمَا فَرَّ مِنْهُ فَلَوْ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ لَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، فَهُمَا مَقَامَانِ: مَقَامُ التَّوَكُّلِ، وَمَقَامُ التَّمَسُّكِ بِالْأَسْبَابِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ. وَمُحَصَّلُ قَوْلِ عُمَرَ: نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَفِرَّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ أَمْرٌ خَافٍ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ فَلَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِ، وَالَّذِي فَرَّ إِلَيْهِ أَمْرٌ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ إِلَّا الْأَمْرَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ سَوَاءً كَانَ ظَاعِنًا أَوْ مُقِيمًا.

قَوْلُهُ: (لَهُ عُدْوَتَانِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِهَا أَيْضًا وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ: تَثْنِيَةُ عُدْوَةٍ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْوَادِي، وَهُوَ

ص: 185

شَاطِئُهُ.

قَوْلُهُ: (إِحْدَاهُمَا خَصِيبَةٌ) بِوَزْنِ عَظِيمَةٍ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ سُكُونَ الصَّادِ بِغَيْرِ يَاءٍ، زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: وَقَالَ لَهُ أَيْضًا: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّهُ رَعَى الْجَدْبَةَ وَتَرَكَ الْخَصِبَةَ أَكُنْتَ مُعَجِّزَهُ؟ وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَسِرْ إِذًا، فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) هُوَ مَوْصُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ) أَيْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمُ الْمُشَاوَرَةَ الْمَذْكُورَةَ لِغَيْبَتِهِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَعِلْمًا، بِزِيَادَةِ لَامِ التَّأْكِيدِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ إِلَخْ) هُوَ مُوَافِقٌ لِلْمَتْنِ الَّذِي قَبْلَهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعْدٍ وَغَيْرِهِمَا، فَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَعَ عُمَرَ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ.

قَوْلُهُ: (فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: فَلَا تَفِرُّوا مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ مِثْلُهُ، وَوَقَعَ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا فِرَارًا مِنْهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِهِ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ) هُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَرْكِ الْحِيَلِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ هَذَا مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعَ مِنْهُ ابْنُ شِهَابٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَالِيًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعُمَرَ، لَكِنَّهُ اخْتَصَرَ الْقِصَّةَ وَاقْتَصَرَ عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ عَقِبَ هَذِهِ الطَّرِيقِ: وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا انْصَرَفَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ لِمُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ: إِنَّمَا رَجَعَ بِالنَّاسِ مِنْ سَرْغَ، عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَقَدْ رَوَاهُ جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ مَالِكٍ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ مُطَوَّلًا، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ، فَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ إِذَا سَمِعَ بِهِ، وَأَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ هُوَ بِهَا، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَالِكٍ بِمَعْنَاهُ، وَرِوَايَةُ سَالِمٍ هَذِهِ مُنْقَطِعَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ الْقِصَّةَ وَلَا جَدَّهُ عُمَرَ وَلَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَ عُمَرَ وَهُوَ فِي طَرِيقِ الشَّامِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ بِهَا الطَّاعُونَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَكُونُ ابْنُ شِهَابٍ سَمِعَ أَصْلَ الْحَدِيثِ مِنْ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، وَبَعْضَهُ مِنْ سَالِمٍ عَنْهُ، وَاخْتَصَرَ مَالِكٌ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ سَالِمٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَيْسَ مُرَادُ سَالِمٍ بِهَذَا الْحَصْرِ نَفْيَ سَبَبِ رُجُوعِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ عَنْ رَأْيِهِ الَّذِي وَافَقَ عَلَيْهِ مَشْيَخَةَ قُرَيْشٍ مِنْ رُجُوعِهِ بِالنَّاسِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الْخَبَرَ رَجَحَ عِنْدَهُ مَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ الرُّجُوعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَبَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَشْرَعْ فِي الرُّجُوعِ حَتَّى جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَحَدَّثَ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فَوَافَقَ رَأْيَ عُمَرَ الَّذِي رَآهُ فَحَضَرَ سَالِمٌ سَبَبُ رُجُوعِهِ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْأَقْوَى، وَلَمْ يُرِدْ نَفْيَ السَّبَبِ الْأَوَّلِ وَهُوَ اجْتِهَادُ عُمَرَ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْلَا وُجُودُ النَّصِّ لَأَمْكَنَ إِذَا أَصْبَحَ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ أَوْ يَرْجِعَ عَنْ رَأْيِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْخَبَرَ اسْتَمَرَّ عَلَى عَزْمِهِ الْأَوَّلِ، وَلَوْلَا الْخَبَرُ لَمَا اسْتَمَرَّ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ بِالرُّجُوعِ تَرْكَ الْإِلْقَاءِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَهُوَ كَمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ إِلَى دَارٍ فَرَأَى بِهَا مَثَلًا حَرِيقًا تَعَذَّرَ طَفْؤُهُ، فَعَدَلَ عَنْ دُخُولِهَا لِئَلَّا يُصِيبَهُ. فَعَدَلَ عُمَرُ لِذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ جَاءَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ فَأَعْجَبَهُ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا رَجَعَ لِأَجْلِ الْحَدِيثِ، لَا لِمَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ فَقَطْ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ أَتَى الشَّامَ فَاسْتَقْبَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ فَقَالَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ مَعَكَ وُجُوهَ الصَّحَابَةِ وَخِيَارَهُمْ، وَإِنَّا تَرَكْنَا مَنْ بَعْدَنَا مِثْلَ حَرِيقِ النَّارِ، فَارْجِعِ الْعَامَ.

فَرَجَعَ، وَهَذَا فِي الظَّاهِرِ يُعَارِضُ حَدِيثَ الْبَابِ، فَإِنَّ فِيهِ الْجَزْمَ بِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ أَنْكَرَ الرُّجُوعَ،

ص: 186

وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ أَشَارَ أَوَّلًا بِالرُّجُوعِ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ مَقَامُ التَّوَكُّلِ لَمَّا رَأَى أَكْثَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ جَنَحُوا إِلَيْهِ فَرَجَعَ عَنْ رَأْيِ الرُّجُوعِ، وَنَاظَرَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ بِالْحُجَّةِ فَتَبِعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِالنَّصِّ فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ رُجُوعِ مَنْ أَرَادَ دُخُولَ بَلْدَةٍ فَعَلِمَ أَنَّ بِهَا الطَّاعُونَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الطِّيَرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَنْعِ الْإِلْقَاءِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أَوْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ مَنْ يَدْخُلُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا أَنْ لَوْ دَخَلَهَا وَطَعْنُ الْعَدْوَى الْمَنْهِيِّ عَنْهَا كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّنْزِيهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ لِمَنْ قَوِيَ تَوَكُّلُهُ وَصَحَّ يَقِينُهُ، وَتَمَسَّكُوا بِمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى رُجُوعِهِ مِنْ سَرْغَ كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جِئْتُ عُمَرَ حِينَ قَدِمَ فَوَجَدْتُهُ قَائِلًا فِي خِبَائِهِ، فَانْتَظَرْتُهُ فِي ظِلِّ الْخِبَاءِ، فَسَمِعَتْهُ يَقُولُ حِينَ تَضَوَّرَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رُجُوعِي مِنْ سَرْغَ، وَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ أَيْضًا.

وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْ عُمَرَ، قَالَ: وَكَيْفَ يَنْدَمُ عَلَى فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَيَرْجِعُ عَنْهُ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ سَنَدَهُ قَوِيٌّ وَالْأَخْبَارَ الْقَوِيَّةَ لَا تُرَدُّ بِمِثْلِ هَذَا مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَا حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَأَنَّ الْقُدُومَ عَلَيْهِ جَائِزٌ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّوَكُّلُ، وَالِانْصِرَافُ عَنْهُ رُخْصَةٌ. وَيَحْتَمِلُ - وَهُوَ أَقْوَى - أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نَدَمِهِ أَنَّهُ خَرَجَ لِأَمْرٍ مُهِمٍّ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قُرْبِ الْبَلَدِ الْمَقْصُودِ رَجَعَ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْبَلَدِ الْمَقْصُودِ إِلَى أَنْ يَرْتَفِعَ الطَّاعُونُ فَيَدْخُلُ إِلَيْهَا وَيَقْضِي حَاجَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّاعُونَ ارْتَفَعَ عَنْهَا عَنْ قُرْبٍ، فَلَعَلَّهُ كَانَ بَلَغَهُ ذَلِكَ فَنَدِمَ عَلَى رُجُوعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، لَا عَلَى مُطْلَقِ رُجُوعِهِ، فَرَأَى أَنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ لَكَانَ أَوْلَى لِمَا فِي رُجُوعِهِ عَلَى الْعَسْكَرِ الَّذِي كَانَ صُحْبَتُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَالْخَبَرُ لَمْ يَرِدْ بِالْأَمْرِ بِالرُّجُوعِ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّ النَّاسَ قَدْ نَحَلُونِي ثَلَاثًا أَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْهُنَّ: زَعَمُوا أَنِّي فَرَرْتُ مِنَ الطَّاعُونِ وَأَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الطِّلَاءَ وَالْمَكْسَ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ غَيْرِ عُمَرَ التَّصْرِيحُ بِالْعَمَلِ فِي ذَلِكَ بِمَحْضِ التَّوَكُّلِ، فَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ خَرَجَ غَازِيًا نَحْوَ مِصْرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أُمَرَاءُ مِصْرَ أَنَّ الطَّاعُونَ قَدْ وَقَعَ، فَقَالَ: إِنَّمَا خَرَجْنَا لِلطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ، فَدَخَلَهَا فَلَقِيَ طَعْنًا فِي جَبْهَتِهِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مَنْعُ مَنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلَدٍ هُوَ فِيهَا مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي مُنِيبٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ فِي الطَّاعُونِ: إِنَّ هَذَا رِجْزٌ مِثْلُ السَّيْلِ، مَنْ تَنَكَّبَهُ أَخْطَأَهُ. وَمِثْلُ النَّارِ، مَنْ أَقَامَ أَحْرَقَتْهُ، فَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ: إِنَّ هَذَا رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَقَبْضُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَأَبُو مُنِيبٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ، وَهُوَ دِمَشْقِيٌّ نَزَلَ الْبَصْرَةَ يُعْرَفُ بِالْأَحْدَبِ، وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ غَيْرُ أَبِي مُنِيبٍ الْجُرَشِيُّ فِيمَا تَرَجَّحَ عِنْدِي؛ لِأَنَّ الْأَحْدَبَ أَقْدَمُ مِنَ الْجُرَشِيِّ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْبُخَارِيُّ سَمَاعَ الْأَحْدَبِ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَالْجُرَشِيُّ يَرْوِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَنَحْوُهُ.

وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ شُرَحْبِيلَ بْنِ شُفْعَةَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَشُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ بِمَعْنَاهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بِمَعْنَاهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا وَقَعَتْ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.

ص: 187

وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاثِلَةَ الْهُذَلِيِّ. وَفِي مُعْظَمِ الطُّرُقِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ صَدَّقَ شُرَحْبِيلَ وَغَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَنَقَلَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ جَوَازَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّاعُونُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ الْأَسْوَدُ بْنُ هِلَالٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: النَّهْيُ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ فَيُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ، وَخَالَفَهُمْ جَمَاعَةٌ فَقَالُوا: يَحْرُمُ الْخُرُوجُ مِنْهَا لِظَاهِرِ النَّهْيِ الثَّابِتِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَاضِيَةِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَيُؤَيِّدهُ ثُبُوتُ الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ: فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْإِبِلِ، الْمُقِيمُ فِيهَا كَالشَّهِيدِ وَالْفَارُّ مِنْهَا كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ.

وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ الْفَارُّ مِنَ الطَّاعُونِ كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ، وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالصَّابِرِ فِي الزَّحْفِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَسَنَدُهُ صَالِحٌ لِلْمُتَابَعَاتِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ اسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ الْخُرُوجَ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا، قَالُوا: وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يُعْدِيَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّهْيُ لِهَذَا لَجَازَ لِأَهْلِ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخُرُوجُ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ أَيْضًا عَنْ ذَلِكَ فَعُرِفَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ مُنِعُوا مِنَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْنَى الْعَدْوَى، وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ حِكْمَةَ النَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُصِيبَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ فَيَقُولُ: لَوْلَا أَنِّي قَدِمْتُ هَذِهِ الْأَرْضَ لَمَا أَصَابَنِي، وَلَعَلَّهُ لَوْ أَقَامَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ لَأَصَابَهُ. فَأَمَرَ أَنْ لَا يَقْدَمَ عَلَيْهِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ. وَنَهَى مَنْ وَقَعَ وَهُوَ بِهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا لِئَلَّا يَسْلَمَ فَيَقُولَ مَثَلًا: لَوْ أَقَمْتُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ لَأَصَابَنِي مَا أَصَابَ أَهْلَهَا، وَلَعَلَّهُ لَوْ كَانَ أَقَامَ بِهَا مَا أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ اهـ.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ قَدْ وَقَعَ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ، وَاحْذَرُوا اثْنَتَيْنِ: أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ خَرَجَ خَارِجٌ فَسَلِمَ، وَجَلَسَ جَالِسٌ فَأُصِيبَ فَلَوْ كُنْتُ خَرَجْتُ لَسَلِمْتُ كَمَا سَلِمَ فُلَانٌ، أَوْ لَوْ كُنْتُ جَلَسْتُ أُصِبْتُ كَمَا أُصِيبَ فُلَانٌ، لَكِنْ أَبُو مُوسَى حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى مَنْ قَصَدَ الْفِرَارَ مَحْضًا.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الصُّوَرَ ثَلَاثٌ: مَنْ خَرَجَ لِقَصْدِ الْفِرَارِ مَحْضًا فَهَذَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ لَا مَحَالَةَ، وَمَنْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ مُتَمَحِّضَةٍ لَا لِقَصْدِ الْفِرَارِ أَصْلًا، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِيمَنْ تَهَيَّأَ لِلرَّحِيلِ مِنْ بَلَدٍ كَانَ بِهَا إِلَى بَلَدِ إِقَامَتِهِ مَثَلًا وَلَمْ يَكُنِ الطَّاعُونُ وَقَعَ فَاتَّفَقَ وُقُوعُهُ فِي أَثْنَاءِ تَجْهِيزِهِ فَهَذَا لَمْ يَقْصِدِ الْفِرَارَ أَصْلًا فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَالثَّالِثُ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَأَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَيْهَا وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ الرَّاحَةَ مِنَ الْإِقَامَةِ بِالْبَلَدِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ فَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَمِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ الَّتِي وَقَعَ بِهَا وَخِمَةً وَالْأَرْضُ الَّتِي يُرِيدُ التَّوَجُّهَ إِلَيْهَا صَحِيحَةً فَيَتَوَجَّهُ بِهَذَا الْقَصْدِ، فَهَذَا جَاءَ النَّقْلُ فِيهِ عَنِ السَّلَفِ مُخْتَلِفًا: فَمَنْ مَنَعَ نَظَرَ إِلَى صُورَةِ الْفِرَارِ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَنْ أَجَازَ نَظَرَ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْخُرُوجِ فِرَارًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ لِلْفِرَارِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِقَصْدِ التَّدَاوِي، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا وَقَعَ فِي أَثَرِ أَبِي مُوسَى الْمَذْكُورِ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَلَا تَضَعْ كِتَابِي مِنْ يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ إِلَيَّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ حَاجَتَكَ، وَإِنِّي فِي جُنْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا أَجِدُ بِنَفْسِي رَغْبَةً عَنْهُمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ نَزَلْتَ بِالْمُسْلِمِينَ أَرْضًا غَمِيقَةً، فَارْفَعْهُمُ إِلَى أَرْضِ نُزْهَةٍ. فَدَعَا أَبُو عُبَيْدَةَ، أَبَا مُوسَى فَقَالَ. اخْرُجْ فَارْتَدْ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْزِلًا حَتَّى أَنْتَقِلَ لَهُمْ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي اشْتِغَالِ أَبِي مُوسَى بِأَهْلِهِ.

وَوُقُوعِ الطَّاعُونِ بِأَبِي عُبَيْدَةَ لَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ مُتَوَجِّهًا، وَأَنَّهُ نَزَلَ بِالنَّاسِ فِي مَكَانٍ آخَرَ فَارْتَفَعَ الطَّاعُونُ، وَقَوْلُهُ: غَمِيقَةً بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَقَافٍ بِوَزْنِ عَظِيمَةٍ أَيْ قَرِيبَةٍ مِنَ الْمِيَاهِ وَالنُّزُوزِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَفْسُدُ غَالِبًا بِهِ الْهَوَاءُ لِفَسَادِ الْمِيَاهِ،

ص: 188

وَالنُّزْهَةُ الْفَسِيحَةُ الْبَعِيدَةُ عَنِ الْوَخْمِ.

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ رَأَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْخُرُوجِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ قَصَدَ الْفِرَارَ مُتَمَحِّضًا، وَلَعَلَّهُ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِأَبِي عُبَيْدَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلِذَلِكَ اسْتَدْعَاهُ، وَظَنَّ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ إِنَّمَا طَلَبَهُ لِيَسْلَمَ مِنْ وُقُوعِ الطَّاعُونِ بِهِ فَاعْتَذَرَ عَنْ إِجَابَتِهِ لِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ أَمْرُ عُمَرَ، لِأَبِي عُبَيْدَةَ بِذَلِكَ بَعْدَ سَمَاعِهِمَا لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَتَأَوَّلَ عُمَرُ فِيهِ مَا تَأَوَّلَ، وَاسْتَمَرَّ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِهِ، وَأَيَّدَ الطَّحَاوِيُّ صَنِيعَ عُمَرَ بِقِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، فَإِنَّ خُرُوجَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ لِلْعِلَاجِ لَا لِلْفِرَارِ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ قِصَّتِهِمْ لِأَنَّهُمْ شَكَوْا وَخَمَ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهَا لَمْ تُوَافِقْ أَجْسَامَهُمْ، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاقِعِ لِأَنَّ الْإِبِلَ الَّتِي أُمِرُوا أَنْ يَتَدَاوَوْا بِأَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا وَاسْتِنْشَاقِ رَوَائِحِهَا مَا كَانَتْ تَتَهَيَّأُ إِقَامَتُهَا بِالْبَلَدِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي مَرَاعِيهَا فَلِذَلِكَ خَرَجُوا، وَقَدْ لَحَظَ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ فَتَرْجَمَ قَبْلَ تَرْجَمَةِ الطَّاعُونِ: مَنْ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي لَا تُلَائِمُهُ، وَسَاقَ قِصَّةَ الْعُرَنِيِّينَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ بِمُهْمَلَةٍ وَكَافٍ مُصَغَّر، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا أَرْضًا يُقَالُ لَهَا: أَبْيَنُ هِيَ أَرْضُ رِيفِنَا وَمِيرَتِنَا وَهِيَ وَبِئَةٌ، فَقَالَ: دَعْهَا عَنْكَ، فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ الْقَرَفُ الْقُرْبُ مِنَ الْوَبَاءِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ.

لَيْسَ فِي هَذَا إِثْبَاتُ الْعَدْوَى، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّدَاوِي، فَإِنَّ اسْتِصْلَاحَ الْأَهْوِيَةِ مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ فِي تَصْحِيحِ الْبَدَنِ وَبِالْعَكْسِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَلَدِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ قَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَالْمَجْذُومُ قَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْفِرَارِ مِنْهُ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقِيَاسُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْجُذَامِ مِنْ بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ مَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْخُرُوجِ حِكَمًا: مِنْهَا أَنَّ الطَّاعُونَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ عَامًّا فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ، فَإِذَا وَقَعَ فَالظَّاهِرُ مُدَاخَلَةُ سَبَبِهِ لِمَنْ بِهَا فَلَا يُفِيدُهُ الْفِرَارُ، لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا تَعَيَّنَتْ - حَتَّى لَا يَقَعَ الِانْفِكَاكُ عَنْهَا - كَانَ الْفِرَارُ عَبَثًا فَلَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ، وَمِنْهَا أَنَّ النَّاسَ لَوْ تَوَارَدُوا عَلَى الْخُرُوجِ لَصَارَ مَنْ عَجَزَ عَنْهُ - بِالْمَرَضِ الْمَذْكُورِ أَوْ بِغَيْرِهِ - ضَائِعَ الْمَصْلَحَةِ لِفَقْدِ مَنْ يَتَعَهَّدُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَأَيْضًا فَلَوْ شُرِعَ الْخُرُوجُ فَخَرَجَ الْأَقْوِيَاءُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ كَسْرُ قُلُوبِ الضُّعَفَاءِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ حِكْمَةَ الْوَعِيدِ فِي الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ مَنْ لَمْ يَفِرَّ وَإِدْخَالِ الرُّعْبِ عَلَيْهِ بِخِذْلَانِهِ، وَقَدْ جَمَعَ الْغَزَالِيُّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: الْهَوَاءُ لَا يَضُرُّ مِنْ حَيْثُ مُلَاقَاتِهِ ظَاهِرَ الْبَدَنِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ دَوَامِ الِاسْتِنْشَاقِ فَيَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ وَالرِّئَةِ فَيُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَظْهَرُ عَلَى الظَّاهِرِ إِلَّا بَعْدَ التَّأْثِيرِ فِي الْبَاطِنِ، فَالْخَارِجُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ لَا يَخْلُصُ غَالِبًا مِمَّا اسْتَحْكَمَ بِهِ. وَيَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ رُخِّصَ لِلْأَصِحَّاءِ فِي الْخُرُوجِ لَبَقِيَ الْمَرْضَى لَا يَجِدُونَ مَنْ يَتَعَاهَدُهُمْ فَتَضِيعُ مَصَالِحُهُمْ.

وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْوَبَاءُ تَتَكَيَّفُ أَمْزِجَةُ أَهْلِهِ بِهَوَاءِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَتَأْلَفُهَا وَتَصِيرُ لَهُمْ كَالْأَهْوِيَةِ الصَّحِيحَةِ لِغَيْرِهِمْ، فَلَوِ انْتَقِلُوا إِلَى الْأَمَاكِنِ الصَّحِيحَةِ لَمْ يُوَافِقْهُمْ، بَلْ رُبَّمَا إِذَا اسْتَنْشَقُوا هَوَاءَهَا اسْتَصْحَبَ مَعَهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ الْأَبْخِرَةِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي حَصَلَ تَكَيُّفُ بَدَنِهِ بِهَا فَأَفْسَدَتْهُ، فَمُنِعَ مِنَ الْخُرُوجِ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ. وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَارِجَ يَقُولُ: لَوْ أَقَمْتُ لَأُصِبْتُ، وَالْمُقِيمُ يَقُولُ: لَوْ خَرَجْتُ لَسَلِمْتُ، فَيَقَعُ فِي اللَّوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي قَوْلِهِ: فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ: فِيهِ مَنْعُ مُعَارَضَةِ مُتَضَمِّنِ الْحِكْمَةِ بِالْقَدَرِ، وَهُوَ مِنْ مَادَّةِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وَفِي قَوْلِهِ: فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ إِشَارَةً إِلَى الْوُقُوفِ مَعَ الْمَقْدُورِ وَالرِّضَا بِهِ، قَالَ: وَأَيْضًا فَالْبَلَاءُ إِذَا نَزَلَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ أَهْلُ الْبُقْعَةِ لَا الْبُقْعَةُ نَفْسُهَا، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ إِنْزَالَ الْبَلَاءِ بِهِ فَهُوَ وَاقِعٌ بِهِ وَلَا مَحَالَةَ، فَأَيْنَمَا تَوَجَّهَ يُدْرِكْهُ، فَأَرْشَدَهُ الشَّارِعُ إِلَى عَدَمِ النَّصْبِ

ص: 189

مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ الْمَحْذُورَ.

وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ تَعْرِيضَ النَّفْسِ لِلْبَلَاءِ، وَلَعَلَّهَا لَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الدَّعْوَى لِمَقَامِ الصَّبْرِ أَوِ التَّوَكُّلِ فَمُنِعَ ذَلِكَ حَذَرًا مِنَ اغْتِرَارِ النَّفْسِ وَدَعْوَاهَا مَا لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاخْتِبَارِ، وَأَمَّا الْفِرَارُ فَقَدْ يَكُونُ دَاخِلًا فِي التَّوَغُّلِ فِي الْأَسْبَابِ بِصُورَةِ مَنْ يُحَاوَلُ النَّجَاةَ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَنَا الشَّارِعُ بِتَرْكِ التَّكَلُّفِ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا فَأَمَرَ بِتَرْكِ التَّمَنِّي لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْبَلَاءِ، وَخَوْفِ اغْتِرَارِ النَّفْسِ، إِذْ لَا يُؤْمَنُ غَدْرُهَا عِنْدَ الْوُقُوعِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْوُقُوعِ تَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى -. وَفِي قِصَّةِ عُمَرَ مِنَ الْفَوَائِدِ مَشْرُوعِيَّةُ الْمُنَاظَرَةِ، وَالِاسْتِشَارَةُ فِي النَّوَازِلِ، وَفِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافِ لَا يُوجِبُ حُكْمًا، وَأَنَّ الِاتِّفَاقَ هُوَ الَّذِي يُوجِبُهُ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إِلَى النَّصِّ، وَأَنَّ النَّصَّ يُسَمَّى عِلْمًا، وَأَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا تَجْرِي بِقَدَرِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، وَأَنَّ الْعَالِمَ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ مَا لَا يَكُونُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ. وَفِيهِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَبِلُوهُ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَلَمْ يَطْلُبُوا مَعَهُ مُقَوِّيًا.

وَفِيهِ التَّرْجِيحُ بِالْأَكْثَرِ عَدَدًا وَالْأَكْثَرِ تَجْرِبَةً لِرُجُوعِ عُمَرَ لِقَوْلِ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِمَّنْ وَافَقَ رَأْيَهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنَّ مَجْمُوعَ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَوَازَنَ مَا عِنْدَ الَّذِينَ خَالَفُوا ذَلِكَ مِنْ مَزِيدِ الْفَضْلِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا عِنْدَ الْمَشْيَخَةِ مِنَ السِّنِّ وَالتَّجَارِبِ، فَلَمَّا تَعَادَلُوا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ رُجِّحَ بِالْكَثْرَةِ وَوَافَقَ اجْتِهَادُهُ النَّصَّ، فَلِذَلِكَ حَمِدَ اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى تَوْفِيقِهِ لِذَلِكَ. وَفِيهِ تَفَقُّدُ الْإِمَامِ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِزَالَةِ ظُلْمِ الْمَظْلُومِ وَكَشْفِ كُرْبَةِ الْمَكْرُوبِ وَرَدْعِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَإِظْهَارِ الشَّرَائِعِ وَالشَّعَائِرِ وَتَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ الْمَسِيحُ وَلَا الطَّحبك برصاعُونُ. كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي الْحَجِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أبي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ أَتَمَّ مِنْ هَذَا بِلَفْظِ: عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ، وَقَدَّمْتُ هُنَاكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّجَّالِ، وَأَخْرَجَهُ فِي الْفِتَنِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ فَلَا يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ عَدَمُ دُخُولِ الطَّاعُونِ الْمَدِينَةَ مَعَ كَوْنِ الطَّاعُونِ شَهَادَةً، وَكَيْفَ قُرِنَ بِالدَّجَّالِ وَمُدِحَتِ الْمَدِينَةُ بِعَدَمِ دُخُولِهِمَا، وَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَ الطَّاعُونِ شَهَادَةً لَيْسَ الْمُرَادُ بِوَصْفِهِ بِذَلِكَ ذَاتَهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَيَنْشَأُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ سَبَبَهُ، فَإِذَا استحضره مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ طَعْنُ الْجِنِّ حَسُنَ مَدْحُ الْمَدِينَةِ بِع دَمِ دُخُولِهِ إِيَّاهَا، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كُفَّارَ الْجِنِّ وَشَيَاطِينَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِ الْمَدِينَةِ، وَمَنِ اتَّفَقَ دُخُولُهُ إِلَيْهَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ طَعْنِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: طَعْنُ الْجِنِّ لَا يَخْتَصُّ بِكُفَّارِهِمْ، بَلْ قَدْ يَقَعُ مِنْ مُؤْمِنِيهِمْ، قُلْنَا: دُخُولُ كُفَّارِ الْإنْسِ الْمَدِينَةَ مَمْنُوعٌ، فَإِذَا لَمْ يَسْكُنِ الْمَدِينَةَ إِلَّا مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَالِصَ الْإِسْلَامِ، فَحَصَلَ الْأَمْنُ مِنْ وُصُولِ الْجِنِّ إِلَى طَعْنِهِمْ بِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْهَا الطَّاعُونُ أَصْلًا.

وَقَدْ أَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْمَعْنَى لَا يَدْخُلُهَا مِنَ الطَّاعُونِ مِثْلُ الَّذِي وَقَعَ فِي غَيْرِهَا كَطَاعُونِ عَمَوَاسَ وَالْجَارِفِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ أَنَّهُ دَخَلَهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ جَزَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ جَمٌّ مِنْ آخِرِهِمُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ بِأَنَّ الطَّاعُونَ لَمْ يَدْخُلِ الْمَدِينَةَ أَصْلًا وَلَا مَكَّةَ أَيْضًا، لَكِنْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ فِي الطَّاعُونِ الْعَامِّ الَّذِي كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، بِخِلَافِ الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَذْكُرِ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّهُ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ أَصْلًا،

ص: 190

وَلَعَلَّ الْقُرْطُبِيُّ بَنَى عَلَى أَنَّ الطَّاعُونَ أَعَمُّ مِنَ الْوَبَاءِ، أَوْ أَنَّهُ هُوَ وَأَنَّهُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ فَسَادِ الْهَوَاءِ فَيَقَعُ بِهِ الْمَوْتُ الْكَثِيرُ، وَقَدْ مَضَى فِي الْجَنَائِزِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَمُوتُونَ بِهَا مَوْتًا ذَرِيعًا، فَهَذَا وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ وَبَاءٌ بِلَا شَكٍّ، وَلَكِنِ الشَّأْنُ فِي تَسْمِيَتِهِ طَاعُونًا، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّاعُونِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَنْفِيِّ دُخُولُهُ الْمَدِينَةَ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ طَعْنِ الْجِنِّ فَيُهَيِّجُ بِذَلِكَ الطَّعْنِ الدَّمَ فِي الْبَدَنِ فَيَقْتُلُ فَهَذَا لَمْ يَدْخُلِ الْمَدِينَةَ قَطُّ، فَلَمْ يَتَّضِحْ جَوَابُ الْقُرْطُبِيِّ، وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ سَبَبَ التَّرْجَمَةِ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي الطَّاعُونِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، فَكَانَ مَنْعُ دُخُولِ الطَّاعُونِ الْمَدِينَةَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَدِينَةِ وَلَوَازِمِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا بِالصِّحَّةِ.

وَقَالَ آخَرُ: هَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، لِأَنَّ الْأَطِبَّاءَ مِنْ أَوَّلِهِمُ إِلَى آخِرِهِمْ عَجَزُوا أَنْ يَدْفَعُوا الطَّاعُونَ عَنْ بَلَدٍ بَلْ عَنْ قَرْيَةٍ، وَقَدِ امْتَنَعَ الطَّاعُونُ عَنِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ الدُّهُورَ الطَّوِيلَةَ. قُلْتُ: وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ جَوَابًا عَنِ الْإِشْكَالِ.

وَمِنَ الْأَجْوِبَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَوَّضَهُمْ عَنِ الطَّاعُونِ بِالْحُمَّ لِأَنَّ الطَّاعُونَ يَأْتِي مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَالْحُمَّى تَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ حِينٍ فَيَتَعَادَلَانِ فِي الْأَجْرِ، وَيَتِمُّ الْمُرَادُ مِنْ عَدَمِ دُخُولِ الطَّاعُونِ لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَيَظْهَرُ لِي جَوَابٌ آخَرُ بَعْدَ اسْتِحْضَارِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَسِيبٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ آخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ وَزْنُ عَظِيمٍ رَفَعَهُ: أَتَانِي جِبْرِيلُ بِالْحُمَّى وَالطَّاعُونِ، فَأَمْسَكْتُ الْحُمَّى بِالْمَدِينَةِ وَأَرْسَلْتُ الطَّاعُونَ إِلَى الشَّامِ، وَهُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ كَانَ فِي قِلَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَدَدًا وَمَدَدًا، وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ وَبِئَةً كَمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، ثُمَّ خُيِّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرَيْنِ يَحْصُلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْأَجْرُ الْجَزِيلُ، فَاخْتَارَ الْحُمَّى حِينَئِذٍ لِقِلَّةِ الْمَوْتِ بِهَا غَالِبًا، بِخِلَافِ الطَّاعُونِ، ثُمَّ لَمَّا احْتَاجَ إِلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ كَانَتْ قَضِيَّةُ اسْتِمْرَارِ الْحُمَّى بالمدينة أَنْ تُضْعِفَ أَجْسَادَ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّقْوِيَةِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ، فَدَعَا بِنَقْلِ الْحُمَّى مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْجُحْفَةِ، فَعَادَتِ الْمَدِينَةُ أَصَحَّ بِلَادِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، ثُمَّ كَانُوا مِنْ حِينَئِذٍ مَنْ فَاتَتْهُ الشَّهَادَةُ بِالطَّاعُونِ رُبَّمَا حَصَلَتْ لَهُ بِالْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ فَاتَهُ ذَلِكَ حَصَلَتْ لَهُ الْحُمَّى الَّتِي هِيَ حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ تَمْيِيزًا لَهَا عَنْ غَيْرِهَا لِتَحَقُّقِ إِجَابَةِ دَعَوْتِهِ وَظُهُورِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ

الْعَظِيمَةِ بِتَصْدِيقِ خَبَرِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ الْمُتَطَاوِلَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ):

سَيَأْتِي فِي ذِكْرِ الدَّجَّالِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ حَدِيثُ أَنَسٍ وَفِيهِ: فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا فَلَا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، وَإِنَّهُ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَقِيلَ: هُوَ لِلتَّبَرُّكِ فَيَشْمَلُهُمَا، وَقِيلَ: هُوَ لِلتَّعْلِيقِ وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالطَّاعُونِ وَأَنَّ مُقْتَضَاهُ جَوَازُ دُخُولِ الطَّاعُونِ الْمَدِينَةَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمدينةُ وَمَكَّةُ مَحْفُوفَتَانِ بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهُمَا مَلَكٌ لَا يَدْخُلُهُمَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ، أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ عَنْ شُرَيْحٍ، عَنْ فُلَيْحٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَعَلَى هَذَا فَالَّذِي نُقِلَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ مِنْهُ لَيْسَ كَمَا ظَنَّ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ، أَوْ يُجَابُ إِنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِجَوَابِ الْقُرْطُبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَعَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلُ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ: قَالَ لِي أَنَسٌ) لَيْسَ لِحَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ.

قَوْلُهُ: (يَحْيَى بِمَ مَاتَ)؟ أَيْ بِأَيِّ شيء مَاتَ؟ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ: بِمَا مَاتَ؟ بِإِشْبَاعِ الْمِيمِ وَهُوَ لِلْأَصِيلِيِّ وَهِيَ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، لَكِنِ اشْتُهِرَ حَذْفُ الْأَلِفِ مِنْهَا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ جَرٍّ، وَيَحْيَى الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ أَخُو حَفْصَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرَةَ وَهُوَ ابْنُ سِيرِينَ لِأَنَّهَا كُنْيَةُ سِيرِينَ، وَكَانَتْ وَفَاةُ يَحْيَى فِي حُدُودِ التِّسْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى مَا يُورَدُ

ص: 191

مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، لَكِنِ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سِيرِينَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يَتَذَاكَرَانِ السَّاعَةَ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ، نَقَلَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَرَادَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سِيرِينَ مَاتَ بَعْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَيَكُونُ حَدِيثُ حَفْصَةَ خَطَأً، انْتَهَى. وَتَخْرِيجُهُ لِحَدِيثِ حَفْصَةَ فِي الصَّحِيحِ يَقْتَضِي أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ خَطَأٌ، وَقَدْ قَالَ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ: حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ عَنْ حَفْصَةَ خَطَأٌ، فَإِذَا جُوِّزَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِي حَدِيثِهِ عَنْ حَفْصَةَ جَازَ تَجْوِيزُهُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: يَحْيَى بْنُ سِيرِينَ فَلَعَلَّهُ كَانَ أَنَسَ بْنَ سِيرِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) أَيْ يَقَعُ بِهِ، هَكَذَا جَاءَ مُطْلَقًا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَسَيَأْتِي مُقَيَّدًا بِثَلَاثَةِ قُيُودٍ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِهِ عَقِبَهُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ. هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا مُقْتَصِرًا عَلَى هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي الْجِهَادِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ مُطَوَّلًا بِلَفْظِ: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَشَرْتُ هُنَاكَ إِلَى الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْخَمْسَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَطْعُونِ: مَنْ طَعَنَهُ الْجِنُّ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ.

‌31 - بَاب أَجْرِ الصَّابِرِ على الطَّاعُونِ

5734 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا أَخْبَرَتْه أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ.

تَابَعَهُ النَّضْرُ عَنْ دَاوُدَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَجْرِ الصَّابِرِ عَلَى الطَّاعُونِ) أَيْ سَوَاءً وَقَعَ بِهِ أَوْ وَقَعَ فِي بَلَدٍ هُوَ مُقِيمٌ بِهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَحَبَّانُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ ابْنُ هِلَالٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمِيمِ بَيْنَهُمَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ رَاءٌ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ سَأَلْتُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَلَى مَنْ شَاءَ، أَيْ: مِنْ كَافِرٍ أَوْ عَاصٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ وَفِي قِصَّةِ أَصْحَابِ مُوسَى مَعَ بَلْعَامَ.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَسِيبٍ عِنْدَ أَحْمَدَ فَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لَهُمْ، وَرِجْسٌ عَلَى الْكَافِرِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ كَوْنَ الطَّاعُونِ رَحْمَةً إِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا وَقَعَ بِالْكَفَّارِ فَإِنَّمَا هُوَ عَذَابٌ عَلَيْهِمْ يُعَجَّلُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْعَاصِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهَلْ يَكُونُ الطَّاعُونُ لَهُ شَهَادَةً أَوْ يَخْتَصُّ بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَالْمُرَادُ بِالْعَاصِي: مَنْ يَكُونُ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ وَيَهْجُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ مُصِرٌّ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُكَرَّمُ بِدَرَجَةِ الشَّهَادَةِ لِشُؤْمِ مَا كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّاعُونَ يَنْشَأُ عَنْ ظُهُورِ الْفَاحِشَةِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ

ص: 192

مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الْحَدِيثَ، وَفِي إِسْنَادِهِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِمَا، وَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يُخْطِئُ كَثِيرًا، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ: وَلَا فَشَا الزِّنَا فِي قَوْمٍ قط إِلَّا كَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ.

وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولًا بِلَفْظِ: إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ فَقَدِ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مَوْصُولًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ سِيَاقِ مَالِكٍ، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِلَفْظِ: مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الزِّنَا إِلَّا أُخِذُوا بِالْفَنَاءِ. الْحَدِيثَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ بِلَفْظِ: وَلَا ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ وَلَدُ الزِّنَا، فَإِذَا فَشَا فِيهِمْ وَلَدُ الزِّنَا أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الطَّاعُونَ قَدْ يَقَعُ عُقُوبَةً بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ شَهَادَةً؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ تَحْصُلُ لَهُ دَرَجَةُ الشَّهَادَةِ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ عَنْ أَنَسٍ: الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ دَرَجَةِ الشَّهَادَةِ لِمَنِ اجْتَرَحَ السَّيِّئَاتِ مُسَاوَاةُ الْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ فِي الْمَنْزِلَةِ، لِأَنَّ دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ كَنَظِيرِهِ مِنَ الْعُصَاةِ إِذَا قُتِلَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَحْصُلَ لِمَنْ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُونُ أَجْرُ الشَّهَادَةِ، وَلَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يُبَاشِرْ تِلْكَ الْفَاحِشَةَ، وَإِنَّمَا عَمَّهُمْ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِتَقَاعُدِهِمْ عَنْ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَفَعَهُ: الْقَتْلُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ، فَذَاكَ الشَّهِيدُ الْمُفْتَخِرُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ عَرْشِهِ لَا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلَّا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ. وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ فَانْمَحَتْ خَطَايَاهُ، إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا. وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يُقْتَلَ فَهُوَ فِي النَّارِ، إِنَّ السَّيْفَ لَا يَمْحُو النِّفَاقَ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الصَّحِيحُ: إِنَّ الشَّهِيدَ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ؛ فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُكَفِّرُ التَّبِعَاتِ، وَحُصُولُ التَّبِعَاتِ لَا يَمْنَعُ حُصُولَ دَرَجَةِ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ لِلشَّهَادَةِ مَعْنًى إِلَّا أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ ثَوَابًا مَخْصُوصًا وَيُكْرِمُهُ كَرَامَةً زَائِدَةً، وَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيثَ أَنَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ مَا عَدَا التَّبِعَاتِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ لِلشَّهِيدِ أَعْمَالًا صَالِحَةً وَقَدْ كَفَّرَتِ الشَّهَادَةُ أَعْمَالَهُ السَّيِّئَةَ غَيْرَ التَّبِعَاتِ، فَإِنَّ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ تَنْفَعُهُ فِي مُوَازَنَةِ مَا عَلَيْهِ مِنَ التَّبِعَاتِ وَتَبْقَى لَهُ دَرَجَةُ الشَّهَادَةِ خَالِصَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فَهُوَ فِي الْمَشِيئَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ) أَيْ مُسْلِمٍ (يَقَعُ الطَّاعُونُ) أَيْ فِي مَكَانٍ هُوَ فِيهِ (فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: فِي بَيْتِهِ، وَيَأْتِي فِي الْقَدَرِ بِلَفْظِ: يَكُونُ فِيهِ وَيَمْكُثُ فِيهِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَلَدِ، أَيِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُونُ.

قَوْلُهُ: (صَابِرًا) أَيْ غَيْرُ مُنْزَعِجٍ وَلَا قَلِقٍ، بَلْ مُسَلِّمًا لِأَمْرِ اللَّهِ رَاضِيًا بِقَضَائِهِ، وَهَذَا قَيْدٌ فِي حُصُولِ أَجْرِ الشَّهَادَةِ لِمَنْ يَمُوتُ بِالطَّاعُونِ، وَهُوَ أَنْ يَمْكُثَ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ فِرَارًا مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ صَرِيحًا. وَقَوْلُهُ: يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، قَيْدٌ آخَرُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْإِقَامَةِ، فَلَوْ مَكَثَ وَهُوَ قَلِقٌ أَوْ مُتَنَدِّمٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ ظَانًّا أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمَا وَقَعَ بِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَأَنَّهُ بِإِقَامَتِهِ يَقَعُ بِهِ فَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الشَّهِيدِ وَلَوْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ، هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ

ص: 193

مَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا اقْتَضَى مَنْطُوقُهُ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الشَّهِيدِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالطَّاعُونِ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ ثَلَاثُ صُوَرٍ: أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ فَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُونُ فَمَاتَ بِهِ، أَوْ وَقَعَ بِهِ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ، أَوْ لَمْ يَقَعْ بِهِ أَصْلًا وَمَاتَ بِغَيْرِهِ عَاجِلًا أَوِ آجِلًا.

قَوْلُهُ: (مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ) لَعَلَّ السِّرَّ فِي التَّعْبِيرِ بِالْمِثْلِيَّةِ مَعَ ثُبُوتِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ مَنْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ كَانَ شَهِيدًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَمُتْ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالطَّاعُونِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ دَرَجَةُ الشَّهَادَةِ بِعَيْنِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِكَوْنِهِ شَهِيدًا أَعْلَى دَرَجَةً مِمَّنْ وُعِدَ بِأَنَّهُ يُعْطَى مِثْلَ أَجْرِ الشَّهِيدِ، وَيَكُونُ كَمَنْ خَرَجَ عَلَى نِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَمَاتَ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْقَتْلِ، وَأَمَّا مَا اقْتَضَاهُ مَفْهُومُ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُونُ ثُمَّ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ الشَّهِيدِ فَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ أَخْبَرَهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي لَأَصْحَابُ الْفُرُشِ، وَرُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ لِابْنِ مَسْعُودٍ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرِجَالُ سَنَدِهِ مُوَثَّقُونَ، وَاسْتُنْبِطَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُونُ فَمَاتَ بِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الثَّوَابِ بِتَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ كَمَنْ يَمُوتُ غَرِيبًا بِالطَّاعُونِ، أَوْ نُفَسَاءَ مَعَ الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابُ، وَالتَّحْقِيقُ فِيمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ الْبَابِ أَنَّهُ يَكُونُ شَهِيدًا بِوُقُوعِ الطَّاعُونِ بِهِ وَيُضَافُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ لِصَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ، فَإِنَّ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ شَيْءٌ وَأَجْرَ الشَّهَادَةِ شَيْءٌ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ وَقَالَ: هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذَا: فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ دَرَجَاتُ الشُّهَدَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَأَرْفَعُهَا مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَمَاتَ بِالطَّاعُونِ، وَدُونَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا وَطُعِنَ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ، وَدُونَهُ مَنِ اتَّصَفَ وَلَمْ يُطْعَنْ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ. وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا وَلَوْ وَقَعَ الطَّاعُونُ وَمَاتَ بِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمُوتَ بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ شُؤْمِ الِاعْتِرَاضِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ التَّضَجُّرُ وَالتَّسَخُّطُ لِقَدَرِ اللَّهِ وَكَرَاهَةُ لِقَاءِ اللَّهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَفُوتُ مَعَهَا الْخِصَالُ الْمَشْرُوطَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ اسْتِوَاءُ شَهِيدِ الطَّاعُونِ وَشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ رَفَعَهُ: يَأْتِي الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ بِالطَّاعُونِ، فَيَقُولُ أَصْحَابُ الطَّاعُونِ: نَحْنُ شُهَدَاءُ، فَيُقَالُ: انْظُرُوا فَإِنْ كَانَ جِرَاحُهُمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاءِ تَسِيلُ دَمًا وَرِيحُهَا كَرِيحِ الْمِسْكِ فَهُمْ شُهَدَاءُ، فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَيْضًا بِلَفْظِ: يَخْتَصِمُ الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشِهِمُ إِلَى رَبِّنَا عز وجل فِي الَّذِينَ مَاتُوا بِالطَّاعُونِ، فَيَقُولُ الشُّهَدَاءُ: إِخْوَانُنَا قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا، وَيَقُولُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ إِخْوَانُنَا مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ كَمَا مُتْنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: انْظُرُوا إِلَى جِرَاحِهِمْ، فَإِنِ اشْبَهَتْ جِرَاحَ الْمَقْتُولِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ، فَإِذَا جِرَاحُهُمْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَهُمْ. زَادَ الْكَلَابَاذِيُّ فِي مَعَانِي الْأَخْبَارِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي آخِرِهِ فَيَلْحَقُونَ بِهِمْ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ النَّضْرُ، عَنْ دَاوُدَ) النَّضْرُ هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ، وَدَاوُدُ هُوَ ابْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، وَقَدْ أَخْرَجَ طَرِيقَ النَّضْرِ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَ مَوْصُولًا أَيْضًا فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، وَعَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ كُلِّهِمْ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: تَابَعَهُ النَّضْرُ إِزَالَةَ تَوَهُّمِ

ص: 194

مَنْ يَتَوَهَّمُ تَفَرُّدَ حَبَّانَ بْنِ هِلَالٍ بِهِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَوْهِ غَيْرُهُمَا، وَلَمْ يُرِدِ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِزَالَةَ تَوَهُّمِ التَّفَرُّدِ بِهِ فَقَطْ، وَلَمْ يُرِدِ الْحَصْرَ فِيهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌32 - بَاب الرُّقَى بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ

5735 -

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِه نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا.

فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرُّقَى) بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِالْقَافِ مَقْصُورٌ: جَمْعُ رُقْيَةٍ بِسُكُونِ الْقَافِ، يُقَالُ: رَقَى بِالْفَتْحِ فِي الْمَاضِي يَرْقِي بِالْكَسْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَرَقَيْتُ فُلَانًا بِكَسْرِ الْقَافِ أَرْقِيهِ، وَاسْتَرْقَى طَلَبَ الرُّقْيَةَ، وَالْجَمْعُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْوِيذِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعَوِّذَاتِ سُورَةُ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ وَالْإِخْلَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ التَّفْسِيرِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ. أَوِ الْمُرَادُ الْفَلَقُ وَالنَّاسُ وَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنَ التَّعْوِيذِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} ، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ عَشْرَ خِصَالٍ

فَذَكَرَ فِيهَا الرُّقَى إِلَّا بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يُحْتَجُّ بِهَذَا الْخَبَرِ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالْإِذْنِ فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَأَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْفَاتِحَةِ مَعْنَى الِاسْتِعَاذَةِ وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَاتُ، فَأَخَذَ بِهَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهَا.

وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ ثُبُوتِ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا اجْتَزَأَ بِهِمَا لِمَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنْ جَوَامِعِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى عِنْدَ اجْتِمَاعِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ بِكَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لَا تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا بَلْ بِذَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى -. وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا شَرْطًا، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، قَالَ: فَعَرَضُوا عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا أَرَى بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ. وَقَدْ تَمَسَّكَ قَوْمٌ بِهَذَا الْعُمُومِ فَأَجَازُوا كُلَّ رُقْيَةٍ جُرِّبَتْ مَنْفَعَتُهَا وَلَوْ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهَا، لَكِنْ دَلَّ حَدِيثُ عَوْفٍ أَنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الرُّقَى يُؤَدِّي إِلَى الشِّرْكِ يُمْنَعُ، وَمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الشِّرْكِ فَيَمْتَنِعُ احْتِيَاطًا، وَالشَّرْطُ الْآخِرُ

ص: 195

لَا بُدَّ مِنْهُ.

وَقَالَ قَوْمٌ لَا تَجُوزُ الرُّقْيَةُ إِلَّا مِنَ الْعَيْنِ وَاللَّدْغَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنِ اكْتَوَى، مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى الْحَصْرِ فِيهِ أَنَّهُمَا أَصل كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الرُّقْيَةِ، فَيَلْتَحِقُ بِالْعَيْنِ جَوَازُ رُقْيَةِ مَنْ بِهِ خَبَلٌ أَوْ مَسٌّ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِاشْتِرَاكِهَا فِي كَوْنِهَا تَنْشَأُ عَنْ أَحْوَالٍ شَيْطَانِيَّةٍ مِنْ إِنْسِيٍّ أَوْ جِنِّيٍّ، وَيَلْتَحِقُ بِالسُّمِّ كُلُّ مَا عَرَضَ لِلْبَدَنِ مِنْ قَرْحٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَوَادِّ السُّمِّيَّةِ.

وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِثْلُ حَدِيثِ عِمْرَانَ، وَزَادَ أَوْ دَمٍ، وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّقَى مِنَ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ وَالنَّمْلَةِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: وَالْأُذُنِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: أَلَا تَعْلَمِينَ هَذِهِ - يَعْنِي حَفْصَةَ - رُقْيَةَ النَّمْلَةِ، وَالنَّمْلَةُ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَنْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْجَسَدِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَصْرِ مَعْنَى الْأَفْضَلِ، أَيْ لَا رُقْيَةَ أَنْفَعُ كَمَا قِيلَ: لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنَ الرُّقَى مَا يَكُونُ قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ، وَالْمَأْذُونُ فِيهِ مَا كَانَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي قُرِنَتْ فِيهِ التَّمَائِمُ بِالرُّقَى، فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ، وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ، وَالتَّمَائِمُ جَمْعُ تَمِيمَةٍ، وَهِيَ خَرَزٌ أَوْ قِلَادَةٌ تُعَلَّقُ فِي الرَّأْسِ، كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُ الْآفَاتِ، وَالتِّوَلَةُ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ مُخَفَّفًا شَيْءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجْلِبُ بِهِ مَحَبَّةَ زَوْجِهَا، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ السِّحْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ؛ لِأَنَّهُمُ أَرَادُوا دَفْعَ الْمَضَارِّ وَجَلْبَ الْمَنَافِعِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ بِأَسْمَاءِ

اللَّهِ وَكَلَامِهِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَابِ الْمَرْأَةِ تَرْقِي الرَّجُلَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ يَنْفُثُ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ. الْحَدِيثَ، وَمَضَى فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ، وَالْحُسَيْنَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، الْحَدِيثَ، وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ مَرْفُوعًا: مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَتَحَوَّلَ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: لُدِغْتُ اللَّيْلَةَ فَلَمْ أَنَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّكَ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودَةٌ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرُّقَى أَخَصُّ مِنَ التَّعَوُّذِ، وَإِلَّا فَالْخِلَافُ فِي الرُّقَى مَشْهُورٌ، وَلَا خِلَافَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَزَعِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ وَمَا يُتَوَقَّعُ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الرُّقَى بِالْمُعَوِّذَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ هُوَ الطِّبُّ الرُّوحَانِيُّ، إِذَا كَانَ عَلَى لِسَانِ الْأَبْرَارِ مِنَ الْخَلْقِ حَصَلَ الشِّفَاءُ بِإِذْنِ اللَّهِ - تَعَالَى -، فَلَمَّا عَزَّ هَذَا النَّوْعُ فَزِعَ النَّاسُ إِلَى الطِّبِّ الْجُسْمَانِيِّ، وَتِلْكَ الرُّقَى الْمَنْهِيُّ عَنْهَا الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْمُعَزِّمُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَدَّعِي تَسْخِيرَ الْجِنِّ لَهُ، فَيَأْتِي بِأُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ يَجْمَعُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ مَا يَشُوبُهُ مِنْ ذِكْرِ الشَّيَاطِينِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ وَالتَّعَوُّذُ بِمَرَدَتِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَيَّةَ لِعَدَاوَتِهَا لِلْإِنْسَانِ بِالطَّبْعِ تُصَادِقُ الشَّيَاطِينَ لِكَوْنِهِمْ أَعْدَاءَ بَنِي آدَمَ، فَإِذَا عَزَّمَ عَلَى الْحَيَّةِ بِأَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ أَجَابَتْ وَخَرَجَتْ مِنْ مَكَانِهَا، وَكَذَا اللَّدِيغُ إِذَا رُقِيَ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ سَالَتْ سَمُومُهَا مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، فَلِذَلِكَ كُرِهَ مِنَ الرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ خَاصَّةً وَبِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي يُعْرَفُ مَعْنَاهُ لِيَكُونَ بَرِيئًا مِنَ الشِّرْكِ، وَعَلَى كَرَاهَةِ الرُّقَى بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ عُلَمَاءُ الْأَمَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرُّقَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، أَحَدُهَا مَا كَانَ يُرْقَى بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَيَجِبُ اجْتِنَابُهُ؛

ص: 196

لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِ شِرْكٌ أَوْ يُؤَدِّي إِلَى الشِّرْكِ. الثَّانِي: مَا كَانَ بِكَلَامِ اللَّهِ أَوْ بِأَسْمَائِهِ فَيَجُوزُ، فَإِنْ كَانَ مَأْثُورًا فَيُسْتَحَبُّ.

الثَّالِثُ: مَا كَانَ بِأَسْمَاءِ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ مَلَكٍ أَوْ صَالِحٍ أَوْ مُعَظَّمٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْعَرْشِ، قَالَ: فَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ اجْتِنَابُهُ وَلَا مِنَ الْمَشْرُوعِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الِالْتِجَاءَ إِلَى اللَّهِ وَالتَّبَرُّكَ بِأَسْمَائِهِ فَيَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى، إِلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ تَعْظِيمَ الْمُرْقَى بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ كَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى -. قُلْتُ: وَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَقَالَ الرَّبِيعُ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الرُّقْيَةِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُرْقَى بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا يُعْرَفُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، قُلْتُ: أَيَرْقِي أَهْلُ الْكِتَابِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: نَعَمُ إِذَا رَقَوْا بِمَا يُعْرَفُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَبِذِكْرِ اللَّهِ اهـ. وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِلْيَهُودِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْقِي عَائِشَةَ: ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةَ الرُّقْيَةِ بِالْحَدِيدَةِ وَالْمِلْحِ وَعَقْدِ الْخَيْطِ وَالَّذِي يَكْتُبُ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمَ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتُلِفَ فِي اسْتِرْقَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَأَجَازَهَا قَوْمٌ وَكَرِهَهَا مَالِكٌ لِئَلَّا يَكُونَ مِمَّا بَدَّلُوهُ. وَأَجَابَ مَنْ أَجَازَ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولُوهُ، وَهُوَ كَالطِّبِّ سَوَاءٌ كَانَ غَيْرُ الْحَاذِقِ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَقُولَ وَالْحَاذِقُ يَأْنَفُ أَنْ يُبَدِّلَ حِرْصًا عَلَى اسْتِمْرَارِ وَصْفِهِ بِالْحِذْقِ لِتَرْوِيجِ صِنَاعَتِهِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَمَنَعَ مِنْهَا مَا لَا يُعْرَفُ لِئَلَّا يَكُونَ فِيهَا كُفْرٌ.

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَنْ مَنَعَ الرُّقَى أَصْلًا فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَرْقِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ) دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْطُوفِ فِي التَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ، وَفِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّقَى بِالْمُعَوِّذَاتِ أَنْ يُشْرَعَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُعَوِّذَاتِ سِرٌّ لَيْسَ فِي غَيْرِهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ مَا عَدَا الْمُعَوِّذَاتِ، لَكِنْ ثَبَتَتِ الرُّقْيَةُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا اخْتِصَاصَ لِلْمُعَوِّذَاتِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَعْقِيبِ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ بِبَابِ الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي الْفَاتِحَةِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ، فَمَهْمَا كَانَ فِيهِ اسْتِعَاذَةٌ بِاللَّهِ أَوِ اسْتِعَانَةٌ بِاللَّهِ وَحْدَهُ أَوْ مَا يُعْطِي مَعْنَى ذَلِكَ فَالِاسْتِرْقَاءُ بِهِ مَشْرُوعٌ. وَيُجَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَرَكَ مَا كَانَ يُتَعَوَّذُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ غَيْرَ الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ الرُّقَى بِالْقُرْآنِ بَعْضَهُ؛ فَإِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ عَلَى بَعْضِهِ، وَالْمُرَادُ مَا كَانَ فِيهِ الْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُعَوِّذَاتُ، وَقَدْ ثَبَتَت الِاسْتِعَاذَةُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ كَمَا مَضَى. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْمُعَوِّذَاتِ جَوَامِعُ مِنَ الدُّعَاءِ.

نَعَمْ أَكْثَرُ الْمَكْرُوهَاتِ مِنَ السِّحْرِ وَالْحَسَدِ وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكْتَفِي بِهَا. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي فِي بَابِ السِّحْرِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَقَوْلُهُ: فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ لَيْسَ قَيْدًا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَشَارَتْ عَائِشَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْسَخْ.

قَوْلُهُ: (أَنْفُثْ عَنْهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي بَابٌ مُفْرَدٌ فِي النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ.

قَوْلُهُ: (وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ نَفْسَهُ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيِ أمْسَحُ جَسَدَهُ بِيَدِهِ، وَبِالْكَسْرِ عَلَى الْبَدَلِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِيَدِ نَفْسِهِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِي. قَالَ عِيَاضٌ: فَائِدَةُ النَّفْثِ التَّبَرُّكُ بِتِلْكَ الرُّطُوبَةِ أَوِ الْهَوَاءِ الَّذِي مَاسَّهُ الذِّكْرُ كَمَا يُتَبَرَّكُ بِغُسَالَةِ مَا يُكْتَبُ مِنَ الذِّكْرِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْأَلَمِ عَنِ الْمَرِيضِ كَانْفِصَالِ ذَلِكَ عَنِ الرَّاقِي انْتَهَى. وَلَيْسَ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، مُعَارَضَةً لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ كَانَ يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ وَفِي اشْتِدَادِهِ كَانَ يَأْمُرُهَا بِهِ وَتَفْعَلُهُ هِيَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهَا.

قَوْلُهُ: (فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ) الْقَائِلُ

ص: 197

مَعْمَرٌ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَفِي الْحَدِيثِ التَّبَرُّكُ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَسَائِرِ أَعْضَائِهِ وَخُصُوصًا الْيَدَ الْيُمْنَى.

‌33 - بَاب الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

5736 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَقْرُوهُمْ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، وَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنْ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ ويتنفل، فَبَرَأَ فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لَا تأْخُذْهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوهُ، فَضَحِكَ، وَقَالَ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هَكَذَا ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَهُوَ يُعَكِّرُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي يُورِدُهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ لَا يَكُونُ عَلَى شَرْطِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَقِبَ هَذَا الْبَابِ. وَأَجَابَ شَيْخُنَا فِي كَلَامِهِ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ قَدْ يَصْنَعُ ذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ الْخَبَرَ بِالْمَعْنَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا فِيهِ تَقْرِيرُهُ عَلَى ذَلِكَ فَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِ صَرِيحًا تَكُونُ نِسْبَةً مَعْنَوِيَّةً، وَقَدْ عَلَّقَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ، فَأَتَى بِهِ مَجْزُومًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِجَارَةِ فِي بَابِ مَا يُعْطَى فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ شَيْخُنَا: لَعَلَّ لِابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثًا آخَرَ صَرِيحًا فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، فَلِذَلِكَ أَتَى بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ. قُلْتُ: وَلَمْ يَقَعْ لِي ذَلِكَ بَعْدَ التَّتَبُّعِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِبَعْضِ الْكَلَامِ خَوَاصَّ وَمَنَافِعَ فَمَا الظَّنُّ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ بِالْفَاتِحَةِ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ مِثْلُهَا لِتَضَمُّنِهَا جَمِيعَ مَعَانِي الْكِتَابِ؛ فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى ذِكْرِ أُصُولِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَمَجَامِعِهَا وَإِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَذِكْرِ التَّوْحِيدِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى الرَّبِّ فِي طَلَبِ الْإِعَانَةِ بِهِ وَالْهِدَايَةِ مِنْهُ، وَذِكْرِ أَفْضَلِ الدُّعَاءِ وَهُوَ طَلَبُ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ، وَلِتَضَمُّنِهَا ذِكْرَ أَصْنَافِ الْخَلَائِقِ وَقِسْمَتِهِمُ إِلَى مُنْعَمٍ عَلَيْهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَمَغْضُوبٍ عَلَيْهِ لِعُدُولِهِ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَضَالٌّ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ لَهُ، مَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ إِثْبَاتِ الْقَدَرِ وَالشَّرْعِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْمَعَادِ وَالتَّوْبَةِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِ الْقَلْبِ وَالرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَحَقِيقٌ بِسُورَةٍ هَذَا بَعْضُ شَأْنِهَا أَنْ يُسْتَشْفَى بِهَا مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ الَّذِينَ أَتَوْا عَلَى الْحَيِّ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ فَرَقَاهُ أَبُو سَعِيدٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ مُسْتَوْفًى.

‌34 - بَاب الشُّروطِ فِي الرُّقْيَةِ بفاتحة الكتاب.

5737 -

حَدَّثَنا سِيدَانُ بْنُ مُضَارِبٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ الْبَصْرِيُّ - هُوَ صَدُوقٌ - يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَخْنَسِ أَبُو مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ

ص: 198

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ، فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ إِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا. فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ فَبَرَأَ فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سِيدَانُ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ (ابْنُ مُضَارِبٍ) بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ آخِرَهُ (أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ) هُوَ بَصْرِيٌّ قَوَّاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، وَشَيْخُهُ الْبَرَّاءُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ نُسِبَ إِلَى بَرْيِ الْعُودِ كَانَ عَطَّارًا، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَوَثَّقَهُ الْمُقَدَّمِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَاتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى التَّخْرِيجِ لَهُ. وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ أَبُو مَعْشَرٍ الْبَصْرِيُّ وَهُوَ صَدُوقٌ، وَشَيْخُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ ابْنُ الْأَخْنَسِ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ وَنُونٍ مَفْتُوحَةٍ هُوَ نَخَعِيٌّ كُوفِيٌّ يُكَنَّى أَبَا مَالِكٍ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ مَوَالِي الْأَزْدِ، وَثَّقَهُ الْأَئِمَّةُ، وَشَذَّ ابْنُ حِبَّانَ فَقَالَ فِي الثِّقَاتِ: يُخْطِئُ كَثِيرًا، وَمَا الثَّلَاثَة فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ ; وَلَكِنْ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ عِنْدَهُ حَدِيثٌ آخَرُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَلِأَبِي مَعْشَرٍ آخَرُ فِي الْأَشْرِبَةِ.

قَوْلُهُ: (مَرُّوا بِمَاءٍ) أَيْ بِقَوْمٍ نُزُولٍ عَلَى مَاءٍ.

قَوْلُهُ: (فِيهِمْ لَدِيغٌ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ (أَوْ سَلِيمٌ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالسَّلِيمُ هُوَ اللَّدِيغُ سُمِّيَ بِذَلِكَ تَفَاؤُلًا مِنَ السَّلَامَةِ لِكَوْنِ غَالِبِ مِنْ يُلْدَغُ يَعْطَبُ، وَقِيلَ: سَلِيمٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ لِلْعَطَبِ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّدْغِ فِي ضَرْبِ الْعَقْرَبِ مَجَازٌ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ الَّذِي يَضْرِبُ بِفِيهِ، وَالَّذِي يَضْرِبُ بِمُؤَخَّرِهِ يُقَالُ: لَسَعَ، وَبِأَسْنَانِهِ نَهَسَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ، وَبِأَنْفِهِ نَكَزَ بِنُونٍ وَكَافٍ وَزَايٍ، وَبِنَابِهِ نَشِطَ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بَعْضُهَا مَكَانَ بَعْضٍ تَجَوُّزًا.

قَوْلُهُ: (فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ، وَبَيَّنْتُ فِيهِ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهَا وَقَعَتْ لَهُمْ مَعَ الَّذِي لُدِغَ، وَأَنَّهُ وَقَعَتْ لِلصَّحَابَةِ قِصَّةٌ أُخْرَى مَعَ رَجُلٍ مُصَابٍ بِعَقْلِهِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

‌35 - بَاب رُقْيَةِ الْعَيْنِ

5738 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنْ الْعَيْنِ.

5739 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ: اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ".

وَقَالَ عُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ.

ص: 199

قَوْلُهُ: (بَابُ رُقْيَةِ الْعَيْنِ) أَيْ رُقْيَةِ الَّذِي يُصَابُ بِالْعَيْنِ، تَقُولُ: عِنْتَ الرَّجُلَ أَصَبْتَهُ بِعَيْنِكَ فَهُوَ مَعِينٌ وَمَعْيُونٌ، وَرَجُلٌ عَائِنٌ وَمِعْيَانٌ وَعَيُونٌ. وَالْعَيْنُ نَظَرٌ بِاسْتِحْسَانٍ مَشُوبٍ بِحَسَدٍ مِنْ خَبِيثِ الطَّبْعِ يَحْصُلُ لِلْمَنْظُورِ مِنْهُ ضَرَرٌ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ - مِنْ وَجْهٍ آخَرَ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: الْعَيْنُ حَقٌّ، وَيَحْضُرُ بِهَا الشَّيْطَانُ، وَحَسَدُ ابْنِ آدَمُ. وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَعْمَلُ الْعَيْنُ مِنْ بُعْدٍ حَتَّى يَحْصُلَ الضَّرَرُ لِلْمَعْيُونِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ طَبَائِعَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ؛ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ سُمٍّ يَصِلُ مِنْ عَيْنِ الْعَائِنِ فِي الْهَوَاءِ إِلَى بَدَنِ الْمَعْيُونِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَنْ كَانَ مِعْيَانًا أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ شَيْئًا يُعْجِبُنِي وَجَدْتُ حَرَارَةً تَخْرُجُ مِنْ عَيْنِي. وَيَقْرَبُ ذَلِكَ بِالْمَرْأَةِ الْحَائِضِ تَضَعُ يَدَهَا فِي إِنَاءِ اللَّبَنِ فَيَفْسُدُ، وَلَوْ وَضَعَتْهَا بَعْدَ طُهْرِهَا لَمْ يُفْسِدْ، وَكَذَا تَدْخُلُ الْبُسْتَانَ فَتَضُرُّ بِكَثِيرٍ مِنَ الْغُرُوسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهَا يَدُهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحِيحَ قَدْ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنِ الرَّمْدَاءِ فَيَرْمَدُ، وَيَتَثَاءَبُ وَاحِدٌ بِحَضْرَتِهِ فَيَتَثَاءَبُ هُوَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ لِلْعَيْنِ تَأْثِيرًا فِي النُّفُوسِ، وَإِبْطَالُ قَوْلِ الطَّبَائِعيِّينَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ إِلَّا مَا تُدْرِكُ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ الطَّبَائِعِيِّينَ أَنَّ الْعَائِنَ يَنْبَعِثُ مِنْ عَيْنِهِ قُوَّةٌ سُمِّيَّةٌ تَتَّصِلُ بِالْمَعِينِ فَيَهْلِكُ أَوْ يَفْسُدُ، وَهُوَ كَإِصَابَةِ السُّمِّ مَنْ نَظَرَ الْأَفَاعِيَ.

وَأَشَارَ إِلَى مَنْعِ الْحَصْرِ فِي ذَلِكَ مَعَ تَجْوِيزِهِ. وَأَنَّ الَّذِي يَتَمَشَّى عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْعَيْنَ إِنَّمَا تَضُرُّ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ بِعَادَةٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ - تَعَالَى - أَنْ يَحْدُثَ الضَّرَرُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ شَخْصٍ لِآخَرَ، وَهَلْ ثَمَّ جَوَاهِرُ خَفِيَّةٌ أَوْ لَا؟ هُوَ أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ لَا يُقْطَعُ بِإِثْبَاتِهِ وَلَا نَفْيِهِ، وَمَنْ قَالَ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ بِأَنَّ جَوَاهِرَ لَطِيفَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ تَنْبَعِثُ مِنَ الْعَائِنِ فَتَتَّصِلُ بالْمَعْيُونِ وَتَتَخَلَّلُ مَسَامَ جِسْمِهِ، فَيَخْلُقُ الْبَارِئُ الْهَلَاكَ عِنْدَهَا كَمَا يَخْلُقُ الْهَلَاكَ عند شرب السُّمُومِ فَقَدْ أَخْطَأَ بِدَعْوَى الْقَطْعِ، وَلَكِنْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَادَةً لَيْسَتْ ضَرُورَةً وَلَا طَبِيعَةً اهـ. وَهُوَ كَلَامٌ سَدِيدٌ، وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي إِنْكَارِهِ قَالَ: ذَهَبَتِ الْفَلَاسِفَةُ إِلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ صَادِرَةٌ عَنْ تَأْثِيرِ النَّفْسِ بِقُوَّتِهَا فِيهِ، فَأَوَّلُ مَا تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا ثُمَّ تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا هُوَ سُمٌّ فِي عَيْنِ الْعَائِنِ يُصِيبُ بِلَفْحِهِ عِنْدَ التَّحْدِيقِ إِلَيْهِ كَمَا يُصِيبُ لَفْحُ سُمِّ الْأَفْعَى مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ، ثُمَّ رُدَّ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَخَلَّفَتِ الْإِصَابَةُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ.

وَالثَّانِي: بِأَنَّ سُمَّ الْأَفْعَى جُزْءٌ مِنْهَا وَكُلُّهَا قَاتِلٌ، وَالْعَائِنُ لَيْسَ يَقْتُلُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِمُ إِلَّا نَظَرُهُ وَهُوَ مَعْنًى خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ إِلَيْهِ وَإِعْجَابِهِ بِهِ إِذَا شَاءَ مَا شَاءَ مِنْ أَلْمٍ أَوْ هَلَكَةٍ، وَقَدْ يُصْرَفُه قَبْلَ وُقُوعِهِ إِمَّا بِالِاسْتِعَاذَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَقَدْ يَصْرِفُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِالرُّقْيَةِ أَوْ بِالِاغْتِسَالِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ. اهـ.

كَلَامُهُ، وَفِيهِ بَعْضُ مَا يُتَعَقَّبُ، فَإِنَّ الَّذِي مَثَّلَ بِالْأَفْعَى لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا تُلَامِسُ الْمُصَابَ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِ مِنْ سُمِّهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ جِنْسًا مِنَ الْأَفَاعِي اشْتُهِرَ أَنَّهَا إِذَا وَقَعَ بَصَرُهَا عَلَى الْإِنْسَانِ هَلَكَ فَكَذَلِكَ الْعَائِنُ، وَقَدْ أَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ الْمَاضِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَبْتَرِ وَذِي الطُّفْيَتَيْنِ قَالَ: فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ وَيُسْقِطَانِ الْحَبَلَ، وَلَيْسَ مُرَادُ الْخَطَّابِيِّ بِالتَّأْثِيرِ الْمَعْنَى الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ، بَلْ مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ مِنْ حُصُولِ الضَّرَرِ لِلْمَعْيُونِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: أَكْثَرُ مَنْ يَمُوتُ بَعْدَ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدْرِهِ بِالنَّفْسِ، قَالَ الرَّاوِي: يَعْنِي بِالْعَيْنِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِوُجُودِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُوَى وَالْخَوَاصِّ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ كَمَا يَحْدُثُ لِمَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مَنْ يَحْتَشِمُهُ مِنَ الْخَجَلِ فَيَرَى فِي وَجْهِهِ حُمْرَةً شَدِيدَةً لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَذَا الِاصْفِرَارُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مِنْ يَخَافُهُ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْقَمُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَتَضْعُفُ قُوَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مَا خَلَقَ

ص: 200

اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الْأَرْوَاحِ مِنَ التَّأْثِيرَاتِ وَلِشِدَّةِ ارْتِبَاطِهَا بِالْعَيْنِ نُسِبَ الْفِعْلُ إِلَى الْعَيْنِ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِلرُّوحِ، وَالْأَرْوَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي طَبَائِعِهَا وَقُوَاهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا وَخَوَاصِّهَا: فَمِنْهَا مَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَدَنِ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ اتِّصَالٍ بِهِ لِشِدَّةِ خُبْثِ تِلْكَ الرُّوحِ وَكَيْفِيَّتِهَا الْخَبِيثَةِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّأْثِيرَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَخَلْقِهِ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الِاتِّصَالِ الْجُسْمَانِيِّ، بَلْ يَكُونُ تَارَةً بِهِ وَتَارَةً بِالْمُقَابَلَةِ، وَأُخْرَى بِمُجْرِدِ الرُّؤْيَةِ، وَأُخْرَى بِتَوَجُّهِ الرُّوحِ كَالَّذِي يَحْدُثُ مِنَ الْأَدْعِيَةِ وَالرُّقَى وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَتَارَةً يَقَعُ ذَلِكَ بِالتَّوَهُّمِ وَالتَّخَيُّلِ، فَالَّذِي يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِ الْعَائِنِ سَهْمٌ مَعْنَوِيٌّ إِنْ صَادَفَ الْبَدَنَ لَا وِقَايَةَ لَهُ أَثَّرَ فِيهِ، وَإِلَّا لَمْ يَنْفُذِ السَّهْمُ، بَلْ رُبَّمَا رُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ كَالسَّهْمِ الْحِسِّيِّ سَوَاءً.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ) هُوَ الْجَدَلِيُّ الْكُوفِيُّ تَابِعِيٌّ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْهَادِ لَهُ رُؤْيَةٌ وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ. وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مِسْعَرٍ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ مِثْلُهُ، لَكِنْ شَكَّ فِيهِ فَقَالَ: أَوْ قَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ) أَيْ يُطْلَبُ الرُّقْيَةَ مِمَّنْ يَعْرِفُ الرُّقَى بِسَبَبِ الْعَيْنِ، كَذَا وَقَعَ بِالشَّكِّ هَلْ قَالَتْ: أَمَرَ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ أَوْ: أَمَرَنِي، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ: أَمَرَنِي جَزْمًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ: كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَسَتَرْقِيَ، وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ مِسْعَرٍ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ: كَانَ يَأْمُرُهَا وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ أَمَرَهَا أَنْ تَسْتَرِقِيَ، وَهُوَ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الرُّقْيَةِ لِمَنْ أَصَابَهُ الْعَيْنُ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ تُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ الْحَدِيثَ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِآلِ حَزْمٍ فِي الرُّقْيَةِ، وَقَالَ لِأَسْمَاءَ: مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً؟ أَتُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْعَيْنَ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: ارْقِيهِمْ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: ارْقِيهِمْ، وَقَوْلُهُ: ضَارِعَةً بِمُعْجَمَةٍ أَوَّلُهُ أَيْ نَحِيفَةً، وَوَرَدَ فِي مُدَاوَاةِ الْمَعْيُونِ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ الْعَائِنَ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَغْتَسِلَ مِنْهُ الْمَعِينُ، وَسَأَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ اغْتِسَالِهِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا.

وَقَالَ عُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ) قَالَ الْحَاكِمُ، وَالْجَوْزَقِيُّ، وَالْكَلَابَاذِيُّ، وَأَبُو مَسْعُودٍ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، هُوَ الذُّهْلِيُّ نُسِبَ إِلَى جَدِّ أَبِيهِ؛ فَإِنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ فَارِسٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَرْوِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى فَيَنْسِبُ أَبَاهُ إِلَى جَدِّ أَبِيهِ أَيْضًا فَيَقُولُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، قَالُوا: وَقَدْ حَدَّثَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْجَارُودِ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، وَهِيَ قَرِينَةٌ فِي أَنَّهُ الْمُرَادُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ هُنَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الذُّهْلِيُّ، فَانْتَفَى أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ جَبَلَةَ الرَّافِعِيُّ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا هُوَ فِي كِتَابِ الزَّهْرِيَّاتِ جَمْعُ الذُّهْلِيِّ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِمَّا نَزَلَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ؛ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ فِي الْعِتْقِ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُرْوَةَ رَجُلَانِ، وَهُنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِيهِ خَمْسَةُ أَنْفُسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ سُلَمِيٌّ قَدِ أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمَا أَدْرِي لَقِيَهُ أَمْ لَا، وَهُوَ مِنْ

ص: 201

أَقْرَانِ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخِهِ، وَمَا لَهُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَالِيًا بِالنِّسْبَةِ لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ

فَذَكَرَهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ شَيْخُهُ خَوْلَانِيٌّ حِمْصِيٌّ كَانَ كَاتِبًا لِلزُّبَيْدِيِّ شَيْخِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؟ وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

(تَنْبِيهٌ):

اجْتَمَعَ فِي هَذَا السَّنَدِ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى الزُّهْرِيِّ سِتَّةُ أَنْفُسٍ فِي نَسَقِ كُلٍّ مِنْهُمُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَإِذَا رَوَيْنَا الصَّحِيحَ مِنْ طَرِيقِ الْفَرَاوِيُّ، عَنِ الْحَفْصِيِّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ كَانُوا عَشْرَةً.

قَوْلُهُ: (رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ قَالَ لِجَارِيَةٍ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ.

قَوْلُهُ: (فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُورُ ضَمُّهَا وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ وَحَكَى عِيَاضٌ ضَمَّ أَوَّلِهِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: هُوَ سَوَادٌ فِي الْوَجْهِ، وَمِنْهُ سَفْعَةُ الْفَرَسِ: سَوَادُ نَاصِيَتِهِ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ: حُمْرَةٌ يَعْلُوهَا سَوَادٌ، وَقِيلَ: صُفْرَةٌ، وَقِيلَ: سَوَادٌ مَعَ لَوْنٍ آخَرَ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَوْنٌ يُخَالِفُ لَوْنَ الْوَجْهِ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَحَاصِلُهَا أَنَّ بِوَجْهِهَا مَوْضِعًا عَلَى غَيْرِ لَوْنِهِ الْأَصْلِيِّ، وَكَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بِحَسَبِ اللَّوْنِ الْأَصْلِيِّ، فَإِنْ كَانَ أَحْمَرَ فَالسَّفْعَةُ سَوَادٌ صِرْفٌ، وَإِنْ كَانَ أَبْيَضَ فَالسَّفْعَةُ صُفْرَةٌ وَإِنْ كَانَ أَسْمَرَ فَالسَّفْعَةُ حُمْرَةٌ يَعْلُوهَا سَوَادٌ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَارِعِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ السَّفْعَ سَوَادُ الْخَدَّيْنِ مِنَ الْمَرْأَةِ الشَّاحِبَةِ، وَالشُّحُوبُ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ: تَغَيُّرُ اللَّوْنِ بِهُزَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، وَتُطْلَقُ السَّفْعَةُ عَلَى الْعَلَامَةِ، وَمِنْهُ بِوَجْهِهَا سَفْعَةُ غَضَبٍ. وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى تَغَيُّرِ اللَّوْنِ، وَأَصْلُ السَّفْعِ الْأَخْذُ بِقَهْرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى:{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} وَيُقَالُ: إنَّ أَصْلَ السَّفْعِ الْأَخْذُ بِالنَّاصِيَةِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهَا، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا: لَنُعَلِّمَنَّهُ بِعَلَامَةِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ سَوَادِ الْوَجْهِ وَنَحْوِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَنُذِلَّنَّهُ، ويمْكِنُ رَدُّ الْجَمِيعِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ؛ فَإِنَّهُ إِذَا أُخِذَ بِنَاصِيَتِهِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ أَذَلَّهُ وَأَحْدَثَ لَهُ تَغَيُّرَ لَوْنِهِ فَظَهَرَتْ فِيهِ تِلْكَ الْعَلَامَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: قَوْمٌ أَصَابَهُمْ سَفْعٌ مِنَ النَّارِ.

قَوْلُهُ: (اسْتَرْقُوا لَهَا) بِسُكُونِ الرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ) بِسُكُونِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقَالَ إِنَّ بِهَا نَظْرَةً فَاسْتَرْقُوا لَهَا، يَعْنِي بِوَجْهِهَا صُفْرَةٌ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَا عَرَفْتُ قَائِلَهُ إِلَّا أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ الزُّهْرِيُّ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ عِيَاضٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، وَتَوْجِيهُهُ مَا قَدَّمْتُهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالنَّظْرَةِ فَقِيلَ: عَيْنٌ مِنْ نَظَرِ الْجِنَّ، وَقِيلَ: مِنَ الْإِنْسِ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِالْعَيْنِ فَلِذَلِكَ أَذِنَ صلى الله عليه وسلم فِي الِاسْتِرْقَاءِ لَهَا، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ عَلَى وَفْقِ التَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ) يَعْنِي الْحِمْصِيَّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو يُوسُفَ (عَنِ الزُّبَيْدِيِّ) أَيْ عَلَى وَصْلِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ عُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ:، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي لَمْ يَذْكُرْ فِي إِسْنَادِهِ زَيْنَبَ وَلَا أُمَّ سَلَمَةَ، فَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ فَوَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزَّهْرِيَّاتِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ، مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلَاءِ الْحِمْصِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْحِمْصِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ بِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا، وَأَمَّا رِوَايَةُ عُقَيْلٍ فَرَوَاهَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ وَلَفْظُهُ: إنَّ جَارِيَةً دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: كَأَنَّ بِهَا سَفْعَةً أَوْ خُطِرَتْ بِنَارٍ، هَكَذَا وَقَعَ لَنَا مَسْمُوعًا فِي جُزْءٍ مِنْ فَوَائِدِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ طَاهِرٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ وَهْبٍ، وَرَوَاهُ اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ أَيْضًا، وَوَجَدْتُهُ فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِهِ، لَكِنْ زَادَ فِيهِ عَائِشَةَ بَعْدَ عُرْوَةَ، وَهُوَ وَهْمٌ فِيمَا أَحْسَبُ، وَوَجَدْتُهُ فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِجَارِيَةٍ

فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَاعْتَمَدَ الشَّيْخَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ الزُّبَيْدِيِّ لِسَلَامَتِهَا مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَلَمْ يَلْتَفِتَا إِلَى تَقْصِيرِ يُونُسَ فِيهِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْأَوْزَاعِيَّ يُفَضِّلُ الزُّبَيْدِيَّ عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، يَعْنِي فِي الضَّبْطِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُلَازِمُهُ كَثِيرًا حَضَرًا وَسَفَرًا، وَقَدْ

ص: 202

تَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعُمْدَةَ لِمَنْ وَصَلَ عَلَى مَنْ أَرْسَلَ لِاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ عَلَى تَصْحِيحِ الْمَوْصُولِ هُنَا عَلَى الْمُرْسَلِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا لَيْسَ لَهُمَا فِي تَقْدِيمِ الْوَصْلِ عَمَلٌ مُطَّرِدٌ بَلْ هُوَ دَائِرٌ مَعَ الْقَرِينَةِ، فَمَهْمَا تَرَجَّحَ بِهَا اعْتَمَدَاهُ، وَإِلَّا فَكَمْ حَدِيثٍ أَعْرَضَا عَنْ تَصْحِيحِهِ لِلِاخْتِلَافِ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَقَدْ جَاءَ حَدِيثُ عُرْوَةَ هَذَا مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَسَقَطَ مِنْ رِوَايَتِهِ ذِكْرُ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَوَاهُ مَالِكٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَسَمَّى جَمَاعَةً كُلَّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَلَمْ يُجَاوِزَا بِهِ عُرْوَةَ، وَتَفَرَّدَ أَبُو مُعَاوِيَةَ بِذِكْرِ أُمِّ سَلَمَةَ فِيهِ وَلَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِهَذِهِ الطَّرِيقِ لِانْفِرَادِ الْوَاحِدِ عَنِ الْعَدَدِ الْجَمِّ، وَإِذَا انْضَمَّتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ إِلَى رِوَايَةِ الزُّبَيْدِيِّ قَوِيَتْ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌36 - باب الْعَيْنُ حَقٌّ

5740 -

حَدَّثَني إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْعَيْنُ حَقٌّ وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْعَيْنِ حَقٌّ) أَيِ الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ شَيْءٌ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ، أَوْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَحَقَّقَ كَوْنُهُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَخَذَ الْجُمْهُورُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَنْكَرَهُ طَوَائِفُ الْمُبْتَدِعَةِ لِغَيْرِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَيْسَ مُحَالًا فِي نَفْسِهِ وَلَا يُؤَدِّي إِلَى قَلْبِ حَقِيقَةٍ وَلَا إِفْسَادِ دَلِيلٍ، فَهُوَ مِنْ مُتَجَاوِزَاتِ الْعُقُولِ، فَإِذَا أَخْبَرَ الشَّرْعُ بِوُقُوعِهِ لَمْ يَكُنْ لِإِنْكَارِهِ مَعْنًى، وَهَلْ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ إِنْكَارِهِمْ هَذَا وَإِنْكَارِهِمْ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ أُمُورِالْأَخِرَةِ.

قَوْلُهُ: (الْعَيْنُ حَقٌّ، وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ) لَمْ تَظْهَرِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، فَكَأَنَّهُمَا حَدِيثَانِ مُسْتَقِلَّانِ، وَلِهَذَا حَذَفَ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ رِوَايَتِهِمَا مَعَ أَنَّهُمَا أَخْرَجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ جِهَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكُهُمَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُحْدِثُ فِي الْعُضْوِ لَوْنًا غَيْرَ لَوْنِهِ الْأَصْلِيِّ، وَالْوَشْمُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ أَنْ يَغْرِزَ إِبْرَةً أَوْ نَحْوَهَا فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْبَدَنِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ ثُمَّ يُحْشَى ذَلِكَ الْمَوْضِعُ بِالْكُحْلِ أَوْ نَحْوِهِ فَيَخْضَرُّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهِ فِي بَابِ الْمُسْتَوْشِمَةِ مِنْ أَوَاخِرِ كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

وَقَدْ ظَهَرَتْ لِي مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ لَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْبَاعِثِ عَلَى عَمَلِ الْوَشْمِ تَغَيُّرُ صِفَةِ الْمَوْشُومِ لِئَلَّا تُصِيبَهُ الْعَيْنُ، فَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ مَعَ إِثْبَاتِ الْعَيْنِ، وَأَنَّ التَّحَيُّلَ بِالْوَشْمِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يَسْتَنِدُ إِلَى تَعْلِيمِ الشَّارِعِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَأَنَّ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ سَيَقَعُ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقٌ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْأُولَى فَفِيهَا تَأْكِيدٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى سُرْعَةِ نُفُوذِهَا وَتَأْثِيرِهِ فِي الذَّاتِ، وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: الْعَيْنُ حَقٌّ يُرِيدُ بِهِ الْقَدَرَ، أَيِ: الْعَيْنَ الَّتِي تَجْرِي مِنْهَا الْأَحْكَامُ، فَإِنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يُصِيبُ مِنَ الضَّرَرِ بِالْعَادَةِ عِنْدَ نَظَرِ النَّاظِرِ إِنَّمَا هُوَ بِقَدَرِ اللَّهِ السَّابِقِ لَا بِشَيْءٍ يُحْدِثُهُ النَّاظِرُ فِي الْمَنْظُورِ. وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ الْحَدِيثَ ظَاهِرٌ فِي الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْقَدَرِ وَبَيْنَ الْعَيْنِ، وَإِنْ كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَيْنَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْدُورِ، لَكِنْ ظَاهِرُهُ إِثْبَاتُ الْعَيْنِ الَّتِي تُصِيبُ إِمَّا بِمَا جَعَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهَا مِنْ ذَلِكَ وَأَوْدَعَهُ فِيهَا، وَإِمَّا بِإِجْرَاءِ الْعَادَةِ بِحُدُوثِ الضَّرَرِ عِنْدَ تَحْدِيدِ النَّظَرِ، وَإِنَّمَا جَرَى الْحَدِيثُ مَجْرَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِثْبَاتِ الْعَيْنِ، لَا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَرُدَّ الْقَدَرَ شَيْءٌ

ص: 203

إِذِ الْقَدَرُ عِبَارَةٌ عَنْ سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ، وَهُوَ لَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ.

وَحَاصِلُهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ شَيْئًا لَهُ قُوَّةٌ بِحَيْثُ يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَكَانَ الْعَيْنُ. لَكِنَّهَا لَا تُسْبَقُ، فَكَيْفَ غَيْرُهَا؟ وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَكْثَرُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أُمَّتِي بَعْدَ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ بِالْأَنْفُسِ قَالَ الرَّاوِي: يَعْنِي بِالْعَيْنِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ وَصِحَّةُ أَمْرِ الْعَيْنِ وَأَنَّهَا قَوِيَّةُ الضَّرَرِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَمْرُ الْعَايِنِ بِالِاغْتِسَالِ عِنْدَ طَلَبِ الْمَعْيُونِ مِنْهُ ذَلِكَ فَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ لِذَلِكَ كَانَ مَعْلُومًا بَيْنَهُمْ، فَأَمَرَهُمُ إِنْ لَا يَمْتَنِعُوا مِنْهُ إِذَا أُرِيدَ مِنْهُمْ، وَأَدْنَى مَا فِي ذَلِكَ رَفْعُ الْوَهْمِ الْحَاصِلِ فِي ذَلِكَ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ.

وَحَكَى الْمَازِرِيُّ فِيهِ خِلَافًا وَصَحَّحَ الْوُجُوبَ وَقَالَ: مَتَى خَشِيَ الْهَلَاكَ وَكَانَ اغْتِسَالُ الْعَائِنِ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالشِّفَاءِ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ وَهَذَا أَوْلَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ صِفَةَ الِاغْتِسَالِ، وَقَدْ وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَاءٍ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَزَّارِ مِنَ الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ - وَكَانَ أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ - فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدٍ مُخَبَّأَةٍ، فَلُبِطَ - أَيْ صُرِعَ وَزْنًا وَمَعْنًى - سَهْلٌ. فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلْ تَتَّهِمُونَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةٍ. فَدَعَا عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ فَقَالَ: عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ هَلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ.

ثُمَّ قَالَ: اغْتَسِلْ لَهُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ يَصُبُّ ذَلِكَ الْمَاءَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ ثُمَّ يُكْفَأُ الْقَدَحُ، ; فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، لَفْظُ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَفْظِ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ أَنَّهُ يَصُبُّ صَبَّةً عَلَى وَجْهِهِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْضَائِهِ صَبَّةً صَبَّةً فِي الْقَدَحِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ يُكْفَأُ الْقَدَحُ وَرَاءَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ مَرَّ بِسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ. ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَأَمَرَ عَامِرًا أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَرُكْبَتَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ، قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَأَمَرَ أَنْ يُكْفَأَ الْإِنَاءُ مِنْ خَلْفِهِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: الْمُرَادُ بِدَاخِلَةِ الْإِزَارِ الطَّرَفُ الْمُتَدَلِّي الَّذِي يَلِي حَقْوَهُ الْأَيْمَنَ، قَالَ: فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْفَرْجِ انْتَهَى. وَزَادَ عِيَاضٌ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَلِي جَسَدَهُ مِنَ الْإِزَارِ، وَقِيلَ: أَرَادَ مَوْضِعَ الْإِزَارِ مِنَ الْجَسَدِ، وَقِيلَ: أَرَادَ وَرِكَهُ لِأَنَّهُ مَعْقِدٌ الْإِزَارَ.

وَالْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّأِ وَفِيهِ عَنْ مَالِكٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: اغْتَسَلَ سَهْلٌ - فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِيهِ: فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ يَنْظُرُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدِ عَذْرَاءَ، فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ وَعَكُهُ - وَفِيهِ - أَلَا بَرَّكْتَ؟ إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، تَوَضَّأَ لَهُ، فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ فَرَاحَ سَهْلٌ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.

(تَنْبِيهَاتٌ):

الْأَوَّلُ: اقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ عَلَى قَوْلِهِ: الِاسْتِغْسَالُ أَنْ يُقَالَ لِلْعَائِنِ: اغْسِلْ دَاخِلَةَ إِزَارِكَ مِمَّا يَلِي الْجِلْدَ، فَإِذَا فَعَلَ صَبَّهُ عَلَى الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ. وَهَذَا يُوهِمُ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ عَجِيبٌ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ نُقِلَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ كَلَامُ عِيَاضٍ بِطُولِهِ. الثَّانِي: قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، فَلَا يُرَدُّ لِكَوْنِهِ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ تَوَقَّفَ فِيهِ مُتَشَرِّعٌ قُلْنَا لَهُ: قُلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ عَضَّدَتْهُ التَّجْرِبَةُ وَصَدَّقَتْهُ الْمُعَايَنَةُ. أَوْ مُتَفَلْسِفٌ فَالرَّدُّ عَلَيْهِ أَظْهَرُ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْأَدْوِيَةَ تُفْعَلُ بِقُوَاهَا، وَقَدْ تُفْعَلُ بِمَعْنًى لَا يُدْرَكُ،

ص: 204

وَيُسَمُّونَ مَا هَذَا سَبِيلُهُ الْخَوَاصَّ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا مَنْ أَنْكَرَهَا وَلَا مَنْ سَخِرَ مِنْهَا وَلَا مَنْ شَكَّ فِيهَا أَوْ فَعَلَهَا مُجَرِّبًا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ، وَإِذَا كَانَ فِي الطَّبِيعَةِ خَوَاصُّ لَا يَعْرِفُ الْأَطِبَّاءُ عِلَلَهَا بَلْ هِيَ عِنْدَهُمْ خَارِجَةٌ عَنِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا تُفْعَلُ بِالْخَاصِّيَّةِ فَمَا الَّذِي تُنْكِرُ جَهَلَتَهُمْ مِنَ الْخَوَاصِّ الشَّرْعِيَّةِ؟ هَذَا مَعَ أَنَّ فِي الْمُعَالَجَةِ بِالِاغْتِسَالِ مُنَاسَبَةً لَا تَأْبَاهَا الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ، فَهَذَا تِرْيَاقُ سُمِّ الْحَيَّةِ يُؤْخَذُ مِنْ لَحْمِهَا، وَهَذَا عِلَاجُ النَّفْسِ الْغَضَبِيَّةِ تُوضَعُ الْيَدُ عَلَى بَدَنِ الْغَضْبَانِ فَيَسْكُنُ، فَكَأَنَّ أَثَرُ تِلْكَ الْعَيْنِ كَشُعْلَةِ نَارٍ وَقَعَتْ عَلَى جَسَدٍ، فَفِي الِاغْتِسَالِ إِطْفَاءٌ لِتِلْكَ الشُّعْلَةِ.

ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ الْخَبِيثَةُ تَظْهَرُ فِي الْمَوَاضِعِ الرَّقِيقَةِ مِنَ الْجَسَدِ لِشِدَّةِ النُّفُوذِ فِيهَا، وَلَا شَيْءَ أَرَقَّ مِنَ الْمَغَابِنِ، فَكَانَ فِي غَسْلِهَا إِبْطَالٌ لِعَمَلِهَا، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ لِلْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ اخْتِصَاصًا. وَفِيهِ أَيْضًا وُصُولُ أَثَرِ الْغَسْلِ إِلَى الْقَلْبِ مِنْ أَرَقِّ الْمَوَاضِعِ وَأَسْرَعِهَا نَفَاذًا، فَتَنْطَفِئُ تِلْكَ النَّارُ الَّتِي أَثَارَتْهَا الْعَيْنُ بِهَذَا الْمَاءِ. الثَّالِثُ: هَذَا الْغَسْلُ يَنْفَعُ بَعْدَ اسْتِحْكَامِ النَّظْرَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْإِصَابَةِ وَقَبْلَ الِاسْتِحْكَامِ فَقَدْ أَرْشَدَ الشَّارِعُ إِلَى مَا يَدْفَعُهُ بِقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الْمَذْكُورَةِ كَمَا مَضَى: أَلَا بَرَّكْتَ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ السُّنِّيِّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ السُّنِّيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَمْ يَضُرَّهُ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا أَنَّ الْعَائِنَ إِذَا عُرِفَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالِاغْتِسَالِ، وَأَنَّ الِاغْتِسَالَ مِنَ النَّشْرَةِ النَّافِعَةِ، وَأَنَّ الْعَيْنَ تَكُونُ مَعَ الْإِعْجَابِ وَلَوْ بِغَيْرِ حَسَدٍ، وَلَوْ مِنَ الرَّجُلِ الْمُحِبِّ، وَمِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ الَّذِي يُعْجِبُهُ الشَّيْءُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الدُّعَاءِ لِلَّذِي يُعْجِبُهُ بِالْبَرَكَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ رُقْيَةً مِنْهُ، وَأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاغْتِسَالِ بِالْفَضَاءِ، وَأَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ قَدْ تَقْتُلُ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بِذَلِكَ فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ أَتْلَفَ الْعَائِنُ شَيْئًا ضَمِنَهُ، وَلَوْ قَتَلَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ عَادَةً، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالسَّاحِرِ عِنْدَ مَنْ لَا يَقْتُلُهُ كُفْرًا، انْتَهَى. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّافِعِيَّةُ لِلْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ، بَلْ مَنَعُوهُ وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ غَالِبًا وَلَا يُعَدُّ مُهْلِكًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: وَلَا دِيَةَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُنْضَبِطٍ عَامٍّ دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِمَّا لَا انْضِبَاطَ لَهُ، كَيْفَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِعْلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ حَسَدٌ وَتَمَنٍّ لِزَوَالِ نِعْمَةٍ. وَأَيْضًا فَالَّذِي يَنْشَأُ عَنِ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ حُصُولُ مَكْرُوهٍ لِذَلِكَ الشَّخْصِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ فِي زَوَالِ الْحَيَاةِ، فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَكْرُوهٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الْعَيْنِ اهـ. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا الْحُكْمُ بِقَتْلِ السَّاحِرِ؛ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِيهِ عُسْرٌ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مَنْعُ الْعَائِنِ إِذَا عُرِفَ بِذَلِكَ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ وَأَنْ يَلْزَمَ بَيْتَهُ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَقُومُ بِهِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ الَّذِي أَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه بِمَنْعِهِ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاضِحًا فِي بَابِهِ، وَأَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الثُّومِ الَّذِي مَنَعَ الشَّارِعُ آكِلَهُ مِنْ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ مُتَعَيِّنٌ لَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ تَصْرِيحٌ بِخِلَافِهِ.

‌37 - بَاب رُقْيَةِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ

5741 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الرُّقْيَةِ مِنْ الْحُمَةِ فَقَالَتْ: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرُّقْيَةَ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ.

ص: 205

قَوْلُهُ: (بَابُ رُقْيَةِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ) أَيْ مَشْرُوعِيَّةُ ذَلِكَ، وَأَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى مَا سَأَذْكُرُهُ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ؛ حَيْثُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَسَّانَ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ) هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنَ اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (رَخَّصَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الرُّقَى كَانَ مُتَقَدِّمًا، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي بَابِ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ذَوَاتُ السُّمُومِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ بِسَنَدِهِ رَخَّصَ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ.

‌38 - بَاب رُقْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

5742 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَثَابِتٌ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَقَالَ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ اشْتَكَيْتُ، فَقَالَ أَنَسٌ: أَلَا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا.

5743 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبْ الْبَاسَ اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَماً".

قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثْتُ بِهِ مَنْصُوراً فَحَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ

نَحْوَهُ.

5744 -

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْقِي يَقُولُ امْسَحْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ بِيَدِكَ الشِّفَاءُ لَا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ أَنْتَ".

5745 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا".

[الحديث 5745 - طرفه في: 5746]

5746 -

حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الرُّقْيَةِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا وَرِيقَةُ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا".

قَوْلُهُ: (بَابُ رُقْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيِ الَّتِي كَانَ يَرْقِي بِهَا. ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَنَسٍ

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ، وَالْإِسْنَادُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ ثَابِتٌ) هُوَ الْبُنَانِيُّ (يَا أَبَا حَمْزَةَ) هِيَ كُنْيَةُ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (اشْتَكَيْتُ) بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ مَرِضْتُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: إِنِّي اشْتَكَيْتُ.

ص: 206

قَوْلُهُ: (أَلَا) بِتَخْفِيفِ اللَّامِ لِلْعَرَضِ وَأَرْقِيكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ.

قَوْلُهُ: (مُذْهِبُ الْبَاسِ) بِغَيْرِ هَمْزٍ لِلْمُؤَاخَاةِ فَإِنَّ أَصْلَهُ الْهَمْزَةُ.

قَوْلُهُ: (أَنْتَ الشَّافِي) يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَسْمِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِمَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا يُوهِمُ نَقْصًا، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ وَهَذَا مِنْ ذَاكَ، فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}

قَوْلُهُ: (لَا شَافِي إِلَّا أَنْتَ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ مِنَ الدَّوَاءِ وَالتَّدَاوِي إِنْ لَمْ يُصَادِفْ تَقْدِيرَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِلَّا فَلَا يَنْجَعُ.

قَوْلُهُ: (شِفَاءً) مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ اشْفِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هُوَ.

قَوْلُهُ: (لَا يُغَادِرُ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ لَا يَتْرُكُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْمَرْضَى، وَقَوْلُهُ: سُقْمًا بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ، وَبِفَتْحَتَيْنِ أَيْضًا. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي التَّرْجَمَةِ لِلْفَاعِلِ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِلْمَفْعُولِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَهُ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ.

قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثْتُ بِهِ مَنْصُورًا، فَحَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ الْأَعْمَشُ، وَمُسْلِمٌ هُوَ أَبُو الضُّحَى مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنَ اسْمِهِ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمَ بْنَ عِمْرَانَ لِكَوْنِهِ يَرْوِي عَنْ مَسْرُوقٍ وَيَرْوِي الْأَعْمَشُ عَنْهُ، وَهُوَ تَجْوِيزٌ عَقْلِيٌّ مَحْضٌ يَمُجُّهُ سَمْعُ الْمُحَدِّثِ، عَلَى أَنَّنِي لَمْ أَرَ لِمُسْلِمِ بْنِ عِمْرَانَ الْبَطِينِ رِوَايَةً عَنْ مَسْرُوقٍ وَإِنْ كَانَتْ مُمْكِنَةً، وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ هُشَيْمٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، وَمِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ كُلِّهِمْ عَنِ الْأَعْمَشِ، قَالَ: بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ، فَوَضَّحَ أَنَّ مُسْلِمًا الْمَذْكُورَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ هُوَ أَبُو الضُّحَى، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ عَنْ يَحْيَى سَمَّاهُ وَبَعْضُهُمْ كَنَّاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِ.

قَوْلُهُ: (يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى) أَيْ عَلَى الْوَجَعِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّفَاؤُلِ لِزَوَالِ ذَلِكَ الْوَجَعِ.

قَوْلُهُ: (وَاشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَالضَّمِيرُ فِي اشْفِهِ لِلْعَلِيلِ، أَوْ هِيَ هَاءُ السَّكْتِ.

قَوْلُهُ: (لَا شِفَاءَ) بِالْمَدِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَنَا أَوْ لَهُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا شِفَاؤُكَ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ لَا شِفَاءَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثْتُ بِهِ مَنْصُورًا) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَصَارَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى مَسْرُوقٍ طَرِيقَانِ، وَإِذَا ضَمَّ الطَّرِيقَ الَّذِي بَعْدَهُ إِلَيْهِ صَارَ إِلَى عَائِشَةَ طَرِيقَانِ، وَإِذَا ضُمَّ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ صَارَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ طَرِيقَانِ.

قَوْلُهُ: (نَحْوُهُ) تَقَدَّمَ سِيَاقُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْمَرْضَى، مَعَ بَيَانِ الِاخْتِلَافِ عَلَى الْأَعْمَشِ، وَمَنْصُورٍ فِي الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَسْرُوقٍ، وَمَنْ أَفْرَدَ وَمَنْ جَمَعَ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ وَاضِحًا.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: (النَّضْرُ) هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَرْقِي) بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: كَانَ يُعَوِّذُ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ أَيْضًا فِي إِيِرَادِ طَرِيقِ عُرْوَةَ، وَإِنْ كَانَ سِيَاقُ مَسْرُوقٍ أَتَمَّ، لَكِنْ عُرْوَةُ صَرَّحَ بِكَوْنِ ذَلِكَ رُقْيَةً فَيُوَافِقُ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي أَنَّهَا رُقْيَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (امْسَحْ) هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَذْهِبْ وَالْمُرَادُ الْإِزَالَةُ.

قَوْلُهُ: (بِيَدِكَ الشِّفَاءُ لَا كَاشِفَ لَهُ) أَيْ لِلْمَرَضِ (إِلَّا أَنْتَ)، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ، وَقَدَّمَ الْأُولَى لِتَصْرِيحِ سُفْيَانَ بِالتَّحْدِيثِ، وَصَدَقَةُ شَيْخِهِ فِي الثَّانِيَةِ هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، هُوَ ثِقَةٌ، وَيَحْيَى أَشْهَرُ مِنْهُ وَأَكْثَرُ

ص: 207

حَدِيثًا.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ: بِسْمِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ صَدَقَةَ: كَانَ يَقُولُ فِي الرُّقْيَةِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ زِيَادَةٌ فِي أَوَّلِهِ وَلَفْظِهِ: كَانَ إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قُرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأصْبَعِهِ هَكَذَا - وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَهَا - بِسْمِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (تُرْبَةُ أَرْضِنَا) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ تُرْبَةُ، وَقَوْلُهُ: بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتْفُلُ عِنْدَ الرُّقْيَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى إِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى التُّرَابِ، فَعَلِقَ بِهِ شَيْءٌ مِنْهُ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِ الْمَوْضِعَ الْعَلِيلَ أَوِ الْجَرِيحَ قَائِلًا الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ فِي حَالَةِ الْمَسْحِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى مِنْ كُلِّ الْآلَامِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا فَاشِيًّا مَعْلُومًا بَيْنَهُمْ، قَالَ: وَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ وَوَضْعُهَا عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّقْيَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا أَنَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ تُرَابَ الْأَرْضِ لِبُرُودَتِهِ وَيُبْسِهِ يُبْرِئُ الْمَوْضِعَ الَّذِي بِهِ الْأَلَمُ وَيَمْنَعُ انْصِبَابَ الْمَوَادِّ إِلَيْهِ لِيُبْسِهِ مَعَ مَنْفَعَتِهِ فِي تَجْفِيفِ الْجِرَاحِ وَانْدِمَالِهَا. قَالَ: وَقَالَ فِي الرِّيقِ: إِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالتَّحْلِيلِ وَالْإِنْضَاجِ وَإِبْرَاءِ الْجُرْحِ وَالْوَرَمِ، لَا سِيَّمَا مِنَ الصَّائِمِ الْجَائِعِ، وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا وَقَعَتِ الْمُعَالَجَةُ عَلَى قَوَانِينِهَا، مِنْ مُرَاعَاةِ مِقْدَارِ التُّرَابِ وَالرِّيقِ وَمُلَازَمَةِ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتِهِ، وَإِلَّا فَالنَّفْثُ وَوَضْعُ السَّبَّابَةِ عَلَى الْأَرْضِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَا لَيْسَ لَهُ بَالٌ وَلَا أَثَرٌ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ التَّبَرُّكِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَآثَارِ رَسُولِهِ، وَأَمَّا وَضْعُ الْإِصْبَعِ بِالْأَرْضِ فَلَعَلَّهُ لِخَاصِّيَّةٍ فِي ذَلِكَ، أَوْ لِحِكْمَةِ إِخْفَاءِ آثَارِ الْقُدْرَةِ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: قَدْ شَهِدَتِ الْمَبَاحِثُ الطِّبِّيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلرِّيقِ مُدْخَلًا فِي النُّضْجِ وَتَعْدِيلِ الْمِزَاجِ، وَتُرَابُ الْوَطَنِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي حِفْظِ الْمِزَاجِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ تُرَابَ أَرْضِهِ إِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِصْحَابِ مَائِهَا، حَتَّى إِذَا وَرَدَ الْمِيَاهَ الْمُخْتَلِفَةَ جَعَلَ شَيْئًا مِنْهُ فِي سِقَائِهِ لِيَأْمَنَ مَضَرَّةَ ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ الرُّقَى وَالْعَزَائِمَ لَهَا آثَارٌ عَجِيبَةٌ تَتَقَاعَدُ الْعُقُولُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كُنْهِهَا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتُّرْبَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى فِطْرَةِ آدَمَ، وَالرِّيقَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى النُّطْفَةِ، كَأَنَّهُ تَضَرُّعٌ بِلِسَانِ الْحَالِ أَنَّكَ اخْتَرَعْتَ الْأَصْلَ مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ أَبْدَعْتَهُ مِنْهُ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَهَيِّنٌ عَلَيْكَ أَنْ تَشْفِيَ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ نَشْأَتَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ الْمُرَادُ بِأَرْضِنَا أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِبَرَكَتِهَا، وَبَعْضِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِشَرَفِ رِيقِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْصُوصًا. وَفِيهِ نَظَرٌ.

قَوْلُهُ: (يُشْفَى سَقِيمُنَا) ضُبِطَ بِالْوَجْهَيْنِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَسَقِيمُنَا بِالرَّفْعِ، وَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ مُقَدَّرٌ، وَسَقِيمُنَا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ.

(تَنْبِيهٌ):

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الشَّخْصُ الْمَرْقِيُّ، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَهُوَ مَرِيضٌ فَقَالَ: اكْشِفِ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاسِ. ثُمَّ أَخَذَ تُرَابًا مِنْ بَطْحَانَ فَجَعَلَهُ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ نَفَثَ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَبَّهُ عَلَيْهِ.

‌39 - بَاب النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ

5747 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ. فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفِثْ حِينَ يَسْتَيْقِظُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ.

وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَإِنْ كُنْتُ لَارَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا".

ص: 208

5748 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعاً ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ". قَالَ يُونُسُ: كُنْتُ أَرَى ابْنَ شِهَابٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ إِذَا أَتَى إِلَى فِرَاشِهِ.

5749 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ رَهْطاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَدْ نَزَلُوا بِكُمْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ فَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لَرَاقٍ وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حَتَّى لَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اقْسِمُوا فَقَالَ الَّذِي رَقَى لَا تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ أَصَبْتُمْ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ".

قَوْلُهُ: (بَابُ النَّفْثِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ (فِي الرُّقْيَةِ). فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ النَّفْثَ مُطْلَقًا - كَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَحَدِ التَّابِعِينَ - تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وَعَلَى مَنْ كَرِهَ النَّفْثَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خَاصَّةً كَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، فَأَمَّا الْأَسْوَدُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَذْمُومَ مَا كَانَ مِنْ نَفْثِ السَّحَرَةِ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ذَمُّ النَّفْثِ مُطْلَقًا، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا النَّخَعِيُّ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، فَقَدْ قَصُّوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقِصَّةَ، وَفِيهَا أَنَّهُ قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَتَفَلَ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ ذَلِكَ حُجَّةً، وَكَذَا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ النَّفْثِ مِرَارًا، أَوْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا رِيقَ فِيهِ وَتَصْوِيبَ أَنَّ فِيهِ رِيقًا خَفِيفًا. وَذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.

قَوْلُهُ: (سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ) يَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَقَوْلُهُ: فَلْيَنْفُثْ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى جَدْوَاهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كُنْتَ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِدُونِ الْفَاءِ، وَقَوْلُهُ: أَثْقَلُ عَلَيَّ مِنَ الْجَبَلِ، أَيْ: لِمَا كَانَ يُتَوَقَّعُ مِنْ

ص: 209

شَرِّهَا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي

قَوْلُهُ: (سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ أَيْضًا، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفِّهِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٍ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ) أَيْ يَقْرَؤُهَا وَيَنْفُثُ حَالَةَ الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ) فِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ: ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ) وَهَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يُونُسَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بِلَفْظِ: فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ طَفِقْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ فَلَمْ يَذْكُرْهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ يُونُسُ: كُنْتُ أَرَى ابْنَ شِهَابٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ) وَقَعَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ شَاذَّةٌ، وَأَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا اشْتَكَى كَمَا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، وَكَانَ يَفْعَلُهُ إِذَا اشْتَكَى شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمَا حَدِيثَانِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ

حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ اللَّدِيغِ الَّذِي رَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا. وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ، وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّ النَّفْثَ دُونَ التَّفْلِ، وَإِذَا جَازَ التَّفْلُ جَازَ النَّفْثُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَفِيهَا: مَا بِهِ قَلَبَةٌ بِفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ؛ أَيْ مَا بِهِ أَلَمٌ يُقْلَبُ لِأَجْلِهِ عَلَى الْفِرَاشِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْقُلَابِ بِضَمِّ الْقَافِ، وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ فَيُمْسِكُ عَلَى قَلْبِهِ فَيَمُوتُ مِنْ يَوْمِهِ.

‌40 - بَاب مَسْحِ الرَّاقِي الْوَجَعَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى

5750 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ بَعْضَهُمْ يَمْسَحُهُ بِيَمِينِهِ: أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا. فَذَكَرْتُهُ لِمَنْصُورٍ فَحَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَسْحِ الرَّاقِي الْوَجَعَ بِيدِهِ الْيُمْنَى) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا، وَالْقَائِلُ فَذَكَرْتُهُ لِمَنْصُورٍ هُوَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي بَابِ رُقْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

‌41 - بَاب فِي الْمَرْأَةِ تَرْقِي الرَّجُلَ

5751 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنَا أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، فَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا. فَسَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ: كَيْفَ كَانَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ.

ص: 210

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَرْأَةِ تَرْقِي الرَّجُلَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَفِيهِ قَوْلُهَا: كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنَا أَنْفُثُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ بِبَابٍ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا بِذَلِكَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ هُنَا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ فَقَالَ: يَنْفُثُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ.

‌42 - بَاب مَنْ لَمْ يَرْقِ

5752 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي، فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ، فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ، فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا فِي الشِّرْكِ، وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يكتوون ولا يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ نَعَمْ: فَقَامَ آخَرُ، فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا؟ فَقَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرْقِ) هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْقَافِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْقَافِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.

قَوْلُهُ: (حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ) بِنُونٍ مُصَغَّر هُوَ الْوَاسِطِيُّ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي بَابِ مَنِ اكْتَوَى، وَذَكَرْتُ مَنْ زَادَ فِي أَوَّلِهِ قِصَّةً، وَأَنَّ شَرْحَهُ سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ، فَأَمَّا الطِّيَرَةُ فَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا بَعْدَ هَذَا، وَأَمَّا الْكَيُّ فَتَقَدَّمَ ذكر ما فِيهِ هُنَاكَ، وَأَمَّا الرُّقْيَةُ فَتَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ كَرِهَ الرُّقَى وَالْكَيَّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَدْوِيَةِ، وَزَعَمَ أَنَّهُمَا قَادِحَانِ فِي التَّوَكُّلِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْمَازِرِيُّ وَطَائِفَةٌ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ جَانَبَ اعْتِقَادَ الطَّبَائِعِيِّينَ فِي أَنَّ الْأَدْوِيَةَ تَنْفَعُ بِطَبْعِهَا كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الرُّقَى الَّتِي يُحْمَدُ تَرْكُهَا مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَن الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، بِخِلَافِ الرُّقَى بِالذِّكْرِ وَنَحْوِهِ. وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلسَّبْعِينَ أَلْفًا مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ وَفَضِيلَةً انْفَرَدُوا بِهَا عَمَّنْ شَارَكَهُمْ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ وَالدِّيَانَةِ، وَمَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَدْوِيَةَ تُؤَثِّرُ بِطَبْعِهَا أَوْ يَسْتَعْمِلُ رُقَى الْجَاهِلِيَّةِ وَنَحْوَهَا فَلَيْسَ مُسْلِمًا فَلَمْ يَسْلَمْ هَذَا الْجَوَابُ.

ثَانِيهَا: قَالَ الدَّاوُدِيُّ وَطَائِفَةٌ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ فِعْلَ ذَلِكَ فِي الصِّحَّةِ خَشْيَةَ وُقُوعِ الدَّاءِ، وَأَمَّا مَنْ يَسْتَعْمِلُ الدَّوَاءَ بَعْدَ وُقُوعِ الدَّاءِ بِهِ فَلَا، وَقَدْ قَدَّمْتُ هَذَا عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ فِي بَابِ مَنِ اكْتَوَى، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، غَيْرَ أَنَّهُ مُعْتَرَضٌ بِمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ ثُبُوتِ الِاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ وُقُوعِ الدَّاءِ. ثَالِثُهَا قَالَ الْحَلِيمِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ

ص: 211

الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْحَدِيثِ مَنْ غَفَلَ عَنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُعَدَّةِ لِدَفْعِ الْعَوَارِضِ، فَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الِاكْتِوَاءَ وَلَا الِاسْتِرْقَاءَ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَلْجَأٌ فِيمَا يَعْتَرِيهِمُ إِلَّا الدُّعَاءَ وَالِاعْتِصَامَ بِاللَّهِ، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، فَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ طِبِّ الْأَطِبَّاءِ وَرُقَى الرُّقَاةِ، وَلَا يُحْسِنُونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَابِعُهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِتَرْكِ الرُّقَى وَالْكَيِّ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ فِي دَفْعِ الدَّاءِ وَالرِّضَا بِقَدَرِهِ، لَا الْقَدْحُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ لِثُبُوتِ وُقُوعِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَعَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَكِنْ مَقَامُ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ أَعْلَى مِنْ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ، وَإِلَى هَذَا نَحَا الْخَطَّابِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هَذَا مِنْ صِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا وَعَلَائِقِهَا، وَهَؤُلَاءِ هُمْ خَوَاصُّ الْأَوْلِيَاءِ.

وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا وُقُوعُ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِعْلًا وَأَمْرًا، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعِرْفَانِ وَدَرَجَاتِ التَّوَكُّلِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ لِلتَّشْرِيعِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ تَوَكُّلِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ كَامِلَ التَّوَكُّلِ يَقِينًا، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ شَيْئًا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرَ التَّوَكُّلِ، لَكِنْ مَنْ تَرَكَ الْأَسْبَابَ وَفَوَّضَ وَأَخْلَصَ فِي ذَلِكَ كَانَ أَرْفَعَ مَقَامًا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: قِيلَ لَا يَسْتَحِقُّ التَّوَكُّلَ إِلَّا مَنْ لَمْ يُخَالِطْ قَلْبَهُ خَوْفٌ مِنْ شَيْءٍ البَتَّةَ حَتَّى السَّبُعِ الضَّارِي وَالْعَدُوِّ الْعَادِي، وَلَا مَنْ لَمْ يَسْعَ فِي طَلَبِ رِزْقٍ وَلَا فِي مُدَاوَاةِ أَلَمٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ وَثِقَ بِاللَّهِ وَأَيْقَنَ أَنَّ قَضَاءَهُ عَلَيْهِ مَاضٍ لَمْ يَقْدَحْ فِي تَوَكُّلِهِ تَعَاطِيهِ الْأَسْبَابَ اتِّبَاعًا لِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَقَدْ ظَاهَرَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَرْبِ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَلَبِسَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرَ، وَأَقْعَدَ الرُّمَاةَ عَلَى فَمِ الشِّعْبِ، وَخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَأَذِنَ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ وَإِلَى الْمَدِينَةِ، وَهَاجَرَ هُوَ، وَتَعَاطَى أَسْبَابَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَادَّخَرَ لِأَهْلِهِ قُوتَهُمْ وَلَمْ يَنْتَظِرْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَهُوَ كَانَ أَحَقَّ الْخَلْقِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ الَّذِي سَأَلَهُ: أَعْقِلُ نَاقَتِي أَوِ أَدَعُهَا؟ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الِاحْتِرَازَ لَا يَدْفَعُ التَّوَكُّلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌43 - بَاب الطِّيَرَةِ

5753 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ.

5754 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالُوا وَمَا الْفَأْلُ قَالَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ".

[الحديث 5754 - طرفه في: 5755]

قَوْلُهُ (بَابُ الطِّيَرَةِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَقَدْ تُسَكَّنُ، هِيَ التَّشَاؤُمُ بِالشِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرُ تَطَيَّرَ مِثْلُ تَحَيَّرَ حِيرَةً. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: لَمْ يَجِئْ مِنَ الْمَصَادِرِ هَكَذَا غَيْرُ هَاتَيْنِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ سَمِعَ طِيَبَةً، وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمُ التِّوَلَةَ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَصْلُ التَّطَيُّرِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الطَّيْرِ، فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ لِأَمْرٍ فَإِنْ رَأَى الطَّيْرَ طَارَ يَمْنَةً تَيَمَّنَ بِهِ وَاسْتَمَرَّ، وَإِنْ رَآهُ طَارَ يَسْرَةً تَشَاءَمَ بِهِ وَرَجَعَ، وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يُهَيِّجُ الطَّيْرَ لِيَطِيرَ فَيَعْتَمِدُهَا، فَجَاءَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ السَّانِحَ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَالْبَارِحُ بِمُوَحَّدَةٍ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، فَالسَّانِحِ

ص: 212

مَا وَلَّاكَ مَيَامِنَهُ، بِأَنْ يَمُرَّ عَنْ يَسَارِكَ إِلَى يَمِينِكَ، وَالْبَارِحُ بِالْعَكْسِ. وَكَانُوا يَتَيَمَّنُونَ بِالسَّانِحِ وَيَتَشَاءَمُونَ بِالْبَارِحِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَمْيُهُ إِلَّا بِأَنْ يَنْحَرِفَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ سُنُوحِ الطَّيْرِ وَبِرُوحِهَا مَا يَقْتَضِي مَا اعْتَقَدُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَكَلُّفٌ بِتَعَاطِي مَا لَا أَصْلَ لَهُ، إِذْ لَا نُطْقَ لِلطَّيْرِ وَلَا تَمْيِيزَ؛ فَيُسْتَدَلُّ بِفِعْلِهِ عَلَى مَضْمُونِ مَعْنًى فِيهِ، وَطَلَبُ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ مَظَانِّهِ جَهْلٌ مِنْ فَاعِلِهِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ عُقَلَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ يُنْكِرُ التَّطَيُّرَ وَيَتَمَدَّحُ بِتَرْكِهِ، قَالَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ:

وَلَقَدْ غَدَوْتُ وَكُنْتُ لَا

أَغْدُو عَلَى وَاقٍ وَحَاتِمِ

فَإِذَا الْأَشَائِمُ كَالْأَيَامِنِ

وَالْأَيَامِنُ كَالْأَشَائِمِ

وَقَالَ آخَرُ:

الزُّجَّرُ وَالطُّيَّرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمُ

مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالُ

وَقَالَ آخَرُ: وَمَا عَاجِلَاتُ الطَّيْرِ تَدْنِي مِنَ الْفَتَى

نَجَاحًا، وَلَا عَنْ رَيْثِهِنَّ قُصُورُ

وَقَالَ آخَرُ:

لَعُمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوَارِقُ بِالْحَصَى

وَلَا زَاجَرَتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ

وَقَالَ آخَرُ:

تَخَيَّرَ طِيَرَةً فِيهَا زِيَادُ

لِتُخْبِرَهُ وَمَا فِيهَا خَبِيرُ

تَعَلَّمْ إِنَّهُ لَا طِيرَ إِلَّا

عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ

بَلَى شَيْءٌ يُوَافِقُ بَعْضَ شَيْءٍ

أَحَايِينَا، وَبَاطِلُهُ كَثِيرُ

وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَتَطَيَّرُونَ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَصِحُّ مَعَهُمْ غَالِبًا؛ لِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ، وَبَقِيَتْ مِنْ ذَلِكَ بَقَايَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: لَا طِيَرَةَ، وَالطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةٌ لَا يَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الطِّيَرَةُ، وَالظَّنُّ، وَالْحَسَدُ.

فَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَلَا تَرْجِعْ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تَحَقَّقْ، وَهَذَا مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِذَا تَطَيَّرْتُمْ فَامْضُوا، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: لَنْ يَنَالَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا مَنْ تَكَهَّنَ، أَوِ اسْتَقْسَمَ، أَوْ رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ تَطَيُّرًا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّنِي أَظُنُّ أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ هُوَ وَابْنُ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلَّا تَطَيَّرَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ، وَقَوْلُهُ: وَمَا مِنَّا إِلَّا مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ أُدْرِجَ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيمَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ شِرْكًا لِاعْتِقَادِهِمُ أَنَّ ذَلِكَ يَجْلِبُ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ ضُرًّا، فَكَأَنَّهُمُ أَشْرَكُوهُ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَقَوْلُهُ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَسَلَّمَ لِلَّهِ وَلَمْ يَعْبَأْ بِالطِّيَرَةِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا عَرَضَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا مَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الطِّيَرَةِ شَيْءٌ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ.

قَوْلُهُ: (لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ) قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيَانُ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِي سِيَاقِهِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَالتَّطَيُّرُ وَالتَّشَاؤُمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَنَفَى أَوَّلًا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ كَمَا نَفَى الْعَدْوَى، ثُمَّ أَثْبَتَ الشُّؤْمَ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ هُنَاكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: وَإِنْ كَانَتِ الطِّيَرَةُ فِي شَيْءٍ، الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: (لَا طِيَرَةَ،

ص: 213

وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ) يَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ النَّفْيَ فِي الطِّيَرَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ لَكِنْ فِي الشَّرِّ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.

‌44 - بَاب الْفَأْلِ

5755 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ، قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أحَدُكُمْ.

5756 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عن قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ، الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ.

[الحديث 5756 - طرفه في: 5776]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْفَأْلِ) بِفَاءٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ وَقَدْ تُسَهَّلُ، وَالْجَمْعُ فُئُولٌ بِالْهَمْزَةِ جَزْمًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ فِيهِ بِالْإِخْبَارِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: وَمَا الْفَأْلُ)؟ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْإِفْرَادِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ قَالُوا كَرِوَايَةِ شُعَيْبٍ.

قَوْلُهُ: (الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ) وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ: وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ، الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ. وَفِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ: ذَكَرْتُ الطِّيَرَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خَيْرُهَا الْفَأْلُ، وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: هَذِهِ الْإِضَافَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْفَأْلَ مِنْ جُمْلَةِ الطِّيَرَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ إِضَافَةُ تَوْضِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الطِّيَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ التَّيَامُنَ، فَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ التَّيَامُنِ مَرْدُودًا كَالتَّشَاؤُمِ، بَلْ بَعْضُ التَّيَامُنِ مَقْبُولٌ. قُلْتُ: وَفِي الجَوَابِ الْأَوَّلِ دَفْعٌ فِي صَدْرِ السُّؤَالِ، وَفِي الثَّانِي تَسْلِيمُ السُّؤَالِ وَدَعْوَى التَّخْصِيصِ، وَهُوَ أَقْرَبُ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: كَانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْعَيْنُ حَقٌّ، وَأَصْدَقُ الطِّيَرَةِ الْفَأْلُ، فَفِي هَذَا التَّصْرِيحِ أَنَّ الْفَأْلَ مِنْ جُمْلَةِ الطِّيَرَةِ لَكِنَّهُ مُسْتَثْنًى.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي قَوْلِهِ: وَخَيْرُهَا رَاجِعٌ إِلَى الطِّيَرَةِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الطِّيَرَةَ كُلَّهَا لَا خَيْرَ فِيهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَهُوَ مِنْ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ فِي الْمُخَادَعَةِ بِأَنْ يَجْرِيَ الْكَلَامُ عَلَى زَعْمِ الْخَصْمِ حَتَّى لَا يَشْمَئِزَّ عَنِ التَّفَكُّرِ فِيهِ، فَإِذَا تَفَكَّرَ فَأَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ قَبْلَ الْحَقِّ، فَقَوْلُهُ: خَيْرُهَا الْفَأْلُ إِطْمَاعٌ لِلسَّامِعِ فِي الِاسْتِمَاعِ وَالْقَبُولِ، لَا أَنَّ فِي الطِّيَرَةِ خَيْرًا حَقِيقَةً، أَوْ هُوَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ: الصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ أَيِ الْفَأْلُ فِي بَابِهِ أَبْلَغُ مِنَ الطِّيَرَةِ فِي بَابِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الطِّيَرَةِ وَالْفَأْلِ تَأْثِيرُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيمَا هُوَ فِيهِ، وَالْفَأْلُ فِي ذَلِكَ أَبْلَغُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَصْدَرَ الْفَأْلِ عَنْ نُطْقٍ وَبَيَانٍ، فَكَأَنَّهُ خَبَرٌ جَاءَ عَنْ غَيْبٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى حَرَكَةِ الطَّائِرِ أَوْ نُطْقِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَكَلُّفٌ مِمَّنْ

ص: 214

يَتَعَاطَاهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَرَّ طَائِرٌ فَصَاحَ، فَقَالَ رَجُلٌ: خَيْرٌ خَيْرٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عِنْدَ هَذَا لَا خَيْرَ وَلَا شَرَّ. وَقَالَ أَيْضًا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ أَنَّ الْفَأْلَ مِنْ طَرِيقِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، وَالطِّيَرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي السُّوءِ فَلِذَلِكَ كُرِهَتْ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْفَأْلُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَسُوءُ وَفِيمَا يَسُرُّ، وَأَكْثَرُهُ فِي السُّرُورِ.

وَالطِّيَرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الشُّؤْمِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي السُّرُورِ اهـ. وَكَأَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَخَصَّ الطِّيَرَةَ بِمَا يَسُوءُ وَالْفَأْلُ بِمَا يَسُرُّ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يُقْصَدَ إِلَيْهِ فَيَصِيرُ مِنَ الطِّيَرَةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: جَعَلَ اللَّهُ فِي فِطَرِ النَّاسِ مَحَبَّةَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَالْأُنْسَ بِهَا كَمَا جَعَلَ فِيهِمُ الِارْتِيَاحَ بِالْمَنْظَرِ الْأَنِيقِ وَالْمَاءِ الصَّافِي وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَشْرَبُهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ يُعْجِبُهُ أَنْ يَسْمَعَ: يَا نَجِيحُ يَا رَاشِدُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلًا يَسْأَلُ عَنِ اسْمِهِ، فَإِذَا أَعْجَبَهُ فَرِحَ بِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ مَا مُلَخَّصُهُ: كَانَ التَّطَيُّرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْعَرَبِ إِزْعَاجَ الطَّيْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْخُرُوجِ لِلْحَاجَةِ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ: وَهَكَذَا كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ بِصَوْتِ الْغُرَابِ وَبِمُرُورِ الظِّبَاءِ فَسَمَّوُا الْكُلَّ تَطَيُّرًا، لِأَنَّ أَصْلَهُ الْأَوَّلُ. قَالَ: وَكَانَ التَّشَاؤُمُ فِي الْعَجَمِ إِذَا رَأَى الصَّبِيَّ ذَاهِبًا إِلَى الْمُعَلِّمِ تَشَاءَمَ أَوْ رَاجِعًا تَيَمَّنَ، وَكَذَا إِذَا رَأَى الْجَمَلَ مُوقَرًا حِمْلًا تَشَاءَمَ، فَإِنْ رَآهُ وَاضِعًا حِمْلَهُ تَيَمَّنَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَجَاءَ الشَّرْعُ بِرَفْعِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالَ: مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ رَدَّهُ عَنْ سَفَرٍ تَطَيُّرٌ فَلَيْسَ مِنَّا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ.

وَذَلِكَ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الَّذِي يُشَاهِدُهُ مِنْ حَالِ الطَّيْرِ مُوجِبًا مَا ظَنَّهُ وَلَمْ يُضِفِ التَّدْبِيرَ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -، فَأَمَّا إِنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُدَبِّرُ وَلَكِنَّهُ أَشْفَقَ مِنَ الشَّرِّ لِأَنَّ التَّجَارِبَ قَضَتْ بِأَنَّ صَوْتًا مِنْ أَصْوَاتِهَا مَعْلُومًا أَوْ حَالًا مِنْ أَحْوَالِهَا مَعْلُومَةً يُرْدِفُهَا مَكْرُوهٌ فَإِنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ أَسَاءَ، وَإِنْ سَأَلَ اللَّهَ الْخَيْرَ وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ وَمَضَى مُتَوَكِّلًا لَمْ يَضُرَّهُ مَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَيُؤَاخَذُ بِهِ، وَرُبَّمَا وَقَعَ بِهِ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ بِعَيْنِهِ الَّذِي اعْتَقَدَهُ عُقُوبَةً لَهُ كَمَا كَانَ يَقَعُ كَثِيرًا لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ لِأَنَّ التَّشَاؤُمَ سُوءُ ظَنِّ بِاللَّهِ - تَعَالَى - بِغَيْرِ سَبَبٍ مُحَقَّقٍ، وَالتَّفَاؤُلُ حُسْنُ ظَنٍّ بِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى التَّرَخُّصِ فِي الْفَأْلِ وَالْمَنْعُ مِنَ الطِّيَرَةِ هُوَ أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ رَأَى شَيْئًا فَظَنَّهُ حَسَنًا مُحَرِّضًا عَلَى طَلَبِ حَاجَتِهِ فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ. وَإِنْ رَآهُ بِضِدِّ ذَلِكَ فَلَا يَقْبَلُهُ بَلْ يَمْضِي لِسَبِيلِهِ. فَلَوْ قَبِلَ وَانْتَهَى عَنِ الْمُضِيِّ فَهُوَ الطِّيَرَةُ الَّتِي اخْتُصَّتْ بِأَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الشُّؤْمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌45 - بَاب لَا هَامَةَ

5757 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ.

قَوْلُهُ (بَابُ لَا هَامَةَ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، ثُمَّ تَرْجَمَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ: بَابُ لَا هَامَةَ، وَذَكَرَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مُطَوَّلًا وَلَيْسَ فِيهِ: وَلَا طِيَرَةَ، وَهَذَا مِنْ نوادر مَا اتَّفَقَ لَهُ أَنْ يُتَرْجِمَ لِلْحَدِيثِ فِي مَوْضِعَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَسَأَذْكُرُ شَرْحَ الْهَامَةِ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ أَشَارَ بِتَكْرَارِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِ الْهَامَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

ص: 215

‌46 - بَاب الْكِهَانَةِ

5758 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُقيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ: كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ.

5759 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَتَيْنِ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ.

5760 -

وعن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الْجَنِينِ يُقْتَلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ، فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ: كَيْفَ أَغْرَمُ مَا لَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ.

[الحديث 5758 - أطرافه في: 5759، 5760، 6740، 6904، 6909، 6910]

5759 -

حدثنا قتيبة عن مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن امرأتين رمت إحداهما الأخرى بحجر فطرحت جنينها فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة".

5760 -

وعن بن شهاب عن سعيد بن المسيب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة. فقال: الذي قضى عليه كيف أغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك بطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان".

5761 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ".

5762 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاسٌ عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَاناً بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقّاً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا مِنْ الْجِنِّيِّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ".

قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: مُرْسَلٌ "الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ" ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْدَهُ".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَهَانَةِ) وَقَعَ فِي ابْنِ بَطَّالٍ هُنَا وَالسِّحْرُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي نُسَخِ الصَّحِيحِ فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، بَلْ تَرْجَمَةِ السِّحْرِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ عَقِبَ هَذِهِ، وَالْكَهَانَةُ - بِفَتْحِ الْكَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا - ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ كَالْإِخْبَارِ بِمَا سَيَقَعُ فِي الْأَرْضِ مَعَ الِاسْتِنَادِ إِلَى سَبَبٍ، وَالْأَصْلُ فِيه اسْتِرَاقُ الجني السَّمْعِ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَيُلْقِيهِ فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ. وَالْكَاهِنُ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى الْعَرَّافِ، وَالَّذِي يَضْرِبُ بِالْحَصَى، وَالْمُنَجِّمُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِأَمْرٍ آخَرَ وَيَسْعَى فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ. وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ: الْكَاهِنُ: الْقَاضِي بِالْغَيْبِ. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ أَذِنَ بِشَيْءٍ

ص: 216

قَبْلَ وُقُوعِهِ كَاهِنًا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْكَهَنَةُ قَوْمٌ لَهُمُ أَذْهَانٌ حَادَّةٌ وَنُفُوسٌ شِرِّيرَةٌ وَطِبَاعٌ نَارِيَّةٌ، فَأَلِفَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاسُبِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَسَاعَدَتْهُمْ بِكُلِّ مَا تَصِلُ قُدْرَتُهُمُ إِلَيْهِ. وَكَانَتِ الْكَهَانَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاشِيَةً خُصُوصًا فِي الْعَرَبِ لِانْقِطَاعِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ.

وَهِيَ عَلَى أَصْنَافٍ: مِنْهَا مَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ، فَإِنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَصْعَدُونَ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ فَيَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى أَنْ يَدْنُوَ الْأَعْلَى بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْكَلَامَ فَيُلْقِيهِ إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، إِلَى أَنْ يَتَلَقَّاهُ مَنْ يُلْقهِ فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ فَيَزِيدُ فِيهِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ حُرِسَتِ السَّمَاءُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَبَقِيَ مِنَ اسْتِرَاقِهِمْ مَا يَتَخَطَّفُهُ الْأَعْلَى فَيُلْقِيهِ إِلَى الْأَسْفَلِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ الشِّهَابُ، إِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} وَكَانَتِ إِصَابَةُ الْكُهَّانِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَثِيرَةً جِدًّا كَمَا جَاءَ فِي أَخْبَارِ شِقٍّ وَسُطَيْحٍ وَنَحْوِهِمَا، وَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ نَدَرَ ذَلِكَ جِدًّا حَتَّى كَادَ يَضْمَحِلُّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. ثَانِيهَا مَا يُخْبِرُ الْجِنِّيُّ بِهِ مَنْ يُوَالِيهِ بِمَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ غَالِبًا، أَوْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ لَا مَنْ بَعُدَ. ثَالِثُهَا مَا يَسْتَنِدُ إِلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ وَحَدْسٍ، وَهَذَا قَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ لِبَعْضِ النَّاسِ قُوَّةً مَعَ كَثْرَةِ الْكَذِبِ فِيهِ. رَابِعُهَا مَا يَسْتَنِدُ إِلَى التَّجْرِبَةِ وَالْعَادَةِ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَى الْحَادِثِ بِمَا وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْأَخِيرِ مَا يُضَاهِي السِّحْرَ، وَقَدْ يَعْتَضِدُ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ وَالطَّرْقِ وَالنُّجُومِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ شَرْعًا.

وَوَرَدَ فِي ذَمِّ الْكَهَانَةِ مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَعِمْرَانَ ابْنِ حُصَيْنٍ أَخْرَجَهُمَا الْبَزَّارُ بِسَنَدَيْنِ جَيِّدَيْنِ وَلَفْظُهُمَا: مَنْ أتَى كَاهِنًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ امْرَأَةٍ مِنْ أزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنَ الرُّوَاةِ مَنْ سَمَّاهَا حَفْصَةَ - بِلَفْظِ: مَنْ أَتَى عَرَّافًا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَلَفْظُهُ: مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ سَاحِرًا أَوْ كَاهِنًا، وَاتَّفَقَتْ أَلْفَاظُهُمْ عَلَى الْوَعِيدِ بِلَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِلَّا حَدِيثَ مُسْلِمٍ فَقَالَ فِيهِ: لَمْ يُقْبَلْ لَهُمَا صَلَاةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَمَنْ أَتَاهُ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لَهُ لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ مَعَ صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا أَوْلَى مِنْ هَذَا، وَالْوَعِيدُ جَاءَ تَارَةً بِعَدَمِ قَبُولِ الصَّلَاةِ وَتَارَةً بِالتَّكْفِيرِ، فَيُحْمَلُ عَلَى حَالَيْنِ مِنَ الْآتِي أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ. وَالْعَرَّافُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَنْ يَسْتَخْرِجُ الْوُقُوفَ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ بِضَرْبٍ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) وَسَاقَهُ بِطُولِهِ، كَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَفَصَّلَ مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قِصَّةَ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ فَجَعَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا، كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي تَلِي طَرِيقَ ابْنِ مُسَافِرٍ هَذِهِ، وَقَدْ رَوَى اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَصْلَ الْحَدِيثِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الدِّيَاتِ. وَكَذَا أَخْرَجَ هُنَاكَ طَرِيقَ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَعِيدٍ مَعًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَصْلِ الْحَدِيثِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَيَأْتِي شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَنِينِ وَالْغُرَّةِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ) هُوَ حَمَلٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ الْخَفِيفَةِ ابْنُ مَالِكٍ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيِّ، بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ مَعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكُنْيَةُ حَمَلٍ الْمَذْكُورِ أَبُو نَضْلَةَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ نَزَلَ الْبَصْرَةَ. وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ، أَيْ قُضِيَ عَلَى مَنْ هِيَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ، وَفِي رِوَايَةِ

ص: 217

اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ، وَبَنُو لِحْيَانَ حَيٌّ مِنْ هُذَيْلٍ، وَجَاءَ تَسْمِيَةُ الضَّرَّتَيْنِ فِيمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمِ بْنِ عُوَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَتْ أُخْتِي مُلَيْكَةُ وَامْرَأَةٌ مِنَّا يُقَالُ لَهَا أُمُّ عَفِيفٍ بِنْتُ مَسْرُوحٍ تَحْتَ حَمَلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ، فَضَرَبَتْ أُمُّ عَفِيفٍ مُلَيْكَةَ بِمِسْطَحٍ، الْحَدِيثَ، لَكِنْ قَالَ فِيهِ: فَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ مَسْرُوحٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كُلًّا مِنْ زَوْجِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ حَمَلٌ وَأَخِيهَا وَهُوَ الْعَلَاءُ قَالَ ذَلِكَ تَوَارُدًا مَعًا عَلَيْهِ، لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمَا أَنَّ الَّذِي يُودَى هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ حَيًّا، وَأَمَّا السِّقْطُ فَلَا يُودَى، فَأَبْطَلَ الشَّرْعُ ذَلِكَ وَجَعَلَ فِيهِ غُرَّةً، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلطَبَرَانِيِّ أَنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ عِمْرَانُ بْنُ عُوَيْمٍ، فَلَعَلَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى.

وَأُمُّ عَفِيفٍ بِمُهْمَلَةٍ وَفَاءَيْنِ وَزْنُ عَظِيمٍ، وَوَقَعَ فِي الْمُبْهَمَاتِ لِلْخَطِيبِ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا أُمُّ غُطَيْفٍ بِغَيْنٍ ثُمَّ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُصَغَّر، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: مَنْ لَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمُنَاسَبَةِ السَّجْعِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: مَا لَا، بَدَلَ: مَنْ لَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ بْنُ جِنِّيٍّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا أَكَلَ، أَيْ: لَمْ يَأْكُلْ، أَقَامَ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ مَقَامَ الْمُضَارِعِ.

قَوْلُهُ: (فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ) لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ يُهْدَرُ، يُقَالُ: دَمُ فُلَانٍ هَدَرَ إِذَا تَرَكَ الطَّلَبَ بِثَأْرِهِ، وَطُلَّ الدَّمُ بِضَمِّ الطَّاءِ وَبِفَتْحِهَا أَيْضًا، وَحُكِيَ أَطَلَّ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْأَصْمَعِيُّ: وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُسَافِرٍ: بَطَلَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالتَّخْفِيفِ مِنَ الْبُطْلَانِ كَذَا رَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَزَعَمَ عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا لِلْجَمِيعِ بِالْمُوَحَّدَةِ، قَالَ: وَبِالْوَجْهَيْنِ فِي الْمُوَطَّأِ، وَقَدْ رَجَّحَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ مِنَ الْبُطْلَانِ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: كَذَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا هُوَ طَلُّ الدَّمِ إِذَا هُدِرَ. قُلْتُ: وَلَيْسَ لِإِنْكَارِهِ مَعْنًى بَعْدَ ثُبُوتِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مُوَجَّهٌ، رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ) أَيْ لِمُشَابَهَةِ كَلَامِهِ كَلَامَهُمْ، زَادَ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ: مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي، وَقَدْ وَرَدَ مُسْتَنَدُ ذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عُصْبَةِ الْقَاتِلَةِ يَغْرَمُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْجَعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ؟ وَالسَّجْعُ هُوَ تَنَاسُبُ آخِرِ الْكَلِمَاتِ لَفْظًا، وَأَصْلُهُ الِاسْتِوَاءُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ الْكَلَامُ الْمُقَفَّى وَالْجَمْعُ أَسْجَاعٌ وَأَسَاجِيعُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ ذَمُّ الْكُفَّارِ وَذَمُّ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ فِي أَلْفَاظِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَاقِبْهُ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَأْمُورًا بِالصَّفْحِ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ كَرِهَ السَّجْعَ فِي الْكَلَامِ، وَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلِ الْمَكْرُوهُ مِنْهُ مَا يَقَعُ مَعَ التَّكَلُّفِ فِي مَعْرِضِ مُدَافَعَةِ الْحَقِّ، وَأَمَّا مَا يَقَعُ عَفْوًا بِلَا تَكَلُّفٍ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ فَجَائِزٌ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِنْ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَإِبْطَالِ الْحَقِّ كَانَ مَذْمُومًا، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا كَانَ أَخَفَّ فِي الذَّمِّ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ تَقْسِيمُهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: فَالْمَحْمُودُ مَا جَاءَ عَفْوًا فِي حَقٍّ، وَدُونَهُ مَا يَقَعُ مُتَكَلَّفًا فِي حَقٍّ أَيْضًا، وَالْمَذْمُومُ عَكْسُهُمَا.

وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا رَفْعُ الْجِنَايَةِ لِلْحَاكِمِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ فِي الْجَنِينِ وَلَوْ خَرَجَ مَيِّتًا كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ مَعَ اسْتِيفَاءِ فَوَائِدِهِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ، وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، فِي النَّهْيِ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْبَيْعِ.

قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: مُرْسَلٌ، الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْدَهُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ) كَأَنَّ هَذَا

ص: 218

مِمَّا فَاتَ الزُّهْرِيَّ سَمَاعُهُ مِنْ عُرْوَةَ، فَحَمَلَهُ عَنْ وَلَدِهِ عَنْهُ، مَعَ كَثْرَةِ مَا عند الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ وَصَفَهُ الزُّهْرِيُّ بِسَعَةِ الْعِلْمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ، وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، وَفِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَلَمْ أَقِفْ لِيَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، وَتَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَكَذَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: سَأَلَ نَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مَعْقِلٍ مِثْلُهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ مَعْقِلٍ مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ سُمِّيَ مِمَّنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِهِ: قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ، فَقَالَ: لَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هَؤُلَاءِ الْكُهَّانُ فِيمَا عُلِمَ بِشَهَادَةِ الِامْتِحَانِ قَوْمٌ لَهُمْ أَذْهَانٌ حَادَّةٌ وَنُفُوسٌ شِرِّيرَةٌ وَطَبَائِعُ نَارِيَّةٌ، فَهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى الْجِنِّ فِي أُمُورِهِمْ وَيَسْتَفْتُونَهُمْ فِي الْحَوَادِثِ فَيُلْقُونَ إِلَيْهِمُ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ تَعَرَّضَ إِلَى مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الشُّعَرَاءِ بَعْدَ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَيْسُوا بِشَيْءٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ لَهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ، أَيْ لَيْسَ قَوْلُهُمْ بِشَيْءٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ عَمِلَ شَيْئًا وَلَمْ يُحْكِمْهُ: مَا عَمِلَ شَيْئًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَرَافَعُونَ إِلَى الْكُهَّانِ فِي الْوَقَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَيَرْجِعُونَ إِلَى أَقْوَالِهِمْ، وَقَدْ انْقَطَعَتِ الْكِهَانَةُ بِالْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، لَكِنْ بَقِيَ فِي الْوُجُودِ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ، وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ إِتْيَانِهِمْ فَلَا يَحِلُّ إِتْيَانُهُمْ وَلَا تَصْدِيقُهُمْ.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَنَا أَحْيَانَا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: فَإِنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ، هَذَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ إِشْكَالًا عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ: لَيْسُوا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ فَهِمَ منه أَنَّهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ أَصْلًا فَأَجَابَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ الصِّدْقِ، وَأَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ أَنْ يُصَدَّقَ لَمْ يَتْرُكْهُ خَالِصًا بَلْ يَشُوبُهُ بِالْكَذِبِ.

قَوْلُهُ: (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ) كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ بِمُهْمَلَةٍ وَقَافٍ، أَيِ: الْكَلِمَةُ الْمَسْمُوعَةُ الَّتِي تَقَعُ حَقًّا، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: كَذَا فِي نُسَخِ بِلَادِنَا بِالْجِيمِ وَالنُّونِ، أَيِ الْكَلِمَةُ الْمَسْمُوعَةُ مِنَ الْجِنِّ أَوِ الَّتِي تَصِحُّ مِمَّا نَقَلَتْهُ الْجِنُّ. قُلْتُ: التَّقْدِيرُ الثَّانِي يُوَافِقُ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ - يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ - بِالْحَاءِ وَالْقَافِ.

قَوْلُهُ: (يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ: يَخْطَفُهَا مِنَ الْجِنِّيِّ أَيِ الْكَاهِنُ يَخْطَفُهَا مِنَ الْجِنِّيِّ أَوِ الْجِنِّيُّ الَّذِي يَلْقَى الْكَاهِنُ يَخْطَفُهَا مِنْ جِنِّيٍّ آخَرَ فَوْقَهُ، وَيَخْطَفُهَا بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَطَاءٍ مَفْتُوحَةٍ - وَقَدْ تُكْسَرُ - بَعْدَهَا فَاءٌ وَمَعْنَاهُ: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَحْفَظُهَا، بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ بَعْدَهَا ظَاءٌ مُعْجَمَةٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ (فَيَقَرُّهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يَصُبُّهَا، تَقُولُ: قَرَرْتُ عَلَى رَأْسِهِ دَلْوًا إِذَا صَبَبْتُهُ، فَكَأَنَّهُ صُبَّ فِي أُذُنِهِ ذَلِكَ الْكَلَامَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى أَلْقَاهَا فِي أُذُنِهِ بِصَوْتٍ، يُقَالُ: قَرَّ الطَّائِرُ إِذَا صَوَّتَ انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ الْمَذْكُورَةِ: فَيُقَرْقِرُهَا، أَيْ: يُرَدِّدُهَا، يُقَالُ: قَرْقَرَتِ الدَّجَاجَةُ تُقَرْقِرُ قَرْقَرَةً إِذَا رَدَّدَتْ صَوْتَهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَيُقَالُ أَيْضًا: قَرَّتِ الدَّجَاجَةُ تُقِرُّ قَرًّا وَقَرِيرًا، وَإِذَا رَجَّعَتْ فِي صَوْتِهَا قِيلَ: قَرْقَرَتْ قَرْقَرَةً وَقَرْقَرِيرَةً، قَالَ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْجِنِّيَّ إِذَا أَلْقَى الْكَلِمَةَ لِوَلِيِّهِ تَسَامَعَ بِهَا الشَّيَاطِينُ فَتَنَاقَلُوهَا، كَمَا إِذَا صَوَّتَتِ الدَّجَاجَةُ فَسَمِعَهَا الدَّجَاجُ فَجَاوَبَتْهَا. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْأَشْبَهَ بِمَسَاقِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْجِنِّيَّ يُلْقِي الْكَلِمَةَ إِلَى وَلِيِّهِ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ مُتَرَاجِعٍ لَهُ زَمْزَمَةٌ وَيُرْجِعُهُ لَهُ، فَلِذَلِكَ يَقَعُ كَلَامُ الْكُهَّانِ غَالِبًا عَلَى هَذَا النَّمَطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ

ص: 219

فِي قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ، وَبَيَانُ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِي قَوْلِهِ: فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا زَمْزَمَةٌ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْكَاهِنِ وَلِيُّ الْجِنِّيِّ لِكَوْنِهِ يُوَالِيهِ أَوْ عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ الْكَاهِنَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلِيَّهُ، لِلتَّعْمِيمِ فِي الْكَاهِنِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُوَالِي الْجِنَّ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَيَّنَ: صلى الله عليه وسلم أَنَّ إِصَابَةَ الْكَاهِنِ أَحْيَانًا إِنَّمَا هِيَ لِأَنَّ الْجِنِّيَّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي يَسْمَعُهَا اسْتِرَاقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيَزِيدُ عَلَيْهَا أَكَاذِيبَ يَقِيسُهَا عَلَى مَا سَمِعَ، فَرُبَّمَا أَصَابَ نَادِرًا وَخَطَؤهُ الْغَالِبُ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ يَعْنِي الطَّائِرَ الْمَعْرُوفَ، وَدَالُهَا مُثَلَّثَةٌ، وَالْأَشْهَرُ فِيهَا الْفَتْحُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الزُّجَاجَةُ بِالزَّايِ الْمَضْمُومَةِ، وَأَنْكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَعَدَّهَا فِي التَّصْحِيفِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ تَقَدَّمَ فِي بَابِ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ: فَيُقِرُّهَا فِي أُذُنِهِ كَمَا تَقَرُّ الْقَارُورَةُ، وَشَرَحُوهُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ كَمَا يُسْمَعُ صَوْتُ الزُّجَاجَةِ إِذَا حَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ أَوْ أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ. وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ لِمَا يُلْقِيهِ الْجِنِّيُّ إِلَى الْكَاهِنِ حِسٌّ كَحِسِّ الْقَارُورَةِ إِذَا حُرِّكَتْ بِالْيَدِ أَوْ عَلَى الصَّفَا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يُطْبَقُ بِهِ كَمَا يُطْبَقُ رَأْسُ الْقَارُورَةِ بِرَأْسِ الْوِعَاءِ الَّذِي يُفْرَغُ فِيهِ مِنْهَا مَا فِيهَا. وَأَغْرَبَ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ التُّورْبَشْتِيُّ فَقَالَ: الرِّوَايَةُ بِالزَّايِ أَحْوَطُ لِمَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: كَمَا تُقَرُّ الْقَارُورَةُ، وَاسْتِعْمَالُ قَرَّ فِي ذَلِكَ شَائِعٌ بِخِلَافِ مَا فَسَرُّوا عَلَيْهِ الْحَدِيثَ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ شَاهِدًا فِي كَلَامِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالدَّالِ تَصْحِيفٌ أَوْ غَلَطٌ مِنَ السَّامِعِ.

وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: لَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُ: قَرَّ الدَّجَاجَةِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، فَكَمَا يَصِحُّ أَنْ يُشَبَّهَ إِيرَادُ مَا اخْتَطَفَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ بِصَبِّ الْمَاءِ فِي الْقَارُورَةِ يَصِحُّ أَنْ يُشَبَّهَ تَرْدِيدُ الْكَلَامِ فِي أُذُنِهِ بِتَرْدِيدِ الدَّجَاجَةِ صَوْتَهَا فِي أُذُنِ صَوَاحِبَاتِهَا، وَهَذَا مُشَاهَدٌ، تَرَى الدِّيكَ إِذَا رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ يُقَرْقِرُ فَتَسْمَعُهُ الدَّجَاجُ فَتَجْتَمِعُ وَتُقَرْقِرُ مَعَهُ، وَبَابُ التَّشْبِيهِ وَاسِعٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْعَلَاقَةِ، غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِطَافَ مُسْتَعَارٌ لِلْكَلَامِ مِنْ فِعْلِ الطَّيْرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى:{فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} فَيَكُونُ ذِكْرُ الدَّجَاجَةِ هُنَا أَنْسَبَ مِنْ ذِكْرِ الزُّجَاجَةِ لِحُصُولِ التَّرْشِيحِ فِي الِاسْتِعَارَةِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ دَعْوَى الدَّارَقُطْنِيِّ - وَهُوَ إِمَامُ الْفَنِّ - أَنَّ الَّذِي بِالزَّايِ تَصْحِيفٌ، وَإِنْ كُنَّا مَا قَبِلْنَا ذَلِكَ فَلَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ أَرْجَحَ.

قَوْلُهُ: (فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْمِائَةِ لِلْمُبَالَغَةِ لَا لِتَعْيِينِ الْعَدَدِ، وَقَوْلُهُ: كَذْبَةٍ، هُنَا بِالْفَتْحِ وَحُكِيَ الْكَسْرُ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْهَيْئَةِ وَالْحَالَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَصْلَ تَوَصُّلِ الْجِنِّيِّ إِلَى الِاخْتِطَافِ، فَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُمْ بَيْنَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا رُمِيَ مِثْلُ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ.

وَلَكِنَّ رَبَّنَا إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ إِلَى أَهْلِ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ حَتَّى يَصِلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَرِقُ مِنْهُ الْجِنِّيُّ، فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِيهِ وَيَنْقُصُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سَبَأٍ وَغَيْرِهَا بَيَانُ كَيْفِيَّتِهِمْ عِنْدَ اسْتِرَاقِهِمْ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ - وَهُوَ السَّحَابُ - فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّحَابِ السَّمَاءَ، كَمَا أَطْلَقَ السَّمَاءَ عَلَى السَّحَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ إِذَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَرْضِ تَسْمَعُ مِنْهُمُ الشَّيَاطِينُ، أَوِ الْمُرَادُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلَةُ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: مُرْسَلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْدُ) عَلِيٌّ هَذَا هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ كَانَ يُرْسِلُ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْحَدِيثِ، ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَلَهُ

ص: 220

بِذِكْرِ عَائِشَةَ فِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ فَيَّاضِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبَّاسٍ الْعَنْبَرِيِّ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مَوْصُولًا كَرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَفِي الْحَدِيثِ بَقَاءُ اسْتِرَاقِ الشَّيَاطِينِ السَّمْعَ، لَكِنَّهُ قَلَّ وَنَدَرَ حَتَّى كَادَ يَضْمَحِلُّ بِالنِّسْبَةِ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ إِتْيَانِ الْكُهَّانِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَجِبُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مُحْتَسِبٍ وَغَيْرِهِ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْوَاقِ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ النَّكِيرِ، وَعَلَى مَنْ يَجِيءُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَغْتَرُّ بِصِدْقِهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَلَا بِكَثْرَةِ مَنْ يَجِيءُ إِلَيْهِمْ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ رَاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، بَلْ مِنَ الْجُهَّالِ بِمَا فِي إِتْيَانِهِمْ مِنَ الْمَحْذُورِ.

(تَنْبِيهٌ): إِيرَادُ بَابِ الْكِهَانَةِ في كِتَابِ الطِّبِّ لِمُنَاسَبَتِهِ لِبَابِ السِّحْرِ لِمَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا مِنْ مَرْجِعِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلشَّيَاطِينِ، وَإِيرَادُ بَابِ السِّحْرِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ لِمُنَاسَبَتِهِ ذِكْرَ الرُّقَى وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ الْأَدْوَاءِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَاشْتَمَلَ كِتَابُ الطِّبِّ عَلَى الْإِشَارَةِ لِلْأَدْوِيَةِ الْحِسِّيَّةِ كَالْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ وَالْعَسَلِ ثُمَّ عَلَى الْأَدْوِيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالرُّقَى بِالدُّعَاءِ وَالْقُرْآنِ. ثُمَّ ذَكَرْتُ الْأَدْوَاءَ الَّتِي تَنْفَعُ الْأَدْوِيَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ فِي دَفْعِهَا كَالسِّحْرِ، كَمَا ذَكَرْتُ الْأَدْوَاءَ الَّتِي تَنْفَعُ الْأَدْوِيَةُ الْحِسِّيَّةُ فِي دَفْعِهَا كَالْجُذَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌47 - بَاب السحر وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ

وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وَقَوْلِهِ: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} وَقَوْلِهِ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وَالنَّفَّاثَاتُ: السَّوَاحِرُ. {تُسْحَرُونَ} تُعَمَّوْنَ

5763 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ - أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ - وَهُوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أثيرَ

ص: 221

عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا، فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ. تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطةٍ، ويُقَالُ: الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ، وَالْمُشَاطةُ: مِنْ مُشَاطةِ الْكَتَّانِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السِّحْرِ) قَالَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ: السِّحْرُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ: أَحَدُهَا مَا لَطُفَ وَدَقَّ، وَمِنْهُ سَحَرْتُ الصَّبِيَّ خَادَعْتُهُ وَاسْتَمَلْتُهُ، وَكُلُّ مَنِ اسْتَمَالَ شَيْئًا فَقَدْ سَحَرَهُ، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الشُّعَرَاءِ سِحْرَ الْعُيُونِ لِاسْتِمَالَتِهَا النُّفُوسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ: الطَّبِيعَةُ سَاحِرَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى:{بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} أَيْ: مَصْرُوفُونَ عَنِ الْمَعْرِفَةِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَابٍ مُفْرَدٍ. الثَّانِي مَا يَقَعُ بِخِدَاعٍ وَتَخْيِيلَاتٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، نَحْو مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُ مِنْ صَرْفِ الْأَبْصَارِ عَمَّا يَتَعَاطَاهُ بِخِفَّةِ يَدِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} وَمِنْ هُنَاكَ سَمَّوْا مُوسَى سَاحِرًا، وَقَدْ يَسْتَعِينُ فِي ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ فِيهِ خَاصِّيَّةٌ كَالْحَجَرِ الَّذِي يَجْذِبُ الْحَدِيدَ الْمُسَمَّى الْمِغْنَطِيسُ.

الثَّالِثُ: مَا يَحْصُلُ بِمُعَاوَنَةِ الشَّيَاطِينِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الرَّابِعُ: مَا يَحْصُلُ بِمُخَاطَبَةِ الْكَوَاكِبِ وَاسْتِنْزَالِ رُوحَانِيَّاتِهَا بِزَعْمِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَمِنْهُ مَا يُوجَدُ مِنَ الطَّلْسَمَاتِ كَالطَّابِعِ الْمَنْقُوشِ فِيهِ صُورَةُ عَقْرَبٍ فِي وَقْتِ كَوْنِ الْقَمَرِ فِي الْعَقْرَبِ فَيَنْفَعُ إِمْسَاكُهُ مِنْ لَدْغَةِ الْعَقْرَبِ، وَكَالْمُشَاهَدِ بِبَعْضِ بِلَادِ الْغَرْبِ - وَهِيَ سَرْقُسْطَةُ - فَإِنَّهَا لَا يَدْخُلُهَا ثُعْبَانٌ قَطُّ إِلَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ، وَقَدْ يَجْمَعُ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ كَالِاسْتِعَانَةِ بِالشَّيَاطِينِ وَمُخَاطَبَةِ الْكَوَاكِبِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى بِزَعْمِهِمْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي الْأَحْكَامِ لَهُ: كَانَ أَهْلُ بَابِلَ قَوْمًا صَابِئِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ، وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا الْفَعَّالَةُ لِكُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ، وَعَمِلُوا أَوْثَانًا عَلَى أَسْمَائِهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ هَيْكَلٌ فِيهِ صَنَمُهُ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُهُ بِزَعْمِهِمْ مِنْ أَدْعِيَةٍ وَبَخُورٍ، وَهُمُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، وَكَانَتْ عُلُومُهُمْ أَحْكَامَ النُّجُومِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ السَّحَرَةُ مِنْهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ سَائِرَ وُجُوِهِ السِّحْرِ وَيَنْسُبُونَهَا إِلَى فِعْلِ الْكَوَاكِبِ لِئَلَّا يُبْحَثَ عَنْهَا وَيَنْكَشِفَ تَمْوِيهُهُمُ انْتَهَى.

ثُمَّ السِّحْرُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْآلَةُ الَّتِي يُسْحَرُ بِهَا، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ فِعْلُ السَّاحِرِ، وَالْآلَةُ تَارَةً تَكُونُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فَقَطْ كَالرُّقَى وَالنَّفْثِ فِي الْعُقَدِ، وَتَارَةً تَكُونُ بِالْمَحْسُوسَاتِ كَتَصْوِيرِ الصُّورَةِ عَلَى صُورَةِ الْمَسْحُورِ. وَتَارَةً بِجَمْعِ الْأَمْرَيْنِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ أَبْلَغُ. وَاخْتُلِفَ فِي السِّحْرِ فَقِيلَ: هُوَ تَخْيِيلٌ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي جَعْفَرٍ الْإِسْتِرَبَاذِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ وَطَائِفَةٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ انْتَهَى. لَكِنْ مَحَلُّ النِّزَاعِ هَلْ يَقَعُ بِالسِّحْرِ انْقِلَابُ عَيْنٍ أَوْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ فَقَطْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ لَهُ حَقِيقَةً اخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ تَأْثِيرٌ فَقَطْ بِحَيْثُ يُغَيِّرُ الْمِزَاجَ فَيَكُونُ نَوْعًا مِنَ الْأَمْرَاضِ، أَوْ يَنْتَهِي إِلَى الْإِحَالَةِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْجَمَادُ حَيَوَانًا مَثَلًا وَعَكْسُهُ؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ إِلَى الثَّانِي.

فَإِنْ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَاقِعِ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ قَوْمًا أَنْكَرُوا السِّحْرَ مُطْلَقًا وَكَأَنَّهُ عَنَى الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ تَخْيِيلٌ فَقَطْ وَإِلَّا فَهِيَ مُكَابَرَةٌ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِثْبَاتِ السِّحْرِ وَأَنَّ لَهُ حَقِيقَةً، وَنَفَى بَعْضُهُمْ حَقِيقَتَهُ، وَأَضَافَ مَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَى خَيَالَاتٍ بَاطِلَةٍ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِوُرُودِ النَّقْلِ بِإِثْبَاتِ السِّحْرِ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَخْرِقُ الْعَادَةَ عِنْدَ نُطْقِ السَّاحِرِ بِكَلَامٍ

ص: 222

مُلَفَّقٍ أَوْ تَرْكِيبِ أَجْسَامٍ أَوْ مَزْجٍ بَيْنَ قُوًى عَلَى تَرْتِيبٍ مَخْصُوصٍ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا يَقَعُ مِنْ حُذَّاقِ الْأَطِبَّاءِ مِنْ مَزْجِ بَعْضِ الْعَقَاقِيرِ بِبَعْضٍ حَتَّى يَنْقَلِبَ الضَّارُّ مِنْهَا بِمُفْرَدِهِ فَيَصِيرُ بِالتَّرْكِيبِ نَافِعًا، وَقِيلَ لَا يَزِيدُ تَأْثِيرُ السِّحْرِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ:{يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} لِكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ تَهْوِيلٍ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَقَعَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَالصَّحِيحُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَنْعِ الزِّيَادَةِ، وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ السِّحْرِ وَالْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ أَنَّ السِّحْرَ يَكُونُ بِمُعَانَاةِ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ حَتَّى يَتِمَّ لِلسَّاحِرِ مَا يُرِيدُ، وَالْكَرَامَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ بَلْ إِنَّمَا تَقَعُ غَالِبًا اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الْمُعْجِزَةُ فَتَمْتَازُ عَنِ الْكَرَامَةِ بِالتَّحَدِّي.

وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا يَظْهَرُ إِلَّا مِنْ فَاسِقٍ، وَأَنَّ الْكَرَامَةَ لَا تَظْهَرُ عَلَى فَاسِقٍ. وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي زِيَادَاتِ الرَّوْضَةِ عَنِ الْمُتَوَلِّي نَحْوَ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ بِحَالِ مَنْ يَقَعُ الْخَارِقُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِالشَّرِيعَةِ مُتَجَنِّبًا لِلْمُوبِقَاتِ فَالَّذِي يَظْهَرُ عَلَى يَدِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ كَرَامَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ سِحْرٌ، لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ أَحَدِ أَنْوَاعِهِ كَإِعَانَةِ الشَّيَاطِينِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: السِّحْرُ حِيَلٌ صِنَاعِيَّةٌ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِالِاكْتِسَابِ، غَيْرَ أَنَّهَا لِدِقَّتِهَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا آحَادُ النَّاسِ، وَمَادَّتُهُ الْوُقُوفُ عَلَى خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ وَالْعِلْمِ بِوُجُوُهِ تَرْكِيبِهَا وَأَوْقَاتِهِ، وَأَكْثَرُهَا تَخْيِيلَاتٌ بِغَيْرِ حَقِيقَةٍ وَإِيهَامَاتٍ بِغَيْرِ ثُبُوتِ، فَيَعْظُمُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ:{وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} مَعَ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا حِبَالًا وَعِصِيًّا. ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ لِبَعْضِ أَصْنَافِ السِّحْرِ تَأْثِيرًا فِي الْقُلُوبِ كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَإِلْقَاءِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِي الْأَبَدَانِ بِالْأَلَمِ وَالسَّقَمِ، وَإِنَّمَا الْمَنْكُورُ أَنَّ الْجَمَادَ يَنْقَلِبُ حَيَوَانًا أَوْ عَكْسَهُ بِسِحْرِ السَّاحِرِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الْآيَةَ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةٍ كَرِيمَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ خَلَاقٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَصْلِ السِّحْرِ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ الْيَهُودُ، ثُمَّ هُوَ مِمَّا وَضَعَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليه السلام، وَمِمَّا أُنْزِلَ عَلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ بِأَرْضِ بَابِلَ، وَالثَّانِي مُتَقَدِّمُ الْعَهْدِ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ قِصَّةَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ كَانَتْ مِنْ قَبْلِ زَمَنِ نُوحٍ عليه السلام عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ السِّحْرُ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ نُوحٍ؛ إِذْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ سَاحِرٌ، وَكَانَ السِّحْرُ أَيْضًا فَاشِيًا فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَكُلِّ ذَلِكَ قَبْلَ سُلَيْمَانَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ فَقِيلَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ جَمَعَ كُتُبَ السِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْكُرْسِيِّ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ وَذَهَبَتِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْأَمْرَ جَاءَهُمْ شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ فَقَالَ لِلْيَهُودِ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزٍ لَا نَظِيرَ لَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَاحْفِرُوا تَحْتَ الْكُرْسِيِّ، فَحَفَرُوا - وَهُوَ مُتَنَحٍّ عَنْهُمْ - فَوَجَدُوا تِلْكَ الْكُتُبَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ يَضْبِطُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ بِهَذَا، فَفَشَا فِيهِمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ سُلَيْمَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَنْكَرَتِ الْيَهُودُ ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نَحْوُهُ، وَمَنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْصُولًا بِمَعْنَاهُ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَلَكِنْ قَالَ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ هِيَ الَّتِي كَتَبَتْ كُتُبَ السِّحْرِ وَدَفَنَتْهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ اسْتَخْرَجَتْهُ وَقَالُوا: هَذَا الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يَكْتُمُهُ النَّاسَ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَزَادَ أَنَّهُمْ نَقَشُوا خَاتَمًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ وَخَتَمُوا بِهِ الْكِتَابَ، وَكَتَبُوا عُنْوَانَهُ: هَذَا مَا كَتَبَ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَاءَ الصِّدِّيقُ لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ الْعِلْمِ، ثُمَّ دَفَنُوهُ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ السُّدِّيِّ،

ص: 223

وَلَكِنْ قَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا الْكُتُبَ قَالُوا: هَذَا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى سُلَيْمَانَ فَأَخْفَاهُ مِنَّا.

وَأَخْرَجَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْطَلَقَتِ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي ابْتُلِيَ فِيهَا سُلَيْمَانُ، فَكَتَبَتْ كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَكُفْرٌ، ثُمَّ دَفَنَتْهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ثُمَّ أَخْرَجُوهَا بَعْدَهُ فَقَرَءُوهَا عَلَى النَّاسِ، وَمُلَخَّصُ مَا ذُكِرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَحْكِيَّ عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، إِذْ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ إِيضَاحُ ذَلِكَ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَمَا فِي قَوْلِهِ:{مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} مَوْصُولَةٌ عَلَى الصَّوَابِ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَافِيَةٌ لِأَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ يَأْبَاهُ، وَتَتْلُو لَفْظُهُ مُضَارِعٌ لَكِنْ هُوَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَاضِي وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ، وَمَعْنَى تَتْلُو تَتَقَوَّلُ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَلَى، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: تَتْبَعُ أَوْ تَقْرَأُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ قِيلَ هُوَ تَقْرَأُ عَلَى زَمَانِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَقَوْلُهُ:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} مَا نَافِيَةٌ جَزْمًا، وَقَوْلُهُ:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} هَذِهِ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ لِجُمْلَةِ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَقَوْلُهُ:{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} النَّاسُ، مَفْعُولٌ أَوَّلٌ وَالسِّحْرُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ كَفَرُوا، أَيْ كَفَرُوا مُعَلِّمِينَ، وَقِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنْ كَفَرُوا، وَقِيلَ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَهَذَا عَلَى إِعَادَةِ ضَمِيرِ يَعْلَمُونَ عَلَى الشَّيَاطِينِ، وَيُحْتَمَلُ عَوْدُهُ عَلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا فَيَكُونُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ اتَّبَعُوا أَوِ اسْتِئْنَافًا، وَقَوْلُهُ: وَمَا أُنْزِلَ، مَا مَوْصُولَةٌ وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى السِّحْرِ، وَالتَّقْدِيرُ:

يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، وَالْمُنْزَلُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَقِيلَ: الْجَرُّ عَطْفًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، أَيْ: تَقَوُّلًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى مَا أُنْزِلَ، وقِيلَ: بَلْ هِيَ نَافِيَةٌ عَطْفًا، عَلَى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} وَالْمَعْنَى: وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إِبَاحَةُ السِّحْرِ. وَهَذَانِ الْإِعْرَابَانِ يَنْبَنِيَانِ عَلَى مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنِ الْبَعْضِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَرَدَّ الزَّجَّاجُ عَلَى الْأَخْفَشِ دَعْوَاهُ أَنَّهَا نَافِيَةٌ وَقَالَ: الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ أَوْلَى.

وَقَوْلُهُ: بِبَابِلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا أُنْزِلَ أَيْ فِي بَابِلَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ لَامِ الْمَلَكَيْنِ، وَقُرِئَ بِكَسْرِهَا، وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ بَدَلٌ مِنَ الْمَلَكَيْنِ وَجُرَّا بِالْفَتْحَةِ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَقِيلَ: بَلْ هُمَا بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقِيلَ: مِنَ الشَّيَاطِينِ عَلَى أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ اسْمَانِ لِقَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَوْلُهُ:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّعْلِيمِ، وَقُرِئَ فِي الشَّاذِّ بِسُكُونِ الْعَيْنِ مِنَ الْإِعْلَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّضْعِيفَ يَتَعَاقَبُ مَعَ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ لَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ بَلْ يُعْلِمَانِهِمْ بِهِ وَيَنْهَيَانِهِمْ عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ: الْمَلَكَانِ يُعَلِّمَانِ تَعْلِيمَ إِنْذَارٍ لَا تَعْلِيمُ طَلَبٍ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَمُتَعَلِّمَهُ كَافِرٌ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلشَّيَاطِينِ أَوْ لِلْكَوَاكِبِ، وَأَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ الشَّعْوَذَةِ فَلَا يَكْفُرُ بِهِ مَنْ تَعَلَّمَهُ أَصْلًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: عَمَلُ السِّحْرِ حَرَامٌ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ عَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كُفْرًا، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كُفْرًا بَلْ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً، فَإِنْ كَانَ فِيهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَقْتَضِي الْكُفْرَ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِلَّا فَلَا، وَأَمَّا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ حَرَامٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَفَرَ وَاسْتُتِيبَ مِنْهُ وَلَا يُقْتَلُ، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ عُزِّرَ.

وَعَنْ مَالِكٍ: السَّاحِرُ كَافِرٌ يُقْتَلُ بِالسِّحْرِ وَلَا يُسْتَتَابُ، بَلْ يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ كَالزِّنْدِيقِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اهـ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ وَتَفَاصِيلُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِهَا. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَعَلُّمَ السِّحْرِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا لِتَمْيِيزِ مَا فِيهِ كُفْرٌ مِنْ غَيْرِهِ وَإِمَّا لِإِزَالَتِهِ عَمَّنْ وَقَعَ فِيهِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ فَإِذَا سَلِمَ الِاعْتِقَادُ فَمَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِمُجَرَّدِهِ لَا تَسْتَلْزِمُ مَنْعًا، كَمَنْ يَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ عِبَادَةِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ لِلْأَوْثَانِ لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ مَا يَعْمَلُهُ السَّاحِرُ إِنَّمَا هِيَ

ص: 224

حِكَايَةُ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، بِخِلَافِ تَعَاطِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ كَانَ لَا يَتِمُّ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ أَوِ الْفِسْقِ فَلَا يَحِلُّ أَصْلًا وَإِلَّا جَازَ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي بَابِ هَلْ يُسْتَخْرَجُ السِّحْرُ قَرِيبًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَفِي إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِيَارِ الْحُكْمِ بِكُفْرِ السَّاحِرِ؛ لِقَوْلِهِ فِيهَا:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فَإِنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ، وَلَا يُكْفَرُ بِتَعْلِيمِ الشَّيْءِ إِلَّا وَذَلِكَ الشَّيْءُ كُفْرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكَيْنِ:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ كُفْرٌ فَيَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ كُفْرًا، وَهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ مِنَ الْعَمَلِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ.

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ السِّحْرَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَتَسْمِيَةُ مَا عَدَا ذَلِكَ سِحْرًا مَجَازٌ كَإِطْلَاقِ السِّحْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْبَلِيغِ، وَقِصَّةُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ جَاءَتْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَأَطْنَبَ الطَّبَرِيُّ فِي إِيرَادِ طُرُقِهَا بِحَيْثُ يَقْضِي بِمَجْمُوعِهَا عَلَى أَنَّ لِلْقِصَّةِ أَصْلًا، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ بُطْلَانَهَا كَعِيَاضٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَمُحَصَّلُهَا أَنَّ اللَّهَ رَكَّبَ الشَّهْوَةَ فِي مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اخْتِبَارًا لَهُمَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا فِي الْأَرْضِ، فَنَزَلَا عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ وَحَكَمَا بِالْعَدْلِ مُدَّةً، ثُمَّ افْتُتِنَا بِامْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ فَعُوقِبَا بِسَبَبِ ذَلِكَ بِأَنْ حُبِسَا فِي بِئْرٍ بِبَابِلَ مُنَكَّسَيْنِ وَابْتُلِيَا بِالنُّطْقِ بِعِلْمِ السِّحْرِ، فَصَارَ يَقْصِدُهُمَا مَنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ فَلَا يَنْطِقَانِ بِحَضْرَةِ أَحَدٍ حَتَّى يُحَذِّرَاهُ وَيَنْهَيَاهُ، فَإِذَا أَصَرَّ تَكَلَّمَا بِذَلِكَ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُمَا ذَلِكَ وَهُمَا قَدْ عَرَفَا ذَلِكَ فَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا مَا قَصَّ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} فِي الْآيَةِ نَفْيُ الْفَلَاحِ عَنِ السَّاحِرِ، وَلَيْسَتْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كُفْرِ السَّاحِرِ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ إِثْبَاتُ الْفَلَاحِ لِلْمُؤْمِنِ وَنَفْيُهُ عَنِ الْكَافِرِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي نَفْيَ الْفَلَاحِ عَنِ الْفَاسِقِ وَكَذَا الْعَاصِي.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ؟ هَذَا يُخَاطَبُ بِهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَسْتَبْعِدُونَ كَوْنَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا مِنَ اللَّهِ لِكَوْنِهِ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ مُنْكِرًا عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ، أَيْ أَفَتَتَّبِعُونَهُ حَتَّى تَصِيرُوا كَمَنِ اتَّبَعَ السِّحْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} هَذِهِ الْآيَةُ عُمْدَةُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَرَدَتْ فِي قِصَّةِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ سِحْرُهُمْ كَذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ السِّحْرِ تَخْيِيلٌ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي الْأَحْكَامِ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي ظَنَّهُ مُوسَى مِنْ أَنَّهَا تَسْعَى لَمْ يَكُنْ سَعْيًا وَإِنَّمَا كَانَ تَخْيِيلًا، وَذَلِكَ أَنَّ عِصِيَّهُمْ كَانَتْ مُجَوَّفَةً قَدْ مُلِئَتْ زِئْبَقًا، وَكَذَلِكَ الْحِبَالُ كَانَتْ مِنْ أُدْمٍ مَحْشُوَّةٍ زِئْبَقًا، وَقَدْ حَفَرُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَسْرَابًا وَجَعَلُوا لَهَا آزَاجًا وَمَلَأُوهَا نَارًا فَلَمَّا طُرِحَتْ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَحُمِيَ الزِّئْبَقُ حَرَّكَهَا؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الزِّئْبَقِ إِذَا أَصَابَتْهُ النَّارُ أَنْ يَطِيرَ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْهُ كَثَافَةُ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ صَارَتْ تَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ؛ فَظَنَّ مَنْ رَآهَا أَنَّهَا تَسْعَى، وَلَمْ تَكُنْ تَسْعَى حَقِيقَةً.

قَوْلُهُ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وَالنَّفَّاثَاتُ السَّوَاحِرُ) هُوَ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا فِي الْمَجَازِ قَالَ: النَّفَّاثَاتُ السَّوَاحِرُ يَنْفُثْنَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ النَّفْثُ فِي الرُّقْيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ الرُّقْيَةِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ فِي آخِرِ قِصَّةِ السِّحْرِ الَّذِي سُحِرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ وَجَدُوا وِتْرًا فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، وَأُنْزِلَتْ سُورَةُ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ، وَجُعِلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ آخَرَ مُنْقَطِعٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا، وَعَمَّارًا لَمَّا بَعَثَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِاسْتِخْرَاجِ السِّحْرِ وَجَدَا طَلْعَةً فِيهَا إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً فَذَكَرَ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (تُسْحَرُونَ تُعَمَّوْنَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ، وَضُبِطَ أَيْضًا بِسُكُونِ الْعَيْنِ

ص: 225

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أَيْ: كَيْفَ تُعَمَّوْنَ عَنْ هَذَا وَتَصُدُّونَ عَنْهُ؟ قَالَ: وَنَرَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: سُحِرَتْ أَعْيُنُنَا عَنْهُ فَلَمْ نُبْصِرْهُ، وَأَخْرَجَ

(1)

فِي قَوْلِهِ: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أَيْ: تُخْدَعُونَ أَوْ تُصْرَفُونَ عَنِ التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ. قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ مِنَ السِّحْرِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: السِّحْرُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ التَّخْلِيطِ وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَمَا يَقَعُ مِنَ الْمَسْحُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) هُوَ الرَّازِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: حَدَّثَنِي بِالْإِفْرَادِ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْجِزْيَةِ، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ غَيْرَ هِشَامٍ أَيْضًا حَدَّثَ بِهِ عَنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ. وَجَاءَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَغَيْرِهِمَا.

قَوْلُهُ: (سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ) بِزَايٍ قَبْلَ الرَّاءِ مُصَغَّر.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ لَهُ: لَبِيدٌ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ (ابْنُ الْأَعْصَمِ) بِوَزْنِ أَحْمَرَ بِمُهْمَلَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا: رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفِ الْيَهُودِ وَكَانَ مُنَافِقًا وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ نَظَرَ إِلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ مُنَافِقًا نَظَرَ إِلَى ظَاهِرِ أَمْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ نِفَاقًا وَهُوَ وَاضِحٌ، وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قِيلَ لَهُ يَهُودِيٌّ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ لَا أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ.

وَبَنُو زُرَيْقٍ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مَشْهُورٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْيَهُودِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حِلْفٌ وَإِخَاءٌ وَوُدٌّ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلَ الْأَنْصَارُ فِيهِ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ الْوَاقِدِيُّ السَّنَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا السِّحْرُ: أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ لَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ مُرْسَلٌ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ - رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْحَجَّةِ وَدَخَلَ الْمُحَرَّمُ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ جَاءَتْ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ إِلَى لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ - وَكَانَ حَلِيفًا فِي بَنِي زُرَيْقٍ وَكَانَ سَاحِرًا - فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا الْأَعْصَمِ، أَنْتَ أَسْحَرُنَا، وَقَدْ سَحَرْنَا مُحَمَّدًا فَلَمْ نَصْنَعْ شَيْئًا، وَنَحْنُ نَجْعَلُ لَكَ جُعْلًا عَلَى أَنْ تَسْحَرَهُ لَنَا سِحْرًا يَنْكَؤُهُ. فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فَأَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ السِّتَّةُ أَشْهُرٍ مِنَ ابْتِدَاءِ تَغَيُّرِ مِزَاجِهِ وَالْأَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنَ اسْتِحْكَامِهِ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي مَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا فِي السِّحْرِ حَتَّى ظَفِرْتُ بِهِ فِي جَامِعِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ لَبِثَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ مَوْصُولًا بِإِسْنَادِ الصَّحِيحِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ) قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَنْكَرَ الْمُبْتَدِعَةُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَيُشَكِّكُ فِيهَا، قَالُوا: وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يَعْدَمُ الثِّقَةَ بِمَا شَرَعوه مِنَ الشَّرَائِعِ إِذْ يُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيلَ وَلَيْسَ هُوَ ثَمَّ، وَأَنَّهُ يُوحِي إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يُبَلِّغُهُ

(1)

بياض بالأصل.

ص: 226

عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى عِصْمَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ، وَالْمُعْجِزَاتُ شَاهِدَاتٌ بِتَصْدِيقِهِ، فَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ لِأَجْلِهَا، وَلَا كَانَتِ الرِّسَالَةُ مِنْ أَجْلِهَا فَهُوَ فِي ذَلِكَ عُرْضَةٌ لِمَا يَعْتَرِضُ الْبَشَرَ كَالْأَمْرَاضِ، فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَعَ عِصْمَتِهِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي أُمُورِ الدِّينِ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَاتِهِ وَلَمْ يَكُنْ وَطِأَهُنَّ، وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَقَعُ تَخَيُّلُهُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْمَنَامِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي الْيَقِظَةِ.

قُلْتُ: وَهَذَا قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا وَلَفْظُهُ: حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِمْ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُرَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يُظَنُّ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَتْ يَرَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ مِنَ الرَّأْيِ لَا مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الظَّنِّ. وَفِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَائِشَةَ حَتَّى أَنْكَرَ بَصَرَهُ، وَعِنْدَهُ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ، قَالَ عِيَاضٌ: فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ لَا عَلَى تَمْيِيزِهِ وَمُعْتَقَدِهِ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: فَقَالَتْ أُخْتُ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ: إِنْ يَكُنْ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ، وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْرُ حَتَّى يَذْهَبَ عَقْلُهُ. قُلْتُ: فَوَقَعَ الشِّقُّ الْأَوَّلُ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ أَنْ يُجْزَمَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْخَاطِرِ يَخْطِرُ وَلَا يَثْبُتُ، فَلَا يَبْقَى عَلَى هَذَا لِلْمُلْحِدِ حُجَّةٌ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّخْيِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ مَا أَلِفَهُ مِنْ سَابِقِ عَادَتِهِ مِنَ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْوَطْءِ، فَإِذَا دَنَا مِنَ الْمَرْأَةِ فَتَرَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَعْقُودِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ، أَيْ صَارَ كَالَّذِي أَنْكَرَ بَصَرَهُ بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا رَأَى الشَّيْءَ يُخَيَّلُ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ، فَإِذَا تَأَمَّلَهُ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ. وَيُؤَيِّدُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَكَانَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: صَوْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا يَمْنَعُ إِرَادَتَهُمْ كَيَدَهُ، فَقَدْ مَضَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّ شَيْطَانًا أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ فَأَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ السِّحْرُ مَا نَالَهُ مِنْ ضَرَرِهِ مَا يُدْخِلُ نَقْصًا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَنَالُهُ مِنْ ضَرَرِ سَائِرِ الْأَمْرَاضِ مِنْ ضَعْفٍ عَنِ الْكَلَامِ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ بَعْضِ الْفِعْلِ، أَوْ حُدُوثِ تَخَيُّلٍ لَا يَسْتَمِرُّ، بَلْ يَزُولُ وَيُبْطِلُ اللَّهُ كَيْدَ الشَّيَاطِينِ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْقَصَّارِ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَرَضِ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْمُدَّعَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ: فَكَانَ يَدُورُ وَلَا يَدْرِي مَا وَجَعُهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأُخِذَ عَنِ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَأَظُنُّهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ فَقَالَ: حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ يَشُكَّ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَأَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ عَلَى الشَّكِّ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، فَيُحْمَلُ الْجَزْمُ الْمَاضِي عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُوسَى شَيْخَ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَهُ بِهِ تَارَةً بِالْجَزْمِ وَتَارَةً بِالشَّكِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَأَذْكُرُهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ عَنْهُ، وَهَذَا مِنْ نَوَادِرِ مَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ أَنْ يَخْرُجَ الْحَدِيثُ تَامًّا بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ بِلَفْظَيْنِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا: ذَاتَ يَوْمٍ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَذَاتَ بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهَا مُقْحَمَةٌ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ

ص: 227

لِنَفْسِهِ عَلَى رَأْي مَنْ يُجِيزُهُ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا) كَذَا وَقَعَ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا، وَكَذَا عَلَّقَهُ الْمُصَنِّفُ لِعِيسَى بْنِ يُونُسَ فِي الدَّعَوَاتِ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ مِنْ قَوْلِهَا: عِنْدِي أَيْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَغِلًا بِي بَلِ اشْتَغَلَ بِالدُّعَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّخَيُّلِ، أَيْ كَانَ السِّحْرُ أَضَرَّهُ فِي بَدَنِهِ لَا فِي عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ بِحَيْثُ إنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ، وَدَعَا عَلَى الْوَضْعِ الصَّحِيحِ وَالْقَانُونِ الْمُسْتَقِيمِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَدَعَا، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ دَعَا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُ الدُّعَاءَ ثَلَاثًا. وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ سَعْدٍ: فَرَأَيْتُهُ يَدْعُو. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ حُصُولِ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَاتِ وَتَكْرِيرُهُ والِالْتِجَاءُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِي دَفْعِ ذَلِكَ. قُلْتُ: سَلَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَسْلَكَيِ التَّفْوِيضِ وَتَعَاطِي الْأَسْبَابِ؛ فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَوَّضَ وَسَلَّمَ لِأَمْرِ رَبِّهِ فَاحْتَسَبَ الْأَجْرَ فِي صَبْرِهِ عَلَى بَلَائِهِ، ثُمَّ لَمَّا تَمَادَى ذَلِكَ وَخَشِيَ مِنْ تَمَادِيهِ أَنْ يُضْعِفَهُ عَنْ فُنُونِ عِبَادَتِهِ جَنَحَ إِلَى التَّدَاوِي ثُمَّ إِلَى الدُّعَاءِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَقَامَيْنِ غَايَةٌ فِي الْكَمَالِ.

قَوْلُهُ: (أُشْعِرْتُ) أَيْ عَلِمْتُ؟ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: أَفْتَانِي فِي أَمْرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَيْ أَجَابَنِي فِيمَا دَعَوْتُهُ، فَأَطْلَقَ عَلَى الدُّعَاءِ اسْتِفْتَاءً لِأَنَّ الدَّاعِيَ طَالِبٌ وَالْمُجِيبَ مُفْتٍ، أَوِ الْمَعْنَى أَجَابَنِي بِمَا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، لِأَنَّ دُعَاءَهُ كَانَ أَنْ يُطْلِعَهُ اللَّهُ عَلَى حَقِيقَةِ مَا هُوَ فِيهِ لِمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْبَأَنِي بِمَرَضِي أَيْ أَخْبَرَنِي.

قَوْلُهُ: (أَتَانِي رَجُلَانِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَتَانِي رَجُلَانِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُرْجَأِ بْنِ رَجَاءٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ: أَتَانِي مَلَكَانِ، وَسَمَّاهُمَا ابْنُ سَعْدٍ فِي رِوَايَةٍ مُنْقَطِعَةٍ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَكُنْتُ ذَكَرْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ ذَلِكَ احْتِمَالًا.

قَوْلُهُ: (فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي) لَمْ يَقَعْ لِي أَيُّهُمَا قَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، لَكِنَّنِي أَظُنُّهُ جِبْرِيلَ لِخُصُوصِيَّتِهِ بِهِ عليهما السلام. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي السِّيرَةِ لِلدِّمْيَاطِيِّ الْجَزْمَ بِأَنَّهُ جِبْرِيلُ قَالَ: لِأَنَّهُ أَفْضَلُ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ سَعْدٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، عَقَدَ لَكَ عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا، فَدَلَّ مَجْمُوعُ الطُّرُقِ عَلَى أَنَّ الْمَسْئُولَ هُوَ جِبْرِيلُ وَالسَّائِلُ مِيكَائِيلُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلِي لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي وَكَأَنَّهَا أَصْوَبُ، وَكَذَا هُوَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ. وَوَقَعَ بِالشَّكِّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (مَا وَجَعُ الرَّجُلِ)؟ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: مَا تَرَى، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْمَنَامِ، إِذْ لَوْ جَاءَا إِلَيْهِ فِي الْيَقِظَةِ لَخَاطَبَاهُ وَسَأَلَاهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ بِصِفَةِ النَّائِمِ وَهُوَ يَقْظَانُ، فَتَخَاطَبَا وَهُوَ يَسْمَعُ. وَأَطْلَقَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فَانْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ ذَاتَ يَوْمٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْتُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابن سَعْدٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا: فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ وَهُوَ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: مَطْبُوبٌ) أَيْ مَسْحُورٌ، يُقَالُ: طُبَّ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ إِذَا سُحِرَ، يُقَالُ: كَنَّوْا عَنِ السِّحْرِ بِالطِّبِّ تَفَاؤُلًا كَمَا قَالُوا لِلَّدِيغِ سُلَيْمٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الطِّبُّ مِنَ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ لِعِلَاجِ الدَّاءِ: طِبٌّ، وَالسِّحْرُ مِنَ الدَّاءِ وَيُقَالُ لَهُ: طِبٌّ، وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ بِقَرْنٍ حِينَ طُبَّ،

ص: 228

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يَعْنِي: سُحِرَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: بَنَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَمْرَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهُ مَرِضَ، وَأَنَّهُ عَنْ مَادَّةٍ مَالَتْ إِلَى الدِّمَاغِ وَغَلَبَتْ عَلَى الْبَطْنِ الْمُقَدَّمِ مِنْهُ فَغَيَّرَتْ مِزَاجَهُ، فَرَأَى اسْتِعْمَالَ الْحِجَامَةِ لِذَلِكَ مُنَاسِبًا، فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ سُحِرَ عَدَلَ إِلَى الْعِلَاجِ الْمُنَاسِبِ لَهُ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُهُ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَادَّةَ السِّحْرِ انْتَهَتْ إِلَى إِحْدَى قُوَى الرَّأْسِ حَتَّى صَارَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّ السِّحْرَ قَدْ يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ انْفِعَالِ الطَّبِيعَةِ وَهُوَ أَشَدُّ السِّحْرِ، وَاسْتِعْمَالُ الْحَجْمِ لِهَذَا الثَّانِي نَافِعٌ لِأَنَّهُ إِذَا هَيَّجَ الْأَخْلَاطَ وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي عُضْوٍ كَانَ اسْتِفْرَاغُ الْمَادَّةِ الْخَبِيثَةِ نَافِعًا فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا قِيلَ لِلسِّحْرِ طِبٌّ لِأَنَّ أَصْلَ الطِّبِّ الْحِذْقُ بِالشَّيْءِ وَالتَّفَطُّنُ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنْ عِلَاجِ الْمَرَضِ وَالسِّحْرِ إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَنْ فِطْنَةٍ وَحِذْقٍ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مِنْهُمَا هَذَا الِاسْمُ.

قَوْلُهُ: (فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ) أَمَّا الْمُشْطُ فَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَثْبَتَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَنْكَرَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَبِالسُّكُونِ فِيهِمَا، وَقَدْ يُضَمُّ ثَانِيهِ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ فَقَطْ وَهُوَ الْآلَةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي يُسَرَّحُ بِهَا شَعْرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ ; وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَيُطْلَقُ الْمُشْطُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى مِنْهَا: الْعَظْمُ الْعَرِيضُ فِي الْكَتِفِ، وَسَلَامَيَاتُ ظَهْرِ الْقَدَمِ، وَنَبْتٌ صَغِيرٌ يُقَالُ لَهُ: مُشْطُ الذَّنَبِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي سُحِرَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَدَ هَذِهِ الْأَرْبَعِ. قُلْتُ: وَفَاتَهُ آلَةٌ لَهَا أَسْنَانٌ، وَفِيهَا هِرَاوَةٌ يُقْبَضُ عَلَيْهَا وَيُغَطَّى بِهَا الْإِنَاء، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ: إِنَّهَا تُسَمَّى الْمُشْطُ. وَالْمُشْطُ أَيْضًا سِمَةٌ مِنْ سِمَاتِ الْبَعِيرِ تَكُونُ فِي الْعَيْنِ وَالْفَخِذِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِالْمُشْطِ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ: فَإِذَا فِيهَا مُشْطُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ مُرَاطَةِ رَأْسِهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَمِنْ أَسْنَانِ مُشْطِهِ، وَفِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ: فَعَمَدَ إِلَى مُشْطٍ وَمَا مُشِطَ مِنَ الرَّأْسِ مِنْ شَعْرٍ فَعَقَدَ بِذَلِكَ عُقَدًا.

قَوْلُهُ: (وَمُشَاطَةٍ) سَيَأْتِي بَيَانُ الِاخْتِلَافِ هَلْ هِيَ بِالطَّاءِ أَوِ الْقَافِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ.

قَوْلُهُ: (وَجُفَّ طَلْعُ نَخْلَةِ ذَكَرٍ) قَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ لِلْجُرْجَانِيِّ - يَعْنِي فِي الْبُخَارِيِّ - وَالْعُذْرِيِّ - يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ - بِالْفَاءِ. وَلِغَيْرِهِمَا بِالْمُوَحَّدَةِ. قُلْتُ: أَمَّا رِوَايَةُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ هُنَا فَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْفَاءِ وَلِغَيْرِهِ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَأَمَّا رِوَايَتُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ فَالْجَمِيعُ بِالْفَاءِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ لِلْجَمِيعِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْفَاءِ، وَلِلْجَمِيعِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ فِي الدَّعَوَاتِ بِالْفَاءِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رِوَايَتُنَا - يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ - بِالْفَاءِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا بِالْبَاءِ يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْفَاءِ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْغِشَاءُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الطَّلْعِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالذَّكَرِ فِي قَوْلِهِ طَلْعَةُ ذَكَرٍ وَهُوَ بِالْإِضَافَةِ انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا هُنَا بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ: ذَكَرَ صِفَةٌ لِجُفٍّ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الَّذِي بِالْفَاءِ هُوَ وِعَاءُ الطَّلْعِ وَهُوَ الْغِشَاء الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ، وَبِالْمُوَحَّدَةِ دَاخِلَ الطَّلْعَةِ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الْكُفْرِيُّ، قَالَهُ شَمِرٌ، قَالَ: وَيُقَالُ أَيْضًا لِدَاخِلِ الرَّكِيَّةِ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا جُفٌّ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْقَطْعِ يَعْنِي مَا قُطِعَ مِنْ قُشُورِهَا. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: الْجُفُّ بِالْفَاءِ شَيْءٌ يُنْقَرُ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ) زَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا بَعْدَ بَابٍ، وَذَرْوَانُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ فَتْحهَا وَأَنَّهُ قَرَأَهُ كَذَلِكَ قَالَ: وَلَكِنَّهُ بِالسُّكُونِ أَشْبَهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ، وَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ فِي الدَّعَوَاتِ مِثْلُهُ، وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ لَكِنْ بِغَيْرِ لَفْظِ بِئْرٍ، وَلِغَيْرِهِ فِي ذَرْوَانَ. وَذَرْوَانُ بِئْرٌ فِي بَنِي زُرَيْقٍ، فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: بِئْرُ ذَرْوَانَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ بِأَنَّ الْأَصْلَ بِئْرُ ذِي أَرْوَانَ،

ص: 229

ثُمَّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ فَصَارَتْ: ذَرْوَانُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ الْبَكْرِيَّ صَوَّبَ أَنَّ اسْمَ الْبِئْرِ أَرْوَانُ بِالْهَمْزِ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ ذَرْوَانَ أَخْطَأَ. وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ عَلَى مَا وَجَّهْتُهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ وُهَيْبٍ وَكَذَا فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ: بِئْرُ أَرْوَانَ كَمَا قَالَ الْبَكْرِيُّ، فَكَأَنَّ رِوَايَةَ الْأَصِيلِيِّ كَانَتْ مِثْلَهَا فَسَقَطَتْ مِنْهَا الرَّاءُ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ: فِي بِئْرِ ذِي أَوَانَ بِغَيْرِ رَاءٍ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ عَلَى سَاعَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ الَّذِي بُنِيَ فِيهِ مَسْجِدُ الضِّرَارِ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ) وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَأْتِيَا الْبِئْرَ، وَعِنْدَهُ فِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ: فَدَعَا جُبَيْرَ بْنَ إِيَاسٍ الزُّرَقِيَّ وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ بدرا فدله عَلَى مَوْضِعِهِ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَاسْتَخْرَجَهُ، قَالَ: وَيُقَالُ: الَّذِي اسْتَخْرَجَهُ قَيْسُ بْنُ مُحْصَنٍ الزُّرَقِيُّ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ أَعَانَ جُبَيْرًا عَلَى ذَلِكَ، وَبَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ فَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَيْضًا أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا يَهُورُ الْبِئْرُ، فَيُمْكِنُ تَفْسِيرُ مَنْ أُبْهِمَ بِهَؤُلَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَجَّهَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ تَوَجَّهَ فَشَاهَدَهَا بِنَفْسِهِ.

قَوْلُهُ (فَجَاءَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ) فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ: فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ وَلَفْظُهُ: فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْبِئْرِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ: فَنَزَلَ رَجُلٌ فَاسْتَخْرَجَهُ، وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ وَجَدَ فِي الطَّلْعَةِ تِمْثَالًا مِنْ شَمْعٍ، تِمْثَالُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِذَا فِيهِ إِبَرٌ مَغْرُوزَةٌ، وَإِذَا وُتِرَ فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَكُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَكُلَّمَا نَزَعَ إِبْرَةً وَجَدَ لَهَا أَلَمًا ثُمَّ يَجِدُ بَعْدَهَا رَاحَةً وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَغَيْرِهِ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَفِيهِ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَحِلَّ الْعُقَدَ وَيَقْرَأَ آيَةً، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَيَحِلُّ حَتَّى قَامَ كَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ مُعْضِلًا: فَاسْتَخْرَجَ السِّحْرَ مِنَ الْجُفِّ مِنْ تَحْتِ الْبِئْرِ ثُمَّ نَزَعَهُ فَحَلَّهُ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّ مَاءَهَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَاللَّهُ لَكَأَنَّ مَاءَهَا أَيِ الْبِئْرَ (نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ) بِضَمِّ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، وَالْحِنَّاءُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ بِالْمَدِّ أَيْ أَنَّ لَوْنَ مَاءِ الْبِئْرِ لَوْنُ الْمَاءِ الَّذِي يُنْقَعُ فِيهِ الْحِنَّاءُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَعْنِي أَحْمَرَ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ غُسَالَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي تُعْجَنُ فِيهِ الْحِنَّاءُ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ: فَوَجَدَ الْمَاءَ وَقَدِ اخْضَرَّ، وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ الدَّاوُدِيِّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ قَدْ تَغَيَّرَ إِمَّا لِرَدَاءَتِهِ بِطُولِ إِقَامَتِهِ، وَإِمَّا لِمَا خَالَطَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أُلْقِيَتْ فِي الْبِئْرِ. قُلْتُ: وَيَرُدُّ الْأَوَّلَ أَنَّ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ هَوَّرَ الْبِئْرَ الْمَذْكُورَةَ، وَكَانَ يَسْتَعْذِبُ مِنْهَا، وَحَفَرَ بِئْرًا أُخْرَى فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَفْرِهَا.

قَوْلُهُ: (وَكَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) كَذَا هُنَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ هِشَامٍ: كَأَنَّ نَخْلَهَا، بِغَيْرِ ذِكْرِ: رُءُوسٍ، أَوَّلًا، وَالتَّشْبِيهُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فَلِذَلِكَ أَفْصَحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ فِي غَيْرِهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ: فَإِذَا نَخْلُهَا الَّذِي يَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا قَدِ الْتَوَى سَعَفُهُ كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ. وَقَدْ وَقَعَ تَشْبِيهُ طَلْعِ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِي الْقُرْآنِ بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَبَّهَ طَلْعَهَا فِي قُبْحِهِ بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ لِأَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِالْقُبْحِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي اللِّسَانِ أَنَّ مَنْ قَالَ: فُلَانٌ شَيْطَانٌ أَرَادَ أَنَّهُ خَبِيثٌ أَوْ قَبِيحٌ، وَإِذَا قَبَّحُوا مُذَكَّرًا قَالُوا شَيْطَانٌ، أَوْ مُؤَنَّثًا قَالُوا غُولٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّيَاطِينِ الْحَيَّاتِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي بَعْضَ الْحَيَّاتِ شَيْطَانًا، وَهُوَ ثُعْبَانٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ،

ص: 230

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَبَاتًا قَبِيحًا قِيلَ إِنَّهُ يُوجَدُ بِالْيَمَنِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا اسْتَخْرَجْتُهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: فَقَالَ: لَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُ، وَأَنَّ سُؤَالَ عَائِشَةَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنِ النُّشْرَةِ فَأَجَابَهَا بِلَا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (فَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: سُوءًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: أَنْ أُثَوِّرَ، بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهُمَا بِمَعْنًى. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ التَّعْمِيمُ فِي الْمَوْجُودِينَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: خَشِيَ مِنْ إِخْرَاجِهِ وَإِشَاعَتِهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَذَكُّرِ السِّحْرِ وَتَعَلُّمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; وَهُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَصْلَحَةِ خَوْفَ الْمَفْسَدَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ: عَلَى أُمَّتِي، وَهُوَ قَابِلٌ أَيْضًا لِلتَّعْمِيمِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ تُطْلَقُ عَلَى أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَأُمَّةِ الدَّعْوَةِ وعَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا فَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُثِيرَ عَلَيْهِ شَرًّا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ الْإِغْضَاءَ عَمَّنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ مَا صَدَرَ، وَقَدْ وَقَعَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا، نَعَمْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَتَلْتَهُ، قَالَ: مَا وَرَاءَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَشَدُّ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاعْتَرَفَ فَعَفَا عَنْهُ، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: فَمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَ بِهِ وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ، وَفِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ: فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: حُبُّ الدَّنَانِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْتُلْهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ

سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عِكْرِمَةَ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَنُقِلَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ ذَلِكَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ قَتَلَهُ، وَمِنْ ثَمَّ حَكَى عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ قَوْلَيْنِ: هَلْ قُتِلَ، أَمْ لَمْ يُقْتَلْ؟ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا حُجَّةَ عَلَى مَالِكٍ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ قَتْلِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يُثِيرَ بِسَبَبِ قَتْلِهِ فِتْنَةً، أَوْ لِئَلَّا يُنَفِّرَ النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا رَاعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَنْعِ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ قَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ بِهَا) أَيْ بِالْبِئْرِ (فَدُفِنَتْ) وَهَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ هِشَامٍ، وَأَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَقِبَ رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَقَالَ لَمْ يَقُلْ أَبُو أُسَامَةَ فِي رِوَايَتِهِ فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ. قُلْتُ: وَكَأَنَّ شَيْخَهُ لَمْ يَذْكُرْهَا حِينَ حَدَّثَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، كَمَا فِي الْبَابِ بَعْدَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ هَوَّرَهَا.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ) هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، وَتَأْتِي رِوَايَتُهُ مَوْصُولَةً بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَأَبُو ضَمْرَةَ) هُوَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، وَسَتَأْتِي رِوَايَتُهُ مَوْصُولَةً فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.

قَوْلُهُ: (وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، وَلَمْ أَعْرِفْ مَنْ وَصَلَهَا بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ وَمُشَاقَةٍ وَهُوَ الصَّوَابُ وَإِلَّا لَاتَّحَدَتِ الرِّوَايَاتُ، وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ تَأْتِي مَوْصُولَةً بَعْدَ بَابٍ. وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ تَبَعًا لِخَلَفٍ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ فِي الطِّبِّ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ كلاهما، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَطَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ مَا هِيَ فِي الطِّبِّ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ وَقَالَ بَعْدَهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْ أَبُو مَسْعُودٍ فِي أَطْرَافِهِ الْحُمَيْدِيَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا مُشِطَ) هَذَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعْرِ الَّذِي سَقَطَ مِنَ الرَّأْسِ إِذَا سُرِّحَ بِالْمُشْطِ، وَكَذَا مِنَ اللِّحْيَةِ.

قَوْلُهُ: (وَالْمُشَاطَةُ مِنْ مُشَاطَةِ الْكَتَّانِ) كَذَا لِأَبِي

ص: 231

ذَرٍّ كَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الشَّعْرِ إِذَا مُشِطَ وَبَيْنَ الْكَتَّانِ إِذَا سُرِّحَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَالْمُشَاقَةُ وَهُوَ أَشْبَهَ، وَقِيلَ الْمُشَاقَةُ هِيَ الْمُشَاطَةُ بِعَيْنِهَا، وَالْقَافُ تُبْدَلُ مِنَ الطَّاءِ لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌48 - بَاب الشِّرْكُ وَالسِّحْرُ مِنْ الْمُوبِقَاتِ

5764 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ؛ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ مِنَ الْمُوبِقَاتِ) أَيِ الْمُهْلِكَاتِ.

قَوْلُهُ: (اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ: الشِّرْكَ بِاللَّهِ وَالسِّحْرَ) هَكَذَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا وَحَذَفَ لَفْظَ الْعَدَدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا بِلَفْظِ اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَيَجُوزُ نَصْبُ الشِّرْكِ بَدَلًا مِنَ السَّبْعِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالنُّكْتَةُ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى اثْنَتَيْنِ مِنَ السَّبْعِ هُنَا الرَّمْزُ إِلَى تَأْكِيدِ أَمْرِ السِّحْرِ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ جُمْلَةُ الْحَدِيثِ، فَقَالَ: ذِكْرُ الْمُوبِقَاتِ وَهِيَ صِيغَةُ جَمْعٍ وَفَسَّرَهَا بِاثْنَتَيْنِ فَقَطْ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} فَاقْتَصَرَ عَلَى اثْنَتَيْنِ فَقَطْ، وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْحَدِيثُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ سَبْعَةٌ حَذَفَ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا خَمْسَةً وَلَيْسَ شَأْنُ الْآيَةِ كَذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ حَذْفَ الْمَعْطُوفِ لِلْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّ التَقْدِيرَ اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ وَالسِّحْرَ وَأَخَوَاتِهِمَا وَجَازَ الْحَذْفُ لِأَنَّ الْمُوبِقَاتِ سَبْعٌ، وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَاقْتَصَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ثِنْتَيْنِ مِنْهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمَا أَحَقُّ بِالِاجْتِنَابِ، وَيَجُوزُ رَفْعُ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ عَلَى تَقْدِيرِ مِنْهُنَّ.

قُلْتُ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ هَكَذَا تَارَةً وَتَارَةً وَرَدَ بِتَمَامِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الَّذِي اخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ نَفْسُهُ كَعَادَتِهِ فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَسَاقَهَا سَبْعًا فَذَكَرَ بَعْدَ السِّحْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ إِلَخْ، وَأَعَادَهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْمُحَارَبِينَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ بِتَمَامِهِ، وَأَغْفَلَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ ذِكْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي تَرْجَمَةِ سَالِمٍ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

‌49 - بَاب هَلْ يَسْتَخْرِجُ السِّحْرَ؟

وَقَالَ قَتَادَةُ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ - أَوْ يُؤَخَّذُ عَنْ امْرَأَتِهِ - أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنَشَّرُ؟

قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الْإِصْلَاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ

5765 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، فَسَأَلْتُ هِشَامًا عَنْهُ، فَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ، قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ

ص: 232

رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ، كَانَ مُنَافِقًا، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطةٍ، قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ، قَالَتْ: فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ، فَقَالَ: هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، قَالَ: فَاسْتُخْرِجَ، قَالَتْ فَقُلْتُ: أَفَلَا - أَيْ تَنَشَّرْتَ -؟ فَقَالَ: أَمَّا واللَّه فَقَدْ شَفَانِي، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ شَرًّا.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُسْتَخْرَجُ السِّحْرُ)؟ كَذَا أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ إِشَارَةً إِلَى الِاخْتِلَافِ، وَصَدَّرَ بِمَا نَقَلَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مِنَ الْجَوَازِ إِشَارَةً إِلَى تَرْجِيحِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي كِتَابِ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ أَبَانَ الْعَطَّارِ، عَنْ قَتَادَةَ، وَمِثْلُهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِ يَلْتَمِسُ مَنْ يُدَاوِيهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَمَّا يَضُرُّ وَلَمْ يَنْهَ عَمَّا يَنْفَعُ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي التَّهْذِيبِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا إِذَا كَانَ بِالرَّجُلِ سِحْرٌ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَنْ يُطْلِقُ عَنْهُ، فَقَالَ: هُوَ صَلَاحٌ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا سَاحِرٌ، قَالَ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. إِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَمَّا يَضُرُّ وَلَمْ يَنْهَ عَمَّا يَنْفَعُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ عَنِ الْحَسَنِ رَفَعَهُ النُّشْرَةُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَوَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: النُّشْرَةُ حَلُّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ، وَلَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ يَعْرِفُ السِّحْرَ. وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ يُطْلِقُ السِّحْرَ عَنِ الْمَسْحُورِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَيُجَابُ عَنِ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: النُّشْرَةُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِهَا، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِالْقَصْدِ، فَمَنْ قَصَدَ بِهَا خَيْرًا كَانَ خَيْرًا وَإِلَّا فَهُوَ شَرٌّ. ثُمَّ الْحَصْرُ الْمَنْقُولُ عَنِ الْحَسَنِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْحَلُّ بِالرُّقَى وَالْأَدْعِيَةِ وَالتَّعْوِيذِ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النُّشْرَةُ نَوْعَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بِهِ طِبٌّ) بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ سِحر، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ.

قَوْلُهُ: (أَوْ يُؤْخَذُ) بِفَتْحِ الْوَاوِ مَهْمُوزٌ وَتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ أَيْ يُحْبَسُ عَنِ امْرَأَتِهِ، وَلَا يَصِلُ إِلَى جِمَاعِهَا، وَالْأُخْذَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ هِيَ الْكَلَامُ الَّذِي يَقُولُهُ السَّاحِرُ، وَقِيلَ: خرَزَةٌ يُرْقَى عَلَيْهَا، أَوْ هِيَ الرُّقْيَةُ نَفْسُهَا.

قَوْلُهُ: (أَوْ يُحَلُّ عَنْهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ يُنَشَّرُ) بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ النُّشْرَةِ بِالضَّمِّ، وَهِيَ ضَرْبٌ مِنَ الْعِلَاجِ يُعَالَجُ بِهِ مَنْ يُظَنُّ أَنَّ بِهِ سِحْرًا أَوْ مَسًّا مِنَ الْجِنِّ، قِيلَ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُكْشَفُ بِهَا عَنْهُ مَا خَالَطَهُ مِنَ الدَّاءِ، وَيُوَافِقُ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الرُّقْيَةِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ، وَيُؤَيِّدُ مَشْرُوعِيَّةَ النُّشْرَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ: الْعَيْنُ حَقٌّ، فِي قِصَّةِ اغْتِسَالِ الْعَائِنِ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي إِذَا وُطِئَتْ لَا تَضُرُّهُ، وَهِيَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِنْسَانُ فِي مَوْضِعِ عِضَاهُ فَيَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ مِنْ كُلٍّ ثُمَّ يَدُقُّهُ وَيَقْرَأُ فِيهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ بِهِ.

وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ فِي كُتُبِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنْ يَأْخُذَ سَبْعَ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ أَخْضَرَ فَيَدُقُّهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ثُمَّ يَضْرِبُهُ بِالْمَاءِ، وَيَقْرَأُ فِيهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَالْقَوَافِلَ ثُمَّ يَحْسُوُ مِنْهُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ بِهِ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ عَنْهُ كُلَّ مَا بِهِ، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ إِذَا حُبِسَ عَنْ أَهْلِهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِجَوَازِ النُّشْرَةِ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى صِفَةِ النُّشْرَةِ فِي كِتَابِ

ص: 233

الطِّبِّ النَّبَوِيِّ لِجَعْفَرٍ الْمُسْتَغْفِرِيِّ قَالَ: وَجَدْتُ فِي خَطِّ نَصُوحِ بْنِ وَاصِلٍ عَلَى ظَهْرِ جُزْءٍ مِنْ تَفْسِيرِ قُتَيْبَةَ بْنِ أَحْمَدَ الْبُخَارِيِّ قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ، لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ أُخِذَ عَنِ امْرَأَتِهِ أَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يُنَشَّرَ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْإِصْلَاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ.

قَالَ نَصُوحٌ: فَسَأَلَنِي حَمَّادُ بْنُ شَاكِرٍ: مَا الْحَلُّ وَمَا النُّشْرَةُ؟ فَلَمْ أَعْرِفْهُمَا، فَقَالَ: هُوَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُجَامَعَةِ أَهْلِهِ وَأَطَاقَ مَا سِوَاهَا، فَإِنَّ الْمُبْتَلَى بِذَلِكَ يَأْخُذُ حُزْمَةَ قُضْبَانٍ وَفَأْسًا ذَا قِطَارَيْنِ وَيَضَعُهُ فِي وَسَطِ تِلْكَ الْحُزْمَةِ ثُمَّ يُؤَجِّجُ نَارًا فِي تِلْكَ الْحُزْمَةِ حَتَّى إِذَا مَا حَمِيَ الْفَأْسُ اسْتَخْرَجَهُ مِنَ النَّارِ وَبَالَ عَلَى حَرِّهِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَأَمَّا النُّشْرَةُ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ أَيَّامَ الرَّبِيعِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ وَرْدِ الْمُفَارَةِ وَوَرْدِ الْبَسَاتِينِ ثُمَّ يُلْقِيهَا فِي إِنَاءٍ نَظِيفٍ، وَيَجْعَلُ فِيهِمَا مَاءً عَذْبًا، ثُمَّ يَغْلِي ذَلِكَ الْوَرْدُ فِي الْمَاءِ غَلْيًا يَسِيرًا، ثُمَّ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا فَتَرَ الْمَاءُ أَفَاضَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَالَ حَاشِدٌ: تَعَلَّمْتُ هَاتَيْنِ الْفَائِدَتَيْنِ بِالشَّامِ. قُلْتُ: وَحَاشِدٌ هَذَا مِنْ رُوَاةِ الصَّحِيحِ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُسْتَغْفِرِيُّ أَنَّ أَثَرَ قَتَادَةَ هَذَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَأَنَّهُ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَوِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مَا اكْتَفَى بِعَزْوِهِ إِلَى تَفْسِيرِ قُتَيْبَةَ بْنِ أَحْمَدَ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، وَأَغْفَلَ أَيْضًا أَثَرَ الشَّعْبِيِّ فِي صِفَتِهِ وَهُوَ أَعْلَى مَا اتَّصَلَ بِنَا مِنْ ذَلِكَ.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ سِحْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى قَرِيبًا. وَقَوْلُهُ فِيهِ قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ سُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى كَلَامِ سُفْيَانَ هَذَا فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ، وَلَا ابْنِ أَبِي عُمَرَ وَلَا غَيْرِهِمَا واللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فِي جُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ رَاعُوفَةٍ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَعَكَسَ ابْنُ التِّينِ وَزَعَمَ أَنَّ رَاعُوفَةً لِلْأَصِيلِيِّ فَقَطْ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ، وَفِي لُغَةٍ أُخْرَى أُرْعُوفَةٌ وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ تَحْتَ رَعُوثَةٍ بِمُثَلَّثَةٍ بَدَلَ الْفَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ أُخْرَى مَعْرُوفَةٌ، وَوَقَعَ فِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى زَعُوبَةٍ بِزَايٍ وَمُوَحَّدَةٍ، وَقَالَ: هِيَ بِمَعْنَى رَاعُوفَةٍ اهـ. وَالرَّاعُوفَةُ حَجَرٌ يُوضَعُ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ لَا يُسْتَطَاعُ قَلْعُهُ يَقُومُ عَلَيْهِ الْمُسْتَقِي. وَقَدْ يَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْبِئْرِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدة: هِيَ صَخْرَةٌ تُنْزَلُ فِي أَسْفَلِ الْبِئْرِ إِذَا حُفِرَتْ يَجْلِسُ عَلَيْهَا الَّذِي يُنَظِّفُ الْبِئْرَ، وَهُوَ حَجَرٌ يُوجَدُ صُلْبًا لَا يُسْتَطَاعُ نَزْعُهُ فَيُتْرَكُ، وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا فَقِيلَ: لِتَقَدُّمِهَا وَبُرُوزِهَا يُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ يُرْعِفُ الْخَيْلَ أَيْ يَتَقَدَّمُهَا ; وَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ عَنْ شَمِرٍ قَالَ: رَاعُوفَةُ الْبِئْرِ النَّظَافَةُ، هِيَ مِثْلُ عَيْنٍ عَلَى قَدْرِ حَجَرِ الْعَقْرَبِ فِي أَعْلَى الرَّكِيَّةِ فَيُجَاوِزُ فِي الْحَفْرِ خَمْسَ قِيَمٍ وَأَكْثَرَ فَرُبَّمَا وَجَدُوا مَاءً كَثِيرًا، قَالَ شَمِرٌ: فَمَنْ ذَهَبَ بِالرَّاعُوفَةِ إِلَى النَّظَافَةِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ رُعَافِ الْأَنْفِ، وَمَنْ ذَهَبَ بِالرَّاعُوفَةِ إِلَى الْحَجَرِ الَّذِي يَتَقَدَّمُ طَيَّ الْبِئْرِ فَهُوَ مِنْ رَعَفَ الرَّجُلُ إِذَا سَبَقَ. قُلْتُ: وَتَنْزِيلُ الرَّاعُوفَةِ عَلَى الْأَخِيرِ وَاضِحٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ إِلَى أَنْ قَالَ: فَاسْتَخْرَجَ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ، وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْرِجْهُ لِلنَّاسِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ: أَفَلَا أَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: لَا. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذَا الْبَابِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَكَرَ الْمُهَلَّبُ أَنَّ الرُّوَاةَ اخْتَلَفُوا عَلَى هِشَامٍ فِي إِخْرَاجِ السِّحْرِ الْمَذْكُورِ، فأثبته سُفْيَانُ وَجَعَلَ سُؤَالَ عَائِشَةَ عَنِ النُّشْرَةِ، وَنَفَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَجَعَلَ سُؤَالَهَا عَنِ الِاسْتِخْرَاجِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَوَابَ، وَصَرَّحَ بِهِ أبو أُسَامَةَ، قَالَ: وَالنَّظَرُ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ رِوَايَةِ سُفْيَانَ لِتَقَدُّمِهِ فِي الضَّبْطِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ النُّشْرَةَ لَمْ تقَعْ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ سُفْيَانَ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتُهُمْ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ كَرَّرَ اسْتِخْرَاجَ السِّحْرِ

ص: 234

فِي رِوَايَتِهِ مَرَّتَيْنِ، فَيَبْعُدُ مِنَ الْوَهْمِ، وَزَادَ ذِكْرَ النُّشْرَةِ وَجَعَلَ جَوَابَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا بِلَا بَدَلًا منِ الِاسْتِخْرَاجِ، قَالَ: وَيَحْتَمَلُ وَجْهًا آخَرَ فَذَكَرَ مَا مُحَصِّلُهُ: أَنَّ الِاسْتِخْرَاجَ الْمَنْفِيَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرُ الِاسْتِخْرَاجِ الْمُثْبَتِ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، فَالْمُثْبَتُ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الْجُفِّ وَالْمَنْفِيُّ اسْتِخْرَاجُ مَا حَوَاهُ، قَالَ: وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَعَلَّمُهُ مَنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَ السِّحْرِ.

قُلْتُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ: فَاسْتَخْرَجَ جُفَّ طَلْعَةٍ مِنْ تَحْتِ رَاعُوفَةٍ، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: فَأَخْرَجُوهُ، فَرَمَوْا بِهِ، وَفِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ الَّذِي اسْتَخْرَجَ السِّحْرَ قَيْسُ بْنُ مُحَصِّنٍ، وكُلُّ هَذَا لَا يُخَالِفُ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ، لَكِنْ فِي آخِرِ رِوَايَةِ عَمْرَةَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ وَجَدُوا وَتَرًا فِيهِ عُقَدٌ، وَأَنَّهَا انْحَلَّتْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِاسْتِكْشَافِ مَا كَانَ دَاخِلَ الْجُفِّ، فَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَقُدِحَ فِي الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ لَا يَخْلُو إِسْنَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ ضَّعْفِ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ مُخَالَفَةٌ فِي لَفْظَةٍ أُخْرَى: فَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ: أَفَلَا أَخْرَجْتَهُ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ: أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَقَافٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: كِلَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحٌ، كَأَنَّهَا طَلَبَتْ أَنَّهُ يُخْرِجُهُ ثُمَّ يُحَرِّقُهُ. قُلْتُ: لَكِنْ لَمْ يَقَعَا مَعًا فِي رِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ اللَّفْظَةُ مَكَانَ اللَّفْظَةِ، وَانْفَرَدَ أَبُو كُرَيْبٍ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ، فَالْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ أَنَّ رِوَايَتَهُ شَاذَّةٌ. وَأَغْرَبَ الْقُرْطُبِيُّ فَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي أَحْرَقْتُهُ لِلَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ، قَالَ: وَاسْتَفْهَمَتْهُ عَائِشَةُ عَنْ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى مَا صَنَعَ مِنَ السِّحْرِ، فَأَجَابَهَا بِالِامْتِنَاعِ، وَنَبَّهَ عَلَى سَبَبِهِ وَهُوَ خَوْفُ وُقُوعِ شَرٍّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ لِأَجْلِ الْعَهْدِ، فَلَوْ قَتَلَهُ لَثَارَتْ فِتْنَةٌ. كَذَا قَالَ. وَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُ تَعَيُّنِ قَتْلِهِ بِالْإِحْرَاقِ، وَأنْ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ الرِّوَايَةَ ثَابِتَةٌ وَأَنَّ الضَّمِيرَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَفَلَا؟ أَيْ تَنَشَّرْتُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلَّا؟ قَالَ سُفْيَانُ: بِمَعْنَى تَنَشَّرْتُ. فَبَيَّنَ الَّذِي فَسَّرَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا: أَفَلَا، كَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرِ اللَّفْظَةَ فَذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى، وَظَاهِرُ هَذا اللَّفْظِ أَنَّهُ مِنَ النُّشْرَةِ. وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ أَنَّكَ تَعْنِي تُنَشَّرُ، وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ ذَكَرَ النُّشْرَةَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّشْرِ بِمَعْنَى الْإِخْرَاجِ فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: فَهَلَّا أَخْرَجْتَهُ، وَيكون لَفْظِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: هَلَّا اسْتَخْرَجْتَ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَخْرَجِ مَا حَوَاهُ الْجُفُّ لَا الْجُفُّ نَفْسُهُ، فَيَتَأَيَّدُ الْجَمْعُ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ.

(تَكْمِيلٌ): قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ وَأَقْوَى مَا يُوجَدُ مِنَ النُّشْرَةِ مُقَاوَمَةُ السِّحْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ بِالْأَدْوِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ، فَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ مُمْتَلِئًا مِنَ اللَّهِ مَعْمُورًا بِذِكْرِهِ وَلَهُ وِرْدٌ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوَجُّهِ لَا يُخِلُّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ إِصَابَةِ السِّحْرِ لَهُ. قَالَ: وَسُلْطَانُ تَأْثِيرِ السِّحْرِ هُوَ فِي الْقُلُوبِ الضَّعِيفَةِ، وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يُؤَثِّرُ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْجُهَّالِ، لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ إِنَّمَا تَنْشَطُ عَلَى أَرْوَاحٍ تَلْقَاهَا مُسْتَعِدَّةً لِمَا يُنَاسِبُهَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَجَوَازُ السِّحْرِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَظِيمِ مَقَامِهِ وَصِدْقِ تَوَجُّهِهِ وَمُلَازَمَةِ وِرْدِهِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَأَنَّ مَا وَقَعَ بِهِ صلى الله عليه وسلم لِبَيَانِ تَجْوِيزِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌50 - بَاب السِّحْرِ

5766 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ

ص: 235

صلى الله عليه وسلم حَتَّى أنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: جَاءَنِي رَجُلَانِ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، قَالَ: فِيمَا ذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ، قَالَ: فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَأَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: لَا. أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي، وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا، وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ

قَوْلُهُ: (بَابُ السِّحْرِ) كَذَا وَقَعَ هُنَا لِلْكَثِيرِ، وَسَقَطَ لِبَعْضِهِمْ، وَعَلَيْهِ جَرَى ابْنُ بَطَّالٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ التَّرْجَمَةَ قَدْ تَقَدَّمَتْ بِعَيْنِهَا قَبْلَ بَابَيْنِ، وَلَا يُعْهَدُ ذَلِكَ لِلْبُخَارِيِّ إِلَّا نَادِرًا عِنْدَ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ.

وذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فَاقْتَصَرَ الْكَثِيرُ مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ، مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى قَوْلِهِ: يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، وَوَقَعَ سِيَاقُ الْحَدِيثِ بِكَمَالِهِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي، وَكَذَا صَنَعَ النَّسَفِيُّ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ طَرِيقَ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ هِشَامٍ إِلَى قَوْلِهِ: صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصْنَعْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَدًا وَمَتْنًا لِغَيْرِهِ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ.

وَأَغْفَلَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ ذِكْرَهَا هُنَا، وَذَكَرَ هُنَا رِوَايَةَ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، وَلَمْ أَرَهَا، وَلَا ذَكَرَهَا أَبُو مَسْعُودٍ فِي أَطْرَافِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ لَا يُقْتَلُ حَدًّا إِذَا كَانَ لَهُ عَهْدٌ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جُنْدَبٍ رَفَعَهُ قَالَ: حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ، فَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، فَلَوْ ثَبَتَ لَخُصَّ مِنْهُ مَنْ لَهُ عَهْدٌ، وَتَقَدَّمَ فِي الْجِزْيَةِ مِنْ رِوَايَةِ بَجَالَةَ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ بَجَالَةَ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَصْلَ الْحَدِيثِ دُونَ قِصَّةِ قَتْلِ السَّوَاحِرِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا يُقْتَلُ سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالزُّهْرِيِّ، إِلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِسِحْرِهِ فَيُقْتَلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَعَنْ مَالِكٍ إِنْ أَدْخَلَ بِسِحْرِهِ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ لَمْ يُعَاهَدْ عَلَيْهِ نُقِضَ الْعَهْدُ بِذَلِكَ فَيَحِلُّ قَتْلُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ خَشِيَ إِذَا قَتَلَهُ أَنْ تَثُورَ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ حُلَفَائِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ مِنْ نَمَطِ مَا رَاعَاهُ مِنْ تَرْكِ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ، سَوَاءٌ كَانَ لَبِيدٌ يَهُودِيًّا أَوْ مُنَافِقًا، عَلَى مَا مَضَى مِنَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ. قَالَ: وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ حُكْمَ السَّاحِرِ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَيُقْتَلُ حَدًّا إِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا إِنِ اعْتَرَفَ بِسِحْرِهِ فَيُقْتَلُ بِهِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ أَنَّ سِحْرَهُ قَدْ يَقْتُلُ وَقَدْ لَا يَقْتُلُ وَأَنَّهُ سَحَرَهُ وَأَنَّهُ مَاتَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَتْلُ بِالسِّحْرِ بِالْبَيِّنَةِ، وَادَّعَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ إِنَّ السَّاحِرَ يُقْتَلُ قِصَاصًا إِذَا اعْتَرَفَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسِحْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَ فِي السِّحْرِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَفَرَ السَّاحِرُ وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِذَا تَابَ عِنْدَنَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي سِحْرِهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ عُزِّرَ وَاسْتُتِيبَ.

ص: 236

‌51 - بَاب إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا

5767 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، أَوْ: إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ

قَوْلُهُ: (بَابُ إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ السِّحْرَ.

قَوْلُهُ: (قَدِمَ رَجُلَانِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِمَا صَرِيحًا، وَقَدْ زَعَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُمَا الزِّبْرِقَانِ بِكَسْرِ الزَّايِ وَالرَّاءِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ وَبِالْقَافِ، وَاسْمُهُ الْحُصَيْنُ وَلُقِّبَ الزِّبْرِقَانِ لِحُسْنِهِ، وَالزِّبْرِقَانُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقَمَرِ، وَهُوَ ابْنُ بَدْرِ بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ بْنِ خَلَفٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَاسْمُ الْأَهْتَمِ سِنَانُ بْنُ سُمَيٍّ يَجْتَمِعُ مَعَ الزِّبْرِقَانِ فِي كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةِ ابْنِ تَمِيمٍ، فَهُمَا تَمِيمِيَّانِ، قَدِمَا فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاسْتَنَدُوا فِي تَعْيِينِهِمَا إِلَى مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، فَفَخَرَ الزِّبْرِقَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا سَيِّدُ بَنِي تَمِيمٍ وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ وَالْمُجَابُ، أَمْنَعُهُمْ مِنَ الظُّلْمِ وَآخُذُ مِنْهُمْ بِحُقُوقِهِمْ، وَهَذَا يَعْلَمُ ذَلِكَ - يَعْنِي عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ -، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُ لَشَدِيدُ الْعَارِضَةِ، مَانِعٌ لِجَانِبِهِ مُطَاعٌ فِي أُذُنَيْهِ. فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ مِنِّي غَيْرَ مَا قَالَ، وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلَّا الْحَسَدُ، فَقَالَ عَمْرٌو: أَنَا أَحْسُدُكَ؟ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَئِيمُ الْخَالِ، حَدِيثُ الْمَالِ، أَحْمَقُ الْوَالِدِ، مُضَيَّعٌ فِي الْعَشِيرَةِ. وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ فِي الْأُولَى وَمَا كَذَبْتُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنِّي رَجُلٌ إِذَا رَضِيتُ قُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ، وَإِذَا غَضِبْتُ قُلْتُ أَقْبَحَ مَا وَجَدْتُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ عَلَيْهِمْ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، والزِّبْرِقَانُ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرٍو: مَا تَقُولُ فِي الزِّبْرِقَانِ؟ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الزِّبْرِقَانُ، وَعَمْرُو هُمَا الْمُرَادُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِنَّمَا هُوَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ وَحْدَهُ، وَكَانَ كَلَامُهُ فِي مُرَاجَعَتِهِ الزِّبْرِقَانَ، فَلَا يَصِحُّ نِسْبَةُ الْخُطْبَةِ إِلَيْهِمَا إِلَّا عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْمَشْرِقِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَكَانَتْ سُكْنَى بَنِي تَمِيمٍ مِنْ جِهَةِ الْعِرَاقِ وَهِيَ فِي شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبَيَانُ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَقَعُ بِهِ الْإِبَانَةُ عَنِ الْمُرَادِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَالْآخَرُ: مَا دَخَلَتْهُ الصَّنْعَةُ بِحَيْثُ يَرُوقُ لِلسَّامِعِينَ وَيَسْتَمِيلُ قُلُوبَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يُشَبَّهُ بِالسِّحْرِ إِذَا خَلَبَ الْقَلْبَ وَغَلَبَ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى يُحَوِّلَ الشَّيْءَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَيَصْرِفَهُ عَنْ جِهَتِهِ، فَيَلُوحُ لِلنَّاظِرِ فِي مَعْرِضِ غَيْرِهِ. وَهَذَا إِذَا صُرِفَ إِلَى الْحَقِّ يُمْدَحُ، وَإِذَا صُرِفَ إِلَى الْبَاطِلِ يُذَمُّ. قَالَ: فَعَلَى هَذَا فَالَّذِي يُشَبَّهُ بِالسِّحْرِ مِنْهُ هُوَ الْمَذْمُومُ.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْآخَرِ سِحْرًا، لِأَنَّ السِّحْرَ يُطْلَقُ عَلَى الِاسْتِمَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَوَّلِ بَابِ السِّحْرِ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمُ الْحَدِيثَ عَلَى الْمَدْحِ وَالْحَثِّ عَلَى تَحْسِينِ الْكَلَامِ وَتَحْبِيرِ الْأَلْفَاظِ، وَهَذَا وَاضِحٌ إِنْ صَحَّ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي قِصَّةِ عَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الذَّمِّ لِمَنْ تَصَنَّعَ فِي الْكَلَامِ وَتَكَلَّفَ لِتَحْسِينِهِ وَصَرَفَ الشَّيْءَ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَشُبِّهَ بِالسِّحْرِ الَّذِي هُوَ تَخْيِيلٌ لِغَيْرِ حَقِيقَةٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مَالِكٌ؛ حَيْثُ أَدْخَلَ هذا الْحَدِيثَ فِي الْمُوَطَّأِ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْخِطْبَةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِ صَعْصَعَةَ بْنِ صُوحَانَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا

ص: 237

الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَّةِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ النَّاسَ بِبَيَانِهِ فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ، وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا يَمْنَعُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ إِذَا كَانَ فِي تَزْيِينِ الْحَقِّ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ فُضَلَاءِ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ ذَمًّا لِلْبَيَانِ كُلِّهِ وَلَا مَدْحًا لِقَوْلِهِ مِنَ الْبَيَانِ، فَأَتَى بِلَفْظَةٍ مِنَ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ قَالَ: وَكَيْفَ يُذَمُّ الْبَيَانُ وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ حَيْثُ قَالَ: {خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَانِ فِي الْآيَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ، لَا خُصُوصَ مَا نَحْنُ فِيهِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَدْحِ الْإِيجَازِ، وَالْإِتْيَانِ بِالْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْيَسِيرَةِ، وَعَلَى مَدْحِ الْإِطْنَابِ فِي مَقَامِ الْخَطَابَةِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْبَيَانِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي. نَعَمِ الْإِفْرَاطُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَذْمُومٌ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌52 - بَاب الدَّوَاءِ بِالْعَجْوَةِ لِلسِّحْرِ

5768 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، أَخْبَرَنَا هَاشِمٌ، أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبْعَ تَمَرَاتٍ.

5769 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ، سَمِعْتُ سَعْدًا رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الدَّوَاءِ بِالْعَجْوَةِ لِلسِّحْرِ) الْعَجْوَةُ: ضَرْبٌ مِنْ أَجْوَدِ تَمْرِ الْمَدِينَةِ وَأَلْيَنِهِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ مِنْ وَسَطِ التَّمْرِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْعَجْوَةُ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْرِ أَكْبَرُ مِنَ الصَّيْحَانِيِّ يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ، وَهُوَ مِمَّا غَرَسَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ بِالْمَدِينَةِ. وَذَكَرَ هَذَا الْأَخِيرَ الْقَزَّازُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَلَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ، لَكِنْ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِأَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمَدِينِيِّ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ. وَجَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ سَلَمَةَ اللَّبِقِيُّ، وَمَا عَرَفْتُ سَلَفَهُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَرْوَانُ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (هَاشِمٌ) هُوَ ابْنُ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَامِرُ بْنُ سَعْدٍ هُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِيهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ فِي الْبَابِ: سَمِعْتُ عَامِرًا سَمِعْتُ سَعْدًا وَيَأْتِي بَعْدَ قَلِيلٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ سَمِعْتُ أَبِي وَهُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.

قَوْلُهُ (مَنِ اصْطَبَحَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: مَنْ تَصَبَّحَ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ جُمْعَةَ، عَنْ مَرْوَانَ الْمَاضِيَةِ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى التَّنَاوُلِ صَبَاحًا، وَأَصْلُ الصَّبُوحِ وَالِاصْطِبَاحِ تَنَاوُلُ الشَّرَابِ صُبْحًا، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْأَكْلِ، وَمُقَابِلُهُ الْغَبُوقُ وَالِاغْتِبَاقُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ; وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ الْغِذَاءِ أَعَمَّ مِنَ الشُّرْبِ وَالْأَكْلِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

صَبَحْنَا الْخَزْرَجِيَّةَ مُرْهَفَاتٍ

وَتَصَبَّحَ مُطَاوِعُ صَبَّحْتِهِ بِكَذَا إِذَا أَتَيْتَهُ بِهِ صَبَاحًا، فَكَأَنَّ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الْعَجْوَةَ صَبَاحًا قَدْ أَتَى بِهَا، وَهُوَ مِثْلُ تَغَدَّى وَتَعَشَّى إِذَا وَقَعَ

ص: 238

ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْغَدَاءِ أَوِ الْعِشَاءِ.

قَوْلُهُ: (كُلُّ يَوْمٍ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ) كَذَا أُطْلِقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَوَقَعَ مُقَيَّدًا فِي غَيْرِهَا، فَفِي رِوَايَةِ جُمْعَةَ، وَابْنِ أَبِي عُمَرَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ دُحَيْمٍ، عَنْ مَرْوَانَ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فِي الْبَابِ، وَوَقَعَ مُقَيَّدًا بِالْعَجْوَةِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، وَزَادَ أَبُو ضَمْرَةَ فِي رِوَايَتِهِ التَّقْيِيدَ بِالْمَكَانِ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ: مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ مِنْ تَمْرِ الْعَالِيَةِ، وَالْعَالِيَةُ الْقُرَى الَّتِي فِي الْجِهَةِ الْعَالِيَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَهِيَ جِهَةُ نَجْدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهَا ذِكْرٌ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ بَيَانُ مِقْدَارِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ. وَلِلزِّيَادَةِ شَاهِدٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: فِي عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ شِفَاءٌ فِي أَوَّلِ الْبُكْرَةِ، وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي طُوَالَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ بِلَفْظِ: مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِمَّا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا حِينَ يُصْبِحُ، وَأَرَادَ لَابَّتَيِ الْمَدِينَةِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِلْعِلْمِ بِهَا.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ) السُّمُّ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مُثَلَّثُ السِّينِ، وَالسِّحْرُ تَقَدَّمَ تَحْرِيرُ الْقَوْلِ فِيهِ قَرِيبًا ; وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ الْيَوْمَ ظَرْفٌ وَهُوَ مَعْمُولٌ لِيَضُرَّهُ، أَوْ صِفَةٌ لِسِحْرٍ. وَقَوْلُهُ: إِلَى اللَّيْلِ، فِيهِ تَقْيِيدُ الشِّفَاءِ الْمُطْلَقِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ؛ حَيْثُ قَالَ: شِفَاءُ أَوَّلِ الْبُكْرَةِ فِي أَوْ تِرْيَاقٌ، وَتَرَدُّدُهُ فِي تِرْيَاقٍ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْبُكْرَةُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ يُوَافِقُ ذِكْرَ الصَّبَاحِ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ، وَالشِّفَاءُ أَشْمَلُ مِنَ التِّرْيَاقِ يُنَاسِبُ ذِكْرَ السُّمِّ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ شَيْئَانِ السِّحْرُ وَالسُّمُّ، فَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهِيَ شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ، وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ.

وَالتِّرْيَاقُ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَقَدْ تُضَمُّ وَقَدْ تُبْدَلُ الْمُثَنَّاةُ دَالًا أَوْ طَاءً بِالْإِهْمَالِ فِيهِمَا، وَهُوَ دَوَاءٌ مُرَكَّبٌ مَعْرُوفٌ يُعَالَجُ بِهِ الْمَسْمُومُ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْعَجْوَةِ اسْمُ التِّرْيَاقِ تَشْبِيهًا لَهَا بِهِ، وَأَمَّا الْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ: إِلَى اللَّيْلِ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ السِّرَّ الَّذِي فِي الْعَجْوَةِ مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ السِّحْرِ وَالسُّمِّ يَرْتَفِعُ إِذَا دَخَلَ اللَّيْلُ فِي حَقِّ مَنْ تَنَاوَلَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ إِطْلَاقُ الْيَوْمِ عَلَى مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ دُخُولُ اللَّيْلِ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى حُكْمِ مَنْ تَنَاوَلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ هَلْ يَكُونُ كَمَنْ تَنَاوَلَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ حَتَّى يَنْدَفِعَ عَنْهُ ضَرَرُ السُّمِّ وَالسِّحْرِ إِلَى الصَّبَاحِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ خُصُوصِيَّةُ ذَلِكَ بِالتَّنَاوُلِ أَوَّلَ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْغَالِبُ أَنَّ تَنَاوُلَهُ يَقَعُ عَلَى الرِّيقِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ مَنْ تَنَاوَلَ اللَّيْلَ عَلَى الرِّيقِ كَالصَّائِمِ، وَظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ أَيْضًا الْمُوَاظَبَةُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ مُقَيَّدًا فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ فِي سَبْعِ غَدَوَاتٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيِّ، عَنْ هِشَامٍ مَرْفُوعًا، وَذَكَرَ ابْنُ عَدِيٍّ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَفَرُّدَهُ بِرَفْعِهِ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ لَكِنْ فِي الْمُتَابَعَاتِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ سَبْعُ تَمَرَاتٍ) وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ يَعْنِي غَيْرَ حَدِيثِ عَلِيٍّ انْتَهَى، وَالْغَيْرُ كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ جُمْعَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَطْعِمَةِ عَنْهُ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ مِمَّنْ رَوَاهُ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ (سَبْعُ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ، بِزِيَادَةِ الْمُوَحَّدَةِ فِي أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ فِي تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ الْإِضَافَةُ فَتُخْفَضُ كَمَا تَقُولُ: ثِيَابُ خَزٍّ، وَيَجُوزُ التَّنْوِينُ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ صِفَةٌ لِسَبْعٍ أَوْ تَمَرَاتٍ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ مُنَوَّنًا عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَوْنُ الْعَجْوَةِ تَنْفَعُ مِنَ السُّمِّ وَالسِّحْرِ إِنَّمَا هُوَ بِبَرَكَةِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِتَمْرِ الْمَدِينَةِ لَا لِخَاصِّيَّةٍ فِي التَّمْرِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَخْلًا خَاصًّا بِالْمَدِينَةِ لَا يُعْرَفُ الْآنَ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ نَحْوَهُ، وأن ذَلِكَ لِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِزَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم،

ص: 239

وَهَذَا يُبْعِدُهُ وَصْفُ عَائِشَةَ لِذَلِكَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَشَارِقِ: أَمَّا تَخْصِيصُ تَمْرِ الْمَدِينَةِ بِذَلِكَ فَوَاضِحٌ مِنْ أَلْفَاظِ الْمَتْنِ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ زَمَانِهِ بِذَلِكَ فَبَعِيدٌ، وَأَمَّا خُصُوصِيَّةُ السَّبْعِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِسِرٍّ فِيهَا، وَإِلَّا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وِتْرًا.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فِي طَرِيقَة عِلْمِ الطِّبِّ، وَلَوْ صَحَّ أَنْ يَخْرُجَ لِمَنْفَعَةِ التَّمْرِ فِي السُّمِّ وَجْهٌ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى إِظْهَارِ وَجْهِ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ السَّبْعُ، وَلَا عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ الْعَجْوَةُ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ لِأَهْلِ زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً أَوْ لِأَكْثَرِهِمْ، إِذْ لَمْ يَثْبُتِ اسْتِمْرَارُ وُقُوعِ الشِّفَاءِ فِي زَمَانِنَا غَالِبًا، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ وَصْفَ غَالِبِ الْحَالِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: تَخْصِيصُهُ ذَلِكَ بِعَجْوَةِ الْعَالِيَةِ وَبِمَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ يَرْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ، وَيَكُونُ خُصُوصًا لَهَا، كَمَا وُجِدَ الشِّفَاءُ لِبَعْضِ الْأَدْوَاءِ فِي الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْبِلَادِ دُونَ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي غَيْرِهِ، لِتَأْثِيرٍ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَرْضِ أَوِ الْهَوَاءِ. قَالَ: وَأَمَّا تَخْصِيصُ هَذَا الْعَدَدِ فَلِجَمْعِهِ بَيْنَ الْإِفْرَادِ وَالْإِشْفَاعِ، لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى نِصْفِ الْعَشَرَةِ، وَفِيهِ إشْفَاعٌ ثَلَاثَةٌ وإوْتَارٌ أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ مِنْ نَمَطِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -:{سَبْعَ سَنَابِلَ} وَكَمَا أَنَّ السَّبْعِينَ مُبَالَغَةٌ فِي كَثْرَةِ الْعَشَرَاتِ، وَالسَّبْعَمِائَةِ مُبَالَغَةٌ فِي كَثْرَةِ الْمِئِينَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ تَخْصِيصُ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ بِمَا ذُكِرَ، وَأَمَّا خُصُوصُ كَوْنِ ذَلِكَ سَبْعًا فَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ كَمَا فِي أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ. قَالَ: وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمَازِرِيُّ، وَعِيَاضٌ بِكَلَامٍ بَاطِلٍ فَلَا يُغْتَرُّ بِهِ انْتَهَى.

وَلَمْ يَظْهَرْ لِي مِنْ كَلَامِهِمَا مَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالْبُطْلَانِ، بَلْ كَلَامُ الْمَازِرِيِّ يُشِيرُ إِلَى مُحَصَّلِّ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ، وَفِي كَلَامِ عِيَاضٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُنَاسَبَةِ فَقَطْ، وَالْمُنَاسَبَاتُ لَا يُقْصَدُ فِيهَا التَّحْقِيقُ الْبَالِغُ بَلْ يُكْتَفَى مِنْهَا بِطُرُقِ الْإِشَارَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ خُصُوصِيَّةُ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ بِدَفْعِ السُّمِّ وَإِبْطَالِ السِّحْرِ، وَالْمُطْلَقُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْخَوَاصِّ الَّتِي لَا تُدْرَكُ بِقِيَاسٍ ظَنِّيٍّ. وَمِنْ أَئِمَّتِنَا مَنْ تَكَلَّفَ لِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ السَّمُومَ إِنَّمَا تَقْتُلُ لِإِفْرَاطِ بُرُودَتِهَا، فَإِذَا دَاوَمَ عَلَى التَّصَبُّحِ بِالْعَجْوَةِ تَحَكَّمَتْ فِيهِ الْحَرَارَةُ، وَأَعَانَتْهَا الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ، فَقَاوَمَ ذَلِكَ بُرُودَةَ السُّمِّ مَا لَمْ يُسْتَحْكَمْ. قَالَ: وَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ رَفْعُ خُصُوصِيَّةِ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ، بَلْ خُصُوصِيَّةُ الْعَجْوَةِ مطلقا بَلْ خُصُوصِيَّةُ التَّمْرِ؛ فَإِنَّ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْحَارَّةِ مَا هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَ التَّمْرِ، وَالْأَوْلَى أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِعَجْوَةِ الْمَدِينَةِ. ثُمَّ هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِزَمَانِ نُطْقِهِ أَوْ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟ هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَيَرْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ التَّجْرِبَةُ الْمُتَكَرِّرَةُ. فَمَنْ جَرَّبَ ذَلِكَ فَصَحَّ مَعَهُ عُرْفٌ أَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ، وَإِلَّا فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ الزَّمَانِ. قَالَ: وَأَمَّا خُصُوصِيَّةُ هَذَا الْعَدَدِ فَقَدْ جَاءَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مِنَ الطِّبِّ كَحَدِيثِ: صُبُّوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، وَقَوْلُهُ لِلْمَفْئُودِ الَّذِي وَجَّهَهُ لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ أَنْ يَلُدَّهُ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ، وَجَاءَ تَعْوِيذُهُ سَبْعُ مَرَّاتٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا فِي غَيْرِ الطِّبِّ فَكَثِيرٌ، فَمَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ فِي مَعْرِضِ التَّدَاوِي فَذَلِكَ لِخَاصِّيَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ أَوْ مَنْ أَطْلَعَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا جَاءَ مِنْهُ فِي غَيْرِ مَعْرِضِ التَّدَاوِي فَإِنَّ الْعَرَبَ تَضَعُ هَذَا الْعَدَدَ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ وَإِنْ لَمْ تُرِدْ عَدَدًا بِعَيْنِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: عَجْوَةُ الْمَدِينَةِ مِنْ أَنْفَعِ تَمْرِ الْحِجَازِ، وَهُوَ صِنْفٌ كَرِيمٌ مُلَزَّزٌ مَتِينُ الْجِسْمِ وَالْقُوَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَلْيَنِ التَّمْرِ وَأَلَذِّهِ. قَالَ: وَالتَّمْرُ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَكْثَرِ الثِّمَارِ تَغْذِيَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَوْهَرِ الْحَارِّ الرَّطْبِ، وَأَكْلُهُ عَلَى الرِّيقِ يَقْتُلُ الدِّيدَانَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ التِّرْيَاقِيَّةِ، فَإِذَا أُدِيمَ أَكْلُهُ عَلَى الرِّيقِ جَفَّفَ مَادَّةَ الدُّودِ وَأَضْعَفَهُ أَوْ قَتَلَهُ انْتَهَى. وَفِي كَلَامِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنَ السُّمِّ، وَهُوَ مَا يَنْشَأُ عَنِ الدِّيدَانِ الَّتِي فِي الْبَطْنِ لَا كُلُّ السَّمُومِ، لَكِنْ سِيَاقُ الْخَبَرِ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فِي السُّمِّ فَمَاذَا يَصْنَعُ فِي السِّحْرِ.

ص: 240

‌53 - بَاب لَا هَامَةَ

5770 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ.

5771 -

وعن أَبِي سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ، وَأَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثَ الْأَوَّلِ، قُلْنَا: أَلَمْ تُحَدِّثْ أَنَّهُ لَا عَدْوَى، فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَمَا رَأَيْتُهُ نَسِيَ حَدِيثًا غَيْرَهُ.

[الحديث 5771 - طرفه في: 5774]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا هَامَةَ) قَالَ أَبُو زَيْدٍ: هِيَ بِالتَّشْدِيدِ، وَخَالَفَهُ الْجَمِيعُ فَخَفَّفُوهَا، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ فِي الرِّوَايَةِ، وَكَأَنَّ مَنْ شَدَّدَهَا ذَهَبَ إِلَى وَاحِدَةِ الْهَوَامِّ وَهِيَ ذَوَاتُ السَّمُومِ، وَقِيلَ: دَوَابُّ الْأَرْضِ الَّتِي تَهِمُّ بِأَذَى النَّاسِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ نفيه إِلَّا إِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا لَا تَضُرُّه لِذَوَاتِهَا، وَإِنَّمَا تَضُرُّ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِيقَاعَ الضَّرَرِ بِمَنْ أَصَابَتْهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي الْمُوَفَّقِيَّاتِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَقُولُ: إِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُؤْخَذْ بِثَأْرِهِ خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِهِ هَامَةٌ - وَهِيَ دُودَةٌ - فَتَدُورُ حَوْلَ قَبْرِهِ فَتَقُولُ: اسْقُونِي اسْقُونِي، فَإِنْ أُدْرِكَ بِثَأْرِهِ ذَهَبَتْ وَإِلَّا بَقِيَتْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ:

يَا عَمْرُو إِلَّا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي

أَضْرِبْكَ حَتَّى تَقُولَ الْهَامَةُ اسْقُونِي

وَقَالَ: وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَزْعُمُ أَنَّهَا تَدُورُ حَوْلَ قَبْرِهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَذْهَبُ. وَذَكَرَ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ نَحْوَ الْأَوَّلِ: إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُعَيِّنُوا كَوْنَهَا دُودَةً، بَلْ قَالَ الْقَزَّازُ: الْهَامَةُ طَائِرٌ مِنْ طَيْرِ اللَّيْلِ، كَأَنَّهُ يَعْنِي الْبُومَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِهَا، إِذَا وَقَعَتْ عَلَى بَيْتِ أَحَدِهِمْ يَقُولُ: نَعَتَ إِلَيَّ نَفْسِي أَوْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ دَارِي. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ عِظَامَ الْمَيِّتِ تَصِيرُ هَامَةً فَتَطِيرُ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الطَّائِرَ الصَّدَى. فَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ لَا حَيَاةَ لِهَامَةِ الْمَيِّتِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا شُؤْمَ بِالْبُومَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَعَلَّ الْمُؤَلِّفَ تَرْجَمَ لَا هَامَةَ مَرَّتَيْنِ، بِالنَّظَرِ لِهَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ وَهِيَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (لَا عَدْوَى) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْجُذَامِ وَكَيْفِيَّةُ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: لَا عَدْوَى، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ، وَكَذَا تَقَدَّمَ شَرْحُ قَوْلِهِ: وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ (تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: أَمْثَالُ الظِّبَاءِ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَبِالْمَدِّ جَمْعُ ظَبْيٍ، شَبَّهَهَا بِهَا فِي النَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الدَّاءِ.

قَوْلُهُ: (فَيُجَرِّبُهَا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَيَدْخُلُ فِيهَا وَيُجَرِّبُهَا، بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنَ الْعَدْوَى، أَيْ يَكُونُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْحَرْبِ بِهَا، وَهَذَا مِنْ أَوْهَامِ الْجُهَّالِ، كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا دَخَلَ فِي الْأَصِحَّاءِ أَمْرَضَهُمْ

ص: 241

فَنَفَى الشَّارِعُ ذَلِكَ وَأَبْطَلَهُ، فَلَمَّا أَوْرَدَ الْأَعْرَابِيُّ الشُّبْهَةَ رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ وَهُوَ جَوَابٌ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَالرَّشَاقَةِ. وَحَاصِلُهُ: مِنْ أَيْنَ الْجَرَبُ لِلَّذِي أَعْدَى بِزَعْمِهِمْ؟ فَإِنْ أُجِيبَ مِنْ بَعِيرٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ أَوْ سَبَبٌ آخَرُ فَلْيُفْصِحْ بِهِ، فَإِنْ أُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ فِي الْأَوَّلِ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ فِي الثَّانِي ثَبَتَ الْمُدَّعَى، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَ بِالْجَمِيعِ ذَلِكَ هُوَ الْخَالِقُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ اللَّهُ سبحانه وتعالى.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ) كَذَا فِيهِ بِتَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنِ الْإِيرَادِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: لَا يُورِدُ، بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَكَذَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْبَابِ. وَالْمُمْرِضُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا ضَادٌ مُعْجَمَةٌ هُوَ الَّذِي لَهُ إِبِلٌ مَرْضَى، وَالْمُصِحُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ مَنْ لَهُ إِبِلٌ صِحَاحٌ، نَهَى صَاحِبَ الْإِبِلِ الْمَرِيضَةِ أَنْ يُورِدَهَا عَلَى الْإِبِلِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمُمْرِضُ اسْمُ فَاعِل مِنْ أَمْرَضَ الرَّجُلُ إِذَا أَصَابَ مَاشِيَتَهُ مَرَضٌ، وَالْمُصِحُّ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَصَحَّ إِذَا أَصَابَ مَاشِيَتَهُ عَاهَةٌ ثُمَّ ذَهَبَ عَنْهَا وَصَحَّتْ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: حَدِيثُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُهُمَا كِلَيْهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَمَتَ أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ قَوْلِهِ لَا عَدْوَى.

قَوْلُهُ: (وَقُلْنَا: أَلَمْ تُحَدِّثْ أَنَّهُ لَا عَدْوَى) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ذُبَابٍ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ تُحَدِّثُنَا مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثَ: لَا عَدْوَى، فَأَبَى أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنَّكَ حَدَّثْتَنَا فَذَكَرَهُ قَالَ: فَأَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَضِبَ وَقَالَ: لَمْ أُحَدِّثْكَ مَا تَقُولُ.

قَوْلُهُ: (فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: فَمَا رَآهُ الْحَارِثُ فِي ذَلِكَ حَتَّى غَضِبَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَتَّى رَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ فَقَالَ لِلْحَارِثِ: أَتَدْرِي مَاذَا قُلْتُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: إِنِّي قُلْتُ أَبَيْتُ.

قَوْلُهُ: (فَمَا رَأَيْتُهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَمَا رَأَيْنَاهُ (نَسِيَ حَدِيثًا غَيْرَهُ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ فَمَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَمْ نَسَخَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلْآخَرِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو سَلَمَةَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَمَامَ التَّعَارُضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ الْجُذَامِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا عَدْوَى، نَهْيٌ عَنِ اعْتِقَادِهَا وَقَوْلُهُ: لَا يُورِدُ، سَبَبُ النَّهْيِ عَنِ الْإِيرَادِ خَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِي اعْتِقَادِ الْعَدْوَى، أَوْ خَشْيَةُ تَأْثِيرِ الْأَوْهَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي حَدِيثِ: فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الْجُذَامَ يُعْدِي يَجِدُ فِي نَفْسِهِ نَفْرَةً، حَتَّى لَوْ أَكْرَهَهَا عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ لَتَأَلَّمَتْ بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى بِالْعَاقِلِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِمِثْلِ ذَلِكَ بَلْ يُبَاعِدُ أَسْبَابَ الْآلَامِ وَيُجَانِبُ طُرُقَ الْأَوْهَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَسْمَعُ هَذَا الْحَدِيثَ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَ مَنْ بَسَطَ رِدَاءَهُ ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَيْهِ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا سَمِعَهُ مِنْ مَقَالَتِي، وَقَدْ قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْسَى تِلْكَ الْمَقَالَةَ الَّتِي قَالَهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا أَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ النِّسْيَانُ أَصْلًا.

وَقِيلَ: كَانَ الْحَدِيثُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ فَسَكَتَ عَنِ الْمَنْسُوخِ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا عَدْوَى، النَّهْيُ عَنِ الِاعْتِدَاءِ، وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ أُجْلِبَ عَلَيْهِ إِبِلًا جَرْبَاءَ أَرَادَ تَضْمِينَهُ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ فِي إِسْقَاطِ الضَّمَانِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَصَابَهَا مَا قُدِّرَ عَلَيْهَا وَمَا لَمْ تَكُنْ تَنْجُو مِنْهُ، لِأَنَّ الْعَجْمَاءَ جُبَارٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ هَذَا عَلَى ظَنِّهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ ذَلِكَ انْتَهَى. فَأَمَّا دَعْوَى نِسْيَانِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلْحَدِيثِ فَهُوَ بِحَسَبِ مَا ظَنَّ أَبُو سَلَمَةَ، وَقَدْ بَيَّنَتْ ذَلِكَ رِوَايَةُ يُونُسَ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، وَأَمَّا دَعْوَى النَّسْخِ فَمَرْدُودَةٌ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ

ص: 242

إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ فَبَعِيدٌ مِنْ مَسَاقِ الْحَدِيثِ، وَالَّذِي بَعْدَهُ أَبْعَدُ مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا خَبَرَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ عَنْ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهُمَا جَازَ عِنْدَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِأَحَدِهِمَا وَيَسْكُتَ عَنِ الْآخَرِ حَسْبَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَافَ اعْتِقَادَ جَاهِلٍ يَظُنُّهُمَا مُتَنَاقِضَيْنِ، فَسَكَتَ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَكَانَ إِذَا أُمِنَ ذَلِكَ حَدَّثَ بِهِمَا جَمِيعًا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي جَوَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَعْرَابِيِّ جَوَازُ مُشَافَهَةِ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي اعْتِقَادِهِ بِذِكْرِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ إِذَا كَانَ السَّائِلُ أَهْلًا لِفَهْمِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَاصِرًا فَيُخَاطَبُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ عَقْلُهُ مِنَ الْإِقْنَاعِيَّاتِ.

قَالَ: وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لِلْأَعْرَابِيِّ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ لِلطَّبَائِعِيِّينَ أَوَّلًا وَلِلْمُعْتَزِلَةِ ثَانِيًا، فَقَالَ الطَّبَائِعِيُّونُ بِتَأْثِيرِ الْأَشْيَاءِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَإِيجَادِهَا إِيَّاهَا، وَسَمَّوُا الْمُؤَثِّرَ طَبِيعَةً، وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْمُتَوَلِّدَاتِ وَأَنَّ قَدَرَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِيهَا بِالْإِيجَادِ، وَأَنَّهُمْ خَالِقُونَ لِأَفْعَالِهِمْ مُسْتَقِلُّونَ بِاخْتِرَاعِهَا، وَاسْتَنَدَ الطَّائِفَتَانِ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ الْحِسِّيَّةِ، وَنَسَبُوا مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ إِلَى إِنْكَارِ الْبَدِيهَةِ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْهُمْ غَلَطًا فَاحِشًا لِالْتِبَاسِ إِدْرَاكِ الْحِسِّ بِإِدْرَاكِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْمُشَاهَدَ إِنَّمَا هُوَ تَأْثِيرُ شَيْءٍ عِنْدَ شَيْءٍ آخَرَ، وَهَذَا حَظُّ الْحِسِّ، فَأَمَّا تَأْثِيرُهُ فَهُوَ فِيهِ حَظُّ الْعَقْلِ، فَالْحِسُّ أَدْرَكَ وُجُودَ شَيْءٍ عِنْدَ وُجُودِ شَيْءٍ وَارْتِفَاعَهُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ، أَمَّا إِيجَادُهُ بِهِ فَلَيْسَ لِلْحِسِّ فِيهِ مَدْخَلٌ، فَالْعَقْلُ هُوَ الَّذِي يُفَرِّقُ فَيُحْكَمُ بِتَلَازُمِهِمَا عَقْلًا أَوْ عَادَةً مَعَ جَوَازِ التَّبَدُّلِ عَقْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ وُقُوعُ تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ إِذَا جَمَعَهُمَا وَصْفٌ خَاصٌّ وَلَوْ تَبَايَنَا فِي الصُّورَةِ. وَفِيهِ شِدَّةُ وَرَعِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِ الْحَارِثِ أَغْضَبَهُ حَتَّى تَكَلَّمَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ خَشِيَ أَنْ يَظُنَّ الْحَارِثُ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَفَسَّرَ لَهُ فِي الْحَالِ مَا قَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌54 - بَاب لَا عَدْوَى

5772 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَمْزَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ.

5773 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا عَدْوَى.

5774 -

قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تُورِدُوا الْمُمْرِضَ عَلَى الْمُصِحِّ.

5775 -

وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا عَدْوَى. فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الْإِبِلَ تَكُونُ فِي الرِّمَالِ أَمْثَالَ الظِّبَاءِ، فَيَأْتِيهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَتَجْرَبُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟

ص: 243

5776 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ، قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا عَدْوَى) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا. وَذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

الأول: قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (وَحَمْزَةُ) هُوَ أَخُو سَالِمٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) قَالَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةَ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهَذَا السَّنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ، وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَفِي تَصْرِيحِ الزُّهْرِيِّ بِالْإِخْبَارِ فِيهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ دَفْعٌ لِتَوَهُّمِ انْقِطَاعِهِ بِسَبَبِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَأَدْخَلَ بَيْنَ الزُّهْرِيِّ، وَسَالِمٍ رَجُلًا، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ ابْنِ قُنْفُذٍ، وَيُحْمَلُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا عَلَى أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَمَلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَالِمٍ، ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ سَالِمٍ.

قَوْلُهُ: (لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ. الْحَدِيثَ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الشُّؤْمِ فِي ثَلَاثٍ؛ فِي النِّكَاحِ، وَجَمْعُ ابْنِ عُمَرَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَوِيَ عِنْدَهُ أَحَدُ الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْمُرَادِ بِالشُّؤْمِ، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، إِلَّا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مَبْرُورٍ، عَنْ يُونُسَ بِدُونِهَا. فَكَانَ الْمُنْفَرِدُ بِالزِّيَادَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا عَدْوَى) قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تُورِدُوا الْمُمْرِضَ عَلَى الْمُصِحِّ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا عَدْوَى، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ) فَذَكَرَ الْقِصَّةَ الْمَاضِيَةَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، هَكَذَا أَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِالْحَدِيثَيْنِ، لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، أَحَالَ بِهِ عَلَى رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، وَلَفْظُهُ: لَا عَدْوَى، وَيُحَدِّثُ مَعَ ذَلِكَ: لَا يُورِدُ الْمُمْرِضُ عَلَى الْمُصِحِّ، قَالَهُ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَوْرَدَ أَيْضًا رِوَايَةَ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ بِالْقِصَّةِ، وَأَحَالَ بِسِيَاقِهِ عَلَى رِوَايَةِ يُونُسَ، فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهَا كُلَّهَا مَوْصُولَةٌ. وَسِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ، وَاسْمُ أَبِيهِ يَزِيدَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَلَهُ آخَرُ عَنْ جَابِرٍ قَرَنَهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَنَسٍ بِلَفْظِ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ، وَفِيهِ تَفْسِيرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.

‌55 - بَاب مَا يُذْكَرُ فِي سُمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

5777 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سَمٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ الْيَهُودِ، فَجُمِعُوا لَهُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صادقوني عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا

ص: 244

الْقَاسِمِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ، فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ. فَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صادقوني عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، فقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ أَنْتُمْ صادقوني عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سَمًّا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ،

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي سُمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) الْإِضَافَةُ فِيهِ إِلَى الْمَفْعُولِ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا عَلَّقَهُ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ آخِرَ الْمَغَازِي، فَقَالَ: قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهُ وَهُوَ الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى، وَقَوْلُهُ: أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ، أَيِ الْأَلَمَ النَّاشِئَ عَنْ ذَلِكَ الْأَكْلِ، لَا أَنَّ الطَّعَامَ نَفْسَهُ بَقِيَ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ مُبَشِّرٍ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ الَّتِي أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مُخْتَصَرًا وَفِي أَوَاخِرِ الْجِزْيَةِ مُطَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (أُهْدِيَتْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا الْحَدِيثَ، فَعُرِفَ أَنَّ الَّتِي أَهْدَتِ الشَّاةَ الْمَذْكُورَةَ امْرَأَةٌ، وَقَدَّمْتُ فِي الْمَغَازِي أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ امْرَأَةُ سَلَامِ بْنِ مِشْكَمٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ. وَأَوْرَدَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهَا أَكْثَرَتِ السُّمَّ فِي الْكَتِفِ وَالذِّرَاعِ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَحَبَّ أَعْضَاءِ الشَّاةِ إِلَيْهِ، وَفِيهِ: فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَتِفَ فَنَهَشَ مِنْهَا، وَفِيهِ: فَلَمَّا ازْدَرَدَ لَقُمْتَهُ قَالَ: إِنَّ الشَّاةَ تُخْبِرُنِي، يَعْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ الِاخْتِلَافَ هَلْ قَتَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ تَرَكَهَا. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ: فَقِيلَ: أَلَا تَقْتُلُهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَا. فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ. وَمِنَ الْمُسْتَغْرَبِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونٍ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَهَا.

قَوْلُهُ: (اجْمَعُوا لِي) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْمَأْمُورِ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقُونِي عَنْهُ)؟ كَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: صَادِقِيِّ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِغَيْرِ نُونٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ فِي الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ: صَادِقُونِي، فَحُذِفَتِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ، فَاجْتَمَعَ حَرْفَا عِلَّةٍ سَبَقَ الْأَوَّلُ بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ، وَمِثْلُهُ:{وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} وَفِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمُ؟ انْتَهَى. وَإِنْكَارُهُ الرِّوَايَةَ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَقَدْ وَجَّهَهَا غَيْرُهُ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنْ تَصْحَبَ نُونُ الْوِقَايَةِ اسْمَ الْفَاعِلِ وَأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ وَالْأَسْمَاءَ الْمُعْرَبَةَ الْمُضَافَةَ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِتَقِيَهَا خَفَاءَ الْإِعْرَابِ، فَلَمَّا مَنَعَتْ ذَلِكَ كَانَتْ كَأَصْلٍ مَتْرُوكٍ، فَنَبَّهُوا عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ الْمُعْرَبَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلْفِعْلِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَلَيْسَ الْمُوَافِينِي لِيَرْتَدَّ خَائِبًا

فَإِنَّ لَهُ أَضْعَافَ مَا كَانَ أَمَّلَا

ص: 245

وَمِنْهُ فِي الْحَدِيثِ: غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ: أَخْوَفُ مُخَوِّفَاتِي عَلَيْكُمْ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَى الْيَاءِ وَأُقِيمَتْ هِيَ مَقَامَهُ، فَاتَّصَلَ: أَخْوَفُ بِهَا مَقْرُونَةً بِالنُّونِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ شَبِيهٌ بِفِعْلِ التَّعَجُّبِ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ النُّونَ الْبَاقِيَةَ هِيَ نُونُ الْوِقَايَةِ، وَنُونُ الْجَمْعِ حُذِفَتْ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى بِلَفْظِ: صَادِقِيَّ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النُّونَ الْبَاقِيَةَ هِيَ نُونُ الْجَمْعِ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النُّحَاةِ أَجَازَ فِي الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ أَنْ يُعْرَبَ بِالْحَرَكَاتِ عَلَى النُّونِ مَعَ الْوَاوِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْيَاءُ فِي مَحَلِّ نَصْبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَفْعُولَ اسْمِ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ ضَمِيرًا بَارِزًا مُتَّصِلًا بِهِ كَانَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَتَكُونُ النُّونُ عَلَى هَذَا أَيْضًا نُونَ الْجَمْعِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ. فَقَالُوا صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَهُوَ مِنَ الْبِرِّ

قَوْلُهُ: (نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تُخْلُفُونَنَا فِيهَا) بِضَمِّ اللَّامِ مُخَفَّفًا أَيْ تَدْخُلُونَ فَتُقِيمُونَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كُنَّا فِيهِ. وَضَبَطَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: خَاصَمَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ فَقَالُوا: لَنْ نَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ; وَسَيَخْلُفُنَا إِلَيْهَا قَوْمٌ آخَرُونَ - يَعْنُونَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ عَلَى رُءُوسِهِمْ: بَلْ أَنْتُمْ خَالِدُونَ مُخَلَّدُونَ لَا يَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَحَدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} الْآيَةَ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ سُلَيْم، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: هَذِهِ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نُعَذَّبُ بِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ فَنَزَلَتْ وَهَذَا سَنَدٌ حَسَنٌ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: اجْتَمَعَتْ يَهُودٌ تُخَاصِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: لَنْ تُصِيبَنَا النَّارُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَزَادَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَذَبْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ خَالِدُونَ مُخَلَّدُونَ، لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. فَنَزَلَ الْقُرْآنُ تَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، حَدَّثَنِي أَبِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِيَهُودٍ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ مَنْ أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْنَا غَضْبَةً فَنَمْكُثُ فِي النَّارِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَخْرُجُ فَتَخْلُفُونَنَا فِيهَا. فَقَالَ: كَذَبْتُمْ، وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ تَصْدِيقًا لَهُ وَهَذَانِ خَبَرَانِ مُرْسَلَانِ يقوى أَحَدُهُمَا على الْآخَرَ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُمَا تَعْيِينُ مِقْدَارِ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: أَيَّامًا يَسِيرَةً وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ حِكْمَةَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ - وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ - أَنَّهَا الْمُدَّةُ الَّتِي عَبَدُوا فِيهَا الْعِجْلَ.

قَوْلُهُ: (اخْسَئُوا فِيهَا) هُوَ زَجْرٌ لَهُمْ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ، أَوْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا) أَيْ لَا تَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا نُقِيمُ بَعْدَكُمْ فِيهَا، لِأَنَّ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ يَخْرُجُ مِنْهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّهُ يَخْلُفُ غَيْرُهُ أَصْلًا.

قَوْلُهُ: (أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ) يَعْنِي عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْهُودِ مِنَ السُّمِّ الْمَذْكُورِ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فَقَالَتْ أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ. فَقَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكَ عَلَى ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَسَيُطْلِعُكَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَأُرِيحُ النَّاسَ مِنْكَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مَوْصُولًا عَنْ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ بِأَسَانِيدِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ أَنَّهَا قَالَتْ: قَتَلْتُ أَبِي وَزَوْجِي وَعَمِّي وَأَخِي وَنِلْتُ مِنْ قَوْمِي مَا نِلْتُ، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيُخْبِرُهُ الذِّرَاعُ، وَإِنْ كَانَ مَلَكًا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ وَفِي الْحَدِيثِ إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْغَيْبِ، وَتَكْلِيمِ الْجَمَادِ لَهُ، وَمُعَانِدَةُ الْيَهُودِ لِاعْتِرَافِهِمْ بِصِدْقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اسْمِ أَبِيهِمْ وَبِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ دَسِيسَةِ

ص: 246

السُّمِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَعَانَدُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ. وَفِيهِ قَتْلُ مَنْ قَتَلَ بِالسُّمِّ قِصَاصًا، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا اسْتَكْرَهَهُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا إِذَا دَسَّهُ عَلَيْهِ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ الْيَهُودِيَّةَ بِبِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ فَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ بِالْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِيهِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ - كَالسَّمُومِ وَغَيْرِهَا - لَا تُؤَثِّرُ بِذَوَاتِهَا بَلْ بِإِذْنِ اللَّهِ، لِأَنَّ السُّمَّ أَثَّرَ فِي بِشْرٍ فَقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ فِي الْحَالِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعْدَ حَوْلٍ، وَوَقَعَ فِيهِ مُرْسَلُ الزُّهْرِيِّ فِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ لَوْنَهُ صَارَ فِي الْحَالِ كَالطَّيْلَسَانِ يَعْنِي أَصْفَرَ شَدِيدَ الصُّفْرَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَنَسٍ فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاللَّهَوَاتُ جَمْعُ لَهَاةٍ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى لُهًى بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالْقَصْرُ مَنُونٌ، وَلِهْيَان وَزْنُ إِنْسَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِيمَا مَضَى فِي الطِّبِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعُذْرَةِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الْمُعَلَّقَةُ فِي أَصْلِ الْحَنَكِ، وَقِيلَ: هِيَ مَا بَيْنَ مُنْقَطِعِ اللِّسَانِ إِلَى مُنْقَطِعِ أَصْلِ الْفَمِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُوَافِقُ الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ. وَمُرَادُ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَرِيهِ الْمَرَضُ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ أَحْيَانًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ وَوَقَعَ فِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا: مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ عِدَادًا حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي وَمِثْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ. وَالْعِدَادُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّخْفِيفِ مَا يُعْتَادُ، وَالْأَبْهَرُ عِرْقٌ فِي الظَّهْرِ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ أَرَادَ أَنَّهُ يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي اللَّهَوَاتِ بِتَغَيُّرِ لَوْنِهَا أَوْ بِنُتُوءٍ فِيهَا أَوْ تَحْفِيرٍ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

‌56 - بَاب شُرْبِ السُّمِّ وَالدَّوَاءِ بِهِ وَمَا يُخَافُ مِنْهُ وَالْخَبِيثِ

5778 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا. وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا. وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا.

5779 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ أَبُو بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلَا سِحْرٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ شُرْبِ السُّمِّ وَالدَّوَاءِ بِهِ وَمَا يُخَافُ مِنْهُ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ يَجُوزُ فَتْحُهُ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى السُّمِّ.

قَوْلُهُ: (وَالْخَبِيثُ) أَيِ الدَّوَاءُ الْخَبِيثُ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِالدَّوَاءِ بِالسُّمِّ إِلَى مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّدَاوِي بِالْحَرَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ فِي بَابِ الْبَاذِقِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: بِهِ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ مَا يَدْفَعُ ضَرَرَ السُّمِّ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ اسْتِعْمَالُ مَا يَدْفَعُ ضَرَرَ السُّمِّ قَبْلَ وُصُولِهِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدَ مَا قَالَ، لَكِنْ يُسْتَفَادُ مِنْهُ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ حَدِيثِ الْعَجْوَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا يُخَافُ

ص: 247

مِنْهُ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ الْعَائِدِ عَلَى السُّمِّ، وَقَوْلُهُ: مِنْهُ أَيْ مِنَ الْمَوْتِ بِهِ أَوِ اسْتِمْرَارِ الْمَرَضِ، فَيَكُونُ فَاعِلُ ذَلِكَ قَدْ أَعَانَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ شُرْبِ السُّمِّ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْيَسِيرِ مِنْهُ إِذَا رُكِّبَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ ضَرَرَهُ إِذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لَمَّا نَزَلَ الْحِيرَةَ قِيلَ لَهُ: احْذَرِ السُّمَّ لَا تَسْقِيكَهُ الْأَعَاجِمُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ فَأَتَوْهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ. بِسْمِ اللَّهِ، وَاقْتَحَمَهُ، فَلَمْ يَضُرَّهُ. فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَمَزَ إِلَى أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ وَقَعَتْ كَرَامَةً لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَا يُتَأَسَّى بِهِ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى قَتْلِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ.

وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبَابِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ عِنْدَ خَالِدٍ فِي ذَلِكَ عَهْدٌ عَمِلَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْخَبِيثُ فَيَجُوزُ جَرُّهُ، وَالتَّقْدِيرُ وَالتَّدَاوِي بِالْخَبِيثِ، وَيَجُ زُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ مَا حُكْمُهُ؟ أَوْ هَلْ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ؟ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ تَنَاوُلِهِ صَرِيحًا، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: خُبْثُ الدَّوَاءِ يَقَعُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ نَجَاسَتِهِ كَالْخَمْرِ وَلَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ اسْتِقْذَارِهِ فَتَكُونُ كَرَاهَتُهُ لِإِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَدْوِيَةِ تَكْرَهُ النَّفْسُ تَنَاوُلَهُ، لَكِنَّ بَعْضُهَا فِي ذَلِكَ أَيْسَرُ مِنْ بَعْضٍ. قُلْتُ وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَوْلَى، وَقَدْ وَرَدَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مُتَّصِلًا بِهِ يَعْنِي السُّمَّ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ ذَكْوَانَ) هُوَ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ عَنِ الْأَعْمَشِ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ بِهِ، وَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ وَثَلَّثَ بِقِصَّةِ مَنْ تَرَدَّى عَكْسَ رِوَايَةِ شُعْبَةَ هُنَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ الْمَذْكُورَةِ كَرِوَايَةِ وَكِيعٍ، وَكَذَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةً.

قَوْلُهُ: (مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ) أَيْ أَسْقَطَ نَفْسَهُ مِنْهُ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَقَتَلَ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ قَوْلِهِ تَرَدَّى لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَمُّدِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ تَحَسَّى) بِمُهْمَلَتَيْنِ بِوَزْنِ تَغَدَّى أَيْ تَجَرَّعَ.

قَوْلُهُ: (يَجَأُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَبِالْهَمْزِ، أَيْ يُطْعَنُ بِهَا، وَقَدْ تُسَهَّلُ الْهَمْزَةُ، وَالْأَصْلُ فِي يُجَأُ يُوجَأُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِي رِوَايَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ يُجَأُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَإِنَّمَا يُبْنَى لِلْمَجْهُولِ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَيُوجَأُ بِوَزْنِ يُوجَدُ انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يَتَوَجَّأُ بِمُثَنَّاةٍ وَوَاوٍ مَفْتُوحَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ بِوَزْنِ يَتَكَبَّرُ وَهُوَ بِمَعْنَى الطَّعْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ بِلَفْظِ الَّذِي يَطْعَنُ نَفْسَهُ يَطْعَنُهَا فِي النَّارِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ وَبَيَانُ تَأْوِيلِ الْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي حَقِّ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، وَأَوْلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَنَحْوُهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ جَزَاءُ فَاعِلِ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ أَبُو بَكْرٍ) هُوَ الْكُوفِيُّ الْمَخْزُومِيُّ مَوْلَاهُمْ، لَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا بَأْسَ بِهِ، هَكَذَا رَوَى عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ عَنْهُ، وَقَالَ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ، عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: مَتْرُوكٌ، وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ الْخَطِيبُ بِأَنَّهُ التَبَسَ عَلَى عُثْمَانَ بِآخَرَ يُقَالُ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ لَكِنْ كُنْيَتُهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَهُوَ بَغْدَادِيٌّ مِنْ طَبَقَةِ صَاحِبِ التَّرْجَمَةِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَكْنِيَةِ الْمُصَنِّفِ لَهُ لِيَمْتَازَ عَنْ قَرِينَةِ الضَّعِيفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ سَعْدٍ قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ السَّنَدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ،

ص: 248

عَنِ الْمُسْتَمْلِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ.

‌57 - باب أَلْبَانِ الْأُتُنِ

5780 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ.

قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ حَتَّى أَتَيْتُ الشَّامَ.

5781 -

وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَسَأَلْتُهُ: هَلْ نَتَوَضَّأُ أَوْ نَشْرَبُ أَلْبَانَ الْأُتُنِ أَوْ مَرَارَةَ السَّبُعِ أَوْ أَبْوَالَ الْإِبِلِ؟ فقَالَ: قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا فَلَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا، فَأَمَّا أَلْبَانُ الْأُتُنِ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُحُومِهَا وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَلْبَانِهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَأَمَّا مَرَارَةُ السَّبُعِ؛ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:، أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السّباعِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَلْبَانِ الْأُتُنِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ جَمْعُ أَتَانٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (مِنَ السِّبَاعِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ مِنَ السَّبْعِ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الزُّهْرِيُّ وَلَمْ أَسْمَعْهُ حَتَّى أَتَيْتُ الشَّامَ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الطِّبِّ.

قَوْلُهُ: (وَزَادَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ أَوْرَدَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مُطَوَّلَةً مِنْ طَرِيقِ أَبِي ضَمْرَةَ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ وَسَأَلْتُهُ هَلْ نَتَوَضَّأُ)؟ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ سُئِلَ الزُّهْرِيُّ وَأَعْرَضَ الزُّهْرِيُّ فِي جَوَابِهِ عَنِ الْوُضُوءِ فَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ لِشُذُوذِ الْقَوْلِ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الطَّهَارَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ أَجَازَ الْوُضُوءَ بِاللَّبَنِ وَالْخَلِّ.

قَوْلُهُ: (قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ أَمَّا أَبْوَالُ الْإِبِلِ فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَلْبَانِهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ وَلَا أَرَى أَلْبَانَهَا إِلَّا تَخْرُجُ مِنْ لُحُومِهَا.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا مَرَارَةُ السَّبُعِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ وَأَمَّا مَرَارَةُ السَّبُعِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسٍ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَزَادَ أَبُو ضَمْرَةَ فِي آخِرِهِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ عُلَمَائِنَا، فَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا فَلَا خَيْرَ فِي مَرَارَتِهَا. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ لَهُ أَصْلًا بِالْحِجَازِ كَمَا هِيَ طَرِيقَةُ كَثِيرِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتَدَلَّ الزُّهْرِيُّ عَلَى مَنْعِ مَرَارَةِ السَّبُعِ بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَيَلْزَمُهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَلْبَانِ الْأُتُنِ، وَغَفَلَ رحمه الله عَنِ الزِّيَادَةِ الَّتِي أَفَادَتْهَا رِوَايَةُ أَبِي ضَمْرَةَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَلْبَانِ الْأُتُنِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ فِي حِلِّهَا مِنَ الْقَوْلِ بِحِلِّ أَكْلِ لَحْمِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي الْأَطْعِمَةِ.

‌58 - بَاب إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الْإِنَاءِ

ص: 249

5782 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ مَوْلَى بَنِي تَميمٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى بَنِي زُرَيْقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ، فَإِنَّ فِي إحدى جَنَاحَيْهِ داء وَفِي الْآخَرِ شفاء.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الْإِنَاءِ) الذُّبَابُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ وَتَخْفِيفٍ، قَالَ أَبُو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ: الذُّبَابُ وَاحِدٌ وَالْجَمْعُ ذِبَّانٌ كِغِرْبَانٌ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ ذُبَابٌ لِلْجَمْعِ وَلِلْوَاحِدِ ذُبَابَةٌ بِوَزْنِ قُرَادَةٍ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ إِنَّهُ خَطَأٌ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الذُّبَابُ وَاحِدَه ذُبَابَةٍ وَلَا تَقُلْ ذِبَّانَةٌ، وَنُقِلَ فِي الْمُحْكَمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ خَلَفٍ الْأَحْمَرِ تَجْوِيزُ مَا زَعَمَ الْعَسْكَرِيُّ أَنَّهُ خَطَأٌ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ فِي الْجَمْعِ ذُبٌّ. وَقَرَأْتُهُ بِخَطِّ الْبُحْتُرِيِّ مَضْبُوطًا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ) هُوَ مَدَنِيٌّ، وَأَبُوهُ يُكَنَّى أَبَا عُتْبَةَ، وَمَا لِعُتْبَةَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ) مَضَى فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونَيْنِ مُصَغَّر وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (مَوْلَى بَنِي زُرَيْقٍ) بِزَايٍ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ قَافٍ مُصَغَّر، وَحَكَى الْكَلَابَاذِيُّ أَنَّهُ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ ; وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ مَوْلَى الْعَبَّاسِ، وَهُوَ خَطَأٌ كَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَمَا لِعُبَيْدٍ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، أورده في موضعين.

قَوْلُهُ: (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ) قِيلَ سُمِّيَ ذُبَابًا لِكَثْرَةِ حَرَكَتِهِ وَاضْطِرَابِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا عُمْرُ الذُّبَابِ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً، وَالذُّبَابُ كُلُّهُ فِي النَّارِ إِلَّا النَّحْلَ وَسَنَدُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ دُونَ أَوَّلِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ، قَالَ الْجَاحِظُ: كَوْنُهُ فِي النَّارِ لَيْسَ تَعْذِيبًا لَهُ، بَلْ لِيُعَذَّبَ أَهْلُ النَّارِ بِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الطُّيُورِ يَلَغُ إِلَّا الذُّبَابُ. وَقَالَ أَفْلَاطُونُ: الذُّبَابُ أَحْرَصُ الْأَشْيَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ فِيهِ هَلَاكُهُ. وَيَتَوَلَّدُ مِنَ الْعُفُونَةِ. وَلَا جَفْنَ لِلذُّبَابَةِ لِصِغَرِ حَدَقَتِهَا، وَالْجَفْنُ يَصْقُلُ الْحَدَقَةَ، فَالذُّبَابَةُ تَصْقُلُ بِيَدَيْهَا فَلَا تَزَالُ تَمْسَحُ عَيْنَيْهَا. وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ أَنَّ رَجِيعَهُ يَقَعُ عَلَى الثَّوْبِ الْأَسْوَدِ أَبْيَضَ وَبِالْعَكْسِ. وَأَكْثَرُ مَا يَظْهَرُ فِي أَمَاكِنِ الْعُفُونَةِ، وَمَبْدَأُ خَلْقِهِ مِنْهَا ثُمَّ مِنَ التَّوَالُدِ. وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ الطُّيُورِ سِفَادًا، رُبَّمَا بَقِيَ عَامَّةَ الْيَوْمِ عَلَى الْأُنْثَى. وَيُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ سَأَلَ الشَّافِعِيَّ: لِأَيِّ عِلَّةٍ خُلِقَ الذُّبَابُ؟ فَقَالَ: مَذَلَّةً لِلْمُلُوكِ. وَكَانَتْ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ ذُبَابَةٌ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سَأَلَنِي وَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي جَوَابٌ فَاسْتَنْبَطْتُهُ مِنَ الْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَالِقِيُّ: ذُبَابُ النَّاسِ يَتَوَلَّدُ مِنَ الزِّبْلِ. وَإِنْ أُخِذَ الذُّبَابُ الْكَبِيرُ فَقُطِعَتْ رَأْسُهَا وَحُكَّ بِجَسَدِهَا الشَّعْرَةِ الَّتِي فِي الْجَفْنِ حَكًّا شَدِيدًا أَبْرَأَتْهُ وَكَذَا دَاءُ الثَّعْلَبِ. وَإِنْ مُسِحَ لَسْعَةُ الزُّنْبُورِ بِالذُّبَابِ سَكَنَ الْوَجَعُ.

قَوْلُهُ: (فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِلَفْظِ شَرَابٍ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ إِذَا وَقَعَ فِي الطَّعَامِ وَالتَّعْبِيرُ بِالْإِنَاءِ أَشْمَلُ، وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ) أَمْرُ إِرْشَادٍ لِمُقَابَلَةِ الدَّاءِ بِالدَّوَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ: كُلُّهُ رَفْعُ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِغَمْسِ بَعْضِهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ لْيَطْرَحْهُ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ ثُمَّ لْيَنْزِعْهُ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ عَمِّهِ ثُمَامَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَنَسٍ، فَوَقَعَ ذُبَابٌ فِي إِنَاءٍ فَقَالَ أَنَسٌ بِإِصْبَعِهِ فَغَمَسَهُ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثُمَامَةَ فَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَجَّحَهَا أَبُو حَاتِمٍ، وَأَمَّا

ص: 250

الدَّارَقُطْنِيُّ فَقَالَ: الطَّرِيقَانِ مُحْتَمَلَانِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّ فِي أَحَدٍ وَالْجَنَاحُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَقِيلَ: أُنِّثَ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ، وَجَزَمَ الصَّغَانِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُؤَنَّثُ وَصَوَّبَ رِوَايَةَ أَحَدٍ وَحَقِيقَتُهُ لِلطَّائِرِ، وَيُقَالُ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ، وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ تَعْيِينُ الْجَنَاحِ الَّذِي فِيهِ الشِّفَاءُ مِنْ غَيْرِهِ، لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ تَأَمَّلَهُ فَوَجَدَهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الْأَيْسَرِ فَعُرِفَ أَنَّ الْأَيْمَنَ هُوَ الَّذِي فِيهِ الشِّفَاءُ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَفْسِيرُ الدَّاءِ الْوَاقِعِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السُّمُّ فَيُسْتَغْنَى عَنِ التَّخْرِيجِ الَّذِي تَكَلَّفَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَقَالَ: إِنَّ فِي اللَّفْظِ مَجَازًا وَهُوَ كَوْنُ الدَّاءِ فِي أَحَدِ الْجَنَاحَيْنِ، فَهُوَ إِمَّا مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ وَالتَّقْدِيرُ فَإِنَّ فِي أحد جَنَاحَيْهِ سَبَبَ دَاءٍ، وإِمَّا مُبَالَغَةٌ بِأَنْ يُجْعَلَ كُلُّ الدَّاءِ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ. وَقَالَ آخَرُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدَّاءُ مَا يُعْرَضُ فِي نَفْسِ الْمَرْءِ مِنَ التَّكَبُّرِ عَنْ أَكْلِهِ حَتَّى رُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِتَرْكِ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَإِتْلَافِهِ، وَالدَّوَاءُ مَا يَحْصُلُ مِنْ قَمْعِ النَّفْسِ وَحَمْلِهَا عَلَى التَّوَاضُعِ.

قَوْلُهُ: (وَفِي الْآخَرِ شِفَاءٌ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَفِي الْأُخْرَى وَفِي نُسْخَةٍ وَالْأُخْرَى بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءٌ وَالْآخَرِ شِفَاءٌ وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِمَنْ يُجِيزُ الْعَطْفَ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ كَالْأَخْفَشِ، وَعَلَى هَذَا فَيُقْرَأُ بِخَفْضِ الْآخَرِ وَبِنَصْبِ شِفَاءٍ فَعُطِفَ الْآخَرُ عَلَى الْأَحَدِ وَعُطِفَ شِفَاءٌ عَلَى دَاءٍ، وَالْعَامِلُ فِي إِحْدَى حَرْفُ فِي، وَالْعَامِلُ فِي دَاءٍ إِنَّ، وَهُمَا عَامِلَانِ فِي الْآخَرِ وَشِفَاءٍ، وَسِيبَوَيْهِ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: إِنَّ حَرْفَ الْجَرِّ حُذِفَ وَبَقِيَ الْعَمَلُ وَقَدْ وَقَعَ صَرِيحًا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَفِي الْأُخْرَى شِفَاءٌ وَيَجُوزُ رَفْعُ شِفَاءٍ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ لَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ فِيهِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ - كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْمُرُ بِغَمْسِ مَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ إِذَا مَاتَ فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِفْسَادٌ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ غَمْسِ الذُّبَابِ مَوْتُهُ فَقَدْ يَغْمِسُهُ بِرِفْقٍ فَلَا يَمُوتُ، وَالْحَيُّ لَا يُنَجِّسُ مَا يَقَعُ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ الْبَغَوِيُّ بِاسْتِنْبَاطِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: لَمْ يَقْصِدِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ بَيَانَ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بَيَانَ التَّدَاوِي مِنْ ضَرَرِ الذُّبَابِ، وَكَذَا لَمْ يَقْصِدْ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَالْإِذْنِ فِي مَرَاحِ الْغَنَمِ طَهَارَةً وَلَا نَجَاسَةً وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْخُشُوعَ لَا يُوجَدُ مَعَ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ.

قُلْتُ: وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ حُكْمٌ آخَرُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِغَمْسِهِ يَتَنَاوَلُ صُوَرًا مِنْهَا أَنْ يَغْمِسَهُ مُحْتَرِزًا عَنْ مَوْتِهِ كَمَا هُوَ الْمُدَّعَى هُنَا، وَأَنْ لَا يَحْتَرِزَ بَلْ يَغْمِسُهُ سَوَاءً مَاتَ أَوْ لَمْ يَمُتْ. وَيَتَنَاوَلُ مَا لَوْ كَانَ الطَّعَامُ حَارًّا فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَمُوتُ بِخِلَافِ الطَّعَامِ الْبَارِدِ، فَلَمَّا لَمْ يَقَعِ التَّقْيِيدُ حُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ، لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ بصدق بِصُورَةٍ فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ حُمِلَ عَلَيْهَا. وَاسْتَشْكَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلْحَاقَ غَيْرِ الذُّبَابِ بِهِ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقٍ أخرى فَقَالَ: وَرَدَ النَّصُّ فِي الذُّبَابِ فَعَدُّوهُ إِلَى كُلِّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الذُّبَابِ قَاصِرَةً وَهِيَ عُمُومُ الْبَلْوَى، وَهَذِهِ مُسْتَنْبَطَةٌ. أَوِ التَّعْلِيلُ بِأَنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً، وَهَذِهِ مَنْصُوصَةٌ، وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ لَا يُوجَدَانِ فِي غَيْرِهِ فَيَبْعُدُ كَوْنُ الْعِلَّةِ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ لَا دَمَ لَهُ سَائِلٌ، بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ جُزْءُ عِلَّةٍ لَا عِلَّةٌ كَامِلَةٌ انْتَهَى. وَقَدْ رَجَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مَا يَتمُّ وُقُوعُهُ فِي الْمَاءِ كَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ، وَمَا لَا يَعُمُّ كَالْعَقَارِبِ يُنَجِّسُ، وَهُوَ قَوِيٌّ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا

ص: 251

الْحَدِيثِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فَقَالَ: كَيْفَ يَجْتَمِعُ الشِّفَاءُ وَالدَّاءُ فِي جَنَاحَيِ الذُّبَابِ، وَكَيْفَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُقَدِّمَ جَنَاحَ الشِّفَاءِ، وَمَا أَلْجَأَهُ إِلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: وَهَذَا سُؤَالُ جَاهِلٍ أَوْ مُتَجَاهِلٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ قَدْ جَمَعَ الصِّفَاتِ الْمُتَضَادَّةَ. وَقَدْ أَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَهَا وَقَهَرَهَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَجَعَلَ مِنْهَا قُوَى الْحَيَوَانِ، وَإِنَّ الَّذِي أَلْهَمَ النَّحْلَةَ اتِّخَاذَ الْبَيْتِ الْعَجِيبِ الصَّنْعَةِ لِلتَّعْسِيلِ فِيهِ، وَأَلْهَمَ النَّمْلَةَ أَنْ تَدَّخِرَ قُوتَهَا أَوَانَ حَاجَتِهَا، وَأَنْ تَكْسِرَ الْحَبَّةَ نِصْفَيْنِ لِئَلَّا تَسْتَنْبِتَ، لَقَادِرٌ عَلَى إِلْهَامِ الذُّبَابَةِ أَنْ تُقَدِّمَ جَنَاحًا وَتُؤَخِّرَ آخَرَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا نُقِلَ عَنْ هَذَا الْقَائِلِ لَيْسَ بِعَجِيبٍ، فَإِنَّ النَّحْلَةَ تُعَسِّلُ مِنْ أَعْلَاهَا وَتُلْقِي السُّمَّ مِنْ أَسْفَلِهَا، وَالْحَيَّةُ الْقَاتِلُ سُمُّهَا تَدْخُلُ لُحُومَهَا فِي التِّرْيَاقِ الَّذِي يُعَالَجُ بِهِ السُّمُّ، وَالذُّبَابَةُ تُسْحَقُ مَعَ الْإِثْمِدِ لِجَلَاءِ الْبَصَرِ. وَذَكَرَ بَعْضُ حُذَّاقِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ فِي الذُّبَابِ قُوَّةً سُمِّيَّةً يَدُلُّ عَلَيْهَا الْوَرَمُ وَالْحَكَّةُ الْعَارِضَةُ عَنْ لَسْعِهِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ لَهُ، فَإِذَا سَقَطَ الذُّبَابُ فِيمَا يُؤْذِيهِ تَلَقَّاهُ بِسِلَاحِهِ، فَأَمَرَ الشَّارِعُ أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ السُّمِّيَّةَ بِمَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الْجَنَاحِ الْآخَرِ مِنَ الشِّفَاءِ فَتَتَقَابَلُ الْمَادَّتَانِ فَيَزُولُ الضَّرَرُ بِإِذْنِ اللَّهِ - تَعَالَى -.

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ عَلَى أَنَّهَا تَنْجَسُ بِالْمَوْتِ كَمَا هُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا لَا تَنْجَسُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ):

اشْتَمَلَ كِتَابُ الطِّبِّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةِ حَدِيثٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ طَرِيقًا وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى خَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ طَرِيقًا وَالْخَالِصُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي نُزُولِ الدَّاءِ وَالشِّفَاءِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ وَحَدِيثِ أَنَسٍ رَخَّصَ لِأَهْلِ بَيْتٍ فِي الرُّقْيَةِ وَحَدِيثِهِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَوَاهُ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعُونِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ أَثَرًا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌77 - كِتَاب اللِّبَاسِ

‌1 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ

5783 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يُخْبِرُونَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ اللِّبَاسِ) وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَزَادَ ابْنُ نُعَيْمٍ {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وَلِلنَّسَفِيِّ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} الْآيَةَ

ص: 252

وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} الْآيَةَ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا نَحْوَهُ، وَكَذَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالسُّدِّيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي طَوَافِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ طَاوُسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَلَكِنْ كَانُوا إِذَا طَافَ أَحَدُهُمْ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ ضُرِبَ وَانْتُزِعَتْ مِنْهُ يَعْنِي فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ سَقَطَ عَنِّي ثَوْبِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُذْ عَلَيْكَ ثَوْبَكَ، وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ) ثَبَتَ هَذَا التَّعْلِيقُ لِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ فَقَطْ وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا مُعَلَّقَةً. وَلَمْ يَصِلْهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ به، وَلَمْ يَقَعِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ، وَذَكَرَهُ الْحَارِثُ وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَتِهِ وَتَصَدَّقُوا وَزَادَ فِي آخِرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَوَقَعَ لَنَا مَوْصُولًا أَيْضًا فِي كِتَابِ الشُّكْرِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا بِتَمَامِهِ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ مِنْهُ - وَهِيَ الزِّيَادَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا - مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهَذَا مُصَيَّرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى تَقْوِيَةِ شَيْخِهِ عَمْرِو ابْنِ شُعَيْبٍ، وَلَمْ أَرَ فِي الصَّحِيحِ إِشَارَةً إِلَيْهَا إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ قَلَبَ هَذَا الْإِسْنَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَصَحَّفَ وَالِدُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَقَوْلُهُ: عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.

وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ الَّذِي بَعْدَهُ لِلْآيَةِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ فِي الَّتِي قَبْلَهَا {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي كُلِّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، وَهُوَ فِي الْإِنْفَاقِ أَشْهَرُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ - تَعَالَى -: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} وَالْمَخِيلَةُ بِوَزْنِ عَظِيمَةٍ وَهِيَ بِمَعْنَى الْخُيَلَاءِ وَهُوَ التَّكَبُّرُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ هِيَ بِوَزْنِ مُفَعِّلَةٍ مِنَ اخْتَالَ إِذَا تَكَبَّرَ قَالَ: وَالْخُيَلَاءُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَقَدْ يُكْسَرُ مَمْدُودًا التَّكَبُّرُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخُيَلَاءُ التَّكَبُّرُ يَنْشَأُ عَنْ فَضِيلَةٍ يَتَرَاآهَا الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، وَالتَّخَيُّلُ تَصْوِيرُ خَيَالِ الشَّيْءِ فِي النَّفْسِ، وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي الْإِسْرَافِ وَالْمَخِيلَةِ أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ تَنَاوُلِهِ أَكْلًا وَلُبْسًا وَغَيْرِهِمَا إِمَّا لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَهُوَ الْإِسْرَافُ.

وَإِمَّا لِلتَّعَبُّدِ كَالْحَرِيرِ إِنْ لَمْ تَثْبُتْ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ تَتَنَاوَلُ مُخَالَفَةَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فَيَدْخُلُ الْحَرَامُ، وَقَدْ يَسْتَلْزِمُ الْإِسْرَافُ الْكِبْرَ وَهُوَ الْمَخِيلَةُ قَالَ الْمُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ جَامِعٌ لِفَضَائِلِ تَدْبِيرِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَفِيهِ تَدْبِيرُ مَصَالِحِ النَّفْسِ وَالْجَسَدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ السَّرَفَ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَضُرُّ بِالْجَسَدِ وَيَضُرُّ بِالْمَعِيشَةِ فَيُؤَدِّي إِلَى الْإِتْلَافِ وَيَضُرُّ بِالنَّفْسِ إِذْ كَانَتْ تَابِعَةً لِلْجَسَدِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، وَالْمَخِيلَةُ تَضُرُّ بِالنَّفْسِ حَيْثُ تُكْسِبُهَا الْعُجْبَ وَتَضُرُّ بِالْآخِرَةِ حَيْثُ تُكْسِبُ الْإِثْمَ، وَبِالدُّنْيَا حَيْثُ تُكْسِبُ الْمَقْتَ مِنَ النَّاسِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ وَاشْرَبْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَالدِّينَوَرِيُّ فِي الْمُجَالَسَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَمَّا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِهِ. وَأَمَّا الدِّينَوَرِيُّ فَلَمْ يَذْكُرِ السَّرَفَ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ،

ص: 253

عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ أَحَلَّ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ بِهِ. وَقَوْلُهُ: مَا أَخْطَأَتْكَ كَذَا لِلْجَمِيعِ بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ الطَّاءِ، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ التِّينِ بِحَذْفِهَا قَالَ: وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهَا. قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ أَخْطَأْتُ وَلَا تَقُلْ أَخْطَيْتُ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ مَا أَخْطَأَتْكَ أَيْ تَنَاوَلْ مَا شِئْتَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مَا دَامَتْ كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ تُجَاوِزُكَ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً أَيْ لَمْ يُوقِعْكَ فِي الْخَطَأِ اثْنَتَانِ. قُلْتُ: وَفِيهِ بُعْدٌ، وَرِوَايَةُ مَعْمَرٍ تَرُدُّهُ حَيْثُ قَالَ: مَا لَمْ تَكُنْ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ وَقَوْلُهُ: أَوْ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَتَى بِأَوْ مَوْضِعَ الْوَاوِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} عَلَى تَقْدِيرِ النَّفْيِ، أَيْ أَنَّ انْتِفَاءَ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ فِيهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ مَنْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاطَ مَنْعِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: هُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

فَقَالُوا لَنَا ثِنْتَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا

صُدُورُ رِمَاحٍ أُشْرِعَتْ أَوْ سَلَاسِلُ

قَوْلُهُ: (إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِتَكْرِيرِ عَنْ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مَعْنٍ، عَنْ مَالِكٍ سَمِعَ كُلَّهُمْ يُحَدِّثُ هَكَذَا جَمَعَ مَالِكٌ رِوَايَةَ الثَّلَاثَةٍ، وَقَدْ رَوَى دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ رِوَايَةَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْهُ بِزِيَادَةِ قِصَّةٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبِي إِلَى ابْنِ عُمَرَ قُلْتُ: أدْخُلْ؟ فَعَرَفَ صَوْتِي فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِذَا جِئْتَ إِلَى قَوْمٍ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ رَدُّوا عَلَيْكَ فَقُلْ أَدْخُلُ؟ قَالَ: ثُمَّ رَأَى ابْنَهُ وَقَدِ انْجَرَّ إِزَارُهُ فَقَالَ: ارْفَعْ إِزَارَكَ فَقَدْ سَمِعْتُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحُمَيْدِيُّ جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ زَيْدٍ نَحْوَهُ، سَاقَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَاخْتَصَرَهُ أَحْمَدُ، وَسَمَّيَا الِابْنَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَاقِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ فَذَكَرَهُ بِدُونِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَزَادَ قِصَّةَ أَبِي بَكْرٍ الْمَذْكُورَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَقِصَّةٌ أُخْرَى لِابْنِ عُمَرَ تَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا بَعْدَ بَابَيْنِ، وَحَدِيثُ نَافِعٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، وَاللَّيْثِ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ كُلِّهِمْ عَنْ نَافِعٍ قَالَ مِثْلَ حَدِيثِ مَالِكٍ وَزَادُوا فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قُلْتُ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةٌ عِنْدَ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا، وَأَخْرَجَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ وَفِيهِ زِيَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِذُيُولِ النِّسَاءِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ وَفِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

‌2 - بَاب مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ مِنْ غَيْرِ خُيَلَاءَ

5784 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ.

5785 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:

ص: 254

خَسَفَتْ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلًا حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، وَثَابَ النَّاسُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَجُلِّيَ عَنْهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، وَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يَكْشِفَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ مِنْ غَيْرِ خُيَلَاءَ) أَيْ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ. وَقَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِابْنِ بَطَّالٍ.

قَوْلُهُ: (زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْجُعْفِيُّ.

قَوْلُهُ: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) هُوَ الصِّدِّيقُ (إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي) كَذَا بِالتَّثْنِيَةِ لِلنَّسَفِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِمَا شِقِّ بِالْإِفْرَادِ، وَالشِّقُّ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ الْجَانِبُ وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى النِّصْفِ.

قَوْلُهُ: (يَسْتَرْخِي) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَانَ سَبَبُ اسْتِرْخَائِهِ نَحَافَةَ جِسْمِ أَبِي بَكْرٍ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ) أَيْ يَسْتَرْخِي إِذَا غَفَلْتُ عَنْهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عِنْدَ أَحْمَدَ إِنَّ إِزَارِي يَسْتَرْخِي أَحْيَانًا فَكَأَنَّ شَدَّهُ كَانَ يَنْحَلُّ إِذَا تَحَرَّكَ بِمَشْيٍ أَوْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَإِذَا كَانَ مُحَافِظًا عَلَيْهِ لَا يَسْتَرْخِي لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَادَ يَسْتَرْخِي شَدَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَحْنَى لَا يَسْتَمْسِكُ إِزَارَهُ يَسْتَرْخِي عَنْ حَقْوَيْهِ وَمِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا نَحِيفًا.

قَوْلُهُ: (لَسْتُ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ) فِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ لَسْتُ مِنْهُمْ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنِ انْجَرَّ إِزَارُهُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ جَرَّ الْإِزَارِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ هُوَ مِنْ تَشْدِيدَاتِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَى هُوَ حَدِيثَ الْبَابِ فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ. قُلْتُ: بَلْ كَرَاهَةُ ابْنِ عُمَرَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ قَصَدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ مَخِيلَةٍ أَمْ لَا، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِرِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا يُظَنُّ بِابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يُؤَاخِذُ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِالْكَرَاهَةِ مَنِ انْجَرَّ إِزَارُهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ثُمَّ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَتَدَارَكْهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا هَلِ الْكَرَاهَةُ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ. وَفِي الْحَدِيثِ اعْتِبَارُ أَحْوَالِ الْأَشْخَاصِ فِي الْأَحْكَامِ بِاخْتِلَافِهَا، وَهُوَ أَصْلٌ مُطَّرِدٌ غَالِبًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ) لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا لِأَحَدٍ مِنَ الرُّوَاةِ، وَأَغْفَلْتُ التَّنْبِيهَ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ بِخُصُوصِهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ السَّكَنِ فِي مَوْضِعَيْنِ غَيْرِ هَذَا بِأَنَّ مُحَمَّدًا الرَّاوِيَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، فَيُحْمَلُ هَذَا أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَبْدُ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى السَّامِي بِالْمُهْمَلَةِ الْبَصْرِيُّ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، وَالْحَسَنُ هُوَ الْبَصْرِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ مَعَ شَرْحِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلًا فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ الْجَرَّ إِذَا كَانَ بِسَبَبِ الْإِسْرَاعِ لَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، فَيُشْعِرُ بِأَنَّ النَّهْيَ يَخْتَصُّ بِمَا كَانَ لِلْخُيَلَاءِ، لَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ قَصَرَ النَّهْيَ عَلَى مَا كَانَ لِلْخُيَلَاءِ حَتَّى أَجَازَ لُبْسَ الْقَمِيصِ الَّذِي يَنْجَرُّ عَلَى الْأَرْضِ لِطُولِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

وَقَوْلُهُ: وَثَابَ النَّاسُ بِمُثَلَّثَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ أَيْ رَجَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا خَرَجُوا مِنْهُ.

‌3 - بَاب التَّشمرِ فِي الثِّيَابِ

ص: 255

5786 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: فَرَأَيْتُ بِلَالًا جَاءَ بِعَنَزَةٍ فَرَكَزَهَا، ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي حُلَّةٍ مُشَمِّرًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَى الْعَنَزَةِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ الْعَنَزَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّشَمُّرِ فِي الثِّيَابِ) هُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ: رَفْعُ أَسْفَلِ الثَّوْبِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ جَزَمَ بِذَلِكَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَابْنُ شُمَيْلٍ هُوَ النَّضْرُ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ هُوَ الْهَمْدَانِيُّ بِسُكُونِ الْمِيمِ الْكُوفِيُّ أَخُو زَكَرِيَّا، وَاسْمُ أَبِي زَائِدَةَ خَالِدٌ وَيُقَالُ هُبَيْرَةُ، وَلِعُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ أَحَادِيثُ يَسِيرَةٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ فَرَأَيْتُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ أَوَّلَهُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: ثُمَّ رَأَيْتُ بِلَالًا إِلَخْ هَكَذَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، فَلَمَّا اخْتَصَرَهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ لَيْسَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ. وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ فِي أَوَّلِهِ رَأَيْتُ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنِ النَّضْرِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْحَاقَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ وَذَكَرَ أَنَّ رِوَايَةَ إِسْحَاقَ، عَنِ النَّضْرِ لَمْ يَقَعْ فِيهَا قَوْلُهُ: مُشَمِّرًا وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي عَامِرٍ، وَقَدْ وَقَعَتْ فِي الْبَابِ عَنْ إِسْحَاقَ، عَنِ النَّضْرِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَلَمْ يَقَعْ لَفْظُ مُشَمِّرًا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى ابْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عَمِّهِ عُمَرَ بِلَفْظِ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ سَاقَيْهِ ثُمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بِرِيقِ سَاقَيْهِ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَهَذَا هُوَ التَّشْمِيرُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ كَفِّ الثِّيَابِ فِي الصَّلَاةِ مَحَلُّهُ فِي غَيْرِ ذَيْلِ الْإِزَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصُّورَةُ وَقَعَتِ اتِّفَاقًا، فَإِنَّهَا كَانَتْ فِي حَالَةِ السَّفَرِ وَهُوَ مَحَلُّ التَّشْمِيرِ.

‌4 - بَاب مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ

5787 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ) كَذَا أَطْلَقَ فِي التَّرْجَمَةِ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْإِزَارِ كَمَا فِي الْخَبَرِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْمِيمِ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى لَفْظِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَرِجَالُهُ رِجَالُ مُسْلِمٍ، وَكَأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ لِاخْتِلَافٍ فِيهِ وَقَعَ عَلَى الْعَلَاءِ وَعَلَى أَبِيهِ فَرَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْعَلَاءِ عَنْهُ هَكَذَا، وَخَالَفَهُمْ زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ فَقَالَ: عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي عُمَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَ الطَّرِيقَيْنِ النَّسَائِيُّ وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْأَوَّلَ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُرَيٍّ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ مُصَغَّر وَاسْمُهُ جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ رَفَعَهُ قَالَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَ الْحَاكِمُ

ص: 256

أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بِلَفْظِ الْإِزَارِ إِلَى أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَأَسْفَلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمِنْ وَرَاءِ السَّاقَيْنِ، وَلَا حَقَّ لِلْكَعْبَيْنِ فِي الْإِزَارِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْتُ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فِي النَّارِ) مَا مَوْصُولَةٌ وَبَعْضُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ وَهُوَ كَانَ، وَأَسْفَلُ خَبَرُهُ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، أَيْ مَا هُوَ أَسْفَلُ وَهُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بِأَسْفَلَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنَالُهُ الْإِزَارُ مِنْ أَسْفَلِ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ، فَكَنَّى بِالثَّوْبِ عَنْ بَدَنِ لَابِسِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي دُونَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْقَدَمِ يُعَذَّبُ عُقُوبَةً، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ أَوْ حَلَّ فِيهِ، وَتَكُونُ مِنْ بَيَانِيَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً، وَيَكُونُ الْمُرَادُ الشَّخْصَ نَفْسَهُ، أَوِ الْمَعْنَى مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الَّذِي يُسَامِتُ الْإِزَارَ فِي النَّارِ، أَوِ التَّقْدِيرُ لَابِسُ مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ إِلَخْ، أَوِ التَّقْدِيرُ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مَحْسُوبٌ فِي أَفْعَالِ أَهْلِ النَّارِ. أَوْ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ مَا أَسْفَلَ مِنَ الْإِزَارِ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ، وَكُلُّ هَذَا اسْتِبْعَادٌ مِمَّنْ قَالَهُ لِوُقُوعِ الْإِزَارِ حَقِيقَةً فِي النَّارِ، وَأَصْلُهُ مَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ أَنَّ نَافِعًا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَمَا ذَنْبُ الثِّيَابِ؟ بَلْ هُوَ مِنَ الْقَدَمَيْنِ اهـ.

لَكِنْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَسْبَلْتُ إِزَارِي فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، كُلُّ شَيْءٍ يَمَسُّ الْأَرْضَ مِنَ الثِّيَابِ فِي النَّارِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى أَعْرَابِيًّا يُصَلِّي قَدْ أَسْبَلَ فَقَالَ: الْمُسْبِلُ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَامٍ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَعَلَى هَذَا لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ مِنْ وَادِي {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} أَوْ يَكُونُ فِي الْوَعِيدِ لِمَا وَقَعَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الَّذِي يَتَعَاطَى الْمَعْصِيَةَ أَحَقُّ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فِي النَّارِ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يَعْقُوبَ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَعْقُوبَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ بِزِيَادَةِ فَاءٍ، وَكَأَنَّهَا دَخَلَتْ لِتَضْمِينِ مَا مَعْنَى الشَّرْطِ أَيْ مَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ قَدَمِ صَاحِبِ الْإِزَارِ الْمُسْبَلِ فَهُوَ فِي النَّارِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ كُلُّ شَيْءٍ جَاوَزَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فِي النَّارِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَفَعَهُ أزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَرَجٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، وَمَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ قَيْدِ الْخُيَلَاءِ، فَهُوَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْوَعِيدُ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْإِسْبَالِ فَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إِسْبَالِ الْإِزَارِ مُطْلَقًا مَا أَسْبَلَهُ لِضَرُورَةٍ كَمَنْ يَكُونُ بِكَعْبَيْهِ جُرْحٌ مَثَلًا يُؤْذِيهِ الذُّبَابُ مَثَلًا إِنْ لَمْ يَسْتُرْهُ بِإِزَارِهِ حَيْثُ لَا يَجِدُ غَيْرَهُ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِإِذْنِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ الْحَرِيرِ مِنْ أَجْلِ الْحَكَّةِ. وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا جَوَازُ تَعَاطِي مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ الضَّرُورَةِ، كَمَا يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِلتَّدَاوِي، وَيُسْتَثْنَى أَيْضًا مِنَ الْوَعِيدِ فِي ذَلِكَ النِّسَاءُ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

‌5 - بَاب مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ

5788 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ

ص: 257

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا.

5789 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

5790 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلجلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. تَابَعَهُ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَلَمْ يَرْفَعْهُ شُعَيْبٌ عَنْ أبي هريرة. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ عَمِّهِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى بَابِ دَارِهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. . نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ يُونُسُ) يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) وَرِوَايَتُهُ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي أَوَاخِرِ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

5791 -

حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: لَقِيتُ مُحَارِبَ بْنَ دِثَارٍ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَأْتِي مَكَانَهُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِي فَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مَخِيلَةً لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقُلْتُ لِمُحَارِبٍ: أَذَكَرَ إِزَارَهُ؟ قَالَ: مَا خَصَّ إِزَارًا وَلَا قَمِيصًا. تَابَعَهُ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَزَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَتَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خيلاء.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ) أَيْ بِسَبَبِ الْخُيَلَاءِ، أَوْرَدَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا وَمِثْلُهُ لِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ قَرِيبًا. وَالْبَطَرُ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ قَالَ عِيَاضٌ: جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ بَطَرًا بِفَتْحِ الطَّاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَبِكَسْرِهَا عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ جَرَّ أَيْ جَرَّهُ تَكَبُّرًا وَطُغْيَانًا، وَأَصْلُ الْبَطَرِ الطُّغْيَانُ عِنْدَ النِّعْمَةِ، وَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْبَطَرِ دَهْشٌ يَعْتَرِي الْمَرْءَ عِنْدَ هُجُومِ النِّعْمَةِ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا.

قَوْلُهُ: (لَا يَنْظُرُ اللَّهُ) أَيْ لَا يَرْحَمُهُ، فَالنَّظَرُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى اللَّهِ كَانَ مَجَازًا، وَإِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمَخْلُوقِ كَانَ كِنَايَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ نَظَرَ رَحْمَةٍ. وَقَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَبَّرَ عَنِ الْمَعْنَى الْكَائِنِ عِنْدَ النَّظَرِ بِالنَّظَرِ لِأَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى مُتَوَاضِعٍ رَحِمَهُ وَمَنْ نَظَرَ إِلَى مُتَكَبِّرٍ مَقَتَهُ، فَالرَّحْمَةُ وَالْمَقْتُ مُتَسَبِّبَانِ عَنِ النَّظَرِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: نِسْبَةُ النَّظَرِ لِمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ كِنَايَةً، لِأَنَّ مَنِ اعْتَدَّ بِالشَّخْصِ التَفَتَ إِلَيْهِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى صَارَ عِبَارَةً عَنِ الْإِحْسَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَظَرٌ، وَلِمَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ النَّظَرِ وَهُوَ تَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِحْسَانِ مَجَازٌ عَمَّا وَقَعَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كِنَايَةً، وَقَوْلُهُ:

ص: 258

يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَحَلُّ الرَّحْمَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، بِخِلَافِ رَحْمَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا قَدْ تَنْقَطِعُ بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنَ الْحَوَادِثِ. وَيُؤَيِّدُ مَا ذُكِرَ مِنْ حَمْلِ النَّظَرِ عَلَى الرَّحْمَةِ أَوِ الْمَقْتِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَصْلُهُ فِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُرَيٍّ: إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَبِسَ بُرْدَةً فَتَبَخْتَرَ فِيهَا، فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فَمَقَتَهُ، فَأَمَرَ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (مَنْ) يَتَنَاوَلُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ، وَقَدْ فَهِمَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها فَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مُتَّصِلًا بِحَدِيثِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ فَقَالَ: يُرْخِينَ شِبْرًا، فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ ; قَالَ: فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ.

وَقَدْ عَزَا بَعْضُهُمْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِمُسْلِمٍ فَوَهِمَ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَكَأَنَّ مُسْلِمًا أَعْرَضَ عَنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا عَلَى نَافِعٍ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ نَفْسِهَا وَفِيهِ اخْتِلَافَاتٌ أُخْرَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الصِّدِّيقِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ شِبْرًا، ثُمَّ اسْتَزَدْنَهُ فَزَادَهُنَّ شِبْرًا، فَكُنَّ يُرْسِلْنَ إِلَيْنَا فَنَذْرَعُ لَهُنَّ ذِرَاعًا وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ قَدْرَ الذِّرَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَأَنَّهُ شِبْرَانِ بِشِبْرِ الْيَدِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْفَهْمِ التَّعَقُّبُ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُطْلَقَةَ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْإِسْبَالِ مُقَيَّدَةٌ بِالْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الْمُصَرِّحَةِ بِمَنْ فَعَلَهُ خُيَلَاءَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ فِي تَقْيِيدِهَا بِالْجَرِّ خُيَلَاءُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّحْرِيمَ مُخْتَصٌّ بِالْخُيَلَاءِ، وَوَجْهُ التَّعَقُّبِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي اسْتِفْسَارِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ حُكْمِ النِّسَاءِ فِي جَرِّ ذُيُولِهِنَّ مَعْنًى، بَلْ فَهِمَتِ الزَّجْرَ عَنِ الْإِسْبَالِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ عَنْ مَخِيلَةٍ أَمْ لَا، فَسَأَلَتْ عَنْ حُكْمِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ لِاحْتِيَاجِهِنَّ إِلَى الْإِسْبَالِ مِنْ أَجْلِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، لِأَنَّ جَمِيعَ قَدَمِهَا عَوْرَةٌ، فَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ حُكْمَهُنَّ فِي ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الرِّجَالِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَطْ وَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَمُرَادُهُ مَنْعُ الْإِسْبَالِ لِتَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ سَلَمَةَ عَلَى فَهْمِهَا. إِلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ لَهَا أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِتَفْرِقَتِهِ فِي الْجَوَابِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْإِسْبَالِ، وَتَبْيِينِهِ الْقَدْرَ الَّذِي يَمْنَعُ مَا بَعْدَهُ فِي حَقِّهِنَّ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلرِّجَالِ حَالَيْنِ: حَالُ اسْتِحْبَابٍ، وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ بِالْإِزَارِ عَلَى نِصْفِ السَّاقِ وَحَالُ جَوَازٍ وَهُوَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. وَكَذَلِكَ لِلنِّسَاءِ حَالَانِ حَالُ اسْتِحْبَابٍ وَهُوَ مَا يَزِيدُ عَلَى مَا هُوَ جَائِزٌ لِلرِّجَالِ بِقَدْرِ الشِّبْرِ وَحَالُ جَوَازٍ بِقَدْرِ ذِرَاعٍ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَبَرَ لِفَاطِمَةَ مِنْ عَقِبِهَا شِبْرًا وَقَالَ: هَذَا ذَيْلُ الْمَرْأَةِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى بِلَفْظِ شَبَرَ مِنْ ذَيْلِهَا شِبْرًا أَوْ شِبْرَيْنِ وَقَالَ: لَا تَزِدْنَ عَلَى هَذَا وَلَمْ يُسَمِّ فَاطِمَةَ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ مُعْتَمِرٌ عَنْ حُمَيْدٍ.

قُلْتُ: وَأَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالَّذِي جَزَمَ بِالشِّبْرِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَبَرَ لِفَاطِمَةَ شِبْرًا وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ سِيَاقِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْجَرِّ خَرَجَ لِلْغَالِبِ، وَأَنَّ الْبَطَرَ وَالتَّبَخْتُرَ مَذْمُومٌ وَلَوْ لِمَنْ شَمَّرَ ثَوْبَهُ، وَالَّذِي يَجْتَمِعُ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِالْمَلْبُوسِ الْحَسَنِ إِظْهَارَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ مُسْتَحْضِرًا لَهَا شَاكِرًا عَلَيْهَا غَيْرَ مُحْتَقِرٍ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلُهُ لَا يَضُرُّهُ مَا لَبِسَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَلَوْ كَانَ فِي غَايَةِ النَّفَاسَةِ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ

ص: 259

مِنْ كِبْرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ. وَقَوْلُهُ: وَغَمْطُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ: الِاحْتِقَارُ.

وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ إِنَّ الرَّجُلَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَكُونَ شِرَاكُ نَعْلِهِ أَجْوَدَ مِنْ شِرَاكِ صَاحِبِهِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ} الْآيَةَ فَقَدْ جَمَعَ الطَّبَرِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ لِيَتَعَظَّمَ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، لَا مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ ابْتِهَاجًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَرَآهُ رَثَّ الثِّيَابِ: إِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيَرَ أَثَرَهُ عَلَيْكَ أَيْ بِأَنْ يَلْبَسَ ثِيَابًا تَلِيقُ بِحَالِهِ مِنَ النَّفَاسَةِ وَالنَّظَافَةِ لِيَعْرِفَهُ الْمُحْتَاجُونَ لِلطَّلَبِ مِنْهُ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْقَصْدِ وَتَرْكِ الْإِسْرَافِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

(تَكْمِلَةٌ): الرَّجُلُ الَّذِي أُبْهِمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ سَوَادُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ غَيْرِهِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي، قَوْلُهُ:(قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم) شَكٌّ مِنْ آدَمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ شُعْبَةَ فَقَالُوا: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَمِنْ ثَمَّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا مَضَى، وَخَفِيَ هَذَا عَلَى بَعْضِ الشُّرَّاحِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَفِي رِوَايَتِهِمَا أَيْضًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَبِذَلِكَ جَزَمَ النَّوَوِيُّ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ قَالَ: كُنْتُ أَقُودُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ ثَوْبَيْنِ الْحَدِيثَ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ، وَيُحْتَمَلُ التَّعَدُّدُ، أَوِ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ قَبْلَ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو يَعْلَى وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ أَتَى أَبَا هُرَيْرَةَ فِي حُلَّةٍ يَتَبَخْتَرُ فِيهَا فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّكَ تُكْثِرُ الْحَدِيثَ، فَهَلْ سَمِعْتَهُ يَقُولُ فِي حُلَّتِي هَذِهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتُؤْذُونَنَا، وَلَوْلَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ، سَمِعْتُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَانَ مِنْ قَوْمِكَ وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي مُبْهَمَاتِ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ عَنِ الطَّبَرِيِّ أَنَّ اسْمَ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ الْهَيْزَنُ وَأَنَّهُ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسٍ.

قُلْتُ: وَهَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجَيَّانِيِّ وَجَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ فِي مَعَانِي الْأَخْبَارِ بِأَنَّهُ قَارُونُ، وَكَذَا ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ وَكَأَنَّ الْمُسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا قَالَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ وَفِيهِ وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَاخْتَالَ فِيهِ خُسِفَ بِهِ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا لِأَنَّ قَارُونَ لَبِسَ حُلَّةً فَاخْتَالَ فِيهَا فَخُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ يُخْسَفُ بِقَارُونَ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةً، وَأَنَّهُ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا لَا يَبْلُغُ قَعْرَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: (يَمْشِي فِي حُلَّةٍ) الْحُلَّةُ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ، وَقِيلَ: إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، وَهَمَّامٍ جَمِيعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْهِ.

قَوْلُهُ:

ص: 260

(تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ) فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ فَأَعْجَبَتْهُ جُمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ وَمِثْلُهُ لِأَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ هَكَذَا هُنَا، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِزِيَادَةِ مِنَ الْخُيَلَاءِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِزَارِ لَا يَدْفَعُ وُجُودَ الرِّدَاءِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْإِزَارُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْخُيَلَاءُ غَالِبًا. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَنَسٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ هُوَ مُلَاحَظَتُهُ لَهَا بِعَيْنِ الْكَمَالِ مَعَ نِسْيَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ، فَإِنِ احْتَقَرَ غَيْرَهُ مَعَ ذَلِكَ فَهُوَ الْكِبْرُ الْمَذْمُومُ.

قَوْلُهُ: (مُرَجِّلٌ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ (جُمَّتَهُ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ هِيَ مُجْتَمَعُ الشَّعْرِ إِذَا تَدَلَّى مِنَ الرَّأْسِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَإِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَتَجَاوَزُ الْأُذُنَيْنِ فَهُوَ الْوَفْرَةُ، وَتَرْجِيلُ الشَّعْرِ تَسْرِيحُهُ وَدَهْنُهُ.

قَوْلُهُ: (إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي سُرْعَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ حَتَّى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالتَّجَلْجُلُ بِجِيمَيْنِ التَّحَرُّكُ، وَقِيلَ: الْجَلْجَلَةُ الْحَرَكَةُ مَعَ صَوْتٍ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: كُلُّ شَيْءٍ خَلَطْتَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ فَقَدْ جَلْجَلْتَهُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: التَّجَلْجُلُ أَنْ يَسُوخَ فِي الْأَرْضِ مَعَ اضْطِرَابٍ شَدِيدٍ وَيَنْدَفِعُ مِنْ شِقٍّ إِلَى شِقٍّ، فَالْمَعْنَى يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ أَيْ يَنْزِلُ فِيهَا مُضْطَرِبًا مُتَدَافِعًا. وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّهُ رُوِيَ يَتَجَلَّلُ بِجِيمٍ وَاحِدَةٍ وَلَامٍ ثَقِيلَةٍ وَهُوَ بِمَعْنَى يَتَغَطَّى، أَيْ تُغَطِّيهِ الْأَرْضُ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَيْضًا يَتَخَلْخَلُ بِخَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ وَاسْتَبْعَدَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ خَلْخَلْتُ الْعَظْمَ إِذَا أَخَذْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ اللَّحْمِ، وَجَاءَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ يَتَحَلْحَلُ بِحَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ. قُلْتُ: وَالْكُلُّ تَصْحِيفٌ إِلَّا الْأَوَّلَ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ جَسَدَ هَذَا الرَّجُلِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُلْغَزَ بِهِ فَيُقَالُ: كَافِرٌ لَا يَبْلَى جَسَدُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرْفَعْهُ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْيَمَانِ عَنْهُ بِتَمَامِهِ وَلَفْظُهُ جَرَّ إِزَارَهُ مُسْبِلًا مِنَ الْخُيَلَاءِ.

الحديث الثالث: قَوْلُهُ: (وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي) هُوَ جَرِيرُ بْنُ أَبِي حَازِمِ بْنِ زَيْدٍ الْأَزْدِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمِّهِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ) هُوَ أَبُو سَلَمَةَ الْبَصْرِيُّ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَلَيْسَ لِجَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ خَالَفَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ فَقَالَ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالزُّهْرِيِّ يَقُولُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ لَكِنْ قَوِيَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعًا لِشِدَّةِ إِتْقَانِ الزُّهْرِيِّ وَمَعْرِفَتِهِ بِحَدِيثِ سَالِمٍ وَلِقَوْلِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ فِي رِوَايَتِهِ كُنْتُ مَعَ سَالِمٍ عَلَى بَابِ دَارِهِ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَإِنَّهَا قَرِينَةٌ فِي أَنَّهُ حَفِظَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ فَمَرَّ بِهِ شَابٌّ مِنْ قُرَيْشٍ يَجُرُّ إِزَارَهُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُقَوِّيِ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ زَيْدٍ ضَبَطَهُ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ قَدْ رَوَاهَا أَبُو رَافِعٍ عَنْهُ كَمَا قَدَّمْتُ أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهَا كَذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي الزِّينَةِ مِنْ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ بِهَذَا السَّنَدِ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ وَهْمٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمِزِّيُّ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَتِهِ تَصْحِيفُ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَصَارَتْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ الْمَذْكُورَةِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ

ص: 261

الْقِيَامَةِ.

ذَكَرَ طرق أُخْرَى لِلْحَدِيثِ الثاني:

قَوْلُهُ: (مُحَارِبٌ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَزْنُ مُقَاتِلٍ، وَدِثَارٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ.

قَوْلُهُ: (مَكَانَهُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ) كَانَ مُحَارِبٌ قَدْ وَلِيَ قَضَاءَ الْكُوفَةِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيُّ عَنْ أَبِيهِ رَأَيْتُ الْحَكَمَ، وَحَمَّادًا فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ وَقَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ فِي الرَّجُلِ سِتُّ خِصَالٍ سَوَّدُوهُ: الْحِلْمُ وَالْعَقْلُ وَالسَّخَاءُ وَالشَّجَاعَةُ وَالْبَيَانُ وَالتَّوَاضُعُ، وَلَا يَكْمُلْنَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بِالْعَفَافِ، وَقَدِ اجْتَمَعْنَ فِي هَذَا الرَّجُلِ يَعْنِي مُحَارِبَ بْنَ دِثَارٍ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَعَلَّ رُكُوبَهُ الْفَرَسَ كَانَ لِيَغِيظَ بِهِ الْكُفَّارَ وَيُرْهِبَ بِهِ الْعَدُوَّ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ رُكُوبَ الْخَيْلِ جَائِزٌ فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِذَارِ عَنْهُ. قُلْتُ: لَكِنَّ الْمَشْيَ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَنْزِلَهُ كَانَ بَعِيدًا عَنْ مَنْزِلِ حُكْمِهِ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِمُحَارِبٍ: أَذْكُرُ إِزَارَهُ؟ قَالَ: مَا خَصَّ إِزَارًا وَلَا قَمِيصًا) كَانَ سَبَبُ سُؤَالِ شُعْبَةَ عَنِ الْإِزَارِ أَنَّ أَكْثَرَ الطُّرُقِ جَاءَتْ بِلَفْظِ الْإِزَارِ، وَجَوَابُ مُحَارَبٍ حَاصِلُهُ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالثَّوْبِ يَشْمَلُ الْإِزَارَ وَغَيْرَهُ، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِمَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ وَاسْتَغْرَبَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ مَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلَاءَ الْحَدِيثَ كَحَدِيثِ الْبَابِ. وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فِيهِ مَقَالٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُمَيَّةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِزَارِ فَهُوَ فِي الْقَمِيصِ وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِلَفْظِ الْإِزَارِ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي عَهْدِهِ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْإِزَارَ وَالْأَرْدِيَةَ، فَلَمَّا لَبِسَ النَّاسُ الْقَمِيصَ وَالدَّرَارِيعَ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْإِزَارِ فِي النَّهْيِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ لَوْ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِالثَّوْبِ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَفِي تَصْوِيرِ جَرِّ الْعِمَامَةِ نَظَرٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنْ إِرْخَاءِ الْعَذْبَاتِ، فَمَهْمَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْإِسْبَالِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَأَنِّي أَنْظُرُ السَّاعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قَدْ أَرْخَى طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الزَّجْرِ عَنْ جَرِّ الثَّوْبِ تَطْوِيلُ أَكْمَامِ الْقَمِيصِ وَنَحْوِهِ؟ مَحَلُّ نَظَرٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَنْ أَطَالَهَا حَتَّى خَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْحِجَازِيِّينَ دَخَلَ فِي ذَلِكَ. قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ مَا مَسَّ الْأَرْضَ مِنْهَا خُيَلَاءَ لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ. قَالَ: وَلَوْ قِيلَ بِتَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَلَكِنْ حَدَثَ لِلنَّاسِ اصْطِلَاحٌ بِتَطْوِيلِهَا، وَصَارَ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ النَّاسِ شِعَارٌ يُعْرَفُونَ بِهِ، وَمَهْمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْخُيَلَاءِ فَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ، وَمَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْعَادَةِ فَلَا تَحْرِيمَ فِيهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى جَرِّ الذَّيْلِ الْمَمْنُوعِ. وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ كَرَاهَةَ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ وَعَلَى الْمُعْتَادِ فِي اللِّبَاسِ مِنَ الطُّولِ وَالسَّعَةِ. قُلْتُ: وَسَأَذْكُرُ الْبَحْثَ فِيهِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ جَبَلَةُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ (ابْنُ سُحَيْمٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّر، وَقَدْ وَصَلَ رِوَايَتَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ مَنْ جَرَّ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِهِ مِنْ مَخِيلَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، وَجَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ.

قَوْلُهُ: (وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ اللِّبَاسِ.

قَوْلُهُ: (وَزَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ يَعْنِي تَابَعُوا مُحَارِبَ بْنَ دِثَارٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ الثَّوْبِ لَا بِلَفْظِ الْإِزَارِ، جَزَمَ بِذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَلَمْ تَقَعْ لِي رِوَايَةُ زَيْدٍ مَوْصُولَةً بَعْدُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عَوَانَةَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: إِنَّ الَّذِي يَجُرُّ ثِيَابَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسَيَأْتِي لِمُسْلِمٍ مَقْرُونًا بِسَالِمٍ، وَنَافِعٍ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ جَدِّهِ حَدِيثًا آخَرَ. فَلَعَلَّ مُرَادَهُ

ص: 262

بِقَوْلِهِ هُنَا عَنْ أَبِيهِ جَدُّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ يعني:، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْهُ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ بَلْ قَالَ مِثْلَ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الثَّوْبِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ.

قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ) أَمَّا رِوَايَةُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَتَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ وَسَالِمٍ، وَنَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ الَّذِي يَجُرُّ ثِيَابَهُ مِنَ الْمَخِيلَةِ الْحَدِيثَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ قُدَامَةَ بْنِ مُوسَى وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ وَهُوَ مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ وَكَانَ إِمَامَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَوَصَلَهَا أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَوَقَعَتْ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي الثَّقَفِيَّاتِ بِلَفْظِ حَدِيثِ مَالِكٍ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ كِتَابِ اللِّبَاسِ.

قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ، وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمُ بْنُ يَنَّاقَ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَآخِرُهُ قَافٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَطِيَّةُ الْعُوفِيُّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ آخَرُونَ بِلَفْظِ الْإِزَارِ وَالرِّوَايَةُ بِلَفْظِ الثَّوْبِ أَشْمَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ لِلْخُيَلَاءِ كَبِيرَةٌ، وَأَمَّا الْإِسْبَالُ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ فَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُهُ أَيْضًا، لَكِنِ اسْتُدِلَّ بِالتَّقْيِيدِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِالْخُيَلَاءِ عَلَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الزَّجْرِ الْوَارِدِ فِي ذَمِّ الْإِسْبَالِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ هُنَا، فَلَا يَحْرُم الْجَرُّ وَالْإِسْبَالُ إِذَا سَلِمَ مِنَ الْخُيَلَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَفْهُومُهُ أَنَّ الْجَرَّ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ لَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ، إِلَّا أَنَّ جَرَّ الْقَمِيصِ وَغَيْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ مَذْمُومٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْإِسْبَالُ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ لِلْخُيَلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَهَكَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَرِّ لِلْخُيَلَاءِ وَلِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ، قَالَ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِزَارُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَالْجَائِزُ بِلَا كَرَاهَةٍ مَا تَحْتَهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَمَا نَزَلَ عَنِ الْكَعْبَيْنِ مَمْنُوعٌ مَنْعَ تَحْرِيمٍ إِنْ كَانَ لِلْخُيَلَاءِ وَإِلَّا فَمَنْعُ تَنْزِيهٍ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْإِسْبَالِ مُطْلَقَةٌ فَيَجِبُ تَقْيِيدُهَا بِالْإِسْبَالِ لِلْخُيَلَاءِ انْتَهَى.

وَالنَّصُّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ذَكَرَهُ الْبُوَيْطِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: لَا يَجُوزُ السَّدْلُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا لِلْخُيَلَاءِ، وَلِغَيْرِهَا خَفِيفٌ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ اهـ، وَقَوْلُهُ: خَفِيفٌ لَيْسَ صَرِيحًا فِي نَفْيِ التَّحْرِيمِ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَرِّ خُيَلَاءُ، فَأَمَّا لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ فَيَخْتَلِفُ الْحَالُ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ عَلَى قَدْرِ لَابِسِهِ لَكِنَّهُ يَسْدُلُهُ فَهَذَا لَا يَظْهَرُ فِيهِ تَحْرِيمٌ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَالَّذِي وَقَعَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ لَابِسِهِ فَهَذَا قَدْ يُتَّجَهُ الْمَنْعُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْرَافِ فَيَنْتَهِي إِلَى التَّحْرِيمِ، وَقَدْ يُتَّجَهُ الْمَنْعُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ وَهُوَ أَمْكَنُ فِيهِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لُعِنَ الرَّجُلُ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ وَقَدْ يُتَّجَهُ الْمَنْعُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَابِسَهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ تَعَلُّقِ النَّجَاسَةِ بِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ - وَاسْمُ أَبِيهِ سُلَيْمٌ - الْمُحَارِبِيُّ عَنْ عَمَّتِهِ وَاسْمُهَا رُهْمٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَهِيَ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ عَمِّهَا وَاسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي وَعَلَيَّ بُرْدٌ أَجُرُّهُ، فَقَالَ لِي رَجُلٌ: ارْفَعْ ثَوْبَكَ فَإِنَّهُ

ص: 263

أَنْقَى وَأَبْقَى، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنَّمَا هِيَ بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ، فَقَالَ: أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ؟

قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا إِزَارُهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ وَسَنَدُهُ قَبْلَهَا جَيِّدٌ، وَقَوْلُهُ: مَلْحَاءُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِمُهْمَلَةٍ قَبْلَهَا سُكُونٌ مَمْدُودَةٌ أَيْ فِيهَا خُطُوطٌ سُودٌ وَبِيضٌ، وَفِي قِصَّةِ قَتْلِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِلشَّابِّ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ ارْفَعْ ثَوْبَكَ فَإِنَّهُ أَنْقَى لِثَوْبِكَ وَأَتْقَى لِرَبِّكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ، وَيُتَّجَهُ الْمَنْعُ أَيْضًا فِي الْإِسْبَالِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ كَوْنُهُ مَظِنَّةَ الْخُيَلَاءِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُجَاوِزَ بِثَوْبِهِ كَعْبَهُ، وَيَقُولُ لَا أَجُرُّهُ خُيَلَاءَ، لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ تَنَاوَلَهُ لَفْظًا، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ حُكْمًا أَنْ يَقُولَ لَا أَمْتَثِلُهُ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ فِيَّ، فَإِنَّهَا دَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ، بَلْ إِطَالَتُهُ ذَيْلَهُ دَالَّةٌ عَلَى تَكَبُّرِهِ اهـ مُلَخَّصًا.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِسْبَالَ يَسْتَلْزِمُ جَرَّ الثَّوْبِ وَجَرُّ الثَّوْبِ يَسْتَلْزِمُ الْخُيَلَاءَ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ اللَّابِسُ الْخُيَلَاءَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ رَفَعَهُ وَإِيَّاكَ وَجَرَّ الْإِزَارِ فَإِنَّ جَرَّ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَحِقَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيُّ فِي حُلَّةٍ إِزَارٍ وَرِدَاءٍ قَدْ أَسْبَلَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ بِنَاحِيَةِ ثَوْبِهِ وَيَتَوَاضَعُ لِلَّهِ وَيَقُولُ: عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَأَمَتِكَ، حَتَّى سَمِعَهَا عَمْرٌو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَمْشُ السَّاقَيْنِ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، يَا عَمْرُو إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُسْبِلَ الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرٍو نَفْسِهِ لَكِنْ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ فُلَانٍ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا فَقَالَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ زُرَارَةَ وَفِيهِ وَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ تَحْتَ رُكْبَةِ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا عَمْرُو هَذَا مَوْضِعُ الْإِزَارِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ تَحْتَ الْأَرْبَعِ فَقَالَ: يَا عَمْرُو هَذَا مَوْضِعُ الْإِزَارِ الْحَدِيثَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَظَاهِرُهُ أَنَّ عَمْرًا الْمَذْكُورَ لَمْ يَقْصِدْ بِإِسْبَالِهِ الْخُيَلَاءَ، وَقَدْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةً، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الشَّرِيدِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: أَبْصَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا قَدْ أَسْبَلَ إِزَارَهُ فَقَالَ: ارْفَعْ إِزَارَكَ، فَقَالَ: إِنِّي أَحْنَفُ تَصْطَكُّ رُكْبَتَايَ، قَالَ: ارْفَعْ إِزَارَكَ، فَكُلُّ خَلْقِ اللَّهِ حَسَنٌ وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ، وَأَبُو بِكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ إنَّهُ كَانَ يُسْبِلُ إِزَارَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ: مِمَّا بِسَاقِكَ وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ إنَّهُ كَانَ يُسْبِلُ إِزَارَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي حَمْشُ السَّاقَيْنِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَسْبَلَهُ زِيَادَةً عَلَى الْمُسْتَحَبِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ جَاوَزَ بِهِ الْكَعْبَيْنِ وَالتَّعْلِيلُ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ قِصَّةُ عَمْرِو بْنِ زُرَارَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِرِدَاءِ سُفْيَانَ بْنِ سُهَيْلٍ وَهُوَ يَقُولُ: يَا سُفْيَانُ لَا تُسْبِلْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُسْبِلِينَ.

‌6 - بَاب الْإِزَارِ الْمُهَدَّبِ

وَيُذْكَرُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَحَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا ثِيَابًا مُهَدَّبَةً

5792 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جَالِسَةٌ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ - وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا - فَسَمِعَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ قَوْلَهَا وَهُوَ بِالْبَابِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ. قَالَتْ: فَقَالَ خَالِدٌ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَنْهَى هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَلَا وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّبَسُّمِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ، لَا، حَتَّى

ص: 264

يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، فَصَارَ سُنَّةً بَعْده.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِزَارِ الْمُهَدَّبِ) بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ ثَقِيلَةٍ مَفْتُوحَةٍ، أَيِ الَّذِي لَهُ هُدْبٌ ; وَهِيَ أَطْرَافٌ مِنْ سُدًى بِغَيْرِ لُحْمَةٍ رُبَّمَا قُصِدَ بِهَا التَّجَمُّلُ، وَقَدْ تُفْتَلُ صِيَانَةً لَهَا مِنَ الْفَسَادِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هِيَ مَا يَبْقَى مِنَ الْخُيُوطِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْدِيَةِ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَحَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا ثِيَابًا مُهَدَّبَةً) قَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ: إنَّهَا غَيْرُ مَكْفُوفَةِ الْأَسْفَلِ، وَهَذِهِ الْآثَارُ لَمْ يَقَعْ لِي أَكْثَرُهَا مَوْصُولًا. أَمَّا الزُّهْرِيُّ فَهُوَ ابْنُ شِهَابٍ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي الْمَدِينَةِ، وَأَمَّا حَمْزَةُ بْنُ أَبِي أُسَيْدٍ وَهُوَ بِالتَّصْغِيرِ الْأَنْصَارِيُّ السَّاعِدِيُّ فَوَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ مَيْمُونٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ حَمْزَةَ بْنَ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ عَلَيْهِ ثَوْبٌ مَفْتُولُ الْهُدْبِ. وَسَلَمَةُ هَذَا لَمْ يَزِدْ الْبُخَارِيِّ فِي تَرْجَمَتِهِ عَلَى مَا فِي هَذَا السَّنَدِ. وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَيِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ فَهُوَ مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهَا: مَا مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَالْمُرَادُ بِالْهُدْبَةِ الْخُصْلَةُ مِنَ الْهُدْبِ وَوَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْتَبٍ بِشَمْلَةٍ، وَقَدْ وَقَعَ هُدْبُهَا عَلَى قَدَمَيْهِ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ: فَصَارَ سُنَّةً بَعْدَهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَعْدُ بِغَيْرِ ضَمِيرٍ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ فِيمَا أَحْسَبُ.

‌7 - بَاب الْأَرْدِيَةِ. وَقَالَ أَنَسٌ: جَبَذَ أَعْرَابِيٌّ رِدَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

5793 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنهم قَالَ. . فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِهِ، فارتدى به، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنُوا لَهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَرْدِيَةِ) جَمْعُ رِدَاءٍ بِالْمَدِّ وَهُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الْعَاتِقِ أَوْ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ مِنَ الثِّيَابِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ جَبَذَ أَعْرَابِيٌّ رِدَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بِجِيمٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَمُعْجَمَةٍ. وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ بَعْدَ أَبْوَابٍ فِي بَابِ الْبُرُودِ وَالْحَبَرَةِ.

ثم ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِهِ فَارْتَدَى وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ فِي قِصَّةِ حَمْزَةَ وَالشَّارِفِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي فَرْضِ الْخَمْسِ، وَقَوْلُهُ: فَدَعَا عَطْفٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ كَانَ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُمْ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَالْمُرَادُ حَمْزَةُ وَمَنْ مَعَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فَأَذِنَ بِالْإِفْرَادِ وَالْمُرَادُ حَمْزَةُ لِكَوْنِهِ كَانَ كَبِيرَ الْقَوْمِ.

‌8 - بَاب لُبْسِ الْقَمِيصِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ:{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا}

ص: 265

5794 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا الْخُفَّيْنِ إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ مَا هُوَ أَسْفَلُ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.

5795 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5796 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن عمر، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، وَقَالَ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْهُ فَآذِنَّا، فَلَمَّا فَرَغَ آذَنَهُ بِهِ، فَجَاءَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَجَذَبَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ؛ فَنَزَلَتْ {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ؛ فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لُبْسِ الْقَمِيصِ، وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ:{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ لُبْسَ الْقَمِيصِ لَيْسَ حَادِثًا، وَإِنْ كَانَ الشَّائِعُ فِي الْعَرَبِ لُبْسَ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِيمَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي الْحَجِّ مُسْتَوْفًى، وَفِيهِ لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُودِ الْقُمْصَانِ حِينَئِذٍ.

وَالثَّانِي حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ مَوْتِ عَبْدِ الله ابْنِ أُبَيٍّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ) هُوَ الْمَرْوَزِيُّ الْمُلَقَّبُ عَبْدَانُ، زَادَ الْقَابِسِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ تَحْرِيفٌ، وَلَيْسَ فِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ مَنِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ إِلَّا عَبْدَانُ، وَجَدُّهُ هُوَ جَبَلَةُ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ فَإِنْ كَانَ ضَبَطَهُ فَلَعَلَّهُ اخْتِلَافٌ عَلَى الْبُخَارِيِّ، وَفِي شُيُوخِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ أَشْهَرُهُمْ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ أَبُوهُ عِنْدَهُ غَيْرَ مُسَمًّى، وَابْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ كَذَلِكَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ وَلَيْسَتْ لَهُ رِوَايَةٌ عِنْدَهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيِّ كَذَلِكَ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ أَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا إِلَى قَوْلِهِ: وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ قَالَهَا جَابِرٌ، وَقَدْ وَقَعَتْ فِي كَلَامِ عُمَرَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٍ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا.

(تَكْمِلَةٌ): قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمْ أَرَ لِلْقَمِيصِ ذِكْرًا صَحِيحًا إِلَّا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَقِصَّةُ ابْنِ أُبَيِّ وَلَمْ أَرَ لَهُمَا ثَالِثًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ هَذَا فِي كِتَابِهِ سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ وَكَأَنَّهُ صَنَّفَهُ قَبْلَ شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فَلَمْ يَسْتَحْضِرْ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ وَلَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَبِسَ قَمِيصًا بَدَأَ بِمَيَامِنِهِ وَلَا حَدِيثَ أَسْمَاءَ

ص: 266

بِنْتِ يَزِيدَ كَانَتْ يَدُ كُمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الرُّسْغِ وَلَا حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ الْمُزَنِيِّ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَبَايَعْنَاهُ وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ، فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ أَدْخَلْتُ يَدِي فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ فَمَسِسْتُ الْخَاتَمَ وَلَا حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ قَمِيصًا أَوْ عِمَامَةً أَوْ رِدَاءً ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ الحديث وَكُلُّهَا فِي السُّنَنِ، وَأَكْثَرُهَا فِي التِّرْمِذِيِّ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ عَائِشَةَ كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ الْحَدِيثَ وَغَيْرَ ذَلِكَ.

‌9 - بَاب جَيْبِ الْقَمِيصِ مِنْ عِنْدِ الصَّدْرِ وَغَيْرِهِ

5797 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِي جَيْبِهِ، فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَوَسَّعُ.

تَابَعَهُ ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ فِي الْجُبَّتَيْنِ.

وَقَالَ حَنْظَلَةُ: سَمِعْتُ طَاوُسًا: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: جُبَّتَانِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ ربيعة عَنْ الْأَعْرَجِ: جُبَّتَانِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ جَيْبِ الْقَمِيصِ مِنْ عِنْدِ الصَّدْرِ وَغَيْرِهِ) الْجَيْبُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هُوَ مَا يُقْطَعُ مِنَ الثَّوْبِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الرَّأْسُ أَوِ الْيَدُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: الْجَيْبُ الَّذِي يُحِيطُ بِالْعُنُقِ، جَيْبُ الثَّوْبِ أَيْ جُعِلَ فِيهِ ثَقْبٌ، وَأَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى أَنَّهُ مَا يُجْعَلُ فِي الصَّدْرِ لِيُوضَعَ فِيهِ الشَّيْءُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَإِنَّمَا الْجَيْبُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْأَوَّلُ، كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَقُولُ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِي جَيْبِهِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَانَ لَابِسَ قَمِيصٍ، وَكَانَ فِي طَوْقِهِ فَتْحَةٌ إِلَى صَدْرِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ، بَلِ اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى أَنَّ الْجَيْبَ فِي ثِيَابِ السَّلَفِ كَانَ عِنْدَ الصَّدْرِ، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ بِالْأَنْدَلُسِ. وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الْبَخِيلَ إِذَا أَرَادَ إِخْرَاجَ يَدِهِ أَمْسَكَتْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ضَاقَ عَلَيْهَا وَهُوَ الثَّدْيُ وَالتَّرَاقِي، وَذَلِكَ فِي الصَّدْرِ، قَالَ: فَبَانَ أَنَّ جَيْبَهُ كَانَ فِي صَدْرِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ لَمْ تَضْطَرَّ يَدَاهُ إِلَى ثَدْيَيْهِ وَتَرَاقِيهِ. قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ هُوَ وَابْنُ حِبَّانَ لَمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ فَأَدْخَلْتُ يَدِي فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ فَمَسِسْتُ الْخَاتَمَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ جَيْبَ قَمِيصِهِ كَانَ فِي صَدْرِهِ لِأَنَّ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَآهُ مُطْلَقَ الْقَمِيصِ أَيْ غَيْرَ مَزْرُورٍ.

وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَادَتْ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ مَالَتْ، وَلِبَعْضِ الرُّوَاةِ مَارَتْ بِالرَّاءِ بَدَلَ الدَّالِ أَيْ سَالَتْ. وَقَوْلُهُ: ثُدَيهِمَا بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ عَلَى الْجَمْعِ وَبِفَتْحِهَا عَلَى التَّثْنِيَةِ،

ص: 267

وَقَوْلُهُ: يُغْشَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ وَيَجُوزُ فَتْحُ أَوَّلِهِ وَسُكُونُ ثَانِيهِ بِمَعْنًى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَأَبُو عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ، وَالْحَسَنُ هُوَ ابْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاقٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُ اسْمِ جَدِّهِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَتَرَاقِيهِمَا) جَمْعُ تَرْقُوَةٍ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَضَمِّ الْقَافِ هِيَ الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ ثُغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ، وَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَاسِمٍ فِي الدَّلَائِلِ التَّرْقُوَتَانِ الْعَظْمَانِ الْمُشْرِفَانِ فِي أَعْلَى الصَّدْرِ إِلَى طَرَفِ ثُغْرَةِ النَّحْرِ.

قَوْلُهُ: (فَلَوْ رَأَيْتَهُ) جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ لَتَعَجَّبْتَ مِنْهُ، أَوْ هُوَ لِلتَّمَنِّي. وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ.

قَوْلُهُ: (يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِي جَيْبِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْحُمَيْدِيُّ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ ثُمَّ ضَمِيرٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَوْضِعِ بِخُصُوصِهِ بِخِلَافِ الثَّانِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ ابْنُ طَاوُسٍ) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ (عَنْ أَبِيهِ) يَعْنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الزَّكَاةِ، وَلَمْ يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ فِيهِ بَلْ سَاقَهُ فِي الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (وَأَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ) يَعْنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (فِي الْجُبَّتَيْنِ) يَعْنِي بِالْمُوَحَّدَةِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ أَوِ النُّونِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَرِوَايَةُ أَبِي الزِّنَادِ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الزَّكَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَنْظَلَةُ) هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ أَيْضًا فِي الزَّكَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ حيانَ وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ بَطَّالٍ وَهُوَ خَطَأٌ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي الزَّكَاةِ أَيْضًا تَعْلِيقًا بِزِيَادَةٍ فَقَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّ لِلَّيْثِ فِيهِ إِسْنَادًا آخَرَ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ حَمَّادٍ عَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ.

‌10 - بَاب مَنْ لَبِسَ جُبَّةً ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ فِي السَّفَرِ

5798 -

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الضُّحَى، قَالَ: حَدَّثَنِي مَسْرُوقٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ فَتَلَقَّيْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ، فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ بدنه، فَغَسَلَهُمَا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَعَلَى خُفَّيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَبِسَ جُبَّةً ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ فِي السَّفَرِ) تَرْجَمَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ وَفِي الْجِهَادِ الْجُبَّةُ فِي السَّفَرِ وَالْحَرْبِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ لُبْسَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجُبَّةَ الضَّيِّقَةَ إِنَّمَا كَانَ لِحَالِ السَّفَرِ لِاحْتِيَاجِ الْمُسَافِرِ إِلَى ذَلِكَ وَأَنَّ السَّفَرَ يُغْتَفَرُ فِيهِ لُبْسُ غَيْرِ الْمُعْتَادِ فِي الْحَضَرِ، وَقَدْ تَوَارَدَتِ الْأَحَادِيثُ عَمَّنْ وَصَفَ وُضُوءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ كُمَّيْهِ ضَاقَا عَنْ إِخْرَاجِ يَدَيْهِ مِنْهُمَا، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ.

وَأَوْرَدَ فيه حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ فِي مَسْحِ الْخُفَّيْنِ، وقد تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الطَّهَارَةِ وَفِيهِ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ، وَفِيهِ: وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَذْكُورُ فِي سَنَدِهِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ بَدَنِهِ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا نُونٌ أَيْ جُبَّتِهِ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ، وَالْبَدَنُ دِرْعٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ.

‌11 - بَاب لُبْسِ جُبَّةِ الصُّوفِ فِي الْغَزْوِ

5799 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ:

ص: 268

كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: أَمَعَكَ مَاءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَمَشَى حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ، فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ الْإِدَاوَةَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ، فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ لُبْسِ جُبَّةِ الصُّوفِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ وَسَاقَهُ عَنْهُ أَتَمَّ.

وزَكَرِيَّا الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَرِهَ مَالِكٌ لُبْسَ الصُّوفِ لِمَنْ يَجِدُ غَيْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الشُّهْرَةِ بِالزُّهْدِ لِأَنَّ إِخْفَاءَ الْعَمَلِ أَوْلَى، قَالَ وَلَمْ يَنْحَصِرِ التَّوَاضُعُ فِي لُبْسِهِ بَلْ فِي الْقُطْنِ وَغَيْرِهِ مَا هُوَ بِدُونِ ثَمَنِهِ.

‌12 - بَاب الْقَبَاءِ وَفَرُّوجِ حَرِيرٍ وَهُوَ الْقَبَاءُ، وَيُقَالُ هُوَ الَّذِي لَهُ شَقٌّ مِنْ خَلْفِهِ

5800 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أنه قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا. فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيِّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ. فَقَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي. فقَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ. قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ.

5801 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعاً شَدِيداً كَالْكَارِهِ لَهُ ثُمَّ قَالَ لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَبَاءِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ مَمْدُودٌ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَقِيلَ: عَرَبِيٌّ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْقَبْوِ وَهُوَ الضَّمُّ.

قَوْلُهُ: (وَفَرُّوجِ حَرِيرٍ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَضْمُومَةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ الْقَبَاءُ) قُلْتُ وَوَقَعَ كَذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ هُوَ الَّذِي لَهُ شِقٌّ مِنْ خَلْفِهِ) أَيْ فَهُوَ قَبَاءٌ مَخْصُوصٌ، وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو عُبَيْدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْغَرِيبِ نَظَرًا لِاشْتِقَاقِهِ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: هُوَ قَمِيصُ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْقَبَاءُ وَالْفَرُّوجُ كِلَاهُمَا ثَوْبٌ ضَيِّقُ الْكُمَّيْنِ وَالْوَسَطِ مَشْقُوقٌ مِنْ خَلْفٍ يُلْبَسُ فِي السَّفَرِ وَالْحَرْبِ لِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى الْحَرَكَةِ. وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمٍ، عَنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَسَيَأْتِي كَذَلِكَ فِي بَابِ الْمَزْرُورِ بِالذَّهَبِ مُعَلَّقًا.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ) هَكَذَا أَسْنَدَهُ اللَّيْثُ، وَتَابَعَهُ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَلَى وَصْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ، وَأَرْسَلَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخَمْسِ، وَإِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ قِسْمَةِ الْإِمَامِ مَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِ الْخَمْسِ.

قَوْلُهُ: (قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً) فِي رِوَايَةِ حَاتِمٍ قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ وَفِي

ص: 269

رِوَايَةِ حَمَّادٍ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مَزْرُورَةٍ بِالذَّهَبِ فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا) أَيْ فِي حَالِ تِلْكَ الْقِسْمَةِ. وَإِلَّا فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ وَمَخْرَمَةُ هُوَ وَالِدُ الْمِسْوَرِ، وَهُوَ ابْنُ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيُّ، كَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَمِنَ الْعَارِفِينَ بِالنَّسَبِ وَأَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى الْفَت حِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَأُعْطِيَ مِنْ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ مَعَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (انْطَلَقَ بِنَا) فِي رِوَايَةِ حَاتِمٍ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي) فِي رِوَايَةِ حَاتِمٍ فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّ خُرُوجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ مَخْرَمَةَ صَادَفَ دُخُولَ الْمِسْوَرِ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا) ظَاهِرُهُ اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ النَّهْيِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَشَرَهُ عَلَى أَكْتَافِهِ لِيَرَاهُ مَخْرَمَةُ كُلَّهُ وَلَمْ يَقْصِدْ لُبْسَهُ. قُلْتُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ عَلَى أَكْتَافِهِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مَنْشُورًا عَلَى يَدَيْهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَاتِمٍ فَخَرَجَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ فَتَلَقَّاهُ بِهِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِإِزَارِهِ.

قَوْلُهُ: (خَبَّأْتُ هَذَا لَكَ) فِي رِوَايَةِ حَاتِمٍ تَكْرَارُ ذَلِكَ، زَادَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ يَا أَبَا الْمِسْوَرِ هَكَذَا دَعَاهُ أَبَا الْمِسْوَرِ وَكَأَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْنِيسِ لَهُ بِذِكْرِ وَلَدِهِ الَّذِي جَاءَ صُحْبَتَهُ، وَإِلَّا فَكُنْيَتُهُ فِي الْأَصْلِ أَبُو صَفْوَانَ وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ رَضِيَ مَخْرَمَةُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ هَاشِمٍ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَجَزَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ رَجَّحْتُ فِي الْهِبَةِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مَخْرَمَةَ، زَادَ حَمَّادٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شِدَّةٌ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ اسْتِئْلَافُ أَهْلِ اللَّسَنِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ بِالْعَطِيَّةِ وَالْكَلَامِ الطَّيِّبِ، وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ فِي الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَفَ صَوْتَ مَخْرَمَةَ فَاعْتَمَدَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ الْقَبَاءُ الَّذِي خَبَّأَهُ لَهُ، وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مِنْهُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْخُطُوطَ تَشْتَبِهُ أَكْثَرَ مِمَّا تَشْتَبِهُ الْأَصْوَاتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي الشَّهَادَاتِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمِسْوَرَ لَا صُحْبَةَ لَهُ.

تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ اللَّيْثِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فَرُّوجٌ حَرِيرٌ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي، قَوْلُهُ:(عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ حَجَّاجٍ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ، وَهَاشِمٍ هُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) هُوَ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيُّ وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) هُوَ الْجُهَنِيُّ وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ كِلَاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عِنْدَ أَحْمَدَ.

قَوْلُهُ: (فَرُّوجُ حَرِيرٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ أَحْمَدَ فَرُّوجٌ مِنْ حَرِيرٍ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ صَلَّى فِيهِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَعَبْدِ الْحَمِيدِ عِنْدَ أَحْمَدَ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ الْمَغْرِبَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ انْصَرَفَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ فَلَمَّا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالِانْصِرَافِ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ.

قَوْلُهُ: (فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا) زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ حَجَّاجٍ، وَهَاشِمٍ عَنِيفًا أَيْ بِقُوَّةٍ وَمُبَادَرَةٍ لِذَلِكَ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ فِي الرِّفْقِ وَالتَّأَنِّي، وَهُوَ مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَقَعَ حِينَئِذٍ.

قَوْلُهُ: (كَالْكَارِهِ لَهُ) زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ لَبِسْتُهُ وَصَلَّيْتُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ لَا يَنْبَغِي هَذَا) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ لِلُّبْسِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكُونَ لِلْحَرِيرِ فَيَتَنَاوَلُ غَيْرَ اللُّبْسِ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ كَالِافْتِرَاشِ.

قَوْلُهُ: (لِلْمُتَقَيِّنِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ لِكَوْنِهِ كَانَ حَرِيرًا صِرْفًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ لِبَاسِ الْأَعَاجِمِ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ ابْنِ

ص: 270

عُمَرَ رَفَعَهُ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ قُلْتُ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ. وَهَذَا التَّرَدُّدُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُرَادِ بِالْمُتَّقِينَ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقَ الْمُؤْمِنِ حُمِلَ عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ حُمِلَ عَلَى الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: اسْمُ التَّقْوَى يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى دَرَجَاتٍ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الْآيَةَ، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَدِ اتَّقَى، أَيْ وَقَى نَفْسَهُ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَهَذَا مَقَامُ الْعُمُومِ، وَأَمَّا مَقَامُ الْخُصُوصِ فَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ انْتَهَى. وَقَدْ رَجَّحَ عِيَاضٌ أَنَّ الْمَنْعَ فِيهِ لِكَوْنِهِ حَرِيرًا، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ مُبْتَدَأَ تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ خَافُوا اللَّهَ - تَعَالَى - وَاتَّقَوْهُ بِإِيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ لَهُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: لَعَلَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى الْأَخْذِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ غَيْرَ مُتَّقٍ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا الْمُسْتَخِفُّ فَيَأْنَفُ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ لِئَلَّا يُوصَفَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّقٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ عَلَى الرَّاجِحِ، وَدُخُولُهُنَّ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ مَجَازٌ يَمْنَعُ مِنْهُ وُرُودُ الْأَدِلَّةِ الصَّرِيحَةِ عَلَى إِبَاحَتِهِ لَهُنَّ، وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ بَعْدَ قَرِيبٍ مِنْ عِشْرِينَ بَابًا، وَعَلَى أَنَّ الصِّبْيَانَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ لُبْسُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يُوصَفُونَ بِالتَّقْوَى. وَقَدْ قَالَ الْجُمْهُورُ بِجَوَازِ إِلْبَاسِهِمْ ذَلِكَ فِي نَحْو الْعِيدِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَكْسُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ يُمْنَعُ بَعْدَ التَّمْيِيزِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنْ لَا كَرَاهَةَ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ الضَّيِّقَةِ وَالْمُفَرَّجَةُ لِمَنِ اعْتَادَهَا أَوِ احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ قَرِيبًا فِي بَابِ لُبْسِ الْجُبَّةِ الضَّيِّقَةِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ، وَقَالَ غَيْرُهُ) يَعْنِي بِسَنَدِهِ (فَرُّوجُ حَرِيرٍ). أَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ رحمه الله فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ غَيْرِهِ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهَاشِمٍ وَهُوَ أَبُو النَّضْرِ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَالْحَارِثُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ كُلِّهِمْ عَنِ اللَّيْثِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا التَّنْوِينُ وَالْإِضَافَةُ كَمَا يُقَالُ ثَوْبُ خَزٍّ بِالْإِضَافَةِ وَثَوْبٌ خَزٌّ بِتَنْوِينِ ثَوْبٍ قَالَهُ ابْنُ التِّينِ احْتِمَالًا. ثَانِيهَا: ضَمُّ أَوَّلِهِ وَفَتْحُهُ حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ رِوَايَةً، قَالَ: وَالْفَتْحُ أَوْجَهُ لِأَنَّ فَعُّولًا لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي سُبُّوحٍ وَقُدُّوسٍ وَفَرُّوخٍ يَعْنِي الْفَرْخَ مِنَ الدَّجَاجِ انْتَهَى، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ حِكَايَةَ جَوَازِ الضَّمِّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ حُكِيَ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ وَالضَّمُّ هُوَ الْمَعْرُوفُ. ثَالِثُهَا: تَشْدِيدُ الرَّاءِ وَتَخْفِيفُهَا حَكَاهُ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ. رَابِعُهَا: هَلْ هُوَ بِجِيمٍ آخِرَهُ أَوْ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ حَكَاهُ عِيَاضٌ أَيْضًا. خَامِسُهَا: حَكَاهُ الْكِرْمَانِيُّ قَالَ: الْأَوَّلُ فَرُّوجٌ مِنْ حَرِيرٍ بِزِيَادَةِ مِنْ وَالثَّانِي بِحَذْفِهَا. قُلْتُ: وَزِيَادَةُ مِنْ لَيْسَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا عَنْ رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ.

‌13 - بَاب الْبَرَانِسِ

5802 -

وَقَالَ لِي مُسَدَّدٌ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ: قال: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى أَنَسٍ بُرْنُسًا أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ

5803 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا

ص: 271

الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَعْفَرَانٌ وَلَا الْوَرْسُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبَرَانِسِ) جَمْعُ بُرْنُسٍ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَالنُّونِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَكَذَا شَرْحُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) يَعْنِي ابْنَ سليمان التَّيْمِيِّ، وَقَوْلُهُ: مِنْ خَزٍّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ هُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ وَأَصْلُهُ مِنْ وَبَرِ الْأَرْنَبِ، وَيُقَالُ لِذَكَرِ الْأَرْنَبِ خُزَزٌ بِوَزْنِ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ وَحُكْمُهُ فِي بَابِ لُبْسِ الْقَسِّيِّ بَعْدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَابًا. وَهَذَا الْأَثَرُ مَوْصُولٌ لِتَصْرِيحِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: قَالَ لِي لَكِنْ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ لَفْظٌ لِي فَهُوَ تَعْلِيقٌ، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ مَوْصُولًا فِي مُسْنَدِ مُسَدَّدٍ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ مُسَدَّدٍ، وَكَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى أَنَسٍ فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ لُبْسَ الْبُرْنُسِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ لِبَاسِ الرُّهْبَانِ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْهُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. قِيلَ: فَإِنَّهُ مِنْ لَبُوسِ النَّصَارَى. قَالَ: كَانَ يُلْبَسُ هَاهُنَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: مَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ إِلَّا لَهُ بُرْنُسٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِرْصَافَةَ قَالَ: كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بُرْنُسًا فَقَالَ: الْبَسْهُ وَفِي سَنَدِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ. وَلَعَلَّ مَنْ كَرِهَهُ أَخَذَ بِعُمُومِ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَفَعَهُ إِيَّاكُمْ وَلَبُوسَ الرُّهْبَانِ، فَإِنَّهُ مَنْ تَزَيَّا بِهِمْ أَوْ تَشَبَّهَ فَلَيْسَ مِنِّي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ.

‌14 - بَاب السَّرَاوِيلِ

5804 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ عن زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ.

5805 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ إِذَا أَحْرَمْنَا؟ قَالَ: لَا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ وَالسَّرَاوِيلَ وَالْعَمَائِمَ وَالْبَرَانِسَ وَالْخِفَافَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنْ الثِّيَابِ مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السَّرَاوِيلِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِيمَا لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَا وَشَرَحَهُمَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ عَلَى شَرْطِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَ الدُّعَاءِ لِلْمُتَسَرْوِلَاتِ للْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَصَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى رِجْلٌ سَرَاوِيلَ مِنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ وَأَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرَةَ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ قَبْلَ مُهَاجَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَرَى مِنِّي سَرَاوِيلَ فَأَرْجَحَ لِي وَمَا كَانَ لِيَشْتَرِيَهُ عَبَثًا وَإِنْ كَانَ غَالِبُ لُبْسِهِ الْإِزَارَ، وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ دَخَلْتُ يَوْمًا السُّوقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ إِلَى الْبَزَّازِ فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ

ص: 272

وَإِنَّكَ لَتَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ؟ قَالَ: أَجَلْ، فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَإِنِّي أُمِرْتُ بِالتَّسَتُّرِ وَفِيهِ يُونُسُ بْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهُدَى: اشْتَرَى صلى الله عليه وسلم السَّرَاوِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَاهُ لِيَلْبَسَهُ ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، وَكَانُوا يَلْبَسُونَهُ فِي زَمَانِهِ وَبِإِذْنِهِ. قُلْتُ: وَتُؤْخَذُ أَدِلَّةُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِمَّا ذَكَرْتُهُ.

وَوَقَعَ فِي الْإِحْيَاءِ لِلْغَزَالِيِّ أَنَّ الثَّمَنَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَالَّذِي تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ أَوْلَى.

‌15 - بَاب الْعَمَائِمِ

5806 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ، وَلَا الْخُفَّيْنِ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمَا فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْعَمَائِمِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَجِّ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ عَلَى شَرْطِهِ فِي الْعِمَامَةِ شَيْءٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا الْحَدِيثُ الْمَاضِي فِي آخِرِ بَابِ مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ أَنَّهُ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي الْمُلَيْحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ اعْتَمُّوا تَزْدَادُوا حِلْمًا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ الْمُفْرَدِ وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ ; وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَلَمْ يُصِبْ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْبَزَّارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَعَنْ رُكَانَةَ رَفَعَهُ فَرْقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَفْعَلُهُ وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا يَفْعَلُهُ إِلَّا عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌16 - بَاب التَّقَنُّعِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ. قَالَ أَنَسٌ: وعَصَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ

5807 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ رجال مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَتَرْجُوهُ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِصُحْبَتِهِ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَما نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِنَا فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَقَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقْبِلًا مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدًا لَكَ بأَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، قَالَ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ، قَالَ: فَالصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَخُذْ بِأَبِي

ص: 273

أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِالثَّمَنِ، قَالَتْ فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ ووَضَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَأَوْكَأَتْ بِهِ الْجِرَابَ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقين ثُمَّ لَحِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ،

فَمَكُثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ لَقِنٌ ثَقِفٌ فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّقَنُّعِ) بِقَافٍ وَنُونٍ ثَقِيلَةٍ، وَهُوَ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ وَأَكْثَرِ الْوَجْهِ بِرِدَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مُسْنَدٍ عِنْدَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ فِي بَابِ اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُتَعَطِّفًا بِهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ الْحَدِيثَ، وَالدَّسْمَاءُ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَالْمَدِّ ضِدُّ النَّظِيفَةِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لَوْنَهَا فِي الْأَصْلِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِصَابَةٌ سَوْدَاءُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ: عَصَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ) هُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ بِطُولِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَتَمَّ مِنْهُ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ. هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقْبِلًا مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا وَقَوْلُهُ فِيهِ: فِدًا لَكَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِدًا لُهْ وَقَوْلُهُ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَأَمْرٍ بِفَتْحِ اللَّامِ وَبِالتَّنْوِينِ مَرْفُوعًا وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ إِنِ السَّاكِنَةَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَّا لِأَمْرٍ وَإِنْ عَلَى هَذَا نَافِيَةٌ. وَقَوْلُهُ: أَحَثَّ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ ثَقِيلَةٍ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَحَبَّ بِمُوَحَّدَةٍ وَأَظُنُّهُ تَصْحِيفًا. وَقَوْلُهُ: وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهُ أَيْ يُرِيحُ الَّذِي يَرْعَاهُ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَيُرِيحُهَا وَقَوْلُهُ: فِي رِسْلِهِمَا بِالتَّثْنِيَةِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي رِسْلِهَا وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَنْعِقَ بِهِمَا عِنْدَهُ بِهَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: مَا ذكرَه مِنَ الْعِصَابَةِ لَا يَدْخُلُ فِي التَّقَنُّعِ، فَالتَّقَنُّعُ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، وَالْعِصَابَةُ شَدُّ الْخِرْقَةِ عَلَى مَا أَحَاطَ بِالْعِمَامَةِ. قُلْتُ: الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وَضْعُ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى الرَّأْسِ فَوْقَ الْعِمَامَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَازَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الْهَدْي مَنِ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ التَّقَنُّعِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ لُبْسِ الطَّيْلَسَانِ بِأَنَّ التَّقَنُّعَ غَيْرُ التَّطَيْلُسِ، وَجَزَمَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَلْبَسِ الطَّيْلَسَانَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.

ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ التَّقَنُّعِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَقَنَّعْ إِلَّا لِحَاجَةٍ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ الْقِنَاعَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ مُعَلَّقًا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عمرو، وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ فِي قِصَّةِ الدَّجَّالِ يَتْبَعُهُ الْيَهُودُ وَعَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ فَقَالَ: كَأَنَّهُمْ يَهُودُ خَيْبَرَ وَعُورِضَ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ مُرْسَلٍ وُصِفَ لِرَسُولِ

ص: 274

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّيْلَسَانُ فَقَالَ: هَذَا ثَوْبٌ لَا يُؤَدَّى شُكْرُهُ أَخْرَجَهُ

(1)

. . . وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الِاسْتِدْلَالُ بِقِصَّةِ الْيَهُودِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَكُونُ الطَّيَالِسَةُ مِنْ شِعَارِهِمْ، وَقَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ فَصَارَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْمُبَاحِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمُبَاحَةِ، وَقَدْ يَصِيرُ مِنْ شَعَائِرِ قَوْمٍ فَيَصِيرُ تَرْكُهُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالْمُرُوءَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ. . . لِقَوْمٍ وَتَرَكَهُ بِالْعَكْسِ، وَمَثَّلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ ذَلِكَ بِالسُّوقِيِّ وَالْفَقِيهِ فِي الطَّيْلَسَانِ.

‌17 - بَاب الْمِغْفَرِ

5808 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمِغْفَرِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ بَعْدَهَا رَاءٌ.

تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَالْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي فِي الْبَابِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مُسْتَوْفًى، وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ هُنَا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَعَسِّفِينَ أَنْكَرَ عَلَى مَالِكٍ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ وَأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ قَالَ: وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ دَعْوَى التَّفَرُّدِ أَنَّهُ وَجَدَ فِي كِتَابِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ تَصْنِيفَ النَّسَائِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَعَنِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ بِأَنَّهُ دَخَلَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ وَكَانَتِ الْعِمَامَةُ السَّوْدَاءُ فَوْقَ الْمِغْفَرِ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ أَنَّ بِضْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا رَوَوْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرَ مَالِكٍ، وَبَيَّنْتُ مَخَارِجَهَا وَعِلَلَهَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

‌18 - بَاب الْبُرُودِ وَالْحِبَرَ وَالشَّمْلَةِ

وَقَالَ خَبَّابٌ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ

5809 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.

5810 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، قَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرون مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، هِيَ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا وَإِنَّهَا لَإِزَارُهُ، فَجَسَّهَا رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أكْسنِيهَا، قَالَ: نَعَمْ، فَجَلَسَ مَا شَاءَ اللَّهُ فِي

(1)

هكذا بياض بالأصل في الموضعين.

ص: 275

الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهَا إِلَّا لِتَكُونَ كَفَنِي يَوْمَ أَمُوتُ. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ.

5811 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هِيَ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ، فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لي أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَقَكَ عُكَاشَةُ.

[الحديث 5811 - طرفه في: 6542]

5812 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قُلْتُ لَهُ أَيُّ الثِّيَابِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَهَا؟ قَالَ: الْحِبَرَةُ".

[الحديث 5812 - طرفه في: 5813]

5813 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةَ.

5814 -

حَدَّثَني أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبُرُودِ) جَمْعُ بُرْدَةٍ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كِسَاءٌ أَسْوَدُ مُرَبَّعٌ فِيهِ صُوَرٌ تَلْبَسُهُ الْأَعْرَابُ.

قَوْلُهُ: (وَالْحِبَرُ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ جَمْعُ حَبَرَةٍ، يَأْتِي شَرْحُهَا فِي خَامِسِ أَحَادِيثِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (وَالشَّمْلَةُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مَا يُشْتَمَلُ بِهِ مِنَ الْأَكْسِيَةِ أَيْ يُلْتَحَفُ، وَذَكَرَ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (وَقَالَ خَبَّابٌ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى ثَقِيلَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَتَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بُرْدَةً لَهُ وَهَذَا طَرَفُ من حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْمَبْعَثِ النَّبَوِيِّ فِي بَابِ مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ.

الثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، قَالَ سَهْلٌ: تَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، هِيَ الشَّمْلَةُ الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ فِي بَابِ مَنِ اسْتَعَدَّ لِلْكَفَنِ.

الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِيهِ: يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ وَالنَّمِرَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ هِيَ الشَّمْلَةُ الَّتِي فِيهَا خُطُوطٌ مُلَوَّنَةٌ كَأَنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ جِلْدِ النَّمِرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّلَوُّنِ.

الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَنَسٍ كَانَ

ص: 276

أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ أَنَسًا قَالَهُ جَوَابَ سُؤَالِ قَتَادَةَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَتَضَمَّنَ السَّلَامَةَ مِنْ تَدْلِيسِ قَتَادَةَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحِبَرَةُ بِوَزْنِ عِنَبَةٍ بُرْدٌ يَمَانٍ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: مُوَشِّيَةٌ مُخَطَّطَةٌ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَوْنُهَا أَخْضَرُ لِأَنَّهَا لِبَاسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. كَذَا قَالَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هِيَ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ تُصْنَعُ مِنْ قُطْنٍ وَكَانَتْ أَشْرَفَ الثِّيَابِ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سُمِّيَتْ حِبَرَةً لِأَنَّهَا تُحَبِّرُ أَيْ تُزَيِّنُ، وَالتَّحْبِيرُ التَّزْيِينُ وَالتَّحْسِينُ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدِ حِبَرَةٍ.

قَوْلُهُ: (سُجِّيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْجِيمِ الثَّقِيلَةِ أَيْ غُطِّيَ وَزْنًا وَمَعْنًى، يُقَالُ سَجَّيْتُ الْمَيِّتَ إِذَا مَدَدْتُ عَلَيْهِ الثَّوْبَ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَمَزَ إِلَى مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرَادَ أَنْ يَنْهَى عَنْ حُلَلِ الْحِبَرَةِ لِأَنَّهَا تُصْبَغُ بِالْبَوْلِ، فَقَالَ لَهُ أُبَيٌّ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، فَقَدْ لَبِسَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَبَسْنَاهُنَّ فِي عَهْدِهِ وَالْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ.

‌19 - باب الْأَكْسِيَةِ وَالْخَمَائِصِ

5815، 5816 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَكْسِيَةِ وَالْخَمَائِصِ) جَمْعُ خَمِيصَةٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ أَسْوَدَ أَوْ خَزٍّ مُرَبَّعَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، وَلَا يُسَمَّى الْكِسَاءُ خَمِيصَةً إِلَّا إِنْ كَانَ لَهَا عَلَمٌ. ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ وَالثَّانِي عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا لَمَّا نُزِلَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَالْمُرَادُ نُزُولُ الْمَوْتِ، وَقَوْلُهُ: طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ أَيْ يَجْعَلُهَا عَلَى وَجْهِهِ مِنَ الْحُمَّى فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَقَوْلُهُ: عَنْ أَبِيهِ وَهَمٌ وَهِيَ زِيَادَةٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا.

5817 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَمِيصَةٍ لَهُ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي، وَائتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ.

5818 -

حَدَّثَني مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً وَإِزَارًا غَلِيظًا فَقَالَتْ: قُبِضَ رُوحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَيْنِ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً وَإِزَارًا غَلِيظًا فَقَالَتْ: قُبِضَ رُوحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَيْنِ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَوَائِلِ الْخَمْسِ،

ص: 277

وَذَكَرَ لَهُ طَرِيقًا أُخْرَى تَعْلِيقًا زَادَ فِيهَا وَصْفَ الْإِزَارِ وَالْكِسَاءِ إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ وَكِسَاءً مِنْ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْمُلَبَّدَةَ، وَالْمُلَبَّدَةُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّلْبِيدِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: يُقَالُ لِلرُّقْعَةِ الَّتِي يُرَقَّعُ بِهَا الْقَمِيصُ لُبْدَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ الَّتِي ضُرِبَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ حَتَّى تَتَرَاكَبَ وَتَجْتَمِعَ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ الثَّوْبُ الضَّيِّقُ وَلَمْ يُوَافِقْ.

الرَّابِعُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ وَفِي آخره وَائْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ انْتَهَى آخِرُ الْحَدِيثِ عِنْدَ قَوْلِهِ بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ وَبَقِيَّةُ نَسَبِهِ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ شِهَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

‌20 - بَاب اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ

5819 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ خُبَيْبٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ، وَعَنْ صَلَاتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشمس، وَأَنْ يَحْتَبِيَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ.

5820 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ، نَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ، وَالْمُلَامَسَةُ: لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ وَلَا يُقَلِّبُهُ إِلَّا بِذَاكَ، وَالْمُنَابَذَةُ: أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ بِثَوْبِهِ وَيَنْبِذَ الْآخَرُ ثَوْبَهُ، وَيَكُونَ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا عَنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا تَرَاضٍ، وَاللِّبْسَتَانِ: اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ، وَالصَّمَّاءُ: أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، وَاللِّبْسَةُ الْأُخْرَى: احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ وَهُوَ جَالِسٌ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَتَفْسِيرُهُ وَشَرْحُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي هَذَا الْبَابِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاشْتِمَالِ وَالِاحْتِبَاءِ فِي بَابِ مَا يُسْتَرُ مِنَ الْعَوْرَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ فِي اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ أَنْ يَرْمِيَ بِطَرَفَيِ الثَّوْبِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيَصِيرُ جَانِبُهُ الْأَيْسَرُ مَكْشُوفًا لَيْسَ عَلَيْهِ مِنَ الْغِطَاءِ شَيْءٌ فَتَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ آخَرُ، فَإِذَا خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيِ الثَّوْبِ الَّذِي اشْتَمَلَ بِهِ لَمْ يَكُنْ صَمَّاءَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي شَيْخِهِ فِيهِ وَعَلَى اللَّيْثِ أَيْضًا، وَأَمَّا شَرْحُ الْبَيْعَتَيْنِ فَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي الْبُيُوعِ، وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ فَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْمَوَاقِيتِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَقَالَ فِي التَّهْذِيبِ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ابْنَ عَطَاءٍ لَا تُعْرَفُ لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ عَطَاءٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بِهِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِهِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ أَيْضًا وَهُوَ الثَّقَفِيُّ بِلَا رَيْبٍ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ قَلِيلٍ نَظِيرُ هَذَا، وَجَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ الثَّقَفِيُّ.

وَقَوْلُهُ فِيهِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ

ص: 278

عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ أَيْ يَظْهَرُ.

‌21 - بَاب الِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ

5821 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لِبْسَتَيْنِ: أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ، وَعَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ.

5822 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَخْلَدٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا أَيْضًا فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

وقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ الثاني حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ غَيْرَ مَنْسُوبٍ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَشَيْخُهُ مَخْلَدٍ بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.

‌22 - بَاب الْخَمِيصَةِ السَّوْدَاءِ

5823 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعِيدِ بْنِ فُلَانٍ - هُوَ عَمْرُو - بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ، قالت: أُتِيَ النَّبِيُّ بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ، فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ، فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ، فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ، فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ: أَبْلِي وَأَخْلِقِي، وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ، فَقَالَ يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَاهْ، وَسَنَاهْ بِالْحَبَشِيَّةِ.

5824 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ قَالَتْ لِي: يَا أَنَسُ انْظُرْ هَذَا الْغُلَامَ فَلَا يُصِيبَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحَنِّكُهُ، فَغَدَوْتُ بِهِ، فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ، وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ حُرَيْثِيَّةٌ، وَهُوَ يَسِمُ الظَّهْرَ الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْحِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَمِيصَةِ السَّوْدَاءِ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَمِيصَةِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْخَمَائِصُ ثِيَابُ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ مُعَلَّمَةٍ وَهِيَ سُودٌ كَانَتْ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ كِسَاءٌ مُرَبَّعٌ لَهُ عَلَمَانِ، وَقِيلَ: هِيَ كِسَاءٌ رَقِيقٌ مِنْ أَيِّ لَوْنٍ كَانَ، وَقِيلَ: لَا تُسَمَّى خَمِيصَةً حَتَّى تَكُونَ سَوْدَاءَ مُعَلَّمَةً. وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ سَعِيدِ ابْنِ فُلَانِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ) كَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ فَأُبْهِمَ وَالِدُ سَعِيدٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ وَهُوَ أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِيهِ وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ فِي بَابِ مَا يُدْعَى لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا

ص: 279

جَدِيدًا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ إِسْحَاقَ وَفِيهِ سِيَاقُ نَسَبِ إِسْحَاقَ إِلَى الْعَاصِ مِثْلُ هَذَا، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ أَبِيهِ وَبِتَحْدِيثِ أُمِّ خَالِدٍ أَيْضًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَأَبِي الْوَلِيدِ جَمِيعًا عَنْ إِسْحَاقَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أُمِّ خَالِدِ بِنْتِ خَالِدٍ) هِيَ أَمَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ مُخَفَّفًا كُنِّيَتْ بِوَلَدِهَا خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَكَانَ الزُّبَيْرُ تَزَوَّجَهَا فَكَانَ لَهَا مِنْهُ خَالِدٌ، وَعَمْرٌو ابْنَا الزُّبَيْرِ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهَا وُلِدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَقَدِمَتْ مَعَ أَبِيهَا بَعْدَ خَيْبَرَ وَهِيَ تَعْقِلُ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ الْمَدَنِيِّ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ مِمَّنْ أَقْرَأَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّجَاشِيِّ السَّلَامَ وَأَبُوهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ أَسْلَمَ قَدِيمًا ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ أَوْ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ وَاسْتُشْهِدَ بِالشَّامِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِثِيَابٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ اسْمِ الْجِهَةِ الَّتِي حَضَرَتْ مِنْهَا الثِّيَابُ الْمَذْكُورَةُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ فَسَكَتَ الْقَوْمُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ أَسْمَائِهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ) كَذَا فِيهِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ أَوْ تَجْرِيدٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ فَأُتِيَ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى صِغَرِ سِنِّهَا إِذْ ذَاكَ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ حِينَئِذٍ مُمَيِّزَةً. وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ الْمَاضِيَةِ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ قَدِمْتُ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأَنَا جُوَيْرِيَةٌ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِينَ طَلَبَهَا أَتَتْهُ مَعَ أَبِيهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَلْبَسَهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ فَأَلْبَسَنِيهَا عَلَى مِنْوَالِ مَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ وَقَالَ بِزِيَادَةِ وَاوٍ قَبْلَ قَالَ، وَقَوْلُهُ: أَبْلِي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَمْرٌ بِالْإِبْلَاءِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: أَخْلِقِي بِالْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ أَمْرٌ بِالْإِخْلَاقِ وَهُمَا بِمَعْنًى، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ ذَلِكَ وَتُرِيدُ الدُّعَاءَ بِطُولِ الْبَقَاءِ لِلْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ، أَيْ أَنَّهَا تَطُولُ حَيَاتُهَا حَتَّى يَبْلَى الثَّوْبُ وَيَخْلَقَ، قَالَ الْخَلِيلُ: أَبْلِ وَأَخْلِقْ مَعْنَاهُ: عِشْ وَخَرِّقْ ثِيَابَكَ وَارْقَعْهَا، وَأَخْلَقْتُ الثَّوْبَ أَخْرَجْتُ بَالِيَهُ وَلَفَّقْتُهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ وَأَخْلِفِي بِالْفَاءِ وَهِيَ أَوْجَهُ مِنَ الَّتِي بِالْقَافِ لِأَنَّ الْأُولَى تَسْتَلْزِمُ التَّأْكِيدَ إِذِ الْإِبْلَاءُ وَالْإِخْلَاقُ بِمَعْنًى، لَكِنْ جَازَ الْعَطْفُ لِتَغَايُرِ اللَّفْظَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ تُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا وَهُوَ أَنَّهَا إِذَا أَبْلَتْهُ أَخْلَفَتْ غَيْرَهُ، وَعَلَى مَا قَالَ الْخَلِيلُ لَا تَكُونُ الَّتِي بِالْقَافِ لِلتَّأْكِيدِ، لَكِنِ الَّتِي بِالْفَاءِ أَيْضًا أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَبِسَ أَحَدُهُمْ ثَوْبًا جَدِيدًا قِيلَ لَهُ: تُبْلِي وَيُخْلِفُ اللَّهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ أَبْلِي وَأَخْلِقِي مَرَّتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَحْمَرُ بَدَلَ أَخْضَرُ، وَكَذَا عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سناه، وَسناه بِالْحَبَشِيَّةِ) كَذَا هُنَا أَيْ وَسناه لَفْظَةٌ بِالْحَبَشِيَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعْنَاهَا بِالْعَرَبِيَّةِ ; وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ وَيَقُولُ: يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سنا وَيَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سنا، وَالسنا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْحَسَنُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَاضِيَةِ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ سنه سنه وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا وَشَرْحُهَا هُنَاكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْمَذْكُورَةِ وَيَقُولُ سناه سناه قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: يَعْنِي حَسَنٌ حَسَنٌ. وَتَقَدَّمَ - فِي الْجِهَادِ - أَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ أُمِّ خَالِدٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ فِي الْجِهَادِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَبَقِيَّةُ شَرْحِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسٍ، قَوْلُهُ:(عَنِ ابْنِ عَوْنٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَمُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْإِسْنَادِ فِي آخِرِ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ مِنْ كِتَابِ الْعَقِيقَةِ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ

ص: 280

أَنَسٍ فِي تَسْمِيَةِ الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ وَتَحْنِيكِهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَتَقَدَّمَتْ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ إِسْحَاقَ أَتَمَّ مِنْهَا فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.

قَوْلُهُ: (وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ حُرَيْثِيَّةٌ) بِمُهْمَلَةٍ وَرَاءٍ وَمُثَلَّثَةٍ مُصَغَّر وَآخِرُها هَاءُ تَأْنِيثٍ قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا لِرُوَاةِ الْبُخَارِيِّ، وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى حُرَيْثٍ رَجُلٍ مِنْ قُضَاعَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي السَّكَنِ خَيْبَرِيَّةٌ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ نِسْبَةً إِلَى خَيْبَرَ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ، قَالَ: وَاخْتَلَفَ رُوَاةُ مُسْلِمٍ فَقِيلَ كَالْأَوَّلِ ; وَلِبَعْضِهِمْ مِثْلَهُ لَكِنْ بِوَاوٍ بَدَلَ الرَّاءِ وَلَا مَعْنَى لَهَا، وَلِبَعْضِهِمْ جَوْنِيَّةٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا نُونٌ نِسْبَةً إِلَى بَنِي الْجَوْنِ أَوْ إِلَى لَوْنِهَا مِنَ السَّوَادِ أَوِ الْحُمْرَةِ أَوِ الْبَيَاضِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ لَوْنٍ مِنْ هَذِهِ جَوْنًا، وَلِبَعْضِهِمْ بِالتَّصْغِيرِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاقِي مِثْلَهُ وَلَا مَعْنَى لَهُ، وَلِبَعْضِهِمْ كَذَلِكَ لَكِنْ بِمُثَنَّاةٍ نِسْبَةً إِلَى الْحُوَيْتِ فَقِيلَ هِيَ قَبِيلَةٌ، وَقِيلَ: شُبِّهَتْ بِحَسَبِ الْخُطُوطِ الْمُمْتَدَّةِ الَّتِي فِي الْحُوتِ.

قُلْتُ: وَالَّذِي يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْجَوْنِيَّةُ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ فَإِنَّ الْأَشْهَرَ فِيهِ أَنَّهُ الْأَسْوَدُ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُرُودُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ الْحُرَيْثِيَّةِ لِأَنَّ طُرُقَ الْحَدِيثِ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَكُونُ لَوْنُهَا أَسْوَدَ وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى صَانِعِهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جُبَّةً مِنْ صُوفٍ سَوْدَاءَ فَلَبِسَهَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْمَحْفُوظُ الْمَشْهُورُ جَوْنِيَّةٌ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ أَيْ سَوْدَاءُ، وَأَمَّا حُرَيْثِيَّةٌ فَلَا أَعْرِفُهَا وَطَالَمَا بَحَثْتُ عَنْهَا فَلَمْ أَقِفْ لَهَا عَلَى مَعْنًى، وَفِي رِوَايَةِ حَوْتَكِيَّةٌ وَلَعَلَّهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْقَصْرِ فَإِنَّ الْحَوْتَكِيَّ الرَّجُلُ الْقَصِيرُ الْخَطْوِ، أَوْ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى رَجُلٍ يُسَمَّى حَوْتَكًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَعَ لِجَمِيعِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ حَوْنَبِيَّةٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ النُّونِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ ; وَفِي بَعْضِهَا بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، وَسَاقَ بَعْضَ مَا تَقَدَّمَ، وَنُقِلَ عَنْ صَاحِبِ التَّحْرِيرِ شَارِحِ مُسْلِمٍ حَوْتِيَّةٌ نِسْبَةً إِلَى الْحُوتِ وَهِيَ قَبِيلَةٌ أَوْ مَوْضِعٌ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ: هَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَصْحِيفٌ إِلَّا الْجَوْنِيَّةَ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ فَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى بَنِي الْجَوْنِ قَبِيلَةٍ مِنَ الْأَزْدِ، أَوْ إِلَى لَوْنِهَا مِنَ السَّوَادِ، وَإِلَّا الْحُرَيْثِيَّةَ بِالرَّاءِ وَالْمُثَلَّثَةِ.

وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ فِي الْحَاشِيَةِ مُقَابِلَ حُرَيْثِيَّةٍ: هَذَا تَصْحِيفٌ، وَالصَّوَابُ حَوْتَكِيَّةٌ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْ قَصِيرَةٌ وَهِيَ فِي مَعْنَى الشَّمْلَةِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ كَانَ يَخْرُجُ عَلَيْنَا فِي الصُّفَّةِ وَعَلَيْهِ حَوْتَكِيَّةٌ.

‌23 - بَاب الثِيَابِ الْخُضْرِ

5825 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ الْقُرَظِيُّ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ، فَشَكَتْ إِلَيْهَا، وَأَرَتْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا - قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا يَلْقَى الْمُؤْمِنَاتُ، لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا، قَالَ: وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا أَنَّ مَا مَعَهُ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّي مِنْ هَذِهِ - وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا - فَقَالَ: كَذَبَتْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ، وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ، تُرِيدُ رِفَاعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ

ص: 281

كَانَ ذَلِكِ لَمْ تَحِلِّي لَهُ أَوْ تَصْلُحِي لَهُ حَتَّى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ، قَالَ: وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ لَهُ، فَقَالَ: بَنُوكَ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَذَا الَّذِي تَزْعُمِينَ مَا تَزْعُمِينَ؟ فَوَاللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الثِّيَابِ الْخُضْرِ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ ثِيَابُ الْخُضْرِ كَقَوْلِهِمْ مَسْجِدُ الْجَامِعِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الثِّيَابُ الْخُضْرُ مِنْ لِبَاسِ الْجَنَّةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَرَفًا لَهَا. قُلْتُ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رِمْثَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ أَنَّهُ رَأَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ الثَّقَفِيُّ وَصَرَّحَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عِكْرِمَةَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ بِسَنَدِهِ وَزَادَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيُّ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أخضر فَشَكَتْ إِلَيْهَا) أَيْ إِلَى عَائِشَةَ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ وَتَجْرِيدٌ، وَفِي قَوْلِهِ: قَالَتْ عَائِشَةُ مَا يُبَيِّنُ وَهَمَ رِوَايَةِ سُوَيْدٍ وَأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ روَايةِ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا) جُمْلَةٌ مُعْتَرَضَةٌ، وَهِيَ مِنْ كَلَامِ عِكْرِمَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَيُّوبَ بِذَلِكَ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ خِمَارِهَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا رُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي عَمْرِو بْنِ السَّمَّاكِ مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ، عَنْ وُهَيْبٍ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: خُضْرَةُ جِلْدِهَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِهُزَالِهَا أَوْ مِنْ ضَرْبِ زَوْجِهَا لَهَا. قُلْتُ: وَسِيَاقُ الْقِصَّةِ رَجَّحَ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (قَالَ وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ) فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ قَالَ: فَسَمِعَ بِذَلِكَ زَوْجُهَا.

قَوْلُهُ: (وَمَعَهُ ابْنَانِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِمَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ بِنُونٍ لَهُ.

قَوْلُهُ: (لَمْ تَحِلِّي أَوْ لَمْ تَصْلُحِي لَهُ) كَذَا بِالشَّكِّ، وَهُوَ مِنَ الرَّاوِي، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَا تَحِلِّينَ لَهُ وَلَا تَصْلُحِينَ وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَمْ تَحِلِّينَ ثُمَّ أَخَذَ فِي تَوْجِيهِهِ، وَعُرِفَ بِهَذَا الْجَوَابِ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهَا مَا مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهَا دَعْوَاهَا، أَمَّا أَوَّلًا فَعَلَى طَرِيقِ صَدَقَ زَوْجُهَا فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ يَنْفُضُهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِهِ بِوَلَدَيْهِ اللَّذَيْنِ كَانَا مَعَهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ لَهُ فَقَالَ: بَنُوكَ هَؤُلَاءِ) فِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَقَالَ: بَنُونَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (تَزْعُمِينَ مَا تَزْعُمِينَ) فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ هَذَا الَّذِي تَزْعُمِينَ أَنَّهُ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا ادَّعَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُنَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ قِصَّةِ رِفَاعَةَ وَامْرَأَتِهِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَقَوْلُهُ لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ كِنَايَةً بَلِيغَةً فِي الْغَايَةِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ مِنَ التَّصْرِيحِ، لِأَنَّ الَّذِي يَنْفُضُ الْأَدِيمَ يَحْتَاجُ إِلَى قُوَّةِ سَاعِدٍ وَمُلَازَمَةٍ طَوِيلَةٍ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُحْتَمَلُ تَشْبِيهُهَا بِالْهُدْبَةِ انْكِسَارُهُ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّكُ وَأَنَّ شِدَّتَهُ لَا تَشْتَدُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ نَحَافَتِهِ، أَوْ وَصَفَتْهُ بِذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَوَّلِ، قَالَ: وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ نِكَاحُ الْبِكْرِ لِأَنَّهَا تَظُنُّ الرِّجَالَ سَوَاءً، بِخِلَافِ الثَّيِّبِ.

‌24 - بَاب الثِّيَابِ الْبِيضِ

5826 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ بِشِمَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ، مَا رَأَيْتُهُمَا

ص: 282

قَبْلُ وَلَا بَعْدُ.

5827 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ الدّيلِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رضي الله عنه حَدَّثَهُ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدْ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَهُ إِذَا تَابَ وَنَدِمَ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، غُفِرَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الثِّيَابِ الْبِيضِ) كَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ عَلَى شَرْطِهِ فِيهَا شَيْءٌ صَرِيحٌ، فَاكْتَفَى بِمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ عَلَيْكُمْ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ فَالْبَسُوهَا فَإِنَّهَا أَطْيَبُ وَأَطْهَرُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَاهُ وَفِيهِ: فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ.

وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنْ حَدِيثَيِ الْبَابِ حَدِيثُ سَعْدٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الرَّجُلَيْنِ وَأَنَّهُمَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا إِسْرَافِيلُ.

وَالْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ (عَنِ الْحُسَيْنِ) هُوَ ابْنُ ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ الْبَصْرِيُّ.

قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ) أَيِ ابْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ، وَشَيْخُهُ تَابِعِيٌّ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ أَيْضًا تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ كَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا.

قَوْلُهُ (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ فِي هَذَا الْقَدْرِ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَقِيَّتِهِ تَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ الرِّقَاقِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُطَوَّلًا، وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَفَائِدَةُ وَصْفِهِ الثَّوْبَ، وَقَوْلُهُ أَتَيْتُهُ وَهُوَ نَائِمٌ ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ الْإِشَارَةُ إِلَى اسْتِحْضَارِهِ الْقِصَّةَ بِمَا فِيهَا لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى إِتْقَانِهِ لَهَا. وَقَوْلُهُ وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ وَيَجُوزُ فِي الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ أَيْ ذُلَّ، كَأَنَّهُ لَصِقَ بِالرِّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ، وَقَوْلُهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْبُخَارِيُّ.

قَوْلُهُ (هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَهُ إِذَا تَابَ أَيْ مِنَ الْكُفْرِ (وَنَدِمَ) يُرِيدُ شَرْحَ قَوْلِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَحَاصِلُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ وَحَّدَ رَبَّهُ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ تَائِبًا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مَوْعُودٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ ابْتِدَاءً ; وَهَذَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَيُشْتَرَطُ رَدُّهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ كَالْأَوَّلِ وَيُثِيبُ اللَّهُ صَاحِبَ الْحَقِّ بِمَا شَاءَ، وَأَمَّا مَنْ تَلَبَّسَ بِالذُّنُوبِ الْمَذْكُورَةِ وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمَاضِي فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ فِيهِ وَمَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُعَاقَبْ بِهِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ. وَهَذَا الْمُفَسِّرُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُبْهَمِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَرُدُّ عَلَى الْمُبْتَدَعَةِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ

ص: 283

الَّذِينَ يَدَّعُونَ وُجُوبَ خُلُودِ مَنْ مَاتَ مِنْ مُرْتَكِبِي الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فِي النَّارِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ كَلَامَ الْبُخَارِيِّ خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَتِ التَّوْبَةُ مُشْتَرِطَةً لَمْ يَقُلْ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ: وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِمَّا ابْتِدَاءً وَإِمَّا بَعْدَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌25 - بَاب لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ، وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ

5828 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ قال: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْحَرِيرِ إِلَّا هَكَذَا، وَأَشَارَ بِأصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الْإِبْهَامَ. قَالَ فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي الْأَعْلَامَ.

[الحديث 5828 - أطرافه في: 5829، 5830، 5834، 5835]

5829 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلاَّ هَكَذَا وَصَفَّ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِصْبَعَيْهِ وَرَفَعَ زُهَيْرٌ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ".

5830 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُلْبَسُ الْحَرِيرُ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ لَمْ يُلْبَسْ منه شيءٌ فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ وَأَشَارَ أَبُو عُثْمَانَ بِإِصْبَعَيْهِ: الْمُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى".

5831 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلاَّ أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ".

5832 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ شُعْبَةُ فَقُلْتُ أَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ شَدِيداً عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ".

5833 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ يَقُولُ قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ".

5834 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي ذِبْيَانَ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ" وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ يَزِيدَ قَالَتْ مُعَاذَةُ أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ سَمِعَ عُمَرَ سَمِعَ

ص: 284

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

نَحْوَهُ".

5835 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ قَالَ: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الْحَرِيرِ فَقَالَتْ ائْتِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَلْهُ قَالَ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ سَلْ ابْنَ عُمَرَ قَالَ فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو حَفْصٍ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ" فَقُلْتُ صَدَقَ وَمَا كَذَبَ أَبُو حَفْصٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".

قَوْلُهُ: (بَابُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ، وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ) أَيْ فِي بَعْضِ الثِّيَابِ. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ وَمُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ زِيَادَةُ افْتِرَاشِهِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَالْأَوْلَى مَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لِلِافْتِرَاشِ مُسْتَقِلًّا كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ. وَالْحَرِيرُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِخُلُوصِهِ يُقَالُ لِكُلِّ خَالِصٍ مُحَرَّرٌ، وَحَرَّرْتُ الشَّيْءَ خَلَّصْتُهُ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِغَيْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَالتَّقْيِيدُ بِالرِّجَالِ يُخْرِجُ النِّسَاءَ، وَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتُلِفَ فِي الْحَرِيرِ فَقَالَ قَوْمٌ: يَحْرُمُ لُبْسُهُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ حَتَّى عَلَى النِّسَاءِ، نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَحُذَيْفَةَ، وَأَبِي مُوسَى، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ لُبْسُهُ مُطْلَقًا وَحَمَلُوا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ لُبْسِهِ عَلَى مَنْ لَبِسَهُ خُيَلَاءَ أَوْ عَلَى التَّنْزِيهِ. قُلْتُ: وَهَذَا الثَّانِي سَاقِطٌ لِثُبُوتِ الْوَعِيدِ عَلَى لُبْسِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ عِيَاضٍ: حَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ الْعَامَّ فِي ذَلِكَ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ، فَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: قَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ بَعْدَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَإِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ أَلَا لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمُ الْحَرِيرَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْآتِيَ فِي الْبَابِ، قَالَ: فَإِثْبَاتُ قَوْلٍ بِالْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ إِمَّا أَنْ يَنْقُضَ مَا نَقَلَهُ الْإِجْمَاعِ وَإِمَّا أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ الْحُكْمَ الْعَامَّ قَبْلَ التَّحْرِيمِ عَلَى الرِّجَالِ كَانَ هُوَ الْكَرَاهَةَ ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّحْرِيمِ عَلَى الرِّجَالِ وَالْإِبَاحَةِ لِلنِّسَاءِ، وَمُقْتَضَاهُ نَسْخُ الْكَرَاهَةِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقِيَ عُمَرُ، عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَنَهَاهُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ فَقَالَ: لَوْ أَطَعْتَنَا لَلَبِسْتَهُ مَعَنَا، وَهُوَ يَضْحَكُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَهِمَ مِنْ إِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ نَسْخَ التَّحْرِيمِ وَلَمْ يَرَ تَقْيِيدَ الْإِبَاحَةِ بِالْحَاجَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ عَلَى رَأْيَيْنِ مَشْهُورَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ، وَالثَّانِي: لِكَوْنِهِ ثَوْبَ رَفَاهِيَةٍ وزينة فَيَلِيقُ بِزِيِّ النِّسَاءِ دُونَ شَهَامَةِ الرِّجَالِ. وَيَحْتَمِلُ عِلَّةً ثَالِثَةً وَهِيَ التَّشَبُّهُ بِالْمُشْرِكِينَ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا قَدْ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مِنْ سِمَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْنَيَانِ مُعْتَبَرَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْأُمِّ: وَلَا أَكْرَهُ لِبَاسَ اللُّؤْلُؤِ إِلَّا لِلْأَدَبِ فَإِنَّهُ زِيُّ النِّسَاءِ. وَاسْتَشْكَلَ بِثُبُوتِ اللَّعْنِ لِلْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي مَنْعَ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِالنِّسَاءِ فِي جِنْسِهِ وَهَيْئَتِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ عِلَّةً أُخْرَى وَهِيَ السَّرَفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْبَابِ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ عُمَرَ ذَكَرَهُ مِنْ طُرُقٍ: الْأُولَى:

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ) كَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ قَتَادَةَ وَشَذَّ عُمَرُ بْنُ

ص: 285

عَامِرٍ فَقَالَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ فَذَكَرَ الْمَرْفُوعَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَأَشَارَ إِلَى تَفَرُّدِهِ بِهِ، فَلَوْ كَانَ ضَابِطًا لَقُلْنَا سَمِعَهُ أَبُو عُثْمَانَ مِنْ كِتَابِ عُمَرَ ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، لَكِنْ طُرُقُ الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَنْ عُمَرَ لَا عَنْ عُثْمَانَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ، وَأَبُو عُثْمَانَ سَمِعَ الْكِتَابَ يُقْرَأُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ رِوَايَتُهُ لَهُ عَنْ عُمَرَ بِطَرِيقِ الْوِجَادَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةِ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عُتْبَةَ، وَقَدْ نَبَّهَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَصْلٌ فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتَدْرَكَهُ عَلَيْهِمَا، وَفِي ذَلِكَ رُجُوعٌ مِنْهُ عَنِ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ) صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ سُمِّيَ أَبُوهُ بِاسْمِ النَّجْمِ، وَاسْمُ جَدِّهِ يَرْبُوعُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ مَالِكٍ السُّلَمِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّ يَرْبُوعَ هُوَ فَرْقَدٌ وَإنَّهُ لَقَبٌ لَهُ، وَكَانَ عُتْبَةُ أَمِيرًا لِعُمَرَ فِي فُتُوحِ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ.

قَوْلُهُ: (بِأَذْرَبِيجَانَ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ الْمُعَافَى فِي تَارِيخِ الْمَوْصِلِ أَنَّ عُتْبَةَ هُوَ الَّذِي افْتَتَحَهَا سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ. وَرَوَى شُعْبَةُ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ أُمِّ عَاصِمٍ امْرَأَةِ عُتْبَةَ أَنَّ عُتْبَةَ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَتَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعَافَى إِنَّهُ شَهِدَ خَيْبَرَ وَقَسَمَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا فَلَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ حُنَيْنٌ، ورُوِّينَا فِي الْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ لِلطَبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ عَاصِمٍ امْرَأَةِ عُتْبَةَ عَنْ عُتْبَةَ قَالَ: أَخَذَنِي الشَّرَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَأَمَرَنِي فَتَجَرَّدْتُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى بَطْنِي وَظَهْرِي فَعَبِقَ بِي الطِّيبُ مِنْ يَوْمئِذٍ قَالَتْ أُمُّ عَاصِمٍ: كُنَّا عِنْدَهُ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فَكُنَّا نَجْتَهِدُ فِي الطِّيبِ وَمَا كَانَ هُوَ يَمَسُّهُ وَإِنَّهُ كَانَ لَأَطْيَبَنَا رِيحًا.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ أَمَّا بَعْدُ فَاتَّزِرُوا وَارْتَدُوا وَانْتَعِلُوا وَأَلْقُوا الْخِفَافَ وَالسَّرَاوِيلَاتِ، وَعَلَيْكُمْ بِلِبَاسِ أَبِيكُمْ إِسْمَاعِيلَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْعَجَمِ، وَعَلَيْكُمْ بِالشَّمْسِ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ، وَتَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا وَاخْلَوْلَقُوا وَاقْطَعُوا الرَّكْبَ وَانْزُوا نَزْوًا وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ) أَيْ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا هَكَذَا) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَهَكَذَا.

قَوْلُهُ: (وَأَشَارَ بِأصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الْإِبْهَامَ) الْمُشِيرُ بِذَلِكَ يَأْتِي فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.

قَوْلُهُ: اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الْإِبْهَامَ يَعْنِي السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ.

قَوْلُهُ: (فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي الْأَعْلَامَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ عَلَمٍ بِالتَّحْرِيكِ أَيِ الَّذِي حَصَلَ فِي عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْتَثْنَى الْأَعْلَامُ وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي الثِّيَابِ مِنْ تَطْرِيفٍ وَتَطْرِيزٍ وَنَحْوِهِمَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ فَمَا بِفَتْحِ الْفَاءِ بَعْدَهَا حَرْفُ نَفْيٍ عَتَّمْنَا بِمُثَنَّاةٍ بَدَلَ اللَّامِ أَيْ مَا أَبْطَأْنَا فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ لِمَا سَمِعْنَاهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدة: الْعَاتِمُ الْبَطِيءُ، يُقَالُ: عَتَّمَ الرَّجُلُ الْقِرَى إِذَا أَخَّرَهُ.

الطَّرِيقُ الثَّانِيةُ.

الطَّرِيقُ الثَّانِيةُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ نُسِبَ لِجَدِّهِ وَهُوَ بِذَلِكَ أَشْهَرُ، وَشَيْخُهُ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْجُعْفِيُّ، وَعَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ هَذَا، فَبَيَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِهِ.

قَوْلُهُ: (كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ كَتَبَ إِلَيْهِ أَيْ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، وَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ صَوَابٌ فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْأَمِيرِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخَاطِبُهُ وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ كُلِّهِمْ بِالْحُكْمِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) زَادَ فِيهِ مُسْلِمٌ قَبْلَ هَذَا يَا عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ ; إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّكَ وَلَا كَدِّ أَبِيكَ، فَأَشْبِعِ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِكَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ وَلُبْسَ الْحَرِيرِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى فَذَكَرَ

ص: 286

الْحَدِيثَ، وَبَيَّنَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ سَبَبَ قَوْلِ عُمَرَ ذَلِكَ فَعِنْدَهُ فِي أَوَّلِهِ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ مَعَ غُلَامٍ لَهُ بِسِلَالٍ فِيهَا خَبِيصٌ عَلَيْهَا اللُّبُودُ فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ قَالَ: أَيَشْبَعُ الْمُسْلِمُونَ فِي رِحَالِهِمْ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُرِيدُهُ. وَكَتَبَ إِلَى عُتْبَةَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّكَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَرَفَعَ زُهَيْرٌ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ وَضَمَّهُمَا.

الطَّرِيقُ الثَّالِثَةُ

قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.

قَوْلُهُ: (عَنِ التَّيْمِيِّ) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فَجَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ.

قَوْلُهُ: (لَا يُلْبَسُ الْحَرِيرُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لَمْ يُلْبَسْ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْآخِرَةِ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ يُلْبَسُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَكَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَقَالَ: فِي الْآخِرَةِ مِنْهُ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا من لَمْ يَلْبَسْ مِنْهُ شَيْئًا فِي الْآخِرَةِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّجُلُ الْمُكَلَّفُ، وَأَوْرَدَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِلَفْظِ إِلَّا مَنْ لَمْ يَلْبَسْهُ قَالَ وَفِي أُخْرَى إِلَّا مَنْ لَيْسَ يَلْبَسُ مِنْهُ اهـ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ إِلَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْآخِرَةِ.

قَوْلُهُ: (وَأَشَارَ أَبُو عُثْمَانَ بِأصْبَعَيْهِ الْمُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى) وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَهُوَ لَا يُخَالِفُ مَا فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ أَوَّلًا ثُمَّ نَقَلَهُ عَنْهُ عُمَرُ فَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ رُوَاتِهِ صِفَةَ الْإِشَارَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ) أَيِ ابْنُ شَقِيقٍ الْجَرْمِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَبُو عَلِيٍّ الْبَلْخِيُّ، كَذَا جَزَمَ بِهِ الْكَلَابَاذِيُّ وَآخَرُونَ، وَشَذَّ ابْنُ عَدِيٍّ فَقَالَ: هُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدِيُّ. قُلْتُ: وَلَمْ أَقِفْ لِهَذَا الْعَبْدِيِّ عَلَى تَرْجَمَةٍ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ قَالَ فِي الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الثِّقَاتِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ رَوَى عَنْ شُعْبَةَ، فَلَعَلَّهُ هَذَا. وَقَدْ جَزَمَ صَاحِبُ الْمُزْهِرِ أَنَّهُ يُكَنَّى أَبَا بَصِيرٍ وَأَنَّهُ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَأَنَّهُ أَخْرَجَ لَهُ حَدِيثَيْنِ وَأَنَّهُ أَخْرَجَ لِلْحَسَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ شَبَّةً وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَ فِي جَمِيعِ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ؛ أَحَدُهَا: فِي بَابِ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، قَالَ فِيهِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ وَهَذَا وَآخَرُ مِثْلُ هَذَا فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَالرَّابِعُ: فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فَسَاقَهُ كَمَا فِي سِيَاقِ الْحَجِّ سَوَاءً فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ. وَأَمَّا هَذَا وَالَّذِي فِي الِاسْتِئْذَانِ فَعَلَى الِاحْتِمَالِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَمَا قَالَ الْأَكْثَرُ.

قَوْلُهُ: (مُعْتَمِرٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَأَشَارَ أَبُو عُثْمَانَ بِأصْبَعَيْهِ الْمُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى) يُرِيدُ أَنَّ مُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ كِتَابِ عُمَرَ وَزَادَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ رِوَايَةَ الْأَكْثَرِ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي قَبْلَهَا الَّتِي خَلَتْ عَنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الَّتِي أَوْرَدَهَا فِيهِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ زَادَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الَّذِي زَادَهُ مُعْتَمِرٌ تَفْسِيرَ الْأصْبَعَيْنِ، فَإِنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَتِهِ وَمِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ جَمِيعًا عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَقَالَ فِي سِيَاقِهِ كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ يُحَدِّثُهُ بِأَشْيَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ وَفِيمَا كَتَبَهُ إِلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَا لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا، وَأَشَارَ بِأصْبَعَيْهِ فَعُرِفَ أَنَّ زِيَادَةَ مُعْتَمِرٍ تَسْمِيَةُ الْأصْبَعَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ وَقَالَ فِيهِ بِأصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الْإِبْهَامَ فَرَأَيْنَاهَا أَزْرَارَ الطَّيَالِسَةِ حِينَ رَأَيْنَا الطَّيَالِسَةَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَزْرَارُ جَمْعُ زِرٍّ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ: مَا يُزَرَّرُ بِهِ الثَّوْبُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَطْرَافُ الطَّيَالِسَةِ، وَالطَّيَالِسَةُ جَمْعُ طَيْلَسَانِ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي لَهُ عَلَمٌ وَقَدْ يَكُونُ كِسَاءً، وَكَانَ لِلطَّيَالِسَةِ الَّتِي رَآهَا أَعْلَامٌ حَرِيرٌ فِي أَطْرَافِهَا.

قُلْتُ: وَقَدْ أَغْفَلَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالنِّهَايَةِ فِي مَادَّةِ ط ل س ذِكْرَ الطَّيَالِسَةِ

ص: 287

وَكَأَنَّهُمَا تَرَكَا ذَلِكَ لِشُهْرَتِهِ، لَكِنِ الْمَعْهُودُ الْآنَ لَيْسَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَقَدْ قَالَ عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْمُرَادُ بِأَزْرَارِ الطَّيَالِسَةِ أَطْرَافُهَا. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ كِسْرِوَانِيَّةٍ فَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّيَالِسَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُلْبَسُ فَيَشْمَلُ الْجَسَدَ، لَا الْمَعْهُودُ الْآنَ.

وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي اسْتِثْنَاءٍ مَا يَجُوزُ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا ذِكْرُ الْأصْبَعَيْنِ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ إِلَّا مَا كَانَ هَكَذَا وَهَكَذَا إِصْبَعَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ وَاللَّامِ الْخَفِيفَتَيْنِ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا مَوْضِعَ إِصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَأَوْ هُنَا لِلتَّنْوِيعِ وَالتَّخْيِيرِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ إِنَّ الْحَرِيرَ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ إِلَّا هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي إصْبُعَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا وَجَنَحَ الْحَلِيمِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ كُمٍّ قَدْرُ إِصْبَعَيْنِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةِ سُوَيْدٍ لَمْ يُرَخَّصْ فِي الدِّيبَاجِ إِلَّا فِي مَوْضِعِ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (الْحَكَمُ) هُوَ ابْنُ عُتبَةَ بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مُصَغَّر ; وَابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ، عَنْ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ غَلَطٌ لَكِنْ كَتَبَ فِي الْهَامِشِ: الصَّوَابُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى.

قَوْلُهُ: (كَانَ حُذَيْفَةُ) هُوَ ابْنُ الْيَمَانِ وَقَدْ مَضَى شَرْحُ حَدِيثِهِ هَذَا فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ.

قَوْلُهُ: (الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ) تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ مَنَعَ اسْتِعْمَالَ النِّسَاءِ لِلْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، لِأَنَّ حُذَيْفَةَ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا فَيَكُونُ الْحَرِيرُ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخِطَابَ بِلَفْظِ لَكُمْ لِلْمُذَكَّرِ، وَدُخُولُ الْمُؤَنَّثِ فِيهِ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ ; وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ عَدَمُ دُخُولِهِنَّ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ إِبَاحَةُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ قَرِيبًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُخْتَصَرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخِطَابُ فِي ذَلِكَ لِلذُّكُورِ، وَحُكْمُ النِّسَاءِ فِي الِافْتِرَاشِ سَيَأْتِي فِي بَابِ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ: هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مُخَاطَبًا بِالْفُرُوعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هِيَ شِعَارُهُمْ وَزِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْإِذْنِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ شَرْعًا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ، قَوْلُهُ:(قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ أَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: شَدِيدًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ سَأَلْتُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ صُهَيْبٍ عَنْ الْحَرِيرِ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا. فَقُلْتُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: شَدِيدًا وَهَذَا الْجَوَابُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرًا لِكَوْنِهِ مَرْفُوعًا إِنَّمَا حَفِظَهُ حِفْظًا شَدِيدًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارًا أَيْ جَزْمِي بِرَفْعِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقَعُ شَدِيدًا عَلَيَّ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ رَفْعًا شَدِيدًا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَفْظَةُ شَدِيدًا صِفَةٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ الْغَضَبُ أَيْ غَضِبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنْ سُؤَالِ شُعْبَةَ غَضَبًا شَدِيدًا، كَذَا قَالَ وَوَجْهُهُ غَيْرُ وَجِيهٍ، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْجَهُ، وَلَكِنَّهُ يُؤَيِّدُ الثَّانِي أَنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ فِيهِ: سَمِعْتُ أَنَسًا يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ هَذَا.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ) زَادَ النَّسَائِيُّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَخْرَجَهُ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ ابْنِ زَيْدٍ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادٍ بِلَفْظِ

ص: 288

يَخْطُبُنَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم) هَذَا مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ مُحْتَجٌّ بِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِالْمَرَاسِيلِ، لِأَنَّهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَاحْتِمَالُ كَوْنِهَا عَنْ تَابِعِيٍّ - لِوُجُودِ رِوَايَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ - نَادِرٌ، لَكِنْ تَبَيَّنَ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَاسِطَةِ عُمَرَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ الْمُتَّفِقَةِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رَوَاهُ بِلَفْظِ لَنْ بَلِ الْحَدِيثُ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ بِلَفْظِ لَمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ حَفِظَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِدَّةَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا حَدِيثُهُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَمِنْهَا حَدِيثُهُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو هَكَذَا وَعَقَدَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. وَمِنْهَا حَدِيثُهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (لَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ) كَذَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ عَنْ ثَابِتٍ، وَهُوَ أَوْضَحُ فِي النَّفْيِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ، قَوْلُهُ:(عَنْ أَبِي ذِبْيَانَ) - بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ - هُوَ التَّمِيمِيُّ الْبَصْرِيُّ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ بِظَاءٍ مُشَالَةٍ بَدَلَ الذَّالِ وَهُوَ خَطَأٌ، وَأَشَدُّ خَطَأٍ مِنْهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ عَنْ أَبِي دِينَارٍ بِمُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ وَنُونٌ ثُمَّ رَاءٌ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا خَلِيفَةُ بْنُ كَعْبٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمُ الْحَرِيرَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبٍ فَلَمْ يَذْكُرْ عُمَرَ فِي إِسْنَادِهِ، وَشُعْبَةُ أَحْفَظُ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ.

قَوْلُهُ: (مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَنْ يَلْبَسَهُ وَالْمَحْفُوظُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ فِي آخِرِهِ وَمَنْ لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مُدْرَجَةٌ فِي الْخَبَرِ، وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، بَيَّنَ ذَلِكَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ فَذَكَرَ مِثْلَ سَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ وَفِي آخِرِهِ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَذَكَرَ الزِّيَادَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ رَأْيِهِ: وَمَنْ لَمْ يَلْبَسِ الْحَرِيرَ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ وَزَادَ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ إِذًا وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، قَالَ اللَّهُ:{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ السَّرَّاجِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ مِثْلَ حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا فِي الْبَابِ وَزَادَ وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مُدْرَجًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الرَّفْعُ مَحْفُوظًا فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ بِالْمُكَلَّفِينَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى بِجَوَازِهِ لِلنِّسَاءِ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى

مَعْنَى الْوَعِيدِ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى لِرِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَجَّاجِ، وَقَدْ أَكْثَرَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَنْهُ بِالتَّحْدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ مُعَلَّى الرَّازِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ.

قَوْلُهُ: (حَدِّثَنَّا عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ وَيَزِيدُ هُوَ الضُّبَعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالرِّشْكِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَمُعَاذَةُ هِيَ الْعَدَوِيَّةُ، وَالْإِسْنَادُ مِنْ مُبْتَدَئِهِ إِلَى مُعَاذَةَ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عَمْرِو بِنْتِ

ص: 289

عَبْدِ اللَّهِ) جَزَمَ أَبُو نَصْرٍ الْكَلَابَاذِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ بِأَنَّهَا بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَمْ أَرَهَا مَنْسُوبَةً فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ سَمِعَ عُمَرَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ سَمِعْتُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.

قَوْلُهُ: (نَحْوُهُ) سَاقَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِلَفْظِ فَإِنَّهُ لَا يُكْسَاهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ فَلَا كَسَاهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنَا حَرْبٌ عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي عِمْرَانُ. . وَقَصَّ الْحَدِيثَ.

طَرِيقٌ أُخْرَى لِحَدِيثِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) هُوَ بُنْدَارٌ، وَعُثْمَانُ هُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ إِلَى عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ بَصْرِيُّونَ، وَعِمْرَانُ هُوَ السَّدُوسِيُّ كَانَ أَحَدَ الْخَوَارِجِ مِنَ الْعَقَدِيَّةِ بَلْ هُوَ رَئِيسُهُمْ وَشَاعِرُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي مَدَحَ ابْنَ مُلْجِمٍ قَاتِلَ عَلِيٍّ بِالْأَبْيَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَبُوهُ حِطَّانُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ ثَقِيلَةٌ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى قَاعِدَتِهِ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمُبْتَدِعِ إِذَا كَانَ صَادِقَ اللَّهْجَةِ مُتَدَيِّنًا ; وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عِمْرَانَ تَابَ مِنْ بِدْعَتِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقِيلَ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ حَمَلَهُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَبْتَدِعَ، فَإِنَّهُ كَانَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَقَارِبِهِ تَعْتَقِدُ رَأْيَ الْخَوَارِجِ لِيَنْقُلَهَا عَنْ مُعْتَقَدِهَا فَنَقَلَتْهُ هِيَ إِلَى مُعْتَقَدِهَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ مُتَابَعَةٌ، وَآخَرُ فِي بَابِ نَقْضِ الصُّوَرِ.

قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْحَرِيرِ فَقَالَتِ: ائْتِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَلْهُ، قَالَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: سَلِ ابْنَ عُمَرَ) كَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَفِي رِوَايَةِ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ الَّتِي تُذْكَرُ عَقِبَ هَذِهِ بِالْعَكْسِ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: سَلْ عَائِشَةَ، فَسَأَلَهَا فَقَالَتْ: سَلِ ابْنَ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو حَفْصٍ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) كَذَا فِي الْأَصْلِ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ صَدَقَ وَمَا كَذَبَ أَبُو حَفْصٍ) هُوَ قَوْلُ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ) هُوَ الْغُدَانِيُّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِي هَذَا بِتَحْدِيثِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَرْبٌ) هُوَ ابْنُ شَدَّادٍ، وَزَعَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ ابْنُ مَيْمُونٍ، وَنَسَبَهُ لِصَاحِبِ الْكَاشِفِ وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّ صَاحِبَ الْكَاشِفِ لَمْ يَرْقُمْ لِحَرْبِ بْنِ مَيْمُونٍ عَلَامَةَ الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ رَوَى عَنْ حَرْبِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ رَوَى عَنْهُ أَنْ لَا يَرْوِي عَنْ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ، بَلْ رِوَايَتُهُ عَنْ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصْرِيحَ يَحْيَى بِتَحْدِيثِ عِمْرَانَ لَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (وَقَصَّ الْحَدِيثَ) سَاقَهُ النَّسَائِيُّ مَوْصُولًا عَنْ عَمْرِو بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ بِلَفْظِ مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ خَطَأٌ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَسُقِ اللَّفْظَ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيَانٌ وَاضِحٌ لِمَنْ قَالَ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ لُبْسُ الْحَرِيرِ لِلْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَعْنَاهُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ فِي شَرْحِ أَوَّلِ حَدِيثٍ مِنْهُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا وَاحِدٌ وَهُوَ نَفْيُ اللُّبْسِ وَنَفْيُ الشُّرْبِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الْجَنَّةِ. وَحَاصِلُ أَعْدَلِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَذْكُورَ مُقْتَضٍ لِلْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ لِمَانِعٍ كَالتَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتُ الَّتِي تُوَازِنُ وَالْمَصَائِبُ الَّتِي تُكَفِّرُ، وَكَدُعَاءِ الْوَلَدِ بِشَرَائِطَ، وَكَذَا شَفَاعَةُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، وَأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عَفْوُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.

وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ لُبْسَ الْعَلَمِ مِنَ الْحَرِيرِ إِذَا كَانَ فِي الثَّوْبِ، وَخَصَّهُ بِالْقَدْرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَرْبَعُ أَصَابِعَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ أَجَازَ الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ مُطْلَقًا وَلَوْ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ مُطْلَقًا، وَهُوَ ثَابِتٌ عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا مَنَعُوهُ وَرَعًا وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَقَدْ نُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْدُودٌ، وَكَذَا مَذْهَبُ مَنْ أَجَازَ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمُطَرَّزِ بِالْحَرِيرِ، وَهُوَ مَا جُعِلَ عَلَيْهِ طِرَازُ حَرِيرٍ مُرَكَّبٍ،

ص: 290

وَكَذَلِكَ الْمُطَرَّفُ وَهُوَ مَا سُجِفَتْ أَطْرَافُهُ بِسَجَفٍ مِنْ حَرِيرٍ بِالتَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّطْرِيزُ فِي نَفْسِ الثَّوْبِ بَعْدَ النَّسْجِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ سَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الثَّوْبِ الَّذِي يُخَالِطُهُ مِنَ الْحَرِيرِ مِقْدَارُ الْعَلَمِ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مَجْمُوعًا أَوْ مُفَرَّقًا وَهُوَ قَوِيٌّ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَسِّيِّ بَعْدَ بَابَيْنِ.

‌26 - بَاب مَسِّ الْحَرِيرِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ

وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

5836 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبُ حَرِيرٍ فَجَعَلْنَا نَلْمُسُهُ وَنَتَعَجَّبُ مِنْهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا قُلْنَا نَعَمْ قَالَ مَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ مَسَّ الْحَرِيرَ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ، وَيُرْوَى فِيهِ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى أَنَسٍ أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بُرْدًا سِيَرَاءَ كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ هَذَا مُرَادَ الْبُخَارِيِّ، وَالرُّؤْيَةُ لَا يُقَالُ لَهَا مَسٌّ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مُرَادَهُ لَجَزَمَ بِهِ لِأَنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَهُ عَلَى شَرْطِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي بَابِ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ مَا رَوَيْنَاهُ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَبَرَانِيِّ وَفِي فَوَائِدِ تَمَّامٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ الْحِمْصِيِّ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةٌ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَجَعَلَ نَاسٌ يَلْمِسُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تُعْجِبُكُمْ هَذِهِ؟ فَوَاللَّهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْهَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ لَمْ يَرْوِهِ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ.

وَمِمَّا يُؤَكِّدُ مَا قُلْتُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمَّا أَخْرَجَ فِي الْمَنَاقِبِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَوْصُولًا قَالَ بَعْدَهُ: رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَنَسٍ وَلَمَّا صَدَّرَ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ - الْمُعَلَّقِ هُنَا - عَقَّبَهُ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمَوْصُولِ بِعَيْنِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

وقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ فَجَعَلْنَا نَلْمُسُهُ جَزَمَ فِي الْمُحْكَمِ بِأَنَّهُ بِضَمِّ الْمِيمِ فِي الْمُضَارِعِ، وَقَوْلُهُ: مَنَادِيلُ سَعْدٍ. قِيلَ: خَصَّ الْمَنَادِيلَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا تُمْتَهَنُ فَيَكُونُ مَا فَوْقَهَا أَعْلَى مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ نَجَاسَةِ عَيْنِهِ بَلْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لِبَاسِ الْمُتَّقِينَ، وَعَيْنُهُ مَعَ ذَلِكَ طَاهِرَةٌ فَيَجُوزُ مَسُّهُ وَبَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِثَمَنِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ.

‌27 - بَاب افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ. وَقَالَ عَبِيدَةُ: هُوَ كَلُبْسِهِ

5837 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ) أَيْ حُكْمُهُ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَيْدَةُ) هُوَ ابْنُ عَمْرٍو السَّلْمَانِيُّ بِسُكُونِ

ص: 291

اللَّامِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (هُوَ كَلُبْسِهِ) وَصَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قُلْتُ لِعُبَيْدَةَ افْتِرَاشُ الْحَرِيرِ كَلُبْسِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ) أَيِ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ.

قَوْلُهُ: (أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْأَطْعِمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ) وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ لَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ وَهِيَ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِمَنْ قَالَ بِمَنْعِ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ وَالْكُوفِيِّينَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ لَفْظَ نَهَى لَيْسَ صَرِيحًا فِي التَّحْرِيمِ، وَبَعْضُهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ وَرَدَ عَنْ مَجْمُوعِ اللُّبْسِ وَالْجُلُوسِ لَا عَنِ الْجُلُوسِ بِمُفْرَدِهِ وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى ابْنِ بَطَّالٍ دَعْوَاهُ أَنَّ الْحَدِيثَ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَصٍّ بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَأَنْ أَقْعُدَ عَلَى جَمْرِ الْغَضَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْعُدَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ حَرِيرٍ. وَأَدَارَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْجَوَازَ وَالْمَنْعَ عَلَى اللُّبْسِ لِصِحَّةِ الْإخْبَارِ فِيهِ، قَالُوا: وَالْجُلُوسُ لَيْسَ بِلُبْسٍ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ. وَلِأَنَّ لُبْسَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ النِّسَاءِ مِنَ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ خِطَابَ الذُّكُورِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ عَلَى الرَّاجِحِ، وَلَعَلَّ الَّذِي قَالَ بِالْمَنْعِ تَمَسَّكَ فِيهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْعِ اسْتِعْمَالِهِنَّ آنِيَةَ الذَّهَبِ مَعَ جَوَازِ لُبْسِهِنَّ الْحُلِيَّ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لُبْسُهُنَّ الْحَرِيرَ وَيُمْنَعْنَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ الْجَوَازَ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ افْتِرَاشِ الرَّجُلِ الْحَرِيرَ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي فِرَاشِهَا، وَوَجْهُهُ الْمُجِيزُ لِذَلِكَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِرَاشُ الرَّجُلِ فَكَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَفْتَرِشَهَا وَعَلَيْهَا الْحُلِيُّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ كَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ وَيَنَامَ مَعَهَا عَلَى فِرَاشِهَا الْمُبَاحِ لَهَا.

(تَنْبِيهٌ): الَّذِي يُمْنَعُ مِنَ الْجُلُوسِ عَلَيْهِ هُوَ مَا مُنِعَ مِنْ لُبْسِهِ وَهُوَ مَا صُنِعَ مِنْ حَرِيرٍ صِرْفٍ أَوْ كَانَ الْحَرِيرُ فِيهِ أَزْيَدَ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.

‌28 - بَاب لُبْسِ الْقَسِّيِّ.

وَقَالَ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ قُلْتُ لِعَلِيٍّ: مَا الْقَسِّيَّةُ؟ قَالَ: ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنْ الشَّامِ - أَوْ مِنْ مِصْرَ - مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ وَفِيهَا أَمْثَالُ الْأُتْرُنْجِ وَالْمِيثَرَةُ، كَانَتْ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلَ الْقَطَائِفِ يُصَفّونَهَا. وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ يَزِيدَ فِي حَدِيثِهِ: الْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُجَاءُ بِهَا مِنْ مِصْرَ فِيهَا الْحَرِيرُ، وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: عَاصِمٌ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ فِي الْمِيثَرَةِ

5838 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنْ ابْنِ عَازِبٍ قَالَ: نَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَعن الْقَسِّيِّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لُبْسِ الْقَسِّيِّ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا يَاءُ نِسْبَةٍ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يَقُولُونَهُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَأَهْلَ مِصْرَ يَفْتَحُونَهَا، وَهِيَ نِسْبَةٌ إِلَى بَلَدٍ يُقَالُ لَهَا الْقَسُّ رَأَيْتُهَا وَلَمْ يَعْرِفْهَا الْأَصْمَعِيُّ، وَكَذَا قَالَ الْأَكْثَرُ هِيَ نِسْبَةٌ لِلْقَسِّ قرية بِمِصْرَ مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ سِيدَهْ، وَقَالَ الْحَازِمِيُّ وهِيَ مِنْ بِلَادِ السَّاحِلِ وَقَالَ الْمُهَلَّبُ هِيَ عَلَى سَاحِلِ مِصْرَ وَهِيَ حِصْنٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الْفَرَمَا مِنْ جِهَةِ الشَّامِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهَا تَلِي الْفَرَمَا، وَالْفَرَمَا بِالْفَاءِ وَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ بِقُرْبِ تِنِّيسَ وَهُوَ مُتَقَارِبٌ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ

ص: 292

الْهَرَوِيُّ، عَنْ شَمِرٍ اللُّغَوِيِّ أَنَّهَا بِالزَّايِ لَا بِالسِّينِ نِسْبَةً إِلَى الْقَزِّ وَهُوَ الْحَرِيرُ فَأُبْدِلَتِ الزَّايُ سِينًا. وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْقَسَّ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ هُوَ الصَّقِيعُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبَيَاضِهِ، وَهُوَ وَالَّذِي قَبْلَهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْقَسَّ الْقَرْيَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: قُلْنَا لِعَلِيٍّ مَا الْقَسِّيَّةُ؟ إِلَخْ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ وَعَنِ الْمَيَاثِرِ، قَالَ فَأَمَّا الْقَسِّيُّ فَثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ النَّهْيَ عَنْ لِبَاسِ الْقَسِّيِّ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَفْسِيرُهُ.

قَوْلُهُ: (ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنَ الشَّامِ أَوْ مِنْ مِصْرَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ.

قَوْلُهُ: (مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ) أَيْ فِيهَا خُطُوطٌ عَرِيضَةٌ كَالْأَضْلَاعِ، وَحَكَى الْمُنْذِرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُضَلَّعِ مَا نُسِجَ بَعْضُهُ وَتُرِكَ بَعْضُهُ، وَقَوْلُهُ: فِيهَا حَرِيرٌ يُشْعِرُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَرِيرًا صِرْفًا، وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا ثِيَابٌ مَخْلُوطَةٌ بِالْحَرِيرِ، وَقِيلَ: مِنَ الْخَزِّ وَهُوَ رَدِيءُ الْحَرِيرِ.

قَوْلُهُ: (وَفِيهَا أَمْثَالُ الْأُتْرُنْجِ) أَيْ أَنَّ الْأَضْلَاعَ الَّتِي فِيهَا غَلِيظَةٌ مُعْوَجَّةٌ ; وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِيهَا شِبْهُ كَذَا عَلَى الْإِبْهَامِ، وَقَدْ فَسَّرَتْهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ الْمُعَلَّقَةُ. وَوَقَعَ لَنَا مَوْصُولًا فِي أَمَالِي الْمَحَامِلِيِّ بِاللَّفْظِ الَّذِي عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَالْمِيثَرَةُ) هو بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدهَا رَاءٌ ثُمَّ هَاءٌ وَلَا هَمْزَ فِيهَا، وَأَصْلُهَا مِنَ الْوَثَارَةِ أَوِ الْوَثِرَةِ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْوَثِيرُ هُوَ الْفِرَاشُ الْوَطِيءُ وَامْرَأَةٌ وَثِيرَةٌ كَثِيرَةُ اللَّحْمِ.

قَوْلُهُ: (كَانَتِ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلَ الْقَطَائِفِ يَصِفُونَهَا) أَيْ يَجْعَلُونَهَا كَالصِّفَةِ، وَحَكَى عِيَاضٌ فِي رِوَايَةِ يُصَفِّرْنَهَا بِكَسْرِ الْفَاءِ ثُمَّ رَاءٍ وَأَظُنُّهُ تَصْحِيفًا وَإِنَّمَا قَالَ يَصِفُونَهَا بِلَفْظِ الْمُذَكَّرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النِّسَاءَ يَصْنَعْنَ ذَلِكَ وَالرِّجَالُ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ اللُّغَوِيُّ: وَالْمِيثَرَةُ مُرْفَقَةٌ كَصِفَةِ السَّرْجِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ وِطَاءٌ يُوضَعُ عَلَى سَرْجِ الْفَرَسِ أَوْ رَحْلِ الْبَعِيرِ كَانَتِ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِأَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْأُرْجُوَانِ الْأَحْمَرِ وَمِنَ الدِّيبَاجِ، وَكَانَتْ مَرَاكِبَ الْعَجَمِ، وَقِيلَ: هِيَ أَغْشِيَةٌ لِلسُّرُوجِ مِنَ الْحَرِيرِ، وَقِيلَ هِيَ سُرُوجٌ مِنَ الدِّيبَاجِ، فَحَصَلْنَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ فِي تَفْسِيرِ الْمِيثَرَةِ هَلْ هِيَ وِطَاءٌ لِلدَّابَّةِ، أَوْ لِرَاكِبِهَا، أَوْ هِيَ السَّرْجُ نَفْسُهُ، أَوْ غِشَاوَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَيَاثِرُ الْحُمُرُ كَانَتْ مِنْ مَرَاكِبِ الْعَجَمِ مِنْ حَرِيرٍ أَوْ دِيبَاجٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ فِي حَدِيثِهِ: الْقَسِّيَّةُ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُهَيْلٍ قَالَ: الْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ الْحَدِيثَ. وَوَهِمَ الدِّمْيَاطِيُّ فَضَبَطَ يَزِيدُ فِي حَاشِيَةِ نُسْخَتِهِ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ مُصَغَّر، فَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى التَّعْلِيقَ الْأَوَّلَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى ظَنَّ أَنَّ التَّعْلِيقَ الثَّانِيَ مِنْ رِوَايَةِ حَفِيدِهِ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، وَزَعَمَ الْكِرْمَانِيُّ - وَتَبِعَهُ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ - أَنَّ يَزِيدَ هَذَا هُوَ ابْنُ رُومَانَ، قَالَ وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَالْفَيْصَلُ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَصْلَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الْمُقَدَّمُ. قَالَ يَزِيدُ قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ سُهَيْلٍ: مَا الْمُقَدَّمُ؟ قَالَ الْمُسْبَغُ بِالْعُصْفُرِ هَذَا الْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْهُ وَبَقِيَّتُهُ هُوَ هَذَا الْمَوْقُوفُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سُهَيْلٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْبُخَارِيِّ قَالَ جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ فِي حَدِيثِهِ يُرِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ يَزِيدَ بَلْ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ تَفْسِيرٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِمَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَلَيْسَ هُوَ بِبَاطِلٍ، بَلْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَتِ الْمِيثَرَةُ وِطَاءً

ص: 293

صُنِعَتْ مِنْ جِلْدٍ ثُمَّ حُشِيَتْ، وَالنَّهْيُ حِينَئِذٍ عَنْهَا إِمَّا لِأَنَّهَا مِنْ زِيِّ الْكُفَّارِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا لَا تَعْمَلُ فِيهَا الذَّكَاةُ، أَوْ لِأَنَّهَا لَا تُذَكَّى غَالِبًا فَيَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ مَنَعَ لُبْسَ ذَلِكَ وَلَوْ دُبِغَ، لَكِنِ الْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ الْجِلْدَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي الشَّعْرِ هَلْ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ؟ لَكِنِ الْغَالِبُ عَلَى الْمَيَاثِرِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا شَعْرٌ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ الرُّكُوبِ عَلَى جُلُودِ النُّمُورِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ، وَهُوَ مِمَّا يُؤَيِّدُ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ. وَلِأَبِي دَاوُدَ لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: عَاصِمٌ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ فِي الْمِيثَرَةِ) يَعْنِي رِوَايَةَ عَاصِمٍ فِي تَفْسِيرِ الْمِيثَرَةِ أَكْثَرُ طُرُقًا وَأَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَلَا النَّسَفِيِّ، وَأُطْلِقَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الْمَيَاثِرُ وَقَيَّدَهَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِالْحُمُرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

وقَوْلُهُ في الحديث الثاني: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَقَوْلُهُ: نَهَانَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ نَهَى، وَقَوْلُهُ: عَنِ الْمَيَاثِرِ الْحُمُرِ وَعَنِ الْقَسِّيِّ هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوَّلُهُ أَمَرَنَا بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي بَابِ الْمَيَاثِرِ الْحُمُرِ بَعْدَ أَبْوَابٍ. وَاسْتُدِلَّ بِالنَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ عَلَى مَنْعِ لُبْسِ مَا خَالَطَهُ الْحَرِيرُ مِنَ الثِّيَابِ لِتَفْسِيرِ الْقَسِّيِّ بِأَنَّهُ مَا خَالَطَ غَيْرُ الْحَرِيرِ فِيهِ الْحَرِيرَ، وَيُؤَيِّدُهُ عَطْفُ الْحَرِيرِ عَلَى الْقَسِّيِّ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ مِنْ طَرِيقي عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقَسِّيِّ وَالْحَرِيرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُغَايَرَةُ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مِنَ الْحَرِيرِ كَمَا وَقَعَ عَطْفُ الدِّيبَاجِ عَلَى الْحَرِيرِ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الْمَاضِي قَرِيبًا، وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ الْقَسِّيِّ أَنَّهُ الَّذِي يُخَالِطُ الْحَرِيرَ لَا أَنَّهُ الْحَرِيرُ الصِّرْفُ، فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ لُبْسُ الثَّوْبِ الَّذِي خَالَطَهُ الْحَرِيرُ.

وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عُمَرَ وَالتَّابِعِينَ كَابْنِ سِيرِينَ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ لُبْسِ مَا خَالَطَهُ الْحَرِيرُ إِذَا كَانَ غَيْرُ الْحَرِيرِ الْأَغْلَبِ، وَعُمْدَتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْحُلَّةِ السِّيَرَاءِ وَمَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الرُّخْصَةِ فِي الْعِلْمِ فِي الثَّوْبِ إِذَا كَانَ مِنْ حَرِيرٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ قِيَاسٌ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ جَوَازُ كُلِّ مُخْتَلِطٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْهُ مَا كَانَ مَجْمُوعُ الْحَرِيرِ فِيهِ قَدْرَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الثَّوْبِ فَيَكُونُ الْمَنْعُ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ شَامِلًا لِلْخَالِصِ وَالْمُخْتَلِطِ، وَبَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ أَرْبَعُ أَصَابِعَ إِذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً، وَيَلْتَحِقُ بِهَا فِي الْمَعْنَى مَا إِذَا كَانَتْ مُخْتَلِطَةً، قَالَ: وَقَدْ تَوَسَّعَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ، وَلَهُمْ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الرَّاجِحُ اعْتِبَارُ الْوَزْنِ، فَإِنْ كَانَ الْحَرِيرُ أَقَلَّ وَزْنًا لَمْ يَحْرُمْ أَوْ أَكْثَرَ حَرُمَ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فَوَجْهَانِ اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ فِيهِمَا عِنْدَهُمْ.

وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أن الِاعْتِبَار بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ بِالظُّهُورِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُخْتَلِطِ أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا الْكَرَاهَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَزِّ وَبَيْنَ الْمُخْتَلِطِ بِقُطْنٍ وَنَحْوِهِ فَأَجَازَ الْخَزَّ وَمَنَعَ الْآخَرَ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ الْخَزِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ تَفَاسِيرِ الْقَسِّيِّ أَنَّهُ الْخَزُّ ; فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ رَدِيءُ الْحَرِيرِ فَهُوَ الَّذِي يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ؛ وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ وَبَرٍ فَخُلِطَ بِحَرِيرٍ لَمْ يُتَّجَهُ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ، وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ أَجَازَ لُبْسَ الْمُخْتَلِطِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنَ الْحَرِيرِ فَأَمَّا الْعَلَمُ مِنَ الْحَرِيرِ وَسُدَى الثَّوْبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ هَكَذَا، وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْمُصْمَتِ إِذَا كَانَ حَرِيرًا وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ نَهَى عَنْ مُصْمَتِ الْحَرِيرِ فَأَمَّا مَا كَانَ سُدَاهُ مِنْ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ

ص: 294

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لِلْجَوَازِ أَيْضًا بِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْحَرِيرِ حَقِيقَةً فِي الْخَالِصِ، وَالْإِذْنُ فِي الْقُطْنِ وَنَحْوِهِ صَرِيحٌ، فَإِذَا خُلِطَا بِحَيْثُ لَا يُسَمَّى حَرِيرًا بِحَيْثُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَلَا تَشْمَلُهُ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ خَرَجَ عَنِ الْمَمْنُوعِ فَجَازَ، وَقَدْ ثَبَتَ لُبْسُ الْخَزِّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَبِسَهُ عِشْرُونَ نَفْسًا مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرُ، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَمْعٍ مِنْهُمْ وَعَنْ طَائِفَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ

بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ، وَأَعْلَى مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الدَّشْتَكِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا عَلَى بَغْلَةٍ وَعَلَيْهِ عِمَامَةُ خَزٍّ سَوْدَاءُ وَهُوَ يَقُولُ: كَسَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: أَتَتْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ مَطَارِفُ خَزٍّ، فَكَسَاهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَالْأَصَحُّ فِي تَفْسِيرِ الْخَزِّ أَنَّهُ ثِيَابٌ سُدَاهَا مِنْ حَرِيرٍ وَلُحْمَتِهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ. تُنْسَجُ مَخْلُوطَةً مِنْ حَرِيرٍ وَصُوفٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ اسْمُ دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْخَزُّ سُمِّيَ الثَّوْبُ الْمُتَّخَذُ مِنْ وَبَرِهِ خَزًّا لِنُعُومَتِهِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُخْلَطُ بِالْحَرِيرِ لِنُعُومَةِ الْحَرِيرِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِلُبْسِهِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ مَا يُخَالِطُهُ الْحَرِيرُ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ الْخَزَّ الَّذِي لَبِسَهُ السَّلَفُ كَانَ مِنَ الْمَخْلُوطِ بِالْحَرِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لُبْسَ الْخَزِّ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شُهْرَةٌ، وعَنْ مَالِكٍ الْكَرَاهَةُ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْخَزِّ.

وَأَمَّا الْقَزُّ بِالْقَافِ بَدَلَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَقَالَ الرَّافِعِيُّ: عَدَّ الْأَئِمَّةُ الْقَزَّ مِنَ الْحَرِيرِ وَحَرَّمُوهُ عَلَى الرِّجَالِ وَلَوْ كَانَ كَمِدَ اللَّوْنِ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ لَكِنْ حَكَى الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ثِيَابِ الزِّينَةِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِالْقَزِّ مَا نُطْلِقُهُ نَحْنُ الْآنَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ يَخْرُجُ عَنِ اسْمِ الْحَرِيرِ فَيَحْرُمُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِكُمُودَةِ اللَّوْنِ وَلَا بِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ ثِيَابِ الزِّينَةِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَعْلِيلٌ ضَعِيفٌ لَا أَثَرَ لَهُ بَعْدَ انْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ اهـ كَلَامُهُ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُقَابِلِ التَّقْسِيمِ؛ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ شَيْئًا آخَرَ فَيُتَّجَهُ كَلَامُهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِهِ رَدِيءُ الْحَرِيرِ، وَهُوَ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْخَزِّ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ وَصَفَهُ بِكُمُودَةِ اللَّوْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌29 - بَاب مَا يُرَخَّصُ لِلرِّجَالِ مِنْ الْحَرِيرِ لِلْحِكَّةِ

5839 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ بِهِمَا.

قَوْلُهُ (بَابُ مَا يُرَخَّصُ لِلرِّجَالِ مِنَ الْحَرِيرِ لِلْحَكَّةِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ: نَوْعٌ مِنَ الْجَرَبِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَذَكَرَ الْحَكَّةَ مِثَالًا لَا قَيْدًا، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ فِي الْجِهَادِ الْحَرِيرُ لِلْجَرَبِ وَتَقَدَّمَ أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ وَبِهِ جَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَنَسًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (لِلزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةِ بِهِمَا) أَيْ لِأَجْلِ الْحَكَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُمَا شَكَيَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَمْلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتَا فِي الْجِهَادِ، وَكَأَنَّ الْحَكَّةَ نَشَأَتْ مِنْ أَثَرِ الْقَمْلِ، وَتَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ كَانَتْ بِهِ عِلَّةٌ يُخَفِّفُهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ انْتَهَى. وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا بقِي مِنَ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ خَصَّ الْجَوَازَ بِالسَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ

ص: 295

الصَّلَاحِ، وَخَصَّهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ مَعَ ذَلِكَ بِالْحَكَّةِ وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْقَمْلِ أَيْضًا.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي الْوَسِيطِ لِلْغَزَالِيِّ أَنَّ الَّذِي رُخِّصَ لَهُ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَطْلَبِ، وَغَلَّطُوهُ. وَفِي وَجْهٍ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الرُّخْصَةَ خَاصَّةٌ بِالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ عَنْ عُمَرَ مَا يُوَافِقُهُ.

‌30 - بَاب الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ

5840 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. ح وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَسَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً سِيَرَاءَ، فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي.

5841 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ ابْتَعْتَهَا تَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ إِذَا أَتَوْكَ وَالْجُمُعَةِ. قَالَ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ حُلَّةَ سِيَرَاءَ حَرِيرا كَسَاهَا إِيَّاهُ فَقَالَ عُمَرُ: كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَقُولُ فِيهَا مَا قُلْتَ. فَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُ بها إِلَيْكَ لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا.

5842 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ عليها السلام بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ) كَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ الْحَدِيثَانِ الْمَشْهُورَانِ فِي تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِالرِّجَالِ صَرِيحًا فَاكْتَفَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ حَرِيرًا وَذَهَبًا فَقَالَ: هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى وَأَعَلَّهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ بِالِانْقِطَاعِ وَأَنَّ رِوَايَةَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ لَمْ تُسْمَعْ مِنْ أَبِي مُوسَى، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّحَاوِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: قُمْ فَحَدِّثْ بِمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ تَخْصِيصَ النَّهْيِ لِلرِّجَالِ لِحِكْمَةٍ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ سبحانه وتعالى عَلِمَ قِلَّةَ صَبْرِهِنَّ عَنِ التَّزَيُّنِ فَلَطَفَ بِهِنَّ فِي إِبَاحَتِهِ، وَلِأَنَّ تَزْيِينَهُنَّ غَالِبًا إِنَّمَا هُوَ لِلْأَزْوَاجِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ حُسْنَ التَّبَعُّلِ مِنَ الْإِيمَانِ قَالَ: وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفَحْلَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُبَالِغَ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَلْذُوذَاتِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْإِنَاثِ. وَذَكَرَ فِيهِ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ، قَوْلُهُ:(عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ هُوَ الْهِلَالِيُّ أَبُو زَيْدٍ الزَّرَّادُ بِزَايٍ ثُمَّ رَاءٍ ثَقِيلَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النَّفَقَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ، وَلِشُعْبَةَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذٍ عَنْهُ عَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَتَقَدَّمَ كَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ وَالنَّفَقَاتِ. وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ هُنَا وَحْدَهُ عَنِ النِّزَالِ بْنِ سَبْرَةَ بَدَلَ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ وَهُوَ وَهْمٌ، كَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ لِأَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنِ النِّزَالِ، عَنْ عَلِيٍّ

ص: 296

إِنَّمَا هِيَ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَقَدْ وَافَقَ الْجَمَاعَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَزَيْدُ بْنُ وَهْبٍ هُوَ الْجُهَنِيُّ الثِّقَةُ الْمَشْهُورُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ بِلَفْظِ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ.

قَوْلُهُ: (أَهْدَى) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ.

قَوْلُهُ: (إِلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ

(1)

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ الْمَذْكُورَةِ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُلَّةٌ فَبَعَثَ بِهَا إِلَيَّ وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ إنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَ حَرِيرٍ فَأَعْطَاهُ عَلِيًّا وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّحَاوِيِّ أَهْدَى أَمِيرُ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً مُسَيَّرَةً بِحَرِيرٍ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.

قَوْلُهُ: (حُلَّةً سِيَرَاءَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْحُلَلُ بُرُودُ الْيَمَنِ، وَالْحُلَّةُ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَزَادَ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ الْحُلَّةُ بُرْدٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ أَصْلَ تَسْمِيَةِ الثَّوْبَيْنِ حُلَّةً أَنَّهُمَا يَكُونَانِ جَدِيدَيْنِ كَمَا حَلَّ طَيُّهُمَا، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ الثَّوْبَانِ حُلَّةً حَتَّى يُلْبَسَ أَحَدَهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ، فَإِذَا كَانَ فَوْقَهُ فَقَدْ حَلَّ عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَالسِّيَرَاءُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالرَّاءِ مَعَ الْمَدِّ، قَالَ الْخَلِيلُ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعَلَاءُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَعَ الْمَدِّ سِوَى سِيَرَاءَ، وَحِوَلَاءَ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ الْوَلَدِ، وَعِنَبَاءُ لُغَةٌ فِي الْعِنَبِ، قَالَ مَالِكٌ: هُوَ الْوَشْيُ مِنَ الْحَرِيرِ، كَذَا قَالَ، وَالْوَشْيُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ ثِيَابٌ فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ حَرِيرٍ أَوْ قَزٍّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا سِيَرَاءُ لِتَسْيِيرِ الْخُطُوطِ فِيهَا. وَقَالَ الْخَلِيلُ: ثَوْبٌ مُضَلَّعٌ بِالْحَرِيرِ وَقِيلَ: مُخْتَلِفُ الْأَلْوَانِ فِيهِ خُطُوطٌ مُمْتَدَّةٌ كَأَنَّهَا السُّيُورُ.

وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ حُلَّةً سِيَرَاءَ وَالسِّيَرَاءُ الْمُضَلَّعُ بِالْقَزِّ، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْبُرُودِ، وَقِيلَ ثَوْبٌ مُسَيَّرٌ فِيهِ خُطُوطٌ يُعْمَلُ مِنَ الْقَزِّ، وَقِيلَ: ثِيَابٌ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: بُرْدٌ فِيهِ خُطُوطٌ صُفْرٌ، وَنَقَلَ عِيَاضٌ، عَنْ سِيبَوَيْهِ قَالَ لَمْ يَأْتِ فِعَلَاءُ صِفَةً لَكِنِ اسْمًا، وَهُوَ الْحَرِيرُ الصَّافِي وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ حُلَّةً سِيَرَاءَ هَلْ هُوَ بِالْإِضَافَةِ أَوْ لَا، فَوَقَعَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ بِتَنْوِينِ حُلَّةٍ عَلَى أَنَّ سِيَرَاءَ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ نَعْتٌ، وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ الرِّوَايَةُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالُوا حُلَّةً سِيَرَاءَ كَمَا قَالُوا نَاقَةً عُشْرَاءَ، وَنَقَلَ عِيَاضٌ، عَنْ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ السَّرَّاجِ أَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَكَذَا ضَبَطْنَاهُ عَنْ مُتْقِنِي شُيُوخِنَا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ إِنَّهُ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ وَمُتْقِنِي الْعَرَبِيَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ لِصِفَتِهِ كَمَا قَالُوا ثَوْبُ خَزٍّ.

قَوْلُهُ: (فَخَرَجْتُ فِيهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ فَلَبِسْتُهَا.

قَوْلُهُ: (فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَهُ فِي أُخْرَى شَقِّقْهَا خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ.

قَوْلُهُ: (فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي) أَيْ قَطَعْتُهَا فَفَرَّقْتُهَا عَلَيْهِنَّ خُمُرًا، وَالْخُمُرُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ جَمْعُ خِمَارٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَالتَّخْفِيفِ: مَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: نِسَائِي مَا فَسَّرَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ حَيْثُ قَالَ: بَيْنَ الْفَوَاطِمِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ حَيْثُ قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى فَاطِمَةَ فَشَقَقْتُهَا، فَقَالَتْ: مَاذَا جِئْتَ بِهِ؟ قُلْتُ نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِهَا فَالْبَسِيهَا وَأكْسِي نِسَاءَكِ وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عَلِيًّا إِنَّمَا شَقَّقَهَا بِإِذْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُرَادُ بِالْفَوَاطِمِ فَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ وَالِدَةُ عَلِيٍّ وَلَا أَعْرِفُ الثَّالِثَةَ. وَذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ أَنَّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْهَدَايَا وَعَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ فِي الْمُبْهَمَاتِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ

(1)

عبارة المتن هنا "كساني النبي الخ".

ص: 297

يَرِيمَ - بِتَحْتَانِيَّةٍ أَوَّلُهُ ثُمَّ رَاءٍ وَزْنُ عَظِيمٍ - عَنْ عَلِيٍّ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: فَشَقَقْتُ مِنْهَا أَرْبَعَةَ أَخْمِرَةٍ فَذَكَرَ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَاتِ، قَالَ: وَنَسِيَ يَزِيدُ الرَّابِعَةَ.

وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ خِمَارًا لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ أُمِّ عَلِيٍّ، وَخِمَارًا لِفَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَخِمَارًا لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَخِمَارًا لِفَاطِمَةَ أُخْرَى قَدْ نَسِيتُهَا فَقَالَ عِيَاضٌ لَعَلَّهَا فَاطِمَةُ امْرَأَةُ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهِيَ بِنْتُ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَقِيلَ: بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَقِيلَ: بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ. وَامْرَأَةُ عَقِيلٍ هَذِهِ هِيَ الَّتِي لَمَّا تَخَاصَمَتْ مَعَ عَقِيلٍ بَعَثَ عُثْمَانُ، مُعَاوِيَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ حَكَمَيْنِ بَيْنَهُمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرُهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ الْحُلَّةَ إِلَى عَلِيٍّ فَبَنَى عَلِيٌّ عَلَى ظَاهِرِ الْإِرْسَالِ فَانْتَفَعَ بِهَا فِي أَشْهَرِ مَا صُنِعَتْ لَهُ وَهُوَ اللُّبْسُ، فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُ لُبْسَهَا وَإِنَّمَا بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ لِيَكْسُوَهَا غَيْرَهُ مِمَّنْ تُبَاحُ لَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الرِّجَالِ الْحَرِيرَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي، قَوْلُهُ:(جُوَيْرِيَةُ) بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ مُصَغَّر وَبَعْدَ الرَّاءِ تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عُمَرَ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ) هَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ نَافِعٍ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى حُلَّةً فَجَعَلَهُ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ. وَسِيَرَاءُ تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا وَتَفْسِيرُهَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي السُّوقِ فَرَأَى الْحُلَّةَ وَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، لِأَنَّ طَرَفَ السُّوقِ كَانَ يَصِلُ إِلَى قُرْبِ بَابِ الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (تُبَاعُ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ رَأَى عُمَرُ، عُطَارِدًا التَّمِيمِيَّ يُقِيمُ حُلَّةً بِالسُّوقِ، وَكَانَ رَجُلًا يَغْشَى الْمُلُوكَ وَيُصِيبُ مِنْهُمْ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ أَنَّ عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبٍ جَاءَ بِثَوْبٍ مِنْ دِيبَاجٍ كَسَاهُ إِيَّاهُ كِسْرَى، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا أَشْتَرِيهِ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ عُطَارِدٍ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَ دِيبَاجٍ كَسَاهُ إِيَّاهُ كِسْرَى، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عُطَارِدًا لَمَّا أَقَامَهُ فِي السُّوقِ لِيُبَاعَ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ بَيْعُهُ فَأَهْدَاهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَعُطَارِدٌ هَذَا هُوَ ابْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عَدَسٍ بِمُهْمَلَاتٍ الدَّارِمِيُّ يُكَنَّى أَبَا عِكْرِشَةَ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ، كَانَ مِنْ جُمْلَةِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ أَصْحَابِ الْحُجُرَاتِ، وَقَدْ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَاسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَدَقَاتِ قَوْمِهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ رُؤَسَاءِ بَنِي تَمِيمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقِصَّتُهُ مَعَ كِسْرَى فِي رَهْنِهِ قَوْسَهُ عِوَضًا عَنْ جَمْعِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ عِنْدَ كِسْرَى مَشْهُورَةٌ حَتَّى ضُرِبَ الْمَثَلُ بِقَوْسِ حَاجِبٍ.

قَوْلُهُ: (لَوِ ابْتَعْتَهَا فَلَبِسْتَهَا) فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ ابْتَعْ هَذِهِ فَتَجَمَّلْ بِهَا وَكَانَ عُمَرُ أَشَارَ بِشِرَائِهَا وَتَمَنَّاهُ.

قَوْلُهُ: (لِلْوَفْدِ إِذَا أَتَوْكَ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ لِوُفُودِ الْعَرَبِ وَكَأَنَّهُ خَصَّهُ بِالْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذْ ذَاكَ الْوُفُودَ فِي الْغَالِبِ، لِأَنَّ مَكَّةَ لَمَّا فُتِحَتْ بَادَرَ الْعَرَبُ بِإِسْلَامِهِمْ فَكَانَ كُلُّ قَبِيلَةٍ تُرْسِلُ كُبَرَاءَهَا لِيُسْلِمُوا وَيَتَعَلَّمُوا وَيَرْجِعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُعَلِّمُوهُمْ.

قَوْلُهُ (وَالْجُمُعَةُ) فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ الْعِيدُ بَدَلَ الْجُمُعَةِ وَجَمَعَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ مَا تَضَمَّنَتْهُ الرِّوَايَتَانِ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِ فَتَجَمَّلْ بِهَا لِوُفُودِ الْعَرَبِ إِذَا أَتَوْكَ، وَإِذَا خَطَبْتَ النَّاسَ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ.

قَوْلُهُ: (مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ) زَادَ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْخَلَاقُ النَّصِيبُ وَقِيلَ: الْحَظُّ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْحُرْمَةِ وَعَلَى الدِّينِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ أَيْ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ مِنْ

ص: 298

بَابِ لُبْسِ الْحَرِيرِ مَا يُؤَيِّدُهُ وَلَفْظُهُ لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ إِلَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْهُ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ حُلَّةً سِيَرَاءَ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، بِحُلَّةٍ سِيَرَاءَ مِنْ حَرِيرٍ وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ السِّيَرَاءَ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ حَرِيرٍ.

قَوْلُهُ: (كَسَاهَا إِيَّاهُ) كَذَا أُطْلِقَ، وَهِيَ بِاعْتِبَارِ مَا فَهِمَ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِ بِهَا لِيَلْبَسَهَا، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَسَاهُ أَعْطَاهُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كِسْوَةً، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمَاضِيَةِ فِي الْجُمُعَةِ ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ حُلَّةً وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحُلَلٍ سِيَرَاءَ فَبَعَثَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ وَبَعَثَ إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ بِحُلَّةٍ وَأَعْطَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حُلَّةً وَعُرِفَ بِهَذَا جِهَةُ الْحُلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُمَرُ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَقُولُ فِيهَا مَا قُلْتَ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ فَجَاءَ عُمَرُ بِحُلَّتِهِ يَحْمِلُهَا فَقَالَ: بَعَثْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ وَقَدْ قُلْتَ بِالْأَمْسِ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ وَالْمُرَادُ بِالْأَمْسِ هُنَا يَحْتَمِلُ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ أَوْ مَا قَبْلَهَا بِحَسَبِ مَا اتَّفَقَ مِنْ وُصُولِ الْحُلَلِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قِصَّةِ حُلَّةِ عُطَارِدٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَخَرَجْتُ فَزِعًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرْسِلُ بِهَا إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ لِتُصِيبَ بِهَا وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ كَمَا مَضَى فِي الْعِيدَيْنِ تَبِيعَهَا وَتُصِيبَ بِهَا حَاجَتَكَ وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَالِمٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ لِتُصِيبَ بِهَا مَالًا وَزَادَ مَالِكٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا زَادَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَخًا لَهُ مِنْ أُمِّهِ وَتَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا الْأَخِ إِلَّا فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَشْكُوَالَ فِي الْمُبْهَمَاتِ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْحَذَّاءِ فِي رِجَالِ الْمُوَطَّأِ فَقَالَ: اسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: هُوَ السُّلَمِيُّ أَخُو خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ، قَالَ: وَهُوَ أَخُو زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ لِأُمِّهِ. فَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَخُو عُمَرَ لِأُمِّهِ لَمْ يُصِبْ. قُلْتُ: بَلْ لَهُ وَجْهٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ ارْتَضَعَ مِنْ أُمِّ أَخِيهِ زَيْدٍ فَيَكُونُ عُثْمَانُ أَخَا عُمَرَ لِأُمِّهِ مِنَ الرَّضَاعِ وَأَخَا زَيْدٍ لِأُمِّهِ مِنَ النَّسَبِ.

وَأَفَادَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ وَالِدَةَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ هِيَ أُمُّ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذِكْرِهِ فِي الصَّحَابَةِ، فَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ فَقَدْ فَاتَهُمْ، فَلْيُسْتَدْرَكْ، وَإِنْ كَانَ مَاتَ كَافِرًا وَكَانَ قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْبَعْثَ إِلَيْهِ كَانَ فِي حَالِ كُفْرِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَلْتُعَدُّ بِنْتُهُ فِي الصَّحَابَةِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي أَوَّلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي قَبَاءِ حَرِيرٍ ثُمَّ نَزَعَهُ فَقَالَ: نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ زِيَادَةً عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَهِيَ فَأَعْطَاهُ لِعُمَرَ، فَقَالَ: لَمْ أُعْطِكَهُ لِتَلْبَسَهُ بَلْ لِتَبِيعَهُ، فَبَاعَهُ عُمَرُ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ بَاعَهُ بِإِذْنِ أَخِيهِ بَعْدَ أَنْ أَهْدَاهُ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): وَجْهُ إِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابُ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ لِعُمَرَ لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا لِأَنَّ الْحَرِيرَ إِذَا كَانَ لُبْسُهُ مُحَرَّمًا عَلَى الرِّجَالِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ فِي ذَلِكَ فَيَنْحَصِرُ الْإِذْنُ فِي النِّسَاءِ، وَأَمَّا كَوْنُ عُمَرَ كَسَاهَا أَخَاهُ فَلَا يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْكَافِرَ مُخَاطَبٌ بِالْفُرُوعِ وَيَكُونُ أَهْدَى عُمَرُ الْحُلَّةَ لِأَخِيهِ لِيَبِيعَهَا أَوْ يَكْسُوَهَا امْرَأَةً، وَيُمْكِنُ مَنْ يَرَى أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِالتَّمَسُّكِ بِدُخُولِ النِّسَاءِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ أَوْ يَكْسُوَهَا أَيْ إِمَّا لِلْمَرْأَةِ أَوْ لِلْكَافِرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ أَيْ مِنَ الرِّجَالِ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورَةِ

ص: 299

فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُطَارِدٍ حُلَّةً فَكَرِهَهَا لَهُ ثُمَّ إِنَّهُ كَسَاهَا عُمَرَ مِثْلَهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا إِنَّمَا أَعْطَيْتُكَهَا لِتُلْبِسَهَا النِّسَاءَ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْمَرْأَةِ الْحَرِيرَ الصِّرْفَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُلَّةَ السِّيَرَاءَ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مِنْ حَرِيرٍ صِرْفٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَيَقُولُونَ: هِيَ الَّتِي يُخَالِطُهَا الْحَرِيرُ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ وَفِيهِ حُلَّةٌ مِنْ حَرِيرٍ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دَلَّتْ طُرُقُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْحُلَّةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ مِنْ حَرِيرٍ مَحْضٍ، ثُمَّ ذُكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي مَرَرْتُ بِعُطَارِدٍ يَعْرِضُ حُلَّةَ حَرِيرٍ لِلْبَيْعِ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالطَّبَرِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ. قُلْتُ: وَتَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ حُلَّةَ حَرِيرٍ أَوْ سِيَرَاءَ، وَفِي الْعِيدَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَقَدْ فُسِّرَ الْاسْتبْرَاقُ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلَنِي سَالِمٌ عَنِ الْإِسْتَبْرَقِ فَقُلْتُ: مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ حُلَّةً مِنْ سُنْدُسٍ قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُبَيِّنُ أَنَّ الْحُلَّةَ كَانَتْ حَرِيرًا مَحْضًا قُلْتُ: الَّذِي يَتَبَيَّنُ أَنَّ السِّيَرَاءَ قَدْ تَكُونُ حَرِيرًا صِرْفًا وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ مَحْضٍ، فَالَّتِي فِي قِصَّةِ عُمَرَ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ حَرِيرٍ مَحْضٍ وَلِهَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِهِ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ، وَالَّتِي فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ لَمْ تَكُنْ حَرِيرًا صِرْفًا لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُلَّةٌ مُسَيَّرَةٌ بِحَرِيرٍ إِمَّا سُدَاهَا أَوْ لُحْمَتُهَا. فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيَّ فَقُلْتُ: مَا أَصْنَعُ بِهَا، أَلْبَسُهَا؟ قَالَ: لَا أَرْضَى لَكَ إِلَّا مَا أَرْضَى لِنَفْسِي، وَلَكِنِ اجْعَلْهَا خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ هُبَيْرَةَ فَقَالَ فِيهِ: حُلَّةً مِنْ حَرِيرٍ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي فَاخِتَةَ وَهُوَ بِفَاءٍ وَمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ عِلَاقَةَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ ثُمَّ قَافٍ، ثِقَةٌ، وَلَمْ يَقَعْ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ وَعِيدٌ عَلَى لُبْسِهَا كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ، بَلْ فِيهِ لَا أَرْضَى لَكَ إِلَّا مَا أَرْضَى لِنَفْسِي وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْكَ لُبْسِ مَا خَالَطَهُ الْحَرِيرُ أَوْلَى مِنْ لُبْسِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَوَافَقَهُ الزُّبَيْدِيُّ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ مَسِّ الْحَرِيرِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَالْأَوَّلِ، وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوُهُ لَكِنْ قَالَ زَيْنَبَ بَدَلَ أُمِّ كُلْثُومٍ، وَالْمَحْفُوظُ مَا قَالَ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ غَفَلَ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ: إِنْ كَانَ أَنَسٌ رَأَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُعَارِضُ حَدِيثُ عُقْبَةَ، يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ الْحَرِيرَ وَالْحُلَّةَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ حَدِيثِ عُقْبَةَ، كَذَا قَالَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ مَاتَتْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ زَيْنَبُ فَبَطَلَ التَّرَدُّدُ، وَأَمَّا دَعْوَى الْمُعَارَضَةِ فَمَرْدُودَةٌ، وَكَذَا النَّسْخُ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ بِحَمْلِ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَإِقْرَارُ أُمِّ كُلْثُومٍ عَلَى ذَلِكَ إِمَّا لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَإِمَّا لِكَوْنِهَا كَانَتْ إِذْ ذَاكَ صَغِيرَةً، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إِشْكَالَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ لَهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ كَانَتْ كَبِيرَةً فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْحِجَابِ أَوْ بَعْدَهُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَةِ الثَّوْبِ عَلَى اللَّابِسِ رُؤْيَةُ اللَّابِسِ فَلَعَلَّهُ رَأَى ذَيْلَ الْقَمِيصِ مَثَلًا، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّ

ص: 300

السِّيَرَاءَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْحَرِيرِ الصِّرْفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حُلَّةِ عَلِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّوْبُ حَرِيرًا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ، وَفِي الْأَوَّلِ عَرْضُ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ وَالتَّابِعِ عَلَى الْمَتْبُوعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِهِ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ الطَّعْنِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَفِيهِ جَوَازُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ مُبَاشَرَةُ الصَّالِحِينَ وَالْفُضَلَاءِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِيهِ تَرْكُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِبَاسَ الْحَرِيرِ وَهَذَا فِي الدُّنْيَا. وَإِرَادَةُ تَأْخِيرِ الطَّيِّبَاتِ إِلَى الْآخِرَةِ الَّتِي لَا انْقِضَاءَ لَهَا، إِذْ تَعْجِيلُ الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مِنَ الْحَزْمِ، فَزَهِدَ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ، وَأَمَرَ بِذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ سَرَفٍ وَحَرَّمَهُ.

وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ تَرْكَهُ صلى الله عليه وسلم لُبْسَ الْحَرِيرِ إِنَّمَا هُوَ لِاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا الزُّهْدُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي خَالِصِ الْحَلَالِ وَمَا لَا عُقُوبَةَ فِيهِ، فَالتَّقَلُّلُ مِنْهُ وَتَرْكُهُ مَعَ الْإِمْكَانِ هُوَ الَّذِي تَتَفَاضَلُ فِيهِ دَرَجَاتُ الزُّهَّادِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ مُرَادَ ابْنِ بَطَّالٍ بَيَانُ سَبَبِ التَّحْرِيمِ فَيَسْتَقِيمُ مَا قَالَهُ. وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الرِّجَالِ الثِّيَابَ الْحَرِيرَ وَتَصَرُّفِهِمْ فِيهَا بِالْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ لَا اللُّبْسِ. وَفِيهِ جَوَازُ صِلَةِ الْقَرِيبِ الْكَافِرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ بِالْهَدِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ جَوَازُ الْهَدِيَّةِ لِلْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ حَرْبِيًّا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عُطَارِدًا إِنَّمَا وَفَدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَلَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ مُشْرِكٌ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ وِفَادَةِ عُطَارِدٍ سَنَةَ تِسْعٍ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ الْحُلَّةِ كَانَتْ حِينَئِذٍ؛ جَازَ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ ذَلِكَ.

وَمَا زَالَ الْمُشْرِكُونَ يَقْدَمُونَ الْمَدِينَةَ وَيُعَامِلُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَنَةَ الْوُفُودِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْفَتْحِ وَحَجِّ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّ مَنْعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَكَّةَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَفِيهَا وَقَعَ النَّهْيُ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مُخَاطَبًا بِالْفُرُوعِ لِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا مُنِعَ مِنْ لُبْسِ الْحُلَّةِ أَهْدَاهَا لِأَخِيهِ الْمُشْرِكِ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَخَاهُ بِلُبْسِهَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِ كَمَا وَقَعَ فِي حَقِّ عُمَرَ فَيَنْتَفِعُ بِهَا بِالْبَيْعِ أَوْ كِسْوَةِ النِّسَاءِ وَلَا يَلْبَسُ هُوَ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ عِنْدَهُ مِنَ الْوَازِعِ الشَّرْعِيِّ مَا يَحْمِلُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْكَفِّ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّ كُفْرَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى عَدَمِ الْكَفِّ عَنْ تَعَاطِي الْمُحَرَّمِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ لُبْسُهُ لَمَا أَهْدَى لَهُ لِمَا فِي تَمْكِينِهِ مِنَ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ ثَمَّ يَحْرُمُ بَيْعُ الْعَصِيرِ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا وَإِنِ احْتَمَلَ أَنَّهُ قَدْ يَشْرَبُهُ عَصِيرًا، وَكَذَا بَيْعُ الْغُلَامِ الْجَمِيلِ مِمَّنْ يُشْتَهَرُ بِالْمَعْصِيَةِ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كان عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَتَكُونَ مَشْرُوعِيَّةُ خِطَابِ الْكَافِرِ بِالْفُرُوعِ تَرَاخَتْ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌31 - بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَجَوَّزُ مِنْ اللِّبَاسِ وَالْبُسْطِ

5843 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَبِثْتُ سَنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلْتُ أَهَابُهُ، فَنَزَلَ يَوْمًا مَنْزِلًا، فَدَخَلَ الْأَرَاكَ، فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلْتُهُ، فَقَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئًا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَذَكَرَهُنَّ اللَّهُ رَأَيْنَا لَهُنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ نُدْخِلَهُنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي كَلَامٌ فَأَغْلَظَتْ لِي فَقُلْتُ لَهَا: وَإِنَّكِ لَهُنَاكِ؟ قَالَتْ تَقُولُ: هَذَا لِي، وَابْنَتُكَ تُؤْذِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُ حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: إِنِّي أُحَذِّرُكِ أَنْ تَعْصِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَتَقَدَّمْتُ إِلَيْهَا فِي أَذَاهُ، فَأَتَيْتُ

ص: 301

أُمَّ سَلَمَةَ فَقُلْتُ لَهَا. فَقَالَتْ: أَعْجَبُ مِنْكَ يَا عُمَرُ، قَدْ دَخَلْتَ فِي أُمُورِنَا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ، فَرَدَّدَتْ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إِذَا غَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدْتُهُ أَتَيْتُهُ بِمَا يَكُونُ، وَإِذَا غِبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدَ أَتَانِي بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ مَنْ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ اسْتَقَامَ لَهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَلِكُ غَسَّانَ بِالشَّامِ كُنَّا نَخَافُ أَنْ يَأْتِيَنَا، فَمَا شَعَرْتُ إِلَّا بِالْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ.

قُلْتُ لَهُ: وَمَا هُوَ؟ أَجَاءَ الْغَسَّانِيُّ؟ قَالَ: أَعْظَمُ مِنْ ذَاكَ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، فَجِئْتُ فَإِذَا الْبُكَاءُ في حُجَرِهِنَّ كُلِّهن، وَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ صَعِدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ، وَعَلَى بَابِ الْمَشْرُبَةِ وَصِيفٌ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِي، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِذَا أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ وَقَرَظٌ، فَذَكَرْتُ الَّذِي قُلْتُ لِحَفْصَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَالَّذِي رَدَّتْ عَلَيَّ أُمُّ سَلَمَةَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَبِثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ.

5844 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتْنَةِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكَانَتْ هِنْدٌ لَهَا أَزْرَارٌ فِي كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَجَوَّزُ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْبَسْطِ) مَعْنَى قَوْلِهِ: يَتَجَوَّزُ يَتَوَسَّعُ فَلَا يُضَيِّقُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى صِنْفٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ لَا يُضَيِّقُ بِطَلَبِ النَّفِيسِ وَالْغَالِي، بَلْ يَسْتَعْمِلُ مَا تَيَسَّرَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَتَجَزَّى بِجِيمٍ وَزَايٍ أَيْضًا لَكِنَّهَا ثَقِيلَةٌ مَفْتُوحَةٌ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَهِيَ أَوْضَحُ، وَالْبَسْطُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مَا يُبْسَطُ وَيُجْلَسُ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الطَّلَاقِ مُسْتَوْفًى وَالْغَرَضُ مِنْهُ نَوْمُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: مِرْفَقَةٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ بَعْدَهَا قَافٌ مَا يُرْتَفَقُ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِلَفْظِ وِسَادَةٍ وَقَوْلُهُ: فَلما شَعَرْتُ بِالْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ يَقُولُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَمَا شَعَرْتُ إِلَّا بِالْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ يَقُولُ وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهُ فَمَا شَعَرْتُ بِالْأَنْصَارِيِّ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: سَقَطَ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جُلِّ النُّسَخِ بَلْ مِنْ كُلِّهَا، وَهُوَ مُقَدَّرٌ وَالْقَرِينَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ مَا زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ شَعَرْتُ بِالْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ يَقُولُ، أَوْ مَا مَصْدَرِيَّةٌ وَتَكُونُ هِيَ الْمُبْتَدَأَ وَبِالْأَنْصَارِيِّ الْخَبَرُ، أَيْ شُعُورِي مُتَلَبِّسٌ بِالْأَنْصَارِيِّ قَائِلًا. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً عَلَى حَالِهَا بِغَيْرِ احْتِيَاجٍ لِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ شُعُورِهِ بِكَلَامِ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ شِدَّةِ مَا دَهَمَهُ مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي أُخْبِرَ بِهِ، وَيَكُونُ قَدِ اسْتَثْبَتَهُ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلِذَلِكَ نَقَلَهُ عَنْهُ، لَكِنَّ رِوَايَةَ الْكُشْمِيهَنِيِّ تُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ وَتُوَضِّحُ أَنَّ قَوْلَ

ص: 302

الْكِرْمَانِيِّ بَلْ كُلَّهَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: وَعَلَى بَابِ الْمَشْرُبَةِ وَصِيفٌ بِمُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ وَزْنُ عَظِيمٍ هُوَ الْغُلَامُ دُونَ الْبُلُوغِ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ بَلَغَ الْخِدْمَةَ، يُقَالُ وُصِفَ الْغُلَامُ بِالضَّمِّ وَصَافَةً.

وَقَوْلُ عُمَرَ: فَتَقَدَّمْتُ إِلَيْهَا فِي أَذَاهُ أَيْ أَنْذَرْتُهَا مِنْ أَذَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَقَعُ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِسَبَبِ أَذَاهُ.

قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَتْ هِنْدٌ لَهَا أَزْرَارٌ فِي كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي، قَوْلُهُ:(كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ قَرَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نُزُولَ الْخَزَائِنِ بِالْفِتْنَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا تَسَبَّبُ عَنْهَا، وَإِلَى أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْأَمْرِ خَيْرٌ مِنَ الْإِكْثَارِ وَأَسْلَمُ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَمُطَابَقَةُ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ هَذَا لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَذَّرَ مِنْ لِبَاسِ الرَّقِيقِ مِنَ الثِّيَابِ الْوَاصِفَةِ لِأَجْسَامِهِنَّ لِئَلَّا يُعَرَّيْنَ فِي الْآخِرَةِ، وَفِيمَا حَكَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ هِنْدٍ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَالَ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الشَّفَّافَةَ لِأَنَّهُ إِذَا حَذَّرَ مِنْ لُبْسِهَا مِنْ ظُهُورِ الْعَوْرَةِ كَانَ أَوْلَى بِصِفَةِ الْكَمَالِ مِنْ غَيْرِهِ اهـ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: كَاسِيَةٍ عَارِيَةٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثَانِ دَالَّيْنِ عَلَى التَّرْجَمَةِ بِالتَّوْزِيعِ. فَحَدِيثُ عُمَرَ مُطَابِقٌ لِلْبَسْطِ وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ مُطَابِقٌ لِلِّبَاسِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ يَتَجَزَّى أَيْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ وَبِأَهْلِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَتْ هِنْدٌ لَهَا أَزْرَارٌ فِي كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَى الزُّهْرِيِّ، وَقَوْلُهُ: أَزْرَارٌ وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ إِزَارٌ بِرَاءٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ غَلَطٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ تَخْشَى أَنْ يَبْدُوَ مِنْ جَسَدِهَا شَيْءٌ بِسَبَبِ سَعَةِ كُمَّيْهَا فَكَانَتْ تُزَرِّرُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَبْدُوَ مِنْهُ شَيْءٌ فَتَدْخُلَ فِي قَوْلِهِ كَاسِيَةٍ عَارِيَةٌ.

‌32 - بَاب مَا يُدْعَى لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا

5845 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ خَالِدٍ بِنْتُ خَالِدٍ، قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ قَالَ: مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ؟ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ قَالَ: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ فَأُتِيَ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ وَقَالَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي مَرَّتَيْنِ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ وَيَقُولُ: يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ الْحَسَنُ. قَالَ إِسْحَاقُ: حَدَّثَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِي أَنَّهَا رَأَتْهُ عَلَى أُمِّ خَالِدٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُدْعَى لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا) كَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ ثَوْبًا فَقَالَ: الْبَسْ جَدِيدًا، وَعِشْ حَمِيدًا، وَمُتْ شَهِيدًا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ. وَجَاءَ أَيْضًا فِيمَا يَدْعُو بِهِ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ عِمَامَةً أَوْ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَفَعَهُ مَنْ لَبِسَ جَدِيدًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي، وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي - ثُمَّ عَمَدَ إِلَى الثَّوْبِ الَّذِي أَخْلَقَ فَتَصَدَّقَ بِهِ - كَانَ فِي حِفْظِ اللَّهِ وَفِي كَنَفِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رَفَعَهُ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ

وَحَدِيثُ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا

ص: 303

الْبَابِ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ الْخَمِيصَةِ السَّوْدَاءِ قَرِيبًا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا: أَبْلِي وَأَخْلِقِي هَلْ بِالْقَافِ أَوِ الْفَاءِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ لَا يُنَافِي مَا وَقَعَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا قَمِيصٌ أَصْفَرُ، لِأَنَّ الْقَمِيصَ كَانَ عَلَيْهَا لَمَّا جِيءَ بِهَا، وَالْخَمِيصَةُ هِيَ الَّتِي كُسِيَتْهَا. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ قَالَ إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: حَدَّثَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِي لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا، وَقَوْلُهُ إِنَّهَا رَأَتْهُ عَلَى أُمِّ خَالِدٍ أَيِ الثَّوْبَ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَقِيَ زَمَانًا طَوِيلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا فِي بَابِ الْخَمِيصَةِ.

‌33 - بَاب النَّهْيِ عَنْ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ

5846 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ) أَيْ فِي الْجَسَدِ، لِأَنَّهُ تَرْجَمَ بَعْدَهُ بَابَ الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ وَقَيَّدَهُ بِالرَّجُلِ لِيُخْرِجَ الْمَرْأَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ) هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ) كَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الْوَارِثِ وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ مُقَيَّدًا، وَوَافَقَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مُطْلَقًا فَقَالَ: نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ وَكَأَنَّهُ اخْتَصَرَهُ وَإِلَّا فَقَدْ رَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ فَوْقَ الْعَشَرَةِ مِنَ الْحُفَّاظِ مُقَيَّدًا بِالرَّجُلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِسْمَاعِيلُ اخْتَصَرَهُ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ شُعْبَةَ وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَرِوَايَةُ شُعْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ. وَاخْتُلِفَ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّزَعْفُرِ هَلْ هُوَ لِرَائِحَتِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ طِيبِ النِّسَاءِ وَلِهَذَا جَاءَ الزَّجْرُ عَنِ الْخَلُوقِ؟ أَوْ لِلَوْنِهِ فَيَلْتَحِقُ بِهِ كُلُّ صُفْرَةٍ؟ وَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَنْهَى الرَّجُلَ الْحَلَالَ بِكُلِّ حَالٍ أَنْ يَتَزَعْفَرَ، وَآمُرُهُ إِذَا تَزَعْفَرَ أَنْ يَغْسِلَهُ. قَالَ: وَأُرَخِّصُ فِي الْمُعَصْفَرِ لِأَنَّنِي لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَحْكِي عَنْهُ إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ نَهَانِي وَلَا أَقُولُ أَنْهَاكُمْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ وَرَدَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ، وَسَاقَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر وقَالَ: رَأَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهُمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ فَقُلْتُ أَغْسِلُهُمَا؟ قَالَ لَا بَلِ أحْرِقْهُمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فَلَوْ بَلَغَ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّ لَقَالَ بِهِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ كَعَادَتِهِ.

وَقَدْ كَرِهَ الْمُعَصْفَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَرَخَّصَ فِيهِ جَمَاعَةٌ، وَمِمَّنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْحَلِيمِيُّ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ هُوَ الْأَوْلَى اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَتْقَنَ الْبَيْهَقِيُّ الْمَسْأَلَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِي الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ فِي الْبُيُوتِ وَكَرِهَهُ فِي الْمَحَافِلِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصُّفْرَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ تَزَوَّجَ وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، وَتَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَلُوقَ كَانَ فِي ثَوْبِهِ عَلِقَ بِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي جَسَدِهِ، وَالْكَرَاهَةُ لِمَنْ تَزَعْفَرَ فِي بَدَنِهِ أَشَدُّ مِنَ الْكَرَاهَةِ لِمَنْ تَزَعْفَرَ فِي ثَوْبِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ سَلْمٍ الْعَلَوِيِّ، عَنْ أَنَسٍ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ أَثَرُ - صُفْرَةٍ، فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَلَّمَا كَانَ يُوَاجِهُ أَحَدًا بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ: لَوْ أَمَرْتُمْ هَذَا أَنْ يَتْرُكَ هَذِهِ الصُّفْرَةَ وَسَلْمٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ فِيهِ لِينٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ رَفَعَهُ لَا تَحْضُرُ الْمَلَائِكَةُ جِنَازَةَ كَافِرٍ وَلَا مُضَمَّخٍ بِالزَّعْفَرَانِ وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى أَهْلِي لَيْلًا وَقَدْ تَشَقَّقَتْ يَدَايَ، فَخَلَقُونِي بِزَعْفَرَانٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُرَحِّبْ بِي وَقَالَ اذْهَبْ

ص: 304

فَاغْسِلْ عَنْكَ هَذَا.

‌34 - بَاب الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ

5847 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ أَوْ بِزَعْفَرَانٍ.

قَوْلُهُ (بَابُ الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ) ذكر فيه حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ

كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَقَدْ أُخِذَ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالْمُحْرِمِ جَوَازُ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ لِلْحَلَالِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجَازَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ لِبَاسَ الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ لِلْحَلَالِ وَقَالُوا: إِنَّمَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ لِلْمُحْرِمِ خَاصَّةً، وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ عَلَى الْمُحْرِمِ وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي فِي بَابِ النِّعَالِ السِّبْتِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مَصْبُوغَانِ بِالزَّعْفَرَانِ وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيُّ وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَبَغَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ بِزَعْفَرَانٍ، وَفِيهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ، وَمِنَ الْمُسْتَغْرَبِ قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: لَمْ يَرِدْ فِي الثَّوْبِ الْأَصْفَرِ حَدِيثٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ كَمَا تَرَى، قَالَ الْمُهَلَّبُ: الصُّفْرَةُ أَبْهَجُ الْأَلْوَانِ إِلَى النَّفْسِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}

قَوْلُهُ: (بَابُ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرْبُوعًا، وَرَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَتَمَّ سِيَاقًا مِنْ هَذَا.

‌35 - بَاب الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ

5848 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعَ الْبَرَاءَ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرْبُوعًا، وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ (سَمِعَ الْبَرَاءَ) هُوَ ابْنُ عَازِبٍ، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَخَالَفَهُم أَشْعَثُ فَقَالَ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَعَلَّهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَنُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ صَحِيحَانِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ قَرِيبًا، وَيَأْتِي وَفِيهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ أَيْضًا. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِمِنًى عَلَى بَعِيرٍ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ أَحْمَرُ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ نَحْوُهُ لَكِنْ قَالَ: بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّزَعْفُرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَصْفَرِ، فَإِنَّ غَالِبَ مَا يُصْبَغُ بِالْعُصْفُرِ يَكُونُ أَحْمَرَ.

وَقَدْ تَلَخَّصَ لَنَا مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي لُبْسِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَالْبَرَاءِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَأَبِي وَائِلٍ وَطَائِفَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُفَدَّمِ وَهُوَ بِالْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَهُوَ الْمُشْبَعُ بِالْعُصْفُرِ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى عَلَى الرّجالِ ثَوْبًا مُعَصْفَرًا جَذَبَهُ وَقَالَ: دَعُوا هَذَا

ص: 305

لِلنِّسَاءِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ الْحُمْرَةُ مِنْ زِينَةِ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ، وَصَلَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَدِيٍّ، وَمَنْ طَرِيقِ الْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ يَزِيدَ الثَّقَفِيِّ رَفَعَهُ: إنَّ الشَّيْطَانَ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ، وَكُلَّ ثَوْبٍ ذِي شُهْرَةٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَأَدْخَلَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَرَافِعٍ رَجُلًا، فَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ وَبَالَغَ الْجَوْزَقَانِيُّ فَقَالَ إِنَّهُ بَاطِلٌ، وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى كِتَابِ الْجَوْزَقَانِيِّ الْمَذْكُورِ وَتَرْجَمَهُ بِالْأَبَاطِيلِ وَهُوَ بِخَطِّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَقَدْ تَبِعَهُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي أَكْثَرِ كِتَابِهِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ لَكِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ فَأَصَابَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْبَزَّارُ وَقَالَ: لَا نَعْلَمُهُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِيهِ أَبُو يَحْيَى الْقَتَّاتُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَرَأَى عَلَى رَوَاحِلِنَا أَكْسِيَةً فِيهَا خُطُوطُ عِهْنٍ حُمْرٌ فَقَالَ: أَلَا أَرَى هَذِهِ الْحُمْرَةَ قَدْ غَلَبَتْكُمْ، قَالَ فَقُمْنَا سِرَاعًا فَنَزَعْنَاهَا حَتَّى نَفَرَ بَعْضُ إِبِلنَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي سَنَدِهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ، وَعَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ زَيْنَبَ أُمِّ

الْمُؤْمِنِينَ وَنَحْنُ نَصْبُغُ ثِيَابًا لَهَا بِمَغْرَةٍ، إِذْ طَلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى الْمَغْرَةَ رَجَعَ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ غَسَلَتْ ثِيَابَهَا وَوَارَتْ كُلَّ حُمْرَةٍ، فَجَاءَ فَدَخَلَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُكْرَهُ لُبْسُ الثَّوْبِ الْمُشْبَعِ بِالْحُمْرَةِ دُونَ مَا كَانَ صَبْغُهُ خَفِيفًا، جَاءَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَكَأَنَّ الْحُجَّةَ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ قَرِيبًا فِي الْمُفَدَّمِ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: يُكْرَهُ لُبْسُ الْأَحْمَرِ مُطْلَقًا لِقَصْدِ الزِّينَةِ وَالشُّهْرَةِ، وَيَجُوزُ فِي الْبُيُوتِ وَالْمِهْنَةِ، جَاءَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي بَابِ التَّزَعْفُرِ.

الْقَوْلُ الْخَامِسُ: يَجُوزُ لُبْسُ مَا كَانَ صُبِغَ غَزْلُهُ ثُمَّ نُسِجَ، وَيُمْنَعُ مَا صُبِغَ بَعْدَ النَّسْجِ، جَنَحَ إِلَى ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْحُلَّةَ الْوَارِدَةَ فِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي لُبْسِهِ صلى الله عليه وسلم الْحُلَّةُ الْحَمْرَاءُ إِحْدَى حُلَلِ الْيَمَنِ، وَكَذَلِكَ الْبُرْدُ الْأَحْمَرُ، وَبُرُودُ الْيَمَنِ يُصْبَغُ غَزْلُهَا ثُمَّ يُنْسَجُ.

الْقَوْلُ السَّادِسُ: اخْتِصَاصُ النَّهْيِ بِمَا يُصْبَغُ بِالْمُعَصْفَرِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا يُمْنَعُ مَا صُبِغَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَصْبَاغِ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ الْمُتَقَدِّمُ.

الْقَوْلُ السَّابِعُ: تَخْصِيصُ الْمَنْعِ بِالثَّوْبِ الَّذِي يُصْبَغُ كُلُّهُ؛ وَأَمَّا مَا فِيهِ لَوْنٌ آخَرُ غَيْرُ الْأَحْمَرِ مِنْ بَيَاضٍ وَسَوَادٍ وَغَيْرِهِمَا فَلَا، وَعَلَى ذَلِكَ تُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْحُلَّةِ الْحَمْرَاءِ فَإِنَّ الْحُلَلَ الْيَمَانِيَّةَ غَالِبًا تَكُونُ ذَاتَ خُطُوطٍ حُمْرٍ وَغَيْرِهَا، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَلْبَسُ ثَوْبًا مُشْبَعًا بِالْحُمْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَتْبَعُ السُّنَّةَ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ وَالْبُرْدُ لَا يُصْبَغُ أَحْمَرَ صِرْفًا. كَذَا قَالَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ غَالِبَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: الَّذِي أَرَاهُ جَوَازُ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ بِكُلِّ لَوْنٍ، إِلَّا أَنِّي لَا أُحِبُّ لُبْسَ مَا كَانَ مُشْبَعًا بِالْحُمْرَةِ وَلَا لُبْسَ الْأَحْمَرِ مُطْلَقًا ظَاهِرًا فَوْقَ الثِّيَابِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ لِبَاسِ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّ مُرَاعَاةَ زِيِّ الزَّمَانِ مِنَ الْمُرُوءَةِ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، وَفِي مُخَالَفَةِ الزِّيِّ ضَرْبٌ مِنَ الشُّهْرَةِ، وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُلَخَّصَ مِنْهُ قَوْلٌ ثَامِنٌ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ لُبْسِ الْأَحْمَرِ إِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لُبْسُ الْكُفَّارِ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ كَمَا سَيَأْتِي، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ زِيُّ النِّسَاءِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الزَّجْرِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ لَا لِذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ الشُّهْرَةِ أَوْ خَرْمِ الْمُرُوءَةِ فَيُمْنَعُ حَيْثُ يَقَعُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَيَقْوَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَحَافِلِ وَالْبُيُوتِ.

‌36 - بَاب الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ

ص: 306

5849 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ؛ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَهَانَا عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَالْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ)

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَشْعَثَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَالْمَيَاثِرِ الْحُمُرِ فَالْحَرِيرُ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَالدِّيبَاجُ وَالْإِسْتَبْرَقُ صِنْفَانِ نَفِيسَانِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمَيَاثِرُ فَهِيَ جَمْعُ مِيثَرَةٍ تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا فِي بَابِ لُبْسِ الْقَسِّيِّ

وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نُهِيَ عَنِ الْمَيَاثِرِ الْأُرْجُوَانِ هَكَذَا عِنْدَهُمْ بِلَفْظِ نُهِيَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ بِتَحْتَانِيَّةٍ أَوَّلُهُ وَزْنُ عَظِيمٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَيَاثِرُ الْحُمْرُ الَّتِي جَاءَ النَّهْيُ عَنْهَا كَانَتْ مِنْ مَرَاكِبِ الْعَجَمِ مِنْ دِيبَاجٍ وَحَرِيرٍ.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ هِيَ وِعَاءٌ يُوضَعُ عَلَى سَرْجِ الْفَرَسِ أَوْ رَحْلِ الْبَعِيرِ مِنَ الْأُرْجُوَانِ وَحَكَى فِي الْمَشَارِقِ قَوْلًا أَنَّهَا سُرُوجٌ مِنْ دِيبَاجٍ، وَقَوْلًا أَنَّهَا أَغْشِيَةٌ لِلسُّرُوجِ مِنْ حَرِيرٍ، وَقَوْلًا أَنَّهَا تُشْبِهُ الْمِخَدَّةَ تُحْشَى بِقُطْنٍ أَوْ رِيشٍ يَجْعَلُهَا الرَّاكِبُ تَحْتَهُ، وَهَذَا يُوَافِقُ تَفْسِيرَ الطَّبَرِيِّ، وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَكُونَ مُتَخَالِفَةً بَلِ الْمِيثَرَةُ تُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا، وَتَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدٍ يَحْتَمِلُ الثَّانِي وَالثَّالِثَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمِيثَرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَرِيرٍ فَالنَّهْيُ فِيهَا كَالنَّهْيِ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَقْيِيدُهَا بِالْأَحْمَرِ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْحَرِيرِ فَيَمْتَنِعُ إِنْ كَانَتْ حَرِيرًا، وَيَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ إِنْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ حَمْرَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ حَرِيرٍ فَالنَّهْيُ فِيهَا لِلزَّجْرِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَلَامُ الطَّبَرِيِّ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فِي الْمَنْعِ مِنَ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ حَرِيرٍ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ حَرِيرٍ لِلتَّشَبُّهِ أَوِ لِلسَّرَفِ أَوِ التَّزَيُّنِ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ تَفْصِيلُ الْكَرَاهَةِ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالتَّنْزِيهِ، وَأَمَّا تَقْيِيدُهَا بِالْحُمْرَةِ فَمَنْ يَحْمِلِ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ - وَهُمُ الْأَكْثَرُ - يَخُصَّ الْمَنْعَ بِمَا كَانَ أَحْمَرَ، وَالْأُرْجُوَانُ الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْجِيمِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ وَاوٌ خَفِيفَةٌ، وَحَكَى عِيَاضٌ ثُمَّ الْقُرْطُبِيُّ فَتْحَ الْهَمْزَةِ وَأَنْكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَصَوَّبَ أَنَّ الضَّمَّ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ،

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِ فَقِيلَ هُوَ صِبْغٌ أَحْمَرُ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ وَهُوَ نَوْرُ شَجَرٍ مِنْ أَحْسَنِ الْأَلْوَانِ، وَقِيلَ: الصُّوفُ الْأَحْمَرُ، وَقِيلَ: كُلُّ شَيْءٍ أَحْمَرُ فَهُوَ أُرْجُوَانٌ. وَيُقَالُ ثَوْبٌ أُرْجُوَانٌ وَقَطِيفَةٌ أُرْجُوَانٌ، وَحَكَى السِّيرَافِيُّ أَحْمَرُ أُرْجُوَانٌ فَكَأَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحُمْرَةِ كَمَا يُقَالُ أَبْيَضُ بققٌ وَأَصْفَرُ فَاقِعٌ، وَاخْتَلَفُوا هَلِ الْكَلِمَةُ عَرَبِيَّةٌ أَوْ مُعَرَّبَةٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِاخْتِصَاصِ النَّهْيِ بِالْأَحْمَرِ مِنَ الْمَيَاثِرِ فَالْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْهَا مَا فِي غَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَخْتَصُّ بِالْأَحْمَرِ فَالْمَعْنِيُّ بِالنَّهْيِ عَنْهَا مَا فِيهِ مِنَ التَّرَفُّهِ، وَقَدْ يَعْتَادُهَا الشَّخْصُ فَتَعُوزُهُ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ تَرْكُهَا فَيَكُونُ النَّهْيُ نَهْيَ إِرْشَادٍ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَإِنْ قُلْنَا لنَّهْيُ عَنْهَا مِنْ أَجْلِ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ فَهُوَ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ، لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ شِعَارُهُمْ حِينَئِذٍ وَهُمْ كُفَّارٌ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَصِرِ الْآنَ يَخْتَصُ بِشِعَارِهِمْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَتَزُولُ الْكَرَاهَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌37 - بَاب النِّعَالِ السِّبْتِيَّةِ وَغَيْرِهَا

ص: 307

5850 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّاد، عَنْ سَعِيدٍ أَبِي مَسْلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا، أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

5851 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا، قَالَ: مَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ، قَالَ: رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ، وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ، وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ.

5852 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.

5853 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِزَارٌ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ النِّعَالِ) جَمْعُ نَعْلٍ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْآنَ تَاسُومَةً، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. النَّعْلُ لِبَاسُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَ النَّاسُ غَيْرَهَا لِمَا فِي أَرْضِهِمْ مِنَ الطِّينِ، وَقَدْ يُطْلَقُ النَّعْلُ عَلَى كُلِّ مَا يَقِي الْقَدَمَ. قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ. النَّعْلُ وَالنَّعْلَةُ مَا وُقِيَتْ بِهِ الْقَدَمُ.

قَوْلُهُ: (السِّبْتِيَّةُ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى السَّبْتِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هِيَ الْمَدْبُوغَةُ، وَنُقِلَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَعَنِ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، زَادَ الشَّيْبَانِيُّ بِالْقَرَظِ، قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا الَّتِي حُلِقَ عَنْهَا الشَّعْرُ. قُلْتُ: أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَالِكٍ نَقَلَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ وَوَافَقَهُ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ لَفْظِ السَّبْتِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْقَطْعُ فَالْحَلْقُ بِمَعْنَاهُ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ جَوَابُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ، وَقَدْ وَافَقَ الْأَصْمَعِيُّ، الْخَلِيلَ وَقَالُوا: قِيلَ لَهَا سِبْتِيَّةٌ لِأَنَّهَا تَسَبَّتَتْ بِالدِّبَاغِ أَيْ لَانَتْ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَلْبَسُ النِّعَالَ الْمَدْبُوغَةَ إِلَّا أَهْلُ السَّعَةِ، وَاسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِشِعْرٍ، وَذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوْلُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الصَّلَاةِ فِي النَّعْلَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الصَّلَاةِ.

الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ وَهُمَا تَابِعِيَّانِ مَدَنِيَّانِ.

قَوْلُهُ: (رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا) فَذَكَرَهَا، فَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى مَسِّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ فَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ

ص: 308

فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ الْإِهْلَالُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَأَمَّا الصَّبْغُ بِالصُّفْرَةِ فَتَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّزَعْفُرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ تُصَفِّرُ بِالْوَرْسِ وَأَمَّا لُبْسُ النِّعَالِ السِّبْتِيَّةِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ هُنَا، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ يُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ مَالِكٍ الْمَذْكُورَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: السِّبْتِيَّةُ الَّتِي دُبِغَتْ بِالْقَرَظِ وَهِيَ الَّتِي سُبِّتَ مَا عَلَيْهَا مِنْ شَعْرٍ أَيْ حُلِقَ، قَالَ: وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الشَّعْرَ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الدِّبَاغُ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِذَلِكَ، وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي لِبَاسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَمَحَبَّتِهِ لِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ لُبْسِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُكْرَهُ لُبْسُهَا فِي الْمَقَابِرِ لِحَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي فِي الْمَقَابِرِ عَلَي نَعْلَانِ إِذَا رَجُلٌ يُنَادِي مِنْ خَلْفِي: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ إِذَا كُنْتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَاحْتُجَّ بِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِخَلْعِهِمَا لِأَذًى فِيهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ النِّعَالِ فِي الْمَقَابِرِ، قَالَ: وَثَبَتَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي نَعْلَيْهِ،

قَالَ: فَإِذَا جَازَ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِالنَّعْلِ فَالْمَقْبَرَةُ أَوْلَى. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِإِكْرَامِ الْمَيِّتِ كَمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ، وَلَيْسَ ذِكْرُ السِّبْتِيَّتَيْنِ لِلتَّخْصِيصِ بَلِ اتَّفَقَ ذَلِكَ وَالنَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَشْيِ عَلَى الْقُبُورِ بِالنِّعَالِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ، وَفِيهِ ذِكْرُ النَّعْلَيْنِ، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اسْتِحْبَابُ لُبْسِ النَّعْلِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: اسْتَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ، أَيْ أنَّهُ شَبِيهٌ بِالرَّاكِبِ فِي خِفَّةِ الْمَشَقَّةِ وَقِلَّةِ التَّعَبِ وَسَلَامَةِ الرِّجْلِ مِنْ أَذَى الطَّرِيقِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا كَلَامٌ بَلِيغٌ وَلَفْظٌ فَصِيحٌ بِحَيْثُ لَا يُنْسَجُ عَلَى مِنْوَالِهِ وَلَا يُؤْتَى بِمِثَالِهِ، وَهُوَ إِرْشَادٌ إِلَى الْمَصْلَحَةِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا يُخَفِّفُ الْمَشَقَّةَ، فَإِنَّ الْحَافِيَ الْمُدِيمَ لِلْمَشْيِ يَلْقَى مِنَ الْآلَامِ وَالْمَشَقَّةِ بِالْعِثَارِ وَغَيْرِهِ مَا يَقْطَعُهُ عَنِ الْمَشْيِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى مَقْصُودِهِ كَالرَّاكِبِ فَلِذَلِكَ شُبِّهَ بِهِ.

‌38 - بَاب يَبْدَأُ بِالنَّعْلِ الْيُمْنَى

5854 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ يُبْدَأُ بِالنَّعْلِ الْيُمْنَى) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي طُهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تُرْجِمَ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌39 - بَاب لَا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ

5855 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ أَنَّ النَّعْلَ شُرِعَتْ لِوِقَايَةِ الرِّجْلِ عَمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ شَوْكٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَإِذَا انْفَرَدَتْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ

ص: 309

احْتَاجَ الْمَاشِي أَنْ يَتَوَقَّى لِإِحْدَى رِجْلَيْهِ مَا لَا يَتَوَقَّى لِلْأُخْرَى فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ سَجِيَّةِ مَشْيهِ، وَلَا يَأْمَنُ مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْعِثَارِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَ جَوَارِحِهِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ فَاعِلُ ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَالِ الرَّأْيِ أَوْ ضَعْفِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قِيلَ الْعِلَّةُ فِيهَا أَنَّهَا مِشْيَةُ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الِاعْتِدَالِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْكَرَاهَةُ فِيهِ لِلشُّهْرَةِ فَتَمْتَدُّ الْأَبْصَارُ لِمَنْ تَرَى ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الشُّهْرَةِ فِي اللِّبَاسِ، فَكُلُّ شَيْءٍ صَيَّرَ صَاحِبَهُ شُهْرَةً فَحَقُّهُ أَنْ يُجْتَنَبَ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُصْلِحَهَا، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: حَتَّى يُصْلِحَ نَعْلَهُ، وَلَهُ وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ أَوْ شِرَاكُهُ فَلَا يَمْشِ فِي إِحْدَاهُمَا بِنَعْلٍ وَالْأُخْرَى حَافِيَةً، لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا، فَهَذَا لَا مَفْهُومَ لَهُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى الْإِذْنِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَصْوِيرٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَهُوَ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، لِأَنَّهُ إِذَا مُنِعَ مَعَ الِاحْتِيَاجِ فَمَعَ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ أَوْلَى.

وَفِي هَذَا التَّقْرِيرِ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ حِينَ الضَّرُورَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهَا أَخَفُّ لِكَوْنِهَا لِلضَّرُورَةِ الْمَذْكُورَةِ لَكِنْ لِعِلَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِيهَا أَيْضًا، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى ضَعْفِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَشَى فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ حَتَّى يُصْلِحَهَا وَقَدْ رَجَّحَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَقْفَهُ عَلَى عَائِشَةَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: لَأُخِيفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ فَيَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا، وَكَأَنَّهَا لَمْ يَبْلُغْهَا النَّهْيُ، وَقَوْلُهَا: لَأُخِيفَنَّ مَعْنَاهُ لَأَفْعَلَنَّ فِعْلًا يُخَالِفُهُ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ فَرُوِيَ لَأُخَالِفَنَّ وَهُوَ أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ، وَرُوِيَ لَأَحْنَثَنَّ مِنَ الْحِنْثِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَاسْتُبْعِدَ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَلَغَهَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَلَفَ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ فَأَرَادَتِ الْمُبَالَغَةَ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَرُوِيَ لَأُخِيفَنَّ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ فَاءٌ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَقَدْ وَجَّهْتُ بِأَنَّ مُرَادَهَا أَنَّهُ إِذَا بَلَغَهُ أَنَّهَا خَالَفَتْهُ أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْهَا وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَعْلَمُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمَ، فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَزِينٍ خَرَجَ إِلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ فَقَالَ: أَمَّا إِنَّكُمْ تُحَدِّثُونَ أَنِّي أَكْذِبُ أتَهْتَدُوا وَأَضِلَّ، أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ وَافَقَ أَبَا هُرَيْرَةَ، جَابِرٌ عَلَى رَفْعِ الْحَدِيثِ، فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يُمْشَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ الْحَدِيثَ، وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشِمَالِهِ أَوْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُصْلِحَ شِسْعَهُ، وَلَا يَمْشِ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَأْخُذْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِرَأْيِ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ

يَكُونَ بَلَغَهُمَا النَّهْيُ فَحَمَلَاهُ عَلَى التَّنْزِيهِ أَوْ كَانَ زَمَنُ فِعْلِهِمَا يَسِيرًا بِحَيْثُ يُؤْمَنُ مَعَهُ الْمَحْذُورُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُمَا النَّهْيُ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَالشِّسْعُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ: السَّيْرُ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ إِصْبَعُ الرِّجْلِ مِنَ النَّعْلِ، وَالشِّرَاكُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ كَافٌ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ الَّتِي تَكُونُ فِي وَجْهِهَا، وَكِلَاهُمَا يَخْتَلُّ الْمَشْيُ بِفَقْدِهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ أَوْ خُفٍّ وَاحِدٍ أَثَرٌ لَمْ يَصِحَّ، أَوْ لَهُ تَأْوِيلٌ فِي الْمَشْيِ الْيَسِيرِ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُ الْأُخْرَى، وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: لَا يَمْشِ قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ أَجَازَ الْوُقُوفَ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ إِذَا عَرَضَ لِلنَّعْلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى إِصْلَاحِهَا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَنَقَلَ عِيَاضٌ،

ص: 310

عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: يَخْلَعُ الْأُخْرَى وَيَقِفُ إِذَا كَانَ فِي أَرْضٍ حَارَّةٍ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يَضُرُّ فِيهِ الْمَشْيُ حَتَّى يُصْلِحَهَا أَوْ يَمْشِيَ حَافِيًا إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْفَتْوَى، وَفِي الْأَثَرِ وَعَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِصُورَةِ الْجُلُوسِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ جَوَازُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي النَّهْيِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، إِلَّا مَا ذُكِرَ مِنْ إِرَادَةِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْجَوَارِحِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَرَادَ الْقَدَمَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمَا ذِكْرٌ وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ. وَيُنْعِلْهُمَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَنْ أَنْعَلَ، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: نَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا وَانْتَعَلَ أَيْ لَبِسَ النَّعْلَ، لَكِنْ قَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَيْضًا: أَنْعَلَ رِجْلَهُ أَلْبَسَهَا نَعْلًا، وَنَعَلَ دَابَّتَهُ جَعَلَ لَهَا نَعْلًا، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ أَنْعَلَ الدَّابَّةَ وَالْبَعِيرَ وَنَعَلَهُمَا بِالتَّشْدِيدِ وَكَذَا ضَبَطَهُ عِيَاضٌ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ غَسَّانَ تُنَعِّلُ الْخَيْلَ بِالضَّمِّ أَيْ تَجْعَلُ لَهَا نِعَالًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الضَّمِيرَ إِنْ كَانَ لِلْقَدَمَيْنِ جَازَ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ، وَإِنْ كَانَ لِلنَّعْلَيْنِ تَعَيَّنَ الْفَتْحُ.

قَوْلُهُ: (أَوْ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا، وَكَذَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَالَّذِي فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْمُوَطَّأِ كَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ، وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحٌ، وَعَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا، يَعُودُ عَلَى النَّعْلَيْنِ لِأَنَّ ذِكْرَ النَّعْلِ قَدْ تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (تَكْمِلَةٌ): قَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ لِبَاسٍ شَفْعٍ كَالْخُفَّيْنِ وَإِخْرَاجِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْكُمِّ دُونَ الْأُخْرَى وَالتَّرَدِّي عَلَى أَحَدِ الْمَنْكِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلَا خُفٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلْحَاقُ إِخْرَاجِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْكُمِّ وَتَرْكِ الْأُخْرَى بِلُبْسِ النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ وَالْخُفِّ الْوَاحِدِ بَعِيدٌ، إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الْجَوَارِحِ وَتَرْكِ الشُّهْرَةِ، وَكَذَا وَضْعُ طَرَفِ الرِّدَاءِ عَلَى أَحَدِ الْمَنْكِبَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌40 - باب ينزع نعله اليسرى

5856 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا انتزع فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ، لِتكُنْ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ.

قوله: (باب ينزع نعله اليسرى) وقع ذكر هذه الترجمة قبل التي قبلها عند الجميع إلا أبا ذر، ولكل منهما وجه.

قوله: إذا انتعل، أي لبس النعل.

قوله: باليمين، في رواية الكشميهني باليمنى.

قوله: وإذا انتزع، في رواية مسلم: وإذا خلع.

قوله: لتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع: زعم ابن وضاح فيما حكاه ابن التين أن هذا القدر مدرج وأن المرفوع انتهى عند قوله: بالشمال، وضبط قوله أولهما وآخرهما بالنصب على أنه خبر كان أو على الحال والخبر تنعل وتنزع، وضبطا بمثناتين فوقانيتين وتحتانيتين مذكرين باعتبار النعل والخلع، قال ابن العربي: البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة لفضل اليمين حسا في القوة وشرعا في الندب إلى تقديمها، وقال النووي:

ص: 311

يستحب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم أو الزينة، والبداءة باليسار في ضد ذلك كالدخول إلى الخلاء ونزع النعل والخف والخروج من المسجد والاستنجاء وغيره من جميع المستقذرات، وقد مر كثير هذا في كتاب الطهارة في شرح حديث عائشة: كان يعجبه التيمن، وقال الحليمي: وجه الابتداء بالشمال عند الخلع أن اللبس كرامة لأنه وقاية للبدن، فلما كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدئ بها في اللبس وأخرت في الخلع لتكون الكرامة لها أدوم وحظها منها أكثر، قال ابن عبد البر: من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء لمخالفة السنة، ولكن لا يحرم عليه لبس نعله، وقال غيره: ينبغي له أن ينزع النعل من اليسرى ثم يبدأ باليمنى، ويمكن أن يكون مراد ابن عبد البر ما إذا لبسهما معا فبدأ باليسرى فإنه لا يشرع له أن ينزعهما ثم يلبسهما على الترتيب المأمور به إذ قد فات محله، ونقل عياض وغيره الإجماع على أن الأمر فيه للاستحباب، والله أعلم.

‌41 - بَاب قِبَالَانِ فِي نَعْلٍ، وَمَنْ رَأَى قِبَالًا وَاحِدًا وَاسِعًا

5857 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ نَعْلَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهما قِبَالَانِ.

5858 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ: أخَرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ نَعْلَيْنِ لَهُمَا قِبَالَانِ، فَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: هَذِهِ نَعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ قِبَالَانِ فِي نَعْلٍ) أَيْ فِي كُلِّ فَرْدَةٍ (وَمَنْ رَأَى قِبَالًا وَاحِدًا وَاسِعًا) أَيْ جَائِزٌ. الْقِبَالُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ لَامٌ هُوَ الزِّمَامُ وَهُوَ السَّيْرُ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّسْعُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ إِصْبَعَيِ الرِّجْلَ.

قَوْلُهُ: (هَمَّامٌ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ عَلَى الْفَرَبْرِيِّ، هِشَامٌ بَدَلَ هَمَّامٍ ; وَالَّذِي عِنْدَ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (إِنَّ نَعْلَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْإِفْرَادِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: لَهُمَا.

قَوْلُهُ: (قِبَالَانِ) زَادَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ مِنْ سِبْتٍ لَيْسَ عَلَيْهِمَا شَعْرٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَوْلُهُ: سِبْتٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ: أخَرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ نَعْلَيْنِ لَهُمَا قِبَالَانِ، فَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: هَذِهِ نَعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هَذَا مُرْسَلٌ قَالَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. قُلْتُ: صُورَتَهُ الْإِرْسَالُ لِأَنَّ ثَابِتًا لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ أَنَسًا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتٌ قَالَهُ بِحَضْرَةِ أَنَسٍ وَأَقَرَّهُ أَنَسٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ أَخْذُ عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ لَهُ عَنْ أَنَسٍ عَرَضًا، لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْخَمْسِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ بِمَا يَنْفِي هَذَا الِاحْتِمَالَ، وَلَفْظُهُ أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسٌ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَتَيْنِ لَهُمَا قِبَالَانِ، فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ بَعْدُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا نَعْلَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ رِوَايَةَ عِيسَى، عَنْ أَنَسٍ إِخْرَاجُهُ النَّعْلَيْنِ فَقَطْ وَأَنَّ إِضَافَتَهُمَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ أَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى أَنَّ إِخْرَاجَ طَرِيقِ أَبِي أَحْمَدَ أَوْلَى، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أَنَّهَا تَقَدَّمَتْ هُنَاكَ، وَالْبُخَارِيُّ عَلَى عَادَتِهِ إِذَا صَحَّتِ الطَّرِيقُ مَوْصُولَةً لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إِيرَادِ مَا ظَاهِرُهُ الْإِرْسَالُ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَوْصُولِ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَتْ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَالَانِ مُثَنًّى شِرَاكُهُمَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: دَلَالَةُ الْحَدِيثِ

ص: 312

عَلَى التَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّعْلَ صَادِقَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ مَا يُلْبَسُ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي مِنَ التَّرْجَمَةِ فَمِنْ جِهَةِ

أَنَّ مُقَابَلَةَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ يُفِيدُ التَّوْزِيعَ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ نَعْلِ كُلِّ رِجْلٍ قِبَالٌ وَاحِدٌ. قُلْتُ: بَلْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى مَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا وَزَادَ، وَكَذَا لِأَبِي بَكْرٍ، وَلِعُمَرَ، وَأَوَّلُ مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً وَاحِدَةً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ لَفْظُ الطَّبَرَانِيِّ وَسِيَاقُ الْبَزَّارِ مُخْتَصَرٌ، وَرِجَالُ سَنَدِهِ ثِقَاتٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ مِثْلَهُ دُونَ ذِكْرِ عُثْمَانَ.

‌42 - بَاب الْقُبَّةِ الْحَمْرَاءِ مِنْ أَدَمٍ

5859 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، وَرَأَيْتُ بِلَالًا أَخَذَ وَضُوءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ يَبْتَدِرُونَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ.

5860 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. ح وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْأَنْصَارِ وَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقُبَّةِ الْحَمْرَاءِ مِنْ أَدَمٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُهْمَلَةِ هُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ، وَكَأَنَّهُ صُبِغَ بِحُمْرَةٍ قَبْلَ أَنْ يُجْعَلَ قُبَّةً.

ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ بِتَمَامِهِ مَشْرُوحًا، وَسَاقَهُ فِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحُلَّةِ الْحَمْرَاءِ قَرِيبًا فِي بَابِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى تَضْعِيفِ حَدِيثِ رَافِعٍ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ هُنَاكَ

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ، قَالَ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ وَهُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ الْخُمُسِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُبَّةَ حَمْرَاءُ، لَكِنْ يَكْفِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ التَّرْجَمَةِ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّهُ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَذَلِكَ لِقُرْبِ الْعَهْدِ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا أَنَسٌ كَانَتْ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَالَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو جُحَيْفَةَ كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَبَيْنَهُمَا نَحْوُ سَنَتَيْنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هِيَ تِلْكَ الْقُبَّةُ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَتَأَنَّقُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَبْدِلَ، وَإِذَا وَصَفَهَا أَبُو جُحَيْفَةَ بِأَنَّهَا حَمْرَاءُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي فَلَأَنْ تَكُونَ حُمْرَتُهَا مَوْجُودَةً فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) هُوَ الزُّهْرِيُّ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدِ اقْتَطَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنَ الْحَدِيثِ فَسَاقَهَا عَلَى لَفْظِ اللَّيْثِ، وَأَوَّلُ حَدِيثِ شُعَيْبٍ عِنْدَهُ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ - فَذَكَرَ الْقِصَّةَ قَالَ - فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ. وَقَدْ وَصَلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ رِوَايَةَ اللَّيْثِ مِنْ طَرِيقِ الرَّمَادِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ وَمِنْ طَرِيقِ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ وَسَاقَهُ بِلَفْظِ فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ هَكَذَا اقْتَطَعَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، وَأَوَّلُهُ

ص: 313

عِنْدَهُ إِنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.

‌43 - بَاب الْجُلُوسِ عَلَى الْحَصِيرِ وَنَحْوِهِ

5861 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْتَجِرُ بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ حَتَّى كَثُرُوا، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَصِيرِ وَنَحْوِهِ) أَمَّا الْحَصِيرُ فَمَعْرُوفٌ يُتَّخَذُ مِنَ السَّعَفِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَنَحْوِهِ فَيُرِيدُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُبْسَطُ وَلَيْسَ لَهَا قَدْرٌ رَفِيعٌ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَمُعْتَمِرٌ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَسَعِيدٌ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ وَفِي السَّنَدِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ أَوَّلُهُمْ أَبُو سَلَمَةَ وَهُمْ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى ضَعْفِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ أَنَّهُ: سَأَلَ عَائِشَةَ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَاللَّهُ يَقُولُ: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} فَقَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ النَّفْيِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ، لَكِنْ يَخْدِشُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ شُرَيْحٌ مِنَ الْآيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَتَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ بَابَ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ الْحَدِيثَ، وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ يَحْتَجِرُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ ثُمَّ رَاءٍ مُهْمَلَةٍ لِلْأَكْثَرِ أَيْ يَتَّخِذُ حُجْرَةً لِنَفْسِهِ ; يُقَالُ: حَجَرْتَ الْأَرْضَ وَاحْتَجَرْتَهَا إِذَا جَعَلْتَ عَلَيْهَا عَلَامَةً تَمْنَعُهَا عَنْ غَيْرِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِزَايٍ فِي آخِرِهِ.

قَوْلُهُ: (يَثُوبُونَ) بِمُثَلَّثَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ أَيْ يَرْجِعُونَ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْمَلَالَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَبُولِ أَوِ التَّرْكِ، أَوْ أُطْلِقَ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ، أَيْ مَا اسْتَمَرَّ فِي حَيَاةِ الْعَامِلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الدَّوَامِ الَّتِي هِيَ شُمُولُ جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا دَاوَمَ، أَيْ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ.

‌44 - بَاب الْمُزَرَّرِ بِالذَّهَبِ

5862 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّ أَبَاهُ مَخْرَمَةَ قَالَ لَهُ: يَا بُنَيِّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِمَتْ عَلَيْهِ أَقْبِيَةٌ فَهُوَ يَقْسِمُهَا، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ، فَذَهَبْنَا فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَنْزِلِهِ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيِّ ادْعُ لِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْظَمْتُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَدْعُو لَكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ، فَدَعَوْتُهُ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٌ بِالذَّهَبِ، فَقَالَ: يَا مَخْرَمَةُ هَذَا خَبَأْنَاهُ لَكَ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ.

ص: 314

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُزَرَّرِ بِالذَّهَبِ) أَيْ مِنَ الثِّيَابِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ اللَّيْثِ بِلَفْظِهِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ كَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا قَرِيبًا، وَفِي الْهِبَةِ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ لَكِنْ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ.

قَوْلُهُ (إِنَّ أَبَاهُ مَخْرَمَةَ قَالَ: يَا بُنَيَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ قَالَ لَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ قَرِيبًا فِي بَابِ الْقَبَاءِ وَفَرُّوجٍ مِنْ حَرِيرٍ وَقَوْلُهُ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٍ بِالذَّهَبِ هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَلَمَّا وَقَعَ تَحْرِيمُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ لَمْ يُبْقِ هَذَا حُجَّةً لِمَنْ يُبِيحُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ فَيَكُونَ أَعْطَاهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ بِأَنْ يَكْسُوَهُ النِّسَاءَ أَوْ لِيَبِيعَهُ كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ، وَيكَوْنِ مَعْنَى قَوْلِهِ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ أَيْ عَلَى يَدِهِ فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَرَادَ تَطْيِيبَ قَلْبِ مَخْرَمَةَ وَأَنَّهُ كَانَ فِي خُلُقِهِ شَيْءٌ، وَفِي قَوْلِهِ لِوَلَدِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمَّا قَالَ لَهُ أَدْعُو لَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ لِقَوْلِهِ ادْعُهُ لِي فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إِيمَانِ مَخْرَمَةَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وُصِفَ بِأَنَّهُ سَيِّئُ الْخُلُقِ، وَفِيهِ تَوَاضُعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُسْنُ تَلَطُّفِهِ بِأَصْحَابِهِ.

‌45 - بَاب خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ

5863 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: نَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَبْعٍ: نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ - أَوْ قَالَ حَلْقَةِ الذَّهَبِ - وَعَنْ الْحَرِيرِ، وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ، وَالْقَسِّيِّ، وَآنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَأَمَرَنَا بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ.

5864 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ" وَقَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعَ النَّضْرَ سَمِعَ بَشِيراً

مِثْلَهُ.

5865 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ فَرَمَى بِهِ وَاتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ أَوْ فِضَّةٍ".

[الحديث 5865 - أطرافه في: 5866، 5867، 5873، 5876، 6651، 7298]

قَوْلُهُ: (بَابُ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ) جَمْعُ خَاتَمٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى خَوَاتِمَ بِلَا يَاءٍ، وَعَلَى خَيَاتِيمَ بِيَاءٍ بَدَلَ الْوَاوِ، وَبِلَا يَاءٍ أَيْضًا، وَفِي الْخَاتَمِ ثَمَانِ لُغَاتٍ: فَتْحُ التَّاءِ وَكَسْرُهَا وَهُمَا وَاضِحَتَانِ، وَبِتَقْدِيمِهَا عَلَى الْأَلِفِ مَعَ كَسْرِ الْخَاءِ خِتَامٌ، وَبِفَتْحِهَا وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا وَاوٌ خَيْتُومٌ، وَبِحَذْفِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ مَعَ سُكُونِ الْمُثَنَّاةِ خَتْمٌ، وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْخَاءِ وَأُخْرَى بَعْدَ التَّاءِ خَاتَامٌ، وَبِزِيَادَةِ تَحْتَانِيَّةٍ بَعْدَ الْمُثَنَّاةِ الْمَكْسُورَةِ خَاتِيَامٌ، وَبِحَذْفِ الْأُولَى وَتَقْدِيمِ التَّحْتَانِيَّةِ خَيْتَامٌ، وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي بَيْتٍ وَهُوَ:

ص: 315

خَاتَامٌ خَاتَمُ خَتْمٌ خَاتِمٌ وَخِتَا

مٌ خَاتِيَامٌ وَخَيْتُومٌ وَخَيْتَامُ

وَقَبْلَهُ: خُذْ نَظْمَ عَدِّ لُغَاتِ الْخَاتَمِ انْتَظَمَتْ

ثَمَانِيًا مَا حَوَاهَا قَبْلُ نُظَّامُ

ثُمَّ زِدْتُ ثَالِثًا: وَهَمْزُ مَفْتُوحِ تَاءٍ تَاسِعٌ وَإِذَا سَاغَ الْقِيَاسُ أَتَمَّ الْعَشْرَة خَاتَامُ

أَمَّا الْأَوَّلُ فَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي إِعْرَابِ الشَّوَاذِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْ قَرَأَ الْعَالَمِينَ بِالْهَمْزِ قَالَ: وَمِثْلُهُ الْخَأْتَمُ بِالْهَمْزِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَاقْتَصَرَ كَثِيرُونَ مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْخَتْمَ وَالْخِتَامَ مُخْتَصٌّ بِمَا يُخْتَمُ بِهِ فَتَكْمُلُ الثَّمَانِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا سِتَّةٌ، وَأَنْشَدُوا فِي الْخَاتِيَامِ وَهُوَ أَغْرَبُهَا: أَخَذْتُ مِنْ سَعْدَاكِ خَاتِيَامَا لِمَوْعِدِ تُكْتَسَبُ الْآثَامَا

ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول حَدِيثُ الْبَرَاءِ قَالَ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَبْعٍ: نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ قَالَ حَلْقَةِ الذَّهَبِ كَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ مِنْ رِوَايَةِ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ وَهُوَ ابْنُ أبي الشَّعْثَاءِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ فَذَكَرَهُ بِتَقْدِيمِ النَّوَاهِي عَلَى الْأَوَامِرِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْجَنَائِزِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ بتِقَدِيمِ الْأَوَامِرِ عَلَى النَّوَاهِي، لَكِنْ سَقَطَ مِنَ النَّوَاهِي ذِكْرُ الْمَيَاثِرِ، وَقَالَ فِيهِ خَاتَمِ الذَّهَبِ وَلَمْ يَشُكَّ. وَأَوْرَدَهُ فِي الْمَظَالِمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ شُعْبَةَ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ فِيهِ الْمَنْهِيَّاتِ جُمْلَةً، وَأَوْرَدَهُ فِي الطِّبِّ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ لَكِنْ سَقَطَ مِنَ النَّوَاهِي آنِيَةُ الْفِضَّةِ، وَذَكَرَ مِنَ الْأَوَامِرِ ثَلَاثَةً فَقَطْ: اتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ وَعِيَادَةَ الْمَرِيضِ وَإِفْشَاءَ السَّلَامِ، وَاخْتَصَرَ الْبَاقِي. وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا خَاتَمِ الذَّهَبِ وَأَوْرَدَهُ فِي أَوَاخِرِ الْأَدَبِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْقَسِّيَّ وَلَا آنِيَةَ الْفِضَّةِ، وَقَالَ بَدَلَ الْإِسْتَبْرَقِ السُّنْدُسَ.

وَأَخْرَجَهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ مُقْتَصَرًا عَلَى إِبْرَارِ الْقَسَمِ حَسْبَ، فَهَذَا مَا عِنْدَهُ مِنْ تَغَايُرِ السِّيَاقِ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فَقَطْ، وَأَمَّا مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنْ أَشْعَثَ عِنْدَهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي الْأَشْرِبَةِ فَقَطْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ عَنِ الْأَشْعَثِ فَقَدَّمَ الْأَوَامِرَ عَلَى النَّوَاهِي وَسَاقَهُ تَامًّا وَقَالَ فِيهِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ مِثْلَهُ سَوَاءً وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ هُنَا، وَأَخْرَجَهُ فِي أَوَائِلِ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ أَشْعَثَ كَذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ: وَنَهَى عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي اللِّبَاسِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي آخِرِ بَابِ الْقَسِّيِّ مُخْتَصَرًا جِدًّا نَهَانَا عَنِ الْمَيَاثِرِ الْحُمُرِ وَعَنِ الْقَسِّيِّ وَفِي بَابِ الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ مِنْ رِوَايَتِهِ أَمَرَنَا بِسَبْعٍ فَذَكَرَ مِنْهَا الْعِيَادَةَ وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ فَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا خَاتَمَ الذَّهَبِ وَلَا آنِيَةَ الْفِضَّةِ، فَهَذِهِ جَمِيعُ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَهُ، فَأَمَّا الْمَنْهِيَّاتُ فَقَدْ شُرِحَتْ فِي أَمَاكِنِهَا وَمُعْظَمُهَا هَذَا الْكِتَابِ كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى آنِيَةِ الْفِضَّةِ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ، وَأَمَّا الْأَوَامِرُ فَنَذْكُرُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فِي بَابِهَا، وَيَأْتِي بَسْطُهَا فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الحديث الثاني حديث أبي هريرة، قَوْلُهُ:(عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، وَنَهِيكٌ بِالنُّونِ وَزْنُهُ سَوَاءٌ.

قَوْلُهُ: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ نَهَى عَنْ لُبْسِ خَاتَمِ الذَّهَبِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ مَرْزُوقٍ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ سَاقَ هَذَا الْإِسْنَادَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ سَمَاعِ قَتَادَةَ مِنَ النَّضْرِ وَهُوَ ابْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَسَمَاعِ النَّضْرِ مِنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ الرَّقَاشِيِّ، وَقَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ في مصنفه، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبِ

ص: 316

بْنِ حَرْبٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ بِهِ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ قَتَادَةَ مِنَ النَّضْرِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ كَذَلِكَ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِخْبَارُ الصَّحَابِيِّ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبٍ: الْأُولَى أَنْ يَأْتِيَ بِالصِّيغَةِ كَقَوْلِهِ: افْعَلُوا أَوْ لَا تَفْعَلُوا، الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا وَنَهَانَا عَنْ كَذَا وَهُوَ كَالْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي الْعَمَلِ بِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَإِنَّمَا نَزَلَ عَنْهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ظَنَّ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ أَمْرًا، إِلَّا أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَرْجُوحٌ لِلْعِلْمِ بِعَدَالَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِمَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ لُغَةً. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ أُمِرْنَا وَنُهِينَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَهِيَ كَالثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ عَنْهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالنَّهْيُ عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوِ التَّخَتُّمِ بِهِ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَقَدْ نُقِلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ.

قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِلْيَةً فِيهَا خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَخَذُوهُ وَإِنَّهُ لَمُعْرِضٌ عَنْهُ، ثُمَّ دَعَا أُمَامَةَ بِنْتَ ابْنَتِهِ فَقَالَ: تَحَلَّيْ بِهِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْر بْنِ حَزْمٍ مِنْ تَخَتُّمِهِ بِالذَّهَبِ فَشُذُوذٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ فِيهِ فَالنَّاسُ بَعْدَهُ مُجْمِعُونَ عَلَى خِلَافِهِ، وَكَذَا مَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ خَبَّابٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَمَا آنَ لِهَذَا الْخَاتَمِ أَنْ يُلْقَى؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَرَاهُ عَلَيَّ بَعْدَ الْيَوْمِ فَكَأَنَّهُ مَا كَانَ بَلَغَهُ النَّهْيُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ رَجَعَ. قَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لُبْسَهُ لِلرِّجَالِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ كَمَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحَرِيرِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْخِلَافِ فِي التَّحْرِيمِ، وَهُوَ يُنَاقِضُ الْقَوْلَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ وَصْفِ كَوْنِهِ خَاتَمًا.

قُلْتُ: التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ بِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ انْقَرَضَ وَاسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ بَعْدَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لُبْسُ خَاتَمِ الذَّهَبِ، مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَصُهَيْبٍ وَذَكَرَ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَعَنْ عبَدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ نَزَعْنَا مِنْ يَدَيْ أُسَيْدٍ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَأَغْرَبُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ الْبَرَاءِ الَّذِي رَوَى النَّهْيَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي السَّفَرِ قَالَ رَأَيْتُ عَلَى الْبَرَاءِ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ نَحْوُهُ أَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى الْبَرَاءِ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا فَأَلْبَسَنِيهِ، فَقَالَ: الْبَسْ مَا كَسَاكَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ الْحَازِمِيُّ: إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ، وَلَوْ صَحَّ فَهُوَ مَنْسُوخٌ، قُلْتُ: لَوْ ثَبَتَ النَّسْخُ عِنْدَ الْبَرَاءِ مَا لَبِسَهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ النَّهْيِ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْهُ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ رِوَايَتِهِ وَفِعْلِهِ إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ حَمَلَهُ عَلَى التَّنْزِيهِ أَوْ فَهِمَ الْخُصُوصِيَّةَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ: الْبَسْ مَا كَسَاكَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْحَازِمِيِّ: لَعَلَّ الْبَرَاءَ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ.

وَيُؤَيِّد الِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ كَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ لِلْبَرَاءِ لِمَ تَتَخَتَّمُ بِالذَّهَبِ وَقَدْ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَذْكُرُ لَهُمُ هذا الْحَدِيثَ ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تَأْمُرُونَنِي أَنْ أَضَعَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَسْ مَا كَسَاكَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمِنْ أَدِلَّةِ النَّهْيِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ جَلَسَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ بِقَضِيبٍ فَقَالَ: أَلْقِ هَذَا وَعُمُومُ الْأَحَادِيثِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا فِي بَابِ لُبْسِ الْحَرِيرِ حَيْثُ قَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ: هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى رِجَالِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ: مَنْ مَاتَ مِنَ أُمَّتِي وَهُوَ

ص: 317

يَلْبَسُ الذَّهَبَ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَهَبَ الْجَنَّةِ، الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَسْخِ جَوَازِ لُبْسِ الْخَاتَمِ إِذَا كَانَ مِنْ ذَهَبٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّخَتُّمِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَتَنَاوَلُ مَا هُوَ فِي قَدْرِ الْخَاتَمِ وَمَا فَوْقَهُ كَالدُّمْلُجِ وَالْمِعْضَدِ وَغَيْرِهِمَا، فَأَمَّا مَا هُوَ دُونَهُ فَلَا دَلَالَةَ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ، وَتَنَاوَلَ النَّهْيُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ فَلَا يَجُوزُ لُبْسُ خَاتَمِ الذَّهَبِ لِمَنْ فَاجَأَهُ الْحَرْبُ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْحَرْبِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَرِيرِ مِنَ

الرُّخْصَةِ فِي لُبْسِهِ بِسَبَبِ الْحَرْبِ، وَبِخِلَافِ مَا عَلَى السَّيْفِ أَوِ التُّرْسِ أَوِ الْمِنْطَقَةِ مِنْ حِلْيَةِ الذَّهَبِ فَإِنَّهُ لَوْ فَجَأَهُ الْحَرْبُ جَازَ لَهُ الضَّرْبُ بِذَلِكَ السَّيْفِ فَإِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ فَلْيُنْتَقَضْ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْحَرْبِ بِخِلَافِ الْخَاتَمِ.

الحديث الثالث: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ أَيِ اتَّخَذُوا مِثْلَهُ كَمَا بَيَّنَهُ بَعْدُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ وَرِقٍ أَوْ فِضَّةٍ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَجَزَمَ فِي الَّذِي يَلِيهِ بِقَوْلِهِ مِنْ فِضَّةٍ وَفِي الَّذِي يَلِيهِ بِأَنَّهُ مِنْ وَرِقٍ وَالْوَرِقُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ يَجُوزُ إِسْكَانُهَا، وَحَكَى الصَّغَانِيُّ

(1)

. . . وَحَكَى كَسْرَ أَوَّلِهِ مَعَ السُّكُونِ فَتِلْكَ أَرْبَعُ لُغَاتٍ، وَفِيهَا لُغَةٌ خَامِسَةٌ الرِّقَّةُ وَالرَّاءُ بَدَلَ الْوَاوِ كَالْوَعْدِ وَالْعِدَةِ، وَقِيلَ الْوَرِقُ يَخْتَصُّ بِالْمَصْكُوكِ وَالرِّقَّةُ أَعَمُّ.

‌46 - بَاب خَاتَمِ الْفِضَّةِ

5866 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ، وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ، وَقَالَ: لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا، ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ.

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسَ.

5867 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ فَقَالَ: "لَا أَلْبَسُهُ أَبَداً" فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ".

5868 -

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه "أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ يَوْماً وَاحِداً ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ وَلَبِسُوهَا فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَهُ فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ".

تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَزِيَادٌ وَشُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ مُسَافِرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَرَى خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ.

(1)

بياض بأصله. قال مصحح طبعة بولاق: ولعل موضعه لفظ "فتحها" أي الراء، بدليل قوله بعده "فتلك أربع لغات".

ص: 318

قَوْلُهُ: (بَابُ خَاتَمِ الْفِضَّةِ) أَيْ جَوَازُ لُبْسِهِ، وذكر فيه حديثين:

الأول: قَوْلُهُ: (عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ) مَعْنَى اتَّخَذَهُ أَمَرَ بِصِيَاغَتِهِ فَصِيغَ فَلَبِسَهُ، أَوْ وَجَدَهُ مَصُوغًا فَاتَّخَذَهُ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَلِي بَاطِنَ كَفِّهِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَطْنُ كَفِّهِ زَادَ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا إِذَا لَبِسَهُ وَقَوْلُهُ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كَذَا فِيهِ بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَنَقَشَ أَيْ أَمَرَ بِنَقْشِهِ.

قَوْلُهُ: (فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِيَّةِ كَوْنَهُ مِنْ فِضَّةٍ وَكَوْنَهُ عَلَى صُورَةِ النَّقْشِ الْمَذْكُورَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمُطْلَقِ الِاتِّخَاذِ. وَقَوْلُهُ: فَرَمَى بِهِ وَقَالَ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ فَرَقِيَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ اصْطَنَعْتُهُ، وَإِنِّي لَا أَلْبَسُهُ وَفِي رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ فَرَمَى بِهِ، فَلَا نَدْرِي مَا فَعَلَ وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ الْمُشَارَكَةِ، أَوْ لِمَا رَأَى مِنْ زَهْوِهِمْ بِلُبْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مِنْ ذَهَبٍ وَصَادَفَ وَقْتَ تَحْرِيمِ لُبْسِ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ الْمُخْتَصَرَةُ فِي هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَنَبَذَهُ فَقَالَ: لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا وَقَوْلُهُ: وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فِي رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ ثُمَّ أَمَرَ بِخَاتَمٍ مِنْ فِضَّةٍ فَأَمَرَ أَنْ يُنْقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ) لَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي اتِّخَاذِ النَّاسِ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ مَنْعًا وَلَا كَرَاهِيَةً، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَلَبِسَ الْخَاتَمَ - بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ، حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَزْنُ عَظِيمٍ، وَهِيَ فِي حَدِيقَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ نَقْشِ الْخَاتَمِ قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ بِلَفْظِ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ وَذَكَرَ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ بِمِثْلِ هَذَا التَّرْتِيبِ، وَيَأْتِي بَعْدُ فِي بَابِ هَلْ يُجْعَلُ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوُهُ وَقَالَ فِيهِ فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ وَزَادَ ابْنُ سَعْدٍ عن الْأَنْصَارِيُّ بِسَنَدِ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ سِتَّ سِنِينَ ثُمَّ اتَّفَقَا.

وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ نَافِعٍ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي آخِرِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَاتَّخَذَ عُثْمَانُ خَاتَمًا وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ أَوْ يَتَخَتَّمُ بِهِ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ مُرْسَلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ نَحْوُ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ إِلَى قَوْلِهِ فَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ مِنْ مُعَيْقِيبٍ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ سُقُوطِهِ إِلَى عُثْمَانَ نِسْبَةٌ مَجَازِيَّةٌ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ طَلَبَهُ مِنْ مُعَيْقِيبٍ فَخَتَمَ بِهِ شَيْئًا وَاسْتَمَرَّ فِي يَدِهِ وَهُوَ مُفَكِّرٌ فِي شَيْءٍ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ فِي الْبِئْرِ أَوْ رَدَّهُ إِلَيْهِ فَسَقَطَ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِحَدِيثِ أَنَسٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ نَافِعٍ هَذَا الْحَدِيثَ وقَالَ فِي آخِرِهِ وَفِي يَدِ عُثْمَانَ سِتَّ سِنِينَ مِنْ عَمَلِهِ، فَلَمَّا كَثُرَتْ عَلَيْهِ دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ، فَخَرَجَ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى قَلِيبٍ لِعُثْمَانَ فَسَقَطَ، فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُوجَدْ.

‌47 - باب

الطريق الثانية لحديث ابن عمر:

قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ) كَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَتَمَّ مِنْهُ وَسَاقَهُ نَحْوَ رِوَايَةِ نَافِعٍ الَّتِي قَبْلَهَا، وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ.

الحديث الثاني، قَوْلُهُ:(يُونُسُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا، وَإنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ فَلَبِسُوهَا، فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَهُ، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ) هَكَذَا رَوَى الْحَدِيثَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، وَاتَّفَقَ الشَّيْخَانِ

ص: 319

عَلَى تَخْرِيجِهِ مِنْ طَرِيقِهِ وَنُسِبَ فِيهِ إِلَى الْغَلَطِ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ الْخَاتَمَ الَّذِي طَرَحَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبَبِ اتِّخَاذِ النَّاسِ مِثْلَهُ إِنَّمَا هُوَ خَاتَمُ الذَّهَبِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ هَذَا وَهْمٌ مِنَ ابْنِ شِهَابٍ لِأَنَّ الْمَطْرُوحَ مَا كَانَ إِلَّا خَاتَمَ الذَّهَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ كَمَا سَيَأْتِي.

قُلْتُ: وَحَاصِلُ الْأَجْوِبَةِ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا قَالَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ: إِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ مَحْفُوظًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ أَنَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ عَلَى لَوْنٍ مِنَ الْأَلْوَانِ وَكَرِهَ أَنْ يَتَّخِذَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا اتَّخَذُوهُ رَمَى بِهِ حَتَّى رَمَوْا بِهِ ثُمَّ اتَّخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا اتَّخَذَهُ وَنَقَشَ عَلَيْهِ مَا نُقِشَ لِيَخْتِمَ بِهِ، ثَانِيهَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا أَنَّهُ اتَّخَذَهُ زِينَةً فَلَمَّا تَبِعَهُ النَّاسُ فِيهِ رَمَى بِهِ، فَلَمَّا احْتَاجَ إِلَى الْخَتْمِ اتَّخَذَهُ لِيَخْتِمَ بِهِ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ حَكَى قَوْلَ الْمُهَلَّبِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مُتَكَلِّفٌ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهَا لِلزِّينَةِ فَطَرَحَ خَاتَمَهُ لِيَطْرَحُوا، ثُمَّ لَبِسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إِلَى الْخَتْمِ بِهِ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي جَوَابُ الْبَيْهَقِيِّ عَنْ ذَلِكَ فِي بَابِ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ.

ثَالِثُهَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: خَالَفَ ابْنُ شِهَابٍ رِوَايَةَ قَتَادَةَ، وَثَابِتٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ فِي كَوْنِ الْخَاتَمِ الْفِضَّةِ اسْتَقَرَّ فِي يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَخْتِمُ بِهِ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ لِلْجَمَاعَةِ، وَإِنْ وَهِمَ الزُّهْرِيُّ فِيهِ، لَكِنْ قَالَ الْمُهَلَّبُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَأَوَّلَ لِابْنِ شِهَابٍ مَا يَنْفِي عَنْهُ الْوَهْمَ وَإِنْ كَانَ الْوَهْمُ أَظْهَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى إِطْرَاحِ خَاتَمِ الذَّهَبِ اصْطَنَعَ خَاتَمَ الْفِضَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْخَتْمِ عَلَى الْكُتُبِ إِلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَمَرَاءِ السَّرَايَا وَالْعُمَّالِ، فَلَمَّا لَبِسَ خَاتَمَ الْفِضَّةِ أَرَادَ النَّاسُ أَنْ يَصْطَنِعُوا مِثْلَهُ فَطَرَحَ عِنْدَ ذَلِكَ خَاتَمَ الذَّهَبِ فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الذَّهَبِ، قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى وَهْيُ هَذَا الْجَوَابُ، وَالَّذِي قَالَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَقْرَبُ مَعَ أَنَّهُ يَخْدِشُ فِيهِ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ اتِّخَاذَ الْوَرِقِ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ بَطَّالٍ قَائِلًا: قَالَ بَعْضُهُمْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَمَّا عَزَمَ عَلَى تَحْرِيمِ خَاتَمِ الذَّهَبِ اتَّخَذَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فَلَمَّا لَبِسَهُ أَرَاهُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيَعْلَمُوا إِبَاحَتَهُ ثُمَّ طَرَحَ خَاتَمَ الذَّهَبِ وَأَعْلَمَهُمْ تَحْرِيمَهُ فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ مِنَ الذَّهَبِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ فَطَرَحَ خَاتَمَهُ وَطَرَحُوا خَوَاتِيمَهُمْ أَيِ الَّتِي مِنَ الذَّهَبِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَوْصُوفَ فِي قَوْلِهِ فَطَرَحَ خَاتَمَهُ فَطَرَحُوا خَوَاتِيمَهُمْ خَاتَمَ الذَّهَبِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ. قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا يُسَوِّغُ أَنْ لَوْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ مُجْمَلَةً.

ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ شِهَابٍ لَا تَحْتَمِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، فَأَمَّا النَّوَوِيُّ فَارْتَضَى هَذَا التَّأْوِيلَ وَقَالَ: هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَمْنَعُهُ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ فَصَنَعَ النَّاسُ الْخَوَاتِيمَ مِنَ الْوَرِقِ فَلَبِسُوهَا ثُمَّ قَالَ فَطَرَحَ خَاتَمَهُ فَطَرَحُوا خَوَاتِيمَهُمْ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ أَنْ يَصْطَنِعَ لِنَفْسِهِ خَاتَمَ فِضَّةٍ اصْطَنَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ وَبَقِيَتْ مَعَهُمْ خَوَاتِيمُ الذَّهَبِ كَمَا بَقِيَ مَعَهُ خَاتَمُهُ إِلَى أَنِ اسْتَبْدَلَ خَاتَمَ الْفِضَّةِ وَطَرَحَ خَاتَمَ الذَّهَبِ فَاسْتَبْدَلُوا وَطَرَحُوا، اهـ. وَأَيَّدَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَاتَمَ الْمَطْرُوحَ كَانَ مِنْ وَرِقٍ بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ عَلَى مَا نُقِشَ عَلَيْهِ نَقْشُ خَاتَمِهِ، قَالَ: وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ يَجُوزُ تَوْهِيمُ الرَّاوِي.

قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا رَابِعًا لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ وَلَا زِيَادَةُ اتِّخَاذٍ وَهُوَ أَنَّهُ اتَّخَذَ خَاتَمَ الذَّهَبِ لِلزِّينَةِ فَلَمَّا تَتَابَعَ النَّاسُ فِيهِ وَافَقَ وُقُوعَ تَحْرِيمِهِ فَطَرَحَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ: لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا، وَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ تَبَعًا لَهُ، وَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ لُبْسِ خَاتَمِ الذَّهَبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى الْخَاتَمِ لِأَجْلِ الْخَتْمِ بِهِ فَاتَّخَذَهُ مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ اسْمَهُ الْكَرِيمَ فَتَبِعَهُ النَّاسُ أَيْضًا فِي ذَلِكَ فَرَمَى بِهِ حَتَّى رَمَى النَّاسُ تِلْكَ الْخَوَاتِيمَ الْمَنْقُوشَةَ عَلَى اسْمِهِ لِئَلَّا تَفُوتَ مَصْلَحَةُ نَقْشِ اسْمِهِ بِوُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ، فَلَمَّا عَدِمَتْ خَوَاتِيمُهُمْ بِرَمْيِهَا رَجَعَ إِلَى خَاتَمِهِ الْخَاصِّ بِهِ فَصَارَ يَخْتِمُ بِهِ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي

ص: 320

بَابِ الْخَاتَمِ فِي الْخِنْصَرِ إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا فَلَا يَنْقُشُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ أَوْ بَعْضَ مَنْ بَلَغَهُ مِمَّنْ لَمْ يَرْسَخْ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ مِنْ مُنَافِقٍ وَنَحْوِهِ اتَّخَذُوا وَنَقَشُوا فَوَقَعَ مَا وَقَعَ، وَيَكُونُ طَرْحُهُ لَهُ غَضَبًا مِمَّنْ تَشَبَّهَ بِهِ فِي ذَلِكَ النَّقْشِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْكِرْمَانِيُّ مُخْتَصَرًا جِدًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ فِي رِوَايَتِهِ أنَّهُ رَآهُ فِي يَدِهِ يَوْمًا لَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ سُئِلَ أَنَسٌ هَلِ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا؟ قَالَ: أَخَّرَ لَيْلَةً صَلَاةَ الْعِشَاءِ - إلى أن قال - فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ كَذَلِكَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَاسْتَمَرَّ فِي يَدِهِ بَقِيَّةَ يَوْمِهَا ثُمَّ طَرَحَهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَلَبِسَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ خَاتَمٌ مِنْ وَرِقٍ سَهْوٌ وَإِنَّ الصَّوَابَ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَوْلُهُ يَوْمًا وَاحِدًا ظَرْفٌ لِرُؤْيَةِ أَنَسٍ لَا لِمُدَّةِ اللُّبْسِ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ظَرْفٌ لِمُدَّةِ اللُّبْسِ، وَإِنْ قُلْنَا أَنْ لَا وَهْمَ فِيهَا وَجَمَعْنَا بِمَا تَقَدَّمَ فَمُدَّةُ لُبْسِ خَاتَمِ الذَّهَبِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا، وَمُدَّةُ لُبْسِ خَاتَمِ الْوَرِقِ الْأَوَّلِ كَانَتْ يَوْمًا وَاحِدًا كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ثُمَّ لَمَّا رَمَى النَّاسُ الْخَوَاتِيمَ الَّتِي نَقَشُوهَا عَلَى نَقْشِهِ، ثُمَّ عَادَ فَلَبِسَ خَاتَمَ الْفِضَّةِ وَاسْتَمَرَّ إِلَى أَنْ مَاتَ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَزِيَادٌ، وَشُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) أَمَّا مُتَابَعَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ الْمَدَنِيُّ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِهِ بِمِثْلِ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ لَا مُخَالَفَةَ إِلَّا فِي بَعْضِ لَفْظٍ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ زِيَادٍ - وَهُوَ ابْنُ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيُّ نَزِيلُ مَكَّةَ ثُمَّ الْيَمَنِ - فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ أَيْضًا وَأَشَارَ إِلَيْهَا أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَلَفْظُهُ عَنْهُ كَذَلِكَ لَكِنْ قَالَ اضْطَرَبُوا وَاصْطَنَعُوا. وَأَمَّا مُتَابَعَةُ شُعَيْبٍ فَوَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ كَذَلِكَ وَأَشَارَ إِلَيْهَا أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مُسَافِرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَرَى خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ لَمْ أَرَهُ فِي أَصْلٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ ثَابِتٌ لِلْبَاقِينَ إِلَّا النَّسَفِيَّ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، وَوَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عُفَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ مُسَافِرٍ - وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ أَرَى فَكَأَنَّهَا مِنَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: رَوَاهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ كَذَلِكَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْهُمَا قَالَ مِثْلَ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. وَفِي حَدِيثَيِ الْبَابِ مُبَادَرَةُ الصَّحَابَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم فَمَهْمَا أَقَرَّ عَلَيْهِ اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ وَمَهْمَا أَنْكَرَهُ امْتَنَعُوا مِنْهُ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُورَثُ وَإِلَّا لَدُفِعَ خَاتَمُهُ لِلْوَرَثَةِ، كَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخَاتَمُ اتُّخِذَ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ فَانْتَقَلَ لِلْإِمَامِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِيمَا صُنِعَ لَهُ. وَفِيهِ حِفْظُ الْخَاتَمِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ تَحْتَ يَدِ أَمِينٍ إِذَا نَزَعَهُ الْكَبِيرُ مِنْ إصْبَعِهِ. وَفِيهِ أَنَّ يَسِيرَ الْمَالِ إِذَا ضَاعَ لَا يُهْمَلُ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنْ أَثَرِ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَفِيهِ بَحْثٌ سَيَأْتِي، وَفِيهِ أَنَّ الْعَبَثَ الْيَسِيرَ بِالشَّيْءِ حَالَ التَّفَكُّرِ لَا عَيْبَ فِيهِ.

‌48 - بَاب فَصِّ الْخَاتَمِ

5869 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ: هَلْ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا؟ قَالَ: أَخَّرَ لَيْلَةً صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَنَامُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا.

ص: 321

5870 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدًا يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَكَانَ فَصُّهُ مِنْهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، سَمِعَ أَنَسًا، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَصِّ الْخَاتَمِ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْفَصُّ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْعَامَّةُ تَكْسِرُهَا وَأَثْبَتَهَا غَيْرُهُ لُغَةً وَزَادَ بَعْضُهُمُ الضَّمَّ وَعَلَيْهِ جَرَى ابْنُ مَالِكٍ فِي الْمُثَلَّثِ، ثم ذكر حَدِيثُ حُمَيْدٍ سُئِلَ أَنَسٌ: هَلِ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا؟ قَالَ: أَخَّرَ لَيْلَةً صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ وَبِيصٌ بِمُوَحَّدَةٍ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ هُوَ الْبَرِيقُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ بِلَفْظِ بِرِيقِهِ وَمِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ بَيَاضِهِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي آخِرِهِ وَرَفَعَ أَنَسٌ يَدَهُ الْيُسْرَى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَهُ فِي أُخْرَى وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصَرِ مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى.

قَوْلُهُ في الطريق الثانية (كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ (مِنْ فِضَّةٍ كُلُّهُ) فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِيَاسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ عَنْ جَدِّهِ قَالَ كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيًّا عَلَيْهِ فِضَّةٌ، فَرُبَّمَا كَانَ فِي يَدِي، قَالَ: وَكَانَ مُعَيْقِيبٌ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي كَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ ابْنُ سَعْدٍ شَاهِدًا مُرْسَلًا عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ خَاتَمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيًّا عَلَيْهِ فِضَّةٌ، غَيْرَ أَنَّ فَصَّهُ بَادٍ وَآخَرَ مُرْسَلًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِثْلَهُ دُونَ مَا فِي آخِرِهِ. وَثَالِثًا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ - يَعْنِي ابْنَ الْعَاصِ - أَتَى وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا هَذَا؟ اطْرَحْهُ، فَطَرَحَهُ فَإِذَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٌّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ. قَالَ: فَمَا نَقْشُهُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: فَأَخَذَهُ فَلَبِسَهُ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ أَنَّ ذَلِكَ جَرَى لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَخِي خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَسَأَذْكُرُ لَفْظَهُ فِي بَابِ هَلْ يُجْعَلُ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ؟

قَوْلُهُ: (وَكَانَ فَصُّهُ مِنْهُ) لَا يُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَرِقٍ وَكَانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّعَدُّدِ وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَى قَوْلِهِ حَبَشِيٌّ أَيْ كَانَ حَجَرًا مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ، أَوْ عَلَى لَوْنِ الْحَبَشَةِ، أَوْ كَانَ جَزْعًا أَوْ عَقِيقًا لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤْتَى بِهِ مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي فَصُّهُ مِنْهُ وَنُسِبَ إِلَى الْحَبَشَةِ لِصِفَةٍ فِيهِ إِمَّا الصِّيَاغَةُ وَإِمَّا النَّقْشُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ إِلَخْ) أَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانَ سَمَاعِ حُمَيْدٍ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَوَاقِيتِ مُعَلَّقًا أَيْضًا، وَذَكَرْتُ مَنْ وَصَلَهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدِ اعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْبَابِ الَّذِي تَرْجَمَهُ فِي شَيْءٍ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَاتَمًا إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ فَصٌّ، فَإِنْ كَانَ بِلَا فَصٍّ فَهُوَ حَلْقَةٌ. قُلْتُ: لَكِنْ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ فِي الْبَابِ أَنَّ فَصَّ الْخَاتَمِ كَانَ مِنْهُ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ خَاتَمٌ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ فَصٌّ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَصَاغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا حَلْقَةً مِنْ فِضَّةٍ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْإِجْمَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَحْمُولٌ عَلَى التَّبْيِينِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ.

‌49 - بَاب خَاتَمِ الْحَدِيدِ

5871 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلًا يَقُولُ:

ص: 322

جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي، فَقَامَتْ طَوِيلًا، فَنَظَرَ وَصَوَّبَ، فَلَمَّا طَالَ مُقَامُهَا فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، قَالَ: عِنْدَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: انْظُرْ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ شَيْئًا، قَالَ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ قَالَ: لَا وَاللَّهِ وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ مَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ، فَقَالَ: أُصْدِقُهَا إِزَارِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِزَارُكَ إِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، قَالَ: سُورَةُ كَذَا وَكَذَا - لِسُوَرٍ عَدَّدَهَا - قَالَ: قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ خَاتَمِ الْحَدِيدِ) قَدْ ذَكَرْتُ مَا وَرَدَ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَرْطِهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ مَا كَانَ عَلَى صِفَتِهِ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ شَبَهٍ فَقَالَ: مَا لِي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الْأَصْنَامِ؟ فَطَرَحَهُ، ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ: مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ؟ فَطَرَحَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟ قَالَ: اتَّخِذْهُ مِنْ وَرِقٍ، وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالًا وَفِي سَنَدِهِ أَبُو طَيْبَةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: يُخْطِئُ وَيُخَالِفُ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا حُمِلَ الْمَنْعُ عَلَى مَا كَانَ حَدِيدًا صِرْفًا. وَقَدْ قَالَ التِّيفَاشِيُّ فِي كِتَابِ الْأَحْجَارِ خَاتَمُ الْفُولَاذِ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ إِذَا لُوِيَ عَلَيْهِ فِضَّةٌ، فَهَذَا يُؤَيِّدُ الْمُغَايَرَةَ فِي الْحُكْمِ.

ثم ذكر حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ وَقَوْلُهُ فِيهِ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، يسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الِاتِّخَاذِ جَوَازُ اللُّبْسِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ وُجُودَهُ لِتَنْتَفِعَ الْمَرْأَةُ بِقِيمَتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ خَاتَمًا، مَحْذُوفُ الْجَوَابِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْتِمَاسِ مَهْمَا وَجَدَ كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَوَهَّمَ خُرُوجُ خَاتَمِ الْحَدِيدِ لِحَقَارَتِهِ فَأَكَّدَ دُخُولَهُ بِالْجُمْلَةِ الْمُشْعِرَةِ بِدُخُولِ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا، وَقَوْلُهُ فِي الْجَوَابِ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ انْتَصَبَ عَلَى تَقْدِيرِ لَمْ أَجِدْ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى.

‌50 - بَاب نَقْشِ الْخَاتَمِ

5872 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى رَهْطٍ - أَوْ أُنَاسٍ - مِنْ الْأَعَاجِمِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلَّا عَلَيْهِ خَاتَمٌ، فَاتَّخَذَ النَّبِيُّ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَكَأَنِّي بِوَبِيصِ - أَوْ بِبَصِيصِ - الْخَاتَمِ فِي إِصْبَعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ فِي كَفِّهِ -.

5873 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 323

عَنْهُمَا قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَكَانَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ عُثْمَانَ، حَتَّى وَقَعَ بَعْدُ فِي بِئْرِ أَرِيسَ، نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ نَقْشِ الْخَاتَمِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى) هُوَ ابْنُ حَمَّادٍ وَسَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ.

قَوْلُهُ: (أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى رَهْطٍ أَوْ أُنَاسٍ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْأَعَاجِمِ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ كَمَا يَأْتِي بَعْدُ بَابُ إِلَى الرُّومِ.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لَهُ) فِي مُرْسَلِ طَاوُسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّ قُرَيْشًا هُمُ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) زَادَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ سِيرِينَ بِسْمِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ مِنْ مُرْسَلِ طَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَسَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَغَيْرِهِمْ لَيْسَ فِيهِ الزِّيَادَةُ، وَكَذَا وَقَعَ فِي الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ أَنَّهُ أَخْرَجَ لَهُم خَاتَمًا فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَلْبَسُهُ فِيهِ تِمْثَالُ أَسَدٍ قَالَ مَعْمَرٌ: فَغَسَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَشَرِبَهُ، فَفِيهِ مَعَ إِرْسَالِهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّ ابْنَ عُقَيْلٍ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ فَكَيْفَ إِذَا خَالَفَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَعَلَّهُ لَبِسَهُ مَرَّةً قَبْلَ النَّهْيِ.

قَوْلُهُ: (فِي إِصْبَعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ فِي كَفِّهِ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِيِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فِي يَدِهِ وَسَيَأْتِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ فِي خِنْصَرِهِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ.

‌51 - بَاب الْخَاتَمِ فِي الْخِنْصَرِ

5874 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا، قَالَ: إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا فَلَا يَنْقُشَنَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ، قَالَ: فَإِنِّي لَأَرَى بَرِيقَهُ فِي خِنْصَرِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَاتَمِ فِي الْخِنْصَرِ) أَيْ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَصَابِعِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَلْبَسَ خَاتَمِي فِي هَذِهِ وَفِي هَذِهِ يَعْنِي السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى، وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَيِّ الْخِنْصَرَيْنِ الْيُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى كَانَ يَلْبَسُ الْخَاتَمَ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَنْقُشُ عَلَيْهِ أَحَدٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ يَنْقُشَنَّ بِالنُّونِ الْمُؤَكِّدَةِ، وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يَنْقُشَ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ لِأَنَّ فِيهِ اسْمَهُ وَصِفَتَهُ، وَإِنَّمَا صَنَعَ فِيهِ ذَلِكَ لِيَخْتِمَ بِهِ فَيَكُونَ عَلَامَةً تَخْتَصُّ بِهِ وَتَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَنْقُشَ أَحَدٌ نَظِيرَ نَقْشِهِ لَفَاتَ الْمَقْصُودُ.

‌52 - بَاب اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ لِيُخْتَمَ بِهِ الشَّيْءُ، أَوْ لِيُكْتَبَ بِهِ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ

5875 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَنْ يَقْرَءُوا كِتَابَكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ.

ص: 324

قَوْلُهُ: (بَابُ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ) سَقَطَ لَفْظُ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَكُنْ لِبَاسُ الْخَاتَمِ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْمُلُوكِ اتَّخَذَ الْخَاتَمَ وَاتَّخَذَهُ مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الزِّينَةِ وَلِمَا يُخْشَى مِنَ الْفِتْنَةِ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَاطِنَ كَفِّهِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنَ التَّزَيُّنِ. قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ دَعْوَاهُ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْرِفُ الْخَاتَمَ عَجِيبَةً، فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهُ انْتَهَى، وَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ لُبْسِهِ عَنِ الْعَرَبِ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ عَرَبِيًّا وَاسْتِعْمَالُهُمْ لَهُ فِي خَتْمِ الْكُتُبِ لَا يَرُدُّ عَلَى عِبَارَةِ الْخَطَّابِيِّ، وَقَدْ قَالَ الطَّحَاوِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الْخَاتَمِ إِلَّا لِذِي سُلْطَانٍ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى كَرَاهَةِ لُبْسِ الْخَاتَمِ إِلَّا لِذِي سُلْطَانٍ، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَأَبَاحُوهُ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَلْقَى خَاتَمَهُ أَلْقَى النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ الْخَاتَمَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ مَنْ لَيْسَ ذَا سُلْطَانٍ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ مَنْسُوخٌ، قُلْنَا الَّذِي نُسِخَ مِنْهُ لُبْسُ خَاتَمِ الذَّهَبِ، قُلْتُ أَوْ لُبْسُ خَاتَمِ الْمَنْقُوشِ عَلَيْهِ نَقْشُ خَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْخَوَاتِمَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ انْتَهَى. وَلَمْ يَجِبْ عَنْ حَدِيثِ أَبِي رَيْحَانَةَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ لُبْسَهُ لِغَيْرِ ذِي سُلْطَانٍ خِلَافُ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّزَيُّنِ، وَاللَّائِقُ بِالرِّجَالِ خِلَافُهُ، وَتَكُونُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَوَازِ هِيَ الصَّارِفَةُ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّحْرِيمِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ نَهى عَنِ الزِّينَةِ وَالْخَاتَمِ الْحَدِيثَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ مَنْ لَهُ سُلْطَنَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخَتْمِ عَلَيْهِ لَا السُّلْطَانَ الْأَكْبَرَ، خَاصَّةً وَالْمُرَادُ بِالْخَاتَمِ مَا يُخْتَمُ بِهِ فَيَكُونُ لُبْسُهُ عَبَثًا. وَأَمَّا مَنْ لَبِسَ الْخَاتَمَ الَّذِي لَا يُخْتَمُ بِهِ وَكَانَ مِنَ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ حَالُ مَنْ لَبِسَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ صِفَةِ نَقْشِ خَوَاتِمِ بَعْضِ مَنْ كَانَ يَلْبَسُ الْخَوَاتِمَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِصِفَةِ مَا يُخْتَمُ بِهِ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ حَدِيثِ أَبِي رَيْحَانَةَ فَضَعَّفَهُ وَقَالَ: سَأَلَ صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ، ابْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: الْبَسِ الْخَاتَمَ، وَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنِّي قَدْ أَفْتَيْتُكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَكْمِلَةٌ): جَزَمَ أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمُرِيُّ أَنَّ اتِّخَاذَ الْخَاتَمَ كَانَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ، وَجَزَمَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي السَّادِسَةِ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَاخِرِ السَّادِسَةِ وَأَوَائِلِ السَّابِعَةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا اتَّخَذَهُ عِنْدَ إِرَادَتِهِ مُكَاتَبَةَ الْمُلُوكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ إِرْسَالُهُ إِلَى الْمُلُوكِ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ، وَكَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحَجَّةِ، وَوَجَّهَ الرُّسُلَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّابِعَةِ، وَكَانَ اتِّخَاذُهُ الْخَاتَمَ قَبْلَ إِرْسَالِهِ الرُّسُلَ إِلَى الْمُلُوكِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌53 - بَاب مَنْ جَعَلَ فَصَّ الْخَاتَمِ فِي بَطْنِ كَفِّهِ

5876 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ إِذَا لَبِسَهُ، فَاصْطَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَرَقِيَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ اصْطَنَعْتُهُ وَإِنِّي لَا أَلْبَسُهُ، فَنَبَذَهُ، فَنَبَذَ النَّاسُ. قَالَ جُوَيْرِيَةُ: وَلَا أَحْسِبُهُ إِلَّا قَالَ: فِي يَدِهِ الْيُمْنَى.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ جَعَلَ فَصَّ الْخَاتَمِ فِي بَطْنِ كَفِّهِ) سَقَطَ لَفْظُ بَابُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قِيلَ لِمَالِكٍ يُجْعَلُ الْفَصُّ فِي بَاطِنِ الْكَفِّ؟ قَالَ: لَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ فِي كَوْنِ فَصِّ الْخَاتَمِ فِي بَطْنِ الْكَفِّ وَلَا ظَهْرِهَا

ص: 325

أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: السِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ جَعْلَهُ فِي بَطْنِ الْكَفِّ أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَعْلَهُ فِي ظَاهِرِ الْكَفِّ كَمَا سَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ) هُوَ ابْنُ أَسْمَاءَ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَجَعَلَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ وَيَجْعَلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي بَابِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ جُوَيْرِيَةُ: وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا قَالَ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ ; قَالَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ: لَمْ يَقَعْ فِي الْبُخَارِيِّ مَوْضِعُ الْخَاتَمِ مِنْ أَيِّ الْيَدَيْنِ إِلَّا فِي هَذَا. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَمْ يَجْزِمْ بِهِ جُوَيْرِيَةُ، وَتَوَاطُؤُ الرِّوَايَاتِ عَلَى خِلَافِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْهُ، وَعَمَلُ النَّاسِ عَلَى لُبْسِ الْخَاتَمِ فِي الْيَسَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمَحْفُوظُ. قُلْتُ: وَكَلَامُهُ مُتَعَقَّبٌ فَإِنَّ الظَّنَّ فِيهِ مِنْ مُوسَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ كِلَاهُمَا عَنْ جُوَيْرِيَةَ وَجَزَمَا بِأَنَّهُ لَبِسَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى، وَهَكَذَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِيهِ وَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَتَخَتَّمَ بِهِ فِي يَمِينِهِ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ اتَّخَذْتُ هَذَا الْخَاتَمَ فِي يَمِينِي، ثُمَّ نَبَذَهُ الْحَدِيثَ وَهَذَا صَرِيحٌ مِنْ لَفْظِهِ صلى الله عليه وسلم رَافِعٌ لِلَّبْسِ.

وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي روادٍ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَهُ: وَرَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ فِي يَمِينِهِ انْتَهَى. وَرِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ قَدْ أَخْرَجَهَا أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا رِوَايَةُ أُسَامَةَ، وَأَخْرَجَهَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَيْضًا، فَظَهَرَ أَنَّ رِوَايَةَ الْيَسَارِ فِي حَدِيثِ نَافِعٍ شَاذَّةٌ، وَمَنْ رَوَاهَا أَيْضًا أَقَلُّ عَدَدًا وَأَلْيَنُ مِمَّنْ رَوَى الْيَمِينَ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، فَرَجَحَتْ رِوَايَةُ الْيَمِينِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا.

وَقَدْ وَرَدَ التَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ أَيْضًا فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى: مِنْهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَبِسَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فِي يَمِينِهِ فَصُّهُ حَبَشِيٌّ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى الصَّلْتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَاتَمًا فِي خِنْصَرِهِ الْيَمِينِ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَلْبَسُ خَاتَمَهُ هَكَذَا وَجَعَلَ فَصَّهُ عَلَى ظَهْرِهَا، وَلَا إِخَالُ ابْنَ عَبَّاسٍ إِلَّا ذَكَرَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَوْرَدَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرًا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ وَلَا إِخَالُهُ إِلَّا قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ وَفِي سَنَدِهِ لِينٌ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي رَافِعٍ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ فِي الشَّمَائِلِ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَعَائِشَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَعِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَعَنِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ بِسَنَدٍ سَاقِطٍ. وَوَرَدَ التَّخَتُّمُ فِي الْيَسَارِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا أَخْرَجَهُ

ص: 326

مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصَرِ الْيُسْرَى.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَلِأَبِي الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظٍ كَانَ يَلْبَسُ خَاتَمَهُ فِي يَسَارِهِ وَفِي سَنَدِهِ لِينٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَتَخَتَّمُونَ فِي الْيَسَارِ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ حَسْبُ، وَأَمَّا دَعْوَى الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى التَّخَتُّمِ فِي الْيَسَارِ فَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَهُ مِنِ اسْتِحْبَابِ مَالِكٍ لِلتَّخَتُّمِ وَهُوَ يُرَجِّحُ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَظَنَّ أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ جَاءَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَجَمْعٍ جَمٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمُ التَّخَتُّمُ فِي الْيُمْنَى، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَدَبِ: يُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الَّذِي لَبِسَهُ فِي يَمِينِهِ هُوَ خَاتَمُ الذَّهَبِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَالَّذِي لَبِسَهُ فِي يَسَارِهِ هُوَ خَاتَمُ الْفِضَّةِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ فِضَّةً وَلَبِسَهُ فِي يَمِينِهِ فَكَأَنَّهَا خَطَأٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ وَقَعَ لَهُ وَهَمٌ فِي الْخَاتَمِ الَّذِي طَرَحَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ الَّذِي كَانَ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَنَّ الَّذِي فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ أَنَّهُ الَّذِي كَانَ مِنْ ذَهَبٍ، فَعَلَى هَذَا فَالَّذِي كَانَ لَبِسَهُ فِي يَمِينِهِ هُوَ الذَّهَبُ. اهـ مُلَخَّصًا.

وَجَمَعَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَبِسَ الْخَاتَمَ أَوَّلًا فِي يَمِينِهِ ثُمَّ حَوَّلَهُ إِلَى يَسَارِهِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَخَتَّمَ فِي يَمِينِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ حَوَّلَهُ فِي يَسَارِهِ فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ، وَلَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ طَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَهُ الذَّهَبَ ثُمَّ تَخَتَّمَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ فَجَعَلَهُ فِي يَسَارِهِ وَهَذَا مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، وَقَدْ جَمَعَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ تَخَتَّمَ أَوَّلًا فِي يَمِينِهِ ثُمَّ تَخَتَّمَ فِي يَسَارِهِ وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ عَنِ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَثْبُتُ هَذَا وَلَا هَذَا، وَلَكِنْ فِي يَمِينِهِ أَكْثَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ أنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَصَحُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِيهِ وَصُرِّحَ فِيهِ بِالتَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اخْتِلَافٌ وَالْأَصَحُّ الْيَمِينُ.

قُلْتُ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَصْدِ، فَإِنْ كَانَ اللُّبْسُ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ فَالْيَمِينُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّخَتُّمِ بِهِ فَالْيَسَارُ أَوْلَى لِأَنَّهُ كَالْمُودَعِ فِيهَا، وَيَحْصُلُ تَنَاوُلُهُ مِنْهَا بِالْيَمِينِ وَكَذَا وَضْعُهُ فِيهَا، وَيَتَرَجَّحُ التَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْيَسَارَ آلَةُ الِاسْتِنْجَاءِ فَيُصَانُ الْخَاتَمُ إِذَا كَانَ فِي الْيَمِينِ عَنْ أَنْ تُصِيبَهُ النَّجَاسَةُ، وَيَتَرَجَّحُ التَّخَتُّمُ فِي الْيَسَارِ بِمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنَ التَّنَاوُلِ. وَجَنَحَتْ طَائِفَةٌ إِلَى اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ وَجَمَعُوا بِذَلِكَ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الْأَحَادِيثِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ أَبُو دَاوُدَ حَيْثُ تَرْجَمَ بَابَ التَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ ثُمَّ أَوْرَدَ الْأَحَادِيثَ مَعَ اخْتِلَافِهَا فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْجَوَازِ ثُمَّ قَالَ: وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ - يَعْنِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ التَّخَتُّمَ فِي الْيَسَارِ. وَتَعَقَّبَهُ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ ظَاهِرَهُ النَّسْخُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ بَلِ الْإِخْبَارُ بِالْوَاقِعِ اتِّفَاقًا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌54 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَنْقُشُ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِهِ

5877 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ،

ص: 327

وَنَقَشْتُ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَا يَنْقُشَنَّ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُنْقَشُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (عَلَى نَقْشِ خَاتَمِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْهُ فِي اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ مِنْ فِضَّةٍ وَفِيهِ: فَلَا يَنْقُشْ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: إِنَّا اتَّخَذْنَا، بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهِيَ لِلتَّعْظِيمِ هُنَا، وَالْمُرَادُ أَنِّي اتَّخَذْتُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ وَقَالَ فِيهِ: ثُمَّ قَالَ لَا تَنْقُشُوا عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ أَنَا صَنَعْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا لَمْ يَشْرَكْنِي فِيهِ أَحَدٌ، نُقِشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ اسْمُ الَّذِي صَاغَ خَاتَمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَقَشَهُ. وَأَمَّا نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يَنْقُشَ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ أَيْ مِثْلَ نَقْشِهِ، فَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحِكْمَةِ فِيهِ فِي بَابِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَكَذَا أَخْرَجَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَقَشَ اسْمَهُ عَلَى خَاتَمِهِ، وَكَذَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: مِنْ شَأْنِ الْخُلَفَاءِ وَالْقُضَاةِ نَقْشُ أَسْمَائِهِمْ فِي خَوَاتِمِهِمْ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحَمْدُ لِلَّهِ وَعَنْ عَلِيٍّ اللَّهُ الْمَلِكُ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ بِاللَّهِ وَعَنْ مَسْرُوقٍ بِسْمِ اللَّهِ وَعَنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ الْعِزَّةُ لِلَّهِ وَعَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ لَا بَأْسَ بِنَقْشِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى الْخَاتَمِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَرَاهَتُهُ انْتَهَى. قَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَكْتُبَ الرَّجُلُ فِي خَاتَمِهِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنَحْوَهَا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ عَنْهُ لَمْ تَثْبُتْ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ حَيْثُ يُخَافُ عَلَيْهِ حَمْلُهُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْكَفِّ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَالْجَوَازُ حَيْثُ حَصَلَ الْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تَكُونُ الْكَرَاهَةُ لِذَلِكَ بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا يَعْرِضُ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌55 - بَاب هَلْ يُجْعَلُ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ؟

5878 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمَّا اسْتُخْلِفَ كَتَبَ لَهُ، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ.

5879 -

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَزَادَنِي أَحْمَدُ:، حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ وَفِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَفِي يَدِ عُمَرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسَ، قَالَ: فَأَخْرَجَ الْخَاتَمَ فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ، قَالَ: فَاخْتَلَفْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ عُثْمَانَ، فَنَنزَحَ الْبِئْرَ فَلَمْ نجِدْهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُجْعَلُ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ كَوْنُ نَقْشِ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ أَوْ سَطْرَيْنِ فضل مِنْ كَوْنِهِ سَطْرًا وَاحِدًا، كَذَا قَالَ. قُلْتُ: قَدْ يَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ سَطْرًا وَاحِدًا يَكُونُ الْفَصُّ مُسْتَطِيلًا لِضَرُورَةِ كَثْرَةِ الْأَحْرُفِ، فَإِذَا تَعَدَّدَتِ الْأَسْطُرُ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مُرَبَّعًا أَوْ مُسْتَدِيرًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَوْلَى مِنَ الْمُسْتَطِيلِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبِي) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ ثُمَامَةَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ عَمِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الرَّاوِي، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ مِنْ آلِ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ

ص: 328

طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمَّا اسْتُخْلِفْ كَتَبَ لَهُ) لَمْ يَذْكُرِ الْمَكْتُوبَ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَأَنَّهُ كَتَبَ لَهُ مَقَادِيرَ الزَّكَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولٌ سَطْرٌ، وَاللَّهُ سَطْرٌ) هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ عَرْعَرَةَ بْنِ الْبِرِنْدِ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا نُونٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ دَالٌ عَنْ عَزْرَةَ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا رَاءٌ - ابْنِ ثَابِتٍ، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ فَصُّ خَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَبَشِيًّا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَعَرْعَرَةُ ضَعَّفَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَزِيَادَتُهُ هَذِهِ شَاذَّةٌ، وَظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، لَكِنْ لَمْ تَكُنْ كِتَابَتُهُ عَلَى السِّيَاقِ الْعَادِيِّ، فَإِنَّ ضَرُورَةَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى أَنْ يَخْتِمَ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْأَحْرُفُ الْمَنْقُوشَةُ مَقْلُوبَةً لِيَخْرُجَ الْخَتْمُ مُسْتَوِيًا، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشُّيُوخِ أنَّ كِتَابَتَهُ كَانَتْ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى فَوْقَ، يَعْنِي أَنَّ الْجَلَالَةَ فِي أَعْلَى الْأَسْطُرِ الثَّلَاثَةِ وَمُحَمَّدٌ فِي أَسْفَلِهَا فَلَمْ أَرَ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، بَلْ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ يُخَالِفُ ظَاهِرُهَا ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَالسَّطْرُ الثَّانِي رَسُولٌ، وَالسَّطْرُ الثَّالِثُ اللَّهُ وَلَكَ أَنْ تَقْرَأَ مُحَمَّد بِالتَّنْوِينِ ورسول بالتنوين وَعَدَمِهِ وَاللَّهَ بِالرَّفْعِ وَبِالْجَرِّ.

قَوْلُهُ: (وَزَادَنِي أَحْمَدُ حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ إِلَى آخِرِهِ) هَذِهِ الزِّيَادَةُ مَوْصُولَةٌ، وَأَحْمَدُ الْمَذْكُورُ جَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، لَكِنْ لَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَصْلًا.

قَوْلُهُ: (وَفِي يَدِ عُمَرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ سِتَّ سِنِينَ، فَلَمَّا كَانَ فِي السِّتِّ الْبَاقِيَةِ كُنَّا مَعَهُ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَجَعَلَ يُحَوِّلُهُ فِي يَدِهِ.

قَوْلُهُ: (فَسَقَطَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ.

قَوْلُهُ: (فَاخْتَلَفْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ عُثْمَانَ فَنُزِحَ الْبِئْرُ فَلَمْ نَجِدْهُ) أَيْ فِي الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ وَالنُّزُولِ إِلَى الْبِئْرِ وَالطُّلُوعِ مِنْهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَطَلَبْنَاهُ مَعَ عُثْمَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. كَانَ فِي خَاتَمِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ السِّرِّ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ فِي خَاتَمِ سُلَيْمَانَ عليه السلام، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا فَقَدَ خَاتَمَهُ ذَهَبَ مُلْكُهُ، وَعُثْمَانُ لَمَّا فَقَدَ خَاتَمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَقَضَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَخَرَجَ عَلَيْهِ الْخَارِجُونَ وَكَانَ ذَلِكَ مَبْدَأَ الْفِتْنَةِ الَّتِي أَفْضَتْ إِلَى قَتْلِهِ وَاتَّصَلَتْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ يَسِيرَ الْمَالِ إِذَا ضَاعَ يَجِبُ الْبَحْثُ فِي طَلَبِهِ وَالِاجْتِهَادُ فِي تَفْتِيشِهِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمَّا ضَاعَ عِقْدُ عَائِشَةَ وَحَبَسَ الْجَيْشَ عَلَى طَلَبِهِ حَتَّى وُجِدَ، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَأَمَّا عِقْدُ عَائِشَةَ فَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ بِالْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهُ وَهِيَ رُخْصَةُ التَّيَمُّمِ فَكَيْفَ يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ؟ وَأَمَّا فِعْلُ عُثْمَانَ فَلَا يَنْهَضُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَصْلًا لِمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ إِنَّمَا بَالَغَ فِي التَّفْتِيشِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَثَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ لَبِسَهُ وَاسْتَعْمَلَهُ وَخَتَمَ بِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُسَاوِي فِي الْعَادَةِ قَدْرًا عَظِيمًا مِنَ الْمَالِ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ غَيْرَ خَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَاكْتُفِيَ بِطَلَبِهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَبِالضَّرُورَةِ يُعْلَمُ أَنَّ قَدْرَ الْمُؤْنَةِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ الْخَاتَمِ لَكِنِ اقْتَضَتْ صِفَتُهُ عَظِيمَ قَدْرِهِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا ضَاعَ مِنْ يَسِيرِ الْمَالِ، قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ مِنْ فِعْلِ الصَّالِحِينَ الْعَبَثَ بِخَوَاتِيمِهِمْ وَمَا يَكُونُ بِأَيْدِيهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَائِبٍ لَهُمْ، قُلْتُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ ذلك مِنْ مِثْلِهِمْ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْ فِكْرٍ، وَفِكْرَتُهُمْ إِنَّمَا هِيَ فِي الْخَيْرِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ يَعْبَثُ بِهِ يُحَرِّكُهُ أَوْ يُخْرِجُهُ مِنْ إِصْبَعِهِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ فِيهَا وَذَلِكَ صُورَةُ الْعَبَثِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ الشَّخْصُ ذَلِكَ عِنْدَ تَفَكُّرِهِ فِي الْأُمُورِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا وَلَمْ يَنْجَحْ فِيهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، وَلَا يَكُونُ بَعْدَ الثَّلَاثِ مُضَيِّعًا، وَأَنَّ الثَّلَاثَ حَدٌّ يَقَعُ بِهَا الْعُذْرُ فِي

ص: 329

تَعَذُّرِ الْمَطْلُوبَاتِ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ آثَارِ الصَّالِحِينَ وَلِبَاسُ مَلَابِسِهِمْ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّكِ وَالتَّيَمُّنِ بِهَا.

‌56 - بَاب الْخَاتَمِ لِلنِّسَاءِ، وَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ خَوَاتِيمُ ذَهَبٍ

5880 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَزَادَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ: فَأَتَى النِّسَاءَ، فأمرهن بالصدقة، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَاتَمِ لِلنِّسَاءِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْخَاتَمُ لِلنِّسَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْحُلِيِّ الَّذِي أُبِيحَ لَهُنَّ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ خَوَاتِيمُ الذَّهَبِ) وَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ قَالَ سَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ وَاللَّهِ عَائِشَةَ تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وَتَلْبَسُ خَوَاتِيمَ الذَّهَبِ.

قَوْلُهُ: (طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ) سَقَطَ لَفْظُ فَصَلَّى مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ. وَهِيَ مُرَادَةٌ ثَابِتَةٌ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ ; فَإِنَّهُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِسَنَدِهِ هُنَا.

قَوْلُهُ: (وَزَادَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) يَعْنِي بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِالزِّيَادَةِ مَوْصُولًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ مِنْ رِوَايَةِ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَى النِّسَاءَ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ) الْفَتَخُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقُ بَعْدَهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ جَمْعُ فَتْخَةٍ وَهِيَ الْخَوَاتِيمُ الَّتِي تَلْبَسُهَا النِّسَاءُ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ الْخَوَاتِيمُ الَّتِي لَا فُصُوصَ لَهَا، وَقِيلَ الْخَوَاتِيمُ الْكِبَارُ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ مَعَ بَسْطِ ذَلِكَ.

‌57 - بَاب الْقَلَائِدِ وَالسِّخَابِ لِلنِّسَاءِ، يَعْنِي قِلَادَةً مِنْ طِيبٍ وَسُكٍّ

5881 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تَصَدَّقُ بِخُرْصِهَا وَسِخَابِهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَلَائِدِ وَالسِّخَابِ لِلنِّسَاءِ) السِّخَابُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُوَحَّدَةٌ.

قَوْلُهُ: (يَعْنِي قِلَادَةً مِنْ طِيبٍ وَسُكٍّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَمِسْكٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَافٍ خَفِيفَةٍ، وَالسِّخَابُ جَمْعُ سُخُبٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا فَسَّرَهُ بِهِ غَيْرُهُ فِي بَابِ مَا ذُكِرَ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ فيه حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ - فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي سِخَابَهَا وَخُرْصَهَا بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، ثُمَّ صَادٍ مُهْمَلَةٍ، هِيَ الْحَلْقَةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي بَابِ الْخُطْبَةِ بَعْدَ الْعِيدِ مِنْ كِتَابِ الْعِيدَيْنِ.

‌58 - بَاب اسْتِعَارَةِ الْقَلَائِدِ

5882 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 330

عَنْهَا قَالَتْ: هَلَكَتْ قِلَادَةٌ لِأَسْمَاءَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي طَلَبِهَا رِجَالًا، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَيْسُوا عَلَى وُضُوءٍ وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً، فَصَلَّوْا وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ.

زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِعَارَةِ الْقَلَائِدِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ قِلَادَةِ أَسْمَاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَفِيهِ بَيَانُ الْقِلَادَةِ الْمَذْكُورَةِ مِمَّ كَانَتْ. وقوله: زاد ابن نمير عن هشام، يعني بسنده المذكور أنها استعارت من أسماء - أي بنت أبي بكر - القلادة المذكوة، وقد وصله المؤلف رحمه الله في كتاب الطهارة من طريقه.

‌59 - بَاب الْقُرْطِ لِلنِّسَاءِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ.

5883 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ، قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدًا، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَما وَلَا بَعْدَهَما، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي قُرْطَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقُرْطِ لِلنِّسَاءِ) بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ: مَا يُحَلَّى بِهِ الْأُذُنُ ذَهَبًا كَانَ أَوْ فِضَّةً صِرْفًا أَوْ مَعَ لُؤْلُؤٍ وَغَيْرِهِ وَيُعَلَّقُ غَالِبًا عَلَى شَحْمَتِهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ رحمه الله فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الِاعْتِصَامِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَمَّا فِي الِاعْتِصَامِ فَقَالَ فِي رِوَايَةٍ فَجَعَلَ النِّسَاءُ يُشِرْنَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ وَقَالَ فِي الْعِيدَيْنِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ بِأَيْدِيهِنَّ يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ أَخْرَجَهُ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَهْوِي بِيَدِهَا إِلَى حَلَقَهَا تُلْقِي فِي ثَوْبِ بِلَالٍ وَمَعْنَى الْإِهْوَاءِ الْإِيمَاءُ بِالْيَدِ إِلَى الشَّيْءِ لِيُؤْخَذَ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ فِي الْآذَانِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَلَقِ، وَأَمَّا فِي الْحُلُوقِ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْقَلَائِدُ فَإِنَّهَا تُوضَعُ فِي الْعُنُقِ وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهَا إِذَا تَدَلَّتِ الصَّدْرَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ ثَقْبِ أُذُنِ الْمَرْأَةِ لِتَجْعَلَ فِيهَا الْقُرْطَ وَغَيْرَهُ مِمَّا يَجُوزُ لَهُنَّ التَّزَيُّنُ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَضْعُ الْقُرْطِ فِي ثُقْبَةِ الْأُذُنِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُشْبَكَ فِي الرَّأْسِ بِسَلْسَلَةٍ لَطِيفَةٍ حَتَّى تُحَاذِيَ الْأُذُنَ وَتَنْزِلَ عَنْهَا، سَلَّمْنَا لَكِنْ إِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرْكِ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آذَانُهُنَّ ثُقِبَتْ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ فَيُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أُمِّ زَرْعٍ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنِي وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: كَرِهَ الْجُمْهُورُ ثَقْبَ أُذُنِ الصَّبِيِّ وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ فِي الْأُنْثَى.

قُلْتُ: وَجَاءَ الْجَوَازُ فِي الْأُنْثَى عَنْ أَحْمَدَ لِلزِّينَةِ، وَالْكَرَاهَةُ لِلصَّبِيِّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ يَحْرُمُ ثَقْبُ أُذُنِ الْمَرْأَةِ وَيَحْرُمُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ إِلَّا إِنْ ثَبَتَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ. قُلْتُ: جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: سَبْعَةٌ فِي الصَّبِيِّ مِنَ السُّنَّةِ فَذَكَرَ السَّابِعَ مِنْهَا وَثَقْبُ أُذُنِهِ، وَهُوَ يَسْتَدِرْكُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الشَّارِحِينَ: لَا مُسْتَنَدَ لِأَصْحَابِنَا فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُ سُنَّةٌ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي

ص: 331

عَدِيٌّ) هُوَ ابْنُ ثَابِتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ بَابَيْنِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ خُرْصِهَا بَدَلَ قُرْطِهَا.

‌60 - بَاب السِّخَابِ لِلصِّبْيَانِ

5884 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، فَانْصَرَفَ فَانْصَرَفْتُ، فَقَالَ: أَيْنَ لُكَعُ؟ ثَلَاثًا، ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، فَقَامَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَمْشِي وَفِي عُنُقِهِ السِّخَابُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ هَكَذَا، فَقَالَ الْحَسَنُ بِيَدِهِ هَكَذَا، فَالْتَزَمَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السِّخَاء لِلصِّبْيَانِ) تَقَدَّمَ بَيَانُ السِّخَابِ.

وحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ مَا ذُكِرَ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ مُسْتَوْفًى، وَقَوْلُهُ فِيهِ أَيْنَ لُكَعُ؟ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ أَيْ لُكَعُ بِصِيغَةِ النِّدَاءِ.

‌61 - بَاب الْمُتَشَبِّهُونَ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتُ بِالرِّجَالِ

5885 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ.

تَابَعَهُ عَمْر وأَخْبَرَنَا شُعْبَةُ.

[الحديث 5885 - طرفاه في: 5886، 6534]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ) أَيْ ذَمُّ الْفَرِيقَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اللَّعْنُ الْمَذْكُورُ فِي الْخَبَرِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ وَهُوَ هُوَ.

قَوْلُهُ: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَبِّهِينَ) قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّشَبُّهُ بِالنِّسَاءِ فِي اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ وَلَا الْعَكْسُ. قُلْتُ: وَكَذَا فِي الْكَلَامِ وَالْمَشْيِ، فَأَمَّا هَيْئَةُ اللِّبَاسِ فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ، فَرُبَّ قَوْمٍ لَا يَفْتَرِقُ زِيُّ نِسَائِهِمْ مِنْ رِجَالِهِمْ فِي اللُّبْسِ، لَكِنْ يَمْتَازُ النِّسَاءُ بِالِاحْتِجَابِ وَالِاسْتِتَارِ، وَأَمَّا ذَمُّ التَّشَبُّهِ بِالْكَلَامِ وَالْمَشْيِ فَمُخْتَصٌّ بِمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ فَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِتَكَلُّفِ تَرْكِهِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَمَادَى دَخَلَهُ الذَّمُّ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ، وَأَخْذُ هَذَا وَاضِحٌ مِنْ لَفْظِ الْمُتَشَبِّهِينَ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ مَنْ أَطْلَقَ كَالنَّوَوِيِّ وَأَنَّ الْمُخَنَّثَ الْخِلْقِيَّ لَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِ اللَّوْمُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَرْكِ التَّثَنِّي وَالتَّكَسُّرِ فِي الْمَشْيِ وَالْكَلَامِ بَعْدَ تَعَاطِيهِ الْمُعَالَجَةَ لِتَرْكِ ذَلِكَ، وَإِلَّا مَتَى كَانَ تَرْكُ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَلَوْ بِالتَّدْرِيجِ فَتَرَكَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَحِقَهُ اللَّوْمُ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ الطَّبَرِيُّ بِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمْنَعِ الْمُخَنَّثَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ حَتَّى سَمِعَ مِنْهُ التَّدْقِيقَ فِي وَصْفِ الْمَرْأَةِ كَمَا فِي

ص: 332

ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَنَعَهُ حِينَئِذٍ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا ذَمَّ عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ بِاللَّعْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ تَشَبَّهَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ فِي الزِّيِّ وَمَنْ تَشَبَّهَ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ كَذَلِكَ، فَأَمَّا مَنِ انْتَهَى فِي التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ إِلَى أَنْ يُؤْتَى فِي دُبُرِهِ، وَبِالرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى أَنْ تَتَعَاطَى السُّحْقَ بِغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ فَإِنَّ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ أَشَدُّ مِمَّنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى ذَلِكَ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ مَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنَ الْبُيُوتِ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ لِئَلَّا يُفْضِيَ الْأَمْرُ بِالتَّشَبُّهِ إِلَى تَعَاطِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ مَا مُلَخَّصُهُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ الزَّجْرُ عَنِ التَّشَبُّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنْ عُرِفَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّشَبُّهُ فِي الزِّيِّ وَبَعْضِ الصِّفَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَنَحْوِهَا، لَا التَّشَبُّهُ فِي أُمُورِ الْخَيْرِ. وَقَالَ أَيْضًا: اللَّعْنُ الصَّادِرُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُرَادُ بِهِ الزَّجْرُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي وَقَعَ اللَّعْنُ بِسَبَبِهِ وَهُوَ مَخُوفٌ، فَإِنَّ اللَّعْنَ مِنْ عَلَامَاتِ الْكَبَائِرِ، وَالْآخَرُ يَقَعُ فِي حَالِ الْحَرَجِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَخُوفٍ، بَلْ هُوَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّ مَنْ لَعَنَهُ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ الَّذِي لَعَنَهُ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي لَعْنِ مَنْ تَشَبَّهَ إِخْرَاجُهُ الشَّيْءَ عَنِ الصِّفَةِ الَّتِي وَضَعَهَا عَلَيْهِ أَحْكَمُ الْحُكَمَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي لَعْنِ الْوَاصِلَاتِ بِقَوْلِهِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ) يَعْنِي بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ الْقَاضِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ بِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ لُبْسُ الثَّوْبِ الْمُكَلَّلِ بِا لُّؤْلُؤِ، وَهُوَ وَاضِحٌ لِوُرُودِ عَلَامَاتِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ لَعْنُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَا أَكْرَهُ لِلرَّجُلِ لُبْسَ اللُّؤْلُؤِ إِلَّا لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ فَلَيْسَ مُخَالِفًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي النَّهْيِ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ شَيْءٌ.

‌62 - بَاب إِخْرَاجِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنْ الْبُيُوتِ

5886 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ، وَقَالَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ. قَالَ: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فُلَانًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلَانًا.

5887 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَداً الطَّائِفَ فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ يَعْنِي أَرْبَعَ عُكَنِ بَطْنِهَا فَهِيَ تُقْبِلُ بِهِنَّ وَقَوْلُهُ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ يَعْنِي أَطْرَافَ هَذِهِ الْعُكَنِ الأَرْبَعِ لِأَنَّهَا مُحِيطَةٌ بِالْجَنْبَيْنِ حَتَّى لَحِقَتْ وَإِنَّمَا قَالَ بِثَمَانٍ وَلَمْ يَقُلْ بِثَمَانِيَةٍ وَوَاحِدُ الأَطْرَافِ وَهُوَ ذَكَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ثَمَانِيَةَ أَطْرَافٍ".

قَوْلُهُ: (بَابُ إِخْرَاجِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنَ الْبُيُوتِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْنَسَفِيِّ بَابُ إِخْرَاجِهِمْ وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

ص: 333

الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ وَهِشَامٍ جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَكَأَنَّ أَبَا دَاوُدَ حَمَلَ رِوَايَةَ هِشَامٍ عَلَى رِوَايَةِ شُعْبَةَ فَإِنَّ رِوَايَةَ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ هِيَ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَرِوَايَةَ هِشَامٍ، عَنْ يَحْيَى هِيَ بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِي فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ وَأَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ كِلَاهُمَا عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ.

قَوْلُهُ: (الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ) تَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى ضَبْطِهِ عَقِبَ هَذَا.

قَوْلُهُ: (وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فَقُلْتُ لَهُ: مَا الْمُتَرَجِّلَاتُ مِنَ النِّسَاءِ؟ قَالَ: الْمُتَشَبِّهَاتُ بِالرِّجَالِ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فُلَانًا وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلَانَةَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فُلَانَةُ بِالتَّأْنِيثِ وَكَذَا وَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ وَلِلْبَاقِينَ فُلَانًا بِالتَّذْكِيرِ، وَكَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَتَمَّامٌ الرَّازِيُّ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ حَدِيثِ وَائِلَةَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا بِتَمَامِهِ وَقَالَ فِيهِ وَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْجَشَةَ، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلَانًا وَأَنْجَشَةُ هُوَ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ الَّذِي كَانَ يَحْدُو بِالنِّسَاءِ، وَسَيَأْتِي خَبَرُهُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَسَامِي مَنْ كَانَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ مِنَ الْمُخَنَّثِينَ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَلَى تَسْمِيَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ عُمَرُ، إِلَى أَنْ ظَفِرْتُ بِكِتَابٍ لِأَبِي الْحَسَنِ الْمَدَايِنِيِّ سَمَّاهُ كِتَابَ الْمُغَرَّبِينَ بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثَقِيلَةٍ، فَوَجَدْتُ فِيهِ عِدَّةَ قَصَصٍ لِمَنْ غَرَّبَهُمْ عُمَرُ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ أَوَاخِرِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَتَسْمِيَتُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ النِّكَاحِ، وَشَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى، وَبَيَانُ مَا وَقَعَ هُنَا مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ مِنْ شَرْحِ قَوْلِهِ تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: لَا يُدْخَلَنَّ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ: كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الْوَجْهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: عَلَيْكُمْ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّهُ جَمَعَ مَعَ النِّسَاءِ الْمُخَاطَبَاتِ بِذَلِكَ مَنْ يَلُوذُ بِهِنَّ مِنْ صَبِيٍّ وَوَصِيفٍ، فَجَاءَ التَّغْلِيبُ. وَقَدْ تُفْتَحُ التَّحْتَانِيَّةُ أَوَّلَهُ مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ إِخْرَاجِ كُلِّ مَنْ يَحْصُلُ بِهِ التَّأَذِّي لِلنَّاسِ عَنْ مَكَانِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ يَتُوبَ.

‌63 - بَاب قَصِّ الشَّارِبِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحْفِي شَارِبَهُ حَتَّى يُنْظَرَ إِلَى بَيَاضِ الْجِلْدِ وَيَأْخُذُ هَذَيْنِ، يَعْنِي بَيْنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ

5888 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ نَافِعٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا، عَنْ الْمَكِّيِّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنْ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ.

[الحديث 5888 - طرفه في: 5890]

5889 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ أَوْ خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ".

[الحديث 5889 - طرفاه في: 5891، 6297]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَصِّ الشَّارِبِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ كِتَابِ اللِّبَاسِ لَهَا تَعَلُّقٌ بِاللِّبَاسِ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ فِي الزِّينَةِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا التَّرَاجِمَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالشُّعُورِ وَمَا شَاكَلَهَا، وَثَانِيًا الْمُتَعَلِّقَةَ بِالتَّطَيُّبِ، وَثَالِثًا الْمُتَعَلِّقَةَ بِتَحْسِينِ الصُّورَةِ،

ص: 334

وَرَابِعًا الْمُتَعَلِّقَةَ بِالتَّصَاوِيرِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي الثِّيَابِ، وَخَتَمَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالِارْتِدَافِ وَتَعَلُّقُهُ بِهِ خَفِيٌّ وَتَعَلُّقُهُ بِكِتَابِ الْأَدَبِ الَّذِي يَلِيهِ ظَاهِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَصْلُ الْقَصِّ تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، وَقَيَّدَهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ بِاللَّيْلِ، وَالْقَصُّ أَيْضًا إِيرَادُ الْخَبَرِ تَامًّا عَلَى مَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى قَطْعِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ بِآلَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا قطع الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الشَّفَةِ الْعُلْيَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْصَالٍ، وَكَذَا قَصُّ الظُّفْرِ أَخْذُ أَعْلَاهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْصَالٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَالنَّسَفِيِّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَوَقَعَ لِلْبَاقِينَ وَكَانَ عُمَرُ - قُلْتُ: وَهُوَ خَطَأٌ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُوَفِّرُ شَارِبَهُ.

قَوْلُهُ: (يُحْفِي شَارِبَهُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ ثُلَاثِيًّا وَرُبَاعِيًّا مِنَ الْإِحْفَاءِ أَوِ الْحَفْوِ وَالْمُرَادُ الْإِزَالَةُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَرَى بَيَاضَ الْجِلْدِ) وَصَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُحْفِي شَارِبَهُ حَتَّى لَا يَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَأْخُذُ مِنْ شَارِبِهِ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلَهُ وَهَذَا يَرُدُّ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ فِي أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِزَالَةُ مَا عَلَى طَرَفِ الشَّفَةِ فَقَطْ.

قَوْلُهُ: (وَيَأْخُذُ هَذَيْنِ يَعْنِي بَيْنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ) كَذَا وَقَعَ فِي التَّفْسِيرِ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ رَزِينٌ فِي جَامِعِهِ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ جَازِمًا بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَهُ، وَقَوْلُهُ بَيْنَ كَذَا لِلْجَمِيعِ إِلَّا أَنَّ عِيَاضًا ذَكَرَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ رَوَاهُ بِلَفْظِ مِنْ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ نَافِعٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا عَنِ الْمَكِّيِّ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ شَيْخَهُ مَكِّيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَهُ بِهِ عَنْ حَنْظَلَةَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عُمَرَ فِي السَّنَدِ، وَحَدَّثَ بِهِ غَيْرُ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مَكِّيٍّ مَوْصُولًا بِذِكْرِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْبُخَارِيِّ قَالَ أَصْحَابُنَا هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَبِهَذَا جَزَمَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ رحمه الله لَكِنْ قَالَ: ظَهَرَ لِي أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى نَافِعٍ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَتَلَقَّى ذَلِكَ مِنَ الْحُمَيْدِيِّ فَإِنَّهُ جَزَمَ بِذَلِكَ فِي الْجَمْعِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَأَمَّا الْكِرْمَانِيُّ فَزَعَمَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ مُنْقَطِعَةٌ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا بَيْنَ مَكِّيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَحَدًا فَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: رَوَى أَصْحَابُنَا الْحَدِيثَ مُنْقَطِعًا فَقَالُوا: حَدَّثَنَا مَكِّيٌّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَطَرَحُوا ذِكْرَ الرَّاوِي الَّذِي بَيْنَهُمَا، كَذَا قَالَ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ مَا أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ لَكِنْ تَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ مَوْصُولٌ بَيْنَ مَكِّيٍّ وَابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: هَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ النَّاظِرُ، وَهُوَ مَاذَا الَّذِي أَرَادَ بِقَوْلِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا عَنِ الْمَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَوَاهُ مَرَّةً عَنْ شَيْخِهِ مَكِّيٍّ، عَنْ نَافِعٍ مُرْسَلًا وَمَرَّةً عَنْ أَصْحَابِهِ عن مكي مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمْ نَسَبَ الرَّاوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِلَى أَنَّهُ الْمَكِّيُّ اهـ.

وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْكِرْمَانِيُّ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، ثُمَّ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رُبَّمَا رَوَى عَنِ الْمَكِّيِّ بِالْوَاسِطَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ، وَوَقَعَ لَهُ فِي كِتَابِهِ نَظَائِرُ لِذَلِكَ، مِنْهَا مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَابِ الْجَعْدِ حَيْثُ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَذَكَرَ حَدِيثًا ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ مَالِكِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فَذَكَرَ زِيَادَةً فِي الْمَتْنِ، وَنَظِيرُهُ فِي الِاسْتِئْذَانِ فِي بَابِ قَوْلِهِ قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ. قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلُهُ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ فَذَكَرَ حَدِيثًا وَقَالَ فِي آخِرِهِ: أَفْهَمَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ فَذَكَرَ كَلِمَةً فِي الْمَتْنِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا سَبَقَ فِي الْمَنَاقِبِ فِي ذِكْرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَ حَدِيثًا وَقَالَ فِي آخِرِهِ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ سُلَيْمَانَ فَذَكَرَ زِيَادَةً فِي الْمَتْنِ أَيْضًا. قُلْتُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْبَابِ وَقَعَ فِي الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ، وَالِاخْتِلَافَ فِي غَيْرِهِ وَقَعَ بِالزِّيَادَةِ فِي الْمَتْنِ، لَكِنِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي مُطْلَقِ الِاخْتِلَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ

ص: 335

الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَنْظَلَةَ مَوْصُولًا مَرْفُوعًا، لَكِنَّهُ نَزَلَ فِيهِ دَرَجَةً، وَطَرِيقُ مَكِّيٍّ وَقَعَتْ لَنَا فِي مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ لِأَبِي أُمَيَّةَ الطَّرَسُوسِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فَذَكَرَهُ مَوْصُولًا مَرْفُوعًا وَزَادَ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ قَصُّ الشَّارِبِ وَالظُّفْرِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَكِّيٍّ.

قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَغْفَلَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي تَرْجَمَةِ حَنْظَلَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَا مِنْ طَرِيقِ مَكِّيٍّ وَلَا مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ هَذَا ذَكَرَ لِي مُحَدِّثُ حَلَبَ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْحَلَبِيُّ أَنَّ شَيْخَنَا الْبُلْقِينِيَّ قَالَ لَهُ: الْقَائِلُ قَالَ أَصْحَابُنَا هُوَ الْبُخَارِيُّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَكِّيِّ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ فَإِنَّهُ مَكِّيٌّ، قَالَ: وَالسَّنَدَانِ مُتَّصِلَانِ، وَمَوْضِعُ الِاخْتِلَافِ بَيَانُ أَنَّ مَكِّيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيَّ سَمَّى حَنْظَلَةَ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الْبُخَارِيِّ فَلَمَّا رَوَوْهُ لَهُ عَنْ حَنْظَلَةَ لَمْ يُسَمُّوهُ بَلْ قَالُوا: عَنِ الْمَكِّيِّ قَالَ: فَالسَّنَدُ الْأَوَّلُ مَكِّيٌّ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالثَّانِي أَصْحَابُنَا عَنِ الْمَكِّيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي فَهْمِ ذَلِكَ صُعُوبَةٌ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَتَبَجَّحُ بِذَلِكَ، وَلَقَدْ صَدَقَ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ الصُّعُوبَةِ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ جَمَاعَةٌ لَقُوا حَنْظَلَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الَّذِي سَمِعَ مِنْ حَنْظَلَةَ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يُحَدِّثُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ إِلَّا بِوَاسِطَةٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ طَلَبِ الْبُخَارِيِّ الْحَدِيثَ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ حِبَّانَ: مَاتَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ، وَقَدْ أَفْصَحَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ بِالْمُرَادِ فَقَالَ فِي تَرْجَمَةِ حَنْظَلَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثُ: مِنَ الْفِطْرَةِ حَلْقُ الْعَانَةِ وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ وَقَصُّ الشَّارِبِ، خ فِي اللِّبَاسِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ

إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ مَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: وَقَالَ أَصْحَابُنَا عَنْ مَكِّيٍّ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَصَرَّحَ بِأَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِقَوْلِهِ عَنِ الْمَكِّيِّ: الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَمَا قَدَّمْتُهُ أَنَّ مَكِّيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيَّ أَرْسَلَهُ، وَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ غَيْرَ الْبُخَارِيِّ وَصَلَهُ، فَحَكَى الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ ثُمَّ سَاقَهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْمِزِّيُّ.

قَوْلُهُ: (الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا) هُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الرَّاوِي عَلَى الصِّيغَةِ وَهُوَ سَائِغٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِالْعَنْعَنَةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةٌ) هِيَ كِنَايَةٌ عَنْ قَوْلِ الرَّاوِي: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ نَحْوِهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبَيَّنَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ تَارَةً يَكُنِّي وَتَارَةً يُصَرِّحُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي رِوَايَةً أَوْ يَرْوِيهِ أَوْ يَبْلُغُ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ زِيَادَةُ أَبِي سَلَمَةَ مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي السَّنَدِ الذي أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ.

قَوْلُهُ: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ بِالشَّكِّ وَهُوَ مِنْ سُفْيَانَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، وَلَمْ يَشُكَّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بِالْعَكْسِ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأُولَى، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ:

ص: 336

دَلَالَةُ مِنْ عَلَى التَّبْعِيضِ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى الْحَصْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَصْرَ فِيهَا غَيْرُ الْمُرَادِ. وَاخْتُلِفَ فِي النُّكْتَةِ فِي الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، فَقِيلَ بِرَفْعِ الدَّلَالَةِ وَأَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَقِيلَ بَلْ كَانَ أَعْلَمَ أَوَّلًا بِالْخَمْسِ ثُمَّ أَعْلَمَ بِالزِّيَادَةِ، وَقِيلَ بَلِ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَقَامِ فَذَكَرَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ اللَّائِقَ بِالْمُخَاطَبِينَ، وَقِيلَ أُرِيدَ بِالْحَصْرِ الْمُبَالَغَةُ لِتَأْكِيدِ أَمْرِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا حُمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ، وَ: الْحَجُّ عَرَفَةُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَى التَّأْكِيدِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا: مَنْ لَمْ يُؤْخَذْ شَارِبُهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ عَمْرٍو الْمَعَافِرِيِّ نَحْوَهُ وَزَادَ فِيهِ: حَلْقَ الْعَانَةِ وَتَقْلِيمَ الْأَظَافِرِ، وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الْخِتَانِ دَلِيلُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ.

وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ خِصَالَ الْفِطْرَةِ تَبْلُغُ ثَلَاثِينَ خَصْلَةً، فَإِذَا أَرَادَ خُصُوصَ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْفِطْرَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَنْحَصِرُ فِي الثَّلَاثِينَ بَلْ تَزِيدُ كَثِيرًا، وَأَقَلُّ مَا وَرَدَ فِي خِصَالِ الْفِطْرَةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ قَبْلُ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ إِلَّا ثَلَاثًا، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّهُ وَرَدَ بِلَفْظِ الْفِطْرَةِ وَبِلَفْظِ مِنَ الْفِطْرَةِ، وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ بِلَفْظِ: ثَلَاثٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، وَأَخْرَجَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِلَفْظِ: مِنَ الْفِطْرَةِ، فَذَكَرَ الثَّلَاثَ وَزَادَ الْخِتَانَ ; وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، فَذَكَرَ الْخَمْسَةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا الْخِتَانَ وَزَادَ: إِعْفَاءَ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكَ وَالْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَغَسْلَ الْبَرَاجِمِ وَالِاسْتِنْجَاءَ، أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْهَا، لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ إِنَّ الرَّاوِيَ نَسِيَ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونُ الْمَضْمَضَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ بِلَفْظِ: عَشْرَةٌ مِنَ السُّنَّةِ، وَذَكَرَ الِاسْتِنْثَارَ بَدَلَ الِاسْتِنْشَاقِ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ طَلْقَ بْنَ حَبِيبٍ يَذْكُرُ عَشْرَةً مِنَ الْفِطْرَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَشَكَكْتُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ عَلى طَلْقٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ عَشْرٌ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْخِتَانَ بَدَلَ غَسْلِ الْبَرَاجِمِ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ الرِّوَايَةَ الْمَقْطُوعَةَ عَلَى الْمَوْصُولَةِ الْمَرْفُوعَةِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ، فَإِنَّ رَاوِيَهَا مُصْعَبَ بْنَ شَيْبَةَ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَلَيَّنَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا فَحَدِيثُهُ حَسَنٌ، وَلَهُ شَوَاهِدُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، فَالْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ سَائِغٌ، وَقَوْلُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ سَمِعْتُ طَلْقَ بْنَ حَبِيبٍ يَذْكُرُ عَشْرًا مِنَ الْفِطْرَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَذْكُرُهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ عَلَى ظَاهِرِ مَا فَهِمَهُ النَّسَائِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَذْكُرُهَا وَسَنَدَهَا فَحَذَفَ سُلَيْمَانُ السَّنَدَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَرْفُوعًا نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَ: مِنَ الْفِطْرَةِ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالسِّوَاكُ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَالِانْتِضَاحُ، وَذَكَرَ الْخَمْسَ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَاقَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَأَمَّا أَبُو دَاوُدَ فَأَحَالَ بِهِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْفَرْقَ وَلَمْ يَذْكُرْ إِعْفَاءَ اللِّحْيَةِ. قُلْتُ: كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ طَاوُوسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قَالَ: ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالطَّهَارَةِ، خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ، وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ.

قُلْتُ: فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ عَائِشَةَ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ سَوَاءً وَلَمْ يَشُكَّ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَذَكَرَ أَيْضًا الْفَرْقَ بَدَلَ إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ غُسْلَ الْجُمُعَةِ بَدَلَ الِاسْتِنْجَاءِ ; فَصَارَ مَجْمُوعُ الْخِصَالِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً اقْتَصَرَ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِ السِّوَاكِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْهَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ، وَزَادَ النَّوَوِيُّ وَاحِدَةً فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَقَدْ رَأَيْتُ قَبْلَ

ص: 337

الْخَوْضِ فِي شَرْحِ الْخَمْسِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنْ أُشِيرَ إِلَى شَرْحِ الْعَشْرِ الزَّائِدَةِ عَلَيْهَا: فَأَمَّا الْوُضُوءُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالِاسْتِنْثَارُ وَالِاسْتِنْجَاءُ وَالسِّوَاكُ وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ فَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَأَمَّا إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ فَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَأَمَّا الْفَرْقُ فَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَأَمَّا غَسْلُ الْبَرَاجِمِ فَهُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْجِيمِ جَمْعُ بُرْجُمَةٍ بِضَمَّتَيْنِ وَهِيَ عُقَدُ الْأَصَابِعِ الَّتِي فِي ظَهْرِ الْكَفِّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَتَّسِخُ وَيَجْتَمِعُ فِيهَا الْوَسَخُ وَلَا سِيَّمَا مِمَّنْ لَا يَكُونُ طَرِيَّ الْبَدَنِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: كَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَغْسِلُ الْيَدَ عَقِبَ الطَّعَامِ فَيَجْتَمِعُ فِي تِلْكَ الْغُضُونِ وَسَخٌ، فَأَمَرَ بِغَسْلِهَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهِيَ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالْوُضُوءِ، يَعْنِي أَنَّهَا يُحْتَاجُ إِلَى غَسْلِهَا فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّنْظِيفِ، وَقَدْ أَلْحَقَ بِهَا إِزَالَةَ مَا يَجْتَمِعُ مِنَ الْوَسَخِ فِي مَعَاطِفِ الْأُذُنِ وَقَعْرِ الصِّمَاخِ فَإِنَّ فِي بَقَائِهِ إِضْرَارًا بِالسَّمْعِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِتَعَاهُدِ الْبَرَاجِمِ عِنْدَ الْوُضُوءِ لِأَنَّ الْوَسَخَ إِلَيْهَا سَرِيعٌ وَلِلتِّرْمِذِيِّ الْحَكِيمِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ رَفَعَهُ: قُصُّوا أَظْفَارَكُمْ، وَادْفِنُوا قُلَامَاتِكُمْ، وَنَقُّوا بِرَاجِمَكُمْ، وَفِي سَنَدِهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَلِمَ لَا يُبْطِئُ عَنِّي وَأَنْتُمْ لَا تَسْتَنُّونَ - أَيْ لَا تَسْتَاكُونَ - وَلَا تَقُصُّونَ شَوَارِبَكُمْ وَلَا تُنَقُّونَ رَوَاجِبَكُمْ وَالرَّوَاجِبُ جَمْعُ رَاجِبَةٍ بِجِيمٍ وَمُوَحَّدَةٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْبَرَاجِمُ وَالرَّوَاجِبُ مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ كُلُّهَا. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْبُرْجَمَةُ الْمِفْصَلُ الْبَاطِنُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَالرَّوَاجِبُ بَوَاطِنُ مَفَاصِلِ أُصُولِ الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ قَصَبُ الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ هِيَ ظُهُورُ السُّلَامَيَاتِ، وَقِيلَ مَا بَيْنَ الْبَرَاجِمِ مِنَ السُّلَامَيَاتِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الرَّاجِبَةُ الْبُقْعَةُ الْمَلْسَاءُ الَّتِي بَيْنَ الْبَرَاجِمِ، وَالْبَرَاجِمُ الْمُسَبِّحَاتُ مِنْ مَفَاصِلِ الْأَصَابِعِ، وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ ثَلَاثُ بُرْجُمَاتٍ إِلَّا الْإِبْهَامَ فَلَهَا بُرْجُمَتَانِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّوَاجِبُ مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ اللَّاتِي تَلِي الْأَنَامِلَ، ثُمَّ الْبَرَاجِمُ، ثُمَّ الْأَشَاجِعُ اللَّاتِي عَلَى الْكَفِّ.

وَقَالَ أَيْضًا: الرَّوَاجِبُ رُؤوسُ السُّلَامَيَاتِ مِنْ ظَهْرِ الْكَفِّ، إِذَا قَبَضَ الْقَابِضُ كَفَّهُ نَشَزَتْ وَارْتَفَعَتْ، وَالْأَشَاجِعُ أُصُولُ الْأَصَابِعِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِعَصَبِ ظَاهِرِ الْكَفِّ، وَاحِدُهَا أَشْجَعُ، وَقِيلَ هِيَ عُرُوقُ ظَاهِرِ الْكَفِّ، وَأَمَّا الِانْتِضَاحُ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ: هُوَ أَنْ يَأْخُذَ قَلِيلًا مِنَ الْمَاءِ فَيَنْضَحَ بِهِ مَذَاكِيرَهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِيَنْفِيَ عَنْهُ الْوَسْوَاسَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: انتِضَاحُ الْمَاءِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ النَّضْحِ وَهُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ، فَعَلَى هَذَا هُوَ وَالِاسْتِنْجَاءُ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ غَيْرُهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ الْحَكَمِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ أَوْ سُفْيَانَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ ثُمَّ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَانْتَضَحَ بِهَا وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي أَجِدُ بَلَلًا إِذَا قُمْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: انْضَحْ بِمَاءٍ، فَإِذَا وَجَدْتَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَقُلْ هُوَ مِنْهُ.

وَأَمَّا الْخِصَالُ الْوَارِدَةُ فِي الْمَعْنَى لَكِنْ لِمْ يَرِدِ التَّصْرِيحُ فِيهَا بِلَفْظِ الْفِطْرَةِ فَكَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ رَفَعَهُ: أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: الْحَيَاءُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ الْحَيَاءِ فَقِيلَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ الْخَفِيفَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ: الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ هِيَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ هِيَ خَصْلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِتَحْسِينِ الْخُلُقِ، وَعَلَى الثَّانِي هِيَ خَصْلَةٌ حِسِّيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِتَحْسِينِ الْبَدَنِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ: خَمْسٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، فَذَكَرَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ إِلَّا النِّكَاحَ وَزَادَ الْحِلْمَ وَالْحِجَامَةَ، وَالْحِلْمُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي الضَّبْطَ الْأَوَّلَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، وَإِذَا تُتُبِّعَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ

ص: 338

كَثُرَ الْعَدَدُ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْخِصَالِ مَصَالِحُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ تُدْرَكُ بِالتَّتَبُّعِ، مِنْهَا تَحْسِينُ الْهَيْئَةِ، وَتَنْظِيفُ الْبَدَنِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَالِاحْتِيَاطُ لِلطَّهَارَتَيْنِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمُخَالَطِ وَالْمُقَارَنِ بِكَفِّ مَا يَتَأَذَّى بِهِ مِنْ رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ، وَمُخَالَفَةُ شِعَارِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ، وَامْتِثَالُ أَمْرِ الشَّارِعِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ مِنْ مُنَاسَبَةِ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ قَدْ حَسُنَتْ صُوَرُكُمْ فَلَا تُشَوِّهُوهَا بِمَا يُقَبِّحُهَا، أَوْ حَافِظُوا عَلَى مَا يَسْتَمِرُّ بِهِ حُسْنُهَا، وَفِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مُحَافَظَةٌ عَلَى الْمُرُوءَةِ وَعَلَى التَّآلُفِ الْمَطْلُوبِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا بَدَا فِي الْهَيْئَةِ الْجَمِيلَةِ كَانَ أَدْعَى لِانْبِسَاطِ النَّفْسِ إِلَيْهِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيُحْمَدُ رَأْيُهُ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ. وَأَمَّا شَرْحُ الْفِطْرَةِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ هُنَا السُّنَّةُ، وَكَذَا قَالَهُ غَيْرُهُ، قَالُوا وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَعْنِيُّ بِالْفِطْرَةِ الدِّينُ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الدِّينُ، وَاسْتَشْكَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ: مَعْنَى الْفِطْرَةِ بَعِيدٌ مِنْ مَعْنَى السُّنَّةِ، لَكِنْ لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ سُنَّةُ الْفِطْرَةِ.

وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ هُوَ الصَّوَابُ. فَإِنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ قَصُّ الشَّارِبِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، قَالَ: وَأَصَحُّ مَا فَسَّرَ الْحَدِيثَ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا سِيَّمَا فِي الْبُخَارِيِّ اهـ. وَقَدْ تَبِعَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ عَلَى هَذَا، وَلَمْ أَرَ الَّذِي قَالَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، بَلِ الَّذِي فِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: الْفِطْرَةِ، وَكَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. نَعَمْ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِالسُّنَّةِ مَوْضِعَ الْفِطْرَةِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى بِلَفْظِ الْفِطْرَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْفَطْرِ بِفَتْحِ الْفَاءِ الشَّقُّ طُولًا، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَهْيِ وَعَلَى الِاخْتِرَاعِ وَعَلَى الْإِيجَادِ، وَالْفِطْرَةُ والْإِيجَادُ عَلَى غَيْرِ مِثلٍ.

وَقَالَ أَبُو شَامَةَ، أَصْلُ الْفِطْرَةِ الْخِلْقَةُ الْمُبْتَدَأَةُ، وَمِنْهُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيِ الْمُبْتَدِئُ خَلْقَهُنَّ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، أَيْ عَلَى مَا ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَهُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَوْ تُرِكَ مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ وَمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ نَظَرُهُ لَأَدَّاهُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهَا:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} وَإِلَيْهِ يُشِيرُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ حَيْثُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِذَا فُعِلَتِ اتَّصَفَ فَاعِلُهَا بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَيْهَا وَحَثَّهُمْ عَلَيْهَا وَاسْتَحَبَّهَا لَهُمْ لِيَكُونُوا عَلَى أَكْمَلِ الصِّفَاتِ وَأَشْرَفِهَا صُورَةً اهـ. وَقَدْ رَدَّ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ الْفِطْرَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ إِلَى مَجْمُوعِ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ الِاخْتِرَاعُ وَالْجِبِلَّةُ وَالدِّينُ وَالسُّنَّةُ فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ، وَكَأَنَّهَا أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ فُطِرُوا عَلَيْهَا انْتَهَى.

وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ فِي قَوْلِهِ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، أَنَّ قَوْلَهُ: خَمْسٌ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ خِصَالٌ خَمْسٌ ثُمَّ فَسَّرَهَا، أَوْ عَلَى الْإِضَافَةِ أَيْ خَمْسُ خِصَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي شُرِعَ لَكُمْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، وَالتَّعْبِيرُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ بِالسُّنَّةِ بَدَلَ الْفِطْرَةِ يُرَادُ بِهَا الطَّرِيقَةُ لَا الَّتِي تُقَابِلُ الْوَاجِبَ، وَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَقَالُوا: هُوَ كَالْحَدِيثِ الْآخَرِ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَأَغْرَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: عِنْدِي أَنَّ الْخِصَالَ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كُلَّهَا وَاجِبَةٌ، فَإِنَّ الْمَرْءَ لَوْ تَرَكَهَا لَمْ تَبْقَ صُورَتُهُ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ فَكَيْفَ

ص: 339

مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، كَذَا قَالَ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ وَتَعَقَّبَهُ أَبُو شَامَةَ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي مَقْصُودُهَا مَطْلُوبٌ لِتَحْسِينِ الْخَلْقِ وَهِيَ النَّظَافَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى وُرُودِ أَمْرِ إِيجَابٍ لِلشَّارِعِ فِيهَا اكْتِفَاءً بِدَوَاعِي الْأَنْفُسِ، فَمُجَرَّدُ النَّدْبِ إِلَيْهَا كَافٍ. وَنَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: دَلَّ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ بِمَعْنَى الدِّينِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا أُضِيفَ إِلَى الشَّيْءِ أَنَّهُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَرْكَانِهِ لَا مِنْ زَوَائِدِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ أُمِرَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، وَكُلُّ شَيْءٍ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ لِمَنْ أُمِرَ بِهِ.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ وُجُوبَ الِاتِّبَاعِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ كُلِّ مَتْبُوعٍ فِيهِ بَلْ يَتِمُّ الِاتِّبَاعُ بِالِامْتِثَالِ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَتْبُوعِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى التَّابِعِ أَوْ نَدْبًا فَنُدِبَ، فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ وُجُوبِ هَذِهِ الْخِصَالِ عَلَى الْأُمَّةِ عَلَى ثُبُوتِ كَوْنِهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْخَلِيلِ عليه السلام.

قَوْلُهُ (الْخِتَانُ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ مَصْدَرُ خَتَنَ أَيْ قَطَعَ، وَالْخَتْنُ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ قَطْعُ بَعْضٍ مَخْصُوصٍ مِنْ عُضْوٍ مَخْصُوصٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ الِاخْتِتَانُ وَالْخِتَانُ اسْمٌ لِفِعْلِ الْخَاتِنِ وَلِمَوْضِعِ الْخِتَانِ أَيْضًا كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَالْأَوَّلُ الْمُرَادُ هُنَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: خِتَانُ الذَّكَرِ قَطْعُ الْجِلْدَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تُسْتَوْعَبَ مِنْ أَصْلِهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْحَشَفَةِ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ أَنْ لَا يَبْقَى مِنْهَا مَا يَتَغَشَّى بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَشَفَةِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْمُسْتَحَقُّ فِي الرِّجَالِ قَطْعُ الْقُلْفَةِ، وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَ الْجِلْدَةِ شَيْءٌ مُتَدَلٍّ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: حَتَّى تَنْكَشِفَ جَمِيعُ الْحَشَفَةِ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ فِيمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ: يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِقَطْعِ شَيْءٍ مِمَّا فَوْقَ الْحَشَفَةِ وَإِنْ قَلَّ بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْقَطْعُ تَدْوِيرَ رَأْسِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ شَاذٌّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْمُسْتَحَقُّ مِنْ خِتَانِ الْمَرْأَةِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ خِتَانُهَا قَطْعُ جِلْدَةٍ تَكُونُ أَعْلَى فَرْجِهَا فَوْقَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ كَالنَّوَاةِ أَوْ كَعُرْفِ الدِّيكِ، وَالْوَاجِبُ قَطْعُ الْجِلْدَةِ الْمُسْتَعْلِيَةِ مِنْهُ دُونَ اسْتِئْصَالِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُنْهِكِي فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.

قُلْتُ: وَلَهُ شَاهِدَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَمِنْ حَدِيثِ أُمِّ أَيْمَنَ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْعَقِيقَةِ وَآخَرَ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسَمَّى خِتَانُ الرَّجُلِ إِعْذَارًا بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ، وَخِتَانُ الْمَرْأَةِ خَفْضًا بِخَاءٍ وَضَادٍ مُعْجَمَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: كَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقْتَضِي تَسْمِيَةَ الْكُلِّ إِعْذَارًا وَالْخَفْضُ يَخْتَصُّ بِالْأُنْثَى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عُذِرَتِ الْجَارِيَةُ وَالْغُلَامُ وَأَعْذَرْتَهُمَا خَتَنْتَهُمَا وَأَخْتَنْتَهُمَا وَزْنًا وَمَعْنًى، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْأَكْثَرُ خُفِضَتِ الْجَارِيَةُ، قَالَ: وَتَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّ الْغُلَامَ إِذَا وُلِدَ فِي الْقَمَرِ فُسِخَتْ قُلْفَتُهُ أَيِ اتَّسَعَتْ فَصَارَ كَالْمَخْتُونِ، وَقَدِ اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا أَنْ يُمَرَّ بِالْمُوسَى عَلَى مَوْضِعِ الْخِتَانِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَغَالِبُ مَنْ يُولَدُ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ خِتَانُهُ تَامًّا بَلْ يَظْهَرُ طَرَفُ الْحَشَفَةِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ تَكْمِيلُهُ. وَأَفَادَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي النِّسَاءِ هَلْ يُخْفَضْنَ عُمُومًا أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ نِسَاءِ الْمَشْرِقِ فَيُخْفَضْنَ وَنِسَاءِ الْمَغْرِبِ فَلَا يُخْفَضْنَ لِعَدَمِ الْفَضْلَةِ فيخفضن الْمَشْرُوعُ قَطْعُهَا مِنْهُم، بِخِلَافِ نِسَاءِ الْمَشْرِقِ، قَالَ: فَمَنْ قَالَ إِنَّ مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا اسْتُحِبَّ إِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى الْمَوْضِعِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ قَالَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ وَمَنْ لَا فَلَا.

وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْخِتَانِ دُونَ بَاقِي الْخِصَالِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ بِهِ مِنَ الْقُدَمَاءِ عَطَاءٌ حَتَّى قَالَ: لَوْ أَسْلَمَ الْكَبِيرُ لَمْ يَتِمَّ إِسْلَامُهُ حَتَّى يُخْتَنَ. وَعَنِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ. وَعَنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ. وَعَنْهُ سُنَّةٌ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ. وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ لَا يَجِبُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي

ص: 340

عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَفَعَهُ الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَفْظَ السُّنَّةِ إِذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ لَا يُرَادُ بِهِ الَّتِي تُقَابِلُ الْوَاجِبَ، لَكِنْ لَمَّا وَقَعَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ افْتِرَاقُ الْحُكْمِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْوُجُوبِ فَقَدْ يَكُونُ فِي حَقِّ الذُّكُورِ آكَدُ مِنْهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَوْ يَكُونُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ لِلنَّدْبِ وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ لِلْإِبَاحَةِ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ. لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْخِصَالَ الْمُنْتَظِمَةَ مَعَ الْخِتَانِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً إِلَّا عِنْدَ بَعْضِ مَنْ شَذَّ فَلَا يَكن الْخِتَانُ وَاجِبًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يُرَادَ بِالْفِطْرَةِ وَبِالسُّنَّةِ فِي الْحَدِيثِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي يَجْمَعُ الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ وَهُوَ الطَّلَبُ الْمُؤَكَّدُ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وَلَا ثُبُوتِهِ فَيُطْلَبُ الدَّلِيلُ مِنْ غَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَلَا مَانِعَ مِنْ جَمْعِ الْمُخْتَلِفَيِ الْحُكْمَ بِلَفْظِ أَمْرٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فَإِيتَاءُ الْحَقِّ وَاجِبٌ، وَالْأَكْلُ مُبَاحٌ. هَكَذَا تَمَسَّكَ بِهِ جَمَاعَةٌ، وَتَعَقَّبَهُ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ فَقَالَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ الْحَدِيثَ تَضَمَّنَ لَفْظَةً وَاحِدَةً اسْتُعْمِلَتْ فِي الْجَمِيعِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، بِخِلَافِ الْآيَةِ فَإِنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تَكَرَّرَتْ فِيهَا، وَالظَّاهِرُ الْوُجُوبُ، فَصُرِفَ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِدَلِيلٍ وَبَقِيَ الْآخَرُ عَلَى الْأَصْلِ. وَهَذَا التَّعَقُّبُ إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَيَيْنِ، وَأَمَّا مَنْ يُجِيزُهُ كَالشَّافِعِيَّةِ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الِاخْتِتَانَ بِأَدِلَّةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُلْفَةَ تَحْبِسُ النَّجَاسَةَ فَتَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ كَمَنْ أَمْسَكَ نَجَاسَةً بِفَمِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْفَمَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، بِدَلِيلِ أَنَّ وَضْعَ الْمَأْكُولِ فِيهِ لَا يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ، بِخِلَافِ دَاخِلِ الْقُلْفَةِ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ عِنْدَنَا مُغْتَفَرٌ. الثَّانِي: مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ كُلَيْبٍ جَدِّ عُثَيْمِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أَلْقِ عَنْكَ شِعَارَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ مَعَ مَا تَقَرَّرَ أَنَّ خِطَابَهُ لِلْوَاحِدِ يَشْمَلُ غَيْرَهُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِيَّةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سَنَدَ الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ، الثَّالِثُ: جَوَازُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ مِنَ الْمَخْتُونِ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ إِنَّمَا يُشْرَعُ لِمَنْ بَلَغَ أَوْ شَارَفَ الْبُلُوغَ وَجَوَازُ نَظَرِ الْخَاتِنِ إِلَيْهَا وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَمَا أُبِيحَ ذَلِكَ، وَأَقْدَمُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ نَقَلَهُ عَنْهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَه النَّوَوِيُّ أَنَّهُ رَآهُ فِي كِتَابِ الْوَدَائِعِ الْمَنْسُوبِ لِابْنِ سُرَيْجٍ قَالَ: وَلَا أَظُنُّهُ يَثْبُتُ عَنْهُ، قَالَهُ أَبُو شَامَةَ: وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ بَعْدَهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَأَبِي الْفَرَجِ السَّرَخْسِيِّ وَالشَّيْخِ فِي الْمُهَذَّبِ.

وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مُبَاحٌ لِمَصْلَحَةِ الْجِسْمِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا يُبَاحُ لِلْمُدَاوَاةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا إِجْمَاعًا، وَإِذَا جَازَ فِي الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَانَ فِي الْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ أَوْلَى. وَقَدِ اسْتَشْعَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ هَذَا فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ قَدْ يُتْرَكُ الْوَاجِبُ لِغَيْرِ الْوَاجِبِ كَتَرْكِ الْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ بِالتَّشَاغُلِ بِرَكْعَتَيِ التَّحِيَّةِ، وَكَتَرْكِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ لِلْمُدَاوَاةِ مَثَلًا. وَأَجَابَ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ وَلَمْ يُجِبْ عَنِ الثَّالِثِ. وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ لَا يَجُ زُ لِكُلِّ مُدَاوَاةٍ فَلَا يَتِمُّ الْمُرَادُ. وَقَوَّى أَبُو شَامَةَ الْإِيرَادَ بِأَنَّهُمْ جَوَّزُوا الْغَاسِلَ الْمَيِّتَ أَنْ يَحْلِقَ عَانَةَ الْمَيِّتِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ لِلْغَاسِلِ إِلَّا بِالنَّظَرِ وَباللَّمْسِ وَهُمَا حَرَامَانِ، وَقَدْ أُجِيزَا لِأَمْرٍ

ص: 341

مُسْتَحَبٍّ. الرَّابِعُ: احْتَجَّ أَبُو حَامِدٍ وَأَتْبَاعُهُ كَالْمَاوَرْدِيِّ بِأَنَّهُ قَطْعُ عُضْوٍ لَا يُسْتَخْلَفُ مِنَ الْجَسَدِ تَعَبُّدًا فَيَكُونُ وَاجِبًا كَقَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ إِنَّمَا أُبِيحَ فِي مُقَابَلَةِ جُرْمٍ عَظِيمٍ. فَلَمْ يَتِمَّ الْقِيَاسُ. الْخَامِسُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِي الْخِتَانِ إِدْخَالُ أَلَمٍ عَظِيمٍ عَلَى النَّفْسِ وَهُوَ لَا يُشْرَعُ إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: لِمَصْلَحَةٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ، أَوْ وُجُوبٍ. وَقَدِ انْتَفَى الْأَوَّلَانِ فَثَبَتَ الثَّالِثُ.

وَتَعَقَّبَهُ أَبُو شَامَةَ بِأَنَّ فِي الْخِتَانِ عِدَّةُ مَصَالِحَ كَمَزِيدِ الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ فَإِنَّ الْقُلْفَةَ مِنَ الْمُسْتَقْذَرَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقَدْ كَثُرَ ذَمُّ الْأَقْلَفِ فِي أَشْعَارِهِمْ، وَكَانَ لِلْخِتَانِ عِنْدَهُمْ قَدْرٌ، وَلَهُ وَلِيمَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ، وَأَقَرَّ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ. السَّادِسُ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ بِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِ الدِّينِ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْمُسْلِمُ مِنَ الْكَافِرِ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ مَخْتُونٌ بَيْنَ جَمَاعَةِ قَتْلَى غَيْرِ مَخْتُونِينَ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَتَعَقَّبَهُ أَبُو شَامَةَ بِأَنَّ شِعَارَ الدِّينِ لَيْسَتْ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ، وَمَا ادَّعَاهُ فِي الْمَقْتُولِ مَرْدُودٌ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَكَثِيرًا مِنَ النَّصَارَى يَخْتِنُونَ فَلْيُقَيَّدْ مَا ذُكِرَ بِالْقَرِينَةِ. قُلْتُ: قَدْ بَطَلَ دَلِيلُهُ.

السَّابِعُ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَحْسَنُ الْحُجَجِ أَنْ يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا: اخْتُتِنَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ فَأَتَمَّهُنَّ هِيَ خِصَالُ الْفِطْرَةِ وَمِنْهُنَّ الْخِتَانُ، وَالِابْتِلَاءُ غَالِبًا إِنَّمَا يَقَعُ بِمَا يَكُونُ وَاجِبًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ إِلَّا إِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام فَعَلَهُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ فَيَحْصُلُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ عَلَى وَفْقِ مَا فَعَلَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي حَقِّ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ أَفْعَالَهُ بِمُجَرَّدِهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَأَيْضًا فَبَاقِي الْكَلِمَاتِ الْعَشْرِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ سُنَّةٍ إِلَّا عَنْ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ اهـ، وَمَا قَالَهُ بَحْثًا قَدْ جَاءَ مَنْقُولًا، فَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَقِيقَةِ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِيهِ: إنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أُمِرَ أَنْ يُخْتَتَنَ وَهُوَ حِينَئِذٍ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً فَعَجَّلَ وَاخْتُتِنَ بِالْقَدُومِ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ فَدَعَا رَبَّهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إنَّكَ عَجِلْتَ قَبْلَ أَنْ نَأْمُرَكَ بِآلَتِهِ، قَالَ: يَا رَبِّ كَرِهْتُ أَنْ أُؤَخِّرَ أَمْرَكَ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْقَدُومُ جَاءَ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا وَهُوَ الْفَأْسُ الَّذِي اخْتُتِنَ بِهِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَكَانٌ يُسَمَّى الْقَدُومَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ: يُقَالُ هُوَ كَانَ مُقِيلَهُ، وَقِيلَ اسْمُ قَرْيَةٍ بِالشَّامِ. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: هُوَ مَوْضِعٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي فِيهَا قَبْرُهُ، وَقِيلَ بِقُرْبِ حَلَبَ ; وَجَزَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْآلَةَ بِالتَّخْفِيفِ، وَصَرَّحَ ابْنُ السِّكِّيتِ بِأَنَّهُ لَا يُشَدَّدُ وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمُ الْوَجْهَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مِنَ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا اخْتُتِنَ كَانَ ابْنَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَكْمَلَ مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ اخْتُتِنَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ وَعَاشَ بَعْدَهَا أَرْبَعِينَ، وَالْغَرَضُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَاجِبًا، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ اسْتَقَامَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَإِلَّا فَالنَّظَرُ بَاقٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُشْرَعُ فِيهِ الْخِتَانُ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَهُ وَقْتَانِ وَقْتُ وُجُوبٍ وَوَقْتُ اسْتِحْبَابٍ، فَوَقْتُ الْوُجُوبِ الْبُلُوغُ وَوَقْتُ الِاسْتِحْبَابِ قَبْلَهُ، وَالِاخْتِيَارُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ بَعْدِ الْوِلَادَةِ، وَقِيلَ مِنْ يَوْمِ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ أَخَّرَ فَفِي الْأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِنْ أَخَّرَ فَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ، فَإِنْ بَلَغَ وَكَانَ نِضْوًا نَحِيفًا يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ إِذَا اخْتُتِنَ تَلِفَ سَقَطَ الْوُجُوبُ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُؤَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الِاسْتِحْبَابِ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْتَتَنَ الصَّبِيُّ حَتَّى يَصِيرَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَوْمُ ضَرْبِهِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَأَلَمُ الْخِتَانِ فَوْقَ أَلَمِ

ص: 342

الضَّرْبِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِالتَّأْخِيرِ، وَزَيَّفَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا يَجِبُ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنَ أَهْلِ الْعِبَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَدَنِ فَكَيْفَ مَعَ الْأَلَمِ، قَالَ: وَلَا يَرِدُ وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَى الصَّبِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَعَبٌ بَلْ هُوَ مُضِيُّ زَمَانٍ مَحْضٍ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ: فِي خِتَانِ الصَّبِيِّ وَهُوَ صَغِيرٌ مَصْلَحَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجِلْدَ بَعْدَ التَّمْيِيزِ يَغْلُظُ وَيَخْشُنُ فَمِنْ ثَمَّ جَوَّزَ الْأَئِمَّةُ الْخِتَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ وَمَالِكٍ كَرَاهَةَ الْخِتَانِ يَوْمَ السَّابِعِ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْيَهُودِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْسُنُ إِذَا أَثْغَرَ أَيْ أَلْقَى ثَغْرَهُ وَهُوَ مُقَدَّمُ أَسْنَانِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي السَّبْعِ سِنِينَ وَمَا حَوْلَهَا، وَعَنِ اللَّيْثِ يُسْتَحَبُّ مَا بَيْنَ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ، وَعَنِ أَحْمَدَ لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَبْعٌ مِنَ السُّنَّةِ فِي الصَّبِيِّ يُسَمَّى فِي السَّابِعِ وَيُخْتَنُ الْحَدِيثَ وَقَدْ قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِ الْعَقِيقَةِ وَأَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَوْ غَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَتَنَ حَسَنًا وَحُسَيْنًا لِسَبْعَةِ أَيَّامٍ قَالَ الْوَلِيدُ: فَسَأَلْتُ مَالِكًا عَنْهُ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، وَلَكِنَّ الْخِتَانَ طُهْرَةٌ فَكُلَّمَا قَدَّمَهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام خَتَنَ إِسْحَاقَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي أَبْوَابِ الْوَلِيمَةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ مَشْرُوعِيَّةَ الدَّعْوَةِ فِي الْخِتَانِ، وَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ دُعِيَ إِلَى خِتَانٍ فَقَالَ مَا كُنَّا نَأْتِي الْخِتَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نُدْعَى لَهُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ مِنْ رِوَايَةٍ فَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ خِتَانَ جَارِيَةٍ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ أَنَّ السُّنَّةَ إِظْهَارُ خِتَانِ الذَّكَرِ وَإِخْفَاءُ خِتَانِ الْأُنْثَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَالِاسْتِحْدَادُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحَدِيدِ وَالْمُرَادُ بِهِ اسْتِعْمَالُ الْمُوسَى فِي حَلْقِ الشَّعْرِ مِنْ مَكَانٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْجَسَدِ، قِيلَ وَفِي التَّعْبِيرِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْكِنَايَةِ عَمَّا يُسْتَحَى مِنْهُ إِذَا حَصَلَ الْإِفْهَامُ بِهَا وَأَغْنَى عَنِ التَّصْرِيحِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا التَّعْبِيرُ بِحَلْقِ الْعَانَةِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَنْسٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا مِنْ قَبْلُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْعَانَةِ الشَّعْرُ الَّذِي فَوْقَ ذَكَرِ الرَّجُلِ وَحَوَالَيْهِ، وَكَذَا الشَّعْرُ الَّذِي حَوَالَيْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ الشَّعْرُ النَّابِتُ حَوْلَ حَلْقَةِ الدُّبُرِ فَتَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذَا اسْتِحْبَابُ حَلْقِ جَمِيعِ مَا عَلَى الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ وَحَوْلَهُمَا ; قَالَ: وَذَكَرَ الْحَلْقَ لِكَوْنِهِ هُوَ الْأَغْلَبُ وَإِلَّا فَيَجُوزُ الْإِزَالَةُ بِالنَّوْرَةِ وَالنَّتْفِ وَغَيْرِهِمَا.

وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: الْعَانَةُ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الرَّكَبِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْكَافِ وَهُوَ مَا انْحَدَرَ مِنَ الْبَطْنِ فَكَانَت تَحْتَ الثَّنْيَةِ وَفَوْقَ الْفَرْجِ، وَقِيلَ لِكُلِّ فَخِذٍ رَكَبٌ، وَقِيلَ ظَاهِرُ الْفَرْجِ وَقِيلَ الْفَرْجُ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ إِمَاطَةُ الشَّعْرِ عَنِ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ بَلْ هُوَ مِنَ الدُّبُرِ أَوْلَى خَوْفًا مِنْ أنْ يَعْلَقَ شَيْءٌ مِنَ الْغَائِطِ فَلَا يُزِيلُهُ الْمُسْتَنْجِي إِلَّا بِالْمَاءِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَتِهِ بِالِاسْتِجْمَارِ، قَالَ: وَيَقُومُ التَّنَوُّرُ مَكَانَ الْحَلْقِ وَكَذَلِكَ النَّتْفُ وَالْقَصُّ، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ أَخْذِ الْعَانَةِ بِالْمِقْرَاضِ فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَ، قِيلَ: فَالنَّتْفُ؟ قَالَ: وَهَلْ يَقْوَى عَلَى هَذَا أَحَدٌ؟ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْعَانَةُ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْفَرْجِ، وَقِيلَ هُوَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ، قَالَ: وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْخَبَرِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: شَعْرُ الْعَانَةِ أَوْلَى الشُّعُورِ بِالْإِزَالَةِ لِأَنَّهُ يُكَثَّفُ وَيَتَلَبَّدُ فِيهِ الْوَسَخُ، بِخِلَافِ شَعْرِ الْإِبْطِ.

قَالَ: وَأَمَّا حَلْقُ مَا حَوْلَ الدُّبُرِ فَلَا يُشْرَعُ، وَكَذَا قَالَ الْفَاكِهِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَذَا قَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْمَنْعِ مُسْتَنَدًا، وَالَّذِي اسْتَنَدَ إِلَيْهِ أَبُو شَامَةَ قَوِيٌّ، بَلْ رُبَّمَا تُصُوِّرَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ مَنْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، كَمَنْ لَمْ يَجِدْ مِنَ الْمَاءِ إِلَّا الْقَلِيلَ وَأَمْكَنَهُ أَنْ لَوْ حَلَقَ الشَّعْرَ أَنْ لَا يَعْلَقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْغَائِطِ

ص: 343

يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَسْلِهِ وَلَيْسَ مَعَهُ مَاءٌ زَائِدٌ عَلَى قَدْرِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: كَأَنَّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى اسْتِحْبَابِ حَلْقِ مَا حَوْلَ الدُّبُرِ ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، قَالَ: وَالْأَوْلَى فِي إِزَالَةِ الشَّعْرِ هُنَا الْحَلْقُ اتِّبَاعًا، وَيَجُوزُ النَّتْفُ، بِخِلَافِ الْإِبْطِ فَإِنَّهُ بِالْعَكْسِ لِأَنَّهُ تُحْتَبَسُ تَحْتَهُ الْأَبْخِرَةُ بِخِلَافِ الْعَانَةِ، وَالشَّعْرُ مِنَ الْإِبْطِ بِالنَّتْفِ يَضْعُفُ وَبِالْحَلْقِ يَقْوَى فَجَاءَ الْحُكْمُ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ بِالْمُنَاسِبِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: السُّنَّةُ فِي إِزَالَةِ شَعْرِ الْعَانَةِ الْحَلْقُ بِالْمُوسَى فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعًا، وَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ جَابِرٍ فِي النَّهْيِ عَنْ طُرُوقِ النِّسَاءِ لَيْلًا حَتَّى تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي النِّكَاحِ، لَكِنْ يَتَأَدَّى أَصْلُ السُّنَّةِ بِالْإِزَالَةِ بِكُلِّ مُزِيلٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا: وَالْأَوْلَى فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْحَلْقُ وَفِي حَقِّ الْمَرْأَةِ النَّتْفُ.

وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْأَلَمِ وَعَلَى الزَّوْجِ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَحَلِّ فَإِنَّ النَّتْفَ يُرْخِي الْمَحَلَّ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاءِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّ بَعْضَهُمْ مَالَ إِلَى تَرْجِيحِ الْحَلْقِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ النَّتْفَ يُرْخِي الْمَحَلَّ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ كَانَتْ شَابَّةً فَالنَّتْفُ فِي حَقِّهَا أَوْلَى لِأَنَّهُ يَرْبُو مَكَانَ النَّتْفِ، وَإِنْ كَانَتْ كَهْلَ فَالْأَوْلَى فِي حَقِّهَا الْحَلْقُ لِأَنَّ النَّتْفَ يُرْخِي الْمَحَلَّ، وَلَوْ قِيلَ الْأَوْلَى فِي حَقِّهَا التَّنَوُّرُ مُطْلَقًا لِمَا كَانَ بَعِيدًا، وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي وُجُوبِ الْإِزَالَةِ عَلَيْهَا إِذَا طُلِبَ ذَلِكَ مِنْهَا وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا الْوُجُوبُ، وَيَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِي نَتْفِ الْإِبْطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَيْضًا بِأَنَّ نَتْفَ الْإِبْطِ وَحَلْقَهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَاطَاهُ الْأَجْنَبِيُّ، بِخِلَافِ حَلْقِ الْعَانَةِ فَيَحْرُمُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْمَسُّ وَالنَّظَرُ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ. وَأَمَّا التَّنَوُّرُ فَسُئِلَ عَنْهُ أَحْمَدُ فَأَجَازَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَفْعَلَهُ، وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلَكِنَّهُ أَعَلَّهُ بِالْإِرْسَالِ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ صِحَّتَهُ وَلَفْظَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا طَّلَى وَلِيَ عَانَتَهُ بِيَدِهِ وَمُقَابِلُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَتَنَوَّرُ، وَكَانَ إِذَا كَثُرَ شَعْرُهُ حَلَقَهُ وَلَكِنْ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا.

قَوْلُهُ: (وَنَتْفُ الْإِبْطِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْآبَاطُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالْإِبْطُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِهَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَصَوَّبَهُ الْجَوَالِيقِيُّ، وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَتَأَبَّطَ الشَّيْءَ وَضَعَهُ تَحْتَ إِبْطِهِ. وَالْمُسْتَحَبُّ الْبُدَاءَةُ فِيهِ بِالْيُمْنَى، وَيَتَأَدَّى أَصْلُ السُّنَّةِ بِالْحَلْقِ وَلَا سِيَّمَا مَنْ يُؤْلِمُهُ النَّتْفُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَرَجُلٌ يَحْلِقُ إِبْطَهُ فَقَالَ: إِنِّي عَلِمْتُ أَنَّ السُّنَّةَ النَّتْفُ، وَلَكِنْ لَا أَقْوَى عَلَى الْوَجَعِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ الِابْتِدَاءِ مُوجِعٌ وَلَكِنْ يَسْهُلُ عَلَى مَنِ اعْتَادَهُ، قَالَ: وَالْحَلْقُ كَافٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النَّظَافَةُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي نَتْفِهِ أَنَّهُ مَحَلٌّ لِلرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَخِ الَّذِي يَجْتَمِعُ بِالْعَرَقِ فِيهِ فَيَتَلَبَّدُ وَيَهِيجُ، فَشُرِعَ فِيهِ النَّتْفُ الَّذِي يُضْعِفُهُ فَتَخِفُّ الرَّائِحَةُ بِهِ، بِخِلَافِ الْحَلْقِ فَإِنَّهُ يُقَوِّي الشَّعْرَ وَيُهَيِّجُهُ فَتَكْثُرُ الرَّائِحَةُ لِذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَنْ نَظَرَ إِلَى اللَّفْظِ وَقَفَ مَعَ النَّتْفِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْمَعْنَى أَجَازَهُ بِكُلِّ مُزِيلٍ، لَكِنْ بَيَّنَ أَنَّ النَّتْفَ مَقْصُودٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، قَالَ: وَهُوَ مَعْنًى ظَاهِرٌ لَا يُهْمَلُ فَإِنَّ مَوْرِدَ النَّصِّ إِذَا احْتَمَلَ مَعْنًى مُنَاسِبًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا فِي الْحُكْمِ لَا يُتْرَكُ وَالَّذِي يَقُومُ مَقَامَ النَّتْفِ فِي ذَلِكَ التَّنَوُّرُ لَكِنَّهُ يُرِقُّ الْجِلْدَ فَقَدْ يَتَأَذَّى صَاحِبُهُ بِهِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ جِلْدُهُ رَقِيقًا، وَتُسْتَحَبُّ الْبَدَاءَةُ فِي إِزَالَتِهِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَيُزِيلُ مَا فِي الْيُمْنَى بِأَصَابِعِ الْيُسْرَى وَكَذَا الأظفار الْيُسْرَى إِنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَبِالْيُمْنَى.

قَوْلُهُ: (وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ) وَهُوَ تَفْعِيلٌ مِنَ الْقَلْمِ وَهُوَ الْقَطْعُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَصُّ الْأَظْفَارِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ تَقْلِيمٍ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ قَصُّ الْأَظْفَارِ وَالتَّقْلِيمُ أَعَمُّ، وَالْأَظْفَارُ جَمْعُ ظُفُرٍ بِضَمِّ الظَّاءِ وَالْفَاءِ وَبِسُكُونِهَا، وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ وكَسْرَ أَوَّلِهِ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَعَنْ أَبِي السَّمَّاكِ أَنَّهُ

ص: 344

قُرِئَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ، وَالْمُرَادُ إِزَالَةُ مَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُلَابِسُ رَأْسَ الْإِصْبَعِ مِنَ الظُّفُرِ، لِأَنَّ الْوَسَخَ يَجْتَمِعُ فِيهِ فَيُسْتَقْذَرُ، وَقَدْ يَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ، وَقَدْ حَكَى أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَيْنِ: فَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّ الْوُضُوءَ حِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ، وَقَطَعَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ بِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ غَالِبَ الْأَعْرَابِ لَا يَتَعَاهَدُونَ ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ أَمْرُهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، لَكِنْ قَدْ يُتعَلَّقُ بِالظُّفُرِ إِذَا طَالَ النَّجْوُ لِمَنِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ وَلَمْ يُمْعِنْ غَسْلَهُ فَيَكُونُ إِذَا صَلَّى حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً فَأَوْهَمَ فِيهَا، فَسُئِلَ فَقَالَ: مَا لِي لَا أُوهَمُ وَرُفْغُ أَحَدِكُمْ بَيْنَ ظُفْرِهِ وَأُنْمُلَتِهِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَعَ إِرْسَالِهِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

وَالرُّفْغُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِفَتْحِهَا وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ يُجمَعُ عَلَى أَرْفَاغٍ وَهِيَ مَغَابِنُ الْجَسَدِ كَالْإِبْطِ وَمَا بَيْنَ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْفَخِذَيْنِ وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْوَسَخُ، فَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ، وَالتَّقْدِيرُ وَسَخُ رُفْغِ أَحَدِكُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَا تُقَلِّمُونَ أَظْافرَكُمْ ثُمَّ تَحُكُّونَ بِهَا أَرْفَاغَكُمْ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا مَا فِي الْأَرْفَاغِ مِنَ الْأَوْسَاخِ الْمُجْتَمِعَةِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ طُولَ الْأَظْفَارِ وَتَرْكَ قَصِّهَا. قُلْتُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّدْبِ إِلَى تَنْظِيفِ الْمَغَابِنِ كُلِّهَا، وَيُسْتَحَبُّ الِاسْتِقْصَاءُ فِي إِزَالَتِهَا إِلَى حَدٍّ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ ضَرَرٌ عَلَى الْإصْبُعِ، وَاسْتَحَبَّ أَحْمَدُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُبْقِيَ شَيْئًا لِحَاجَتِهِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ لِذَلِكَ غَالِبًا. وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَرْتِيبِ الْأَصَابِعِ عِنْدَ الْقَصِّ شَيْءٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، لَكِنْ جَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْبُدَاءَةُ بِمُسَبِّحَةِ الْيُمْنَى ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ الْبِنْصِرِ ثُمَّ الْخِنْصَرِ ثُمَّ الْإِبْهَامِ، وَفِي الْيُسْرَى بِالْبَدَاءَةُ بِخِنْصِرِهَا ثُمَّ بِالْبِنْصِرِ إِلَى الْإِبْهَامِ، وَيَبْدَأُ فِي الرِّجْلَيْنِ بِخِنْصِرِ الْيُمْنَى إِلَى الْإِبْهَامِ، وَفِي الْيُسْرَى بِإِبْهَامِهَا إِلَى الْخِنْصِرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلِاسْتِحْبَابِ مُسْتَنَدًا. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنِ الْغَزَالِيِّ وَأَنَّ الْمَازِرِيَّ اشْتَدَّ إِنْكَارُهُ عَلَيْهِ فِيهِ: لَا بَأْسَ بِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ إِلَّا فِي تَأْخِيرِ إِبْهَامِ الْيَدِ الْيُمْنَى فَالْأَوْلَى أَنْ تُقَدَّمَ الْيُمْنَى بِكَمَالِهَا عَلَى الْيُسْرَى، قَالَ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فَلَا أَصْلَ لَهُ اهـ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَاجُ مَنِ ادَّعَى اسْتِحْبَابَ تَقْدِيمِ الْيَدِ فِي الْقَصِّ عَلَى الرِّجْلِ إِلَى دَلِيلٍ، فَإِنَّ الْإِطْلَاقَ يَأْبَى ذَلِكَ. قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُضُوءِ وَالْجَامِعُ والتَّنْظِيفُ، وَتَوْجِيهُ الْبَدَاءَةِ بِالْيُمْنَى لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي مَرَّ فِي الطَّهَارَةِ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنَ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ وَالْبَدَاءَةُ بِالْمُسَبِّحَةِ مِنْهَا لِكَوْنِهَا أَشْرَفُ الْأَصَابِعِ لِأَنَّهَا آلَةُ التَّشَهُّدِ، وَأَمَّا اتِّبَاعُهَا بِالْوُسْطَى فَلِأَنَّ غَالِبَ مَنْ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يُقَلِّمُهَا من قَبْلَ ظَهْرِ الْكَفِّ فَتَكُونُ الْوُسْطَى جِهَةَ يَمِينِهِ فَيَسْتَمِرُّ إِلَى أَنْ يَخْتِمَ بِالْخِنْصَرِ ثُمَّ يُكْمِلُ الْيَدَ بِقَصِّ الْإِبْهَامِ، وَأَمَّا الْيُسْرَى فَإِذَا بَدَأَ بِالْخِنْصَرِ لَزِمَ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى جِهَةِ الْيَمِينِ إِلَى الْإِبْهَامِ، قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَوْ أَخَّرَ إِبْهَامَ الْيُمْنَى لِيَخْتِمَ بِهَا وَيَكُونَ قَدِ اسْتَمَرَّ عَلَى الِانْتِقَالِ إِلَى جِهَةِ الْيُمْنَى، وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ لِحَظِّ فَصْلِ كُلِّ يَدٍ عَنِ الْأُخْرَى، وَهَذَا التَّوْجِيهُ فِي الْيَدِينِ يُعَكِّرُ عَلَى مَا نَقَلَهُ فِي الرِّجْلَيْنِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ غَالِبُ مَنْ يُقَلِّمُ أَظْفَارَ رِجْلَيْهِ يُقَلِّمُهَا مِنْ جِهَةِ بَاطِنِ الْقَدَمَيْنِ فَيَسْتَمِرُّ التَّوْجِيهُ.

وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْإِقْلِيدِ قَضِيَّةُ الْأَخْذِ فِي ذَلِكَ بِالتَّيَامُنِ أَنْ يَبْدَأَ بِخِنْصِرِ الْيُمْنَى إِلَى أَنْ يَنْتَهِي إِلَى خِنْصِرِ الْيُسْرَى فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ مَعًا، وَكَأَنَّهُ لِحَظِّ أَنَّ الْقَصَّ يَقَعُ مِنْ بَاطِنِ الْكَفَّيْنِ أَيْضًا، وَذَكَرَ الدِّمْيَاطِيُّ أَنَّهُ تَلَقَّى عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ مَنْ قَصَّ أَظْافرَهُ مُخَالِفًا لَمْ يُصِبْهُ رَمَدٌ وَأَنَّهُ جَرَّبَ ذَلِكَ مُدَّةً طَوِيلَةً. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى اسْتِحْبَابِ قَصِّهَا مُخَالِفًا، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ فَقَالَ: يَبْدَأُ بِخِنْصِرِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْإِبْهَامِ ثُمَّ الْبِنْصِرِ ثُمَّ السَّبَّابَةِ، وَيَبْدَأُ بِإِبْهَامِ الْيُسْرَى عَلَى الْعَكْسِ مِنَ الْيُمْنَى، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْهَيْئَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَا أَصْلَ لَهُ وَإِحْدَاثُ اسْتِحْبَابٍ

ص: 345

لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَبِيحٌ عِنْدِي بِالْعَالِمِ، وَلَوْ تَخَيَّلَ مُتَخَيِّلٌ أَنَّ الْبَدَاءَةَ بِمُسَبِّحَةِ الْيُمْنَى مِنْ أَجْلِ شَرَفِهَا فَبَقِيَّةُ الْهَيْئَةِ لَا يُتَخَيَّلُ فِيهِ ذَلِكَ. نَعَمِ الْبَدَاءَةُ بِيُمْنَى الْيَدَيْنِ وَيُمْنَى الرِّجْلَيْنِ لَهُ أَصْلٌ وَهُوَ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَامُنُ اهـ.

وَلَمْ يَثْبُتْ أَيْضًا فِي اسْتِحْبَابِ قَصِّ الظُّفُرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَدِيثٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ جَعْفَرٌ الْمُسْتَغْفِرِيُّ بِسَنَدٍ مَجْهُولٍ، وَرَوَيْنَاهُ فِي مُسَلْسَلَاتِ التَّيْمِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَقْرَبُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَظْفَارِهِ وَشَارِبِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَهُ شَاهِدٌ مَوْصُولٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنْ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي الشُّعَبِ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْهُ فَقَالَ: يُسَنُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَعَنْهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَعَنْهُ يَتَخَيَّرُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ كَيْفَ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ ; وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْافرِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا يُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَذَا وُقِّتَ فِيهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ بِلَفْظِ وَقَّتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَشَارَ الْعُقَيْلِيُّ إِلَى أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ الضُّبَغيَّ تَفَرَّدَ بِهِ، وَفِي حِفْظِهِ شَيْءٌ، وَصَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِذَلِكَ فَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيَّ أَخْرَجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ صَدَقَةَ بْنِ مُوسَى عَنْ ثَابِتٍ، وَصَدَقَةُ بْنُ مُوسَى وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَقَالٌ لَكِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ جَعْفَرًا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ عَنْ أَنَسٍ، وَفِي عَلِيٍّ أَيْضًا ضَعْفٌ.

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ - شَيْخٌ مِصْرِيٌّ - عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ، لَكِنْ أَتَى فِيهِ بِأَلْفَاظٍ مُسْتَغْرَبَةٍ قَالَ: أَنْ يَحْلِقَ الرَّجُلُ عَانَتَهُ كُلَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَنْ يَنْتِفَ إِبْطَهُ كُلَّمَا طَلَعَ، وَلَا يَدَعُ شَارِبَيْهِ يَطُولَانِ: وَأَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ. وَعَبْدُ اللَّهِ وَالرَّاوِي عَنْهُ مَجْهُولَانِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ ذِكْرُ الْأَرْبَعِينَ تَحْدِيدٌ لِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ، وَلَا يُمْنَعُ تَفَقُّدُ ذَلِكَ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ الِاحْتِيَاجُ. وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُضْبَطُ بِالْحَاجَةِ. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، وَالضَّابِطُ الْحَاجَةُ فِي هَذَا وَفِي جَمِيعِ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ. قُلْتُ: لَكِنْ لَا يُمْنَعُ مِنَ التَّفَقُّدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّنَظُّفِ فِيهِ مَشْرُوعٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي سُؤَالَاتِ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ قُلْتُ لَهُ: يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَيَدْفِنُهُ أَمْ يُلْقِيهِ؟ قَالَ: يَدْفِنُهُ، قُلْتُ: بَلَغَكَ فِيهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفِنُهُ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِدَفْنِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ وَقَالَ: لَا يَتَلَعَّبُ بِهِ سَحَرَةُ بَنِي آدَمَ. قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ نَحْوَهُ. وَقَدِ اسْتَحَبَّ أَصْحَابُنَا دَفْنَهَا لِكَوْنِهَا أَجْزَاءَ مِنَ الْآدَمِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَرْعٌ): لَوِ اسْتَحَقَّ قَصَّ أَظْفَارِهِ فَقَصَّ بَعْضًا وترك بعضا أَبْدَى فِيهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ احْتِمَالًا مِنْ مَنْعِ لُبْسِ إِحْدَى النَّعْلَيْنِ وَتَرْكِ الْأُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَقَصُّ الشَّارِبِ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْقَصِّ أَوَّلَ الْبَابِ، وَأَمَّا الشَّارِبُ فَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الشَّفَةِ الْعُلْيَا. وَاخْتُلِفَ فِي جَانِبَيْهِ وَهُمَا السِّبَالَانِ فَقِيلَ: هُمَا مِنَ الشَّارِبِ وَيُشْرَعُ قَصُّهُمَا مَعَهُ، وَقِيلَ هُمَا مِنْ جُمْلَةِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَأَمَّا الْقَصُّ فَهُوَ الَّذِي فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ كَمَا هُنَا، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ أَنَسٍ كَذَلِكَ كِلَاهُمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَكَذَا حَدِيثُ حَنْظَلَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِلَفْظِ الْحَلْقِ وَهِيَ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِسَنَدِ هَذَا الْبَابِ، وَرَوَاهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ الْقَصِّ وَكَذَا سَائِرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ شَيْخِهِ الزُّهْرِيِّ.

وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ تَقْصِيرِ الشَّارِبِ نَعَمْ وَقَعَ الْأَمْرُ بِمَا يُشْعِرُ بِأَنَّ رِوَايَةَ الْحَلْقِ مَحْفُوظٌ كَحَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ جُزُّوا

ص: 346

الشَّوَارِبَ وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَفِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ أنْهَكُوا الشَّوَارِبَ فَكُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِزَالَةِ، لِأَنَّ الْجَزَّ وَهُوَ بِالْجِيمِ وَالزَّايِ الثَّقِيلَةِ قَصُّ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْجِلْدَ، وَالْإِحْفَاءُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ الِاسْتِقْصَاءُ وَمِنْهُ حَتَّى أَحْفَوْهُ الْمَسْأَلَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ مَعْنَاهُ الْزَقُوا الْجَزَّ بِالْبَشَرَةِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَالنَّهْكُ بِالنُّونِ الْكَافِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِزَالَةِ، وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْخِتَانِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْخَافِضَةِ أَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي أَيْ لَا تُبَالِغِي فِي خِتَانِ الْمَرْأَةِ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: النَّهْكُ التَّأْثِيرُ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ غَيْرُ الِاسْتِئْصَالِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ فِي قَصِّ الشَّارِبِ أَنَّهُ يَقُصُّهُ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ وَلَا يَحُفَّهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَحْفُوا فَمَعْنَاهَا أَزِيلُوا مَا طَالَ عَلَى الشَّفَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَا أَدْرِي هَلْ نَقَلَهُ عَنِ الْمَذْهَبِ أَوْ قَالَهُ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ. قُلْتُ: صَرَّحَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِأَنَّ هَذَا مَذْهَبُنَا.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ لَمْ أَرَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ شَيْئًا مَنْصُوصًا، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ كَالْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ كَانُوا يَحْفُونَ، وَمَا أَظُنُّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ إِلَّا عَنْهُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: الْإِحْفَاءُ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إِحْفَاءُ الشَّارِبِ عِنْدِي مُثْلَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْمُبَالَغَةُ فِي أَخْذِ الشَّارِبِ حَتَّى يَبْدُوَ حَرْفُ الشَّفَتَيْنِ وَقَالَ أَشْهَبُ. سَأَلْتُ مَالِكًا عَمَّنْ يُحْفِي شَارِبَهُ فَقَالَ: أَرَى أَنْ يُوجَعَ ضَرْبًا. وَقَالَ لِمَنْ يَحْلِقُ شَارِبَهُ: هَذِهِ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ فِي النَّاسِ اهـ. وَأَغْرَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَنَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ حَلْقُ الشَّارِبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَصْحَابِهِ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْحَلْقُ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اهـ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: كَانَ أَحْمَدُ يُحْفِي شَارِبَهُ إِحْفَاءً شَدِيدًا، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْقَصِّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَصُّ الشَّارِبِ أَنْ يَأْخُذَ مَا طَالَ عَلَى الشَّفَةِ بِحَيْثُ لَا يُؤْذِي الْآكلَ وَلَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْوَسَخُ. قَالَ: وَالْجَزُّ وَالْإِحْفَاءُ هُوَ الْقَصُّ الْمَذْكُورُ، وَلَيْسَ بِالِاسْتِئْصَالِ عِنْدَ مَالِكٍ. قَالَ: وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ الِاسْتِئْصَالُ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى التَّخْيِيرِ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ: هُوَ الطَّبَرِيُّ، فَإِنَّهُ حَكَى قَوْلَ مَالِكٍ وَقَوْلَ الْكُوفِيِّينَ وَنُقِلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْإِحْفَاءَ الِاسْتِئْصَالُ ثُمَّ قَالَ: دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَلَا تَعَارُضَ، فَإِنَّ الْقَصَّ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ وَالْإِحْفَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِ الْكُلِّ وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ فَيَتَخَيَّرُ فِيمَا شَاءَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْإِحْفَاءُ مُحْتَمَلٌ لِأَخْذِ الْكُلِّ، وَالْقَصُّ مُفَسِّرٌ لِلْمُرَادِ، وَالْمُفَسِّرُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُجْمَلِ اهـ. وَيُرَجِّحُ قَوْلَ الطَّبَرِيِّ ثُبُوتُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، فَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَصِّ فَفِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ضِفْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ شَارِبِي وَفَّى فَقَصَّهُ عَلَى سِوَاكٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ عَلَى سِوَاكٍ فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ وَضَعَ سِوَاكًا عِنْدَ الشَّفَةِ تَحْتَ الشَّعْرِ وَأَخَذَ الشَّعْرَ بِالْمِقَصِّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى قَصَّهُ عَلَى أَثَرِ سِوَاكٍ، أَيْ بَعْدَمَا تَسَوَّكَ.

وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ فِيهِ فَوَضَعَ السِّوَاكَ تَحْتَ الشَّارِبِ وَقَصَّ عَلَيْهِ وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ رَجُلًا وَشَارِبُهُ طَوِيلٌ فَقَالَ: ائْتُونِي بِمِقَصٍّ وَسِوَاكٍ، فَجَعَلَ السِّوَاكَ عَلَى طَرَفِهِ ثُمَّ أَخَذَ مَا جَاوَزَهُ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَسَّنَهُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُصُّ شَارِبَهُ وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ قَالَ: رَأَيْتُ خَمْسَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ: أَبُو أُمَامَةُ الْبَاهِلِيُّ، وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيُّ، وَعُتْبَةُ بْنُ عَوْفٍ السُّلَمِيُّ وَالْحَجَّاجُ بْنُ عَامِرٍ الثُّمَالِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ وَأَمَّا الْإِحْفَاءُ فَفِي رِوَايَةِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَجُوسَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُوفُونَ سِبَالَهُمْ، وَيَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ فَخَالِفُوهُمْ، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَقْرِضُ سَبَلَتَهُ فَيَجُزُّهَا كَمَا يَجُزُّ

ص: 347

الشَّاةَ أَوِ الْبَعِيرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأَخْرَجَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَ عُمَرَ وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَأَبَا أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ وَسَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ وَأَبَا رَافِعٍ يُنْهِكُونَ شَوَارِبَهُمْ كَالْحَلْقِ لَفْظُ الطَّبَرَيِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ يَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ مَعَ طَرَفِ الشَّفَةِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عُرْوَةَ وَسَالِمٍ وَالْقَاسِمِ وَأَبِي سَلَمَةَ

أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْلِقُونَ شَوَارِبَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُحْفِي شَارِبَهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى بَيَاضِ الْجِلْدِ، لَكِنْ كُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لِأَنْ يُرَادَ اسْتِئْصَالُ جَمِيعِ الشَّعْرِ النَّابِتِ عَلَى الشَّفَةِ الْعُلْيَا، وَمُحْتَمَلٌ لِأَنْ يُرَادَ اسْتِئْصَالُ مَا يُلَاقِي حُمْرَةَ الشَّفَةِ مِنْ أَعْلَاهَا وَلَا يَسْتَوْعِبُ بَقِيَّتَهَا، نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى فِي مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْمَجُوسِ وَالْأَمْنُ مِنَ التَّشْوِيشِ عَلَى الْآكْلِ وَبَقَاءِ زُهُومَةِ الْمَأْكُولِ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ مُفْتَرَقَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ فِي شَرْحِ أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ لِأَنَّهُ أَوْرَدَ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ وَأَوْرَدَ بَعْدَهُ حَدِيثَهُ وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَصِّ الشَّارِبِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُصُّ شَارِبَهُ حَتَّى يُظْهِرَ حَرْفَ الشَّفَةِ الْعَلْيَاءِ وَمَا قَارَبَهُ مِنْ أَعْلَاهُ وَيَأْخُذُ مَا يَزِيدُ مِمَّا فَوْقَ ذَلِكَ وَيَنْزِعُ مَا قَارَبَ الشَّفَةَ مِنْ جَانِبَيِ الْفَمِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَعْدَلُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَارِ. وَقَدْ أَبْدَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ لِتَخْفِيفِ شَعْرِ الشَّارِبِ مَعْنًى لَطِيفًا فَقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ الْأَنْفِ يَتَلَبَّدُ بِهِ الشَّعْرُ لِمَا فِيهِ مِنَ اللُّزُوجَةِ وَيَعْسُرُ تَنْقِيَتُهُ عِنْدَ غَسْلِهِ، وَهُوَ بِإِزَاءِ حَاسَّةٍ شَرِيفَةٍ وَهِيَ الشَّمُّ، فَشَرَعَ تَخْفِيفَهُ لِيَتِمَّ الْجَمَالُ وَالْمَنْفَعَةُ بِهِ.

قُلْتُ: وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِتَخْفِيفِهِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ إِحْفَافَهُ وَإِنْ كَانَ أَبْلَغَ، وَقَدْ رَجَّحَ الطَّحَاوِيُّ الْحَلْقَ عَلَى الْقَصِّ بِتَفْضِيلِهِ صلى الله عليه وسلم الْحَلْقَ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي النُّسُكِ، وَوَهَّى وهى ابْنُ التِّينِ الْحَلْقَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ، وَكِلَاهُمَا احْتِجَاجٌ بِالْخَبَرِ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا الثَّانِي، وَيُؤْخَذُ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَشْرُوعِيَّةُ تَنْظِيفِ دَاخِلِ الْأَنْفِ وَأَخْذُ شَعْرِهِ إِذَا طَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا غَضِبَ فَتَلَ شَارِبَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُوَفِّرُهُ. وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِإِبْقَاءِ الشَّوَارِبِ فِي الْحَرْبِ إِرْهَابًا لِلْعَدُوِّ، وَزَيَّفَهُ.

(فَصْلٌ): فِي فَوَائِدَ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ: الْأُولَى - قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُبْدَأَ فِي قَصِّ الشَّارِبِ بِالْيَمِينِ. الثَّانِيَةُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَقُض ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَلِّيَ ذَلِكَ غَيْرَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ هَتْكِ مُرُوءَةٍ بِخِلَافِ الْإِبْطِ، وَلَا ارْتِكَابِ حُرْمَةٍ بِخِلَافِ الْعَانَةِ. قُلْتُ: مَحَلُّ ذَلِكَ حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُحْسِنُ الْحَلْقَ فَقَدْ يُبَاحُ لَهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تُحْسِنُ الْحَلْقَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، لَكِنْ مَحَلُّ هَذَا إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَتَنَوَّرُ بِهِ فَإِنَّهُ يُغْنِي عَنِ الْحَلْقِ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَكَذَا مَنْ لَا يَقْوَى عَلَى النَّتْفِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْحَلْقِ إِذَا اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ فِي الْحَلْقِ لَمْ تُهْتَكِ الْمُرُوءَةُ مِنْ أَجْلِ الضَّرُورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا لِمَنْ لَمْ يَقْوَ عَلَى التَّنَوُّرِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النُّورَةَ تُؤْذِي الْجِلْدَ الرَّقِيقَ كَجِلْدِ الْإِبْطِ، وَقَدْ يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَغَابِنِ الَّتِي بَيْنَ الْفَخِذِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَأَمَّا الْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ فَيَنْبَغِي فِيهِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَنْ يُحْسِنُ أَخْذَهُ بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَتَشَوَّهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا يُحْسِنُ فَيَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَنْ لَا يَجِدُ مِرْآةً يَنْظُرُ وَجْهَهُ فِيهَا عِنْدَ أَخْذِهِ. الثَّالِثَةُ قَالَ النَّوَوِيُّ: يَتَأَدَّى أَصْلُ السُّنَّةِ بِأَخْذِ الشَّارِبِ بِالْمِقَصِّ وَبِغَيْرِهِ. وَتَوَقَّفَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي قَرْضِهِ بِالسِّنِّ ثُمَّ قَالَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى اللَّفْظِ مَنَعَ وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْمَعْنَى أَجَازَ.

الرَّابِعَةُ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِ قَصِّ الشَّارِبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ، وَاحْتُرِزَ بِذَلِكَ مِنْ وُجُوبِهِ بِعَارِضٍ حَيْثُ يَتَعَيَّنُ

ص: 348

كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى كَلَامِ ابْنِ حَزْمٍ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِالْوُجُوبِ فِي ذَلِكَ وَفِي إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ.

‌64 - بَاب تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ

5890 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ حَنْظَلَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنْ الْفِطْرَةِ حَلْقُ الْعَانَةِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ.

5891 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْآبَاطِ.

5892 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ.

[الحديث 5892 - طرفه في: 5893]

قَوْلُهُ: (بَابُ تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ) تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، الثَّالِثُ مِنْهَا لَا تَعَلُّقَ بِالظُّفُرِ وَإِنَّمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا تَقْلِيمَ الْأَظْفَارِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا وَقَصَّ الشَّارِبِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْأَوَّلِ وَحَدِيثَهُ فِي الثَّالِثِ وَاحِدٌ، مِنْهُمْ مَنْ طَوَّلَهُ وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ، قَوْلُهُ:(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَيُّوبَ الْهَرَوِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ هُوَ الرَّازِيُّ، وَحَنْظَلَةُ هُوَ ابْنُ سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَزَعَمَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَوْقُوفًا ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْأَشَجَّ رَوَاهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ مَرْفُوعًا، وَتَعَقَّبَ الْحُمَيْدِيُّ كَلَامَ أَبِي مَسْعُودٍ فَأَجَادَ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْفِطْرَةِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ بِلَفْظٍ مِنَ السُّنَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَصُّ الشَّارِبِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَخْذُ الشَّارِبِ وَفِي أُخْرَى لَهُ وَقَصُّ الشَّوَارِبِ قَالَ وَقَالَ مَرَّةً الشَّارِبَ قَالَ الْجَيَّانِيُّ: وَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لِعِظَمِ الشَّوَارِبِ وَهُوَ مِنَ الْوَاحِدِ الَّذِي فَرَّقَ وَسَمَّى كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ بِاسْمِهِ فَقَالُوا لِكُلِّ جَانِبٍ مِنْهُ شَارِبًا ثُمَّ جَمَعَ شَوَارِبَ وَحَكَى ابْنُ سِيدَهْ عَنْ بَعْضِهِمْ: مَنْ قَالَ الشَّارِبَانِ أَخْطَأَ ; وَإِنَّمَا الشَّارِبَانِ مَا طَالَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّبَلَةِ، قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّي السَّبَلَةَ كُلَّهَا شَارِبًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَثَرُ عُمَرَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مَالِكٌ أَنَّهُ كَانَ إِذَا غَضِبَ فَتَلَ شَارِبَهُ وَالَّذِي يُمْكِنُ فَتْلُهُ مِنْ شَعْرِ الشَّارِبِ السِّبَالِ وَقَدْ سَمَّاهُ شَارِبًا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ) أَيِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ خَالِفُوا الْمَجُوسَ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُصُّونَ لِحَاهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْلِقُهَا.

قَوْلُهُ: (أَحْفُوا

ص: 349

الشَّوَارِبَ) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مِنَ الْإِحْفَاءِ لِلْأَكْثَرِ، وَحَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ حَفَى شَارِبَهُ حَفْوًا إِذَا اسْتَأْصَلَ أَخَذَ شَعْرَهُ، فَعَلَى هَذَا فَهِيَ هَمْزَةُ وَصْلٍ.

قَوْلُهُ: (وَوَفِّرُوا اللِّحَى) أَمَّا قَوْلُهُ وَفِّرُوا فَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ مِنَ التَّوْفِيرِ وَهُوَ الْإِبْقَاءُ أَيِ اتْرُكُوهَا وَافِرَةً، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَعْفُوا وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَرْجِئُوا وَضُبِطَتْ بِالْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ أَيْ أَخِّرُوهَا، وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِلَا هَمْزٍ أَيْ أَطِيلُوهَا، وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَوْفُوا أَيِ اتْرُكُوهَا وَافِيَةً، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَاللِّحَى بِكَسْرِ اللَّامِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا وَبِالْقَصْرِ وَالْمَدِّ جَمْعُ لِحْيَةٍ بِالْكَسْرِ فَقَطْ وَهِيَ اسْمٌ لِمَا نَبَتَ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَالذَّقْنِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَى نَافِعٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِقْدَارُ الْمَأْخُوذِ، وَقَوْلُهُ فَضَلَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُ الضَّادِ كَعَلِمَ وَالْأَشْهَرُ الْفَتْحُ قَالَهُ ابْنُ التِّينِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ فِي النُّسُكِ فَحَلَقَ رَأْسَهُ كُلَّهُ وَقَصَّرَ مِنْ لَحَيَّتِهِ لِيَدْخُلَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} وَخَصَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ وَفِّرُوا اللِّحَى فَحَمَلَهُ عَلَى حَالَةٍ غَيْرِ حَالَةِ النُّسُكِ.

قُلْتُ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَخُصُّ هَذَا التَّخْصِيصَ بِالنُّسُكِ بَلْ كَانَ يَحْمِلُ الْأَمْرَ بِالْإِعْفَاءِ عَلَى غَيْرِ الْحَالَةِ الَّتِي تَتَشَوَّهُ فِيهَا الصُّورَةُ بِإِفْرَاطِ طُولِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ أَوْ عَرْضِهِ، فَقَدْ قَالَ الطَّبَرَيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَكَرِهُوا تَنَاوَلَ شَيْءٍ مِنَ اللِّحْيَةِ مِنْ طُولِهَا وَمِنْ عَرْضِهَا، وَقَالَ قَوْمٌ إِذَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ يُؤْخَذُ الزَّائِدُ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِلَى عُمَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ: كُنَّا نُعَفِّي السِّبَالَ إِلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ وَقَوْلُهُ نُعَفِّي بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ نَتْرُكَهُ وَافِرًا وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّ السِّبَالَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ سَبَلَةَ بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ مَا طَالَ مِنْ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، فَأَشَارَ جَابِرٌ إِلَى أَنَّهُمْ يُقَصِّرُونَ مِنْهَا فِي النُّسُكِ.

ثُمَّ حَكَى الطَّبَرَيُّ اخْتِلَافًا فِيمَا يُؤْخَذُ مِنَ اللِّحْيَةِ هَلْ لَهُ حَدٌّ أُمْ لَا؟ فَأَسْنَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَخْذِ الَّذِي يَزِيدُ مِنْهَا عَلَى قَدْرِ الْكَفِّ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا مَا لَمْ يُفْحِشْ، وَعَنْ عَطَاءٍ نَحْوُهُ قَالَ: وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ النَّهْيَ عَلَى مَنْعِ مَا كَانَتِ الْأَعَاجِمُ تَفْعَلُهُ مِنْ قَصِّهَا وَتَخْفِيفِهَا، قَالَ: وَكَرِهَ آخَرُونَ التَّعَرُّضَ لَهَا إِلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ وَأَسْنَدَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَاخْتَارَ قَوْلَ عَطَاءٍ، وَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَوْ تَرَكَ لِحْيَتَهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهَا حَتَّى أَفْحَشَ طُولُهَا وَعَرْضُهَا لَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَنْ يَسْخَرُ بِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا وَهَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَنُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ هَارُونَ: لَا أَعْلَمُ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا إِلَّا هَذَا اهـ، وَقَدْ ضَعَّفَ عُمَرَ بْنَ هَارُونَ مُطْلَقًا جَمَاعَةٌ، وَقَالَ عِيَاضٌ: يُكْرَهُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ وَقَصُّهَا وَتَحْذِيفُهَا، وَأَمَّا الْأَخْذُ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا إِذَا عَظُمَتْ فَحَسَنٌ، بَلْ تُكْرَهُ الشُّهْرَةُ فِي تَعْظِيمِهَا كَمَا يُكْرَهُ فِي تَقْصِيرِهَا، كَذَا قَالَ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْخَبَرِ فِي الْأَمْرِ بِتَوْفِيرِهَا ; قَالَ: وَالْمُخْتَارُ تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا وَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهَا بِتَقْصِيرٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَكَأَنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ النُّسُكِ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ فِيهِ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ، عَنِ الْغَزَالِيِّ - وَهُوَ فِي ذَلِكَ تَابِعٌ لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ فِي الْقُوتِ - قَالَ: يُكْرَهُ فِي اللِّحْيَةِ عَشْرُ

خِصَالٍ: خَضْبُهَا بِالسَّوَادِ لِغَيْرِ الْجِهَادِ، وَبِغَيْرِ السَّوَادِ إِيهَامًا لِلصَّلَاحِ لَا لِقَصْدِ الِاتِّبَاعِ، وَتَبْيِيضُهَا اسْتِعْجَالًا لِلشَّيْخُوخَةِ لِقَصْدِ التَّعَاظُمِ عَلَى الْأَقْرَانِ، وَنَتْفُهَا لِلْمُرُودَةِ وَكَذَا تَحْذِيفُهَا وَنَتْفُ

ص: 350

الشَّيْبِ. وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ تَحْرِيمَهُ لِثُبُوتِ الزَّجْرِ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَتَصْفِيفُهَا طَاقَةً طَاقَةً تَصَنُّعًا وَمَخِيلَةً، وَكَذَا تَرْجِيلُهَا وَالتَّعَرُّضُ لَهَا طُولًا وَعَرْضًا عَلَى مَا فِيهِ مِنَ اخْتِلَافٍ، وَتَرْكُهَا شَعِثَةً إِيهَامًا لِلزُّهْدِ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا إِعْجَابًا، وَزَادَ النَّوَوِيُّ: وَعَقْدُهَا، لِحَدِيثِ رُوَيْفِعٍ رَفَعَهُ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قِيلَ الْمُرَادُ عَقْدُهَا فِي الْحَرْبِ وَهُوَ مِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مُعَالَجَةُ الشَّعْرِ لِيَنْعَقِدَ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ التَّأْنِيثِ.

(تَنْبِيهٌ): أَنْكَرَ ابْنُ التِّينِ ظَاهِرَ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْقَبْضَةِ مِنْ لِحْيَتِهِ، بَلْ كَانَ يُمْسِكُ عَلَيْهَا فَيُزِيلُ مَا شَذَّ مِنْهَا، فَيُمْسِكُ مِنْ أَسْفَلِ ذَقْنِهِ بِأَصَابِعِهِ الْأَرْبَعَةِ مُلْتَصِقَةٍ فَيَأْخُذُ مَا سَفَلَ عَنْ ذَلِكَ لِيَتَسَاوَى طُولُ لِحْيَتِهِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَقَدْ حَدَّثَ قَوْمٌ يَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ، وَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا نُقِلَ عَنِ الْمَجُوسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُصُّونَهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَثْنَى مِنَ الْأَمْرِ بِإِعْفَاءِ اللِّحَى مَا لَوْ نَبَتَتْ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا حَلْقُهَا، وَكَذَا لَوْ نَبَتَ لَهَا شَارِبٌ أَوْ عَنْفَقَةٌ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِ الْمُتَنَمِّصَاتِ.

‌65 - بَاب إِعْفَاءِ اللِّحَى. وعَفَوْا: كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ

5893 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عبدة، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أنْهَكُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِعْفَاءِ اللِّحَى) كَذَا اسْتَعْمَلَهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ. ثُمَّ قَالَ: عَفَوْا كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَرَادَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ: {حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} فَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ عَفَوْا بكْثُرُوا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَصْلِ الْمَادَّةِ، أَوْ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ وَهُوَ أَعْفُوا اللِّحَى جَاءَ بِالْمَعْنَيَيْنِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَعَلَى الثَّانِي بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ مِنْهُمُ ابْنُ التِّينِ قَالَ: وَبِهَمْزَةِ قَطْعٍ أَكْثَرُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: تَفْسِيرُ الْإِعْفَاءِ بِالتَّكْثِيرِ مِنْ إِقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِعْفَاءِ التَّرْكُ، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلِّحْيَةِ يَسْتَلْزِمُ تَكْثِيرَهَا. وَأَغْرَبَ ابْنُ السَّيِّدِ فَقَالَ: حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: أَعْفُوا اللِّحَى، عَلَى الْأَخْذِ مِنْهَا بِإِصْلَاحِ مَا شَذَّ مِنْهَا طُولًا وَعَرْضًا، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ زُهَيْرٍ

عَلَى آثَارِ مَنْ ذَهَبَ الْعَفَاءُ

وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى وَفِّرُوا أَوْ كَثِّرُوا، وَهُوَ الصَّوَابُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا فَهِمَ مِنَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ أَعْفُوا اللِّحَى تَجْوِيزَ مُعَالَجَتِهَا بِمَا يُغْزِرُهَا كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، قَالَ: وَكَأَنَّ الصَّارِفَ على ذَلِكَ قَرِينَةُ السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْخَبَرِ وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ بَقِيَّةِ طُرُقِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّرْكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): فِي قَوْلِهِ أَعْفُوا وَأَحْفُوا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْبَدِيعِ: الْجِنَاسُ وَالْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَازَنَةُ.

‌66 - مَا يُذْكَرُ فِي الشَّيْبِ

5894 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا: أَخَضَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغْ الشَّيْبَ إِلَّا قَلِيلًا.

5895 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ خِضَابِ النَّبِيِّ

ص: 351

صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَا يَخْضِبُ، لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتِهِ فِي لِحْيَتِهِ.

5896 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَهْلِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، وَقَبَضَ إِسْرَائِيلُ ثَلَاثَ أَصَابِعَ مِنْ قُصَّةٍ فِيهِا شَعَرٌ مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ عَيْنٌ أَوْ شَيْءٌ بَعَثَ إِلَيْهَا مِخْضَبَهُ، فَاطَّلَعْتُ فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حُمْرًا.

[الحديث 5896 - طرفاه في: 5897، 5898]

5897 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا سَلَامٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا شَعَراً مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَخْضُوباً".

5898 -

وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا نُصَيْرُ بْنُ أَبِي الأَشْعَثِ عَنْ ابْنِ مَوْهَبٍ "أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَرَتْهُ شَعَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحْمَرَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الشَّيْبِ) أَيْ هَلْ يُخَضَّبُ أَوْ يُتْرَكُ؟

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ سِيرِينَ) هُوَ مُحَمَّدٌ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ، عَنْ مُعَلَّى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ أَنَسًا: أَخْضَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)؟ يُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّهُ الْمُبْهَمُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا حَيْثُ قَالَ ثَابِتٌ سُئِلَ أَنَسٌ كَذَا قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا قَلِيلًا يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ يَبْلُغْ مَا يُخَضِّبُ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الشَّعْرِ الْأَبْيَضِ إِذَا بَدَأَ فِي اللِّحْيَةِ لَمْ يُبَادِرْ إِلَى خَضْبِهِ حَتَّى يَكْثُرَ، وَمَرْجِعُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فِي ذَلِكَ إِلَى الْعُرْفِ، وَزَادَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ بَعْدَهُ خَضَّبَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، قَالَ: وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ أَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَحْمِلُهُ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ، وَلِحْيَتُهُ وَرَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ الْخِضَابِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ وَزَادَ وَلَمْ يُخَضِّبْ وَلَكِنْ خَضَّبَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ.

قَوْلُهُ فِي الثَّانِيَةِ (لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتِهِ فِي لِحْيَتِهِ) الْمُرَادُ بِالشَّمَطَاتِ الشَّعَرَاتِ اللَّاتِي ظَهَرَ فِيهِنَّ الْبَيَاضُ، فَكَأَنَّ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مَعَ مَا يُجَاوِرُهَا مِنْ شَعْرَةٍ سَوْدَاءَ ثَوْبٌ أَشْمَطُ، وَالْأَشْمَطُ الَّذِي يُخَالِطُهُ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ، وَجَوَابُ لَوْ فِي قَوْلِهِ لَوْ شِئْتُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَعَدَدْتُهَا، وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِلَّتِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَنَاقِبِ بَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ ابْنُ غَسَّانَ النَّهْدِيُّ، وَإِسْرَائِيلُ هُوَ ابْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ هُوَ التَّيْمِيُّ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ سَبَقَ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (أَرْسَلَنِي أَهْلِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ) يَعْنِي زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ أَهْلِهِ، وَلَكِنَّهُمْ مِنْ آلِ طَلْحَةَ لِأَنَّهُمْ مَوَالِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِأَهْلِهِ امْرَأَتَهُ.

قَوْلُهُ: (بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، وَقَبَضَ إِسْرَائِيلُ ثَلَاثَ أَصَابِعَ مِنْ قُصَّةٍ فِيهَا) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِيهِ شَعْرٌ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِه قُصَّةٍ هُوَ بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ صَادٍ مُهْمَلَةٍ أَوْ بِفَاءٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ؟ فَأَمَّا قَوْلُهُ وَقَبَضَ إِسْرَائِيلُ ثَلَاثَ أَصَابِعَ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى صِغَرِ الْقَدَحِ، وَزَعَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ

ص: 352

عِبَارَةٌ عَنْ عَدَدِ إِرْسَالِ عُثْمَانَ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِيهَا فَضَمِيرٌ لِمَعْنَى الْقَدَحِ؛ لِأَنَّ الْقَدَحَ إِذَا كَانَ فِيهِ مَائِعٌ يُسَمَّى كَأْسًا وَالْكَأْسُ مُؤَنَّثَةٌ، أَوِ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ كَمَا سَيَأْتِي تَوْجِيهُهُ. وَأَمَّا رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالتَّذْكِيرِ فَوَاضِحَةٌ، وَقَوْلُهُ مِنْ فِضَّةٍ إِنْ كَانَ بِالْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةِ فَهُوَ بَيَانٌ لِجِنْسِ الْقَدَحِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُمَوَّهًا بِفِضَّةٍ لَا أَنَّهُ كَانَ كُلُّهُ فِضَّةً. قُلْتُ: وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ لَا تُجِيزُ اسْتِعْمَالَ آنِيَةِ الْفِضَّةِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ ذَلِكَ وَقَدْ أَجَازَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ اسْتِعْمَالَ الْإِنَاءِ الصَّغِيرِ مِنَ الْفِضَّةِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؟ وَإِنْ كَانَ بِالْقَافِ وَالْمُهْمَلَةِ فَهُوَ مِنْ صِفَةِ الشَّعْرِ عَلَى مَا فِي التَّرْكِيبِ مِنْ قَلَقِ الْعِبَارَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عَلَيْكَ بِتَوْجِيهِهِ.

وَيَظْهَرُ أَنَّ مِنْ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ أَرْسَلُونِي بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بِسَبَبِ قُصَّةٍ فِيهَا شَعْرٌ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مَحْفُوظَةٌ بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَى أَنَّهُ بِالْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةِ وَلَفْظُهُ أَرْسَلَنِي أَهْلِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَجَاءَتْ بِجُلْجُلٍ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ شَعْرٌ إِلَخْ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ إِسْرَائِيلَ، فَكَأَنَّهُ سَقَطَ عَلَى رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُهُ فَجَاءَتْ بِجُلْجُلٍ وَبِهِ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ، وَيُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ فِضَّةٍ بِالْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةِ وأَنَّهُ صِفَةُ الْجُلْجُلِ لَا صِفَةُ الْقَدَحِ الَّذِي أَحْضَرَهُ عُثْمَانُ بْنُ مُوهِبٍ، قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ: وَقَعَ لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ بِالْقَافِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بِالْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ وَكِيعٌ فِي مُصَنَّفِهِ بَعْدَمَا رَوَاهُ عَنْ إِسْرَائِيلَ فَقَالَ كَانَ جُلْجُلًا مِنْ فِضَّةٍ صِيغَ صَوَّانًا لِشَعَرَاتٍ كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ) النَّاسُ (إِذَا أَصَابَ الْإِنْسَانُ) أَيْ مِنْهُمْ (عَيْنٌ) أَيْ أُصِيبَ بِعَيْنٍ (أَوْ شَيْءٍ) أَيْ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ كَانَ، وَهُوَ مَوْصُولٌ مِنْ قَوْلِ عُثْمَانَ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (بَعَثَ إِلَيْهَا مِخْضَبَهُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْآنِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ مَنِ اشْتَكَى أَرْسَلَ إِنَاءً إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَتَجْعَلُ فِي تِلْكَ الشَّعَرَاتِ وَتَغْسِلُهَا فِيهِ وَتُعِيدُهُ فَيَشْرَبُهُ صَاحِبُ الْإِنَاءِ أَوْ يَغْتَسِلُ بِهِ اسْتِشْفَاءً بِهَا فَتَحْصُلُ لَهُ بَرَكَتُهَا.

قَوْلُهُ: (فَاطَّلَعَتْ فِي الْجُلْجُلِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِجِيمَيْنِ مَضْمُومَتَيْنِ بَيْنَهُمَا لَامٌ وَآخِرُهُ أُخْرَى، هُوَ شِبْهُ الْجَرَسِ، وَقَدْ تُنْزَعُ مِنْهُ الْحَصَاةُ الَّتِي تَتَحَرَّكُ فَيُوضَعُ فِيهِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى صِيَانَتِهِ، وَالْقَائِلُ فَاطَّلَعَتْ هُوَ عُثْمَانُ، وَقِيلَ إِنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْجَحْلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفُسِّرَ بِالسِّقَاءِ الضَّخْمِ، وَمَا أَظُنُّهُ تَصْحِيفًا لِأَنَّهُ كَانَ صَوَّانًا لِلشَّعَرَاتِ كَمَا جَزَمَ بِهِ وَكِيعٌ أَحَدُ رُوَاةِ الْخَبَرِ كَانَ الْمُنَاسِبُ لَهُنَّ الظَّرْفَ الصَّغِيرَ لَا الْإِنَاءَ الضَّخْمَ، وَلَمْ يُفَسِّرْ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَلَا النِّهَايَةُ الْجُلْجُلَ كَأَنَّهُمَا تَرَكَاهُ لِشُهْرَتِهِ، لَكِنْ حَكَى عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ الْمُخَضَّبِ بَدَلَ الْجُلْجُلِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حُمْرًا) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِيهَا مَخْضُوبًا وَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (سَلَّامٌ) هُوَ بِالتَّشْدِيدِ اتِّفَاقًا، وَجَزَمَ أَبُو نَصْرٍ الْكَلَابَاذِيُّ بِأَنَّهُ ابْنُ مِسْكِينٍ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: هُوَ ابْنُ أَبِي مُطِيعٍ ; وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ مُوسَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ.

قَوْلُهُ: (مَخْضُوبًا) زَادَ يُونُسُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَكَذَا لِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَكَذَا لِأَحْمَدَ، عَنْ عَفَّانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ كِلَاهُمَا عَنْ سَلَّامٍ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَهُوَ شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَعْرًا أَحْمَرَ مَخْضُوبًا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُثْمَانَ الْمَذْكُورِ كَانَ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ شَعْرِ لِحْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ أَثَرُ الْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَالْحِنَّاءُ مَعْرُوفٌ وَالْكَتَمُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمُثَنَّاةِ سَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ بَعْدَ هَذَا، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ:

ص: 353

لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي خَضَّبَ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ احْمَرَّ بَعْدَهُ لِمَا خَالَطَهُ مِنْ طِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ فَغَلَبَتْ بِهِ الصُّفْرَةُ، قَالَ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَحَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُخَضِّبْ أَصَحُّ، كَذَا قَالَ، وَالَّذِي أَبَدَاهُ احْتِمَالًا قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ مَوْصُولًا إِلَى أَنَسٍ فِي بَابِ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا احْمَرَّ مِنَ الطِّيبِ. قُلْتُ: وَكَثُرَ مِنَ الشُّعُورِ الَّتِي تُفْصَلُ عَنِ الْجَسَدِ إِذَا طَالَ الْعَهْدُ يَئُولُ سَوَادُهَا إِلَى الْحُمْرَةِ، وَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ مِنَ التَّرْجِيحِ خِلَافُ مَا جَمَعَ بِهِ الطَّبَرِيُّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ جَزَمَ أَنَّهُ خَضَّبَ - كَمَا فِي ظَاهِرِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَكَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَاضِي قَرِيبًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَضَّبَ بِالصُّفْرَةِ - حَكَى مَا شَاهَدَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ.

وَمَنْ نَفَى ذَلِكَ كَأَنَسٍ فَهُوَ مَحْمُود عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ مَا كَانَ فِي رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِحْيَتِهِ مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا شَعَرَاتٌ كَانَ إِذَا دَهَنَ وَارَاهُنَّ الدُّهْنَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْخِضَابَ شَاهَدُوا الشَّعْرَ الْأَبْيَضَ، ثُمَّ لَمَّا وَارَاهُ الدُّهْنُ ظَنُّوا أَنَّهُ خَضبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَصَرَّحَ غَيْرُهُ بِوَصْلِهِ فَقَالَ قَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (نُصَيْرٌ) بِنُونٍ مُصَغَّرٌ ابْنُ أَبِي الْأَشْعَثِ [وَيُقَالُ الْأَشْعَثُ]

(1)

اسْمُهُ، وَلَيْسَ لِنُصَيْرٍ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.

‌67 - بَاب الْخِضَابِ

5899 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إ نَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخِضَابِ) أَيْ تَغْيِيرُ لَوْنِ شَيْبِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) كَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَتَابَعَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَيُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَحْدَهُ، وَقَدْ مَضَتْ رِوَايَةُ صَالِحٍ فِي أَحَادِيثَ الْأَنْبِيَاءِ، وَرِوَايَةُ الْآخَرِينَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ بِسَنَدِهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ) هَكَذَا أُطْلِقَ، وَلِأَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَشْيَخَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ بِيضٌ لِحَاهُمْ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ حَمِّرُوا وَصَفِّرُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِتَغْيِيرِ الشَّعْرِ مُخَالَفَةً لِلْأَعَاجِمِ وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَجَازَ الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مَسْأَلَةُ اسْتِثْنَاءِ الْخَضْبِ بِالسَّوَادِ لِحَدِيثَيْ جَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ فِي الْجِهَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ مُطْلَقًا وَأَنَّ الْأَوْلَى كَرَاهَتُهُ، وَجَنَحَ النَّوَوِيُّ إِلَى أَنَّهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَجَرِيرٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْخِضَابِ لَهُ وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ يَكُونُ قَوْمٌ يُخَضِّبُونَ بِالسَّوَادِ لَا يَجِدُونَ رِيحَ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَرَاهَةِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ بَلْ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ قَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهُمْ، وَعَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ جَنِّبُوهُ السَّوَادَ بِأَنَّهُ

(1)

من ترجمة نصير في "تهذيب التهذيب".

ص: 354

فِي حَقِّ مَنْ صَارَ شَيْبُ رَأْسِهِ مُسْتَشْبَعًا وَلَا يَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ خِلَافُ مَا يَتَبَادَرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثَيْنِ.

نَعَمْ يَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ هُوَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ كُنَّا نُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ إِذا كَانَ الْوَجْهُ جَدِيدًا، فَلَمَّا نَغَضُّ الْوَجْهَ وَالْأَسْنَانَ تَرَكْنَاهُ وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ مَنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ سَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَنَدُهُ لَيِّنٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَأَجَازَهُ لَهَا دُونَ الرَّجُلِ، وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ، وَأَمَّا خَضْبُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ إِلَّا فِي التَّدَاوِي. وَقَوْلُهُ فَخَالِفُوهُمْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَخَالِفُوا عَلَيْهِمْ وَاصْبُغُوا وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ عَلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِيهِ كَمَا بَيَّنَهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَزَادَ وَالنَّصَارَى وَلِأَصْحَابِ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّعَاقُبِ وَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا وَقَوْلُهُ بَحْتًا بِمُوَحَّدَةِ مَفْتُوحَةٍ وَمُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ أَيْ صِرْفًا، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا دَائِمًا. وَالْكَتَمُ نَبَاتٌ بِالْيَمَنِ يُخْرِجُ الصَّبْغَ أَسْوَدَ يَمِيلُ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَصِبْغُ الْحِنَّاءِ أَحْمَرُ فَالصَّبْغُ بِهِمَا مَعًا يَخْرُجُ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ.

وَاسْتَنْبَطَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: جَنِّبُوهُ السَّوَادَ، أَنَّ الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ، وَذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ أَوَّلَ مَنِ اخْتَضَبَ بِالسَّوَادِ مِنَ الْعَرَبِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَأَمَّا مُطْلَقًا فَفِرْعَوْنُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْخَضْبِ وَتَرْكِهِ فَخَضَّبَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَغَيْرُهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَرَكَ الْخِضَابَ عَلِيٌّ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، وَأَنَسٌ وَجَمَاعَةٌ، وَجَمَعَ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ مَنْ صَبَغَ مِنْهُمْ كَانَ اللَّائِقُ بِهِ كَمَنْ يُسْتَشْنَعُ شَيْبُهُ، وَمَنْ تَرَكَ كَانَ اللَّائِقُ بِهِ كَمَنْ لَا يُسْتَشْنَعُ شَيْبُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ حُمِلَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي قِصَّةِ أَبِي قُحَافَةَ حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى رَأْسَهُ كَأَنَّهَا الثُّغَامَةُ بَيَاضًا غَيِّرُوا هَذَا وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَوَّلَ بَابِ مَا يُذْكَرُ فِي الشَّيْبِ زَادَ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ فَذَهَبُوا بِهِ فَحَمَّرُوهُ وَالثُّغَامَةُ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ نَبَاتٌ شَدِيدُ الْبَيَاضِ زَهْرُهُ وَثَمَرُهُ، قَالَ: فَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِ أَبِي قُحَافَةَ اسْتُحِبَّ لَهُ الْخِضَابُ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْغُرُورُ لِأَحَدٍ، وَمَنْ كَانَ بِخِلَافِهِ فَلَا يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنَّ الْخِضَابَ مُطْلَقًا أَوْلَى لِأَنَّهُ فِيهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِ صِيَانَةُ للشَّعْرِ عَنْ تَعَلُّقِ الْغُبَارِ وَغَيْرِهِ بِهِ، إِلَّا إِنْ كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ تَرْكُ الصَّبْغِ وَأَنَّ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِدُونِهِمْ بِذَلِكَ يَصِيرُ فِي مَقَامِ

الشُّهْرَةِ فَالتَّرْكُ فِي حَقِّهِ أَوْلَى. وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ بِلَفْظِ: مَنْ شَابَ شَيْبَةً فَهِيَ لَهُ نُورٌ إِلَى أَنْ يَنْتِفَهَا أَوْ يُخَضِّبَهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ خِصَالًا فَذَكَرَ مِنْهَا تَغْيِيرُ الشَّيْبِ، إِذْ بَعْضُهُمْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ تُسْتَحَبُّ بِحَدِيثِ الْبَابِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَمْعَ وَقَالَ: دَعْوَى النَّسْخِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، قُلْتُ: وَجَنَحَ إِلَى النَّسْخِ الطَّحَاوِيُّ وَتَمَسَّكَ بِالْحَدِيثِ الْآتِي قَرِيبًا أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَارَ يُخَالِفُهُمْ وَيَحُثُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي بَابِ الْفَرْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمُشَارُ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ طُرُقِهِ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ واللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ النَّتْفِ دُونَ الْخَضْبِ لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ الْخِلْقَةِ مِنْ أَصْلِهَا، بِخِلَافِ الْخَضْبِ فَإِنَّهُ لَا يُغَيِّرُ الْخِلْقَةَ عَلَى النَّاظِرِ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجِبُ، وَعَنْهُ يَجِبُ وَلَوْ مَرَّةً، وَعَنْهُ لَا أُحِبُّ

ص: 355

لِأَحَدٍ تَرْكَ الْخَضْبِ وَيَتَشَبَّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي السَّوَادِ عَنْهُ كَالشَّافِعِيَّةِ رِوَايَتَانِ الْمَشْهُورَةُ يُكْرَهُ وَقِيلَ مُحَرَّمٌ، وَيَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ لِمَنْ دَلَّسَ بِهِ.

‌68 - بَاب الْجَعْدِ

5900 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ، وَلَيْسَ بِالْآدَمِ، وَلَيْسَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلَا بِالسَّبْطِ، بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ.

5901 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قال: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِي:، عَنْ مَالِكٍ: إِنَّ جُمَّتَهُ لَتَضْرِبُ قَرِيبًا مِنْ مَنْكِبَيْهِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، مَا حَدَّثَ بِهِ قَطُّ إِلَّا ضَحِكَ. تابعه شُعْبَةُ: شَعَرُهُ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ.

5902 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "أُرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَرَأَيْتُ رَجُلاً آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ اللِّمَمِ قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً مُتَّكِئاً عَلَى رَجُلَيْنِ أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا فَقِيلَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا فَقِيلَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ".

5903 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حِبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُهُ مَنْكِبَيْهِ".

[الحديث 5903 - طرفه في: 5904]

5904 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ "كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْكِبَيْهِ".

5905 -

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ شَعَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "كَانَ شَعَرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجِلاً لَيْسَ بِالسَّبِطِ وَلَا الْجَعْدِ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ".

[الحديث 5905 - طرفه في: 5906]

ص: 356

5906 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَخْمَ الْيَدَيْنِ لَمْ أَرَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَكَانَ شَعَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجِلاً لَا جَعْدَ وَلَا سَبِطَ".

5907 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَخْمَ الْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ حَسَنَ الْوَجْهِ لَمْ أَرَ بَعْدَهُ وَلَا قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَكَانَ بَسِطَ الْكَفَّيْنِ".

[الحديث 5907 - أطرافه في: 5908، 5910، 5911]

5908، 5909 - حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هَانِئٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَوْ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَخْمَ الْقَدَمَيْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ".

5910 -

وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَثْنَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ".

5911، 5912 - وَقَالَ أَبُو هِلَالٍ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَوْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَخْمَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ لَمْ أَرَ بَعْدَهُ شَبَهاً لَهُ".

5913 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ فَقَالَ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذْ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَعْدِ) هُوَ صِفَةُ الشَّعْرِ، يُقَالُ شَعْرٌ جَعْدٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِهَا. ذُكِرَ فِيهِ سَبْعَةُ أَحَادِيثَ:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ وَلَيْسَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلَا بِالسَّبْطِ أَيْ أنَّ شَعْرَهُ كَانَ بَيْنَ الْجُعُودَةِ وَالسُّبُوطَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمَنَاقِبِ، وَأَنَّ الشَّعْرَ الْجَعْدَ هُوَ الَّذِي يَتَجَعَّدُ كَشُعُورِ السُّودَانِ، وَأَنَّ السَّبْطَ هُوَ الَّذِي يَسْتَرْسِلُ فَلَا يَتَكَسَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ كَشُعُورِ الْهُنُودِ، وَالْقَطَطُ - بِفَتْحِ الطَّاءِ - الْبَالِغُ فِي الْجُعُودَةِ بِحَيْثُ يَتَفَلْفَلُ، وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ فِي لِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي تَعْيِينِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَمِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ هُنَاكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ الْهَيْثَمِ بْنِ دَهْرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ ثَلَاثُونَ شَعْرَةً عَدَدًا وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُنَّ دُونَ الْعِشْرِينَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ الْبَرَاءِ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ.

قَوْلُهُ (قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ مَالِكٍ) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ جُمَّتَهُ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ شَعْرُ رَأْسِهِ إِذَا نَزَلَ إِلَى قُرْبِ الْمَنْكِبَيْنِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي حَرْفِ الْوَاوِ: وَالْوَفْرَةُ الْشعرُة إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ، ثُمَّ الْجُمَّةُ ثُمَّ اللِّمَّةُ إِذَا أَلَمَّتْ بِالْمَنْكِبَيْنِ. وَقَدْ خَالَفَ هَذَا فِي حَرْفِ الْجِيمِ فَقَالَ: إِذَا بَلَغَتِ الْمَنْكِبَيْنِ فَهِيَ جُمَّةٌ، وَاللِّمَّةُ إِذَا جَاوَزَتْ شَحْمَ الْأُذُنِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي شَرْحِ

ص: 357

حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: كَلَامُ الْجَوْهَرِيِّ الثَّانِي هُوَ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَجَمَعَ ابْنُ بَطَّالٍ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنْ وَقْتَيْنِ، فَكَانَ إِذَا غَفَلَ عَنْ تَقْصِيرِهِ بَلَغَ قَرِيبَ الْمَنْكِبَيْنِ وَإِذَا قَصَّهُ لَمْ يُجَاوِزِ الْأُذُنَيْنِ، وَجَمَعَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الثَّانِي كَانَ إِذَا اعْتَمَرَ يُقَصِّرُ وَالْأَوَّلُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ وَفِيهِ بُعْدٌ. ثُمَّ هَذَا الْجَمْعُ إِنَّمَا يَصْلُحُ لَوِ اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ، وَأَمَّا هُنَا فَاللَّفْظَانِ وَرَدَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ مُتَّحِدَا الْمَخْرَجِ، وَهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، فَالْأَوْلَى فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا الْحَمْلُ عَلَى الْمُقَارَبَةِ ; وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي قَرِيبًا كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ.

قَوْلُهُ: (لَتَضْرِبُ قَرِيبًا مِنْ مَنْكِبَيْهِ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْمُعَلَّقَةِ عَقِبَ هَذَا شَعْرُهُ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ مَا يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَلَفْظُهُ لَهُ شَعْرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الطَّوِيلَ مِنْهُ يَصِلُ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَغَيْرُهُ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ، وَالْمُرَادُ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ الَّذِي أَبْهَمَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِهَذَا السَّنَدِ وَفِيهِ الزِّيَادَةُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ شُعْبَةُ: شَعْرُهُ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ وَلِغَيْرِهِمَا، تَابَعَهُ شُعْبَةُ شَعْرُهُ إِلَخْ وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ رحمه الله فِي بَابِ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، وَشَرَحَهُ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ شَيْخَ شُعْبَةَ قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبُو إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ شَيْخُهُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي صِفَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَفِيهِ لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ وَفِي صِفَةِ الدَّجَّالِ وَأَنَّهُ جَعْدٌ قَطَطٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَغَلِطَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الدَّجَّالَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَآهُ فِي الْمَنَامِ بِمَكَّةَ أَنَّهُ دَخَلَهَا حَقِيقَةً، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ رَأى فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَدْخُلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ أَنَّهُ مَا هُوَ الدَّجَّالُ بِكَوْنِهِ سَكَنَ الْمَدِينَةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ عُمَرُ، وَجَابِرٌ يَحْلِفَانِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْفِتَنِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَنَسٍ أَوْرَدَهُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى يَضْرِبُ شَعْرُهُ مَنْكِبَيْهِ وَفِي الثَّانِيَةِ كَانَ شَعْرُهُ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ كَالْجَوَابِ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ سَوَاءٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ كَانَ شَعْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ وَوَقَعَ عِنْدَ أبي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ شَعْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوْقَ الْوَفْرَةِ وَدُونَ الْجُمَّةِ لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ عَكْسُهُ فَوْقَ الْجُمَّةِ وَدُونَ الْوَفْرَةِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَوْقَ وَدُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحَلِّ، وَتَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، فَقَوْلُهُ فَوْقَ الْجُمَّةِ أَيْ أَرْفَعُ فِي الْمَحَلِّ، وَقَوْلُهُ دُونَ الْجُمَّةِ أَيْ فِي الْقَدْرِ وَكَذَا بِالْعَكْسِ، وَهُوَ جَمْعٌ جَيِّدٌ لَوْلَا أَنَّ مَخْرَجَ الْحَدِيثِ مُتَّحِدٌ، وَإِسْحَاقُ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَحَبَّانُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ ابْنُ هِلَالٍ.

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ جرير بن حازم (كَانَ شَعْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجِلًا) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَقَدْ تُضَمُّ وَتُفْتَحُ، أَيْ فِيهِ تَكْسِيرٌ يَسِيرٌ، يُقَالُ رَجَّلَ شَعْرَهُ إِذَا مَشَّطَهُ فَكَانَ بَيْنَ السُّبُوطَةِ وَالْجُعُودَةِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ الرَّاوِي كَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ جَرِيرٍ وَهُوَ ابْنُ حَازِمٍ أَيْضًا زَادَ فِيهَا كَانَ ضَخْمَ الْيَدَيْنِ وَفِي ثَالِثَةٍ كَانَ ضَخْمَ الرَّأْسِ وَالْقَدَمَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صِفَةِ الشَّعْرِ، وَزَادَ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ قَالَ وَكَانَ سَبِطَ الْكَفَّيْنِ ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ هَمَّامٍ بِسَنَدٍ نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَوْ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا

ص: 358

تَأْثِيرَ لَهَا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الَّذِينَ جَزَمُوا بِكَوْنِ الْحَدِيثِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَضْبَطُ وَأَتْقَنُ مِنْ مُعَاذِ بْنِ هَانِئٍ، وَهُمْ حِبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ كَمَا هُنَا، وَكَذَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ كَمَا مَضَى وَمَعْمَرٌ كَمَا سَيَأْتِي حَيْثُ جَزَمَا بِهِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ قَتَادَةَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ ; وَالرَّجُلُ الْمُبْهَمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَقَتَادَةُ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي الرَّاوِي هَلْ هُوَ أَنَسٌ أَوْ رَجُلٌ مُبْهَمٌ، ثُمَّ رَجَحَ كَوْنُ التَّرَدُّدِ فِي كَوْنِهِ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ أَوْ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّ أَنَسًا خَادِمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَعْرَفُ بِوَصْفِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَبَعُدَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ هُوَ أَقَلُّ مُلَازَمَةً لَهُ مِنْهُ اهـ، وَكَلَامُهُ الْأَخِيرُ لَا يَحْتَمِلُهُ السِّيَاقُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الِاحْتِمَالُ الْبَعِيدُ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا، وَالْحَقُّ أَنَّ التَّرَدُّدَ

فِيهِ مِنْ مُعَاذِ بْنِ هَانِئٍ هَلْ حَدَّثَهُ بِهِ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَالْحُمَيْدِيُّ، وَالْمِزِّيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ (عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ بِهِ سَوَاءٌ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ أَبِي مَهْدِيٍّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، وَقَوْلُهُ شَثْنٌ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِكَسْرِهَا بَعْدَهَا نُونٌ أَيْ غَلِيظَ الْأَصَابِعِ وَالرَّاحَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَانَتْ كَفُّهُ صلى الله عليه وسلم مُمْتَلِئَةً لَحْمًا، غَيْرَ أَنَّهَا مَعَ ضَخَامَتِهَا كَانَتْ لَيِّنَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ يَعْنِي الَّذِي مَضَى فِي الْمَنَاقِبِ مَا مَسَسْتُ حَرِيرًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ الشَّثْنُ غِلَظُ الْكَفِّ مَعَ خُشُونَتِهَا فَلَمْ يُوَافِقْ عَلَى تَفْسِيرِهِ بِالْخُشُونَةِ، وَالَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ الْخَلِيلُ، وَأَبُو عُبَيْدَ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ضَخْمُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ مَا فَسَّرَ الْأَصْمَعِيُّ بِهِ الشَّثْنَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ وَصَفَ حَالَتَيْ كَفِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ إِذَا عَمِلَ بِكَفِّهِ فِي الْجِهَادِ أَوْ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ صَارَ كَفُّهُ خَشِنًا لِلْعَارِضِ الْمَذْكُورِ، وَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ رَجَعَ كَفُّهُ إِلَى أَصْلِ جِبِلَّتِهِ مِنَ النُّعُومَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عِيَاضٌ: فَسَّرَ أَبُو عُبَيْدٍ الشَّثْنَ بِالْغِلَظِ مَعَ الْقِصَرِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي وَصْفِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ سَايلَ الْأَطْرَافِ.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي النُّعْمَانِ فِي الْبَابِ كَانَ بَسِطَ الْكَفَّيْنِ وَوَضعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ سَبِطَ الْكَفَّيْنِ بِتَقْدِيمِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِوَصْفِهَا بِاللِّينِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَفِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ سَبِطٌ أَوْ بَسِطٌ بِالشَّكِّ وَالتَّحْقِيقِ فِي الشَّئنِ أَنَّهُ الْغِلَظُ مِنْ غَيْرِ قَيْدِ قِصَرٍ وَلَا خُشُونَةٍ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ أَنَّ الْأَصْمَعِيَّ لَمَّا فَسَّرَ الشَّئنَ بِمَا مَضَى قِيلَ لَهُ إِنَّهُ وَرَدَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُفَسِّرُ شَيْئًا فِي الْحَدِيثِ اهـ - وَمَجِيءُ شَئنِ الْكَفَّيْنِ بَدَلَ سَبِطِ الْكَفَّيْنِ أَوْ بَسِطِ الْكَفَّيْنِ قَالَ: دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُ الْخِلْقَةِ وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بِبَسْطِ الْعَطَاءِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ كَذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ مُرَادًا هُنَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هِلَالٍ: أَنْبَأَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ جَابِرٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَخْمَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ لَمْ أَرَ بَعْدَهُ شَبِيهًا لَهُ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي فَوَائِدِ الْعِيسَوِيِّ كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ بِهِ، وَأَبُو هِلَالٍ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ الرَّاسِبِيُّ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَصْرِيٌّ صَدُوقٌ وَقَدْ ضَعَّفَهُ مَنْ قَبِلَ حِفْظِهِ فَلَا تَأْثِيرَ لِشَكِّهِ أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنَتْ إِحْدَى رِوَايَاتِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ صِحَّةَ الْحَدِيثِ بِتَصْرِيحِ قَتَادَةَ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِسِيَاقِ هَذِهِ الطُّرُقِ بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى قَتَادَةَ وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَخَفِيَ مُرَادُهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَقَالَ: هَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْوَارِدَةُ فِي صِفَةِ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّرْجَمَةِ، وَجَوَابُهُ

ص: 359

أَنَّهَا كُلَّهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ اخْتَلَفَتْ رُوَاتُهُ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ بِالْأَصَالَةِ صِفَةُ الشَّعْرِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ تَبَعٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ كَوْنِ شَعْرِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِلَى قُرْبِ مَنْكِبَيْهِ كَانَ غَالِبَ أَحْوَالِهِ، وَكَانَ رُبَّمَا طَالَ حَتَّى يَصِيرَ ذُؤَابَةً وَيَتَّخِذَ مِنْهُ عَقَائِصَ وَضَفَائِرَ كَمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ وَفِي لَفْظٍ أَرْبَعُ ضَفَائِرَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ أَرْبَعُ غَدَائِرَ يَعْنِي ضَفَائِرَ وَالْغَدَائِرُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ غَدِيرَةٍ بِوَزْنِ عَظِيمَةٍ، وَالضَّفَائِرُ بِوَزْنِهِ. فَالْغَدَائِرُ هِيَ الذَّوَائِبُ وَالضَّفَائِرُ هِيَ الْعَقَائِصُ، فَحَاصِلُ الْخَبَرِ أَنَّ شَعْرَهُ طَالَ حَتَّى صَارَ ذَوَائِبَ فَضَفَّرَهُ أَرْبَعَ عَقَائِصَ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَبْعُدُ عَهْدُهُ بِتَعَهُّدِهِ شَعْرَهُ فِيهَا وَهِيَ حَالَةُ الشُّغْلِ بِالسَّفَرِ وَنَحْوِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلِي شَعْرٌ طَوِيلٌ فَقَالَ: ذِنَابُ ذُبَابٍ، فَرَجَعْتُ فَجَزَزْتُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَعْنِكَ، وَهَذَا أَحْسَنُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالحديث السَّادِسُ عن أَبي هُرَيْرَةَ وَعَنْ جَابِرٍ ذُكِرَا تَبَعًا لِحَدِيثِ أَنَسٍ كَمَا تَقَدَّمَ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عليهما السلام وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فيه وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ - بِالْمَدِّ - جَعْدٌ الْحَدِيثَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم صَاحِبُكُمْ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم.

‌69 - بَاب التَّلْبِيدِ

5914 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: مَنْ ضَفَّرَ فَلْيَحْلِقْ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالتَّلْبِيدِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُلَبِّدًا.

5915 -

حَدَّثَنِي حِبَّانُ بْنُ مُوسَى وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّداً يَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ".

5916 -

حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّلْبِيدِ) هُوَ جَمْعُ الشَّعْرِ فِي الرَّأْسِ بِمَا يَلْزَقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَالْخِطْمِيِّ وَالصَّمْغِ لِئَلَّا يَتَشَعَّثَ وَيَقْمَلَ فِي الْإِحْرَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: مَنْ ضَفَّرَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا.

قَوْلُهُ: (فَلْيَحْلِقْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالتَّلْبِيدِ) يَعْنِي فِي الْحَجِّ (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُلَبِّدًا) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ بِلَفْظِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّدًا كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ فِي الْبَابِ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ فَحَمَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ فَضَفَّرَ شَعْرَهُ لِيَمْنَعَهُ مِنَ الشَّعَثِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُقَصِّرَ،

ص: 360

لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يُشْبِهُ التَّلْبِيدَ الَّذِي أَوْجَبَ الشَّارِعُ فِيهِ الْحَلْقَ، وَكَانَ عُمَرُ يَرَى أَنَّ مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ فِي الْإِحْرَامِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ وَالنُّسُكُ وَلَا يُجْزِئُهُ التَّقْصِيرُ، فَشُبِّهَ مَنْ ضَفَّرَ رَأْسَهُ بِمَنْ لَبَّدَهُ. فَلِذَلِكَ أَمَرَ مَنْ ضَفَّرَ أَنْ يَحْلِقَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ أَرَادَ الْأَمْرَ بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى التَّلْبِيدِ وَلَا إِلَى الضَّفْرِ، أَيْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَفِّرَ أَوْ يُلَبِّدَ فَلْيَحْلِقْ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُضَفِّرَ أَوْ يُلَبِّدَ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّقْصِيرَ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْأَخْذِ مِنْ سَائِرِ النَّوَاحِي كَمَا هِيَ السُّنَّةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَشَبَّهُوا فَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْأَصْلُ لَا تَتَشَبَّهُوا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، قَالَ: وَيَجُوزُ ضَمُّ أَوَّلِهِ وَكَسْرُ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ فَهِمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ تَرْكَ التَّلْبِيدِ أَوْلَى، فَأَخْبَرَ هُوَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.

وَتَقَدَّمَ شَرْحُ التَّلْبِيدِ وَحُكْمُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَكَذَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي التَّلْبِيدِ.

وَحَدِيثُ حَفْصَةَ إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي الْحَدِيثَ.

‌70 - بَاب الْفَرْقِ

5917 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ، فَسَدَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاصِيَتَهُ، ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ.

5918 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْفَرْقِ) الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ، أَيْ فَرْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَهُوَ قِسْمَتُهُ فِي الْمَفْرِقِ وَهُوَ وَسَطُ الرَّأْسِ، يُقَالُ فَرَقَ شَعْرَهُ فَرْقًا بِالسُّكُونِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالْمَفْرِقُ مَكَانُ انْقِسَامِ الشَّعْرِ مِنَ الْجَبِينِ إِلَى دَارَةِ وَسَطِ الرَّأْسِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِكَسْرِهَا، وَكَذَلِكَ الرَّاءُ تُكْسَرُ وَتُفْتَحُ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:

الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) كَذَا وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَيُونُسُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهِجْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَاخْتُلِفَ عَلَى مَعْمَرٍ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا، كَذَا أَرْسَلَهُ مَالِكٌ حَيْثُ أَخْرَجَهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ فَوْقَهُ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَكَانَ إِذَا شَكَّ فِي أَمْرٍ لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ صَنَعَ مَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ) بِسُكُونِ السِّينِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ يُرْسِلُونَهَا.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ) هُوَ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَقَدْ شَدَّدَهَا بَعْضُهُمْ، حَكَاهُ عِيَاضٌ قَالَ: وَالتَّخْفِيفُ أَشْهَرُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ ثُمَّ فَرَقَ الْأَشْهَرُ فِيهِ التَّخْفِيفُ، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْأَوْثَانِ أَبْعَدُ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَمَسَّكُونَ بِشَرِيعَةٍ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ لِيَتَأَلَّفَهُمْ وَلَوْ أَدَّتْ مُوَافَقَتُهُمْ إِلَى مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ مَعَهُ وَالَّذِينَ حَوْلَهُ وَاسْتَمَرَّ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى

ص: 361

كُفْرِهِمْ تَمَحَّضَتِ الْمُخَالَفَةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ ثُمَّ أَمَرَ بِالْفَرْقِ فَفَرَقَ وَكَانَ الْفَرْقُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ، وَمِمَّا يُشْبِهُ الْفَرْقَ وَالسَّدْلَ صَبْغُ الشَّعْرِ وَتَرْكُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا صَوْمُ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ أَمَرَ بِنَوْعِ مُخَالَفَةٍ لَهُمْ فِيهِ بِصَوْمِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَمِنْهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَمُخَالَفَتُهُمْ فِي مُخَالَطَةِ الْحَائِضِ حَتَّى قَالَ: اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ، فَقَالُوا: مَا يَدَعُ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ، وَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ.

وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ لَي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ، وَصَرَّحَ أَبُو دَاوُدَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَنَاسِخُهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ يَتَحَرَّى ذَلِكَ وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا يَوْمَا عَيدِ الْكُفَّارِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ وَفِي لَفْظٍ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صيامه السَّبْتَ وَالْأَحَدَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: يَوْمَا عِيدٍ، إِلَى أَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ عِيدٌ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالْأَحَدُ عِيدٌ عِنْدَ النَّصَارَى وَأَيَّامُ الْعِيدِ لَا تُصَامُ فَخَالَفَهُمْ بِصِيَامِهَا، وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ إِفْرَادِ السَّبْتِ وَكَذَا الْأَحَدُ لَيْسَ جَيِّدًا بَلِ الْأَوْلَى فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ، وَأَمَّا السَّبْتُ وَالْأَحَدُ فَالْأَوَّلُ أَنْ يُصَامَا مَعًا وَفُرَادَى امْتِثَالًا لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِمُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ عِيَاضٌ: سَدْلُ الشَّعْرِ إِرْسَالُهُ، يُقَالُ سَدَلَ شَعْرَهُ وَأَسْدَلَهُ إِذَا أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَضُمَّ جَوَانِبَهُ، وَكَذَا الثَّوْبُ، وَالْفَرْقُ تَفْرِيقُ الشَّعْرِ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ وَكَشْفُهُ عَنِ الْجَبِينِ، قَالَ: وَالْفَرْقُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَالُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بِوَحْيٍ، لِقَوْلِ الرَّاوِي فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: إنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فَرَقَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ حَتَّى ادَّعَى بَعْضُهُمْ فِيهِ النَّسْخَ وَمَنْعَ السَّدْلَ وَاتِّخَاذَ النَّاصِيَةِ.

وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الَّذِي كَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ اسْتِئْلَافِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يُنْجَعْ فِيهِمْ أَحَبَّ مُخَالَفَتَهُمْ فَكَانَتْ مُسْتَحَبَّةً لَا وَاجِبَةً عَلَيْهِ. وَقَوْلُ الرَّاوِي فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ أَيْ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ وَالطَّلَبُ يَشْمَلُ الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ وَأَمَّا تَوَهُّمُ النَّسْخِ فِي هَذَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْمَصْلَحَةِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ السَّدْلُ مَنْسُوخًا لَصَارَ إِلَيْهِ الصَّحَابَةُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَفْرُقُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَسْدُلُ وَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ صلى الله عليه وسلم لِمَّةٌ، فَإِنِ انْفَرَقَتْ فَرَقَهَا وَإِلَّا تَرَكَهَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَرْقَ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ. قُلْتُ: وَقَدْ جَزَمَ الْحَازِمِيُّ بِأَنَّ السَّدْلَ نُسِخَ بِالْفَرْقِ، وَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا قَبْلُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ جَوَازُ السَّدْلِ وَالْفَرْقِ. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقِيلَ لِلِاسْتِئْلَافِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَدِّلُوهُ.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا حَتَّى يَرِدَ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ، وَعَكَسَ بَعْضُهُمْ فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ يُحِبُّ بَلْ كَانَ يَتَحَتَّمُ الِاتِّبَاعَ. وَالْحَقُّ أَنْ لَا دَلِيلَ فِي هَذَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِهِ يَقْصُرُهُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ شُرِعَ لَهُمْ لَا مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ هُمْ إِذْ لَا وُثُوقَ بِنَقْلِهِمْ، وَالَّذِي جَزَمَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ كَانَ يُوَافِقُهُمْ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ مُحْتَمَلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا - وَهُوَ أَقْرَبُ - أَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي تَدُورُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إِذَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ كَانَ يَعْمَلُ فِيهِ بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ شَرْعٍ بِخِلَافِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَرِيعَةٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ الْمُشْرِكُونَ انْحَصَرَتِ الْمُخَالَفَةُ على أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَمَرَ بِمُخَالَفَتِهِمْ، وَقَدْ جَمَعْتُ الْمَسَائِلَ الَّتِي وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا بِمُخَالَفَةِ

ص: 362

أَهْلِ الْكِتَابِ فَزَادَتْ عَلَى الثَّلَاثِينَ حُكْمًا، وَقَدْ أَوْدَعْتُهَا كِتَابِي الَّذِي سَمَّيْتُهُ الْقَوْلَ الثَّبْتَ فِي الصَّوْمِ يَوْمَ السَّبْتِ وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْحَدِيثِ كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ ثُمَّ فَرَقَ بَعْدَ نَسْخِ حُكْمِ تِلْكَ الْمُوَافَقَةِ كَمَا قَرَّرْتُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ رَجَاءٍ الَّذِي أَخْرَجَ الْحَدِيثَ عَنْهُ مَقْرُونًا بِأَبِي الْوَلِيدِ وَهُوَ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَرَادَ أَنَّ أَبَا الْوَلِيدِ رَوَاهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَقَالَ مَفَارِقُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ رَوَاهُ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ فَقَالَ مَفْرِقٌ وَقَدْ وَافَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، آدَمَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الطَّهَارَةِ وَمُحَمَّدَ بْنَ كَثِيرٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، وَحَمَّادٍ، وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ كُلُّهُمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْهُ، وَوَافَقَ أَبَا الْوَلِيدِ، مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْأَعْمَشُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ قتيبة مُسْلِمٍ، وَكَأَنَّ الْجَمْعَ وَقَعَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ انْقِسَامِ الشَّعْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌71 - بَاب الذَّوَائِبِ

5919 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ عَنْبَسَةَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ. ح وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ خَالَتِي، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ بِهَذَا وَقَالَ: بِذُؤَابَتِي أَوْ بِرَأْسِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ الذَّوَائِبُ) جَمْعُ ذُؤَابَةَ، وَالْأَصْلُ ذَآئِبُ فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ وَاوًا، وَالذُّؤَابَةُ مَا يَتَدَلَّى مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَلَاتِهِ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي الصَّلَاةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِي فَإِنَّ فِيهِ تَقْرِيرَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى اتِّخَاذِ الذُّؤَابَةِ، وَفِيهِ دَفْعُ الرِّوَايَةِ مَنْ فَسَّرَ الْقَزَعَ بِالذُّؤَابَةِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ عَنْبَسَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، ثُمَّ أَرْدَفَهَا بِرِوَايَتِهِ عَالِيًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ نَازِلًا مِنْ أَجْلِ تَصْرِيحِ هُشَيْمٍ فِيهَا بِالْإِخْبَارِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِرِوَايَتِهِ عَالِيًا أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ النَّاقِدِ، عَنْ هُشَيْمٍ مُصَرَّحًا أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ اسْتَظْهَرَ بِذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْفَضْلِ بْنِ عَنْبَسَةَ مَقَالًا لَكِنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ.

‌72 - بَاب الْقَزَعِ

5920 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَخْلَدٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَفْصٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ نَافِعٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ الْقَزَعِ؟ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قُلْتُ: وَمَا الْقَزَعُ؟ فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: إِذَا حَلَقَ الصَّبِيَّ وَتَرَكَ هَاهُنَا شَعَرَةً

ص: 363

وَهَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى نَاصِيَتِهِ وَجَانِبَيْ رَأْسِهِ، قِيلَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: فَالْجَارِيَةُ وَالْغُلَامُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، هَكَذَا قَالَ: الصَّبِيُّ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَعَاوَدْتُهُ فَقَالَ: أَمَّا الْقُصَّةُ وَالْقَفَا لِلْغُلَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِمَا، وَلَكِنَّ الْقَزَعَ أَنْ يُتْرَكَ بِنَاصِيَتِهِ شَعَرٌ وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ شَقُّ رَأْسِهِ هَذَا وَهَذَا.

[الحديث 5920 - طرفه في: 5921]

5921 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْقَزَعِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَزَعِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةُ جَمْعُ قَزَعَةٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ السَّحَابِ، وَسُمِّيَ شَعْرُ الرَّأْسِ إِذَا حُلِقَ بَعْضُهُ قَزَعًا تَشِبِّيهَا بِالسَّحَابِ الْمُتَفَرِّقِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَمَخْلَدٌ بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَفْصٍ) هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ الْعُمَرِيُّ الْمَشْهُورُ، نَسَبَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِلَى جَدِّهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو قُرَّةَ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَشَيْخُهُ هُنَا عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ، وَالرَّاوِي عَنْهُ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَقْرَانٌ مُتَقَارِبُونَ فِي السِّنِّ وَاللِّقَاءِ وَالْوَفَاةِ، وَاشْتَرَكَ الثَّلَاثَةُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ نَافِعٍ، فَقَدْ نَزَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ دَرَجَتَيْنِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى قِلَّةِ تَدْلِيسِهِ، وَقَدْ وَافَقَ مَخْلَد بْنُ يَزِيدَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَبُو قُرَّةَ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِهِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ، لَكِنْ سَقَطَ ذِكْرُ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَمَنْ رِوَايَةٍ لِأَبِي عَوَانَةَ أَيْضًا، وَقَدْ صَرَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ بِأَنَّ حَجَّاجَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَافَقَ مَخْلَدَ بْنَ يَزِيدَ عَلَى ذِكْرِ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَلَى الِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ فِي إِسْقَاطِ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ وَإِثْبَاتِهِ، وَقَالَ إِثْبَاتُهُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ لَمْ يَذْكُرْ

عُمَرَ بْنَ نَافِعٍ وَهُوَ مَقْلُوبٌ. وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّرَّاجِ، عَنْ نَافِعٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِإِثْبَاتِ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِإِسْقَاطِهِ، وَكَأَنَّهُمْ سَلَكُوا الْجَادَّةَ لِأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ نَافِعٍ مُكْثِرٌ عَنْهُ، وَالْعُمْدَةُ عَلَى مَنْ زَادَ عُمَرَ بْنَ نَافِعٍ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمْ حُفَّاظٌ وَلَا سِيَّمَا فِيهِمْ مَنْ سَمِعَ عَنْ نَافِعٍ نَفْسِهِ كَابْنِ جُرَيْجٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنِ الْقَزَعِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْقَزَعِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ قُلْتُ وَمَا الْقَزَعُ)؟ هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَسْئُولَ هُوَ عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ لَكِنْ بَيَّنَ مُسْلِمٌ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ إِنَّمَا سَأَلَ نَافِعًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ قُلْتُ لِنَافِعٍ وَمَا الْقَزَعُ؟ فَذَكَرَ الْجَوَابَ وَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: إِذَا حَلَقَ الصَّبِيُّ وَتَرَكَ هَاهُنَا شَعْرَةً وَهَاهُنَا وَهَاهُنَا فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى نَاصِيَتِهِ وَجَانِبَيْ رَأْسِهِ

ص: 364

الْمُجِيبُ بِقَوْلِهِ: قَالَ إِذَا حَلَقَ هُوَ نَافِعٌ وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ الْمَذْكُورَةِ لَفْظُهُ قَالَ يَحْلِقُ بَعْضَ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَيَتْرُكُ بَعْضًا.

قَوْلُهُ: (قِيلَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْقَائِلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَبْهَمَ نَفْسَهُ.

قَوْلُهُ: (فَالْجَارِيَةُ وَالْغُلَامُ) كَأَنَّ السَّائِلَ فَهِمَ التَّخْصِيصَ بِالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ فَسَأَلَ عَنِ الْجَارِيَةِ الْأُنْثَى وَعَنِ الْغُلَامِ وَالْمُرَادُ بِهِ غَالِبًا الْمُرَاهِقُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَعَاوَدَتْهُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، كَأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمَّا أَجَابَ السَّائِلَ بِقَوْلِهِ لَا أَدْرِي أَعَادَ سُؤَالَه شَيْخِهِ عَنْهُ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ حَدَّثَ عَنْهُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: وَجَعَلَ التَّفْسِيرَ مِنْ قَوْلِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ الْغَطَفَانِيِّ، وَرَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ كِلَاهُمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ قَالَ وَأَلْحَقَا التَّفْسِيرَ فِي الْحَدِيثِ يَعْنِي أَدْرَجَاهُ وَلَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عُثْمَانَ الْغَطَفَانِيِّ وَلَفْظُهُ نَهَى عَنِ الْقَزَعِ، وَالْقَزَعُ أَنْ يَحْلِقَ فَذَكَرَ التَّفْسِيرَ مُدْرَجًا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ فَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّرَّاجِ، عَنْ نَافِعٍ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَحَذَفَ التَّفْسِيرَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظُهُ، وَهُوَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَفِي سِيَاقِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُسْتَنَدِ مَنْ رَفَعَ تفسير الْقَزَعَ وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى صَبِيًّا قَدْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: احْلِقُوا كُلَّهُ أَوْ ذَرُوا كُلَّهُ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْقَزَعَ مَا فَسَّرَهُ بِهِ نَافِعٌ وَهُوَ حَلْقُ بَعْضِ رَأْسِ الصَّبِيِّ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ حَلْقُ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ تَفْسِيرُ الرَّاوِي وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ. قُلْتُ: إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَهُ بِالصَّبِيِّ لَيْسَ قَيْدًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى كَرَاهِيَتِهِ إِذَا كَانَ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إِلَّا لِلْمُدَاوَاةِ أَوْ نَحْوِهَا وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ، وَقِيلَ فِي رِوَايَةٍ لَهُمْ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْقُصَّةِ وَالْقَفَا لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، قَالَ: وَمَذْهَبُنَا كَرَاهَتُهُ مُطْلَقًا.

قُلْتُ: حُجَّتُهُ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ تَفْسِيرُ الرَّاوِي، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ فَقِيلَ: لِكَوْنِهِ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ زِيُّ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ زِيُّ الْيَهُودِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ.

قَوْلُهُ: (أَمَّا الْقُصَّةُ وَالْقَفَا لِلْغُلَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِمَا) الْقُصَّةُ بِضَمِّ الْقَافِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا شَعْرُ الصُّدْغَيْنِ وَالْمُرَادُ بِالْقَفَا شَعْرُ الْقَفَا، وَالْحَاصِلُ مِنْهُ أَنَّ الْقَزَعَ مَخْصُوصٌ بِشَعْرِ الرَّأْسِ وَلَيْسَ شَعْرُ الصُّدْغَيْنِ وَالْقَفَا مِنَ الرَّأْسِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْقُصَّةِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْقُصَّةُ عَلَى الشَّعْرِ الْمُجْتَمِعِ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْأُذُنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوصَلَ شَعْرُ الرَّأْسِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْمَوْصُولَةِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقَزَعِ، وَهُوَ أَنْ يُحْلَقَ رَأْسُ الصَّبِيِّ وَيُتَّخَذَ لَهُ ذُؤَابَةٌ فَمَا أَعْرِفُ الَّذِي فَسَّرَ الْقَزَعَ بِذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَقِبَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ كَانَتْ لِي ذُؤَابَةٌ فَقَالَتْ أُمِّي: لَا أَجُزُّهَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمُدُّهَا وَيَأْخُذُ بِهَا وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى ذُؤَابَتِهِ وَسَمَتَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: قَرَأْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعِينَ سُورَةً وَإِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَمَعَ الْغِلْمَانِ لَهُ ذُؤَابَتَانِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الذُّؤَابَةَ الْجَائِزُ اتِّخَاذُهَا مَا يُفْرَدُ مِنَ الشَّعْرِ فَيُرْسَلُ وَيُجْمَعُ مَا عَدَاهَا بِالضَّفْرِ وَغَيْرِهِ وَالَّتِي تَمْنَعُ أَنْ يَحْلِقَ الرَّأْسَ كُلَّهُ وَيُتْرَكَ مَا فِي وَسَطِهِ فَيَتَّخِذُ ذُؤَابَةً، وَقَدْ صَرَّحَ الْخَطَّابِيُّ

ص: 365

بِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْقَزَعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌73 - بَاب تَطْيِيبِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِيَدهَا

5922 -

حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: طَيَّبْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي لِحُرْمِهِ، وَطَيَّبْتُهُ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ.

قَوْلُهُ (بَابُ تَطْيِيبِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِيَدَيْهَا) كَأَنَّ فِقْهَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ طِيبِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَأَنَّ طِيبَ الرَّجُلِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ وَالْمَرْأَةُ بِالْعَكْسِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا لَامْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ تَطْيِيبِ زَوْجِهَا بطيبه لِمَا يَعْلَقُ بِيَدَيْهَا وَبَدَنِهَا مِنْهُ حَالَةَ تَطْيِيبِهَا لَهُ، وَكَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يُطَيِّبَ نَفْسَهُ، فَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُطَابِقِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي الْحَجِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تُرْجِمَ لَهُ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ وَوَجْهُ التَّفْرِقَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِالِاسْتِتَارِ حَالَةَ بُرُوزِهَا مِنْ مَنْزِلِهَا، وَالطِّيبُ الَّذِي لَهُ رَائِحَةٌ لَوْ شُرِعَ لَهَا لكَانَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ فِي الْفِتْنَةِ بِهَا، وَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ ثَابِتًا فَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ لَهَا مَنْدُوحَةً أَنْ تَغْسِلَ أَثَرَهُ إِذَا أَرَادَتِ الْخُرُوجَ، لِأَنَّ مَنْعَهَا خَاصٌّ بِحَالَةِ الْخُرُوجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَلْحَقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ لُبْسَهَا النَّعْلَ الصَّرَّارَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَلْفِتُ النَّظَرَ إِلَيْهَا. وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعيدٍ الْأَنْصَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (طَيَّبْتُهُ بِيَدَيَّ لِحُرْمِهِ، وَطَيَّبْتُهُ بِيَدَيَّ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ) سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهَا أَنَّهَا طَيَّبَتْهُ بِذَرِيرَةٍ.

‌74 - بَاب الطِّيبِ فِي الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ

5923 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الطِّيبِ فِي الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ) إِنْ كَانَ بَابٌ بِالتَّنْوِينِ فَيَكُونُ ظَاهِرَ التَّرْجَمَةِ الْحَصْرُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِالْإِضَافَةِ فَالتَّقْدِيرُ بَابُ حُكْمِ الطِّيبِ أَوْ مَشْرُوعِيَّةُ الطِّيبِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ، وَإِسْرَائِيلُ هُوَ ابْنُ يُونُسَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ.

قَوْلُهُ: (بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ) يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ طِيبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ طِيبَ الرِّجَالِ لَا يُجْعَلُ فِي الْوَجْهِ بِخِلَافِ طِيبِ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُنَّ يُطَيِّبْنَ وُجُوهَهُنَّ وَيَتَزَيَّنَّ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الرِّجَالِ، فَإِنَّ تَطْيِيبَ الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ لَا يُشْرَعُ لِمَنْعِهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ.

‌75 - بَاب الِامْتِشَاطِ

5924 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ رَجُلًا

ص: 366

اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِي دَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحُكُّ رَأْسَهُ بِالْمِدْرَى، فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهَا فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ قِبَلِ الْأَبْصَارِ.

[الحديث 5924 - طرفاه في: 6241، 6901]

قَوْلُهُ: (بَابُ الِامْتِشَاطِ) هُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْمَشْطِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ تَسْرِيحُ الشَّعْرِ بِالْمُشْطِ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَرْبَعَ سِنِينَ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَشِّطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ وَلِأَصْحَابِ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَى عَنِ التَّرَجُّلِ إِلَّا غِبًّا وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا ثَائِرَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِإِصْلَاحِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ صَحِيحُ السَّنَدِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَسَأَذْكُرُ طُرُقَ الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي بَابِ التَّرَجُّلِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ أَخْبَرَهُ، وَسَيَأْتِي فِي الدِّيَاتِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) قِيلَ هُوَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ وَالِدُ مَرْوَانَ، وَقِيلَ سَعْدٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَسَأُوَضِّحُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَقَوْلُهُ: اطَّلَعَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ، وَالْحْجرُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمِدْرَى بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ عُودٌ تُدْخِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي رَأْسِهَا لِتَضُمَّ بَعْضَ شَعْرِهَا إِلَى بَعْضٍ وَهُوَ يُشْبِهُ الْمِسَلَّةَ يُقَالُ مَدِرَتِ الْمَرْأَةُ سَرَّحَتْ شَعْرَهَا، وَقِيلَ مُشْطٌ لَهُ أَسْنَانٌ يَسِيرَةٌ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ الْمُشْطُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَصْلُ الْمِدْرَى الْقَرْنُ وَكَذَلِكَ الْمِدْرَاةُ، وَقِيلَ هُوَ عُودٌ أَوْ حَدِيدَةٌ كَالْخِلَالِ لَهَا رَأْسٌ مُحَدَّدٌ، وَقِيلَ خَشَبَةٌ عَلَى شَكْلِ شَيْءٍ مِنْ أَسْنَانِ الْمُشْطِ وَلَهَا سَاعِدٌ جَرَتْ عَادَةُ الْكَبِيرِ أَنْ يَحُكَّ بِهَا مَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ يَدُهُ مِنْ جَسَدِهِ، وَيُسَرِّحُ بِهَا الشَّعْرَ الْمُلَبَّدَ مَنْ لَا يَحْضُرُهُ الْمُشْطُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ لِعَائِشَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِدْرَى غَيْرُ الْمُشْطِ أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْهَا قَالَتْ: خَمْسٌ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَعُهُنَّ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ: الْمِرْآةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَالْمُشْطُ وَالْمِدْرَى وَالسِّوَاكُ وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ يَعْلَى وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٌ أَيْضًا.

وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَقْوَى مِنْ هَذَا لَكِنْ فِيهِ قَارُورَةُ دُهْنٍ بَدَلَ الْمِدْرَى، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ لَا يُفَارِقُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِوَاكَهُ وَمُشْطَهُ، وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ إِذَا سَرَّحَ لِحْيَتَهُ وَفِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ مُرْسَلِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الْحَافِظِ الْيَعْمُرِيِّ عَنْ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ: الْمِدْرَى تُطْلَقُ عَلَى نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ يُتَّخَذُ مِنْ آبِنُوسٍ أَوْ عَاجٍ أَوْ حَدِيدٍ يَكُونُ طُولُ الْمِسَلَّةِ يُتَّخَذُ لِفَرْقِ الشَّعْرِ فَقَطْ وَهُوَ مُسْتَدِيرُ الرَّأْسِ عَلَى هَيْئَةِ نَصْلِ السَّيْفِ بِقَبْضَةٍ وَهَذِهِ صِفَتُهُ.

ثَانِيهُمَا كَبِيرٌ وَهُوَ عُودٌ مَخْرُوطٌ مِنْ أَبَنُوسٍ أَوْ غَيْرِهِ وَفِي رَأْسِهِ قِطْعَةٌ مَنْحُوتَةٌ فِي قَدْرِ الْكَفِّ وَلَهَا مِثْلُ الْأَصَابِعِ أُولَاهُنَّ مُعْوَجَّةٌ مِثْلَ حَلْقَةِ الْإِبْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلتَّسْرِيحِ وَيَحُكُّ الرَّأْسَ وَالْجَسَدَ وَهَذِهِ صِفَتُهُ: اهـ مُلَخَّصًا.

قَوْل هُ: (تَنْتَظِرُ) كَذَا لَهُمْ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ تَنْظُرُ وَهِيَ أَوْلَى، وَالْأُخْرَى بِمَعْنَاهَا، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَطَّلِعُ عَلَيَّ، وَقَوْلُهُ: مِنْ قِبَلٍ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ مِنْ جِهَةٍ، وَالْأَبْصَارُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ جَمْعُ بَصَرٍ وَبِكَسْرِهِ مَصْدَرُ أَبْصَرَ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ أَجْلِ

ص: 367

الْبَصَرِ بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ الرُّؤْيَةُ.

‌76 - بَاب تَرْجِيلِ الْحَائِضِ زَوْجَهَا

5925 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا حَائِضٌ.

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَرْجِيلِ الْحَائِضِ زَوْجَهَا) أَيْ تَسْرِيحُهَا شَعْرَهُ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَرَّقَهُمَا كِلَاهُمَا عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الَّذِي أَخْرَجَهُ عَنْهُ هُنَا عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَطْ، وَالْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّأِ هَكَذَا مُفَرَّقًا عِنْدَ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَرَوَاهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، وَأَبُو حُذَافَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ جَمِيعًا عَنْ عُرْوَةَ، أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا حَائِضٌ) كَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ أَبُو حُذَافَةَ عَنْهُ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ يُخْرِجُهُ إِلَيْهَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا.

‌77 - بَاب التَّرْجِيلِ وَالتَّيَمُّنِ فيه

5926 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ مَا اسْتَطَاعَ فِي تَرَجُّلِهِ وَوُضُوئِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّرْجِيلِ وَالتَّيَمُّنِ فِيهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الطَّهَارَةِ.

وَالتَّيَمُّنُ فِي التَّرَجُّلِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَأَنْ يَفْعَلَهُ بِالْيُمْنَى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: التَّرْجِيلُ تَسْرِيحُ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَدَهْنُهُ، وَهُوَ مِنَ النَّظَافَةِ وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهَا، وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ التَّرَجُّلِ إِلَّا غِبًّا يَعْنِي الْحَدِيثَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَرِيبًا فَالْمُرَادُ بِهِ تَرْكُ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّرَفُّهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ بْنُ ثَعْلَبَةَ رَفَعَهُ الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ اهـ. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَذَاذَةُ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُعْجَمَتَيْنِ رَثَاثَةُ الْهَيْئَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا تَرْكُ التَّرَفُّهِ وَالتَّنَطُّعِ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّوَاضُعُ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا بِسَبَبِ جَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدٌ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْإِرْفاهِ قَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ الْإِرْفاهُ التَّرَجُّلُ. قُلْتُ: الْإِرْفاهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِفَاءٍ وَآخِرُهُ هَاءٌ التَّنَعُّمُ وَالرَّاحَةُ، وَمِنْهُ الرَّفَهُ بِفَتْحَتَيْنِ وَقَيَّدَهُ فِي الْحَدِيثِ بِالْكَثِيرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْوَسَطَ الْمُعْتَدِلَ مِنْهُ لَا يُذَمُّ، بِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْغَلَانِيَّاتِ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ أَيْضًا.

‌78 - بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الْمِسْكِ

ص: 368

5927 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الْمِسْكِ) قَدْ تَقَدَّمَ التَّعْرِيفُ بِهِ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ حَيْثُ تَرْجَمَ لَهُ بَابُ الْمِسْكِ

وَأَوْرَدَ هُنَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ الْحَدِيثَ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ: أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، ظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عز وجل. وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ عز وجل، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ عز وجل، قَالَ: لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ فَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ضِرَارِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعْدٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: إِنَّ الصَّوْمَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا بَيَّنْتُ هُنَا، وَذَكَرْتُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى إِضَافَتِهِ سبحانه وتعالى الصِّيَامَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ لِي، وَنَقَلْتُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ الطَّالْقَانِيِّ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ نَحْوَ الْخَمْسِينَ، وَأَنَّنِي لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَسَّرَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْوُقُوفَ عَلَى كَلَامِهِ، وَتَتَبَّعْتُ مَا ذَكَرَهُ مُتَأَمِّلًا فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى الْأَجْوِبَةِ الْعَشَرَةِ الَّتِي حَرَّرْتُهَا هُنَاكَ إِلَّا إِشَارَاتٍ صُوفِيَّةً وَأَشْيَاءَ تَكَرَّرَتْ مَعْنًى وَإِنْ تَغَايَرَتْ لَفْظًا وَغَالِبُهَا يُمْكِنُ رَدُّهَا إِلَى مَا ذَكَرْتُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ خَالِيَةٌ عَنِ السَّعْيِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَرْكٌ مَحْضٌ. وَقَوْلُهُ: يَقُولُ هُوَ لِي فَلَا يَشْغَلُكَ مَا هُوَ لَكَ عَمَّا هُوَ لِي. وَقَوْلُهُ: مَنْ شَغَلَهُ مَالِي عَنِّي أَعْرَضْتُ عَنْهُ وَإِلَّا كُنْتُ لَهُ عِوَضًا عَنِ الْكُلِّ. وَقَوْلُهُ لَا يَقْطَعُكَ مَالِي عَنِّي. وَقَوْلُهُ: لَا يَشْغَلُكَ الْمِلْكُ عَنِ الْمَالِكِ. وَقَوْلُهُ: فَلَا تَطْلُبْ غَيْرِي. وَقَوْلُهُ: فَلَا يَفْسُدُ مَالِي عَلَيْكَ بِكَ.

وَقَوْلُهُ: فَاشْكُرْنِي عَلَى أَنْ جَعَلْتُكَ مَحَلًّا لِلْقِيَامِ بِمَا هُوَ لِي. وَقَوْلُهُ: فَلَا تَجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيهِ حُكْمًا. وَقَوْلُهُ فَمَنْ ضَيَّعَ حُرْمَةَ مَا لِي ضَيَّعْتُ حُرْمَةَ مَا لَهُ لِأَنَّ فِيهِ جَبْرَ الْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ. وَقَوْلُهُ فَمَنْ أَدَّاهُ بِها لِي وَهُوَ نَفْسُهُ صَحَّ الْبَيْعُ. وَقَوْلُهُ فَكُنْ حَيْثُ تَصْلُحُ أَنْ تُؤَدِّي مَا لِي. وَقَوْلُهُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ بِهِ يَتَذَكَّرُ الْعَبْدُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الشِّبَعِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ رِضَا اللَّهِ عَلَى هَوَى النَّفْسِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ فِيهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الصَّائِمِ الْمُطِيعِ وَبَيْنَ الْآكِلِ الْعَاصِي. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ كَانَ مَحَلَّ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ وَانْتِهَاءَهُ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ لِحَدِيثِ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ وَقَوْلُهُ لِأَنَّ فِيهِ رِيَاضَةَ النَّفْسِ بِتَرْكِ الْمَأْلُوفَاتِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ فِيهِ حِفْظَ الْجَوَارِحِ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ الشَّهَوَاتِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ بِتَرْكِ مَحْبُوبِهَا وَفِي مُخَالَفَةِ النَّفْسِ مُوَافَقَةُ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ فِيهِ فَرْحَةَ اللِّقَاءِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ فِيهِ مُشَاهَدَةَ الْآمِرِ بِهِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ فِيهِ مَجْمَعَ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّ مَدَارَهَا عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَهُمَا حَاصِلَانِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ مَعْنَاهُ الصَّائِمُ لِي لِأَنَّ الصَّوْمَ صِفَةُ الصَّائِمِ، وَقَوْلُهُ مَعْنَى الْإِضَافَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحِمَايَةِ لِئَلَّا يَطْمَعَ الشَّيْطَانُ فِي إِفْسَادِهِ.

وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ اسْتَوَى فِيهَا الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَهَذَا عُنْوَانُ مَا ذَكَرَهُ مَعَ إِسْهَابٍ فِي الْعِبَارَةِ، وَلَمْ أَسْتَوْعِبْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطٍ فِي هَذَا

ص: 369

الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَجِدُ النَّفْسَ مُتَشَوِّقَةً إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ، وَغَالِبُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِنْ شُيُوخِنَا لَا يَسُوقُهَا وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَنَّ الطَّالْقَانِيَّ أَجَابَ عَنْهُ بِنَحْوٍ مِنْ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ جَوَابًا وَلَا يَذْكُرُ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَا أَدْرِي أَتَرَكُوهُ إِعْرَاضًا أَوْ مَلَلًا، أَوِ اكْتَفَى الَّذِي وَقَفَ عَلَيْهِ أَوَّلًا بِالْإِشَارَةِ وَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ مَنْ جَاءَ مِنْ بَعْدِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌79 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الطِّيبِ

5928 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِحْرَامِهِ بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الطِّيبِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ اسْتِعْمَالَ أَطْيَبِ مَا يُوجَدُ مِنَ الطِّيبِ، وَلَا يُعْدَلُ إِلَى الْأَدْنَى مَعَ وُجُودِ الْأَعْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي التَّطَيُّبِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ وَوُهَيْبٌ هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ) هَكَذَا أَدْخَلَ هِشَامٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ عُرْوَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَخَاهُ عُثْمَانَ، وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لَهُ: مَا يَرْوِي هِشَامٌ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا عَنِّي اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ أَنَّ اللَّيْثَ، وَدَاوُدَ الْعَطَّارَ، وَأَبَا أُسَامَةَ وَافَقُوا وُهَيْبَ بْنَ خَالِدٍ، عَنْ هِشَامٍ فِي ذِكْرِ عُثْمَانَ، وَأَنَّ أَيُّوبَ، وَابْنَ الْمُبَارَكِ، وَابْنَ نُمَيْرٍ وَغَيْرَهُمْ رَوَوْهُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ بِدُونِ ذِكْرِ عُثْمَانَ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالدَّارِمِيِّ، وَرِوَايَةُ دَاوُدَ الْعَطَّارِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ. وَرِوَايَةُ أَبِي أُسَامَةَ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ طَهْمَانَ، وَابْنَ إِسْحَاقَ، وَحَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ فِي آخَرِينَ رَوَوْهُ أَيْضًا عَنْ هِشَامٍ بِدُونِ ذِكْرِ عُثْمَانَ، قَالَ: وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُ عُثْمَانَ فَحَدَّثَنِي بِهِ وَقَالَ لِي: لَمْ يَرْوِهِ هِشَامٌ إِلَّا عَنِّي. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَسْمَعْهُ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ أَخِيهِ عَنْ أَبِيهِ، وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: لَا أَعْلَمُ عِنْدَ عُثْمَانَ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ اهـ. وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدِيثًا فِي فَضْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

قَوْلُهُ: (عِنْدَ إِحْرَامِهِ بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ بِأَطْيَبِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ يُحْرِمَ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ بِأَيِّ شَيْءٍ طَيَّبْتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: بِأَطْيَبِ الطَّيِّبِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ بِأَطْيَبِ مَا وَجَدْتُ وَمِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ يَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْهَا كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ وَمِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْبَحْثُ فِي أَحْكَامِهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِأَطْيَبِ الطِّيبِ الْمِسْكُ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ قَالَ: الْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا.

‌80 - بَاب مَنْ لَمْ يَرُدَّ الطِّيبَ

5929 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ

ص: 370

رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يُرِدِ الطِّيبَ) كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى النَّهْيِ عَنْ رَدِّهِ لَيْسَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (عَزْرَةُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّاي بَعْدَهَا رَاءٌ ابْنُ ثَابِتٍ أَيِ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ، لِجَدِّهِ صُحْبَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَزَعَمَ) هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الزَّعْمِ عَلَى الْقَوْلِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ) أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ مَا عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طِيبٌ قَطُّ فَرَدَّهُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَزْرَةَ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ نَحْوُهُ وَزَادَ وَقَالَ: إِذَا عُرِضَ عَلَى أَحَدِكُمُ الطِّيبَ فَلَا يَرُدُّهُ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ يُصَرَّحْ بِرَفْعِهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ وَأَخْرَجَه مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ رَيْحَانٌ بَدَلَ طِيبٍ، وَالرَّيْحَانُ كُلُّ بَقْلَةٍ لَهَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّيْحَانِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الطِّيبِ يَعْنِي مُشْتَقًّا مِنَ الرَّائِحَةِ.

قُلْتُ: مَخْرَجُ الْحَدِيثِ وَاحِدٌ، وَالَّذِينَ رَوَوْهُ بِلَفْظِ الطِّيبِ أَكْثَرُ عَدَدًا وَأَحْفَظُ فَرِوَايَتُهُمْ أَوْلَى، وَكَأَنَّ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ رَيْحَانٍ أَرَادَ التَّعْمِيمَ حَتَّى لَا يُخَصَّ بِالطِّيبِ الْمَصْنُوعِ، لَكِنِ اللَّفْظُ غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ، وَلِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الطِّيبُ فَلْيُصِبْ مِنْهُ نَعَمْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ إِذَا أُعْطِيَ أَحَدُكُمُ الرَّيْحَانَ فَلَا يَرُدَّهُ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ لِمَحَبَّتِهِ فِيهِ وَلِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُنَاجِي مَنْ لَا تنَاجِي، وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ رَدِّ الطِّيبِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَجُوزُ أَخْذُهُ لَا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ، لِأَنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ.

‌81 - بَاب الذَّرِيرَةِ

5930 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ - أَوْ مُحَمَّدٌ، عَنْهُ - عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، سَمِعَ عُرْوَةَ، وَالْقَاسِمَ يُخْبِرَانِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ بِذَرِيرَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الذَّرِيرَةِ) بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءَيْنِ بِوَزْنِ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ مُرَكَّبُ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ تُجْمَعُ مُفْرَدَاتُهُ ثُمَّ تُسْحَقُ وَتُنْخَلُ ثُمَّ تُذَرُّ فِي الشَّعْرِ وَالطَّوْقِ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَرِيرَةً، كَذَا قَالَ، وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ طِيبٍ مُرَكَّبٍ ذَرِيرَةٌ، لَكِنِ الذَّرِيرَةُ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ مَخْصُوصٌ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَغَيْرُهُمْ، وَجَزَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ فُتَاتُ قَصَبِ طِيبٍ يُجَاءُ بِهِ مِنَ الْهِنْدِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ) أَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ ابْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَأَمَّا عُثْمَانُ فَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ بِلَا وَاسِطَةٍ مِنْهَا فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ، وَفِي النِّكَاحِ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ كَمَا سَيَأْتِي حَدِيثٌ آخَرُ بِمِثْلِ هَذَا التَّرَدُّدِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ) أَيِ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ قَلِيلُ الْحَدِيثِ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ مِنَ الثِّقَاتِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ عُرْوَةُ) هُوَ جَدُّهُ، وَالْقَاسِمُ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ.

قَوْلُهُ: (بِذَرِيرَةٍ) كَأَنَّ الذَّرِيرَةَ كَانَ فِيهَا مِسْكٌ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ.

قَوْلُهُ: (لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ) كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا هُنَا وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَهُ

ص: 371

الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ حِينَ أَحْرَمَ وَحِينَ رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ.

‌82 - بَاب الْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ

5931 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عن عَبْدُ اللَّهِ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى، مَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} إلى: {فَانْتَهُوا}

قوله: (بَابُ الْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ) أَيْ لِأَجْلِ الْحُسْنِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتُ جَمْعُ مُتَفَلِّجَةٍ وَهِيَ الَّتِي تَطْلُبُ الْفَلْجَ أَوْ تَصْنَعُهُ، وَالْفَلْجُ بِالْفَاءِ وَاللَّامِ وَالْجِيمِ انْفِرَاجُ مَا بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ، وَالتَّفَلُّجُ أَنْ يُفْرَجَ بَيْنَ الْمُتَلَاصِقَيْنِ بِالْمِبْرَدِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ عَادَةً بِالثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ، وَيُسْتَحْسَنُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَرُبَّمَا صَنَعَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَكُونُ أَسْنَانُهَا مُتَلَاصِقَةً لِتَصِيرَ مُتَفَلِّجَةً، وَقَدْ تَفْعَلُهُ الْكَبِيرَةُ تُوهِمُ أَنَّهَا صَغِيرَةٌ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ غَالِبًا تَكُونُ مُفَلَّجَةً جَدِيدَةَ السِّنِّ، وَيَذْهَبُ ذَلِكَ فِي الْكِبَرِ، وَتَحْدِيدُ الْأَسْنَانِ يُسَمَّى الْوَشْرَ بِالرَّاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ أَيْضًا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي آخِرِ بَابِ الْمَوْصُولَةِ فَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الْخِلْقَةِ الْأَصْلِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ) هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَلْقَمَةُ هُوَ ابْنُ قَيْسٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَابَعَ مَنْصُورٌ الْأَعْمَشَ. وَمِنْ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ عَنْهُ عَلْقَمَةُ فِي السَّنَدِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ أُمِّ يَعْقُوبَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمَحْفُوظُ قَوْلُ مَنْصُورٍ.

قَوْلُهُ: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ) جَمْعُ وَاشِمَةٍ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الَّتِي تَشِمُ (وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ) جَمْعُ مُسْتَوْشِمَةٍ وَهِيَ الَّتِي تَطْلُبُ الْوَشْمَ، وَنَقَلَ ابْنُ التَّيْنِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْوَاشِمَةُ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا الْوَشْمُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ الَّتِي تَفْعَلُهُ، وَرَدَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَنْصُورٍ بِلَفْظِ الْمُسْتَوْشِمَاتِ وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ الَّتِي تَفْعَلُ ذَلِكَ وَبِفَتْحِهَا الَّتِي تَطْلُبُ ذَلِكَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُفَضَّلِ بْنِ مُهَلْهَلٍ، عَنْ مَنْصُورٍ وَالْمَوْشُومَاتِ وَهِيَ مَنْ يُفْعَلُ بِهَا الْوَشْمُ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْوَشْمُ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ أَنْ يُغْرَزَ فِي الْعُضْوِ إِبْرَةٌ أَوْ نَحْوُهَا حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ ثُمَّ يُحْشَى بِنَوْرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَيَخْضَرُّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ: الْوَاشِمَةُ الَّتِي تَجْعَلُ الْخِيلَانَ فِي وَجْهِهَا بِكُحْلٍ أَوْ مِدَادٍ، وَالْمُسْتَوْشِمَةُ الْمَعْمُولُ بِهَا انْتَهَى. وَذُكِرَ الْوَجْهُ لِلْغَالِبِ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الشَّفَةِ وَسَيَأْتِي عَنْ نَافِعٍ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَن يَكُونُ فِي اللِّثَةِ، فَذِكْرُ الْوَجْهَ لَيْسَ قَيْدًا، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْيَدِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجَسَدِ، وَقَدْ يُفْعَلُ ذَلِكَ نَقْشًا، وَقَدْ يُجْعَلُ دَوَائِرَ، وَقَدْ يُكْتَبُ اسْمُ الْمَحْبُوبِ، وَتَعَاطِيهِ حَرَامٌ بِدَلَالَةِ اللَّعْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَيَصِيرُ الْمَوْضِعُ الْمَوْشُومُ نَجِسًا لِأَنَّ الدَّمَ انْحَبَسَ فِيهِ فَتَجِبُ إِزَالَتُهُ إِنْ أَمْكَنَتْ وَلَوْ بِالْجَرْحِ إِلَّا إِنْ خَافَ مِنْهُ تَلَفًا أَوْ شَيْئا أَوْ فَوَاتَ مَنْفَعَةِ عُضْوٍ فَيَجُوزُ إِبْقَاؤُهُ، وَتَكْفِي التَّوْبَةُ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ.

قَوْلُهُ: (وَالْمُتَنَمِّصَاتِ) يَأْتِي شَرْحُهُ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ يَلِي الْبَابَ الَّذِي يَلِيهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ جَرِيرٍ الْوَاصِلَاتُ بَدَلَ الْمُتَنَمِّصَاتِ هُنَا.

قَوْلُهُ: (وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ) يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَذْمُومَةَ مَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْحُسْنِ

ص: 372

فَلَوِ احْتَاجَتْ إِلَى ذَلِكَ لِمُدَاوَاةٍ مِثْلًا جَازَ.

قَوْلُهُ: (الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ) هِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِمَنْ يَصْنَعُ الْوَشْمَ وَالنَّمْصُ وَالْفَلْجُ وَكَذَا الْوَصْلُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَاتِ.

قَوْلُهُ: (مَا لِي لَا أَلْعَنُ) كَذَا هُنَا بِاخْتِصَارٍ، وَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ بِزِيَادَةٍ وَلَفْظُهُ فَقَالَتْ أُمُّ يَعْقُوبَ مَا هَذَا وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ شَيْخَيِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ أَتَمُّ سِيَاقًا مِنْهُ فَقَالَ: بَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَاتِ إِلَخْ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ وَذَكَرَ مُسْلِمٌ أَنَّ السِّيَاقَ لِإِسْحَاقَ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عُثْمَانَ وَسِيَاقُهُ مُوَافِقٌ لِسِيَاقِ إِسْحَاقَ إِلَّا فِي أَحْرُفٍ يَسِيرَةٍ لَا تُغَيِّرُ الْمَعْنَى وَسَبَقَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَشْرِ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ بِتَمَامِهِ، لَكِنْ لَمْ يَقُلْ فِيهِ وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَا فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا لِي لَا أَلْعَنُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً وَهُوَ بَعِيدٌ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وزَادَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ فَقَالَتْ وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُجْعَلُ الْمُصْحَفُ فِيهِ، وَكَانُوا يَكْتُبُونَ الْمُصْحَفَ فِي الرِّقِّ وَيَجْعَلُونَ لَهُ دَفَّتَيْنِ مِنْ خَشَبٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْكُرْسِيِّ الَّذِي يُوضَعُ عَلَيْهِ الْمُصْحَفُ اسْمُ لَوْحَيْنِ

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ كَذَا فِيهِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَالْأَفْصَحُ حَذْفُهَا فِي خِطَابِ الْمُؤَنَّثِ فِي الْمَاضِي.

قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} - إِلَى - {فَانْتَهُوا} فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَ اللَّهُ عز وجل {وَمَا آتَاكُمُ} إِلَخْ وَزَادَ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ إِنِّي أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذَا عَلَى امْرَأَتِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْحَشْرِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ مَا حَفِظْتُ وَصِيَّةَ شُعَيْبٍ إِذًا يَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ عليه السلام:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} وَفِي إِطْلَاقِ ابْنِ مَسْعُودٍ نِسْبَةُ لَعْنِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَفَهْمِ أُمِّ يَعْقُوبَ مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْقُرْآنَ وَتَقْرِيرُهُ لَهَا عَلَى هَذَا الْفَهْمِ وَمُعَارَضَتُهَا لَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَجَوَابُهُ بِمَا أَجَابَ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ نِسْبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِنْبَاطُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم نِسْبَةً قَوْلةً، فَكَمَا جَازَ نِسْبَةُ لَعْنِ الْوَاشِمَةِ إِلَى كَوْنِهِ فِي الْقُرْآنِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} مَعَ ثُبُوتِ لَعْنِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، يَجُوزُ نِسْبَةُ مَنْ فَعَلَ أَمْرًا يَنْدَرِجُ فِي عُمُومِ خَبَرٍ نَبَوِيٍّ مَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِ إِلَى الْقُرْآنِ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ مَثَلًا: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ، وَيُسْتَنَدُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ): أُمُّ يَعْقُوبَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا يُعْرَفُ اسْمُهَا وَهِيَ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَلَمْ أَقِفْ لَهَا عَلَى تَرْجَمَةٍ، وَمُرَاجَعَتُهَا ابْنَ مَسْعُودٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هلا إِدْرَاكًا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

‌83 - باب وَصْلِ الشَّعَرِ

5932 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَامَ حَجَّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ - وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ كَانَتْ بِيَدِ حَرَسِيٍّ -: أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ.

ص: 373

5933 -

وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ".

5934 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاقٍ يُحَدِّثُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ جَارِيَةً مِنْ الأَنْصَارِ تَزَوَّجَتْ وَأَنَّهَا مَرِضَتْ فَتَمَعَّطَ شَعَرُهَا فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهَا فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ".

تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ.

5935 -

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما "أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ إِنِّي أَنْكَحْتُ ابْنَتِي ثُمَّ أَصَابَهَا شَكْوَى فَتَمَرَّقَ رَأْسُهَا وَزَوْجُهَا يَسْتَحِثُّنِي بِهَا أَفَأَصِلُ رَأْسَهَا فَسَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ".

[الحديث 5935 - طرفاه في: 5936، 5941]

5936 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: "لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ".

5937 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ". وَقَالَ نَافِعٌ: الْوَشْمُ فِي اللِّثَةِ.

[الحديث 5937 - أطرافه في: 5940، 5942، 5947]

5938 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: "قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ قَالَ مَا كُنْتُ أَرَى أَحَداً يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ الزُّورَ يَعْنِي الْوَاصِلَةَ فِي الشَّعَرِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ وَصْلِ الشَّعْرِ) أَيِ الزِّيَادَةُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ ذكر فيه خمسة أحاديث: الأول حديث معاوية.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أَوَيسٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنْبَأَنَا حُمَيْدٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ رِوَايَتَيْ مَعْمَرٍ، وَيُونُسَ، لَكِنْ أَحَالَ بِهِمَا عَلَى رِوَايَةِ مَالِكٍ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ بَدَلَ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحُمَيْدٌ هُوَ الْمَحْفُوظُ.

قَوْلُهُ: (عَامَ حَجَّ) تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ تَعْيِينُ الْعَامِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعْرٍ

ص: 374

كَانَتْ بِيَدِ حَرَسِيٍّ) الْقُصَّةُ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ الْخُصْلَةُ مِنَ الشَّعْرِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ كُبَّةٌ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ: إِنَّكُمْ أَخَذْتُمْ زِيَّ سُوءٍ ; وَجَاءَ رَجُلٌ بِعَصًا عَلَى رَأْسِهَا خِرْقَةٌ وَالْحَرَسِيُّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَاتِ نِسْبَةٌ إِلَى الْحَرَسِ وَهُمْ خَدَمُ الْأَمِيرِ الَّذِينَ يَحْرُسُونَهُ، وَيُقَالُ لِلْوَاحِدِ حَرَسِيٌّ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ قَالَ: وَجَدْتُ هَذِهِ عِنْدَ أَهْلِي وَزَعَمُوا أَنَّ النِّسَاءَ يَزِدْنَهُ فِي شُعُورِهِنَّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَا كُنْتُ أَرَى يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا الْيَهُودُ.

قَوْلُهُ: (أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ)؟ تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى قِلَّةِ الْعُلَمَاءِ يَوْمئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إِحْضَارَهُمْ لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ أَوْ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِمْ سُكُوتَهُمْ عَنْ إِنْكَارِهِمْ هَذَا الْفِعْلَ قَبْلَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِنَّمَا عُذِّبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّ مَ - بَلَغَهُ فَسَمَّاهُ الزُّورَ وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ نَهَى عَنِ الزُّورِ وَفِي آخِرِهِ أَلَا وَهَذَا الزُّورُ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي مَا تُكْثِرُ بِهِ النِّسَاءُ أَشْعَارَهُنَّ مِنَ الْخِرَقِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ فِي مَنْعِ وَصْلِ الشَّعْرِ بِشَيْءٍ آخَرَ سَوَاءٌ كَانَ شَعْرًا أَمْ لَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ زَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ بِشَعْرِهَا شَيْئًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَذَهَبَ اللَّيْثُ وَنَقَلَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَصْلُ الشَّعْرِ بِالشَّعْرِ، وَأَمَّا إِذَا وَصَلَتْ شَعْرَهَا بِغَيْرِ الشَّعْرِ مِنْ خِرْقَةٍ وَغَيْرِهَا فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْقَرَامِلِ ; وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالْقَرَامِلُ جَمْعُ قَرْمَلٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ نَبَاتٌ طَوِيلُ الْفُرُوعِ لَيِّنٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا خُيُوطٌ مِنْ حَرِيرٍ أَوْ صُوفٍ يُعْمَلُ ضَفَائِرَ تَصِلُ بِهِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا، وَفَصَلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ ظَاهِرًا، فَمَنَعَ الْأَوَّلَ قوم فَقَطْ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّدْلِيسِ وَهُوَ قَوِيٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ الْوَصْلَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ بِشَعْرٍ آخَرَ أَوْ بِغَيْرِ شَعْرٍ إِذَا كَانَ بِعِلْمِ الزَّوْجِ وَبِإِذْنِهِ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ.

وَيُسْتَفَادُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ مَنْعَ تَكْثِيرِ شَعْرِ الرَّأْسِ بِالْخِرَقِ كَمَا لَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَثَلًا قَدْ تَمَزَّقَ شَعْرُهَا فَتَضَعُ عِوَضَهُ خِرَقًا تُوهِمُ أَنَّهَا شَعْرٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَقِبَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ هَذَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: يَعْنِي يُكَبِّرْنَهَا وَيُعَظِّمْنَهَا بِلَفِّ عِمَامَةٍ أَوْ عِصَابَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ ذَمُّ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْبُخْتُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ جَمْعُ بُخْتِيَّةٍ وَهِيَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِبِلِ عِظَامِ الْأَسْنِمَةِ، وَالْأَسْنِمَةُ بِالنُّونِ جَمْعُ سَنَامٍ وَهُوَ أَعْلَى مَا فِي ظَهْرِ الْجَمَلِ، شَبَّهَ رُءُوسَهُنَّ بِهَا لِمَا رَفَعْنَ مِنْ ضَفَائِرِ شُعُورِهِنَّ عَلَى أَوْسَاطِ رُءُوسِهِنَّ تَزْيِينًا وَتَصَنُّعًا، وَقَدْ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ بِمَا يُكْثِرْنَ بِهِ شُعُورَهُنَّ.

(تَنْبِيهٌ): كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ الزِّيَادَةُ فِي شَعْرِ رَأْسِهَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا حَلْقُ شَعْرِ رَأْسِهَا بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ عُثْمَانَ بِنْتِ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ كَذَا أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ وَمُصَنَّفِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَوَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُثْمَانَ كِلَيْهُمَا مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَيُونُسُ هُوَ الْمُؤَدِّبُ، وَفُلَيْحٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ.

قَوْلُهُ: (لَعَنَ اللَّهُ

ص: 375

الْوَاصِلَةَ) أَيِ الَّتِي تَصِلُ الشَّعْرَ سَوَاءٌ كَانَ لِنَفْسِهَا أَمْ لِغَيْرِهَا (وَالْمُسْتَوْصِلَةُ) أَيِ الَّتِي تَطْلُبُ فِعْلَ ذَلِكَ وَيُفْعَلُ بِهَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي حِكَايَةِ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ - تَعَالَى - إِنْ كَانَ خَبَرًا فَيُسْتَغْنَى عَنِ اسْتِنْبَاطِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ.

تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَوْلُهُ: (الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاقَ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَآخِرُهُ قَافٌ كَأَنَّهُ اسْمٌ عَجَمِيٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَعَّالٍ مِنَ الْأَنِيقِ وَهُوَ الشَّيْءُ الْحَسَنُ الْمُعْجِبُ فَسُهِّلَتْ هَمْزَتُهُ يَاءً، وَالْحَسَنُ الْمَذْكُورُ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ثِقَةٌ عِنْدَهُمْ وَكَانَ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ عَنْ طَاوُسٍ وَمَاتَ قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ جَارِيَةً مِنَ الْأَنْصَارِ تَزَوَّجَتْ) تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَسْمِيَتِهَا وَتَسْمِيَةِ الزَّوْجِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.

قَوْلُهُ: (فَتَمَعَّطَ) بِالْعَيْنِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ خَرَجَ مِنْ أَصْلِهِ، وَأَصْلُ الْمَعْطِ الْمَدُّ كَأَنَّهُ مُدَّ إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَنْ سَقَطَ شَعْرُهُ.

قَوْلُهُ: (فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهَا) أَيْ يَصِلُوا شَعْرَهَا، وَقَوْلُهُ: فَسَأَلُوا تَقَدَّمَ هُنَاكَ أَنَّ السَّائِلَ أُمُّهَا، وَهُوَ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي يَلِي: هَذَا.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ رَوَيْنَاهَا مَوْصُولَةً فِي أَمَالِي الْمَحَامِلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصْبَهَانِيِّينَ عَنْهُ، ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ فَذَكَرَهُ وَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيعِ السَّنَدِ وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ - وَهِيَ عِنْدَهَا - عَنْ وَصْلِ الْمَرْأَةِ رَأْسهَا بِالشَّعْرِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ فَتَمْرُقُ بِالرَّاءِ وَالْقَافِ، وَقَالَ فِيهِ أَفَأَضَعُ عَلَى رَأْسِهَا شَيْئًا وَالْبَاقِي مِثْلَهُ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْمُتَابَعَةِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ جَمِيعًا، وَلِأَبَانَ بْنِ صَالِحٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ دُونَ الْقِصَّةِ وَزَادَ فِيهِ النَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَالْمُسْتَوْشِمَةُ مِنْ غَيْرِ دَاءٍ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ صَنَعَتِ الْوَشْمَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُ بَلْ تَدَاوَتْ مَثَلًا فَنَشَأَ عَنْهُ الْوَشْمُ أَنْ لَا تَدْخُلَ فِي الزَّجْرِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ذَكَرَهُ طَرِيقَيْنِ:

الْأُولَى قَوْلُهُ: (مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ الْحَجَبِيُّ وَأُمُّهُ هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ، وَفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ رَاوِية عَنْ مَنْصُورٍ وَإِنْ كَانَ فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ، لَكِنْ قَدْ تَابَعَهُ وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَاءُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَتَمَزَّقَ) بِالزَّايِ أَيْ تَقَطَّعَ، كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْحَمَوِيِّ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَبِالرَّاءِ لِلْبَاقِينَ أَيْ مُرِقَ مِنْ أَصْلِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَرْقِ وَهُوَ نَتْفُ الصُّوفِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ فَأَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ أَوِ الْجُدَرِيُّ فَسَقَطَ شَعْرُهَا، وَقَدْ صَحَّتْ وَزَوْجُهَا يَسْتَحِثُّنَا وَلَيْسَ عَلَى رَأْسِهَا شَعْرٌ، أَفَنَجْعَلُ عَلَى رَأْسِهَا شَيْئًا نُجَمِّلُهَا بِهِ؟ الْحَدِيثَ.

وَقَوْلُهُ: أَفَأَصِلُ رَأْسَهَا؟ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شَعْرُهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.

قَوْلُهُ: (فَسَبَّ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ لَعَنَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.

الطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ:

قَوْلُهُ: (عَنِ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ) هِيَ بِنْتُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، هِيَ بِنْتُ عَمِّ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الرَّاوِي عَنْهَا، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ هِيَ جَدَّتُهُمَا مَعًا لِأَنَّهَا أُمُّ الْمُنْذِرِ وَأُمُّ عُرْوَةَ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ تُؤَكِّدُ رِوَايَةَ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّهِ، وَأَنَّ لِلْحَدِيثِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَصْلًا وَلَوْ كَانَ مُخْتَصَرًا.

قَوْلُهُ: (الْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ) هَذَا الْقَدْرُ الَّذِي وَجَدْتُهُ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ فَكَأَنَّهَا مَا سَمِعَتِ الزِّيَادَةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَرَأَستُ يَدَ أَسْمَاءَ مَوْشُومَةً قَالَ الطَّبَرِيُّ: كَأَنَّهَا كَانَتْ صَنَعَتْهُ قَبْلَ النَّهْيِ فَاسْتَمَرَّ فِي يَدِهَا، قَالَ:

ص: 376

وَلَا يُظَنُّ بِهَا أَنَّهَا فَعَلَتْهُ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمْ تَسْمَعْهُ، أَوْ كَانَتْ بِيَدِهَا جِرَاحَةٌ فَدَاوَتْهَا فَبَقِيَ الْأَثَرُ مِثْلَ الْوَشْمِ فِي يَدِهَا.

الحديث الخامس قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ عم عُمَرَ الْعُمَرِيِّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ نَافِعٌ: الْوَشْمُ فِي اللِّثَةِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ وَهِيَ مَا عَلَى الْأَسْنَانِ مِنَ اللَّحْمِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الْأَسْنَانِ صُفْرَةً أَوْ غَيْرَهَا، كَذَا قَالَ، وَلَمْ يُرِدْ نَافِعٌ الْحَصْرَ فِي كَوْنِ الْوَشْمِ فِي اللِّثَةِ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِيهَا. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ يَحْرُمُ الْوَصْلُ فِي الشَّعْرِ وَالْوَشْمُ وَالنَّمْصُ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ حَمَلَ النَّهْيَ فِيهِ عَلَى التَّنْزِيهِ ; لِأَنَّ دَلَالَةَ اللَّعْنِ عَلَى التَّحْرِيمِ مِنْ أَقْوَى الدَّلَالَاتِ، بَلْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ الْكَبِيرَةِ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ مَا رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا رَخَّصَتْ فِي وَصْلِ الشَّعْرِ بِالشَّعْرِ وَقَالَتْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْوَاصِلِ الْمَرْأَةُ تَفْجُرُ فِي شَبَابِهَا ثُمَّ تَصِلُ ذَلِكَ بِالْقِيَادَةِ، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَأَبْطَلَهُ بِمَا جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ.

وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ طَهَارَةُ شَعْرِ الْآدَمِيِّ لِعَدَمِ الِاسْتِفْصَالِ، إِيقَاعُ الْمَنْعِ عَلَى فِعْلِ الْوَصْلِ لَا عن كَوْنِ الشَّعْرِ نَجِسًا، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَفِيهِ جَوَازُ إِبْقَاءِ الشَّعْرِ وَعَدَمِ وُجُوبِ دَفْنِهِ، وَفِيهِ قِيَامُ الْإِمَامِ بِالنَّهْيِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا رَآهُ فَاشِيًا فَيُفْشِي إِنْكَارَهُ تَأْكِيدًا لِيُحَذِّرَ مِنْهُ، وَفِيهِ إِنْذَارُ مَنْ عَمِلَ الْمَعْصِيَةَ بِوُقُوعِ الْهَلَاكِ بِمَنْ فَعَلَهَا قَبْلَهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} وَفِيهِ جَوَازُ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ فِي الْخُطْبَةِ لِيَرَاهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ رَآهُ لِلْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَذَا غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ لِلتَّحْذِيرِ مِمَّا عَصَوْا فِيهِ.

‌84 - بَاب الْمُتَنَمِّصَاتِ

5939 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: لَعَنَ عَبْدُ اللَّهِ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَقَالَتْ أُمُّ يَعْقُوبَ: مَا هَذَا؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي كِتَابِ اللَّهِ. قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُهُ. فقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُتَنَمِّصَاتِ) جَمْعُ مُتَنَمِّصَةٍ، وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ مُنْتَمِصَةٌ بِتَقْدِيمِ الْمِيمِ عَلَى النُّونِ وَهُوَ مَقْلُوبٌ، وَالْمُتَنَمِّصَةُ الَّتِي تَطْلُبُ النِّمَاصَ، وَالنَّامِصَةُ الَّتِي تَفْعَلُهُ، وَالنِّمَاصُ إِزَالَةُ شَعْرِ الْوَجْهِ بِالْمِنْقَاشِ، وَيُسَمَّى الْمِنْقَاشُ مِنْمَاصًا لِذَلِكَ، وَيُقَالُ إِنَّ النِّمَاصَ يَخْتَصُّ بِإِزَالَةِ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ لِتَرْفِيعِهِمَا أَوْ تَسْوِيَتِهِمَا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ: النَّامِصَةُ الَّتِي تَنْقُصُ الْحَاجِبَ حَتَّى تَرِقَّهُ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَاضِي فِي بَابِ الْمُتَفَلِّجَاتِ قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْ خِلْقَتِهَا الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ عَلَيْهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ الْتِمَاسَ الْحُسْنِ لَا لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ كَمَنْ تَكُونُ مَقْرُونَةَ الْحَاجِبَيْنِ فَتُزِيلُ مَا بَيْنَهُمَا تَوَهُّمُ الْبَلَجَ أَوْ عَكْسَهُ، وَمَنْ تَكُونُ لَهَا سِنٌّ زَائِدَةٌ فَتَقْلَعُهَا أَوْ طَوِيلَةٌ فَتَقْطَعُ مِنْهَا أَوْ لِحْيَةٌ أَوْ شَارِبٌ أَوْ عَنْفَقَةٌ فَتُزِيلُهَا بِالنَّتْفِ، وَمَنْ يَكُونُ شَعْرُهَا قَصِيرًا أَوْ حَقِيرًا فَتُطَوِّلُهُ أَوْ تُعزِّرُهُ بِشَعْرِ غَيْرِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ. وَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَالَ: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ وَالْأَذِيَّةُ كَمَنْ يَكُونُ لَهَا سِنٌّ زَائِدَةٌ أَوْ طَوِيلَةٌ تُعِيقُهَا فِي الْأَكْلِ أَوْ إِصْبَعٌ زَائِدَةٌ تُؤْذِيهَا أَوْ تُؤْلِمُهَا فَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَالرَّجُلُ فِي هَذَا الْأَخِيرِ

ص: 377

كَالْمَرْأَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَثْنَى مِنَ النِّمَاصِ مَا إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ أَوْ شَارِبٌ أَوْ عَنْفَقَةٌ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا إِزَالَتُهَا بَلْ يُسْتَحَبُّ.

قُلْتُ: وَإِطْلَاقُهُ مُقَيَّدٌ بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَعِلْمِهِ، وَإِلَّا فَمَتَى خَلَا عَنْ ذَلِكَ مُنِعَ لِلتَّدْلِيسِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ النَّمْصُ أُشْعِرَ شِعَارًا لِلْفَوَاجِرِ امْتَنَعَ وَإِلَّا فَيَكُونُ تَنْزِيهًا، وَفِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ وإِلَّا إِنْ وَقَعَ بِهِ تَدْلِيسٌ فَيَحْرُمُ، قَالُوا: وَيَجُوزُ الْحَفُّ وَالتَّحْمِيرُ وَالنَّقْشُ وَالتَّطْرِيفُ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ وَكَانَتْ شَابَّةً يُعْجِبُهَا الْجَمَالَ فَقَالَتِ: الْمَرْأَةُ تَحُفُّ جَبِينَهَا لِزَوْجِهَا فَقَالَتْ: أَمِيطِي عَنْكِ الْأَذَى مَا اسْتَطَعْتِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ التَّزَيُّنُ بِمَا ذُكِرَ، وإِلَّا الْحَفَ فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ النِّمَاصِ.

‌85 - بَاب الْمَوْصُولَةِ

5940 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ. وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ.

5941 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّهُ سَمِعَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْمُنْذِرِ تَقُولُ: سَمِعْتُ أَسْمَاءَ قَالَتْ: سَأَلَتْ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِي أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ فَامَّرَقَ شَعَرُهَا، وَإِنِّي زَوَّجْتُهَا أَفَأَصِلُ فِيهِ؟ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ.

5942 -

حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَاشِمَةُ وَالْمُستوشِمَةُ وَالْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ. يَعْنِي لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

5943 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ،، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، مَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ملعون فِي كِتَابِ اللَّهِ؟

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَوْصُولَةِ) تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ قَبْلُ بِبَابٍ. وَذُكِرَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ.

قَوْلُهُ: (الْمُسْتَوْصِلَةَ) هِيَ الَّتِي تَطْلُبُ وَصْلَ شَعْرِهَا.

الثَّانِي حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَوْلُهُ (أَصَابَتْهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَصَابَهَا بِالتَّذْكِيرِ عَلَى إِرَادَةِ الْحَبِّ، وَالْحَصْبَةِ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَكَسْرُهَا بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ: بَثَرَاتٌ حُمْرٌ تَخْرُجُ فِي الْجِلْدِ مُتَفَرِّقَةً، وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الْجُدَرِيِّ.

قَوْلُهُ: (امَّرَقَ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ وَأَصْلُهُ انْمَرَقَ بِنُونٍ فَذَهَبَتْ فِي الْإِدْغَامِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ بِالزَّايِ بَدَلَ الرَّاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الْفَضْلُ بْنُ زُهَيْرٍ وَلِبَعْضِ رُوَاةِ الْفَرَبْرِيِّ أَيْضًا الْفَضْلُ بْنُ زُهَيْرٍ أَوِ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ بن وَجَزَمَ مَرَّةً أُخْرَى بِالْفَضْلِ بْنِ زُهَيْرٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ: هُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنِ بْنِ

ص: 378

حَمَّادِ بْنِ زهير فَنُسِبَ مَرَّةً إِلَى جَدِّ أَبِيهِ وَهُوَ أَبُو نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ بِالْكَثِيرِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَحَدَّثَ هُنَا وفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى قَلِيلَةٍ بِوَاسِطَةٍ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ بِلَفْظِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (لَعَنَ اللَّهُ - ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ - يَعْنِي لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَتَّجِهْ لِي هَذَا التَّفْسِيرُ إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ لَعَنَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ أَوْ لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَعْنِ اللَّهِ، وَقَدْ سَقَطَ الْكَلَامُ الْأَخِيرُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَسَقَطَ مِنْ بَعْضِهَا لَفْظُ لَعَنَ اللَّهُ مِنْ أَوَّلِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ بِلَفْظِ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَيَأْتِي كَذَلِكَ بَعْدَ بَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ بَابِ وَصْلِ الشَّعْرِ بِلَفْظِ لَعَنَ اللَّهُ وَكُلُّهَا مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ.

قَوْلُهُ: (وَالْمُسْتَوْصِلَةُ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمُوتَصِلَةُ وَهِيَ بِمَعْنَاهَا وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ الْمَوْصُولَةُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَوْلُهُ:(عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ. وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِلْوَاصِلَةِ وَلَا لِلْمَوْصُولَةِ ذِكْرٌ، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْمُتَفَلِّجَاتِ وَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْوَاصِلَةِ فِيهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْعَوْفِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْخَرَّازِ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ جَاءَتْ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَتْ: أُنْبِئْتُ أَنَّكَ تَنْهَى عَنِ الْوَاصِلَةِ. قَالَ: نَعَمْ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِي آخِرِهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنِ النَّامِصَةِ وَالْوَاشِرَةِ وَالْوَاصِلَةِ وَالْوَاشِمَةِ إِلَّا مِنْ أَذًى.

‌86 - باب الْوَاشِمَةِ

5944 -

حَدَّثَنا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْعَيْنُ حَقٌّ. وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ.

حَدَّثَنا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: ذَكَرْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ حَدِيثَ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ أُمِّ يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. مِثْلَ حَدِيثِ مَنْصُورٍ.

5945 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبِي فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ وَالْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَاشِمَةِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا. وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَيْنُ حَقٌّ، وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الطِّبِّ، وَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظٍ آخَرَ فِي الْوَشْمِ.

الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا مِنْ وَجْهَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْمُتَفَلِّجَاتِ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَوْلُهُ:(رَأَيْتُ أَبِي فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا وَسَاقَهُ فِي الْبُيُوعِ تَامًّا وَلَفْظُهُ: رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى حَجَّامًا فَكَسَرَ مَحَاجِمَهُ. فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَالَّذِي هُنَا وَزَادَ وَعَنْ كَسْبِ الْأَمَةِ وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ سِيَاقِهِ فِي بَابِ مَنْ لَعَنَ الْمُصَوِّرَ.

ص: 379

‌87 - بَاب الْمُسْتَوْشِمَةِ

5946 -

حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بِامْرَأَةٍ تَشِمُ، فَقَامَ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ مَنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْوَشْمِ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا سَمِعْتُ. قَالَ: مَا سَمِعْتَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تَشِمْنَ وَلَا تَسْتَوْشِمْنَ.

5947 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ.

5948 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ. مَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ.

قوله (باب المستوشمة) ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول حديث أبي هريرة.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُمَارَةَ) هُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو زُرْعَةَ هُوَ ابْنُ عَمْرِ بْنِ جَرِيرٍ.

قَوْلُهُ: (أُتِيَ عُمَرُ بِامْرَأَةٍ تَشِمُ) قُلْتُ: لَمْ تُسَمَّ هَذِهِ الْمَرْأَةُ.

قَوْلُهُ: (أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ سَمِعَ الزَّجْرَ عَنْ ذَلِكَ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَثْبِتَ فِيهِ، أَوْ كَانَ نَسِيَهُ فَأَرَادَ أَنْ يَتَذَكَّرَهُ، أَوْ بَلَغَهُ مِمَّنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِسَمَاعِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَسْمَعَهُ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (لَا تَشِمْنَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ ثُمَّ نُونُ خِطَابِ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ بِالنَّهْيِ، وَكَذَا وَلَا تَسْتَوْشِمْنَ أَيْ لَا تَطْلُبْنَ ذَلِكَ، وَهَذَا يُفَسِّرُ قَوْلُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ نَهَى عَنِ الْوَشْمِ وَفَائِدَةُ ذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ قِصَّةَ عُمَرَ إِظْهَارُ ضَبْطِهِ وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ يَسْتَثْبِتُهُ فِي الْأَحَادِيثِ مَعَ تَشَدُّدِ عُمَرَ، وَلَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ ذَلِكَ لَنُقِلَ.

الحديث الثاني والحديث الثالث عن ابن عمر وعن ابْنُ مَسْعُودٍ وقد تَقَدَّمَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا وَرَدَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغِشِّ وَالْخِدَاعِ، وَلَوْ رَخَّصَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَكَانَ وَسِيلَةً إِلَى اسْتِجَازَةِ غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْغِشِّ، وَلِمَا فِيهَا مِنْ تَغْيِيرِ الْخِلْقَةِ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِقَوْلِهِ: الْمُغَيِّرَاتُ خَلْقَ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌88 - بَاب التَّصَاوِيرِ

5949 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قال: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا تَصَاوِيرُ وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعْتُ أَبَا طَلْحَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّصَاوِيرِ) جَمْعُ تَصْوِيرٍ بِمَعْنَى الصُّورَةِ وَالْمُرَادُ بَيَانُ حُكْمُهَا مِنْ جِهَةٍ

مُبَاشَرَةِ صَنْعَتِهَا، ثُمَّ مِنْ جِهَةِ

ص: 380

اسْتِعْمَالِهَا وَاتِّخَاذِهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي طَلْحَةَ) هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ وَالِدَةِ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّعْلِيقِ تَصْرِيحُ الزُّهْرِيِّ بْنِ شِهَابٍ وَتَصْرِيحُ شَيْخِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَكَذَا مَنْ فَوْقَهُمَا بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيعِ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ أَيْضًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ بَيْنَهُمَا، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ رِوَايَةَ مَنْ أَثْبَتَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ يَعُودُهُ فَذَكَرَ قِصَّةً وَفِيهَا الْمَتْنُ الْمَذْكُورُ، وَزَادَ فِيهِ اسْتِثْنَاءَ الرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، فَلَعَلَّ عُبَيْدَ اللَّهِ سَمِعَهُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ ثُمَّ لَقِيَ أَبَا طَلْحَةَ لَمَّا دَخَلَ يَعُودُهُ فَسَمِعَهُ مِنْهُ، وَيُؤَيِّدُه ذَلِكَ زِيَادَةَ الْقِصَّةِ فِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْحَدِيثُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، فَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا طَلْحَةَ وَلَا سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا بَلْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَلَا رَآهُ، وَزَيْدٌ مَاتَ بَعْدَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ بِمُدَّةٍ، وَلَكِنْ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ فَذَكَرَ

الْقِصَّةَ لِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ لَا لِسَهْلٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَعُثْمَانُ تَأَخَّرَ بَعْدَ سَهْلٍ بِمُدَّةٍ وَكَذَلِكَ أَبُو طَلْحَةَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَدْرَكَهُمَا.

قَوْلُهُ: (لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ) ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَقِيلَ: يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْحَفَظَةُ فَإِنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَ الشَّخْصَ فِي كُلِّ حَاله، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ وَضَّاحٍ، وَالْخَطَّابِيُّ وَآخَرُونَ، لَكِنْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ، وَالْمُخَصِّصُ يَعْنِي الدَّالَّ عَلَى كَوْنِ الْحَفَظَةِ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنَ الدُّخُولِ لَيْسَ نَصًّا. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُطْلِعَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ وَيُسْمِعَهُمْ قَوْلَهُ وَهُمْ بِبَابِ الدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا مَثَلًا، وَيُقَابِلُ الْقَوْلُ بِالتَّعْمِيمِ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْمَلَائِكَةِ بِمَلَائِكَةِ الْوَحْيِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَذْكُرُهُ وَهُوَ شَاذٌّ.

قَوْلُهُ: (بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ) الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ الشَّخْصُ سَوَاءٌ كَانَ بِنَاءً أَوْ خَيْمَةً أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ كَلْبٍ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْي، وَذَهَبَ الْخَطَّابِيُّ وَطَائِفَةٌ إِلَى اسْتِثْنَاءِ الْكِلَابِ الَّتِي أُذِنَ فِي اتِّخَاذِهَا وَهِيَ كِلَابُ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ، وَجَنَحَ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ الْعُمُومِ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ، وَاسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِقِصَّةِ الْجَرْوِ الَّتِي تَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ، قَالَ: فَامْتَنَعَ جِبْرِيلُ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مَعَ ظُهُورِ الْعُذْرِ فِيهِ، قَالَ: فَلَوْ كَانَ الْعُذْرُ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الدُّخُولِ لَمْ يَمْتَنِعْ جِبْرِيلُ مِنَ الدُّخُولِ اهـ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا عَلِمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِاتِّخَاذِهِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِيمَا أُذِنَ فِي اتِّخَاذِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْكَلْبِ حَتَّى مَنَعَ الْمَلَائِكَةَ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَقِيلَ: لِكَوْنِهَا نَجِسَةُ الْعَيْنِ، وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَأَمَرَ بِنَضْحِ مَوْضِعِ الْكَلْبِ وَقِيلَ: لِكَوْنِهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَقِيلَ: لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا فَإِنَّهَا تُكْثِرُ أَكْلَ النَّجَاسَةِ وَتَتَلَطَّخُ بِهَا فَيَتنجَّسُ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَحْمِلُ مَنْ لَا يَقُولُ إِنَّ الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ نَضْحَ مَوْضِعِهِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ النَّضْحَ مَشْرُوعٌ لِتَطْهِيرِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمَلَائِكَةِ فَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَأَيَّدَهُ النَّوَوِيُّ بِقِصَّةِ جِبْرِيلَ الْآتِي ذِكْرُهَا، فَقِيلَ: يُسْتَثْنَى الْحَفَظَةُ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِجَوَازِ أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَعَ اسْتِمْرَارِ الْكِتَابَةِ بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى بَابِ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ

ص: 381

نَزَلَ مِنْهُمْ بِالرَّحْمَةِ، وَقِيلَ: مَنْ نَزَلَ بِالْوَحْيِ خَاصَّةً كَجِبْرِيلَ، وَهَذَا نَقْلٌ عَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ، وَالدَّاوُدِيُّ وَغَيْرِهِمَا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ النَّهْيِ بِعَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ الْوَحْيَ انْقَطَعَ بَعْدَهُ وَبِانْقِطَاعِهِ انْقَطَعَ نُزُولُهُمْ. وَقِيلَ: التَّخْصِيصُ فِي الصِّفَةِ أَيْ لَا يَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ دُخُولَهُمْ بَيْتَ مَنْ لَا كَلْبَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَصَاوِيرُ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ الْمَاضِيَةِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَا صُورَةٌ. بِالْإِفْرَادِ، وَكَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ. وَفَائِدَةُ إِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ الِاحْتِرَازُ مِنْ تَوَهُّمِ الْقَصْرِ فِي عَدَمِ الدُّخُولِ عَلَى اجْتِمَاعِ الصِّنْفَيْنِ، فَلَا يَمْتَنِعُ الدُّخُولُ مَعَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا، فَلَمَّا أُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ صَارَ التَّقْدِيرُ وَلَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالصُّورَةُ الَّتِي لَا تُدْخِلُ الْمَلَائِكَةَ الْبَيْتَ الَّذِي هِيَ فِيهِ مَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الرُّوحُ مِمَّا لَمْ يُقْطَعْ رَأْسُهُ أَوْ لَمْ يُمْتَهَنْ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي بَابِ مَا وُطِئَ مِنَ التَّصَاوِيرِ بَعْدَ بَابَيْنِ، وَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى تَقْوِيَةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ فِي بَابِ لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَأَغْرَبَ ابْنُ حِبَّانَ فَادَّعَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَهُوَ نَظِيرُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ قَالَ: فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى رُفْقَةٍ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ مُحَالٌ أَنْ يَخْرُجَ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ لِقَصْدِ بَيْتِ اللَّهِ عز وجل عَلَى رَوَاحِلَ لَا تَصْحَبُهَا الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ وَفْدُ اللَّهِ، انْتَهَى. وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ جِدًّا لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَيُزِيلُ شُبْهَتَهُ أَنَّ كَوْنَهُمْ وَفْدُ اللَّهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُؤَاخَذهم بِمَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنْ خَطِيئَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُحْرَمُوا بَرَكَةَ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ مُخَالَطَتِهِمْ لَهُمْ إِذَا ارْتَكَبُوا النَّهْيَ وَاسْتَصْحَبُوا الْجَرَسَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَنْ يَقْتَنِي الصُّورَةَ وَالْكَلْبَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ كَوْنُ الْمَلَائِكَةِ لَا تَدْخُلُ الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ التَّصَاوِيرُ مَعَ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى عِنْدَ ذِكْرِ سُلَيْمَانَ عليه السلام {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ صُوَرًا مِنْ نُحَاسٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ مِنْ خَشَبٍ وَمِنْ زُجَاجٍ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ وَكَانُوا يَعْمَلُونَ أَشْكَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ عَلَى هَيْئَتِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ لِيَتَعَبَّدُوا كَعِبَادَتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِمْ حَرَامًا ثُمَّ جَاءَ شَرْعُنَا بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّمَاثِيلَ كَانَتْ عَلَى صُورَةِ النُّقُوشِ لِغَيْرِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمَلًا لَمْ يَتَعَيَّنِ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُشْكِلِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي كَانَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ التَّصَاوِيرِ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةِ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ مَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ شَرُّ الْخَلْقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ صُوَرِ الْحَيَوَانِ فِعْلٌ مُحْدَثٌ أَحْدَثَهُ عُبَّادُ الصُّوَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌89 - باب عَذَابِ الْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

5950 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ مَسْرُوقٍ فِي دَارِ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ فَرَأَى فِي صُفَّتِهِ تَمَاثِيلَ فَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ.

5951 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ

ص: 382

رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ".

[الحديث 5951 - طرفه في: 7558]

قَوْلُهُ: (بَابُ عَذَابِ الْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيِ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الصُّوَرَ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: الْأَوَّلُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُسْلِمٍ) هُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ أَبُو الضُّحَى وَهُوَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَرُ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمَ بْنَ عِمْرَانَ الْبَطِينَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى.

قَوْلُهُ: (كُنَّا مَعَ مَسْرُوقٍ) هُوَ ابْنُ الْأَجْدَعِ.

قَوْلُهُ: (فِي دَارِ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ) هُوَ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ، وَأَبُوهُ بِنُونٍ مُصَغَّرٌ ; وَيَسَارٌ مَدَنِيٌّ سَكَنَ الْكُوفَةَ وَكَانَ مَوْلَى عُمَرَ وَخَازِنَهُ، وَلَهُ رِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ غَيْرِهِ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو وَائِلٍ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَهُوَ مُوَثَّقٌ وَلَمْ أَرَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعَ.

قَوْلُهُ: (فَرَأَى فِي صُفَّتِهِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى عِنْدَ مُسْلِمٍ كُنْتُ مَعَ مَسْرُوقٍ فِي بَيْتٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ فَقَالَ لِي مَسْرُوقٌ: هَذِهِ تَمَاثِيلُ كِسْرَى، فَقُلْتُ: لَا هَذِهِ تَمَاثِيلُ مَرْيَمَ كَأَنَّ مَسْرُوق ظَنَّ أَنَّ التَّصْوِيرَ كَانَ مِنْ مَجُوسِيٍّ، وَكَانُوا يُصَوِّرُونَ صُورَةَ مُلُوكِهِمْ حَتَّى فِي الْأَوَانِي، فَظَهَرَ أَنَّ التَّصْوِيرَ كَانَ مِنْ نَصْرَانِيٍّ لِأَنَّهُمْ يُصَوِّرُونَ صُورَةَ مَرْيَمَ وَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمَا وَيَعْبُدُونَهَا.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ الْمُصَوِّرُونَ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَدَلَ قَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ، فَلَعَلَّ الْحُمَيْدِيَّ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ بِدَلِيلِ مَا وَقَعَ فِي التَّرْجَمَةِ، أَوْ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَ بِهِ بِلَفْظِ عِنْدَ اللَّهِ، وَالتَّرْجَمَةُ مُطَابِقَةٌ لِلَّفْظِ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ثَانِي حَدِيث الْبَابِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ حُكْمُ اللَّهِ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ وَاخْتَلَفَت نَسْخُه فَفِي بَعْضِهَا الْمُصَوِّرِينَ وَهِيَ لِلْأَكْثَرِ، وَفِي بَعْضِهَا الْمُصَوِّرُونَ وَهِيَ لِأَحْمَدَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ أَيْضًا، وَوُجِّهَتْ بِأَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ وَاسْمُ إِنَّ أَشَدُّ، وَوَجَّهَهَا ابْنُ مَالِكٍ عَلَى حَذْفِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إِلَخْ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ كَوْنُ الْمُصَوِّرِ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا مَعَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُصَوِّرُ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَجَابَ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا مَنْ يُصَوِّرُ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُوَ عَارِفٌ بِذَلِكَ قَاصِدًا لَهُ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُدْخَلَ مُدْخَلَ آلِ فِرْعَوْنَ وَأَمَّا مَنْ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا بِتَصْوِيرِهِ فَقَطْ.

وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِإِثْبَاتِ مِنْ ثَابِتَةٌ وَبِحَذْفِهَا مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَفْعَلُ التَّصْوِيرَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا كَانَ مُشْتَرِكًا مَعَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ آلِ فِرْعَوْنَ بِأَشَدِّ الْعَذَابِ بَلْ هُمْ فِي الْعَذَابِ الْأَشَدِّ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَذَابِ الْأَشَدِّ، وَقَوَّى الطَّحَاوِيُّ ذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَقَدْ وَقَعَ بَعْضُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُصَوِّرِ وَعَلَى مَنْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ هَجَا رَجُلًا فَهَجَا الْقَبِيلَةَ بِأَسْرِهَا. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فَكُلُّ

ص: 383

وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَشْتَرِكُ مَعَ الْآخَرِ فِي شِدَّةِ الْعَذَابِ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي مُخْتَصَرِ مُشْكِلِ الطَّحَاوِيِّ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الْوَعِيدَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ إِنْ وَرَدَ فِي حَقِّ كَافِرٍ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِكًا فِي ذَلِكَ مَعَ آلِ فِرْعَوْنَ وَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عَظَيمِ كُفْرِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ وَرَدَ فِي حَقِّ عَاصٍ فَيَكُونُ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْعُصَاةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى عِظَمِ الْمَعْصِيَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ بِأَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ أَشَدُّ لَا يُرَادُ بِهِمْ كُلُّ النَّاسِ بَلْ بَعْضُهُمْ، وَهُمْ مَنْ يُشَارِكُ فِي الْمَعْنَى الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ، فَفِرْعَوْنُ أَشَدُّ النَّاسِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِلَهِيَّةَ عَذَابًا، وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي ضَلَالَةِ كُفْرِهِ أَشَدُّ عَذَابًا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي ضَلَالَةِ فِسْقِهِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً ذَاتَ رُوحٍ لِلْعِبَادَةِ أَشَدُّ عَذَابًا مِمَّنْ يُصَوِّرُهَا لَا لِلْعِبَادَةِ. وَاسْتَشْكَلَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَيْضًا بِإِبْلِيسَ وَبِابْنِ آدَمَ الَّذِي سَنَّ الْقَتْلَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ فِي إِبْلِيسَ وَاضِحٌ، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى آدَمَ، وَأَمَّا فِي ابْنِ آدَمَ فَأُجِيبَ بِأَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّهِ أَنَّ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ يَقْتُلُ ظُلْمًا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي مِثْلِ تَعْذِيبِهِ مَنِ ابْتَدَأَ الزِّنَا مَثَلًا فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنْ يَزْنِي بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ عَدَدَ الزُّنَاةِ أَكْثَرُ مِنَ الْقَاتِلِينَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: تَصْوِيرُ صُورَةِ الْحَيَوَانِ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَسَوَاءٌ صَنَعَهُ لِمَا يُمْتَهَنُ أَمْ لِغَيْرِهِ فَصُنْعُهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ أَوْ فَلْسٍ أَوْ إِنَاءٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَأَمَّا تَصْوِيرُ مَا لَيْسَ فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ التَّعْمِيمَ فِيمَا لَهُ ظِلٌّ وَفِيمَا لَا ظِلَّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّكُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَا يَدَعُ بِهَا وَثَنًا إِلَّا كَسَرَهُ، وَلَا صُورَةً إِلَّا لَطَّخَهَا، أَيْ طَمَسَهَا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: مَنْ عَادَ إِلَى صَنْعَةِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا عُظِّمَتْ عُقُوبَةُ الْمُصَوِّرِ لِأَنَّ الصُّوَرَ كَانَتْ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ; وَلِأَنَّ النَّظَرَ إِلَيْهَا يَفْتِنُ، وَبَعْضُ النُّفُوسِ إِلَيْهَا تَمِيلُ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالصُّوَرِ هُنَا التَّمَاثِيلُ الَّتِي لَهَا رُوحٌ وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ، فَالْعَذَابُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُؤْلِمُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَالْعَتْبِ وَالْإِنْكَارِ، وَالْعِقَابُ يَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُصَوِّرِ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ عُقُوبَةً. هَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي الْغُرَرِ وَتُعُقِّبَ بِالْآيَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا انْبَنَى الْإِشْكَالُ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ عَرَّجَ عَلَيْهَا، فَلِهَذَا ارْتَضَى التَّفْرِقَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ عَلَى تَكْفِيرِ الْمُشَبِّهَةِ فَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ الْمُصَوِّرُونَ، أَيِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِلَّهِ صُورَةً. وَتُعُقِّبَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ فِي الْبَابِ بِلَفْظِ إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّورَةَ يُعَذَّبُونَ وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي بَعْدَ بَابَيْنِ بِلَفْظِ إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ سَلِمَ لَهُ اسْتِدْلَالُهُ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْإِشْكَالُ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ.

وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِمَنْ صَوَّرَ قَاصِدًا أَنْ يُضَاهِيَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ كَافِرًا، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ مَا وُطِئَ مِنَ التَّصَاوِيرِ بِلَفْظِ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ، لَكِنْ إِثْمُهُ دُونَ إِثْمِ الْمُضَاهِي. قُلْتُ: وَأَشَدُّ مِنْهُ مَنْ يُصَوِّرُ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَعْمَلُونَ الْأَصْنَامَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَق إِنَّ بَعْضَهُمْ عَمِلَ صَنَمَهُ مِنْ عَجْوَةٍ ثُمَّ جَاعَ فَأَكَلَهُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي:

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) هُوَ أَمْرُ تَعْجِيزٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ صِفَةُ تَعْذِيبِ الْمُصَوِّرِ، وَهُوَ أَنْ يُكَلَّفَ نَفْخَ الرُّوحِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي صَوَّرَهَا، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَسْتَمِرُّ تَعْذِيبُهُ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي بَابِ مَنْ صَوَّرَ صُورَةً بَعْدَ أَبْوَابٍ.

ص: 384

‌90 - بَاب نَقْضِ الصُّوَرِ

5952 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَال بُ إِلَّا نَقَضَهُ.

5953 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ، فَرَأَى في أَعْلَاهَا مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً. ثُمَّ دَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى بَلَغَ إِبْطَهُ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مُنْتَهَى الْحِلْيَةِ.

[الحديث 5953 - طرفه في: 7559]

قَوْلُهُ: (بَابُ نَقْضِ الصُّوَرِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْقَافِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَالصُّوَرُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ جَمْعُ صُورَةٍ، وَحُكِيَ سُكُونُ الْوَاوِ فِي الْجَمْعِ أَيْضًا. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ.

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتَوَائِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ اللِّبَاسِ. وَفِي قَوْلِهِ: أنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ رَدٌّ عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي قَوْلِهِ إِنَّ عِمْرَانَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ سَرْحٍ، عَنْ عِمْرَانَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ فَذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ. وَفِي الطَّبَرِيِّ الصَّغِيرِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِمْرَانَ قَالَتْ لِي عَائِشَةُ وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ اللِّبَاسِ لَهُ حَدِيثٌ آخَرُ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِسُؤَالِهِ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَال بُ) جَمْعُ صَلِيبٍ، كَأَنَّهُمْ سَمَّوْا مَا كَانَتْ فِيهِ صُورَةُ الصَّلِيبِ تَصْلِيبًا تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ شَيْئًا فِيهِ تَصْلِيبٌ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تَصَاوِيرُ بَدَلَ تَصَال بَ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَثْبَتُ، قَفَدَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامٍ فَقَالَ: تَصَال بُ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ أَبَانَ الْعَطَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَاجُ إِلَى مُطَابَقَةِ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ نَقْضِ الصَّلِيبِ نَقْضَ الصُّورَةِ الَّتِي تَشْتَرِكُ مَعَ الصَّلِيبِ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ عِبَادَتُهُمَا مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالصُّوَرِ فِي التَّرْجَمَةِ خُصُوصَ مَا يَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ، بَلْ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا نَقَضَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبَانَ إِلَّا قَضَبَهُ، بِتَقْدِيمِ الْقَافِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةُ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةُ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ هِشَامٍ وَرَجَّحَهَا بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ وَعَكَسَهُ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَضْبَطُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ أَوْلَى. قُلْتُ: وَيَتَرَجَّحُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ النَّقْضَ يُزِيلُ الصُّورَةَ مَعَ بَقَاءِ الثَّوْبِ عَلَى حَالِهِ، وَالْقَضْبُ وَهُوَ الْقَطْعُ يُزِيلُ صُورَةَ الثَّوْبِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْقُضُ الصُّورَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا لَهُ ظِلٌّ أَو لَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تُوطَأُ أَمْ لَا، سَوَاء فِي الثِّيَابِ وَفِي الْحِيطَانِ وَفِي الْفُرُشِ وَالْأَوْرَاقِ وَغَيْرِهَا.

قُلْتُ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ تَصَاوِيرَ وَأَمَّا بِلَفْظِ تَصَالِيبَ فَلَا؛ لِأَنَّ فِي التَّصَالِيبَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مُطْلَقِ الصُّوَرِ ; لِأَنَّ الصَّلِيبَ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِخِلَافِ الصُّوَرِ فَلَيْسَ جَمِيعُهَا مِمَّا عُبِدَ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ فَرَّقَ فِي الصُّوَرِ بَيْنَ مَا لَهُ رُوحٌ فَمَنَعَهُ وَمَا لَا رُوحَ فِيهِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ. فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّقْضِ الْإِزَالَةَ دَخَلَ طَمْسُهَا فِيمَا لَوْ كَانَتْ نَقْشًا فِي

ص: 385

الْحَائِطِ أَوْ حَكَّهَا أَوْ لَطْخَهَا بِمَا يُغَيِّبُ هَيْئَتَهَا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي:

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَعُمَارَةُ هُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ) هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ.

قَوْلُهُ: (دَخَلْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ) جَاءَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الْمَذْكُورِ حَدِيثٌ آخَرُ بِسَنَدٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُجَيٍّ بِنُونٍ وَجِيمٍ مُصَغَّرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَفَعَهُ لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ.

قَوْلُهُ: (دَارًا بِالْمَدِينَةِ) هِيَ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ عُمَارَةَ دَارًا تُبْنَى لِسَعِيدٍ أَوْ لِمَرْوَانَ بِالشَّكِّ، وَسَعِيدٌ هُوَ ابْنُ الْعَاصِ بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، وَكَانَ هُوَ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ يَتَعَاقَبَانِ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ لِمُعَاوِيَةَ، وَالرِّوَايَةُ الْجَازِمَةُ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَقَوْلُهُ: يُصَوِّرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ لِلْجَمِيعِ، وَضَبَطَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا هَذَا وَالْآخَرُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ ثُمَّ رَاءٍ مُنَوَّنَةٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي) هَكَذَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ وَقَعَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ مَا يُذْكَرُ فِي الْمِسْكِ وَفِيهِ حَذْفٌ بَيَّنَهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ الْمَذْكُورَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ أَظْلَمُ إِلَخْ، وَنَحْوَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ، وَقَوْلُهُ: ذَهَبَ أَيْ قَصَدَ وَقَوْلُهُ: كَخَلْقِي التَّشْبِيهُ فِي فِعْلِ الصُّورَةِ وَحْدَهَا لَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَهِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ التَّصْوِيرَ يَتَنَاوَلُ مَا لَهُ ظِلٌّ وَمَا لَيْسَ لَهُ ظِلٌّ، فَلِهَذَا أَنْكَرَ مَا يُنْقَشُ فِي الْحِيطَانِ. قُلْتُ: هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْصَرَ عَلَى مَا لَهُ ظِلٌّ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ: كَخَلْقِي فَإِنَّ خَلْقَهُ الَّذِي اخْتَرَعَهُ لَيْسَ صُورَةً فِي حَائِطٍ بَلْ هُوَ خَلْقٌ تَامٌّ، لَكِنْ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ تَقْتَضِي تَعْمِيمَ الزَّجْرِ عَنْ تَصْوِيرِ كُلِّ شَيْءٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ إِيجَادُ حَبَّةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا تَصْوِيرُهَا. وَوَقَعَ لِابْنِ فُضَيْلٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَلْيَخْلُقُوا شَعْرَةً، وَالْمُرَادُ بِالْحَبَّةِ حَبَّةُ الْقَمْحِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الشَّعِيرِ، أَوِ الْحَبَّةُ أَعَمُّ، وَالْمُرَادُ بِالذَّرَّةِ النَّمْلَةُ، وَالْغَرَضُ تَعْجِيزُهُمْ تَارَةً بِتَكْلِيفِهِمْ خَلْقَ حَيَوَانٍ وَهُوَ أَشَدُّ وَأُخْرَى بِتَكْلِيفِهِمْ خَلْقَ جَمَادٍ وَهُوَ أَهْوَنُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَعَا بِتَوْرٍ) أَيْ طَلَبَ تَوْرًا، وَهُوَ بِمُثَنَّاةٍ إِنَاءٌ كَالطَّسْتِ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ مَاءٍ) أَيْ فِيهِ مَاءٌ.

قَوْلُهُ: (فَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى بَلَغَ إِبْطَهُ) فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اخْتِصَارٌ وَبَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ بِلَفْظِ فَتَوَضَّأَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَغَسَلَ يَدَهُ حَتَّى إِبْطِهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ رُكْبَتَيْهِ أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَقَدَّمَ قِصَّةَ الْوُضُوءِ عَلَى قِصَّةِ الْمُصَوِّرِ، ولَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ قِصَّةَ الْوُضُوءِ هُنَا.

قَوْلُهُ: (مُنْتَهَى الْحِلْيَةِ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ إِنَّهُ مُنْتَهَى الْحِلْيَةِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الطَّهَارَةِ فِي فَضلِ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ فِي الْوُضُوءِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيث الْآخَرُ تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، وَالْبَحْثُ فِي ذَلِكَ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ. وَلَيْسَ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ التَّصْوِيرِ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ مِنْ وُضُوءِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُنَاسَبَةٌ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَبُو زُرْعَةَ بِمَا شَاهَدَ وَسَمِعَ مِنْ ذَلِكَ.

‌91 - بَاب مَا وُطِئَ مِنْ التَّصَاوِيرِ

5954 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ - وَمَا بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ مِنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ

ص: 386

بِقِرَامٍ لِي عَلَى سَهْوَةٍ لِي فِيهَا تَمَاثِيلُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَتَكَهُ، وَقَالَ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ. قَالَتْ: فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ.

5955 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ وَعَلَّقْتُ دُرْنُوكًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَنْزِعَهُ، فَنَزَعْتُهُ.

5956 -

وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا وُطِئَ مِنَ التَّصَاوِيرِ) أَيْ هَلْ يُرَخَّصُ فِيهِ؟ وَوُطِئَ بِضَمِّ الْوَاوِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ صَارَ يُدَاسُ عَلَيْهِ وَيُمْتَهَنُ.

قَوْلُهُ: (الْقَاسِمُ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ سَفَرٍ) فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهَا غَزْوَةُ تَبُوكَ، وَفِي أُخْرَى لِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ عَلَى الشَّكِّ.

قَوْلُهُ: (بِقِرَامٍ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ: هُوَ سِتْرٌ فِيهِ رَقْمٌ وَنَقْشٌ، وَقِيلَ: ثَوْبٌ مِنْ صُوفٍ مُلَوَّنٍ يُفْرَشُ فِي الْهَوْدَجِ أَوْ يُغَطَّى بِهِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى سَهْوَةٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ هِيَ صِفَةٌ مِنْ جَانِبِ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: الْكُوَّةُ، وَقِيلَ: الرَّفُّ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ أَعْوَادٍ أَوْ ثَلَاثَةٌ يُعَارَضُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَقِيلَ: أنْ يُبْنَى مِنْ حَائِطِ الْبَيْتِ حَائِطٌ صَغِيرٌ وَيُجْعَلُ السَّقْفُ عَلَى الْجَمِيعِ فَمَا كَانَ وَسَطَ الْبَيْتِ فَهُوَ السَّهْوَةُ وَمَا كَانَ دَاخِلَهُ فَهُوَ الْمِخْدَعُ، وَقِيلَ: دُخْلَةٌ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: بَيْتٌ صَغِيرٌ يُشْبِهُ الْمِخْدَعَ، وَقِيلَ: بَيْتٌ صَغِيرٌ مُنْحَدِرٌ فِي الْأَرْضِ وَسُمْكُهُ مُرْتَفِعٌ مِنَ الْأَرْضِ كَالْخِزَانَةِ الصَّغِيرَةِ يَكُونُ فِيهَا الْمَتَاعُ، وَرَجَّحَ هَذَا الْأَخِيرَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ أَنَّهَا عَلَّقَتْهُ عَلَى بَابِهَا، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ السَّهْوَةَ بَيْتٌ صَغِيرٌ عَلَّقَتِ السِّتْرَ عَلَى بَابِهِ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ تَمَاثِيلُ) بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ جَمْعُ تِمْثَالٍ وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُصَوَّرُ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاخِصًا أَوْ يَكُونَ نَقْشًا أَوْ دِهَانًا أَوْ نَسْجًا فِي ثَوْبٍ، وَفِي رِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهَا نَصَبَتْ سِتْرًا فِيهِ تَصَاوِيرُ.

قَوْلُهُ: (هَتَكَهُ) أَيْ نَزَعَهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَأَمَرَنِي أَنْ أَنْزِعَهُ فَنَزَعْتُهُ.

قَوْلُهُ: (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ) أَيْ يُشَبِّهُونَ مَا يَصْنَعُونَ بِمَا يَصْنَعُهُ اللَّهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنِ: الْقَاسِمِ عِنْدَ مُسْلِمٍ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: أَشَدُّ قَبْلُ بِبَابٍ.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَظَالِمِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بِهَذَا السَّنَدِ، قَالَتْ: فَاتَّخَذْتُ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتَا فِي الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ فَأَخَذَتْهُ فَجَعَلَتْهُ مِرْفَقَتَيْنِ، فَكَانَ يَرْتَفِقُ بِهِمَا فِي الْبَيْتِ وَالنُّمْرُقَةُ يَأْتِي ضَبْطُهَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ فَقَطَعَتْهُ وِسَادَتَيْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ يُقَالُ لَهُ رَبِيعَةُ بْنُ عَطَاءٍ: أَفَمَا سَمِعْتَ أَبَا مُحَمَّدٍ - يُرِيدُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ - يَذْكُرُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْتَفِقُ عَلَيْهِمَا؟ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ: لَا. قَالَ: لَكِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ) هُوَ الْخُرَيْبِيُّ بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (دُرْنُوكًا) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَلَى بَابِي وَالدُّرْنُوكُ بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا نُونٌ مَضْمُومَةٌ ثُمَّ كَافٌ وَيُقَالُ فِيهِ دُرْمُوكٌ بِالْمِيمِ بَدَلَ النُّونِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ ثَوْبٌ غَلِيظٌ لَهُ خَمْلٌ إِذَا فُرِشَ فَهُوَ بِسَاطٌ، وَإِذَا عُلِّقَ

ص: 387

فَهُوَ سِتْرٌ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ تَمَاثِيلُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِيهِ الْخَيْلُ ذَوَاتُ الْأَجْنِحَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ إِذَا كَانَتْ لَا ظِلَّ لَهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا يُوطَأُ وَيُدَاسُ أَوْ يُمْتَهَنُ بِالِاسْتِعْمَالِ كَالْمَخَادِّ وَالْوَسَائِدِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا لَهُ ظِلٌّ وَمَا لَا ظِلَّ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حَائِطٍ أَوْ مَلْبُوسًا أَوْ عِمَامَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ مُمْتَهَنًا فَهُوَ حَرَامٌ. قُلْتُ: وَفِيمَا نَقَلَهُ مُؤَاخَذَاتٌ: مِنْهَا أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ نَقَلَ أَنَّ الصُّورَةَ إِذَا كَانَ لَهَا ظِلٌّ حَرُمَ بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يُمْتَهَنُ أَو لَا، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مَحَلُّهُ غَيْرِ لُعَبِ الْبَنَاتِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي بَابِ مَنْ صَوَّرَ صُورَةً وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فِي الصُّوَرِ الَّتِي لَا تُتَّخَذُ لِلْإِبْقَاءِ كَالْفَخَّارِ قَوْلَيْنِ أَظْهَرُهُمَا الْمَنْعُ. قُلْتُ: وَهَلْ يَلْتَحِقُ مَا يُصْنَعُ مِنَ الْحَلْوَى بِالْفَخَّارِ، أَوْ بِلُعَبِ الْبَنَاتِ؟ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ. وَصَحَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي لَا ظِلَّ لَهَا إِذَا بَقِيَتْ عَلَى هَيْئَتِهَا حَرُمَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يُمْتَهَنُ أَمْ لَا، وَإِنْ قَطَعَ رَأْسَهَا أَوْ فُرِّقَتْ هَيْئَتُهَا جَازَ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَنْقُولٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ، وَقَدْ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ النُّمْرُقَةِ - يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ - وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ.

وَمِنْهَا أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَ وَجْهًا أَنَّ الَّذِي يُرَخَّصُ فِيهِ مِمَّا لَا ظِلَّ لَهُ مَا كَانَ عَلَى سِتْرٍ أَوْ وِسَادَةٍ، وَأَمَّا مَا عَلَى الْجِدَارِ وَالسَّقْفِ فَيُمْنَعُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَصِيرُ مُرْتَفِعًا فَيَخْرُجُ عَنْ هَيْئَةِ الِامْتِهَانِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يُمْتَهَنَ، وَتُسَاعِدُهُ عِبَارَةُ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ صُورَةٌ ذَاتُ رُوحٍ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الصُّورَةَ إِذَا قُطِعَ رَأْسُهَا ارْتَفَعَ الْمَانِعُ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ لَا فَرْقَ. وَمِنْهَا أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ الصُّورَةِ فِي الثَّوْبِ وَلَوْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى مَا فِي خَبَرِ أَبِي طَلْحَةَ، لَكِنْ إِنْ سُتِرَ بِهِ الْجِدَارُ مُنِعَ عِنْدَهُمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْمَمْنُوعَ مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ، وَأَمَّا مَا لَا ظِلَّ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِاتِّخَاذِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ السِّتْرَ الَّذِي أَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَتِ الصُّورَةُ فِيهِ بِلَا ظِلٍّ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِنَزْعِهِ.

قُلْتُ: الْمَذْهَبُ الْمَذْكُورُ نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَفْظُهُ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْقَاسِمِ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فِي بَيْتِهِ، فَرَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ حَجَلَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ الْقُنْدُسِ وَالْعَنْقَاءِ فَفِي إِطْلَاقِ كَوْنِهِ مَذْهَبًا بَاطِلًا نَظَرٌ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ فِي ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا أَوْ مَفْرُوشًا، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ إِنْكَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ تَعْلِيقَ السِّتْرِ الْمَذْكُورِ مُرَكَّبًا مِنْ كَوْنِهِ مُصَوَّرًا وَمِنْ كَوْنِهِ سَاتِرًا لِلْجِدَارِ، يُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ. دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ لَكِنْ قَالَ: فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ. قَالَ: فَقَطَعْنَا مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ الْحَدِيثَ ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ سَتْرَ الْجِدَارِ بِالثَّوْبِ الْمُصَوَّرِ، فَلَا يُسَاوِيهِ الثَّوْبُ الْمُمْتَهَنُ وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ صُورَةٌ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ الَّذِي لَا يُسْتَرُ بِهِ الْجِدَارُ. وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ النُّمْرُقَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ فَهِمَ الرُّخْصَةَ فِي مِثْلِ الْحَجَلَةِ مَا اسْتَجَازَ اسْتِعْمَالَهَا ; لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ، وَأَنَّ الَّذِي رُخِّصَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يُمْتَهَنُ، لَا مَا كَانَ مَنْصُوبًا.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ فِي التَّصَاوِيرِ فِي الْبُسُطِ وَالْوَسَائِدِ الَّتِي تُوطَأُ ذُلٌّ لَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا نُصِبَ مِنَ التَّمَاثِيلِ نَصْبًا، وَلَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِمَا وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَرَّقَهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا بَأْسَ

ص: 388

بِالصُّورَةِ إِذَا كَانَتْ تُوطَأُ. وَمِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَانَ يَتَّكِئُ عَلَى الْمَرَافِقِ فِيهَا التَّمَاثِيلُ الطَّيْرُ وَالرِّجَالُ.

قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ (وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ) كَذَا أَوْرَدَهُ عَقِبَ حَدِيثِ التَّصْوِيرِ، وَهُوَ حَدِيثٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ قَدْ أَفْرَدَهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَأَخْرَجَهُ عَقِبَ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صِفَةِ الْغُسْلِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ سَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ فَأَوْرَدَهُ كَمَا هُوَ وَاغْتُفِرَ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْمَتْنِ قَصِيرًا مَعَ أَنَّ كَثْرَةَ عَادَتِهِ التَّصَرُّفُ فِي الْمَتْنِ بِالِاخْتِصَارِ وَالِاقْتِصَارِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الدُّرْمُوكَ كَانَ فِي بَابِ الْمُغْتَسَلِ، أَوِ اقْتَضَى الْحَالُ ذِكْرَ الِاغْتِسَالِ إِمَّا بِحَسَبِ سُؤَالٍ وَإِمَّا بِغَيْرِهِ.

‌92 - بَاب مَنْ كَرِهَ الْقُعُودَ عَلَى الصُّورَةِ

5957 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ فَقُلْتُ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ ماذا أَذْنَبْتُ؟ قَالَ: مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ؟ قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا. قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ الصُّورَةُ.

5958 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صورَةُ. قَالَ بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ فَعُدْنَاهُ، فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ الخولاني رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنْ الصُّوَرِ يَوْمَ الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَالَ: إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا عَمْرٌو هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ بُكَيْرٌ بُسْرٌ حَدَّثَهُ زَيْدٌ حَدَّثَهُ أَبُو طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ كَرِهَ الْقُعُودَ عَلَى الصُّوَرِ) أَيْ وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا تُوطَأُ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (جُوَيْرِيَةُ) بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ مُصَغَّرٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (نَمْرُقَةٌ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَضَمِّ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ كَذَا ضَبَطَهَا الْقَزَّازُ وَغَيْرُهُ، وَضَبَطَهَا ابْنُ السِّكِّيتِ بِضَمِّ النُّونِ أَيْضًا وَبِكَسْرِهَا وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَقِيلَ: فِي النُّونِ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ، وَالرَّاءُ مَضْمُومَةٌ جَزْمًا وَالْجَمْعُ نَمَارِقُ، وَهِيَ الْوَسَائِدُ الَّتِي يُصَفُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَقِيلَ: النُّمْرُقَةُ الْوِسَادَةُ الَّتِي يُجْلَسُ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَدْخُلْ) زَادَ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ فَعَرَفْتُ الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِهِ.

قَوْلُهُ: (أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مَاذَا أَذْنَبْتُ) يُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا إِجْمَالًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرِ التَّائِبُ خُصُوصَ الذَّنْبِ الَّذِي حَصَلَتْ بِهِ مُؤَاخَذَتُهُ.

قَوْلُهُ: (مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ مَا بَالُ هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيْهَا) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ اشْتَرَيْتُهَا لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (وَتَوَسَّدَهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَصْلُهُ تَتَوَسَّدُهَا.

قَوْلُهُ: (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ إِلَخْ) وَفِيهِ أنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ الصُّوَرُ وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمُطَابِقَةُ لِامْتِنَاعِهِ مِنَ الدُّخُولِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى عَلَيْهَا

ص: 389

اهْتِمَامًا بِالزَّجْرِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ ; لِأَنَّ الْوَعِيدَ إِذَا حَصَلَ لِصَانِعِهَا فَهُوَ حَاصِلٌ لِمُسْتَعْمِلِهَا ; لِأَنَّهَا لَا تُصْنَعُ إِلَّا لِتُسْتَعْمَلَ فَالصَّانِعُ مُتَسَبِّبٌ وَالْمُسْتَعْمِلُ مُبَاشِرٌ فَيَكُونُ أَوْلَى بِالْوَعِيدِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الصُّورَةُ لَهَا ظِلٌّ أَوْ لَا، وَلَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَدْهُونَةً أَوْ مَنْقُوشَةً أَوْ مَنْقُورَةً أَوْ مَنْسُوجَةً، خِلَافًا لِمَنِ اسْتَثْنَى النَّسْجَ وَادَّعَى أَنَّهُ لَيْسَ بِتَصْوِيرٍ، وَظَاهِرُ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ التعارض لأن الذي قبله يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ السِّتْرَ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ بَعْدَ أَنْ قُطِعَ وَعُمِلَتْ مِنْهُ الْوِسَادَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ أَصْلًا، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ اتِّخَاذِ مَا يُوطَأُ مِنَ الصُّوَرِ جَوَازُ الْقُعُودِ عَلَى الصُّورَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَعْمَلَ مِنَ الْوِسَادَةِ مَا لَا صُورَةَ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأَى التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْقُعُودِ وَالِاتِّكَاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّهَا لَمَّا قَطَعَتِ السِّتْرَ وَقَعَ الْقَطْعُ فِي وَسَطِ الصُّورَةِ مَثَلًا فَخَرَجَتْ عَنْ

هَيْئَتِهَا فَلِهَذَا صَارَ يَرْتَفِقُ بِهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْجَمْعَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ فِي نَقْضِ الصُّوَرِ وَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُخَرَّجُ فِي السُّنَنِ، وَسَأَذْكُرُهُ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ. وَسَلَكَ الدَّاوُدِيُّ فِي الْجَمْعِ مَسْلَكًا آخَرَ فَادَّعَى أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ نَاسِخٌ لِجَمِيعِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ فَيَكُونُ هُوَ النَّاسِخُ. قُلْتُ: وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلَا يُلْتَفَتُ لِدَعْوَى النَّسْخِ، وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ فَرَدَّهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الْخَبَرَ إِذَا قَارَنَهُ الْأَمْرُ جَازَ دُخُولُ النَّسْخِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ بُكَيْرٍ) بِالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ، وفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنِ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ وَكَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ اللَّيْثِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ بُسْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ أَنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ، وَقَدْ مَضَتْ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ) هُوَ الْجُهَنِيُّ الصَّحَابِيُّ، فِي رِوَايَةِ عَمْرٍو أَيْضًا أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ حَدَّثَهُ وَمَعَ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عُبَيْدُ اللَّهِ الْخَوْلَانِيُّ الَّذِي كَانَ فِي حِجْرِ مَيْمُونَةَ.

قَوْلُهُ: (أَبِي طَلْحَةَ) هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، وَفِي الْإِسْنَادِ تَابِعِيَّانِ فِي نَسَقٍ وَصَحَابِيَّانِ فِي نَسَقٍ، وَعَلَى رِوَايَةِ بُسْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيِّ لِلزِّيَادَةِ الْآتِي ذِكْرُهَا يَكُونُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ وَكُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ حَدَّثَهُ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ صُورَةٌ) كَذَا لِكَرِيمَةَ وَغَيْرِهَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ مَشَايِخِهِ إِلَّا الْمُسْتَمْلِي صُوَرٌ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فَإِذَا نَحْنُ فِي بَيْتِهِ بِسِتْرٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ وَهِيَ تُقَوِّي رِوَايَةَ أَبِي ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيِّ) أَيِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ كَمَا بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْأَسْوَدِ، وَيُقَالُ: ابْنُ أَسَدٍ، وَيُقَالُ لَهُ: رَبِيبُ مَيْمُونَةَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ رَبَّتْهُ، وَكَانَ مِنْ مَوَالِيهَا، وَلَمْ يَكُنِ ابْنَ زَوْجِهَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عُثْمَانَ.

قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْأَوَّلِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَوْمَ أَوَّلٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَالَ: إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ) فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَالَ: إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ، أَلَا سَمِعْتَهُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: بَلَى قَدْ ذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو بْنُ الْحَارِثِ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ وَصَلَهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِي رِوَايَتِهِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ نَعُودُهُ فَوَجَدْنَا عِنْدَهُ نُمْرُقَتَيْنِ فِيهِمَا تَصَاوِيرُ، وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: أَلَيْسَ حَديثنا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ زَيْدٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ قَالَ النَّوَوِيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِاسْتِثْنَاءِ الرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ مَا كَانَتِ

ص: 390

الصُّورَةُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ كَصُورَةِ الشَّجَرِ وَنَحْوِهَا اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّهْيِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَسَأَذْكُرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَاصِلُ مَا فِي اتِّخَاذِ الصُّوَرِ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ أَجْسَامٍ حَرُمَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ رَقْمًا فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مُطْلَقًا، عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ، الثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا حَتَّى الرَّقْمَ، الثَّالِثُ: إِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ بَاقِيَةَ الْهَيْئَةِ قَائِمَةَ الشَّكْلِ حَرُمَ وَإِنْ قُطِعَتِ الرَّأْسُ أَوْ تَفَرَّقَتِ الْأَجْزَاءُ جَازَ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، الرَّابِعُ: إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْتَهَنُ جَازَ وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا لَمْ يَجُزْ.

‌93 - بَاب كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي التَّصَاوِيرِ

5959 -

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمِيطِي عَنِّي، فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي التَّصَاوِيرِ) أَيْ: فِي الثِّيَابِ الْمُصَوَّرَةِ

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا) تَقَدَّمَ ضَبْطُ الْقِرَامِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (أَمِيطِي) أَيْ أَزِيلِي وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (تَعْرِضُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ: أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَشْغَلُنِي، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهَا كَانَ لَهَا ثَوْبٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ مَمْدُودٌ إِلَى سَهْوَةٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يُصَلِّي إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَخِّرِيهِ عَنِّي. وَوَجْهُ انْتِزَاعِ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الصُّوَرَ إِذَا كَانَتْ تُلْهِي الْمُصَلِّي وَهِيَ مُقَابِلَهُ فَكَذَا تُلْهِيهِ وَهُوَ لَابِسُهَا بَلْ حَالَةُ اللُّبْسِ أَشَدُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي بِمَعْنَى إِلَى فَتَحْصُلُ الْمُطَابَقَةُ وَهُوَ اللَّائِقُ بِمُرَادِهِ، فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا، فَنُقِلَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ إِلَى جِهَةٍ فِيهَا صُورَةٌ إِذَا كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مَقْطُوعَةَ الرَّأْسِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا فِي النُّمْرُقَةِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْخُلِ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ السِّتْرُ الْمُصَوَّرُ أَصْلًا حَتَّى نَزَعَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّهُ وَصَلَّى وَهُوَ مَنْصُوبٌ إِلَى أَنْ أَمَرَ بِنَزْعِهِ مِنْ أَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنْ رُؤْيَتِهِ الصُّورَةَ حَالَةَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِخُصُوصِ كَوْنِهَا صُورَةً. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَتْ تَصَاوِيرُهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ وَهَذَا كَانَتْ تَصَاوِيرُهُ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ.

‌94 - باب لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ

5960 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَعَدَ جبريل النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَاثَ عَلَيْهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيَهُ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا وَجَدَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي الْمُرَادِ بِالصُّورَةِ فِي بَابِ التَّصَاوِيرِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ إِنَّمَا لَمْ تَدْخُلِ الْمَلَائِكَةُ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ لِأَنَّ مُتَّخِذَهَا قَدْ تَشَبَّهَ بِالْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ

ص: 391

الصُّوَرَ فِي بُيُوتِهِمْ وَيُعَظِّمُونَهَا فَكَرِهَتِ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ فَلَمْ تَدْخُلْ بَيْتَهُ هَجْرًا لَهُ لِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَسَالِمٌ شَيْخُهُ هُوَ عَمُّ أَبِيهِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (وَعَدَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) زَادَتْ عَائِشَةُ فِي سَاعَةٍ يَأْتِيهِ فِيهَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (فَرَاثَ عَلَيْهِ) بِالْمُثَلَّثَةِ أَيْ أَبْطَأَ، فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأْتِهِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَفِي يَدِهِ عَصًا فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ وَقَالَ: مَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَا رُسُلُهُ وَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَفِيهِ أَنَّهُ أَصْبَحَ وَاجِمًا بِالْجِيمِ أَيْ مُنْقَبِضًا.

قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيَهُ فَشَكَا إِلَيْهِ مَا وَجَدَ) أَيْ مِنْ إِبْطَائِهِ (فَقَالَ لَهُ: إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِصَارٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَتَمُّ فَفِيهِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا جِرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ فَقَالَت: يَا عَائِشَةُ مَتَى دَخَلَ هَذَا الْكَلْبُ؟ فَقَالَتْ: وَأيْمُ اللَّهِ مَا دَرَيْتُ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: وَاعَدْتَنِي فَجَلَسْتُ لَكَ فَلَمْ تَأْتِ. فَقَالَ: مَنَعَنِي الْكَلْبُ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِكَ وَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ فَظَلَّ يَوْمَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ جِرْوُ كَلْبٍ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً فَنَضَحَ مَكَانَهُ، فَلَمَّا أَمْسَى لَقِيَهُ جِبْرِيلُ وَزَادَ فِيهِ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ أَتَمُّ سِيَاقًا مِنْهُ وَلَفْظُهُ: أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: أَتَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْبَابِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي عَلَى بَابِ الْبَيْتِ يُقْطَعْ فَيَصِيرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ فَلْيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَانِ مَنْبُوذَتَانِ تُوطَآنِ، وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: إِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوسُهَا أَوْ تُجْعَلَ بُسُطًا تُوطَأُ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي تَمْتَنِعُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ دُخُولِ الْمَكَانِ الَّتِي تَكُونُ فِيهِ بَاقِيَةٌ عَلَى هَيْئَتِهَا مُرْتَفِعَةٌ غَيْرُ مُمْتَهَنَةٍ، فَأَمَّا لَوْ كَانَتْ مُمْتَهَنَةً أَوْ غَيْرَ مُمْتَهَنَةٍ لَكِنَّهَا غُيِّرَتْ مِنْ هَيْئَتِهَا إِمَّا بِقَطْعِهَا مِنْ نِصْفِهَا أَوْ بِقَطْعِ رَأْسِهَا فَلَا امْتِنَاعَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْمَاضِي قِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ صُورَةٌ إِنْ كَانَتْ رَقْمًا فِي الثَّوْبِ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَنْعُ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَحَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ عَلَى مُطْلَقِ الْجَوَازِ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْكَرَاهَةَ. قُلْتُ: وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ ; لَكِنَّ الْجَمْعَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْلَى مِنْهُ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

‌95 - باب مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ

5961 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ فَعَرَفَتْ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ قَالَ: مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ فَقَالَتْ: اشْتَرَيْتُهَا لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ. وَقَالَ: إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي النُّمْرُقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ مَنْ كَرِهَ

ص: 392

الْقُعُودَ عَلَى التَّصَاوِيرِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَفِي دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ وَجْهَانِ: قَالَ الْأَكْثَرُ: يُكْرَهُ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَحْرُمُ، فَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ فِي مَمَرِّ الدَّارِ لَا دَاخِلَ الدَّارِ كَمَا فِي ظَاهِرِ الْحَمَّامِ أَوْ دِهْلِيزِهَا لَا يَمْتَنِعُ الدُّخُولُ، قَالَ: وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الصُّورَةَ فِي الْمَمَرِّ مُمْتَهَنَةٌ وَفِي الْمَجْلِسِ مُكْرَمَةٌ. قُلْتُ: وَقِصَّةُ إِطْلَاقِ نَصِّ الْمُخْتَصَرِ وَكَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِمَا لَا فَرْقَ.

‌96 - بَاب مَنْ لَعَنَ الْمُصَوِّرَ

5962 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي محمد بن جعفر غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ اشْتَرَى غُلَامًا حَجَّامًا فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الْبَغِيِّ، وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَالْمُصَوِّرَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَعَنَ الْمُصَوِّرَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي جُحَيْفَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْوَاشِمَةِ.

‌97 - بَاب مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ

5963 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ: سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يُحَدِّثُ قَتَادَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمْ يَسْأَلُونَهُ وَلَا يَذْكُرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سُئِلَ فَقَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ.

قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ صَوَّرَ صُورَةً إِلَخْ) كَذَا تَرْجَمَ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ بَابٌ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَثَبَتَتِ التَّرْجَمَةُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَسَقَطَ الْبَابُ وَالتَّرْجَمَةُ مِنْ رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى ابْنُ بَطَّالٍ، وَنُقِلَ عَنِ الْمُهَلَّبِ تَوْجِيهُ إِدْخَالِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ فَقَالَ: اللَّعْنُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَمَنْ كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فَقَدْ أُبْعِدَ مِنَ الرَّحْمَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ) هُوَ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَسَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يُحَدِّثُ قَتَادَةَ) كَانَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ كَثِيرَ الْمُلَازَمَةِ لِقَتَادَةَ فَاتَّفَقَ أَنَّ قَتَادَةَ، وَالنَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ اجْتَمَعَا، فَحَدَّثَ النَّضْرُ، قَتَادَةَ فَسَمِعَهُ سَعِيدٌ وَهُوَ مَعَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَغَيْرِهِ يُحَدِّثُهُ قَتَادَةَ وَالضَّمِيرُ لِلْحَدِيثِ، وَقَتَادَةُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَالْفَاعِلُ النَّضْرُ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّضْرِ وَفَاعِلُ يُحَدِّثُ قَتَادَةُ، وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ: سَمِعْتُ النَّضْرَ، وَلِأَنَّ قَتَادَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا حَضَرَ عِنْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَصْرِيحُ الْبُخَارِيِّ بِأَنَّ سَعِيدًا سَمِعَ مِنَ النَّضْرِ هَذَا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَقَوْلُهُ: عَنْ قَتَادَةَ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، فَإِنْ كَانَ خَالِدٌ حَفِظَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سَعِيدٌ كَانَ سَمِعَهُ مِنْ قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ ثُمَّ لَقِيَ النَّضْرَ فَسَمِعَهُ مِنْهُ فَكَانَ يُحَدِّثُهُ بِهِا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ قَتَادَةُ، عَنِ النَّضْرِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ سَعِيدٍ أَخْرَجَهَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ.

قَوْلُهُ: (وَهُمْ يَسْأَلُونَهُ وَلَا يَذْكُرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ يُجِيبُهُمْ عَمَّا يَسْأَلُونَهُ بِالْفَتْوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ الدَّلِيلَ مِنَ السُّنَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ

ص: 393

ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ فَجَعَلُوا يَسْتَفْتُونَهُ وَيُفْتِيهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا يُفْتِيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (حَتَّى سُئِلَ فَقَالَ: سَمِعْتُ) كَذَا أَبْهَمَ الْمَسْأَلَةَ، وَبَيَّنَهَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعْدٍ فَفِي رِوَايَتِهِ حَتَّى أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَرَاهُ نَجَّارًا فَقَالَ: إِنِّي أُصَوِّرُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ فَمَا تَأْمُرنِي؟ فَقَالَ: إِذًا سَمِعْتُ وَتَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْا أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، إِنِّي إِنْسَانٌ إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي.

قَوْلُهُ: (مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا) كَذَا أَطْلَقَ، وَظَاهِرُهُ التَّعْمِيمُ، فَيَتَنَاوَلُ صُورَةَ مَا لَا رُوحَ فِيهِ ; لَكِنَّ الَّذِي فَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ التَّخْصِيصَ بِصُورَةِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ مِنْ قَوْلِهِ: كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ فَاسْتَثْنَى مَا لَا رُوحَ فِيهِ كَالشَّجَرِ.

قَوْلُهُ: (كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا وَاسْتِعْمَالُ حَتَّى هُنَا نَظِيرُ اسْتِعْمَالِهَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} وَكَذَا قَوْلُهُمْ: لَا أَفْعَلُ كَذَا حَتَّى يَشِيبَ الْغُرَابُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ طُولُ تَعْذِيبِهِ وَإِظْهَارُ عَجْزِهِ عَمَّا كَانَ تَعَاطَاهُ وَمُبَالَغَةٌ فِي تَوْبِيخِهِ وَبَيَانُ قُبْحِ فِعْلِهِ. وَقَوْلُهُ: لَيْسَ بِنَافِخٍ أَيْ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُعَذَّبًا دَائِمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ عَذَابِ الْمُصَوِّرِينَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ وَأَنَّهُ أَمْرُ تَعْجِيزٍ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْوَعِيدُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّ وَعِيدَ الْقَاتِلِ عَمْدًا يَنْقَطِعُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعَ وُرُودِ تَخْلِيدِهِ بِحَمْلِ التَّخْلِيدِ عَلَى مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ، وَهَذَا الْوَعِيدُ أَشَدُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُغَيًّا بِمَا لَا يُمْكِنُ وَهُوَ نَفْخُ الرُّوحِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُعَذَّبُ زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ يَتَخَلَّصُ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الزَّجْرُ الشَّدِيدُ بِالْوَعِيدِ بِعِقَابِ الْكَافِرِ لِيَكُونَ أَبْلَغُ فِي الِارْتِدَاعِ وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْعَاصِي بِذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ مُسْتَحِلًّا فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - لِلُحُوقِ الْوَعِيدِ بِمَنْ تَشَبَّهَ بِالْخَالِقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَيْسَ بِخَالِقٍ حَقِيقَةً. وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْوَعِيدَ وَقَعَ عَلَى خَلْقِ الْجَوَاهِرِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْوَعِيدَ لَاحِقٌ بِاعْتِبَارِ الشَّكْلِ وَالْهَيْئَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَوْهَرٍ، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ غَيْرِ ذِي الرُّوحِ فَوَرَدَ مَوْرِدَ الرُّخْصَةِ كَمَا قَرَّرْتُهُ. وَفِي قَوْلِهِ: كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ بِعَمَلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ، وَأَمَّا مِثْلُ هَذَا التَّكْلِيفِ فَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ لِأَنَّهُ نَفْسُهُ عَذَابٌ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَةٌ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا نَفْسَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَأَيْضًا فَالتَّكْلِيفُ بِالْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا حَسَنٌ عَلَى مُصْطَلَحِ أَهْلِ عِلْمِ الْكَلَامِ، بِخِلَافِ هَذَا التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ عَذَابٌ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ. وَأَيْضًا فَنَفْخُ الرُّوحِ فِي الْجَمَادِ قَدْ وَرَدَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ يُمْكِنُ وَإِنْ كَانَ فِي وُقُوعِهِ خَرْقُ عَادَةٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ خِطَابُ تَعْجِيزٍ لَا تَكْلِيفَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ بَيْعِ التَّصَاوِيرِ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ زِيَادَةُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِلرَّجُلِ: وَيْحَكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ الْحَدِيثَ، مَعَ ضَبْطِ لَفْظِهِ وَإِعْرَابِهِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَصْوِيرِ مَا لَا رُوحَ لَهُ مِنْ شَجَرٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَجْهًا بِالْمَنْعِ لِأَنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ عَبَدَهَا. قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْذِيبِ مَنْ يُصَوِّرُ مَا فِيهِ رُوحٌ بِمَا ذُكِرَ تَجْوِيزُ تَصْوِيرِ مَا لَا رُوحَ فِيهِ، فَإِنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي يَتَنَاوَلُ مَا فِيهِ رُوحٌ وَمَا لَا رُوحَ فِيهِ، فَإِنْ خُصَّ مَا فِيهِ رُوحٌ بِالْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مِمَّا لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْآدَمِيِّينَ بِصَنْعَتِهِ

ص: 394

وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ بِغَرْسِ الْأَشْجَارِ مَثَلًا امْتَنَعَ ذَلِكَ فِي مِثْلِ تَصْوِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَيَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ بِمَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُضَاهِي صُورَةَ الْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي مَنْعِ التَّصْوِيرِ، وَقَدْ قَيَّدَ مُجَاهِدٌ صَاحِبَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازَ تَصْوِيرِ الشَّجَرِ بِمَا لَا يُثْمِرُ، وَأَمَّا مَا يُثْمِرُ فَأَلْحَقَهُ بِمَا لَهُ رُوحَ، قَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ غَيْرُ مُجَاهِدٍ، وَرَدَّهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ الصُّورَةَ لَمَّا أُبِيحَتْ بَعْدَ قَطْعِ رَأْسِهَا الَّتِي لَوْ قُطِعَتْ مِنْ ذِي الرُّوحِ لَمَا عَاشَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ مَا لَا رُوحَ لَهُ أَصْلًا. قُلْتُ: وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ تَجْوِيزَ تَصْوِيرِ مَا لَهُ رُوحٌ بِجَمِيعِ أَعْضَائِهِ إِلَّا الرَّأْسَ فِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَأَظُنُّ مُجَاهِدًا سَمِعَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِي فَفِيهِ فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، وَلْيَخْلُقُوا شَعِيرَةً فَإِنَّ فِي ذِكْرِ الذَّرَّةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَهُ رُوحٌ، وَفِي ذِكْرِ الشَّعِيرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَنْبُتُ مِمَّا يُؤْكَلُ، وَأَمَّا مَا لَا رُوحَ فِيهِ وَلَا يُثْمِرُ فَلَا تَقَعُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.

وَيُقَابِلُ هَذَا التَّشْدِيدَ مَا حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّ نَسْجَ الصُّورَةِ فِي الثَّوْبِ لَا يَمْتَنِعُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُلْبَسُ، وَطَرَدَهُ الْمُتَوَلِّي فِي التَّصْوِيرِ عَلَى الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا، وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ تَحْرِيمَ جَمِيعِ ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَثْنَى مِنْ جَوَازِ تَصْوِيرِ مَا لَهُ ظِلٌّ وَمِنَ اتِّخَاذِهِ لُعَبُ الْبَنَاتِ لِمَا وَرَدَ مِنَ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ: وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَاضِحًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

‌98 - بَاب الِارْتِدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ

5964 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بن سعيد قال: حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِارْتِدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ) أَيْ إِرْكَابُ رَاكِبِ الدَّابَّةِ خَلْفَهُ غَيْرَهُ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَشْكَلْتُ إِدْخَالَ هَذِهِ التَّرَاجِمِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ الَّذِي يَرْتَدِفُ لَا يَأْمَنُ مِنَ السُّقُوطِ فَيَنْكَشِفُ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ احْتِمَالَ السُّقُوطِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِارْتِدَافِ إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُهُ فَيَتَحَفَّظُ الْمُرْتَدِفُ إِذَا ارْتَدَفَ مِنَ السُّقُوطِ، وَإِذَا سَقَطَ فَلْيُبَادِرْ إِلَى السَّتْرِ، وَتَلَقَّيْتُ فَهْمَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ الْآتِي فِي بَابِ إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ خَلْفَ الرَّجُلِ وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ الْغَرَضُ الْجُلُوسُ عَلَى لِبَاسِ الدَّابَّةِ وَإِنْ تَعَدَّدَ أَشْخَاصُ الرَّاكِبِينَ عَلَيْهَا، وَالتَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْقَطِيفَةِ فِي الْحَدِيثِ الثَّامِنِ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَبُو صَفْوَانَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الْأُمَوِيُّ.

قَوْلُهُ: (رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ تَقَدَّمَ أَصْلُهُ فِي الْعِلْمِ، وَيَأْتِي بِهَذَا السَّنَدِ فِي الِاسْتِئْذَانِ ثُمَّ فِي الرِّقَاقِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الِارْتِدَافِ.

‌99 - بَاب الثَّلَاثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ

5965 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الثَّلَاثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ جَابِرٍ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْكَبَ ثَلَاثَةٌ عَلَى دَابَّةٍ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَ

ص: 395

الطَّبَريُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ لَا يَرْكَبُ الدَّابَّةَ فَوْقُ اثْنَيْنِ وَفِي سَنَدِهِ لِينٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ زَاذَانَ أَنَّهُ رَأَى ثَلَاثَةً عَلَى بَغْلٍ فَقَالَ: لِيَنْزِلْ أَحَدُكُمْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الثَّالِثَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَوْلَهُ مِثْلَهُ، وَمِنْ حَدِيثِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ أَنَّهُ لَعَنَ فَاعِلَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا أَنْ يَرْكَبَ الثَّلَاثَةُ عَلَى الدَّابَّةِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ ثَلَاثَةً عَلَى دَابَّةٍ فَارْجُمُوهُمْ حَتَّى يَنْزِلَ أَحَدُهُمْ وَعَكْسُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَأَخْرَجَ الطَّبَريُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا أُبَالِي أَنْ أَكُونَ عَاشِرَ عَشْرَةٍ عَلَى دَابَّةٍ إِذَا أَطَاقَتْ حَمْلَ ذَلِكَ وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، فَيحُمِلَ مَا وَرَدَ فِي الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ غَيْرَ مُطِيقَةٍ كَالْحِمَارِ مَثَلًا، وَعَكْسُهُ عَلَى عَكْسِهِ كَالنَّاقَةِ وَالْبَغْلَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُنَا وَمَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً جَوَازُ رُكُوبِ ثَلَاثَةٍ عَلَى الدَّابَّةِ إِذَا كَانَتْ مُطِيقَةً.

وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ مَنْعَهُ عَنْ بَعْضِهِمْ مُطْلَقًا، وَهُوَ فَاسِدٌ. قُلْتُ: لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِالْجَوَازِ مَعَ الْعَجْزِ، وَلَا بِالْمَنْعِ مَعَ الطَّاقَةِ، بَلِ الْمَنْقُولُ مِنَ الْمُطْلَقِ فِي الْمَنْعِ وَالْجَوَازِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ.

قَوْلُهُ: (خَالِدٌ) هُوَ ابْنُ مِهْرَانَ الْحَذَّاءُ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ) يَعْنِي فِي الْفَتْحِ.

قَوْلُهُ: (اسْتَقْبَلَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ اسْتَقْبَلَتْهُ وَأُغَيْلِمَةٌ تَصْغِيرُ غِلْمَةٍ وَهُوَ جَمْعُ غُلَامٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَالْقِيَاسُ غُلَيْمَةٌ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: كَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَغْلِمَةً عَلَى الْقِيَاسِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَنْطِقُوا بِأَغْلِمَةٍ قَالَ: وَنَظِيرُهُ أُصَيْبِيَةُ، وَإِضَافَتُهُمْ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ) قَدْ فَسَّرَهُمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَه هَذِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ حِينَئِذٍ رَاكِبًا عَلَى نَاقَتِهِ، وَوَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُؤَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِنَا، فَيلقِّيَ بِي وَبِالْحَسَنِ أَوْ بِالْحُسَيْنِ، فَحَمَلَ أَحَدَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْآخَرَ خَلْفَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ وَتَقَدَّمَ حَدِيثٌ آخَرُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فِي الْمَعْنَى فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ. وَوَقَعَ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ رَاكِبًا عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ عِنْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: لَقَدْ قُدْتُ بِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ حَتَّى أَدْخَلْتُهُمْ حُجْرَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا قُدَّامُهُ وَهَذَا خَلْفَهُ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ أَنَّهُ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ وَأَرْدَفَ وَاحِدًا خَلْفَهُ، وَهُوَ يُقَوِّي الْجَمْعَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ.

‌100 - بَاب حَمْلِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ غَيْرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِصَدْرِ الدَّابَّةِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ

5966 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ ذُكِرَ شَرُّ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ عِكْرِمَةَ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ حَمَلَ قُثَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْفَضْلَ خَلْفَهُ - أَوْ قُثَمَ خَلْفَهُ وَالْفَضْلَ بَيْنَ يَدَيْهِ - فَأَيُّهُمْ شَرٌّ أَوْ أَيُّهُمْ خَيْرٌ؟.

قَوْلُهُ: (بَابُ حَمْلِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ غَيْرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِصَدْرِ الدَّابَّةِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ) ثَبَتَ هَذَا التَّعْلِيقُ عِنْدَ النَّسَفِيِّ، وَهُوَ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَالْبَعْضُ الْمُبْهَمُ هُوَ الشَّعْبِيُّ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي

ص: 396

شَيْبَةَ عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ وَمَعَهُ حِمَارٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْكَبْ، وَتَأَخَّرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: لَأَنْتَ أَحَقُّ بِصَدْرِ دَابَّتِكَ إِلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ لِي، قَالَ: قَدْ جَعَلْتُهُ لَكَ. فَرَكِبَ وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بَيَّنَهُ حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ لَكِنَّهُ أَرْسَلَهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَرْتَضِ إِسْنَادَهُ يَعْنِي حَدِيثَ بُرَيْدَةَ فَأَدْخَلَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِيَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ.

قُلْتُ: لَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِهِ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ زِيَادَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَفِي الْبَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ بِمَعْنَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَحَقُّ بِصَدْرِ دَابَّتِهِ لِأَنَّهُ شَرَفٌ وَالشَّرَفُ حَقُّ الْمَالِكِ ; وَلِأَنَّهُ يَصْرِفُهَا فِي الْمَشْيِ حَيْثُ شَاءَ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَرَادَ مِنْ إِسْرَاعٍ أَوْ بُطْءٍ وَمِنْ طُولٍ أَوْ قِصَرٍ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَالِكِ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ إِلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ لِي يُرِيدُ الرُّكُوبَ عَلَى مُقَدَّمِ الدَّابَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ تَأَخَّرَ وَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْكَبْ، أَيْ فِي الْمُقَدَّمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ لَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لَهُ صَرِيحًا، أَوِ الضَّمِيرُ لِلتَّصَرُّفِ فِي الدَّابَّةِ بَعْدَ الرُّكُوبِ كَيْفَ أَرَادَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اجْعَلْ حَقَّكَ لِي كُلَّهُ مِنَ الرُّكُوبِ عَلَى مُقَدَّمِ الدَّابَّةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (ذُكِرَ شَرُّ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ عِكْرِمَةَ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَشَرُّ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ أَوَّلَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ الْأَشَرُّ فَأَمَّا أَشَرُّ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ فَهِيَ لُغَةٌ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهَا فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، فَفِيهِ قَالُوا: أَخِيرُنَا وَابْنُ أَخِيرِنَا وَجَاءَ فِي الْمَثَلِ صُغْرَهَا أَشَرُّهَا وَقَالُوا أَيْضًا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ نَفْسٍ حَرَّى، وَعَيْنٍ شَرَّى أَيْ مَلْأَى مِنَ الشَّرِّ، وَهُوَ مِثْلُ أَصْغَرَ وَصُغْرَى. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ بِزِيَادَةِ اللَّامِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمُ: الْحَسَنُ الْوَجْهَ وَالْوَاهِبُ الْمِائَةَ، وَالْمُرَادُ بِلَفْظِ الْأَشَرِّ الشَّرُّ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يُسْتَعْمَلُ عَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ إِلَّا نَادِرًا.

قَوْلُهُ: (أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَتَى، وَرَسُولُ اللَّهِ بِالرَّفْعِ أَيْ جَاءَ، وَقَدْ حَمَلَ قُثَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْفَضْلَ خَلْفَهُ وَهُمَا وَلَدَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَخَوَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَاوِي الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ قُثَمَ خَلْفَهُ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِيِ، وَقُثَمُ بِقَافٍ وَمُثَلَّثَةٍ وَزْنُ عُمَرَ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ رِوَايَةٌ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ، وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ مَعَ غَيْرِ الصَّحَابَةِ فَوَهِمَ.

قَوْلُهُ: (فَأَيُّهُمْ شَرٌّ أَوْ أَيُّهُمْ خَيْرٌ)؟ هَذَا كَلَامُ عِكْرِمَةَ يَرُدُّ بِهِ عَلَى مَنْ ذَكَرَ لَهُ شَرَّ الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ قُدِّمَ عَلَى هَذَا وَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدْخُلُهُ النَّسْخُ، وَالْخَبَرُ لَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ، كَذَا قَالَ. وَدَعْوَى النَّسْخِ هُنَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَالْجَمْعُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ أَوَّلًا أَوْلَى.

‌101 - بَاب إِرْدَافِ الرَّجُلِ خَلْفَ الرَّجُلِ

5967 -

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّ

ص: 397

اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ. قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ.

قَوْلُهُ (بَابُ إِرْدَافِ الرَّجُلِ خَلْفَ الرَّجُلِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ، وَأُحِيلَ بِشَرْحِهِ عَلَى هَذَا الْمَكَانِ وَاللَّائِقُ بِهِ كِتَابُ الرِّقَاقِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِيهِ بِهَذَا السَّنَدِ وَالْمَتْنِ تَامًّا فَلْيُشْرَحْ هُنَاكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا مِنَ الْإِرْدَافِ وَاضِحٌ. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ بَابٌ بِلَا تَرْجَمَةٍ وَقَالَ: كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُورِدَهُ مَعَ حَدِيثِ أُسَامَةَ فِي بَابِ الِارْتِدَافِ وَقَدْ عُرِفَ جَوَابُهُ، وَقَوْلُهُ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرِّدْفُ وَالرَّدِيفُ الرَّاكِبُ خَلْفَ الرَّاكِبِ بِإِذْنِهِ، وَرِدْفُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ مُؤَخَّرُهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الرُّكُوبِ عَلَى الرِّدْفِ وَهُوَ الْعَجُزُ، وَلِهَذَا قِيلَ لِلرَّاكِبِ الْأَصْلِيِّ رَكِبَ صَدْرَ الدَّابَّةِ، وَرَدِفْتَ الرَّجُلَ إِذَا رَكِبْتَ وَرَاءَهُ وَأَرْدَفْتَهُ إِذَا أَرْكَبْتَهُ وَرَاءَكَ. وَقَدْ أَفْرَدَ ابْنُ مَنْدَهْ أَسْمَاءَ مَنْ أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ فَبَلَغُوا ثَلَاثِينَ نَفْسًا.

‌102 - بَاب إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ خَلْفَ الرَّجُلِ ذا محرم

5968 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ، وَإِنِّي لَرَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ يَسِيرُ وَبَعْضُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَثَرَتْ النَّاقَةُ، فَقُلْتُ: الْمَرْأَةَ، فَنَزَلْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا أُمُّكُمْ، فَشَدَدْتُ الرَّحْلَ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا دَنَا - أَوْ رَأَى الْمَدِينَةَ - قَالَ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ خَلْفَ الرَّجُلِ ذَا مَحْرَمٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْحَالِ وَلِبَعْضِهِمْ ذِي مَحْرَمٍ عَلَى الصِّفَةِ. وَاقْتَصَرَ النَّسَفِيُّ عَلَى خَلْفَ الرَّجُلِ فَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ، وَإِنِّي لَرَدِيفِ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ يَسِيرُ وَبَعْضُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ عَثَرَتِ النَّاقَةُ فَقُلْتُ: الْمَرْأَةَ، فَنَزَلَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا أُمُّكُمْ، فَشَدَدْتُ الرَّحْلَ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ وَفَعَلَهُ هُوَ أَنَسٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَفِيهِ أَنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو طَلْحَةَ وَأَنَّ الَّذِي قَالَ: الْمَرْأَةَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظُهُ أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةُ يُرْدِفُهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَثَرَتِ الدَّابَّةُ فَصُرِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَرْأَةُ، وَأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ أَحْسَبُهُ قَالَ اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَلْ أَصَابَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ عَلَيْكَ الْمَرْأَةَ. فَأَلْقَى أَبُو طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَصَدَ قَصْدَهَا فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا، فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِمَا فَرَكِبَا الْحَدِيثَ. وَفِي أُخْرَى عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ وَقَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَعَثَرَتْ نَاقَتُهُ فَسَاقَهُ نَحْوَهُ.

فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ تَسْمِيَةُ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الَّذِي تَوَلَّى شَدَّ الرَّحْلِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ هُوَ أَبُو طَلْحَةَ لَا أَنَسٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي

ص: 398

إِسْحَاقَ رِوَايَةً عَنْ أَنَسٍ، فَقَالَ شُعْبَةُ عَنْهُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ، وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ كِلَاهُمَا عَنْهُ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْجِهَادِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فَإِنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ وَمَخْرَجُ الْحَدِيثِ وَاحِدٌ وَاتِّفَاقُ اثْنَيْنِ أَوْلَى مِنَ انْفِرَادِ وَاحِدٍ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ أَنَسًا كَانَ إِذْ ذَاكَ يَصْغُرُ عَنْ تَعَاطِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُسَاعِدَ عَمَّهُ أَبَا طَلْحَةَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَقَدْ يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ بِهَذَا. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَدَارَكَ الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ إِذَا سَقَطَتْ أَوْ كَادَتْ تَسْقُطُ فَيُعِينُهَا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا يُخْشَى عَلَيْهَا.

‌103 - بَاب الِاسْتِلْقَاءِ، وَوَضْعِ الرِّجْلِ عَلَى الْأُخْرَى

5969 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ أَبْصَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَضْطَجِعُ فِي الْمَسْجِدِ رَافِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِلْقَاءِ وَوَضْعِ الرِّجْلِ عَلَى الْأُخْرَى) وَجْهُ دُخُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ لَا يَأْمَنُ مِنَ الِانْكِشَافِ، وَلَا سِيَّمَا الِاسْتِلْقَاءُ يَسْتَدْعِي النَّوْمَ، وَالنَّائِمُ لَا يَتَحَفَّظُ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ ` لِئَلَّا يَنْكَشِفَ.

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَفِيهِ ثُبُوتُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَزَادَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي رِوَايَتِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَأنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ لَا يَسْتَلْقِيَنَّ أَحَدُكُمْ ثُمَّ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى أَوْ ثَبَتَ لَكِنَّهُ رَآهُ مَنْسُوخًا، وَسَيَأْتِي شَرْحَهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ اللِّبَاسِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَتَيْ حَدِيثٍ وَاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا وَمَا أَشْبَهَهُ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةٌ وَاثْنَانِ وَثَمَانُونَ حَدِيثًا وَالْخَالِصُ أَرْبَعُونَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فِي النَّارِ وَحَدِيثِ الزُّبَيْرِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحَدِيثِ أَنَسٍ كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي لَعْنِ الْوَاصِلَةِ، وَحَدِيثِهِ لَا تَشِمْنَ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي نَقْضِ الصُّوَرِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي وَعْدِ جِبْرِيلَ وَمِنْهُ: لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَحَدِيثِ صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِصَدْرِهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِهِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى مَا بَيَّنْتُهُ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَثَرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 399

بسم الله الرحمن الرحيم

‌78 - كِتَاب الْأَدَبِ

‌1 - بَاب البر والصلة، وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}

5970 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: الْوَلِيدُ بْنُ عَيْزَارٍ أَخْبَرَنِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ - قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عز وجل؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثم بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.

قَوْله: (بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم - كِتابُ الْأَدَب)

قَوْلُهُ (بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} كَذَا لِلْأَكْثَرِ. وَحَذَفَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَبَعْضُهُمُ الْبَسْمَلَةَ، وَاقْتَصَرَ النَّسَفِيُّ عَلَى قَوْلِهِ كِتَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ إِلَخْ. وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} وَكِتَابُ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحَادِيثَ زَائِدَةٍ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحِ وَفِيهِ قَلِيلٌ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ، وَهُوَ كَثِيرُ الْفَائِدَةِ

(1)

. وَالْأَدَبُ اسْتِعْمَالُ مَا يُحْمَدُ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَنَّهُ الْأَخْذُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَقِيلَ: الْوُقُوفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ، وَقِيلَ: هُوَ تَعْظِيمُ مَنْ فَوْقَكَ وَالرِّفْقُ بِمَنْ دُونَكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَأْدُبَةِ وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى الطَّعَامِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُدْعَى إِلَيْهِ ; وَهَذِهِ الْآيَةُ وَقَعَتْ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْعَنْكَبُوتِ وَفِي الْأَحْقَافِ لَكِنِ الْمُرَادُ هُنَا الَّتِي فِي الْعَنْكَبُوتِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي لُقْمَانَ نَزَلَتْ فِي سَعدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، كَذَا قَالَ إِنَّهَا الَّتِي فِي لُقْمَانَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ لَا تُكَلِّمُهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ.

قَالَتْ: زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ أَوْصَاكَ بِوَالِدَيْكَ، فَأَنَا أُمُّكَ، وَأَنَا آمُرُكَ بِهَذَا، فَنَزَلَتْ {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} ، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} كَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ، وَفِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ آيَةٍ إِلَى آيَةٍ، فَإِنَّ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} - إِلَى - {مَرْجِعُكُمْ} وَالْمَذْكُورُ عِنْدَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى} إِلَخْ إِنَّمَا هُوَ فِي لُقْمَانَ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: {حُسْنًا} الْآيَةَ، فَقَطْ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ الْآيَةَ، وَوَقَعَ فِي أُخْرَى لِأَحْمَدَ {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} - وَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ - {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَهَذَا الْقَدْرُ الْأَخِيرُ إِنَّمَا هُوَ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَأَوَّلُهُ مِنْ آيَةِ لُقْمَانَ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْآيَتَيْنِ معا كَانَتَا فِي الْأَصْلِ ثَابِتَتَيْنِ فَسَقَطَ بَعْضُهُمَا عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْمُ أُمِّ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حَمْنَةُ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ - بِنْتُ سُفْيَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ

(1)

وقد نشرته المطبعة السلفية بعناية وتخريج. ونشرت شرحا له مفيدا في مجلدين.

ص: 400

الْأَخْبَارِ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ. وَاقْتَضَتِ الْآيَةُ الْوَصِيَّةَ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَمْرَ بِطَاعَتِهِمَا وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ، إِلَّا إِذَا أَمَرَا بِالشِّرْكِ فَتَجِبُ مَعْصِيَتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَفِيهَا بَيَانُ مَا أُجْمِلَ فِي غَيْرِهَا، وَكَذَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ، مِنَ الْأَمْرِ بِبِرِّهِمَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَيْزَارٍ أَخْبَرَنِي) هُوَ مِنْ تَقْدِيمِ اسْمِ الرَّاوِي عَلَى الصِّيغَةِ وَهُوَ جَائِزٌ، وَكَانَ شُعْبَةُ يَسْتَعْمِلُهُ كَثِيرًا، وَوَقَعَ لِبَعْضِهِمْ الْعَيْزَارُ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَلَامٍ فِي أَوَّلِهِ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ مَعَ كَثِيرٍ مِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: تَقْدِيمُ الْبِرِّ عَلَى الْجِهَادِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّعْدِيَةُ إِلَى نَفْعِ الْغَيْرِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ يَرَى أَنَّهُ مُكَافَأَةٌ عَلَى فِعْلِهِمَا، فَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، فَنَبَّهَهُ عَلَى إِثْبَاتِ الْفَضِيلَةِ فِيهِ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قُدِّمَ لِتَوَقُّفِ الْجِهَادِ عَلَيْهِ، إِذْ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ اسْتِئْذَانُهُمَا فِي الْجِهَادِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنِ الْجِهَادِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.

‌2 - بَاب مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟

5971 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ.

وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ) الصُّحْبَةُ وَالصَّحَابَةُ مَصْدَرَانِ بِمَعْنًى، وَهُوَ الْمُصَاحَبَةُ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ.

قَوْلُهُ: (عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ وَكَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ بِزِيَادَةِ وَاوٍ، وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا فَإِنَّ رِوَايَةَ ابْنِ شُبْرُمَةَ قَدْ عَلَّقَهَا الْمُصَنِّفُ عَقِبَ رِوَايَةِ عُمَارَةَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عُمَارَةَ حَسْبَ.

قَوْلِهِ: (جَاءَ رَجُلٌ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهُوَ جَدُّ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمُّكَ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي)؟ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ، عَنْ عُمَارَةَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ جَمِيعًا عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ مِثْلَ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، وَزَادَ فَقَالَ نَعَمْ وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُطَوَّلًا وَزَادَ فِيهِ حَدِيثَ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ فَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَبِّئْنِي بِأَحَقِّ النَّاسِ مِنِّي صُحْبَةً وَوَجَدْتُهُ فِي النُّسْخَةِ بِلَفْظِ فَقَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ بَدَلَ وَأَبِيكَ فَلَعَلَّهَا تَصَحَّفَتْ، وَقَوْلُهُ: وَأَبِيكَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقَسَمَ وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ تَجْرِي لِإِرَادَةِ تَثْبِيتِ الْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوكَ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِالرَّفْعِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِالنَّصْبِ، وَفِي آخَرِهِ ثُمَّ أَبَاكَ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ وَيَخْرُجُ الثَّانِي عَلَى

ص: 401

إِضْمَارِ فِعْلٍ. وَوَقَعَ صَرِيحًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ كَمَا سَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا وَقَعَ تَكْرَارُ الْأُمِّ ثَلَاثًا وَذِكْرُ الْأَبِ فِي الرَّابِعَةِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَلَفْظُهُ ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: بِرَّ أَبَاكَ كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ وَزَادَ فِي آخِرِهِ ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ خِدَاشٍ أَبِي سَلَامَةَ رَفَعَهُ أُوصِي امْرَءًا بِأُمِّهِ، أُوصِي امْرَءًا بِأُمِّهِ، أُوصِي امْرَءًا بِأُمِّهِ، أُوصِي امْرَءًا بِأَبِيهِ، أُوصِي امْرَءًا بِمَوْلَاهُ الَّذِي يَلِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ أَذًى يُؤْذِيهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِ مَا لِلْأَبِ مِنَ الْبِرِّ، قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ لِصُعُوبَةِ الْحَمْلِ ثُمَّ الْوَضْعِ ثُمَّ الرَّضَاعِ، فَهَذِهِ تَنْفَرِدُ بِه الْأُمُّ وَتَشْقَى بِهَا، ثُمَّ تُشَارِكُ الْأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ. وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْوِصَايَةِ، وَخَصَّ الْأُمَّ بِالْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ الْأُمَّ تَسْتَحِقُّ عَلَى الْوَلَدِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنَ الْبِرِّ، وَتُقَدَّمَ فِي ذَلِكَ عَلَى حَقِّ الْأَبِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأُمَّ تَفْضُلُ الْبِرِّ عَلَى الْأَبِ، وَقِيلَ: يَكُونُ بِرُّهُمَا سَوَاءً، وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: إِلَى الثَّانِي ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنْ نَقَلَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَفْضِيلِ الْأُمِّ فِي الْبِرِّ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ طَلَبَنِي أَبِي فَمَنَعَتْنِي أُمِّي، قَالَ: أَطِعْ أَبَاكَ وَلَا تَعْصِ أُمَّكَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى بِرَّهُمَا سَوَاءً، كَذَا قَالَ. وَلَيْسَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ بِوَاضِحَةٍ، قَالَ: وَسُئِلَ اللَّيْثُ يَعْنِي عَنِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا فَقَالَ: أَطِعْ أُمَّكَ فَإِنَّ لَهَا ثُلُثَيِ الْبِرِّ، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى الطَّرِيقِ الَّتِي لَمْ يَتَكَرَّرْ ذِكْرُ الْأُمِّ فِيهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ.

وَقَدْ وَقْعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي الْبَابِ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَلَفْظُهُ إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا وقع فِي آخِرِ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي رِمْثَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةً انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، ثُمَّ أُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ هَكَذَا، وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ وَأَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْمُرَادُ بِالدُّنُوِّ الْقُرْبُ إِلَى الْبَارِّ. قَالَ عِيَاضٌ: تَرَدَّدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْجَدِّ وَالْأَخِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى تَقْدِيمِ الْجَدِّ. قُلْتُ: وَبِهِ جَزَمَ الشَّافِعِيَّةُ، قَالُوا: يُقَدَّمُ الْجَدُّ ثُمَّ الْأَخُ، ثُمَّ يُقَدَّمُ مَنْ أَدْلَى بِأَبَوَيْنِ عَلَى مَنْ أَدْلَى بِوَاحِدٍ، ثُمَّ تُقَدَّمُ الْقَرَابَةُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ، وَيُقَدَّمُ مِنْهُمُ الْمَحَارِمُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ، ثُمَّ سَائِرُ الْعَصَبَاتِ، ثُمَّ الْمُصَاهَرَةُ ثُمَّ الْوَلَاءُ، ثُمَّ الْجَارُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِهِ بَعْدُ.

وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِيصَالُ الْبِرِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَهُوَ وَاضِحٌ، وَجَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأُمِّ فِي الْبِرِّ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: زَوْجُهَا. قُلْتُ: فَعَلَى الرَّجُلِ؟ قَالَ: أُمُّهُ وَيؤَيِّدُ تَقْدِيمِ الْأُمِّ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي كَذَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَأَبُو دَاوُدَ. فَتَوَصَّلَتْ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ بِاخْتِصَاصِهِ بِهَا فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ مِثْلَهُ) أَمَّا ابْنُ شُبْرُمَةَ فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْفَقِيهُ الْمَشْهُورُ

ص: 402

الْكُوفِيُّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ فَذَكَرَ بِلَفْظِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ وَالْبَاقِي مِثْلُ رِوَايَةِ جَرِيرٍ سَوَاءٌ لَكِنْ عَلَى سِيَاقِ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ فَهُوَ حَفِيدُ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ شَيْخِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ الْجُرَيْرِيُّ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ أَيْضًا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَحْمَدُ وكِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ أَتَى رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟ فَقَالَ: بِرَّ أُمَّكَ ثُمَّ عَادَ الْحَدِيثَ وَكَذَا هُوَ فِي كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَنَقَلَ الْمُحَاسِبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ مُقَدَّمَةٌ فِي الْبِرِّ عَلَى الْأَبِ.

‌3 - بَاب لَا يُجَاهِدُ إِلَّا بِإِذْنِ الْأَبَوَيْنِ

5972 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، وَشُعْبَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا حَبِيبٌ ح قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُجَاهِدُ. قَالَ: لَكَ أَبَوَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُجَاهِدُ إِلَّا بِإِذْنِ الْأَبَوَيْنِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.

وَحَبِيبٌ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ هُوَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، وَسُفْيَانُ فِي الطَّرِيقَيْنِ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَتَرْجَمَ لَهُ هُنَاكَ فِي الْجِهَادِ بِإِذْنِ الْأَبَوَيْنِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَاجَرَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَلْ بِالْيَمَنِ أَبَوَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَذِنَا لَكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا وَقَوْلُهُ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ أَيْ إِنْ كَانَ لَكَ أَبَوَانِ فَابْلُغْ جَهْدَكَ فِي بِرِّهِمَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقُومُ لَكَ مَقَامَ قِتَالِ الْعَدُوِّ.

‌4 - بَاب لَا يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ

5973 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قال: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فيسب أمه.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ) أَيْ وَلَا أَحَدَهُمَا، أَيْ لَا يَتَسَبَّبُ إِلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ) سَيَأْتِي بَعْدَ بَابِ عَدِّ الْعُقُوقِ فِي أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَالْمَذْكُورُ هُنَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعُقُوقِ، وَإِنْ كَانَ التَّسَبُّبُ إِلَى لَعْنِ الْوَالِدِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ فَالتَّصْرِيحُ بِلَعْنِهِ أَشَدُّ، وَتَرْجَمَ بِلَفْظِ السَّبِّ وَسَاقَهُ بِلَفْظِ اللَّعْنِ إِشَارَةً إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَقَعَ أَيْضًا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَهُوَ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ عِيَاضٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: مِنَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَهُ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ كِلَاهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِلَفْظِ مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَفِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَشْتُمَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ.

قَوْلُهُ: (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ)؟ هُوَ اسْتِبْعَادٌ مِنَ السَّائِلِ ; لِأَنَّ الطَّبْعَ الْمُسْتَقِيمَ يَأْبَى ذَلِكَ، فَبَيَّنَ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَاطَ السَّبَّ بِنَفْسِهِ فِي الْأَغْلَبِ

ص: 403

الْأَكْثَرِ لَكِنْ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ التَّسَبُّبُ فِيهِ وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ وُقُوعَهُ كَثِيرًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ آلَ فِعْلُهُ إِلَى مُحَرَّمٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى مَا يَحْرُمُ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْمَاوَرْدِيُّ مَنْعَ بَيْعِ الثَّوْبِ الْحَرِيرِ مِمَّنْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَلْبَسُهُ، وَالْغُلَامِ الْأَمْرَدِ مِمَّنْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ، وَالْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ حَقِّ الْأَبَوَيْنِ. وَفِيهِ الْعَمَلُ بِالْغَالِبِ لِأَنَّ الَّذِي يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ يَجُوزُ أَنْ يَسُبَّ الْآخَرُ أَبَاهُ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، لَكِنَّ الْغَالِبَ أَنْ يُجِيبَهُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ. وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ الطَّالِبِ لِشَيْخِهِ فِيمَا يَقُولُهُ مِمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْكَبَائِرِ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ قَرِيبًا، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ يَفْضُلُ الْفَرْعَ بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَلَوْ فَضَلَهُ الْفَرْعُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ.

‌5 - بَاب إِجَابَةِ دُعَاءِ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ

5974 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا، أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ. فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ.

وَقَالَ الثَّانِي: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَقِيتُهَا بِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفْتَحْ الْخَاتَمَ إلا بحقه، فَقُمْتُ عَنْهَا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا، فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً. وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ، قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ، فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي وقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي. فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تلكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا. فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي. فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَهْزَأُ بِكَ، فَخُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرَاعِيَهَا، فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ. فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ، فَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

ص: 404

قَوْلُهُ: (بَابُ إِجَابَةِ دُعَاءِ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ) ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ انْطَبَقَ عَلَيْهِمْ فَمُ الْغَارِ حَتَّى ذَكَرُوا أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ فَفُرِّجَ عَنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ.

وقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: عَلَى فَمِ غَارِهِمْ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَابٌ بَدَلَ فَمٍ وَقَوْلُهُ: فَأَطْبَقَتْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي أَوَاخِرِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَتَطَابَقَتْ. وَقَوْلُهُ: نَأَى أَيْ بَعُدَ، وَالشَّجَرُ بِمُعْجَمَةٍ وَجِيمٍ لِلْأَكْثَرِ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ نَامَا يَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا إِلَى الصَّبَاحِ حَتَّى انْتَبَهَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا قَالَ: بَعُدَ بِي الشَّجَرُ أَيْ لِطَلَبِ الْمَرْعَى. وَقَوْلُهُ: فُرْجَةٌ يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ فِي رِوَايته حَتَّى رَأَوْا وَوَقَعَ هُنَا لِلْحَمَوِيِّ: وَقَصَّ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَسَاقَهُ الْبَاقُونَ. وَقَوْلُهُ: يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الرَّجُلُ بِالْإِفْرَادِ. وَقَوْلُهُ: تِلْكَ الْبَقَرُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ذَلِكَ الْبَقَرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى الْجِنْسِ.

‌6 - بَاب عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ. قَالَهُ ابْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-

5975 -

حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ الْمُسَيَّبِ، عَنْ وَرَّادٍ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ.

5976 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لَا يَسْكُتُ".

5977 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَبَائِرَ أَوْ سُئِلَ عَنْ الْكَبَائِرِ فَقَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالَ قَوْلُ الزُّورِ أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ قَالَ شُعْبَةُ وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ".

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ.

قَوْلُهُ: (عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عُمَرُ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ، عَمْرٌو بِفَتْحِهَا، وَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مَوْصُولًا مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَلِابْنِ عُمَرَ حَدِيثٌ فِي الْعَاقِّ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَيْضًا نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا لَكِنْ

ص: 405

قَالَ: الدَّيُّوثُ بَدَلَ الْمَنَّانِ وَالدَّيُّوثُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ بِوَزْنِ فَرُّوجٍ وَقَعَ تَفْسِيرُهُ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ أَنَّهُ الَّذِي يُقِرُّ الْخُبْثَ فِي أَهْلِهِ، وَالْعُقُوقُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِّ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَالْمُرَادُ بِهِ صُدُورُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ إِلَّا فِي شِرْكٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ مَا لَمْ يَتَعَنَّتِ الْوَالِدُ، وَضَبَطَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِي الْمُبَاحَاتِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَاسْتِحْبَابُهَا فِي الْمَنْدُوبَاتِ، وَفُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَذَلِكَ، وَمِنْهُ تَقْدِيمُهُمَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ كَمَنْ دَعَتْهُ أُمُّهُ لِيُمَرِّضَهَا مَثَلًا بِحَيْثُ يَفُوتُ عَلَيْهِ فِعْلُ وَاجِبٍ إِنِ

اسْتَمَرَّ عِنْدَهَا وَيَفُوتُ مَا قَصَدَتْهُ مِنْ تَأْنِيسِهِ لَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ لَوْ تَرَكَهَا وَفَعَلَهُ وَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ مَعَ فَوَاتِ الْفَضِيلَةِ كَالصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَوْ فِي الْجَمَاعَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ أيْضًا: أَوَّلُهَا: حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَالْمُسَيِّبُ هُوَ ابْنُ رَافِعٍ، وَوَرَّادٌ هُوَ كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ. وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ مَنْصُورٍ لَهُ مِنَ الْمُسَيَّبِ فِي الدَّعَوَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِقْرَاضِ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ كَالَّذِي هُنَا، وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ ذِكْرَ عُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ فَقَطْ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُوَ بِتَمَامِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ; لَكِنَّهُ فِي الْأَصْلِ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مُطَوَّلٌ سَيَأْتِي فِي الْقَدَرِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ. وَفِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ وَرَّادٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي التَّهْلِيلِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ، قَالَ: وَكَانَ يَنْهَى، فَذَكَرَ مَا هُنَا، وَسَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ أَوَّلُهُ فَقَطْ مِنْ رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ دُونَ مَا فِي آخِرِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ فَرَّقَهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ شَيْخِهِ هَكَذَا، وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الشَّعْبِيِّ مُقْتَصِرًا عَلَى الَّذِي هُنَا أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ) تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِقْرَاضِ الْإِشَارَةُ إِلَى حِكْمَةِ اخْتِصَاصِ الْأُمِّ بِالذِّكْرِ، وَهُوَ مِنْ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ إِظْهَارًا لِعِظَمِ مَوْقِعِهِ. وَالْأُمَّهَاتُ جَمْعُ أُمَّهَةٍ وَهِيَ لِمَنْ يَعْقِلُ، بِخِلَافِ لَفْظِ الْأُمِّ فَإِنَّهُ أَعَمُّ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْعًا وَهَاتِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَفِي الِاسْتِقْرَاضِ وَمَنْعَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَهِيَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِسُكُونِ النُّونِ مَصْدَرٌ مَنَعَ يَمْنَعُ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِيلَ وَقَالَ وَأَمَّا هَاتِ فَبِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الْإِيتَاءِ قَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُ هَاتِ آتِ فَقُلِبَتِ الْأَلِفُ هَاءً. وَالْحَاصِلُ مِنَ النَّهْيِ مَنْعُ مَا أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ وَطَلَبُ مَا لَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ قَرِيبًا، وَيَكُونُ ذِكْرُهُ هُنَا مَعَ ضِدِّهِ ثُمَّ أُعِيدَ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ، ثُمَّ هُوَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَدْخُلَ فِي النَّهْيِ مَا يَكُونُ خِطَابًا لِاثْنَيْنِ كَمَا يُنْهَى الطَّالِبُ عَنْ طَلَبِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ وَيُنْهَى الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عَنْ إِعْطَاءِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ الطَّالِبُ لِئَلَّا يُعِينَهُ عَلَى الْإِثْمِ.

قَوْلُهُ: (وَوَأْدُ الْبَنَاتِ) بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ هُوَ دَفْنُ الْبَنَاتِ بِالْحَيَاةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ كَرَاهَةً فِيهِنَّ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ التَّمِيمِيُّ، وَكَانَ بَعْضُ أَعْدَائِهِ أَغَارَ عَلَيْهِ فَأَسَرَ بِنْتَهُ فَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ ثُمَّ حَصَلَ بَيْنَهُمْ صُلْحٌ فَخَيَّرَ ابْنَتَهُ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا، فَآلَى قَيْسٌ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا تُولَدَ لَهُ بِنْتٌ إِلَّا دَفَنَهَا حَيَّةً، فَتَبِعَهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ مِنَ الْعَرَبِ فَرِيقٌ ثَانٍ يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ مُطْلَقًا، إِمَّا نَفَاسَةً مِنْهُ عَلَى مَا يَنْقُصُهُ مِنْ مَالِهِ، وَإِمَّا مِنْ عَدَمِ مَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَكَانَ صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ التَّمِيمِيِّ أَيْضًا وَهُوَ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ، هَمَّامُ بْنُ غَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَوَّلُ مَنْ فَدَى الْمَوْءُودَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَعْمِدُ إِلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَيَفْدِيَ الْوَلَدَ مِنْهُ بِمَالٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْفَرَزْدَقُ بِقَوْلِهِ:

ص: 406

وَجَدِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ

وَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ يُوأَدِ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَقَدْ بَقِيَ كُلٌّ مِنْ قَيْسٍ، وَصَعْصَعَةَ إِلَى أَنْ أَدْرَكَا الْإِسْلَامَ وَلَهُمَا صُحْبَةٌ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْبَنَاتَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ فِعْلِهِمْ، لِأَنَّ الذُّكُورَ مَظِنَّةُ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ. وَكَانُوا فِي صِفَةِ الْوَأْدِ عَلَى طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَأْمُرَ امْرَأَتَهُ إِذَا قَرُبَ وَضْعُهَا أَنْ تُطْلِقَ بِجَانِبِ حَفِيرَةٍ، فَإِذَا وَضَعَتْ ذَكَرًا أَبْقَتْهُ وَإِذَا وَضَعَتْ أُنْثَى طَرَحَتْهَا فِي الْحَفِيرَةِ، وَهَذَا أَلْيَقِ بِالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ إِذَا صَارَتِ الْبِنْتُ سُدَاسِيَّةً قَالَ لِأُمِّهَا: طَيِّبِيهَا وَزَيِّنِيهَا لِأَزُورَ بِهَا أَقَارِبَهَا، ثُمَّ يَبْعُدُ بِهَا فِي الصَّحْرَاءِ حَتَّى يَأْتِيَ الْبِئْرِ فَيَقُولُ لَهَا انْظُرِي فِيهَا وَيَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا وَيَطِمُّهَا، وَهَذَا اللَّائِقُ بِالْفَرِيقِ الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ) فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا قِيلًا وَقَالًا وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَمْ تَقَعْ بِهِ الرِّوَايَةُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قِيلَ وَقَالَ اسْمَانِ، يُقَالُ: كَثِيرُ الْقِيلِ وَالْقَالِ، كَذَا جَزَمَ بِأَنَّهُمَا اسْمَانِ، وَأَشَارَ إِلَى الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ بِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَوْ كَانَا اسْمَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْقَوْلِ لَمْ يَكُنْ لِعَطْفِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَائِدَةٌ، فَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي قِيلَ وَقَالَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَما: أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ لِلْقَوْلِ، تَقُولُ: قُلْتُ قَوْلًا وَقِيلًا وَقَالًا، وَالْمُرَادُ فِي الْأَحَادِيثِ: الْإِشَارَةُ إِلَى كَرَاهَةِ كَثْرَةِ الْكَلَامِ لِأَنَّهَا تُئَوِّلُ إِلَى الْخَطَأِ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ، ثَانِيهَا: إِرَادَةُ حِكَايَةِ أَقَاوِيلِ النَّاسِ وَالْبَحْثُ عَنْهَا لِيُخْبِرَ عَنْهَا فَيَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَقِيلَ كَذَا، وَالنَّهْيُ عَنْهُ إِمَّا لِلزَّجْرِ عَنِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، وَإِمَّا لِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ مِنْهُ وَهُوَ مَا يَكْرَهُهُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ. ثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ فِي حِكَايَةِ الِاخْتِلَافِ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَقَوْلِهِ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا، وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ ذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يُؤْمَنُ مَعَ الْإِكْثَارِ مِنَ الزَّلَلِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَنْقُلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ، وَلَكِنْ يُقَلِّدُ مَنْ سَمِعَهُ وَلَا يَحْتَاطُ لَهُ.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ قَوْلُهُ: قِيلَ وَقَالَ مِنْ قَوْلِهِمْ قِيلَ كَذَا وَقَالَ كَذَا، وَبِنَاؤُهُمَا عَلَى كَوْنِهِمَا فِعْلَيْنِ مَحْكِيَّيْنِ مُتَضَمِّنَيْنِ لِلضَّمِيرِ وَالْإِعْرَابِ عَلَى إِجْرَائِهِمَا مَجْرَى الْأَسْمَاءِ خِلْوَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا قِيلَ وَقَالَ وَإِدْخَالُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ: مَا يُعْرَفُ الْقَالُ والْقِيلُ لِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ وَهَلْ هُوَ سُؤَالُ الْمَالِ، أَوِ السُّؤَالُ عَنِ الْمُشْكِلَاتِ وَالْمُعْضِلَاتِ، أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ؟ وَأَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَثْرَةُ السُّؤَالِ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ وَأَحْدَاثِ الزَّمَانِ، أَوْ كَثْرَةُ سُؤَالِ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ عَنْ تَفَاصِيلِ حَالِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ الْمَسْئُولُ غَالِبًا. وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، وَثَبَتَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ السَّلَفِ كَرَاهَةَ تَكَلُّفِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهَا عَادَةً أَوْ يَنْدُرُ جِدًّا، وَإِنَّمَا كَرِهُوا ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَطُّعِ وَالْقَوْلِ بِالظَّنِّ، إِذْ لَا يَخْلُوا صَاحِب مِنَ الْخَطَأِ.

وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي اللِّعَانِ فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، وَكَذَا فِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فَذَلِكَ خَاصٌّ بِزَمَانِ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثِ أَعْظَمُ النَّاسِ جُرْمًا عِنْدَ اللَّهِ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِه مَسْأَلَتِهِ وَثَبَتَ أَيْضًا ذَمُّ السُّؤَالِ لِلْمَالِ وَمَدْحُ مَنْ لَا يُلْحِفُ فِيهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ حَدِيثُ لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي

ص: 407

فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ جَائِحَةٍ وَفِي السُّنَنِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ سَائِلًا فَاسْأَلِ الصَّالِحِينَ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ طَلَبُ مُبَاحٍ فَأَشْبَهَ الْعَارِيَةَ، وَحَمَلُوا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ عَلَى مَنْ سَأَلَ مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُؤَالِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا التَّحْرِيمُ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: أَنْ لَا يُلِحَّ وَلَا يُذِلَّ نَفْسَهُ زِيَادَةً عَلَى ذُلِّ نَفْسِ السُّؤَالِ، وَلَا يُؤْذِي الْمَسْئُولَ. فإذا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ.

وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: يُتَعَجَّبُ مِمَّنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا مَعَ وُجُودِ السُّؤَالِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَالشَّارِعُ لَا يُقِرُّ عَلَى مَكْرُوهٍ. قُلْتُ: لَعَلَّ مَنْ كَرِهَ مُطْلَقًا أَرَادَ أَنَّهُ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِهِ أَنْ تَتَغَيَّرَ صِفَتُهُ وَلَا مِنْ تَقْرِيرِهِ أَيْضًا، وَيَنْبَغِي حَمْلُ حَالِ أُولَئِكَ عَلَى السَّدَادِ، وَأَنَّ السَّائِلَ مِنْهُمْ غَالِبًا مَا كَانَ يَسْأَلُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ نَظَرٌ فَفِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ السُّؤَالِ كِفَايَةٌ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ): جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا سَأَلَ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إِذَا سَأَلَ لِغَيْرِهِ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.

قَوْلُهُ: (وَإِضَاعَةُ الْمَالِ) تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِقْرَاضِ أَنَّ الْأَكْثَرَ حَمَلُوهُ عَلَى الْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْحَرَامِ، وَالْأَقْوَى أَنَّهُ مَا أُنْفِقَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا سَوَاءٌ كَانَتْ دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً فَمَنَعَ مِنْهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَعَلَ الْمَالَ قِيَامًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَفِي تَبْذِيرِهَا تَفْوِيتُ تِلْكَ الْمَصَالِحِ، إِمَّا فِي حَقِّ مُضَيِّعِهَا وَإِمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ إِنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ لِتَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ مَا لَمْ يُفَوِّتْ حَقًّا أُخْرَوِيًّا أَهَمَّ مِنْهُ. وَالْحَاصِلُ فِي كَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: إِنْفَاقُهُ فِي الْوُجُوهِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا فَلَا شَكَّ فِي مَنْعِهِ، وَالثَّانِي: إِنْفَاقُهُ فِي الْوُجُوهِ الْمَحْمُودَةِ شَرْعًا فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَالثَّالِثُ: إِنْفَاقُهُ فِي الْمُبَاحَاتِ بِالْأَصَالَةِ كَمَلَاذِّ النَّفْسِ، فَهَذَا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ وَبِقَدْرِ مَالِهِ، فَهَذَا لَيْسَ بِإِسْرَافٍ. وَالثَّانِي: مَا لَا يَلِيقُ بِهِ عُرْفًا، وَهُوَ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ إِمَّا نَاجِزَةٍ أَوْ مُتَوَقَّعَةٍ، فَهَذَا لَيْسَ بِإِسْرَافٍ، وَالثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِسْرَافٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِسْرَافٍ قَالَ: لِأَنَّهُ تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْبَدَنِ وَهُوَ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَإِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَهُوَ مُبَاحٌ لَهُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَمْنَعُ مَا قَالَ اهـ.

وَقَدْ صَرَّحَ بِالْمَنْعِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَقَالَ فِي كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ: هُوَ حَرَامٌ، وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَغَارِمِ، وَصَحَّحَ فِي بَابِ الْحَجْرِ مِنَ الشَّرْحِ وَفِي الْمُحَرَّرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ لَيْسَ مَذْمُومًا لِذَاتِهِ ; لَكِنَّهُ يُفْضِي غَالِبًا إِلَى ارْتِكَابِ الْمَحْذُورِ كَسُؤَالِ النَّاسِ، وَمَا أَدَّى إِلَى الْمَحْذُورِ فَهُوَ مَحْذُورٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ الْبَحْثُ فِي جَوَازِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِمَنْ عُرِفَ مَنْ نَفْسِهِ الصَّبْرُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ، وَجَزَمَ الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِمَنْعِ اسْتِيعَابِ جَمِيعِ الْمَالِ بِالصَّدَقَةِ قَالَ: وَيُكْرَهُ كَثْرَةُ إِنْفَاقِهِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَلَا بَأْسَ بِهِ إِذَا وَقَعَ نَادِرًا لِحَادِثٍ يَحْدُثُ كَضَيْفٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ وَلِيمَةٍ. وَمِمَّا لَا خِلَافَ فِي كَرَاهَتِهِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْبِنَاءِ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي الزَّخْرَفَةِ وَمِنْهُ احْتِمَالُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي الْبِيَاعَاتِ بِغَيْرِ سَبَبٍ. وَأَمَّا إِضَاعَةُ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَخْتَصُّ بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهَا سُوءُ الْقِيَامِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالْبَهَائِمِ حَتَّى يَهْلِكُوا، وَدَفْعُ مَالِ مَنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ إِلَيْهِ، وَقَسْمة مَا لَا

ص: 408

يُنْتَفَعُ بِجُزْئِهِ كَالْجَوْهَرَةِ النَّفِيسَةِ.

وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ فِي الْحَلَبِيَّاتِ: الضَّابِطُ فِي إِضَاعَةِ الْمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ لِغَرَضٍ دِينِيٍّ وَلَا دُنْيَوِيٍّ، فَإِنِ انْتَفَيَا حَرُمَ قَطْعًا، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا وُجُودًا لَهُ بَالٌ وَكَانَ الْإِنْفَاقُ لَائِقًا بِالْحَالِ وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ جَازَ قَطْعًا، وَبَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ وَسَائِطُ كَثِيرَةٌ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ ضَابِطٍ. فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَرَى فِيمَا تَيَسَّرَ مِنْهَا رَأْيَهُ، وَأَمَّا مَا لَا يَتَيَسَّرُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ ; فَالْإِنْفَاقُ فِي الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ كُلُّهُ، وَلَا نَظَرَ إِلَى مَا يَحْصُلُ فِي مَطْلُوبِهِ مِنْ قَضَاءِ شَهْوَةٍ وَلَذَّةٍ حَسَنَةٍ. وَأَمَّا إِنْفَاقُهُ فِي الْمَلَاذِّ الْمُبَاحَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ الِاخْتِلَافِ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أَنَّ الزَّائِدَ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ إِسْرَافٌ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ بَذَلَ مَالًا كَثِيرًا فِي غَرَضٍ يَسِيرٍ تَافِهٍ عَدَّهُ الْعُقَلَاءُ مُضَيِّعًا، بِخِلَافِ عَكْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَهُوَ تَتَبُّعُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالْخِلَالِ الْجَمِيلَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ شَاهِينٍ الْوَاسِطِيُّ، وَخَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، وَالْجُرَيْرِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ هُوَ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ، وَهُوَ مِمَّنِ اخْتَلَطَ وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ سَمَاعَ خَالِدٍ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ وَلَا بَعْدَهُ، لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ وَيَأْتِي فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ كِلَاهُمَا عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، وَإِسْمَاعِيلُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنَ الْجُرَيْرِيِّ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ، وَبَيَّنَ فِي الشَّهَادَاتِ تَصْرِيحَ الْجُرَيْرِيِّ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ بِتَحْدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ لَهُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ) فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَلَا أُخْبِركُمْ.

قَوْلُهُ: (بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا) أَيْ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَكْرِيرِ الشَّيْءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَأْكِيدًا لِيُنَبِّهَ السَّامِعَ عَلَى إِحْضَارِ قَلْبِهِ وَفَهْمِهِ لِلْخَبَرِ الَّذِي يَذْكُرُهُ وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ثَلَاثًا عَدَدُ الْكَبَائِرِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ أَوَّلَ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ثَلَاثًا وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرَ، وَمِنْهَا صَغَائِرَ، وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الِاسْفَرَايِنِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرَةٌ بَلْ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَبِيرَةٌ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ كُلَّ مُخَالَفَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِهِ كَبِيرَةٌ اهـ.

وَنَسَبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى الْأَشْعَرِيَّةِ فَقَالَ: انْقِسَامُ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَخَالَفَهُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: الْمَعَاصِي كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ الْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِإِضَافَتِهَا إِلَى الزِّنَا وَكُلُّهَا كَبَائِرُ، قَالُوا: وَلَا ذَنْبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ وَاجِبًا بِاجْتِنَابِ ذَنْبٍ آخَرَ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ، وَمُرْتَكِبُهُ فِي الْمَشِيئَةِ غَيْرَ الْكُفْرِ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ الَّتِي احْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} أَنَّ الْمُرَادَ الشِّرْكُ. وَقَدْ قَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ قَرَأَ كَبَائِرَ فَالْمُرَادُ بِهَا كَبِيرٌ، وَكَبِيرُ الْإِثْمِ هُوَ الشِّرْكُ، وَقَدْ يَأْتِي لَفْظُ الْجَمْعِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وَلَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ غَيْرُ نُوحٍ، قَالُوا: وَجَوَازُ الْعِقَابِ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَجَوَازِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ اهـ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ إِنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ لَا يَلِيقُ بِالْفَقِيهِ.

قُلْتُ: قَدْ حَقَّقَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَنْقُولَ عَنِ الْأَشَاعِرَةِ وَاخْتَارَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، فَقَالَ فِي الْإِرْشَادِ: الْمَرْضِيُّ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ يُعْصَى اللَّهُ بِهِ كَبِيرَةٌ، فَرُبَّ شَيْءٍ يُعَدُّ صَغِيرَةً بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَقْرَانِ وَلَوْ كَانَ فِي حَقِّ الْمَلِكِ لَكَانَ كَبِيرَةً، وَالرَّبُّ أَعْظَمُ مَنْ عُصِيَ، فَكُلُّ ذَنْبٍ

ص: 409

بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُخَالَفَتِهِ عَظِيمٌ ; وَلَكِنَّ الذُّنُوبَ وَإِنْ عَظُمَتْ فَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي رُتَبِهَا. وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ فَقَالَ: التَّحْقِيقُ أَنَّ لِلْكَبِيرَةِ اعْتِبَارَيْنِ: فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مُقَايَسَةِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ فَهِيَ تَخْتَلِفُ قَطْعًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآمِرِ النَّاهِيِ فَكُلُّهَا كَبَائِرُ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ، وَإِنَّمَا جَرَى إِلَيْهِ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَالْحَدِيثُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عز وجل عَنْهُ كَبِيرَةٌ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فَجَعَلَ فِي الْمَنْهِيَّاتِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ إِذْ جَعَلَ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ فِي الْآيَةِ مَشْرُوطًا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَاسْتَثْنَى اللَّمَمَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، فَكَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى حَبْرِ الْقُرْآنِ؟ قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ اللَّمَمِ، لَكِنَّ النَّقْلَ الْمَذْكُورَ عَنْهُ، أَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَالطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولًا عَلَى نَهْيٍ خَاصٍّ وَهُوَ الَّذِي قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ كَمَا قَيَّدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُهُ عَلَى مُقَيَّدِهِ جَمْعًا بَيْنَ كَلَامَيْهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ أَمْرَانِ نِسْبِيَّانِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ يُضَافَانِ إِلَيْهِ وَهُوَ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الطَّاعَةُ أَوِ الْمَعْصِيَةُ أَوِ الثَّوَابُ. فَأَمَّا الطَّاعَةُ فَكُلُّ مَا تُكَفِّرُهُ الصَّلَاةُ مَثَلًا هُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَكُلُّ مَا يُكَفِّرُهُ الْإِسْلَامُ أَوِ الْهِجْرَةُ فَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ.

وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا بِسَبَبِهَا وَعِيدًا أَوْ عِقَابًا أَزْيَدَ مِنَ الْوَعِيدِ أَوِ الْعِقَابِ الْمُسْتَحَقِّ بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ أُخْرَى فَهِيَ كَبِيرَةٌ، وَأَمَّا الثَّوَابُ فَفَاعِلُ الْمَعْصِيَةِ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَالصَّغِيرَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَبِيرَةٌ، فَقَدْ وَقَعَتِ الْمُعَاتَبَةُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمُورٍ لَمْ تُعَدَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مَعْصِيَةً اهـ. وَكَلَامُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَعِيدِ وَالْعِقَابِ يُخَصِّصُ عُمُومَ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّ عَلَامَةَ الْكَبِيرَةِ وُرُودُ الْوَعِيدِ أَوِ الْعِقَابِ فِي حَقِّ فَاعِلِهَا، لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مُطْلَقَ قَتْلِ النَّفْسِ مَثَلًا لَيْسَ كَبِيرَةً، كَأَنَّهُ وَإِنْ وَرَدَ الْوَعِيدُ فِيهِ أَوِ الْعِقَابُ لَكِنْ وَرَدَ الْوَعِيدُ وَالْعِقَابُ فِي حَقِّ قَاتِلِ وَلَدِهِ أَشَدُّ، فَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَأَنَّ الْمِثَالَ الْمَذْكُورَ وَمَا أَشْبَهَهُ يَنْقَسِمُ إِلَى كَبِيرَةٍ وَأَكْبَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي ضَبْطِ الْكَبِيرَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا مُنْتَشِرًا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللَّهُ بِنَارٍ فِي الْآخِرَةِ أَوْ أَوْجَبَ فِيهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا، قُلْتُ: وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى هَذَا الْأَخِيرِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَاوَرْدِيُّ وَلَفْظُهُ: الْكَبِيرَةُ ومَا وَجَبَتْ فِيهِ الْحُدُودُ، أَوْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْوَعِيدُ. وَالْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا. وَأُخْرِجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُتَّصِلٍ لَا بَأْسَ بِرِجَالِهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ كَبِيرَةٌ.

وَقَدْ ضَبَطَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْكَبَائِرَ بِضَوَابِطَ أُخْرَى، مِنْهَا قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْثِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ. وَقَوْلُ الْحَلِيمِيُّ: كُلُّ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: هِيَ مَا أَوْجَبَ الْحَدَّ. وَقِيلَ: مَا يُلْحِقُ الْوَعِيدَ بِصَاحِبِهِ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. هَذَا أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ لِلْأَصْحَابِ وَهُمْ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ أَمْيَلُ ; لَكِنَّ الثَّانِي أَوْفَقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ اهـ كَلَامُهُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا وَرَدَتِ النُّصُوصُ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً لَا حَدَّ فِيهِ كَالْعُقُوقِ، وَأَجَابَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ مُرَادَ قَائِلِهِ ضَبْطَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ: لَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ضَابِطٍ لِلْكَبِيرَةِ لَا يَسْلَمُ مِنَ

ص: 410

الِاعْتِرَاضِ، وَالْأَوْلَى ضَبْطُهَا بِمَا يُشْعِرُ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا بِدِينِهِ إِشْعَارًا دُونَ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا. قُلْتُ: وَهُوَ ضَابِطٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: الرَّاجِحُ أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ نُصَّ عَلَى كِبَرِهِ أَوْ عِظَمِهِ أَوْ تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ أَوْ عُلِّقَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ شُدِّدَ النَّكِيرُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَكَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ يُوَافِقُ مَا نُقِلَ أَوَّلًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ إِيجَابُ الْحَدِّ، وَعَلَى هَذَا يَكْثُرُ عَدَدُ الْكَبَائِرِ.

فَأَمَّا مَا وَرَدَ النَّصُّ الصَّرِيحُ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً فَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ فِي كِتَابِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ زِيَادَةً عَلَى السَّبْعِ الْمَذْكُورَاتِ مِمَّا نَصَّ عَلَى كَوْنِهَا كَبِيرَةً أَوْ مُوبِقَةً. وَقَدْ ذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الذُّنُوبَ الَّتِي لَمْ يُنَصَّ عَلَى كَوْنِهَا كَبِيرَةً مَعَ كَوْنِهَا كَبِيرَةً لَا ضَابِطَ لَهَا، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَا لَمْ يَنُصَّ الشَّارِعُ عَلَى كَوْنِهِ كَبِيرَةً فَالْحِكْمَةُ فِي إِخْفَائِهِ أَنْ يَمْتَنِعَ الْعَبْدُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً، كَإِخْفَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَسَاعَةِ الْجُمُعَةِ وَالِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ) قَوْلُهُ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْحَصْرِ بَلْ مِنْ فِيهِ مُقَدَّرَةٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ أَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، مِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قَتْلِ النَّفْسِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيِ الذَّنْبِ أَعْظَمُ فَذَكَرَ فِيهِ الزِّنَا بِحَلِيلَةِ الْجَارِ وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيِّ مَرْفُوعًا قَالَ: مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ - فَذَكَرَ مِنْهَا - الْيَمِينَ الْغَمُوسَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَحَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ - فَذَكَرَ مِنْهَا - مَنْعَ فَضْلِ الْمَاءِ وَمَنْعَ الْفَحْلِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَيَقْرَبُ مِنْهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَلَكِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعُقُوقِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ انْقِسَامُ الذُّنُوبِ إِلَى كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ فِي الذُّنُوبِ صَغَائِرَ، لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ مَنْ قَالَ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ فَالْكَبَائِرُ

وَالذُّنُوبُ عِنْدَهُ مُتَوَارِدَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الذُّنُوبِ؟ قَالَ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ اسْتِوَاؤُهَا فَإِنَّ الشِّرْكَ بِاللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مَعَهُ.

قَوْلُهُ: (الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الْكُفْرِ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِغَلَبَتِهِ فِي الْوُجُودِ، لَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، فَذَكَرَ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَصْنَافِ الْكُفْرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خُصُوصُهُ إِلَّا أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ وَهُوَ التَّعْطِيلُ فَيَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ عَلَى هَذَا.

قَوْلُهُ: (وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا، وَذَكَرَ قَبْلَهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي بَعْدَهُ قَتْلَ النَّفْسِ وَالْمُرَادُ قَتْلُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ) فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ فِي الشَّهَادَاتِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا وَأَمَّا فِي الِاسْتِئْذَانِ فَكَالْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَا يَسْكُتُ) هَكَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ أَيْ تَمَنَّيْنَاهُ يَسْكُتُ إِشْفَاقًا عَلَيْهِ لِمَا رَأَوْا مِنَ انْزِعَاجِهِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اهْتِمَامُهُ صلى الله عليه وسلم بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهَا أَسْهَلُ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ، وَالتَّهَاوُنُ

ص: 411

بِهَا أَكْثَرُ، وَمَفْسَدَتُهَا أَيْسَرُ وُقُوعًا ; لِأَنَّ الشِّرْكَ يَنْبُو عَنْهُ الْمُسْلِمُ، وَالْعُقُوقُ يَنْبُو عَنْهُ الطَّبْعُ، وَأَمَّا قَوْلُ الزُّورِ فَإِنَّ الْحَوَامِلَ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ فَحَسُنَ الِاهْتِمَامُ بِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعِظَمِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذُكِرَ مَعَهَا. قَالَ: وَأَمَّا عَطْفُ الشَّهَادَةِ عَلَى اقَوْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلشَّهَادَةِ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْكِذْبَةُ الْوَاحِدَةُ مُطْلَقًا كَبِيرَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْكَذِبِ مَنْصُوصًا عَلَى عِظَمِهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وَفِي الْجُمْلَةِ فَمَرَاتِبُ الْكَذِبِ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَفَاسِدِهِ، قَالَ: وَقَدْ نَصَّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ كَبِيرَةٌ، وَالْغِيبَةُ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْقَوْلِ الْمُغْتَابِ بِهِ، فَالْغِيبَةُ بِالْقَذْفِ كَبِيرَةٌ وَلَا تُسَاوِيهَا الْغِيبَةُ بِقُبْحِ الْخِلْقَةِ أَوِ الْهَيْئَةِ مَثَلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ; لِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةِ زُورٍ قَوْلُ زُورٍ بِغَيْرِ عَكْسٍ، وَيُحْتَمَلُ قَوْلُ الزُّورِ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْهُ. قُلْتُ: وَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ، وَيُؤَيِّدُهُ وُقُوعُ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي بَعْدَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: شَهَادَةُ الزُّورِ هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْكَذِبِ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الْبَاطِلِ مِنْ إِتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ، فَلَا شَيْءَ مِنَ الْكَبَائِرِ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْهَا وَلَا أَكْثَرُ فَسَادًا بَعْدَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكُفْرُ، فَإِنَّ الْكَافِرَ شَاهِدٌ بِالزُّورِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ يَسْتَحِلُّ شَهَادَةَ الزُّورِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ ابْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَبَائِرَ أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالشَّكِّ، وَجَزَمَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الشَّهَادَاتِ بِالثَّانِي قَالَ: سُئِلَ إِلَخْ، وَقَعَ فِي الدِّيَاتِ عَنْ عُمَرَ وَهُوَ ابْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ سَمِعَ أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ الْحَدِيثَ وَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لِابْنِ مَنْدَهْ وَفِي كِتَابِ الْقُضَاةِ لِلنَّقَّاشِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ وَقَدْ عَلَّقَ الْبُخَارِيُّ فِي الشَّهَادَاتِ طَرِيقَ أَبِي عَامِرٍ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فِي أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ لَا مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُطْلَقَةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالَ: قَوْلُ الزُّورِ إِلَخْ) هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ خَصَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ بِقَوْلِ الزُّورِ ; وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا قَبْلُ تُؤْذِنَ بِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَاتِ مُشْتَرِكَاتٌ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ، قَالَ شُعْبَةُ وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ) قُلْتُ: وَوَقَعَ الْجَزْمُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي الشَّهَادَاتِ، قَالَ قُتَيْبَةُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَلَمْ يَشُكَّ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَلَمْ يَشُكَّ أَيْضًا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ اسْتِحْبَابُ إِعَادَةِ الْمَوْعِظَةِ ثَلَاثًا لِتُفْهَمَ، وَانْزِعَاجِ الْوَاعِظِ فِي وَعْظِهِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْوَعْيِ عَنْهُ وَالزَّجْرِ عَنْ فِعْلِ مَا يَنْهَى عَنْهُ، وَفِيهِ غِلَظُ أَمْرِ شَهَادَةِ الزُّورِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ وَإِنْ كَانَتْ مَرَاتِبُهَا مُتَفَاوِتَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَضَابِطُ الزُّورِ وَصْفُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى الْقَوْلِ فَيَشْمَلُ الْكَذِبَ وَالْبَاطِلَ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى الشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِهَا، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى الْفِعْلِ وَمِنْهُ لَابِسُ ثَوْبَيْ زُورٍ وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الشَّعْرِ الْمَوْصُولِ زُورًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي اللِّبَاسِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} وَأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْبَاطِلُ وَالْمُرَادُ لَا يَحْضُرُونَهُ، وَفِيهِ التَّحْرِيضُ عَلَى مُجَانَبَةِ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ لِيَحْصُلَ تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ بِذَلِكَ كَمَا وَعَدَ اللَّهُ عز وجل، وَفِيهِ إِشْفَاقُ التِّلْمِيذِ عَلَى شَيْخِهِ إِذَا رَآهُ مُنْزَعِجًا وَتَمَنِّي عَدَمَ غَضَبِهِ لِمَا

ص: 412

يَتَرَتَّبُ عَلَى الْغَضَبِ مِنْ تَغَيُّرِ مِزَاجِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌7 - بَاب صِلَةِ الْوَالِدِ الْمُشْرِكِ

5978 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنِي أَبِي أَخْبَرَتْنِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} .

قَوْلُهُ: (بَابُ صِلَةِ الْوَالِدِ الْمُشْرِكِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَتَتْنِي أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْهِبَةِ.

وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ: رَاغِبَةٌ هَلْ هُوَ بِالْمِيمِ أَوِ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الَّذِي تَحَرَّرَ أَنَّ قَوْلَهَا: رَاغِبَةٌ إِنْ كَانَ بِلَا قَيْدٍ فَالْمُرَادُ رَاغِبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا غَيْرَ، وَإِذَا قُرِنَتْ بِقَوْلِهِ مُشْرِكَةً أَوْ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ فَالْمُرَادُ رَاغِبَةٌ فِي صِلَتِي، وَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ رَاغِمَةٌ بِالْمِيمِ فَمَعْنَاهَا كَارِهَةٌ لِلْإِسْلَامِ. قُلْتُ: أَمَّا الَّتِي بِالْمُوَحَّدَةِ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ فِيهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَتَعَيَّنُ الْقَيْدُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ رَاغِبَةً فِي الْإِسْلَامِ لَمْ تَحْتَجْ أَسْمَاءُ أَنْ تَسْتَأْذِنَ فِي صِلَتِهَا لِشُيُوعِ التَّأَلُّفِ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرِهِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانِهِ فِي ذَلِكَ.

‌8 - بَاب صِلَةِ الْمَرْأَةِ أُمَّهَا وَلَهَا زَوْجٌ

5979 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَت: قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ - فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أبيهَا، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ.

5980 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ صِلَةِ الْمَرْأَةِ أُمَّهَا وَلَهَا زَوْجٌ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا:

حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَوْرَدَهُ مُعَلَّقًا فَقَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي هِشَامٌ وَهُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَقَدْ وَقَعَ لَنَا مَوْصُولًا فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ إِلَى اللَّيْثِ، وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي جُزْءِ أَبِي الْجَهْمِ الْعَلَاءِ بْنِ مُوسَى عَنِ اللَّيْثِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِقْهُ التَّرْجَمَةِ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ لِأَسْمَاءَ أَنْ تَصِلَ أُمَّهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ مُشَاوَرَةَ زَوْجِهَا، قَالَ: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا بِدُونِ إِذْنِ

ص: 413

زَوْجِهَا. كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاشْتِرَاطِ إِنْ ثَبَتَ فِيهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ عَدَمُ التَّقْيِيدِ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ.

الثاني: حَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ، أَوْرَدَ مِنْهَا طَرَفًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ يَأْمُرُنَا يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ الصَّحِيحِ، وَذَكَرْتُ كَثِيرًا مِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا ذِكْرُ الصِّلَةِ فَيُؤْخَذُ حُكْمُ التَّرْجَمَةِ مِنْ عُمُومِهَا.

‌9 - بَاب صِلَةِ الْأَخِ الْمُشْرِكِ

5981 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: رَأَى عُمَرُ حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ وَالْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الْوُفُودُ. قَالَ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا بِحُلَلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟ قَالَ: إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا، وَلَكِنْ تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا. فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ. قَوْلُهُ (بَابُ صِلَةِ الْأَخِ الْمُشْرِكِ).

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رَأَى عُمَرُ حُلَّةً سِيَرَاءَ تُبَاعُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَلَكِنْ تَبِيعُهَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِتَبِيعَهَا.

‌10 - باب فَضْلِ صِلَةِ الرَّحِمِ

5982 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُثْمَانَ سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ

ح.

5983 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا بَهْزُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: مَا لَهُ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَبٌ مَا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ. ذَرْهَا. قَالَ: كَأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ صِلَةِ الرَّحِمِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، يُطْلَقُ عَلَى الْأَقَارِبِ وَهُمْ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ نَسَبٌ، سَوَاءٌ كَانَ يَرِثُهُ أَمْ لَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ أَمْ لَا. وَقِيلَ: هُمُ الْمَحَارِمُ فَقَطْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَجَّحُ لِأَنَّ الثَّانِي يَسْتَلْزِمُ خُرُوجَ أَوْلَادِ الْأَعْمَامِ وَأَوْلَادِ الْأَخْوَالِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وذكر فيه حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: أَرَبٌ مَا لَهُ وَفِيهِ تُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.

‌11 - باب إِثْمِ الْقَاطِعِ

ص: 414

5984 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: إِنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ الْقَاطِعِ) أَيْ قَاطِعُ الرَّحِمِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ) كَذَا أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ: وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَمَعْمَرٍ كُلِّهِمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ وَقَالَ فِيهِ: قَاطِعُ رَحِمٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَرِوَايَةِ مَالِكٍ، قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ. وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ سُفْيَانَ رَوَاهُ عَنْهُ كَرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ فَأَدْرَجَ التَّفْسِيرَ، وَقَدْ وَرَدَ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي حَرِيزٍ بِمُهْمَلَةٍ وَرَاءٍ ثُمَّ زَايٍ بِوَزْنِ عَظِيمٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ قَاضِي سِجِسْتَانَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَفَعَهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا مُصَدِّقٌ بِسِحْرٍ، وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْر رَفَعَهُ مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ عَشِيَّةِ خَمِيسٍ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ، فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ مُغْلَقَةٌ دُونَ قَاطِعِ الرَّحِمِ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى رَفَعَهُ إِنَّ الرَّحْمَةَ لَا تَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ الرَّحِمِ وَذَكَرَ الطِّيبِيُّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ يُسَاعِدُونَهُ عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّحْمَةِ الْمَطَرُ وَأَنَّهُ يُحْبَسُ عَنِ النَّاسِ عُمُومًا الرِّزْقُ بِشُؤْمِ التَّقَاطُعِ.

‌12 - باب مَنْ بُسِطَ لَهُ فِي الرِّزْقِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ

5985 -

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ.

5986 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ. وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ بُسِطَ لَهُ فِي الرِّزْقِ لِصِلَةِ الرَّحِمِ) أَيْ لِأَجْلِ صِلَةِ رَحِمِهِ.

قَوْلُهُ: (مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنٍ) أَيِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنِ بْنِ نَضْلَةَ - بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ - ابْنِ عَمْرٍو، وَلِنَضْلَةَ جَدِّهِ الْأَعْلَى صُحْبَةٌ، وَهُوَ قَلِيلُ الْحَدِيثِ مُوَثَّقٌ لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَا أَبُوهُ لَكِنْ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ أَوْ مَوْضِعَانِ.

قَوْلُهُ: (سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ) الْمَقْبُرِيُّ.

قَوْلُهُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ) فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَنْ أَحَبَّ وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ وَعِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ يُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ وَأَخْرَجَ

ص: 415

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ وَالْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ نَحْوَ حَدِيثَيِ الْبَابِ قَالَ: وَيَدْفَعُ عَنْهُ مِيتَةَ السُّوءِ وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ إِنَّ الصَّدَقَةَ وَصِلَةَ الرَّحِمِ يَزِيدُ اللَّهُ بِهِمَا الْعُمُرَ، وَيَدْفَعُ بِهِمَا مِيتَةَ السُّوءِ فَجَمَعَ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنْ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظٍ مَنِ اتَّقَى رَبَّهُ وَوَصَلَ رَحِمَهُ نُسِئَ لَهُ فِي عُمُرِهِ، وَثَرِيَ مَالُهُ، وَأَحَبَّهُ أَهْلُهُ.

قَوْلُهُ: (وَيُنْسَأُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، ثُمَّ هَمْزَةٌ أَيْ: يُؤَخَّرُ.

قَوْلُهُ: (فِي أَثَرِهِ) أَيْ فِي أَجَلِهِ، وَسُمِّيَ الْأَجَلُ أَثَرًا لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْعُمُرَ، قَالَ زُهَيْرٌ:

وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ

لَا يَنْقَضِي الْعُمْرُ حَتَّى يَنْتَهِي الْأَثَرُ وَأَصْلُهُ مِنْ أَثَرِ مَشْيِهِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ لَا يَبْقَى لَهُ حَرَكَةٌ فَلَا يَبْقَى لِقَدَمِهِ فِي الْأَرْضِ أَثَرٌ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُعَارِضُ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَرَكَةِ فِي الْعُمُرِ بِسَبَبِ التَّوْفِيقِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَعِمَارَةِ وَقْتِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَصِيَانَتِهِ عَنْ تَضْيِيعِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا مَا جَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِأَعْمَارِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَةِ وَالصِّيَانَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَيَبْقَى بَعْدَهُ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ التَّوْفِيقِ الْعِلْمُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ عَلَيْهِ، وَالْخَلَفُ الصَّالِحُ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. ثَانِيهمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالْعُمُرِ، أَمَّا الْأَوَّلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ - تَعَالَى -، كَأَنْ يُقَالَ لِلْمَلَكِ مَثَلًا: إِنَّ عُمُرَ فُلَانٍ مِائَةٌ مَثَلًا إِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ، وَسِتُّونَ إِنْ قَطَعَهَا.

وَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَصِلُ أَوْ يَقْطَعُ، فَالَّذِي فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَالَّذِي فِي عِلْمِ الْمَلَكِ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فَالْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فِي عِلْمِ الْمَلَكِ، وَمَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ هُوَ الَّذِي فِي عِلْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا مَحْوَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ. وَيُقَالُ لَهُ الْقَضَاءُ الْمُبْرَمُ، وَيُقَالُ لِلْأَوَّلِ الْقَضَاءُ الْمُعَلَّقُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِلَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّ الْأَثَرَ مَا يَتْبَعُ الشَّيْءَ، فَإِذَا أُخِّرَ حَسُنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الذِّكْرِ الْحَسَنِ بَعْدَ فَقْدِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ صَاحِبِ الْفَائِقِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُبْقِي أَثَرَ وَاصِلِ الرَّحِمِ فِي الدُّنْيَا طَوِيلًا فَلَا يَضْمَحِلُّ سَرِيعًا كَمَا يَضْمَحِلُّ أَثَرُ قَاطِعِ الرَّحِمِ. وَلَمَّا أَنْشَدَ أَبُو تَمَّامٍ قَوْلَهُ فِي بَعْضِ الْمَرَاثِي:

تُوُفِّيَتِ الْآمَالُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ

وَأَصْبَحَ فِي شُغْلٍ عَنِ السَّفَرِ السَّفْرُ

قَالَ لَهُ أَبُو دُلَفٍ: لَمْ يَمُتْ مَنْ قِيلَ فِيهِ هَذَا الشِّعْرُ. وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ قَوْلُ الْخَلِيلِ عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} وَقَدْ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ أُنْسِئَ لَهُ فِي أَجَلِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ زِيَادَةً فِي عُمُرِهِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} الْآيَةَ ; وَلَكِنَّ الرَّجُلَ تَكُونُ لَهُ الذُّرِّيَّةُ الصَّالِحَةُ يَدْعُونَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ. وَلَهُ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَي مُشَجِّعَةَ الْجُهَنِيِّ رَفَعَهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا، وَإِنَّمَا زِيَادَةُ الْعُمُرِ ذُرِّيَّةٌ صَالِحَةٌ الْحَدِيثَ. وَجَزَمَ ابْنُ فورَكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِزِيَادَةِ الْعُمُرِ نَفْيُ الْآفَاتِ عَنْ صَاحِبِ الْبِرِّ فِي فَهْمِهِ وَعَقْلِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ فِي أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ وَفِي وُجُودِ الْبَرَكَةِ فِي رِزْقِهِ وَعِلْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ص: 416

‌13 - بَاب مَنْ وَصَلَ وَصَلَهُ اللَّهُ

5987 -

حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَمِّي سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَهُوَ لَكِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}

5988 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ اللَّهُ: مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ.

5989 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الرَّحِمُ شِجْنَةٌ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ وَصَلَ وَصَلَهُ اللَّهُ) أَيْ مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَمُعَاوِيَةُ هُوَ ابْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بَعْدَهَا دال مُهْمَلَةٌ، تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَتَسْمِيَتُهُ فِي أَوَّلِ الزَّكَاةِ، وَلِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ آخَرُ وَهُوَ ثَالِثُ أَحَادِيثِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ) تَقَدَّمَ تَأْوِيلُ فَرَغَ فِي تَفْسِيرِ الْقِتَالِ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَلْقِ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُكَلَّفِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِبْرَازِهَا فِي الْوُجُودِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ خَلْقِهَا كَتْبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَلَمْ يَبْرُزْ بَعْدُ إِلَّا اللَّوْحُ وَالْقَلَمُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْتِهَاءِ خَلْقِ أَرْوَاحِ بَنِي آدَمَ عِنْدَ قَوْلِهِ:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} لَمَّا أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عليه السلام مِثْلَ الذَّرِّ.

قَوْلُهُ: (قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ الْمَقَالِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَالثَّانِي أَرْجَحُ. وَعَلَى الثَّانِي فَهَلْ تَتَكَلَّمُ كَمَا هِيَ أَوْ يَخْلُقُ اللَّهُ لَهَا عِنْدَ كَلَامِهَا حَيَاةً وَعَقْلًا؟ قَوْلَانِ أَيْضًا مَشْهُورَانِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِصَلَاحِيَّةِ الْقُدْرَةِ الْعَامَّةِ لِذَلِكَ، وَلِمَا فِي الْأَوَّلَيْنِ مِنْ تَخْصِيصِ عُمُومِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ حَصْرِ قُدْرَةِ الْقَادِرِ الَّتِي لَا يَحْصُرُهَا شَيْءٌ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقِتَالِ حَمْلُ عِيَاضٍ لَهُ عَلَى الْمَجَازِ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ ضَرْبِ الْمَثَلِ، وَقَوْلُهُ أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ الْقَوْلُ مَلَكًا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الرَّحِمِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مَا يَتَعَلَّقُ بِزِيَادَةٍ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ إِنَّ الرَّحِمَ أَخَذَتْ بِحُجْزَةِ الرَّحْمَنِ وَحَكَى

ص: 417

شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُجْزَةِ هُنَا قَائِمَةُ الْعَرْشِ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ إِنَّ الرَّحِمَ أَخَذَتْ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقِتَالِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِلَفْظٍ هَذَا مَكَانُ بَدَلَ مَقَامُ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمُرَادِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَصِلُ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعُ مَنْ قَطَعَكِ) فِي ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْوَصْلُ مِنَ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَنْ عَظِيمِ إِحْسَانِهِ، وَإِنَّمَا خَاطَبَ النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ، وَلَمَّا كَانَ أَعْظَمُ مَا يُعْطِيهِ الْمَحْبُوبُ لِمُحِبِّهِ الْوِصَالَ وَهُوَ الْقُرْبُ مِنْهُ وَإِسْعَافُهُ بِمَا يُرِيدُ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى مَا يُرْضِيهِ، وَكَانَتْ حَقِيقَةُ ذَلِكَ مُسْتَحِيلَةً فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى -، عُرِفَ أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ عَظِيمِ إِحْسَانِهِ لِعَبْدِهِ. قَالَ: وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْقَطْعِ، هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حِرْمَانِ الْإِحْسَانِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَسَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّهُ يَعْنِي الْقَوْلَ الْمَنْسُوبَ إِلَى الرَّحِمِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَوِ الْحَقِيقَةِ أَوْ إِنَّهُ عَلَى جِهَةِ التَّقْدِيرِ وَالتَّمْثِيلِ كَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَوْ كَانَتِ الرَّحِمُ مِمَّنْ يَعْقِلُ وَيَتَكَلَّمُ لَقَالَتْ كَذَا، وَمِثْلُهُ {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا} الْآيَةَ، وَفِي آخِرِهَا {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} فَمَقْصُودُ هَذَا الْكَلَامِ الْإِخْبَارُ بِتَأَكُّدِ أَمْرِ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ فَأَدْخَلَهُ فِي حِمَايَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَارُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْذُولٍ، وَقَدْ قَالَ: مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، وَإِنَّ مَنْ يَطْلُبْهُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذِمَّتِهِ يُدْرِكْهُ ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ) لِسُلَيْمَانَ فِي هَذَا الْمَعْنَى ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا: هَذَا، وَالْآخَرُ: الْحَدِيثُ الَّذِي قَبْلَهُ - وَقَدْ سَبَقَ مِنْ طَرِيقِهِ فِي تَفْسِيرِ الْقِتَالِ وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ - والثالث حديثه عن معاوية بن أبي مزرد أيضا عن يزيد بن رومان وهو ثالث أحاديث الباب.

قَوْلُهُ: (الرَّحِمُ شِجْنَةٌ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ، وَجَاءَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ رِوَايَةً وَلُغَةً. وَأَصْلُ الشِّجْنَةِ عُرُوقُ الشَّجَرِ الْمُشْتَبِكَةُ، وَالشَّجَنُ بِالتَّحْرِيكِ وَاحِدُ الشُّجُونِ وَهِيَ طُرُقُ الْأَوْدِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الْحَدِيثُ ذُو شُجُونٍ أَيْ يَدْخُلُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الرَّحْمَنِ أَيْ أُخِذَ اسْمُهَا مِنْ هَذَا الِاسْمِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي السُّنَنِ مَرْفُوعًا أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ مُشْتَبِكَةٌ بِهَا ; فَالْقَاطِعُ لَهَا مُنْقَطِعٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّحِمَ اشْتُقَّ اسْمُهَا مِنَ اسْمِ الرَّحْمَنِ فَلَهَا بِهِ عَلَقَةٌ، وَلَيْسَ مضاه أَنَّهَا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الرَّحِمَ الَّتِي تُوصَلُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَالْعَامَّةُ رَحِمُ الدِّينِ وَتَجِبُ مُوَاصَلَتُهَا بِالتَّوَادُدِ وَالتَّنَاصُحِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ. وَأَمَّا الرَّحِمُ الْخَاصَّةُ فَتَزِيدُ النَّفَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ وَالتَّغَافُلِ عَنْ زَلَّاتِهِمْ. وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُ اسْتِحْقَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: تَكُونُ صِلَةُ الرَّحِمِ بِالْمَالِ، وَبِالْعَوْنِ عَلَى الْحَاجَةِ، وَبِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَبِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، وَبِالدُّعَاءِ.

وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ إِيصَالُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْخَيْرِ، وَدَفْعُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الشَّرِّ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَمِرُّ إِذَا كَانَ أَهْلُ الرَّحِمِ أَهْلَ اسْتِقَامَةٍ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ فُجَّارًا فَمُقَاطَعَتُهُمْ فِي اللَّهِ هِيَ صِلَتُهُمْ، بِشَرْطِ بَذْلِ الْجَهْدِ فِي وَعْظِهِمْ، ثُمَّ إِعْلَامِهِمْ إِذَا أَصَرُّوا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَلَا يَسْقُطُ مَعَ ذَلِكَ صِلَتُهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِظَهْرِ الْغَيْبِ أَنْ يَعُودُوا إِلَى الطَّرِيقِ الْمُثْلَى.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ اللَّهُ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ لَهَا وَهَذِهِ الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، وَأَحْسَنُ مَا يُقَدَّرُ لَهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ اللَّهُ إِلَخْ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَهُوَ

ص: 418

بِلَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي قَبْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ. وَفِي الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ تَعْظِيمُ أَمْرِ الرَّحِمِ، وَأَنَّ صِلَتَهَا مَنْدُوبٌ مُرَغَّبٌ فِيهِ وَأَنَّ قَطْعَهَا مِنَ الْكَبَائِرِ لِوُرُودِ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِيهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَعَلَى رُجْحَانِ الْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أَسْمَاءَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الذَّوَاتِ أَوْ مِنَ الصِّفَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌14 - بَاب تُبَلُّ الرَّحِمُ بِبَلَالِهَا

5990 -

حَدَّثَني عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ - يَقُولُ: إِنَّ آلَ أَبِي - قَالَ عَمْرٌو فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ: بَيَاضٌ - لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ زَادَ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلَاهَا، يَعْنِي أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) هُوَ بِالتَّنْوِينِ (تُبَلُّ الرَّحِمُ بِبَلَالِهَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ بِالْمُثَنَّاةِ، وَيَجُوزُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ، وَالْمُرَادُ الْمُكَلَّفُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي) لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا وَعَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ هُوَ أَبُو عُثْمَانُ الْبَاهِلِيُّ الْبَصْرِيُّ وَيُقَالُ لَهُ: الْأَهْوَازِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ إِحْدَاهُمَا وَسَكَنَ الْأُخْرَى، وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَانْفَرَدَ بِهِ عَنِ السِّتَّةِ. وَحَدِيثُ الْبَابِ قَدْ حَدَّثَ بِهِ أَحْمَدُ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، لَكِنْ نَاسَبَ تَخْرِيجُهُ عَنْهُ كَوْنَ صَحَابِيِّهِ سَمِيَّة وَهُوَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ شَيْخُهُ هُوَ غُنْدَرٌ وَهُوَ بَصْرِيٌّ، وَلَمْ أَرَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ أَصْحَابِ شُعْبَةَ إِلَّا عِنْدَهُ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجَدِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، وَوَهْبِ بْنِ حَفْصٍ كَذَّبُوهُ.

قَوْلُهُ: (أنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ) عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ أَحْمَدَ وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ كِلَاهُمَا عَنْ غُنْدَرٍ بِلَفْظٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ قَيْسٍ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُعَلَّقَةِ، وَلَيْسَ لِقَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِعَمْرٍو فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثَانِ آخَرَانِ حَدِيثُ أَيُّ الرِّجَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ وَقَدْ مَضَى فِي الْمَنَاقِبِ، وَحَدِيثُ إِذَا اجْتَهَدَو الْحَاكِمُ وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ، وَلَهُ آخَرُ مُعَلَّقٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَضَى فِي الْمَبْعَثِ النَّبَوِيِّ، وَآخَرُ مَضَى فِي التَّيَمُّمِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ حَدِيثٌ آخَرُ فِي السَّحُورِ، وَهَذَا جَمِيعُ مَا لَهُ عِنْدَهُمَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَفْعُولِ أَيْ كَانَ الْمَسْمُوعُ فِي حَالَةِ الْجَهْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْفَاعِلِ أَيْ أَقُولُ ذَلِكَ جِهَارًا، وَقَوْلُهُ: غَيْرَ سِرٍّ تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ جَهَرَ بِهِ مَرَّةً وَأَخْفَاهُ أُخْرَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ خُفْيَةً بَلْ جَهَرَ بِهِ وَأَشَاعَهُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ آلَ أَبِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ مَا يُضَافُ إِلَى أَدَاةِ الْكُنْيَةِ، وَأَثْبَتَهُ الْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَتِهِ لَكِنْ كَنَّى عَنْهُ فَقَالَ: آلَ أَبِي فُلَانٍ وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتَيْ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْلِ مُسْلِمٍ مَوْضِعَ فُلَانٍ بَيَاضٌ ثُمَّ كَتَبَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ فُلَانٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْلَاحِ، وَفُلَانٌ كِنَايَةٌ عَنِ اسْمِ عَلَمٍ، وَلِهَذَا وَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاتِهِ أنَّ آلَ أَبِي يَعْنِي فُلَان وَلِبَعْضِهِمْ

ص: 419

أنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ بِالْجَزْمِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ) أَيْ غُنْدَرٌ شَيْخُ عَمْرٍو فِيهِ.

قَوْلُهُ: (بَيَاضٌ) قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي كِتَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ: إِنَّ الصَّوَابَ فِي ضَبْطِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِالرَّفْعِ، أَيْ وَقَعَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ مَوْضِعٌ أَبْيَضُ يَعْنِي بِغَيْرِ كِتَابَةٍ، وَفَهِمَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الِاسْمُ الْمُكَنَّى عَنْهُ فِي الرِّوَايَةِ فَقَرَأَهُ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أنَّ آلَ أَبِي بَيَاضٍ، وَهُوَ فَهْمٌ سَيِّئٌ مِمَّنْ فَهِمَهُ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ يُقَالُ لَهَا آلُ أَبِي بَيَاضٍ، فَضْلًا عَنْ قُرَيْشٍ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ مِنْ قَبِيلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ قُرَيْشٌ، بَلْ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: إِنَّ لَهُمْ رَحِمًا وَأَبْعَدَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى بَنِي بَيَاضَةَ وَهُمْ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّغْيِيرِ أَوِ التَّرْخِيمِ عَلَى رَأْيٍ، وَلَا يُنَاسِبُ السِّيَاقَ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: حُذِفَتِ التَّسْمِيَةُ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ الْكِنَايَةُ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، خَشِيَ أَنْ يُصَرِّحَ بِالِاسْمِ فَيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ إِمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَإِمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَإِمَّا مَعًا. وَقَالَ عِيَاضٌ: إِنَّ الْمَكْنِيَّ عَنْهُ هُنَا هُوَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: كَذَا وَقَعَ مُبْهَمًا فِي السِّيَاقِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَ قَوْلِهِ آلَ أَبِي، فَلَوْ كَانَ آلَ بَنِي لَأَمْكَنَ، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ آلِ أَبِي الْعَاصِ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَالْعَامُّ لَا يُفَسَّرُ بِالْخَاصِّ.

قُلْتُ: لَعَلَّ مُرَادَ الْقَائِلِ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْعَامَّ وَأَرَادَ الْخَاصَّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ حَفْصٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا أَنَّ آلَ بَنِي لَكِنْ وَهْبٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَجَزَمَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي حَوَاشِيهِ بِأَنَّهُ آلُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّهُ رَأَى فِي كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي هَذَا شَيْئًا يُرَاجَعُ مِنْهُ. قُلْتُ: قَالَ أَبُوُ بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ: كَانَ فِي أَصْلِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إنَّ آلَ أَبِي طَالِبٍ فَغَيَّرَ آلَ أَبِي فُلَانٍ كَذَا جَزَمَ بِهِ، وَتَعَقَّبَهُ بَعْضُ النَّاسِ وَبَالَغَ فِي التَّشْنِيعِ وَنَسَبَهُ إِلَى التَّحَامُلِ عَلَى آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَمْ يُصِبْ هَذَا الْمُنْكِرُ فَإِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَوْجُودَةٌ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ الْمُوَفَّقِ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بِسَنَدِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَفَعَهُ إِنَّ لِبَنِي أَبِي طَالِبٍ رَحِمًا أَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا لَكِنْ أَبْهَمَ لَفْظَ طَالِبٍ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لِمَنْ أَبْهَمَ هَذَا الْمَوْضِعَ ظَنُّهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي نَقْصًا فِي آلِ أَبِي طَالِبٍ ; وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمُوهُ كَمَا سَأُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

قَوْلُهُ: (لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِأَوْلِيَاءَ فَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا النَّفْيِ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ، أَيْ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ، وَالْمَنْفِيُّ عَلَى هَذَا الْمَجْمُوعُ لَا الْجَمِيعُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْوِلَايَةُ الْمَنْفِيَّةُ وِلَايَةُ الْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ لَا وِلَايَةُ الدِّينِ، وَرَجَّحَ ابْنُ التِّينِ الْأَوَّلَ وَهُوَ الرَّاجِحُ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ آلِ أَبِي طَالِبٍ عَلِيًّا، وَجَعْفَرًا أو هُمَا مِنْ أَخَصِّ النَّاسِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا لَهُمَا مِنَ السَّابِقَةِ وَالْقِدَمِ فِي الْإِسْلَامِ وَنَصْرِ الدِّينِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النَّاسِ صِحَّةَ هَذَا الْحَدِيثِ لِمَا نُسِبَ إِلَى بَعْضِ رُوَاتِهِ مِنَ النَّصْبِ وَهُوَ الِانْحِرَافُ عَنْ عَلِيٍّ وَآلِ بَيْتِهِ، قُلْتُ: أَمَّا قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ فَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ تَكَلَّمَ أَصْحَابُنَا فِي قَيْسٍ فَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ قَدْرَهُ وَعَظَّمَهُ وَجَعَلَ الْحَدِيثَ عَنْهُ مِنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ حَتَّى قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: هُوَ أَوْثَقُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: لَهُ أَحَادِيثُ مَنَاكِيرُ، وَأَجَابَ مَنْ أَطْرَاهُ بِأَنَّهَا غَرَائِبُ وَإِفْرَادُهُ لَا يَقْدَحُ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِهِ وَقَالَ: كَانَ يَحْمِلُ عَلَى عَلِيٍّ وَلِذَلِكَ تَجَنَّبَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَأَجَابَ مَنْ أَطْرَاهُ بِأَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ فقط.

قُلْتُ: وَالْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ثِقَةٌ ثَبْتٌ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ

ص: 420

التَّابِعِينَ، سَمِعَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَمَنْ دُونَهُ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ حَدِيثَ الْبَابِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَبَيَانُ بْنُ بِشْرٍ وَهُمَا كُوفِيَّانِ وَلَمْ يُنْسَبَا إِلَى النَّصْبِ، لَكِنَّ الرَّاوِي عَنْ بَيَانٍ وَهُوَ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ أُمَوِيٌّ قَدْ نُسِبَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّصْبِ، أَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ مَا كَانَ فَحَاشَاهُ أَنْ يُتَّهَمَ، وَلِلْحَدِيثِ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا فِي مُؤْمِنِي آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ الْمَجْمُوعُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ بِآلِ أَبِي طَالِبٍ أَبُو طَالِبٍ نَفْسُهُ وَهُوَ إِطْلَاقٌ سَائِغٌ كَقَوْلِهِ فِي أَبِي مُوسَى: إِنَّهُ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: آلُ أَبِي أَوْفَى وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ مُبَالَغَةً فِي الِانْتِفَاءِ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ لِكَوْنِهِ عَنهُ، وَشَقِيقَ أَبِيهِ، وَكَانَ الْقَيِّمَ بِأَمْرِهِ وَنَصْرِهِ وَحِمَايَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يُتَابِعْهُ عَلَى دِينِهِ انْتَفَى مِنْ مُوَالَاتِهِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْإِفْرَادِ وَإِرَادَةِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَرْقَانِيِّ وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي التَّحْرِيمِ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ لَكِنْ حُذِفَتِ الْوَاوُ مِنَ الْخَطِّ عَلَى وَفْقِ النُّطْقِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} وَقَوْلُهُ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ وَلِيِّيَ مَنْ كَانَ صَالِحًا وَأنْ بَعُدَ مِنِّي نَسَبُهُ، وَلَيْسَ وَلِيِّيَ مَنْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ وَإِنْ قَرُبَ مِنِّي نَسَبُهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَائِدَةُ الْحَدِيثِ انْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ فِي الدِّينِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا حَمِيمًا.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَوْجَبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْوِلَايَةَ بِالدِّينِ وَنَفَاهَا عَنْ أَهْلِ رَحِمِهِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَحْتَاجُ إِلَى الْوِلَايَةِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْمُوَارَثَةُ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبِينَ، وَأَنَّ الْأَقَارِبَ إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ تَوَارُثٌ وَلَا وِلَايَةٌ، قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّحِمَ الْمَأْمُورَ بِصِلَتِهَا وَالْمُتَوَعَّدَ عَلَى قَطْعِهَا هِيَ الَّتِي شُرِعَ لَهَا ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ أُمِرَ بِقَطْعِهِ مِنْ أَجْلِ الدِّينِ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَلْحَقُ بِالْوَعِيدِ مَنْ قَطَعَهُ لِأَنَّهُ قَطَعَ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِقَطْعِهِ، لَكِنْ لَوْ وَصَلُوا بِمَا يُبَاحُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لَكَانَ فَضْلًا، كَمَا دَعَا صلى الله عليه وسلم لِقُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا كَذَّبُوهُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِالْقَحْطِ، ثُمَّ اسْتَشْفَعُوا بِهِ، فَرَقَّ لَهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ بِرَحِمِهِمْ، فَرَحِمَهُمْ وَدَعَا لَهُمْ.

قُلْتُ: وَيُتَعَقَّبُ كَلَامُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُشَارِكُهُ فِيهِ كَلَامُ غَيْرِهِ وَهُوَ قَصْرُهُ النَّفْيَ عَلَى مَنْ لَيْسَ عَلَى الدِّينِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ فِي أَعْمَالِ الدِّينِ دَخَلَ فِي النَّفْيِ أَيْضًا لِتَقْيِيدِهِ الْوِلَايَةَ بِقَوْلِهِ:{وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَالثَّانِي: أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ الْكَافِرِ يَنْبَغِي تَقْيِيدُهَا بِمَا إِذَا أَيِسَ مِنْهُ رُجُوعًا عَنِ الْكُفْرِ، أَوْ رَجَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ صُلْبِهِ مُسْلِمٌ، كَمَا فِي الصُّورَةِ الَّتِي اسْتُدِلَّ بِهَا وَهِيَ دُعَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقُرَيْشٍ بِالْخِصْبِ وَعُلِّلَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ مَنْ يَتَرَخَّصُ فِي صِلَةِ رَحِمِهِ الْكَافِرِ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى الدِّينِ وَلَكِنَّهُ مُقَصِّرٌ فِي الْأَعْمَالِ مَثَلًا فَلَا يُشَارِكُ الْكَافِرَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: الْمَعْنَى أَنِّي لَا أُوَالِي أَحَدًا بِالْقَرَابَةِ، وَإِنَّمَا أُحِبُّ اللَّهَ - تَعَالَى - لِمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْعِبَادِ، وَأُحِبُّ صَالِحَ الْمُؤْمِنِينَ لِوَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَأُوَالِي مَنْ أُوَالِي بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذَوِيِ رَحِمٍ أَوْ لَا، وَلَكِنْ أَرْعَى لِذَوِي الرَّحِمِ حَقَّهُمْ لِصِلَةِ الرَّحِمِ، انْتَهَى.

وَهُوَ كَلَامٌ مُنَقَّحٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} عَلَى أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَما: الْأَنْبِيَاءُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ النَّقَّاشُ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ.

الثَّانِي: الصَّحَابَةُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، وَنَحْوُهُ فِي تَفْسِيرِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: هُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ وَأَشْبَاهُهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُنَافِقٍ.

الثَّالِثُ: خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ.

الرَّابِعُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

الْخَامِسُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ،

ص: 421

أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا، وَكَذَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ عبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ أَحَدِ الضُّعَفَاءِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنْهُ كَذَلِكَ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ كَذَلِكَ.

السَّادِسُ: أَبُو بَكْرٍ خَاصَّةً، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ شَرِيكٍ.

السَّابِعُ: عُمَرُ خَاصَّةً، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ وَاهٍ جِدًّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

الثَّامِنُ: عَلِيٌّ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ عَلِيٍّ نَفْسِهِ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ عَلِيٌّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدَيْنِ ضَعِيفَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ مَرْفُوعًا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ مَوْقُوفًا وَفِي سَنَدِهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ، وَذَكَرَهُ النَّقَّاشُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ وَابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ. قُلْتُ: فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَفِيهِ دَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ تَوَهُّمَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ نَقْصًا مِنْ قَدْرِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَيَكُونُ الْمَنْفِيُّ أَبَا طَالِبٍ وَمَنْ مَاتَ مِنَ آلِهِ كَافِرًا، وَالْمُثْبَتُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا، وَخُصَّ عَلِيٌّ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ رَأْسَهُمْ، وَأُشِيرَ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ إِلَى لَفْظِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَنُصَّ فِيهَا عَلَى عَلِيٍّ تَنْوِيهًا بِقَدْرِهِ وَدَفْعًا لِظَنِّ مَنْ يُتَوَهَّمُ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ غَضَاضَةً، وَلَوْ تَفَطَّنَ مَنْ كَنَّى عَنْ أَبِي طَالِبٍ لِذَلِكَ لَاسْتَغْنَى عَمَّا صَنَعَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَزَادَ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ) أَيِ ابْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أَبِي أُحَيْحَةَ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ ; وَهُوَ مَوَثَّقٌ عِنْدَهُمْ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُعَلَّقِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَنْبَسَةَ حَدَّثَنَا جَدِّي فَذَكَرَهُ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ نَهْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَذْكُورِ وَسَاقَهُ بِلَفْظٍ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي جَهْرًا غَيْرَ سِرٍّ: إِنَّ بَنِي أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ الْحَدِيثَ وَقَدْ قَدَّمْتُ لَفْظَ رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ الْمُوَفَّقِ، عَنْ عَنْبَسَةَ مِنْ عِنْدِ أَبِي نُعَيْمٍ وَأَنَّهَا أَخَصُّ مِنْ هَذَا.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ لَهَا رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا، يَعْنِي أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا) كَذَا لَهُمْ، لَكِنْ سَقَطَ التَّفْسِيرُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ بَعْدَهُ أَبُلُّهَا بِبَلَائِهَا وَبَعْد فِي الْأَصْلِ: كَذَا وَقَعَ، وَبِبَلَالِهَا أَجْوَدُ وَأَصَحُّ. وَبِبَلَاهَا لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا، انْتَهَى. وَأَظُنُّهُ مِنْ قَوْلِهِ كَذَا وَقَعَ إِلَخْ مِنْ كَلَامِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَجَّهَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا أَوْصَلَهُ إِلَيْهَا مِنَ الْأَذَى عَلَى تَرْكِهِمُ الْإِسْلَامَ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْأَذَى أَبُلُّهُ، وَوَجَّهَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْبَلَاءَ بِالْمَدِّ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْمَعْرُوفِ وَالْإِنْعَامِ، وَلَمَّا كَانَت الرَّحِمُ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْمَعْرُوفَ أُضِيفَ إِلَيْهَا ذَلِكَ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَصِلُهَا بِالْمَعْرُوفِ اللَّائِقِ بِهَا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرِّوَايَةَ إِنَّمَا هِيَ بِبَلَالِهَا مُشْتَقٌ مِنَ أَبُلُّهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطْنَا قَوْلَهُ: بِبَلَالِهَا بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِكَسْرِهَا وَهُمَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: رُوِّينَاهُ بِالْكَسْرِ، وَرَأَيْتُهُ لِلْخَطَّابِيِّ بِالْفَتْحِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ بِالْفَتْحِ لِلْأَكْثَرِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالْكَسْرِ. قُلْتُ: بِالْكَسْرِ أَوْجَهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْبِلَالِ جَمْعُ بَلَلٍ مِثْلَ جَمَلٍ وَجِمَالٍ، وَمَنْ قَالَهُ بِالْفَتْحِ بَنَاهُ عَلَى الْكَسْرِ مِثْلَ قَطَامِ وَحَذَامِ. وَالْبَلَالُ بِمَعْنَى الْبَلَلِ وَهُوَ النَّدَاوَةُ، وَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى الصِّلَةِ كَمَا أُطْلِقَ الْيُبْسُ عَلَى الْقَطِيعَةِ، لِأَنَّ النَّدَاوَةَ مِنْ شَأْنِهَا تَجْمِيعُ مَا يَحْصُلُ فِيهَا وَتَأْلِيفُهُ، بِخِلَافِ الْيُبْسِ فَمِنْ شَأْنِهِ التَّفْرِيقُ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: بَلَلْتُ الرَّحِمَ بَلًّا وَبَلَلًا وَبِلَالًا أَيْ نَدَّيْتُهَا بِالصِّلَةِ. وَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَى الْإِعْطَاءِ النَّدَى وَقَالُوا فِي الْبَخِيلِ مَا تَنْدَى كَفُّهُ

ص: 422

بِخَيْرٍ، فَشُبِّهَتْ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ بِالْحَرَارَةِ وَوَصْلُهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يُطْفِئُ بِبَرْدِهِ الْحَرَارَةَ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ: شَبَّهَ الرَّحِمَ بِالْأَرْضِ الَّتِي إِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا الْمَاءُ وَسَقَاهَا حَقَّ سُقْيِهَا أَزْهَرَتْ وَرُؤِيَتْ فِيهَا النَّضَارَةُ فَأَثْمَرَتِ الْمَحَبَّةَ وَالصَّفَاءَ، وَإِذَا تُرِكَتْ بِغَيْرِ سَقْيٍ يَبِسَتْ وَبَطَلَتْ مَنْفَعَتُهَا فَلَا تُثْمِرُ إِلَّا الْبَغْضَاءَ وَالْجَفَاءَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ سَنَةٌ جَمَادٌ أَيْ لَا مَطَرَ فِيهَا، وَنَاقَةٌ جَمَادٌ أَيْ لَا لَبَنَ فِيهَا. وَجَوَّزَ الْخَطَّابِيُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا فِي الْآخِرَةِ أَيْ أَشْفَعُ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَتَعَقَّبَهُ الدَّاوُدِيُّ بِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا يَصِلُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ وَخَصَّ - إِلَى أَنْ قَالَ - يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِي قَوْلِهِ: بِبَلَالِهَا مُبَالَغَةٌ بَدِيعَةٌ وَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} أَيْ زِلْزَالَهَا الشَّدِيدَ الَّذِي لَا شَيْءَ فَوْقَهُ، فَالْمَعْنَى أَبُلُّهَا بِمَا اشْتُهِرَ وَشَاعَ بِحَيْثُ لَا أَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئًا.

‌15 - بَاب لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ

5991 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو، وَفِطْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - قَالَ سُفْيَانُ: لَمْ يَرْفَعْهُ الْأَعْمَشُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَفَعَهُ حَسَنٌ، وَفِطْرٌ - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ) التَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ ; وَالْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيُّ بِفَاءٍ وَقَافٍ مُصَغَّرٌ، وَفِطْرٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ رَاءٌ هُوَ ابْنُ خَلِيفَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُجَاهِدٍ) أَيِ الثَّلَاثَةُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ الْعَاصِ، وَقَوْلُهُ: قَالَ سُفْيَانُ هُوَ الرَّاوِي، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَقَوْلُهُ: لَمْ يَرْفَعْهُ الْأَعْمَشُ وَرَفْعُهُ حَسَنٌ وَفِطْرٌ وهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو وَحْدَهُ مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ مُؤَمِّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا وَعَنِ الْأَعْمَشِ مَرْفُوعًا، وَتَابَعَهُ أَبُو قُرَّةَ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَلَى رَفْعِ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَخَالَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فَرَفَعَ رِوَايَةَ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ رِوَايَةَ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ مَرْفُوعَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ فِطْرٍ، وَبَشِيرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ كِلَاهُمَا عَنْ مُجَاهِدٍ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ شُيُوخِهِ عَنْ فِطْرٍ مَرْفُوعًا وَزَادَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: إِنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، وَلَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ) أَيِ الَّذِي يُعْطِي لِغَيْرِهِ نَظِيرَ مَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا لَيْسَ الْوَصْلُ أَنْ تَصِلَ مَنْ وَصَلَكَ، ذَلِكَ الْقِصَاصُ، وَلَكِنَّ الْوَصْلَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الرِّوَايَةُ فِيهِ بِالتَّشْدِيدِ، وَيَجُوزُ التَّخْفِيفُ.

قَوْلُهُ: (الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمَهُ وَصَلَهَا) أَيِ الَّذِي إِذَا مُنِعَ أَعْطَى، وَقُطِعَتْ ضُبِطَتْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي أَكْثَرِهَا بِفَتْحَتَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنَى لَيْسَتْ حَقِيقَةُ الْوَاصِلِ وَمَنْ يُعْتَدُّ بِصِلَتِهِ مَنْ يُكَافِئُ صَاحِبَهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، وَلَكِنَّهُ مَنْ يَتَفَضَّلُ عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ الْمُرَادُ

ص: 423

بِالْوَاصِلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَامِلِ، فَإِنَّ فِي الْمُكَافَأَةِ نَوْعَ صِلَةٍ، بِخِلَافِ مَنْ إِذَا وَصَلَهُ قَرِيبُهُ لَمْ يُكَافِئْهُ فَإِنَّ فِيهِ قَطْعًا بِإِعْرَاضِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، وَلَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ انْتَهَى. وَأَقُولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْي الْوَصْلِ ثُبُوتُ الْقَطْعِ فَهُمْ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: مواصِلٌ وَمُكَافِئٌ وَقَاطِعٌ، فَالْوَاصِلُ: مَنْ يَتَفَضَّلُ وَلَا يُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ، وَالْمُكَافِئُ: الَّذِي لَا يَزِيدُ فِي الْإِعْطَاءِ عَلَى مَا يَأْخُذُ، وَالْقَاطِعُ: الَّذِي يُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَفَضَّلُ. وَكَمَا تَقَعُ الْمُكَافَأَةُ بِالصِّلَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، كَذَلِكَ تقَعُ بِالْمُقَاطَعَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَمَنْ بَدَأَ حِينَئِذٍ فَهُوَ الْوَاصِلُ، فَإِنْ جُوزِيَ سُمِّيَ مَنْ جَازَاهُ مُكَافِئًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌16 - بَاب مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ

5992 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِي فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ قَالَ حَكِيمٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ. وَيُقَالُ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْيَمَانِ: أَتَحَنَّثُ. وَقَالَ مَعْمَرٌ وَصَالِحٌ وَابْنُ الْمُسَافِرِ أَتَحَنَّثُ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: التَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ. وَتَابَعَه هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ) أَيْ هَلْ يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ ثَوَابٌ؟ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ لِوُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.

قَوْلُهُ: (هَلْ كَانَ لِي فِيهَا أَجْرٍ)؟ وَهُوَ تَفْسِيرُ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عِنْدَ مُسْلِمٍ هَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ؟ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ أَفِيهَا أَجْرٌ؟ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مُسَافِرٍ هَلْ لِي فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْيَمَانِ أَتَحَنَّثُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ وَقَالَ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ وَفَاعِلُ قَالَ هُوَ الْبُخَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْيَمَانِ أَتَحَنَّتُ) يَعْنِي بِالْمُثَنَّاةِ بَدَلَ الْمُثَلَّثَةِ، يُشِيرُ إِلَى مَا أَوْرَدَهُ هُوَ فِي بَابِ شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ مِنَ الْحَرْبِيِّ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ بِلَفْظِ كُنْتُ أَتَحَنَّتُ أَوْ أَتَحَنَّثُ بِالشَّكِّ، وَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ بِالْوَجْهَيْنِ ; وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مَا صَوَّبَهُ عِيَاضٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: أَتَحَنَّتُ بِالْمُثَنَّاةِ لَا أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا، انْتَهَى. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَتَجَنَّبُ بِجِيمٍ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ فَقَالَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: يُقَالُ: أَتَجَنَّبُ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَالتَّجَنُّبُ تَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ التَّحَنُّثُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِنْثِ وَهُوَ الْإِثْمُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَتَوَقَّى مَا يُؤَثِّمُ. قُلْتُ: وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ تَقْوَى رِوَايَةُ أَتَجَنَّبُ بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَيَكُونُ التَّرَدُّدُ فِي اللَّفْظَتَيْنِ وَهْمًا أَتَحَنَّثُ بِمُهْمَلَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ وَأَتَجَنَّبُ بِجِيمٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ تَوَقِّي مَا يُوقِعُ فِي الْإِثْمِ، لَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ تَوَقِّي الْإِثْمَ فقط بَلْ أَعْلَى مِنْهُ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْبِرِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَعْمَرٌ، وَصَالِحٌ، وَابْنُ الْمُسَافِرِ: أَتَحَنَّثُ) يَعْنِي بِالْمُثَلَّثَةِ، أَمَّا رِوَايَةُ مَعْمَرٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الزَّكَاةِ، وَهِيَ فِي بَابِ فَمَنْ تَصَدَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَعَزَاهَا الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ لِلصَّلَاةِ، وَلَمْ أَرَهَا فِيهَا، وَأَمَّا رِوَايَةُ صَالِحٍ وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ فَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنُ الْمُسَافِرِ فَكَذَا وَقَعَ هُنَا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْمَشْهُورُ فِيهِ بِحَذْفِهِمَا، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ

ص: 424

الْفَهْمِيُّ الْمِصْرِيُّ أَمِيرُ مِصْرَ، فَوَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ التَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ) هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: حَدِّثْنَا كَيْفَ كَانَ بَدْءُ النُّبُوَّةِ؟ قَالَ: فَقَالَ عُبَيْدٌ وَأَنَا حَاضِرٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي حِرَاءَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَحَنَّثُ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالتَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: فَكَانَ يَتَحَنَّثُ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ. وَمَضَى التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَتَابَع هُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْمُتَابَعَةِ خُصُوصُ تَفْسِيرِ التَّحَنُّثِ بِالتَّبَرُّرِ، وَرِوَايَةُ هِشَامٍ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْعِتْقِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْهُ وَلَفْظُهُ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا يَعْنِي أَتَبَرَّرُ.

‌17 - بَاب مَنْ تَرَكَ صَبِيَّةَ غَيْرِهِ حَتَّى تَلْعَبَ بِهِ، أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ مَازَحَهَا

5993 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَنَهْ سَنَهْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهَا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ .. يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَرَكَ صَبِيَّةَ غَيْرِهِ حَتَّى تَلْعَبَ بِهِ) أَيْ بِبَعْضِ جَسَدِهِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ مَازَحَهَا) قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَيْسَ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ لِلتَّقْبِيلِ ذِكْرٌ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا لَمْ يَنْهَهَا عَنْ مَسِّ جَسَدِهِ صَارَ كَالتَّقْبِيلِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ ذِكْرَ الْمَزْحِ بَعْدَ التَّقْبِيلِ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ ; وَأَنَّ الْمُمَازَحَةَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعَ الصَّغِيرَةِ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّأْنِيسُ، وَالتَّقْبِيلُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ،

وحَدِيثُ الْبَابِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ الْخَمِيصَةِ السَّوْدَاءِ مِنْ كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَعَبْدُ اللَّهِ فِي هَذَا السَّنَدِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَسَبِهِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي) أَيْ نَهَرَنِي، وَالزَّبْرُ بِزَايٍ وَمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ هُوَ الزَّجْرُ وَالْمَنْعُ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (أَبْلِي وَأَخْلِقِي) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي) قَالَ الدَّاوُدِيُّ يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَجِيءُ ثُمَّ لِلْمُقَارَنَةِ، وَأَبَى ذَلِكَ بَعْضُ النُّحَاةِ فَقَالُوا: لَا تَأْتِي إِلَّا لِلتَّرَاخِي، كَذَا قَالَ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنْ قَالَ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ: إِنَّ ثُمَّ لِلْمُقَارَنَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلتَّرْتِيبِ بِالْمُهْلَةِ، وَقَالَ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْمُقَارَنَةِ لِأَنَّ الْإِبْلَاءَ يَقَعُ بَعْدَ الْخَلْقِ أَوِ الْخَلْفِ. قُلْتُ: لَعَلَّ الدَّاوُدِيَّ أَرَادَ بِالْمُقَارَنَةِ الْمُعَاقَبَةَ فَيَتَّجِهُ كَلَامُهُ بَعْضَ اتِّجَاهٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَبَقِيَ) أَيِ الثَّوْبُ الْمَذْكُورُ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَبَقِيَتْ وَالْمُرَادُ أُمُّ خَالِدٍ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى ذَكَرَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ كَافٍ خَفِيفَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ رَاءٍ وَفِيهِ اكْتِفَاءٌ، وَالتَّقْدِيرُ ذَكَرَ الرَّاوِي زَمَنًا طَوِيلًا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمَعْنَى صَارَ شَيْئًا مَذْكُورًا عِنْدَ النَّاسِ بِخُرُوجِ بَقَائِهِ عَنِ الْعَادَةِ. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ قَرَأَهُ ذُكِرَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ

ص: 425

لَكِنْ لَمْ يَقَعْ عِنْدَنَا فِي الرِّوَايَةِ إِلَّا بِالْفَتْحُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ حَتَّى ذَكَرَ دَهْرًا وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْتُهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَتَّى دَكِنَ بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَكَافٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ نُونٍ أَيْ صَارَ أَدْكَنَ أَيْ أَسْوَدَ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ، الدُّكْنُ لَوْنٌ يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ، وَقَدْ دَكِنَ الثَّوْبُ بِالْكَسْرِ يَدْكَنُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَبِضَمِّهَا مَعَ الْفَتْحِ، وَقَدْ جَزَمَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ رِوَايَةَ الْكُشْمِيهَنِيِّ تَصْحِيفٌ.

قَوْلُهُ: (يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا) كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ وَالضَّمِيرُ لِلْخَمِيصَةِ أَوْ لِأُمِّ خَالِدٍ بِحَسَبِ التَّوْجِيهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.

‌18 - بَاب رَحْمَةِ الْوَلَدِ وَتَقْبِيلِهِ وَمُعَانَقَتِهِ. وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ: أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ

5994 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي نُعْمٍ، قَالَ: كُنْتُ شَاهِدًا لِابْنِ عُمَرَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنْ الدُّنْيَا.

5995 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ.

5996 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو قَتَادَةَ قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا".

5997 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِساً فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَداً فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ".

5998 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ".

5999 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه "قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّاً فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا

ص: 426

قَوْلُهُ: (بَابُ رَحْمَةِ الْوَلَدِ وَقُبْلَتُهُ وَمُعَانَقَتُهُ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَجُوزُ تَقْبِيلُ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ وَكَذَا الْكَبِيرُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ عَوْرَةً، وَتَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ فَاطِمَةَ عليها السلام أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُهَا، وَكَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُقَبِّلُ ابْنَتَهُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ) سَقَطَ هَذَا التَّعْلِيقُ لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ طَرِيقِ قُرَيْشِ بْنِ حِبَّانَ، عَنْ ثَابِتٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ. ثم ذكر المصنف في الباب ستة أحاديث.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (مَهْدِيٌّ) هُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي يَعْقُوبَ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي نُعْمٍ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَاسْمُ أَبِيهِ لَا يُعْرَفُ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا بَصْرِيُّونَ، وَهُوَ كُوفِيُّ عَابِدٌ اتَّفَقُوا عَلَى تَوْثِيقِهِ، وَشَذَّ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فَحَكَى عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ شَاهِدًا لِابْنِ عُمَرَ) أَيْ حَاضِرًا عِنْدَهُ.

قَوْلُهُ: (وَسَأَلَهُ رَجُلٌ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَاسْمُ الرَّجُلِ السَّائِلِ مَا عَرَفْتُهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ) تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ بِلَفْظِ الذُّبَابِ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ لَعَلَّهُ سَأَلَ عَنْهُمَا مَعًا. قُلْتُ: أَوْ أَطْلَقَ الرَّاوِي الذُّبَابَ عَلَى الْبَعُوضِ لِقُرْبِ شَبَهِهِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَعُوضِ مَعْنًى زَائِدٌ، قَالَ الْجَاحِظُ: الْعَرَبُ تُطْلِقُ عَلَى النَّحْلِ وَالدَّبْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ذُبَابًا.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) يَعْنِي الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ.

قَوْلُهُ: (وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ) هِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (رَيْحَانَتَايَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ رَيْحَانِي بِكَسْرِ النُّونِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَكَذَا عِنْدَ النَّسَفِيِّ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ رَيْحَانَتِي بِزِيَادَةِ تَاءِ التَّأْنِيثِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهُوَ وَهْمٌ وَالصَّوَابُ رَيْحَانَتَايَ. قُلْتُ: كَأَنَّهُ قَرَأَهُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ عَلَى التَّثْنِيَةِ فَجَعَلَهُ وَهْمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَالتَّخْفِيفِ فَلَا يَكُونُ وَهْمًا، وَالْمُرَادُ بِالرَّيْحَانِ هُنَا الرِّزْقُ، قَالَهُ ابْنُ التِّينِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ: أَيْ هُمَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ الَّذِي رَزَقَنِيهِ، يُقَالُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَرَيْحَانَهُ أَيْ أُسَبِّحُ اللَّهَ وَأَسْتَرْزِقَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الرَّيْحَانِ الْمَشْمُومَ، يُقَالُ: حَبَانِي بِطَاقَةِ رَيْحَانٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا مِمَّا أَكْرَمَنِي اللَّهُ وَحَبَانِي بِهِ، لِأَنَّ الْأَوْلَادَ يُشَمُّونَ وَيُقَبَّلُونَ فَكَأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الرَّيَاحِينِ.

وَقَوْلُهُ: مِنَ الدُّنْيَا أَيْ نَصِيبِي مِنَ الرَّيْحَانِ الدُّنْيَوِيِّ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَا هُوَ أَوْكَدُ عَلَى الْمَرْءِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ لِإِنْكَارِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَنْ سَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ مَعَ تَرْكِهِ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ الْكَبِيرَةِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا بِالْإِعَانَةِ عَلَى قَتْلِ الْحُسَيْنِ فَوَبَّخَهُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِعِظَمِ قَدْرِ الْحُسَيْنِ وَمَكَانِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ الرَّجُلَ بِعَيْنِهِ بَلْ أَرَادَ التَّنْبِيهَ عَلَى جَفَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ الْحِجَازِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَفْتَى السَّائِلَ عَنْ خُصُوصِ مَا سَأَلَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ كِتْمَانُ الْعِلْمِ إِلَّا إِنْ حُمِلَ السَّائِلَ مُتَعَنِّتًا. وَيُؤَكدُ مَا قُلْتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِصَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ الْمَذْكُورَ كَانَ مِمَّنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ الْحُسَيْنِ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَمَضَى فِي الزَّكَاةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ فَنَسَبَ أَبَاهُ لِجَدِّ أَبِيهِ وَإِدْخَالُ الزُّهْرِيِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُرْوَةَ رَجُلًا مِمَّا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ قَلِيلُ التَّدْلِيسِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ مَعْمَرٍ بِإِسْقَاطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ السَّنَدِ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الزُّهْرِيُّ سَمِعَهُ مِنْ عُرْوَةَ مُخْتَصَرًا

ص: 427

وَسَمِعَهُ عَنْهُ مُطَوَّلًا وَإِلَّا فَالْقَوْلُ مَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ وَمَعَهَا بِنْتَانِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَائِهِنَّ، وَسَقَطَتِ الْوَاوُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَعَهَا وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا) زَادَ مَعْمَرٌ وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ) هَكَذَا فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَائِشَةَ جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ تَمْرَةً إِلَى فمهَا لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَنَشِقَتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ نَحْوِهِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مُرَادَهَا بِقَوْلِهِا فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْ أَخُصُّهَا بِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا فِي أَوَّلِ الْحَالِ سِوَى وَاحِدَةٍ فَأَعْطَتْهَا ثُمَّ وَجَدَتْ ثِنْتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِتَحْتَانِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ أَوَّلَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ مِنَ الْبَلَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَيْضًا بِشَيْءٍ وَقَوَّاهُ عِيَاضٌ وَأَيَّدَهُ بِرِوَايَةِ شُعَيْبٍ بِلَفْظِ مَنِ ابْتُلِيَ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالِابْتِلَاءِ هَلْ هُوَ نَفْسُ وُجُودِهِنَّ أَوِ ابْتُلِيَ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُنَّ، وَكَذَلِكَ هَلْ هُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْبَنَاتِ، أَوِ الْمُرَادُ مَنِ اتَّصَفَ مِنْهُنَّ بِالْحَاجَةِ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: مِنْ هَذِهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَنْ أَنْفَقَ عَلَى ابْنَتَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ذَاتَيْ قَرَابَةٍ يَحْتَسِبُ عَلَيْهِمَا، الَّذِي يَقَعُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ الْإِحْسَانِ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَجِيدِ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَكَذَا وَقَعَ فِي ابْنِ مَاجَهْ وَزَادَ وَأَطْعَمَهُنَّ وَسَقَاهُنَّ وَكَسَاهُنَّ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ أَدَبَهُنَّ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَفِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ يُؤْوِيهِنَّ وَيَرْحَمُهُنَّ وَيَكْفُلُهُنَّ زَادَ الطَّبَرِيُّ فِيهِ وَيُزَوِّجُهُنَّ وَلَهُ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَوْسَطِ وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَفِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُنَّ وَاتَّقَى اللَّهَ فِيهِنَّ وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ يَجْمَعُهَا لَفْظُ الْإِحْسَانِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْسَانِ هَلْ يَقْتَصِرُ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ أَوْ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ؟ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، فَإِنَّ عَائِشَةَ أَعْطَتِ الْمَرْأَةَ التَّمْرَةَ فَآثَرَتْ بِهَا ابْنَتَيْهَا فَوَصَفَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِحْسَانِ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَعْرُوفًا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَوْ زَادَ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ عُدَّ مُحْسِنًا، وَالَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَى الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُحْسِنًا لَكِنِ الْمُرَادَ مِنَ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ قَدْرٌ

زَائِدٌ، وَشَرْطُ الْإِحْسَانِ أَنْ يُوَافِقَ الشَّرْعَ لَا مَا خَالَفَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِفَاعِلِهِ إِذَا اسْتَمَرَّ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ اسْتِغْنَاؤُهُنَّ عَنْهُ بِزَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ يَحْصُلُ لِمَنْ أَحْسَنَ لِوَاحِدَةٍ فَقَطْ، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ: أَوِ اثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: أَوِ اثْنَتَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَقِيلَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قُلْنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ السَّائِلِينَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فَرَأَى بَعْضُ الْقَوْمِ أَنْ لَوْ قَالَ وَوَاحِدَةٌ لَقَالَ وَوَاحِدَةٌ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قُلْنَا: وَثِنْتَيْنِ؟ قَالَ: وَثِنْتَيْنِ. قُلْنَا: وَوَاحِدَةٌ؟ قَالَ: وَوَاحِدَةٌ، وَشَاهِدُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ فَأَدَّبَهَا وَأَحْسَنَ أَدَبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمِهَا وَأَوْسَعَ عَلَيْهَا مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ الَّتِي أَوْسَعَ عَلَيْهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ وَاهٍ.

قَوْلُهُ:

ص: 428

(كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَجِيدِ حِجَابًا وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. وَفِي الْحَدِيثِ تَأْكِيدُ حَقِّ الْبَنَاتِ لِمَا فِيهِنَّ مِنَ الضَّعْفِ غَالِبًا عَنِ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ أَنْفُسِهِنَّ، بِخِلَافِ الذُّكُورِ لِمَا فِيهِمْ مِنْ قُوَّةِ الْبَدَنِ وَجَزَالَةِ الرَّأْي وَإِمْكَانِ التَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِيهِ جَوَازُ سُؤَالِ الْمُحْتَاجِ، وَسَخَاءِ عَائِشَةَ لِكَوْنِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَّا تَمْرَةً فَآثَرَتْ بِهَا، وَأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يَمْتَنِعُ التَّصَدُّقُ بِهِ لِحَقَارَتِهِ، بَلْ يَنْبَغِي لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَعْرُوفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْفَخْرِ وَلَا الْمِنَّةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِابْنِ بَطَّالٍ: إِنَّمَا سَمَّاهُ ابْتِلَاءً لِأَنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَ الْبَنَاتَ، فَجَاءَ الشَّرْعُ بِزَجْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَرَغَّبَ فِي إِبْقَائِهِنَّ وَتَرْكِ قَتْلِهِنَّ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الثَّوَابِ الْمَوْعُودِ بِهِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ. وَقَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ هُنَا الِاخْتِبَارَ، أَيْ مَنِ اخْتُبِرَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَنَاتِ لِيُنْظَرَ مَا يَفْعَلُ أَيُحْسِنُ إِلَيْهِنَّ أَوْ يُسِيءُ، وَلِهَذَا قَيَّدَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِالتَّقْوَى، فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَّقِي اللَّهَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَتَضَجَّرَ بِمَنْ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، أَوْ يُقْصِرُ عَمَّا أُمِرَ بِفِعْلِهِ، أَوْ لَا يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ وَتَحْصِيلَ ثَوَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الحديث الثالث، قَوْلُهُ (وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ) أَيِ ابْنُ الرَّبِيعِ، وَهِيَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَضَعَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ فِي أَبْوَابِ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي، وَوَقَعَ هُنَا بِلَفْظِ رَكَعَ وَهُنَاكَ بِلَفْظِ سَجَدَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَهُوَ رَحْمَةُ الْوَلَدِ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ وَلَدٌ. وَمِنْ شَفَقَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَرَحْمَتُهُ لِأُمَامَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَكَعَ أَوْ سَجَدَ يَخْشَى عَلَيْهَا أَنْ تَسْقُطَ فَيَضَعُهَا بِالْأَرْضِ وَكَأَنَّهَا كَانَتْ لِتَعَلُّقِهَا بِهِ لَا تَصبرُ فِي الْأَرْضِ فَتَجْزَعُ مِنْ مُفَارَقَتِهِ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَحْمِلَهَا إِذَا قَامَ. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ عِظَمَ قَدْرِ رَحْمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ تُعَارِضُ حِينَئِذٍ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْخُشُوعِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَى مُرَاعَاةِ خَاطِرِ الْوَلَدِ فَقَدَّمَ الثَّانِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ قَوْلُهُ: (إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرٍ فَرَّقَهُمَا كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَسَبُ الْأَقْرَعِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ، وَهُوَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَمِمَّنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ لِي عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مَا قَبَّلْتُ إِنْسَانًا قَطُّ.

قَوْلُهُ: (مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ) هُوَ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْخَبَرِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: هُوَ لِلْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ مَنْ مَوْصُولَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً فَيُقْرَأُ بِالْجَزْمِ فِيهِمَا، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: جَعْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ سِيقَ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ إِلَخْ أَيِ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ لَا يُرْحَمُ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطِيَّةً لَكَانَ فِي الْكَلَامِ بَعْضُ انْقِطَاعٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَجَوَابُهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. قُلْتُ: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ نَوْعِ ضَرْبِ الْمَثَلِ، وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهَا مَوْصُولَةً لِكَوْنِ الشَّرْطِ إِذَا أَعْقَبَهُ نَفْيٌ يُنْفَى غَالِبًا بِلَمْ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَرْجِيحًا إِذَا كَانَ الْمَقَامُ لَائِقًا بِكَوْنِهَا شَرْطِيَّةً. وَأَجَازَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَشَارِقِ الرَّفْعَ فِي الْجُزْءيْنِ وَالْجَزْمَ فِيهِمَا وَالرَّفْعَ فِي الْأُولَى وَالْجَزْمَ فِي الثَّانِي وَبِالْعَكْسِ فَيَحْصُلُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَاسْتُبْعِدَ الثَّالِثُ، وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الثَّانِي بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ لَا تَرْحَمُوا مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَظَاهِرٌ وَتَقْدِيرُهُ مَنْ لَا يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ فَإِنَّهُ لَا يُرْحَمُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَقُلْتُ لَهُ احْمِلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إِنَّهَا

مُطَوَّقَةٌ مَنْ يَأْتِهَا لَا يَضِيرُهَا

ص: 429

وَفِي جَوَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَقْرَعِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَقْبِيلَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَهْلِ والْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَجَانِبِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ لَا لِلَّذَّةِ وَالشَّهْوَةِ، وَكَذَا الضَّمُّ وَالشَّمُّ وَالْمُعَانَقَةُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَقْرَعَ الْمَذْكُورَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ التَّمِيمِيَّ ثُمَّ السَّعْدِيَّ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي الْأَغَانِي مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ وَلَفْظُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ قِصَّةً فِيهَا فَهَلْ إِلَّا أَنْ تُنْزَعَ الرَّحْمَةَ مِنْكَ فَهَذَا أَشْبَهُ بِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَوَقَعَ نَحْوَ ذَلِكَ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْفَزَارِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَآهُ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ، وَالْحُسَيْنُ فَقَالَ: أَتُقَبِّلُهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ إِنَّ لِي عَشْرَةً فَمَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ ذَلِكَ لِجَمِيعِهِمْ فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فَقَالُوا.

قَوْلُهُ: (تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَمَا نُقَبِّلُهُمْ) وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَوَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُهُمْ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ.

قَوْلُهُ: (أَوَ أَمْلِكُ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْهَمْزَةِ الْأُولَى لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ لَا أَمْلِكُ، أَيْ لَا أَقْدِرُ أَنْ أَجْعَلَ الرَّحْمَةَ فِي قَلْبِكَ بَعْدَ أَنْ نَزَعَ

هَا اللَّهُ مِنْهُ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ مُرَادَةٌ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَمَا أَمْلِكُ وَلَهُ فِي أُخْرَى مَا ذَنْبِي إِنْ كَانَ إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (أَنْ نَزَعَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا مَفْعُولُ أَمْلِكَ وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ كَسْرَ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ وَالْجَزَاءُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ إِنْ نَزَعَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ لَا أَمْلِكُ لَكَ رَدَّهَا إِلَيْهِ. وَوَقَعَ فِي قِصَّةِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هُوَ سَعِيدٌ، وَمَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَيْهِ. وَأَبُو غَسَّانَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، وَالْإِسْنَادُ مِنْهُ فَصَاعِدًا مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (قُدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِسَبْيٍ وَبِضَمِّ قَافِ قُدِمَ وَهَذَا السَّبْيُ هُوَ سَبْيُ هَوَازِنَ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ تَحْلُبُ وَضَمِّ اللَّامِ وَثَدْيَهَا بِالنَّصْبِ وَتَسْقِي بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَبِقَافٍ مَكْسُورَةٍ، وَلِلْبَاقِينَ قَدْ تَحَلَّبَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ تَهَيَّأَ لِأَنْ يُحْلَبَ، وَثَدْيُهَا بِالرَّفْعِ فَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْإِفْرَادِ وَلِلْبَاقِينَ ثَدْيَاهَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِسَقْيِ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَتَنْوِينِ التَّحْتَانِيَّةِ وَلِلْبَاقِينَ تَسْعَى بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ السَّعْيِ وَهُوَ الْمَشْيُ بِسُرْعَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحُلْوَانِيِّ، وَابْنِ عَسْكَرٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْن أَبِي مَرْيَمَ تَبْتَغِي بِمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مِنَ الِابْتِغَاءِ وَهُوَ الطَّلَبُ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ وَهْمٌ، وَالصَّوَابُ مَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ صَوَابٌ، فَهِيَ سَاعِيَةٌ وَطَالِبَةٌ لِوَلَدِهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لإخَفَاءَ بِحُسْنِ رِوَايَةِ تَسْعَى وَوُضُوحِهَا، وَلَكِنْ لِرِوَايَةِ تَبْتَغِي وَجْهًا وَهُوَ تَطْلُبُ وَلَدَهَا، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِلْعِلْمِ بِهِ، فَلَا يُغَلَّطُ الرَّاوِي مَعَ هَذَا التَّوْجِيهِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا) كَذَا لِلْجَمِيعِ وَلِمُسْلِمٍ، وَحُذِفَ مِنْهُ شَيْءٌ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَلَفْظُهُ إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا أَخَذَتْهُ فَأَرْضَعَتْهُ فَوَجَدَتْ صَبِيًّا فَأَخَذَتْهُ فَأَلْزَمَتْهُ بَطْنَهَا وَعُرِفَ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّهَا كَانَتْ فَقَدَتْ صَبِيَّهَا وَتَضَرَّرَتْ بِاجْتِمَاعِ اللَّبَنِ فِي ثَدْيهَا، فَكَانَتْ إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا أَرْضَعَتْهُ لِيَخِفَّ عَنْهَا، فَلَمَّا وَجَدَتْ صَبِيَّهَا بِعَيْنِهِ أَخَذَتْهُ فَالْتَزَمَتْهُ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الصَّبِيِّ وَلَا عَلَى اسْمِ أُمِّهِ.

قَوْلُهُ: (أَتُرَوْنَ)؟

ص: 430

بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ أَيْ أَتَظُنُّونَ؟

قَوْلُهُ: (قُلْنَا: لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ) أَيْ لَا تَطْرَحُهُ طَائِعَةً أَبَدًا. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقُلْنَا: لَا وَاللَّهِ، إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (لَلَّهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ لَامُ تَأْكِيدٍ، وَصَرَّحَ بِالْقَسَمِ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَلَّهُ أَرْحَمُ إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (بِعِبَادِهِ) كَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادِ هُنَا مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَصَبِيٌّ عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَأَتْ أُمُّهُ الْقَوْمَ خَشِيَتْ عَلَى وَلَدِهَا أَنْ يُوطَأَ فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَتَقُولُ: ابْنِي ابْنِي، وَسَعَتْ فَأَخَذَتْهُ، فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُلْقِي ابْنَهَا فِي النَّارِ، فَقَالَ: وَلَا اللَّهِ بِطَارِحٍ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ فَالتَّعْبِيرُ بِحَبِيبِهِ يُخْرِجُ الْكَافِرَ. وَكَذَا مَنْ شَاءَ إِدْخَالَهُ مِمَّنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ مُرْتَكِبِي الْكَبَائِرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: لَفْظُ الْعَبادِ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فَهِيَ عَامَّةٌ مِنْ جِهَةِ الصَّلَاحِيَّةِ وَخَاصَّةٌ بِمَنْ كُتِبَتْ لَهُ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ لِمَنْ سَبَقَ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ مِنْ أَيِّ الْعِبَادِ كَانَ حَتَّى الْحَيَوَانَاتِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَجْعَلَ تَعَلُّقَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ فُرِضَ أَنَّ فِيهِ رَحْمَةً مَا حَتَّى يُقْصَدَ لِأَجْلِهَا فَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَرْحَمُ مِنْهُ، فَلْيَقْصِدِ الْعَاقِلُ لِحَاجَتِهِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ لَهُ رَحْمَةً، قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ نَظَرِ النِّسَاءِ الْمَسْبِيَّاتِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي إِذْنَهُ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا.

وَفِيهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِمَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ لِمَا لَا يُدْرَكُ بِهَا لِتَحْصِيلِ مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ لَا يُحَاطُ بِحَقِيقَتِهِ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ لَا تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَرَّبَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلسَّامِعِينَ بِحَالِ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَفِيهِ جَوَازُ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ الْمَرْأَةَ عَنْ إِرْضَاعِ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ أَرْضَعَتْهُمْ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكْبُرَ بَعْضُهُمْ فَيَتَزَوَّجُ بَعْضَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ الْمَرْأَةُ مَعَهُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ حَالَةُ الْإِرْضَاعِ نَاجِزَةً، وَمَا يُخْشَى مِنَ الْمَحْرَمِيَّةِ مُتَوَهَّمٌ اغْتُفِرَ. قُلْتُ: وَلَفْظُ الصَّبِيِّ بِالتَّذْكِيرِ فِي الْخَبَرِ يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَطْفَالَ لَوْلَا أَنَّهُمْ كَانَ بِهِمْ ضَرُورَةٌ إِلَى الْإِرْضَاعِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَا تَرَكَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تُرْضِعُ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَقْوَى فَلِأَنَّهُ أَقَرَّهَا عَلَى إِرْضَاعِهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَتَبَيَّنَ الضَّرُورَةَ اهـ. مُلَخَّصًا، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

‌19 - بَاب جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ في مِائَةَ جُزْءٍ

6000 -

حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ الْبَهْرَانِيُّ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ.

[الحديث 6000 - طرفه في: 6469]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ فِي مِائَةِ جُزْءٍ) هَكَذَا تُرْجِمَ بِبَعْضِ الْحَدِيثِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ بَابٌ مِنَ الرَّحْمَةِ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ بَابٌ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ.

قَوْلُهُ: (الْبَهْرَانِيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةٍ مِنْ قُضَاعَةَ

ص: 431

يَنْتَهِي نَسَبُهُمْ إِلَى بَهْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، نَزَلَ أَكْثَرُهُمْ حِمْصَ فِي الْإِسْلَامِ.

قَوْلُهُ: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ فِي مِائَةِ جُزْءٍ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ كَانَ الْمَعْنَى يَتِمُّ بِدُونِ الظَّرْفِ فَلَعَلَّ فِي زَائِدَةٌ أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، وَفِيهِ نَوْعُ مُبَالَغَةٍ إِذْ جَعَلَهَا مَظْرُوفًا لَهَا مَعْنَى بِحَيْثُ لَا يَفُوتُ مِنْهَا شَيْءٌ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سبحانه وتعالى لَمَّا مَنَّ عَلَى خَلْقِهِ بِالرَّحْمَةِ جَعَلَهَا فِي مِائَةِ وِعَاءٍ فَأَهْبَطَ مِنْهَا وَاحِدًا لِلْأَرْضِ. قُلْتُ: خَلَتْ أَكْثَرُ الطُّرُقِ عَنِ الظرف كَرِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِيَةِ فِي الرِّقَاقِ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى خَلَقَ اخْتَرَعَ وَأَوْجَدَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى قَدَّرَ، وَقَدْ وَرَدَ خَلَقَ بِمَعْنَى قَدَّرَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ تَقْدِيرَهُ لِذَلِكَ يَوْمَ أَظْهَرَ تَقْدِيرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: كُلُّ رَحْمَةٍ تَسَعُ طِبَاقَ الْأَرْضِ الْمُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ وَالتَّكْثِيرُ، وَقَدْ وَرَدَ التَّعْظِيمُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ كَثِيرًا.

قَوْلُهُ: (فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا) فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَأَخَّرَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَفِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَخَبَّأَ عِنْدَهُ مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً.

قَوْلُهُ: (وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا) فِي رِوَايَةِ الْمَقْبُرِيِّ وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ وَاحِدَةً قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الرَّحْمَةَ يُرَادُ بِهَا مُتَعَلِّقُ الْإِرَادَةِ لَا نَفْسُ الْإِرَادَةِ، وَأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَنَافِعِ وَالنِّعَمِ.

قَوْلُهُ: (فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ) فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ فَبهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ فِيهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: خُصَّ الْفَرَسُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ الْحَيَوَانِ الْمَأْلُوفِ الَّذِي يُعَايِنُ الْمُخَاطَبُونَ حَرَكَتَهُ مَعَ وَلَدِهِ، وَلِمَا فِي الْفَرَسِ مِنَ الْخِفَّةِ وَالسُّرْعَةِ فِي التَّنَقُّلِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَتَجَنَّبُ أَنْ يَصِلَ الضَّرَرُ مِنْهَا إِلَى وَالَدِهَا.

وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ سَلْيمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي آخِرِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ مِائَةً وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي فِي الدُّنْيَا بَيْنَ الْخَلْقِ تَكُونُ فِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا أَيْضًا، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُهَلَّبُ فَقَالَ: الرَّحْمَةُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَجَعَلَهَا فِي نُفُوسِهِمْ فِي الدُّنْيَا هِيَ الَّتِي يَتَغَافَرُونَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ التَّبَعَاتِ بَيْنَهُمْ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ اللَّهُ تِلْكَ الرَّحْمَةَ فِيهِمْ فَيَرْحَمَهُمْ بِهَا سِوَى رَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَهِيَ الَّتِي مِنْ صِفَةِ ذَاتِهِ وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا، فَهِيَ الَّتِي يَرْحَمُهُمْ بِهَا زَائِدًا عَلَى الرَّحْمَةِ الَّتِي خَلَقَهَا لَهُمْ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرَّحْمَةُ الَّتِي أَمْسَكَهَا عِنْدَ نَفْسِهِ هِيَ الَّتِي عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ الْمُسْتَغْفِرِينَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّ اسْتِغْفَارَهُمْ لَهُمْ دَالٌّ عَلَى أَنَّ فِي نُفُوسِهِمُ الرَّحْمَةَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. قُلْتُ: وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ الرَّحْمَةَ رَحْمَتَانِ، رَحْمَةٌ مِنْ صِفَةِ الذَّاتِ وَهِيَ لَا تَتَعَدَّدُ، وَرَحْمَةٌ مِنْ صِفَةِ الْفِعْلِ وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا هُنَا. وَلَكِنْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّ الَّتِي عِنْدَ اللَّهِ رَحْمَةٌ وَاحِدَةٌ بَلِ اتَّفَقَتْ جَمِيعُ الطُّرُقِ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَزَادَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ أَن يُكْمِلُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِائَةً بِالرَّحْمَةِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا، فَتَعَدُّدُ الرَّحْمَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَلْقِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ أَنْوَاعَ النِّعَمِ الَّتِي يُنْعِمُ بِهَا عَلَى خَلْقِهِ مِائَةُ نَوْعٍ، فَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِنَوْعٍ وَاحِدٍ انْتَظَمَتْ بِهِ مَصَالِحُهُمْ وَحَصَلَتْ بِهِ مَرَافِقُهُمْ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَّلَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا بَقِيَ فَبَلَغَتْ مِائَةً وَكُلُّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} فَإِنَّ رَحِيمًا

ص: 432

مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي لَا شَيْءَ فَوْقَهَا، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَبْقَى لَهُمْ حَظٌّ مِنَ الرَّحْمَةِ لَا مِنْ جِنْسِ رَحَمَاتِ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا إِذَا كَمَّلَ كُلُّ مَا كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الرَّحَمَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الْآيَةَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الرَّحْمَةُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِإِيصَالِ الْخَيْرِ، وَالْقُدْرَةُ فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالتَّعْلقُ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، لَكِنْ حَصْرُهُ فِي مِائَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ تَسْهِيلًا لِلْفَهْمِ وَتَقْلِيلًا لِمَا عِنْدَ الْخَلْقِ وَتَكْثِيرًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ هَذَا الْعَدَدِ الْخَاصِّ فَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ الشُّرَّاحِ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ الْخَاصَّ أُطْلِقَ لِإِرَادَةِ التَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ فِي الْمِائَةِ وَإِنَّمَا جَرَى فِي السَّبْعِينَ، كَذَا قَالَ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: ثَبَتَ أَنَّ نَارَ الْآخِرَةِ تَفْضُلُ نَارَ الدُّنْيَا بِتِسْعٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، فَإِذَا قُوبِلَ كُلُّ جُزْءٍ بِرَحْمَةٍ زَادَتِ الرَّحَمَاتُ ثَلَاثِينَ جُزْءًا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الرَّحْمَةَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ مِنَ النِّقْمَةِ فِيهَا. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: غَلَبَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي. قُلْتُ: لَكِنْ تَبْقَى مُنَاسَبَةُ خُصُوصِ هَذَا الْعَدَدِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُنَاسَبَةُ هَذَا الْعَدَدِ الْخَاصِّ لِكَوْنِهِ مِثْلُ عَدَدِ دَرَجِ الْجَنَّةِ، وَالْجَنَّةُ هِيَ مَحَلُّ الرَّحْمَةِ، فَكَأَنَّ كُلَّ رَحْمَةٍ بِإِزَاءِ دَرَجَةٍ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -، فَمَنْ نَالَتْهُ مِنْهَا رَحْمَةٌ وَاحِدَةٌ كَانَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً مَنْ حَصَلَتْ لَهُ جَمِيعُ الْأَنْوَاعِ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِي الْحَدِيثِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ النَّفْسَ يَكْمُلُ فَرَحُهَا بِمَا وُهِبَ لَهَا إِذَا كَانَ مَعْلُومًا مِمَّا يَكُونُ مَوْعُودًا. وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِيمَانِ، وَاتِّسَاعُ الرَّجَاءِ فِي رَحَمَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمُدَّخَرَةُ. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ فِي الرِّقَاقِ فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَفْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

‌20 - بَاب قَتْلِ الْوَلَدِ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ

6001 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ. قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَتْلِ الْوَلَدِ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ) تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: قَتْلُ الْمَرْءِ وَلَدَهُ إِلَخْ فَالضَّمِيرُ يَعُودُ لِلْمُقَدَّرِ فِي قَوْلِهِ قَتْلُ الْوَلَدِ. وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ بَابُ أَيِّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ وَعِنْدَ النَّسَفِيِّ بَابُ مِنَ الرَّحْمَةِ

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ الْحَدِيثَ، سَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

‌21 - بَاب وَضْعِ الصَّبِيِّ فِي الْحِجْرِ

6002 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ

ص: 433

صلى الله عليه وسلم وَضَعَ صَبِيًّا فِي حَجْرِهِ يُحَنِّكُهُ فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ وَضْعُ الصَّبِيِّ فِي الْحِجْرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ صَبِيًّا فِي حِجْرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا قَرِيبًا فِي الْعَقِيقَةِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ الرِّفْقُ بِالْأَطْفَالِ وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يَحْدُثُ مِنْهُمْ وَعَدَمُ مُؤَاخَذَتِهِمْ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمْ.

‌22 - بَاب وَضْعِ الصَّبِيِّ عَلَى الْفَخِذِ

6003 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَارِمٌ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ يُحَدِّثُهُ أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْأخر ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ التَّيْمِيُّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مِنْهُ شَيْءٌ قُلْتُ: حَدَّثْتُ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي عُثْمَانَ، فَنَظَرْتُ فَوَجَدْتُهُ عِنْدِي مَكْتُوبًا فِيمَا سَمِعْتُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ وَضْعِ الصَّبِيِّ عَلَى الْفَخِذِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ، وَأَبُو تَمِيمَةَ هُوَ طَرِيفٌ ; بِمُهْمَلَةٍ بِوَزْنِ عَظِيمٍ ابْنُ مُجَالِدٍ بِالْجِيمِ الْهُجَيْمِيُّ بِالْجِيمِ مُصَغَّرٌ.

قَوْلُهُ: (فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى فَخِذِهِ الْآخَرِ) اسْتَشْكَلَهُ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ؛ فَقَالَ: لَا أَدْرِي ذَلِكَ وَقَعَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ أُسَامَةَ أَكْبَرُ مِنَ الْحَسَنِ، ثُمَّ أَخَذَ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَمْرُ فِيهِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا قِيلَ فِي عُمْرِ الْحَسَنِ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِ سِنِينَ، وَأَمَّا أُسَامَةُ فَكَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا، وَقَدْ أَمَّرَهُ عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ كِبَارِ الْمُسْلِمِينَ كَعُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي الْمَنَاقِبِ، وَصَرَّحَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَهْلِهِ؛ قَالُوا: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُسَامَةُ ابْنُ تِسْعَ عَشَرَةَ سَنَةً؛ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُسَامَةُ مُرَاهِقٌ وَالْحَسَنُ ابْنُ سَنَتَيْنِ مَثَلًا وَيَكُونُ إِقْعَادُهُ أُسَامَةَ فِي حِجْرِهِ لِسَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ كَمَرَضٍ مَثَلًا أَصَابَ أُسَامَةَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَحَبَّتِهِ فِيهِ وَمَعَزَّتِهِ عِنْدَهُ يُمَرِّضُهُ بِنَفْسِهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَقْعَدَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَجَاءَ الْحَسَنُ ابْنُ ابْنَتِهِ فَأَقْعَدَهُ عَلَى الْفَخِذِ الْأُخْرَى، وَقَالَ مُعْتَذِرًا عَنْ ذَلِكَ: إِنِّي أُحِبُّهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ) أَمَّا عَلِيٌّ فَهُوَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ، وَأَمَّا يَحْيَى فَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَهُوَ التَّيْمِيُّ الْمَذْكُورُ قَبْلُ، ثُمَّ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ فَيَكُونُ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ عَنْ؛ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَخْ، وَعَنْ عَلِيٍّ إِلَخْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ؛ فَيَكُونُ مِنْ رِوَايَةِ الْب خَارِيِّ عَنْ شَيْخِهِ بِوَاسِطَةِ قَرِينِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَلَا يُسْتَغْرَبُ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ وَلَا مِنَ الْبُخَارِيِّ فَقَدْ حَدَّثَ بِالْكَثِيرِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ وَيُدْخِلُ أَحْيَانًا بَيْنَهُمُ الْوَاسِطَةَ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْ عَارِمٍ بِالْكَثِيرِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مِنْهَا، مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا في بَابِ قَوْلِ النَّبِيِّ

ص: 434

صلى الله عليه وسلم يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَأَدْخَلَ هُنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيِّ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ يَقُولُ عَنْ عَلِيٍّ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ انْتَهَى؛ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا صَحَّ الِاحْتِمَالُ الْأَخِيرُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ التَّيْمِيُّ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مِنْهُ شَيْءٌ) يَعْنِي شَكَّ هَلْ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ أَوْ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي عُثْمَانَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَفِي السَّنَدِ عَلَى الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ بَصْرِيُّونَ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ مِنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فَصَاعِدًا، وَلَيْسَ لِأَبِي تَمِيمَةَ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ وَآخَرُ سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَوَجَدْتُهُ عِنْدِي مَكْتُوبًا فِيمَا سَمِعْتُ) أَيْ مِنْ أَبِي عُثْمَانَ، فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ ثُمَّ لَقِيَ أَبَا عُثْمَانَ فَسَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ كَانَ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي عُثْمَانَ فَثَبَّتَهُ فِيهِ أَبُو تَمِيمَةَ، وَانْتَزَعَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ جَوَازَ الِاعْتِمَادِ فِي تَحْدِيثِهِمْ عَلَى خَطِّهِ وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرِ السَّمَاعَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ التَّذَكُّرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْمَسْأَلَةَ وَنَقَلَ الْخِلَافَ فِيهَا، وَالرَّاجِحُ فِي الرِّوَايَةِ الِاعْتِمَادُ.

‌23 - بَاب حُسْنُ الْعَهْدِ مِنْ الْإِيمَانِ

6004 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي بِثَلَاثِ سِنِينَ، لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا. وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِي فِي خُلَّتِهَا مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ حُسْنِ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعَهْدُ هُنَا رِعَايَةُ الْحُرْمَةِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: هُوَ الِاحْتِفَاظُ بِالشَّيْءِ وَالْمُلَازَمَةُ لَهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: حِفْظُ الشَّيْءِ وَمُرَاعَاتُهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَعَهْدُ اللَّهِ تَارَةً يَكُونُ بِمَا رَكَزَهُ فِي الْعَقْلِ وَتَارَةً بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَتَارَةً بِمَا يَلْتَزِمُهُ الْمُكَلَّفُ ابْتِدَاءً كَالنَّذْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} وَأَمَّا لَفْظُ الْعَهْدِ فَيُطْلَقُ بِالِاشْتِرَاكِ بِإِزَاءِ مَعَانٍ أُخْرَى، مِنْهَا الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ وَالْيَمِينُ وَالذِّمَّةُ وَالصِّحَّةُ وَالْمِيثَاقُ وَالْإِيمَانُ وَالنَّصِيحَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَالْمَطَرُ، وَيُقَالُ لَهُ الْعِهَادُ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ) قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَرْجَمَةِ خَدِيجَةَ مِنْ كِتَابِ الْمَنَاقِبِ. وَقَوْلُهُ: عَلَى خَدِيجَةَ يُرِيدُ مِنْ خَدِيجَةَ، فَأَقَامَ عَلَى مَقَامَ مِنْ وَحُرُوفُ الْجَرِّ تَتَنَاوَبُ فِي رَأْيٍ. أَوْ عَلَى سَبَبِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ خَدِيجَةَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ إِلَخْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ أَيْضًا، وَلَكِنْ أَوْرَدَهُ هُنَاكَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ لِيُهْدِيَ فِي خُلَّتِهَا مِنْهَا أَيْ مِنَ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ هِشَامٍ فِي فَضْلِ خَدِيجَةَ مَا يَسَعُهُنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَخُلَّتُهَا بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ أَيْ خَلَائِلُهَا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْخُلَّةُ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ، تَقُولُ: رَجُلٌ خُلَّةٌ وَامْرَأَةٌ خُلَّةٌ وَقَوْمٌ خُلَّةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِلَى أَهْلِ خُلَّتِهَا، أَيْ أَهْلِ صَدَاقَتِهَا، وَالْخُلَّةُ الصَّدَاقَةُ وَالْخَلِيلُ الصَّدِيقُ. قُلْتُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ ثُمَّ نُهْدِيهَا إِلَى خَلَائِلِهَا، وَسَبَقَ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَإِلَى أَصْدِقَائِهَا، وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ

ص: 435

بِالشَّيْءِ يَقُولُ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى فُلَانَةَ فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةً لِخَدِيجَةَ.

(تَنْبِيهٌ): جَرَى الْبُخَارِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْإِشَارَةِ دُونَ التَّصْرِيحِ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّرْجَمَةِ قَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ يَتَعَلَّقُ بِخَدِيجَةَ رضي الله عنها أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ؛ قَالَتْ: جَاءَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ، كَيْفَ حَالُكُمْ، كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَلَمَّا خَرَجَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الْإِقْبَالَ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَانَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ جُنَادَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ بِمَعْنَى الْقِصَّةِ وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

‌24 - بَاب فَضْلِ مَنْ يَعُولُ يَتِيمًا

6005 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا. وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ يَعُولُ يَتِيمًا) أَيْ يُرَبِّيهِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) أَيْ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ) أَيِ الْقَيِّمُ بِأَمْرِهِ وَمَصَالِحِهِ، زَادَ مَالِكٌ مِنْ مُرْسَلِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ: كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَوَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ سَعِيدٍ بِنْتُ مُرَّةَ الْفِهْرِيَّةِ عَنْ أَبِيهَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِأَنْ يَكُونَ جَدًّا أَوْ عَمًّا أَوْ أَخًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَارِبِ، أَوْ يَكُونَ أَبُو الْمَوْلُودِ قَدْ مَاتَ فَتَقُومُ أُمُّهُ مَقَامَهُ أَوْ مَاتَتْ أُمُّهُ فَقَامَ أَبُوهُ فِي التَّرْبِيَةِ مَقَامَهَا. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا: مَنْ كَفَلَ يَتِيمًا ذَا قَرَابَةٍ أَوْ لَا قَرَابَةَ لَهُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ الْمُرَادَ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.

قَوْلُهُ: (وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ السَّبَّاحَةُ بِمُهْمَلَةٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ الثَّانِيَةِ، وَالسَّبَّاحَةُ هِيَ الْإصْبُعُ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا يُسَبَّحُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ فَيُشَارُ بِهَا فِي التَّشَهُّدِ لِذَلِكَ، وَهِيَ السَّبَّابَةُ أَيْضًا لِأَنَّهَا يُسَبُّ بِهَا الشَّيْطَانُ حِينَئِذٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَقٌّ عَلَى مَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ لِيَكُونَ رَفِيقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنَّةِ، وَلَا مَنْزِلَةَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ وَفِيهِ وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا أَيْ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَيْنَ دَرَجَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَافِلِ الْيَتِيمِ قَدْرَ تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ الْحَدِيثَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ ذَلِكَ اسْتَوَتْ إِصْبَعَاهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ ثُمَّ عَادَتَا إِلَى حَالِهِمَا الطَّبِيعِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ تَأْكِيدًا لِأَمْرِ كَفَالَةِ الْيَتِيمِ.

قُلْتُ: وَمِثْلُ هَذَا لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَيَكْفِي فِي إِثْبَاتِ قُرْبِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ إِصْبَعٌ أُخْرَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأُمِّ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: مَعِي فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ يَعْنِي الْمُسَبِّحَةَ وَالْوُسْطَى إِذَا اتَّقَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قُرْبُ الْمَنْزِلَةِ حَالَةَ دُخُولِ الْجَنَّةِ، لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الْجَنَّةِ؛ فَإِذَا امْرَأَةٌ تُبَادِرُنِي فَأَقُولُ: مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا امْرَأَةٌ تَأَيَّمْتُ عَلَى أَيْتَامٍ لِي. وَرُوَاتُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ، وَقَوْلُهُ: تُبَادِرُنِي أَيْ لِتَدْخُلَ مَعِي أَوْ تَدْخُلَ فِي أَثَرِي، وَيُحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ: سُرْعَةَ الدُّخُولِ، وَعُلُوَّ الْمَنْزِلَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَفَعَهُ: أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى مَاتُوا أَوْ بَانُوا؛ فَهَذَا

ص: 436

فِيهِ قَيْدٌ زَائِدٌ وَتَقْيِيده فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: اتَّقِي اللَّهَ؛ أَيْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْيَتِيمِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِمَّ أَضْرِبُ مِنْهُ يَتِيمِي؟ قَالَ: مِمَّ كُنْتَ ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدَكَ غَيْرَ وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ، وَقَدْ زَادَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمَذْكُورِ: حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ؛ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ لِلْكَفَالَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمَدًا.

قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: لَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِ كَافِلِ الْيَتِيمِ يُشْبِهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوْ شُبِّهَتْ مَنْزِلَتُهُ فِي الْجَنَّةِ بِالْقُرْبِ مِنَ النَّبِيِّ أَوْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ لِكَوْنِ النَّبِيِّ شَأْنهُ أَنْ يُبْعَثَ إِلَى قَوْمٍ لَا يَعْقِلُونَ أَمْرَ دِينَهُمْ فَيَكُونُ كَافِلًا لَهُمْ وَمُعَلِّمًا وَمُرْشِدًا، وَكَذَلِكَ كَافِلُ الْيَتِيمِ يَقُومُ بِكَفَالَةِ مَنْ لَا يَعْقِلُ أَمْرَ دِينَهُ بَلْ وَلَا دُنْيَاهُ، وَيُرْشِدُهُ وَيُعَلِّمُهُ وَيُحْسِنُ أَدَبَهُ، فَظَهَرَتْ مُنَاسَبَةُ ذَلِكَ اهـ مُلَخَّصًا.

‌25 - بَاب السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ

6006 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ) أَيْ فِي مَصَالِحِهَا.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا وَحَدِيثَ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ مُرْسَلًا كِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ.

‌26 - بَاب السَّاعِي عَلَى الْمِسْكِينِ

6007 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَحْسِبُهُ قَالَ - يَشُكُّ الْقَعْنَبِيُّ -: كَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السَّاعِي عَلَى الْمِسْكِينِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ دُونَ الْمُرْسَلِ، وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَحْسِبُهُ قَالَ: يَشُكُّ الْقَعْنَبِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ: كَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَلَفْظُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ: كَالْمُجَاهِدِ أَوْ كَالَّذِي يَصُومُ. . الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ.

‌27 - بَاب رَحْمَةِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ

6008 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ؛ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ

ص: 437

تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا فَأَخْبَرْنَاهُ، وَكَانَ رَقيقًا رَحِيمًا؛ فَقَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ.

6009 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ؛ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ؛ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي؛ فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ؛ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ.

6010 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا، يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ.

6011 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْو تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.

6012 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا فَأَكَلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ.

6013 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ.

[الحديث 6013 - طرفه في: 7376]

قَوْلُهُ: (بَابُ رَحْمَةِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ) أَيْ صُدُورُ الرَّحْمَةِ مِنَ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ، قَالَ: لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَرْحَمُوا، قَالُوا: كُلُّنَا رَحِيمٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ، وَلَكِنَّهَا رَحْمَةُ النَّاسِ رَحْمَةُ الْعَامَّةِ؛ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَفِيهِ: وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَكَانَ رَقِيقًا رَحِيمًا وَهُوَ لِلْأَكْثَرِ بِقَافَيْنِ مِنَ الرِّقَّةِ، وَلِلْقَابِسِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَاءٍ ثُمَّ قَافٍ مِنَ الرِّفْقِ، وَقَوْلُهُ: شَبَبَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ شَابٍّ مِثْلُ بَارٍّ وَبَرَرَةٍ، وَقَوْلُهُ: فَقَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: لَوْ

ص: 438

رَجَعْتُمْ إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلَّمْتُمُوهُمُ؛ اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ التِّينِ عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ قَبْلَ الْفَتْحِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ بَلْ عَلَى الْبَعْضِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ وُفُودَ مَالِكٍ وَمَنْ مَعَهُ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ؟ وَقَوْلُهُ: وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي؛ حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى إِمَامَةِ الصِّبْيَانِ، وَزَيَّفَهُ فَأَجَادَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ، وَفِيهِ قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي سَقَى الْكَلْبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الشُّرْبِ قُبَيْلَ كِتَابِ الِاسْتِقْرَاضِ، وَالرُّطُوبَةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْحَيَاةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكَبِدَ إِذَا ظَمِئَتْ تَرَطَّبَتْ بِدَلِيلِ أَنَّهَا إِذَا أُلْقِيَتْ فِي النَّارِ ظَهَرَ مِنْهَا الرَّشْحُ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّارَ تُخْرِجُ مِنْهَا رُطُوبَتَهَا إِلَى خَارِجٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ أَنَّ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَقَعَ نَحْوُهَا لِامْرَأَةٍ، وَحُمِلَ عَلَى التَّعَدُّدِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ الْيَمَانِيُّ، وَقِيلَ: الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ الْأَعْرَابِيُّ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِمُحَمَّدٍ وَلَا تَغْفِرْ لِأَحَدٍ مَعَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدِ احْتَظَرْتَ وَاسِعًا، ثُمَّ تَنَحَّى الْأَعْرَابِيُّ فَبَالَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ. الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا، يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ) حَجَّرْتَ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ ثَقِيلَةٍ ثُمَّ رَاءٍ أَيْ ضَيَّقْتَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ كَمَا قَالَ الله - تَعَالَى -، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ حَجَّرْتَ بِالرَّاءِ لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِالزَّايِ، قَالَ وَهُمَا بِمَعْنًى، وَالْقَائِلُ يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ بَعْضُ رُوَاتِهِ وَكَأَنَّهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَنْكَرَ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَعْرَابِيِّ لِكَوْنِهِ بَخِلَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى مَنْ فَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ؛ حَيْثُ قَالَ:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: احْتَظَرْتَ؛ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَظَاءٍ مُشَالَةٍ بِمَعْنَى امْتَنَعْتِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِظَارِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مَا وَرَاءَهُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ قَوْلُهُ: (زَكَرِيَّا) هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ.

قَوْلُهُ: (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْمُرَادُ مَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُ كَامِلًا.

قَوْلُهُ: (وَتَوَادُّهُمْ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ، وَالْأَصْلُ التَّوَادُدُ فَأُدْغِمَ، وَالتَّوَادُدُ تَفَاعُلٌ مِنَ الْمَوَدَّةِ، وَالْوُدُّ وَالْوِدَادُ بِمَعْنًى، وَهُوَ تَقَرُّبُ شَخْصٍ مِنْ آخَرَ بِمَا يُحِبُّ.

قَوْلُهُ: (وَتَعَاطُفُهُمْ) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّرَاحُمَ وَالتَّوَادُدَ وَالتَّعَاطُفَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى لَكِنْ بَيْنَهَا فَرْقٌ لَطِيفٌ، فَأَمَّا التَّرَاحُمُ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَرْحَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأُخُوَّةِ الْإِيمَانِ لَا بِسَبَبِ شَيْءٍ آخَرَ، وَأَمَّا التَّوَادُدُ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّوَاصُلُ الْجَالِبُ للْمَحَبَّةَ كَالتَّزَاوُرِ وَالتَّهَادِي، وَأَمَّا التَّعَاطُفُ فَالْمُرَادُ بِهِ إِعَانَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَمَا يَعْطِفُ الثَّوْبَ عَلَيْهِ لِيُقَوِّيَهُ اهـ مُلَخَّصًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَخَيْثَمَةَ فَرْقَهُمَا عَنِ النُّعْمَانِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِذَا اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ. وَفِي رِوَايَةِ خَيْثَمَةَ: اشْتَكَى، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ كُلُّهُ.

قَوْلُهُ: (كَمَثَلِ الْجَسَدِ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ فِيهِ التَّوَافُقِ فِي التَّعَبِ وَالرَّاحَةِ.

قَوْلُهُ: (تَدَاعَى) أَيْ دَعَا بَعْضُهُ بَعْضًا إِلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَلَمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَدَاعَتِ الْحِيطَانُ أَيْ تَسَاقَطَتْ أَوْ كَادَتْ.

قَوْلُهُ: (بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) أَمَّا السَّهَرُ فَلِأَنَّ الْأَلَمَ يَمْنَعُ النَّوْمَ، وَأَمَّا الْحُمَّى فَلِأَنَّ فَقْدَ النَّوْمِ يُثِيرُهَا.

وَقَدْ عَرَّفَ أَهْلَ الْحِذْقِ الْحُمَّى بِأَنَّهَا حَرَارَةٌ غَرِيزِيَّةٌ تَشْتَعِلُ فِي الْقَلْبِ فَتَشِبُّ مِنْهُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ فَتَشْتَعِلُ اشْتِعَالًا يَضُرُّ بِالْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فَتَشْبِيهُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَسَدِ الْوَاحِدِ تَمْثِيلٌ صَحِيحٌ، وَفِيهِ تَقْرِيبٌ لِلْفَهْمِ وَإِظْهَارٌ لِلْمَعَانِي فِي الصُّوَرِ الْمَرْئِيَّةِ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَضُّ عَلَى تَعَاوُنِهِمْ وَمُلَاطَفَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: شَبَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ بِالْجَسَدِ

ص: 439

وَأَهْلَهُ بِالْأَعْضَاءِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ وَفُرُوعَهُ التَّكَالِيفُ، فَإِذَا أَخَلَّ الْمَرْءُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّكَالِيفِ شَأْنَ ذَلِكَ الْإِخْلَالِ الْأَصْلَ، وَكَذَلِكَ الْجَسَدُ أَصْلٌ كَالشَّجَرَةِ وَأَعْضَاؤُهُ كَالْأَغْصَانِ، فَإِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنَ الْأَعْضَاءِ اشْتَكَتِ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا كَالشَّجَرَةِ إِذَا ضُرِبَ غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِهَا اهْتَزَّتِ كُلُّهَا بِالتَّحَرُّكِ وَالِاضْطِرَابِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ أَنَسٍ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ دَابَّةً إِنْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الدَّابَّةُ فِي الْعُرْفِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ جِنْسٍ عَلَى جِنْسٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ هُنَا. قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يَدْخُلُ الْغَارِسُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ إِنْسَانٌ، فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسِعٌ، وَفِيهِ التَّنْوِيهُ بِقَدْرِ الْمُؤْمِنِ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ عَيْنًا. وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي التَّصَرُّفِ عَلَى لِسَانِ الْمُعَلِّمِ، وَالْحَضُّ عَلَى الْتِزَامِ طَرِيقِ الْمُصْلِحِينَ، وَالْإِرْشَادُ إِلَى تَرْكِ الْمَقَاصِدِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّرْغِيبُ فِي الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَكْثِيرِ الثَّوَابِ، وَأَنَّ تَعَاطِي الْأَسْبَابَ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ مِنْ عِمَارَةِ هَذِهِ الدَّارِ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ وَلَا طَرِيقَ الزُّهْدِ وَلَا التَّوَكُّلَ، وَفِيهِ التَّحْرِيضُ عَلَى تَعَلُّمِ السُّنَّةِ لِيَعْلَمَ الْمَرْءُ مَا لَهُ مِنَ الْخَيْرِ فَيَرْغَبَ فِيهِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفَضْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْغَرْسِ لَا يُدْرَكُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ مَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَا قَصَدَ إِلَيْهِ فَيَحْذَرُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ حُصُولُ هَذَا الْخَيْرِ بِهَذَا الطَّرِيقِ جَازَ حُصُولُ مُقَابِلِهِ اهـ مُلَخَّصًا.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ حَدِيثُ جَرِيرٍ.

قَوْلُهُ: (عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ) أَيِ ابْنُ غِيَاثٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْمَتْنُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي بَابِ رَحْمَةِ الْوَلَدِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ، وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ مَنْ لَا يَرْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ لَا يَرْحَمْهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ ارْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَهُوَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ بِلَفْظِ: ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدِ اشْتُهِرَ بِالْمُسَلْسَلِ بِالْأَوَّلِيَّةِ، وَفِي حَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ: مَنْ لَمْ يَرْحَمِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ الْحَضُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ الرَّحْمَةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فَيَدْخُلُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَهَائِمُ الْمَمْلُوكُ مِنْهَا وَغَيْرُ الْمَمْلُوكِ، وَيَدْخُلُ فِي الرَّحْمَةِ التَّعَاهُدُ بِالْإِطْعَامِ وَالسَّقْيُ وَالتَّخْفِيفُ فِي الْحَمْلِ وَتَرْكُ التَّعَدِّي بِالضَّرْبِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَنْ لَا يَرْحَمْ غَيْرَهُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْإِحْسَانِ لَا يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} وَيُحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ لَا يَكُونُ فِيهِ رَحْمَةُ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا لَا يُرْحَمُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ مَنْ لَا يَرْحَمُ نَفْسَهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ عَهْدٌ، فَتَكُونُ الرَّحْمَةُ الْأُولَى بِمَعْنَى الْأَعْمَالِ وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، أَيْ لَا يُثَابُ إِلَّا مَنْ عَمِلَ صَالِحًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى الصَّدَقَةُ وَالثَّانِيَةُ الْبَلَاءُ، أَيْ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْبَلَاءِ إِلَّا مَنْ تَصَدَّقَ، أَوْ مَنْ لَا يَرْحَمُ الرَّحْمَةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَائِبَةُ أَذًى لَا يُرْحَمُ مُطْلَقًا؛ أَوْ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ إِلَّا لِمَنْ جَعَلَ فِي قَلْبِهِ الرَّحْمَةَ وَلَوْ كَانَ عَمَلُهُ صَالِحًا اهـ مُلَخَّصًا. قَالَ: وَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَفَقَّدَ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ كُلِّهَا، فَمَا قَصَّرَ فِيهِ لَجَأَ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ.

‌28 - بَاب الْوَصَاةِ بِالْجَارِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إِلَى قَوْلِهِ، {مُخْتَالا فَخُورًا}

ص: 440

6014 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يوصيني بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ.

6015 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَصَاةِ بِالْجَارِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ مَعَ الْمَدِّ لُغَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ، وَكَذَا الْوِصَايَةُ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءٌ وَهُمَا بِمَعْنًى، لَكِنَّ الْأَوَّلَ مِنْ أَوْصَيْتُ وَالثَّانِي مِنْ وَصَّيْتُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي شَرْحِ شَيْخِنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ هُنَا بَسْمَلَةٌ وَبَعْدَهَا كِتَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا، وَيُؤَيِّدُ مَا عِنْدَنَا أَنَّ أَحَادِيثَ صِلَةِ الرَّحِمِ تَقَدَّمَتْ وَأَحَادِيثَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ قَبْلَهَا وَالْوَصِيَّةُ بِالْجَارِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ذُكِرَتْ هُنَا، وَتَلَاهَا بَاقِي أَبْوَابِ الْأَدَبِ، وَقَوْلُهُ هُنَا بَعْدَ الْبَابِ:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} يُؤَيِّدُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَوَّبَ عَلَى تَرْتِيبِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَبَدَأَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَثَنَّى بِذِي الْقُرْبَى وَثَلَّثَ بِالْجَارِ وَرَبَّعَ بِالصَّاحِبِ. وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَلَا أَبِي نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الْآيَةَ)، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِلْبَاقِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِحْسَانًا إِلَى قَوْلِهِ: {مُخْتَالا فَخُورًا} وَلِلنَّسَفِيِّ وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وَثَبَتَ لِلنَّسَفِيِّ الْبَسْمَلَةَ قَبْلَ الْبَابِ وَكَأَنَّهُ لِلِانْتِقَالِ إِلَى نَوْعٍ غَيْرِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَرَأَيْتُ فِي شَرْحِ شَيْخِنَا سِرَاجِ الدِّينِ بْنِ الْمُلَقِّنِ كِتَابَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَلَمْ أَرَ لِغَيْرِهِ، وَالْجَارُ الْقَرِيبُ مَنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةَ وَالْجَارُ الْجُنُبِ بِخِلَافِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ الْجَارُ الْقَرِيبُ الْمُسْلِمُ وَالْجَارُ الْجُنُبُ غَيْرُهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرِيُّ، عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ أَحَدُ التَّابِعِينَ، وَقِيلَ: الْجَارُ الْقَرِيبُ الْمَرْأَةُ وَالْجُنُبُ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَيْنِ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَعَمْرَةُ هِيَ أُمُّهُ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، وَقَدْ سَمِعَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ عَمْرَةَ كَثِيرًا وَرُبَّمَا دَخَلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً مِثْلَ هَذَا، وَرِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْمَذْكُورِ مِنَ الْأَقْرَانِ.

قَوْلُهُ: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)، أَيْ يَأْمُرُ عَنِ اللَّهِ بِتَوْرِيثِ الْجَارِ مِنْ جَارِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا التَّوْرِيثِ فَقِيلَ: يَجْعَلُ لَهُ مُشَارَكَةً فِي الْمَالِ بِفَرْضِ سَهْمٍ يُعْطَاهُ مَعَ الْأَقَارِبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَرِثُ بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَإِنَّ الثَّانِي اسْتَمَرَّ، وَالْخَبَرُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ التَّوْرِيثَ لَمْ يَقَعْ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَجْعَلُ لَهُ مِيرَاثًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْمِيرَاثُ عَلَى قِسْمَيْنِ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، فَالْحِسِّيُّ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْمَعْنَوِيُّ مِيرَاثُ الْعِلْمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُلْحَظَ هُنَا أَيْضًا فَإِنَّ حَقَّ الْجَارِ عَلَى الْجَارِ أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْمُ الْجَارِ يَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ وَالصَّدِيقَ وَالْعَدُوَّ وَالْغَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ وَالْقَرِيبَ وَالْأَجْنَبِيَّ وَالْأَقْرَبَ دَارًا وَالْأَبْعَدَ، وَلَهُ مَرَاتِبٌ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَأَعْلَاهَا مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الصِّفَاتُ الْأُوَلُ كُلُّهَا ثُمَّ أَكْثَرُهَا وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى الْوَاحِدِ، وَعَكْسُهُ

ص: 441

مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الصِّفَاتُ الْأُخْرَى كَذَلِكَ، فَيُعْطَى كُلٌّ حَقَّهُ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَقَدْ تَتَعَارَضُ صِفَتَانِ فَأَكْثَرُ فَيُرَجِّحُ أَوْ يُسَاوِي، وَقَدْ حَمَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَحَدُ مِنْ رَوَى الْحَدِيثَ عَلَى الْعُمُومِ، فَأَمَرَ لَمَّا ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ أَنْ يُهْدَى مِنْهَا لِجَارِهِ الْيَهُودِيِّ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذَكَرْتُهُ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَهُوَ الْمُشْرِكُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ مُسْلِمٌ لَهُ رَحِمٌ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَالْإِسْلَامِ وَالرَّحِمِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْجَارُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الدَّاخِلُ فِي الْجِوَارِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمُجَاوِرُ فِي الدَّارِ وَهُوَ الْأَغْلَبُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ يَرِثُ وَيُورَثُ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ صَدَرَ قَبْلَ نَسْخِ التَّوْرِيثِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَقَدْ كَانَ ثَابِتًا فَكَيْفَ يَتَرَجَّى وُقُوعُهُ؟ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ النَّسْخِ فَكَيْفَ يُظَنُّ رُجُوعُهُ بَعْدَ رَفْعِهِ؟ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُجَاوِرُ فِي الدَّارِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: حِفْظُ الْجَارِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَافِظُونَ عَلَيْهِ، وَيَحْصُلُ امْتِثَالُ الْوَصِيَّةِ بِهِ بِإِيصَالِ ضُرُوبِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ كَالْهَدِيَّةِ، وَالسَّلَامِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ عِنْدَ لِقَائِهِ، وَتَفَقُّدِ حَالِهِ، وَمُعَاوَنَتِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَفِّ أَسْبَابِ الْأَذَى عَنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ حِسِّيَّةً كَانَتْ أَوْ مَعْنَوِيَّةً. وَقَدْ نَفَى صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، وَهِيَ مُبَالَغَةٌ تُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ حَقِّ الْجَارِ وَأَنَّ إِضْرَارَهُ مِنَ الْكَبَائِرِ. قَالَ: وَيَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَارِ الصَّالِحِ وَغَيْرِ الصَّالِحِ. وَالَّذِي يَشْمَلُ الْجَمِيعَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لَهُ، وَمَوْعِظَتُهُ بِالْحُسْنَى، وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْهِدَايَةِ، وَتَرْكُ الْإِضْرَارِ لَهُ إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْإِضْرَارُ لَهُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالَّذِي يَخُصُّ الصَّالِحَ هُوَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ، وَغَيْرُ الصَّالِحِ كَفُّهُ عَنِ الَّذِي يَرْتَكِبُهُ بِالْحُسْنَى عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَعِظُ الْكَافِرَ بِعَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَيُبَيِّنُ مَحَاسِنَهُ وَالتَّرْغِيبَ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَيَعِظُ الْفَاسِقَ بِمَا يُنَاسِبُهُ بِالرِّفْقِ أَيْضًا وَيَسْتُرُ عَلَيْهِ زَلَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَنْهَاهُ بِرِفْقٍ، فَإِنْ أَفَادَ فَيهِ وَإِلَّا فَيَهْجُرُهُ قَاصِدًا تَأْدِيبَهُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ إِعْلَامِهِ بِالسَّبَبِ لِيَكُفَّ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي حَدِّ الْجَارِ فِي بَابِ حَقِّ الْجِوَارِ قَرِيبًا انْتَهَى مُلَخَّصًا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَذَكَرَ لَفْظَهُ مِثْلَ لَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْمَتْنَ أَيْضًا أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَأَبُو أُمَامَةَ وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ. وَوَقَعَ عِنْدَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَهُ فِي لَفْظٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوصِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، فَأَفَادَ أَنَّهُ وَقَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَظِيرُ مَا وَقَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ جِبْرِيلَ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: خَرَجْتُ أُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا بِهِ قَائِمٌ وَرَجُلٌ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، فَجَلَسْتُ حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: أَتَدْرِي هَذَا؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ سَوَاءً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَأَفَادَ سَبَبَ الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ بَيَانَ لَفْظِ وَصِيَّةِ جِبْرِيلَ، إِلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ بَالَغَ فِي تَأْكِيدِ حَقِّ الْجَارِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ يُرْجَى لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَأَنَّ الظَّنَّ إِذَا كَانَ فِي طَرِيقِ الْخَيْرِ جَازَ وَلَوْ لَمْ يَقَعِ الْمَظْنُونُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِي طَرِيقِ الشَّرِّ.

وَفِيهِ جَوَازُ الطَّمَعِ فِي الْفَضْلِ إِذَا تَوَالَتِ النِّعَمُ. وَفِيهِ جَوَازُ التَّحَدُّثِ بِمَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ أُمُورِ الْخَيْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 442

‌29 - بَاب إِثْمِ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ {يُوبِقْهُنَّ} يُهْلِكْهُنَّ {مَوْبِقًا} مَهْلِكًا

6016 -

حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ. تَابَعَهُ شَبَابَةُ وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى، وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) الْبَوَائِقُ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْقَافِ جَمْعُ بَائِقَةٍ وَهِيَ الدَّاهِيَةُ وَالشَّيْءُ الْمُهْلِكُ وَالْأَمْرُ الشَّدِيدُ الَّذِي يُوَافِي بَغْتَةً.

قَوْلُهُ: (يُوبِقُهُنَّ يُهْلِكُهُنَّ، مَوْبِقًا مَهْلِكًا) هُمَا أَثَرَانِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} قَالَ: يُهْلِكُهُنَّ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} أَيْ مُتَوَعَّدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} أَيْ مَهْلِكًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدٍ) هُوَ الْمَقْبُرِيُّ، وَوَقَعَ مَنْسُوبًا غَيْرَ مُسَمًّى عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ وَمَنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ مُسَمًّى مَنْسُوبًا، قَالَ: عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ) هُوَ الْخُزَاعِيُّ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ وَاسْمُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ خُوَيْلِدٌ وَقِيلَ عَمْرٌو، وَقِيلَ: هَانِئٌ، وَقِيلَ: كَعْبٌ.

قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ) وَقَعَ تَكْرِيرُهَا ثَلَاثًا صَرِيحًا، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ثَلَاثًا وَكَأَنَّهُ اخْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِيِ، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلِأَحْمَدَ نَحْوُهُ عَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

قَوْلُهُ: (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ)؟ هَذِهِ الْوَاوُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةً أَوْ عَاطِفَةً عَلَى شَيْءٍ مُقَدَّرٍ أَيْ عَرَفْنَا مَا الْمُرَادُ مَثَلًا وَمَنِ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَوَقَعَ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ فِي تَرْغِيبِهِ بِلَفْظِ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ مَنْ هُوَ؟ وَعَزَاهُ لِلْبُخَارِيِّ وَحْدَهُ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِيهِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَا ذَكَرَهَا الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ، وَفِي حَدِيثِ كَعْبٍ مَنْ خَافَ، زَادَ أَحْمَدُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ؟ قَالَ: شَرُّهُ، وَعِنْدَ الْمُنْذِرِيِّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ لِلْبُخَارِيِّ وَلَمْ أَرَهَا فِيهِ.

(تَنْبِيهٌ): فِي الْمَتْنِ جِنَاسٌ بَلِيغٌ وَهُوَ مِنْ جِنَاسِ التَّحْرِيفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُ وَلَا يَأْمَنُ، فَالْأَوَّلُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالثَّانِي مِنَ الْأَمَانِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ شَبَابَةُ، وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى) يَعْنِي عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي ذِكْرِ أَبِي شُرَيْحٍ، فَأَمَّا رِوَايَةُ شَبَابَةَ وَهُوَ ابْنُ سَوَّارٍ الْمَدَاينِيُّ فَأَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَسَدِ بْنِ مُوسَى وَهُوَ الْأُمَوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِأَسَدِ السُّنَّةِ فَأَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، وَشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) يَعْنِي اخْتَلَفَ أَصْحَابُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَلَيْهِ فِي صَحَابِيِّ هَذَا الْحَدِيثِ، فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ قَالُوا فِيهِ: عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، وَالْأَرْبَعَةُ قَالُوا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ نَقَلَ أَبُو مَعِينٍ الرَّازِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مَنْ سَمِعَ مِنَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ بِبَغْدَادَ فَإِنَّهُ يَقُولُ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، قُلْتُ: وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ، وَعَبْدَ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيَّ، وَأَبَا عَمْرٍو الْعَقَدِيَّ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ،

ص: 443

وَابْنَ أَبِي فُدَيْكٍ، وَمَعْنَ بْنَ عِيسَى، إِنَّمَا سَمِعُوا مِنَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ قَالُوا كُلُّهُمْ فِيهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَمَنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ وَمَنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَعْنٍ، وَالْعَقَدِيِّ، وَابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، وَأَمَّا حُمَيْدُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ اللَّذَانِ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِمَا فَهُمَا كُوفِيَّانِ وَسَمَاعُهُمَا مِنَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَيْضًا بِالْمَدِينَةِ لَمَّا حَجَّا، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ فَهُوَ بَصْرِيٌّ وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ فَهُوَ شَامِيٌّ وَسَمَاعُهُ مِنَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَيْضًا بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِسْمَاعِيلُ وَاسِطِيٌّ.

وَمِمَّنْ سَمِعَهُ بِبَغْدَادَ مِنَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، وَآدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، وَقَدْ قَالُوا كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، وَهُوَ فِي مُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ آدَمَ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجٍ، وَرَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَيَزِيدُ وَاسِطِيٌّ سَكَنَ بَغْدَادَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوْحٌ بَصْرِيَّانِ وَحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِصِّيصِيٌّ، وَآدَمُ عَسْقَلَانِيٌّ، وَكَانُوا كُلُّهُمْ يَقْدُمُونَ بَغْدَادَ وَيَطْلُبُونَ بِهَا الْحَدِيثَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْأَكْثَرُ قَالُوا فِيهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكَانَ يَنْبَغِي تَرْجِيحُهُمْ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ إِذَا حَدَّثَ فِي بَلَدِهِ كَانَ أَتْقَنَ لِمَا يُحَدِّثُ بِهِ فِي حَالِ سَفَرِهِ، وَلَكِنْ عَارِضَ ذَلِكَ أَنَّ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ مَشْهُورٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَمَنْ قَالَ عَنْهُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَلَكَ الْجَادَّةَ، فَكَانَتْ مَعَ مَنْ قَالَ عَنْهُ: عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ زِيَادَةُ عِلْمٍ لَيْسَتْ عِنْدَ الْآخَرِينَ، وَأَيْضًا فَقَدْ وَجَدَ مَعْنَى الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ، فَكَانَتْ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِمَنْ رَآهُ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، فَقَالَ فِيهِ: عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي تَصْحِيحَ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ أَبِي شُرَيْحٍ أَصَحَّ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَاهِلًا عَنِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ بَلْ وَعَنْ تَخْرِيجِ مُسْلِمٍ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَإِنَّمَا أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا فِي أَمَالِيهِ بِأَنَّهُمَا لَمْ يُخَرِّجَا طَرِيقَ أَبِي الزِّنَادِ وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَإِنَّمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ طَرِيقَ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ. قُلْتُ: وَعَلَى الْحَاكِمِ تَعَقُّبٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُسْتَدْرَكُ لِقُرْبِ اللَّفْظَيْنِ فِي الْمَعْنَى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَأْكِيدُ حَقِّ الْجَارِ لِقَسَمِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَتَكْرِيرِهِ الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِيهِ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ يُؤْذِي جَارَهُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ وَمُرَادُهُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَاصِي غَيْرُ كَامِلِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ نَفْيِ الْإِيمَانِ فِي مِثْلِ هَذَا جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِلِّ.

وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ مُؤْمِنًا كَامِلًا اهـ. وَيُحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُجَازَى مُجَازَاةَ الْمُؤْمِنِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ مَثَلًا، أَوْ أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: إِذَا أُكِّدَ حَقُّ الْجَارِ مَعَ الْحَائِلِ بَيْنَ الشَّخْصِ وَبَيْنَهُ وَأُمِرَ بِحِفْظِهِ وَإِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ وَكَفِّ أَسْبَابِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِيَ حَقَّ الْحَافِظِينَ اللَّذِينِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا جِدَارٌ وَلَا حَائِلٌ، فَلَا يُؤْذِيهِمَا بِإِيقَاعِ الْمُخَالَفَاتِ فِي مُرُورِ السَّاعَاتِ، فَقَدْ جَاءَ أَنَّهُمَا يُسَرَّانِ بِوُقُوعِ الْحَسَنَاتِ وَيَحْزَنَانِ بِوُقُوعِ السَّيِّئَاتِ، فَيَنْبَغِي مُرَاعَاةُ جَانِبِهِمَا وَحِفْظُ خَوَاطِرِهِمَا بِالتَّكْثِيرِ مِنْ عَمَلِ الطَّاعَاتِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى اجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ، فَهُمَا أَوْلَى بِرِعَايَةِ الْحَقِّ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْجِيرَانِ اهـ مُلَخَّصًا.

‌30 - بَاب لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا

ص: 444

6017 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا) كَذَا حَذَفَ الْمَفْعُولَ اكْتِفَاءً بِشُهْرَةِ الْحَدِيثِ، وأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، وَاتَّفَقَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَدِيثُ قَبْلَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ، وَكُلٌّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ صَحِيحٌ لِأَنَّ سَعِيدًا أَدْرَكَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعَ مِنْهُ أَحَادِيثَ وَسَمِعَ مِنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَشْيَاءَ كَانَ يُحَدِّثُ بِهَا تَارَةً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهَا وَبَيَّنَ الِاخْتِلَافَ عَلَى سَعِيدٍ فِيهَا، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاسْتَثْبَتَ أَبَاهُ فِيهَا، فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهَا تَارَةً عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَارَةً عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ مُدَلِّسًا، وَإِلَّا لَحَدَّثَ بِالْجَمِيعِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَقِيَّةُ الْمَتْنِ وَلَوْ فِرْسِنُ شَاةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ نُونٍ: حَافِرُ الشَّاةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَالْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِ يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِيهِ اخْتِصَارًا.

لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَعْرِفُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ، أَيْ لَا تَحْقِرَنَّ أَنْ تُهْدِيَ إِلَى جَارَتِهَا شَيْئًا وَلَوْ أَنَّهَا تُهْدِي لَهَا مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْغَالِبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحَابُبِ وَالتَّوَادُدِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِتُوَادِدِ الْجَارَةُ جَارَتَهَا بِهَدِيَّةٍ وَلَوْ حَقِرَتْ، فَيَتَسَاوَى فِي ذَلِكَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَخُصَّ النَّهْيُ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ مَوَارِدُ الْمَوَدَّةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَلِأَنَّهُنَّ أَسْرَعُ انْفِعَالًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلْمُعْطِيَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُهْدَى إِلَيْهَا. قُلْتُ: وَلَا يَتِمُّ حَمْلُهُ عَلَى الْمُهْدَى إِلَيْهَا إِلَّا بِجَعْلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِجَارَتِهَا بِمَعْنَى مِنْ وَلَا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ.

‌31 - بَاب مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ

6018 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.

6019 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ، قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ، قَيلَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.

[الحديث 6019 - طرفاه في: 6135، 6476]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثًا لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ وَآخَرَ لِأَبِي شُرَيْحٍ.

قَوْلُهُ: (أَبُو الْأَحْوَصِ) هُوَ سَلَّامٌ بِالتَّشْدِيدِ ابْنُ سُلَيْمٍ، وَأَبُو حَصِينٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ، وَأَبُو

ص: 445

صَالِحٍ هُوَ ذَكْوَانُ.

قَوْلُهُ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ الْإِيمَانَ الْكَامِلَ، وَخَصَّهُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِشَارَةً إِلَى الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، أَيْ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَآمَنَ بِأَنَّهُ سَيُجَازِيهِ بِعَمَلِهِ فَلْيَفْعَلِ الْخِصَالَ الْمَذْكُورَاتِ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ) فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُ الْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ لِلْجَارِ وَتَرْكِ أَذَاهُ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَالْخَرَائِطِيِّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ التَّوْبِيخِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ الْجَارِ عَلَى الْجَارِ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِنِ اسْتَعَانَكَ أَعَنْتَهُ، وَإِنْ مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِنِ احْتَاجَ أَعْطَيْتَهُ، وَإِنِ افْتَقَرَ عُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّيْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَإِذَا مَاتَ اتَّبَعَتْ جِنَازَتَهُ، وَلَا تَسْتَطِيلُ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تُؤْذِيهِ بِرِيحِ قِدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ، وَإِنِ اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً فَأَهْدِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهَا سِرًّا وَلَا تُخْرِجْ بِهَا وَلَدَكَ لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، وَالسِّيَاقُ أَكْثَرُهُ لِعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. وَفِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ وَإِنْ أَعْوَزَ سَتَرْتَهُ، وَأَسَانِيدُهُمْ وَاهِيَةٌ لَكِنِ اخْتِلَافُ مَخَارِجِهَا يُشْعِرُ بِأَنَّ للْحَدِيثِ أَصْلًا.

ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْإِكْرَامِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَيُجْمِعُ الْجَمِيعُ أَنَّهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ جَائِزَتُهُ.

قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، الْحَدِيثَ. . وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ نَيِّفٍ وَخَمْسِينَ بَابًا فِي بَابِ إِكْرَامِ الضَّيْفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّ الْقَوْلَ كُلَّهُ إِمَّا خَيْرٌ وَإِمَّا شَرٌّ وَإِمَّا آيِلُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَدَخَلَ فِي الْخَيْرِ كُلُّ مَطْلُوبٍ مِنَ الْأَقْوَالِ فَرْضُهَا وَنَدْبُهَا، فَأَذِنَ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَدَخَلَ فِيهِ مَا يَؤولُ إِلَيْهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا هُوَ شَرٌّ أَوْ يَئُولُ إِلَى الشَّرِّ فَأَمَرَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْخَوْضِ فِيهِ بِالصَّمْتِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا لِيَغْنَمْ، أَوْ لِيَسْكُتْ عَنْ شَرٍّ لِيَسْلَمْ، وَاشْتَمَلَ حَدِيثُ الْبَابِ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ تَجْمَعُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ الْفِعْلِيَّةَ وَالْقَوْلِيَّةَ، أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَمِنَ الْفِعْلِيَّةِ، وَأَوَّلُهُمَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرِ بِالتَّخَلِّي عَنِ الرَّذِيلَةِ وَالثَّانِي يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرِ بِالتَّحَلِّي بِالْفَضِيلَةِ، وَحَاصِلُهُ مَنْ كَانَ حَامِلَ الْإِيمَانِ فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ قَوْلًا بِالْخَيْرِ وَسُكُوتًا عَنِ الشَّرِّ وَفِعْلًا لِمَا يَنْفَعُ أَوْ تَرْكًا لِمَا يَضُرُّ، وَفِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِالصَّمْتِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ: مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمُسْلِمُ مِنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَذَكَرَ فِيهَا أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ، وَلِأَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ رَفَعَهُ فِي ذِكْرِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْبِرِّ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَنْ صَمَتَ نَجَا، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِهِ كَثْرَةُ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تُقَسِّي الْقَلْبَ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَكْثَرُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ قَالَ: هَذَا.

وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَذَكَرَ الْوَصِيَّةَ بِطُولِهَا، وَفِي آخِرِهَا: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ الْحَدِيثَ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ

ص: 446

اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ.

‌32 - بَاب حَقِّ الْجِوَارِ فِي قُرْبِ الْأَبْوَابِ

6020 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عِمْرَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ؛ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ حَقِّ الْجِوَارِ فِي قُرْبِ الْأَبْوَابِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَنَدِهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ.

وَقَوْلُهُ: أَقْرَبُهُمَا أَيْ أَشَدُّهُمَا قُرْبًا. قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْأَقْرَبَ يَرَى مَا يَدْخُلُ بَيْتَ جَارِهِ مِنْ هَدِيَّةٍ وَغَيْرِهَا فَيَتَشَوَّفُ لَهَا بِخِلَافِ الْأَبْعَدِ، وَإنَّ الْأَقْرَبَ أَسْرَعُ إِجَابَةً لِمَا يَقَعُ لِجَارِهِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْغَفْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْإِهْدَاءُ إِلَى الْأَقْرَبِ مَنْدُوبٌ، لِأَنَّ الْهَدِيَّةَ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فَلَا يَكُونُ التَّرْتِيبُ فِيهَا وَاجِبًا. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَمَلِ بِمَا هُوَ أَعْلَى أَوْلَى، وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ. وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجِوَارِ: فَجَاءَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَهُوَ جَارٌ، وَقِيلَ: مَنْ صَلَّى مَعَكَ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ جَارٌ، وَعَنْ عَائِشَةَ: حَدُّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِثْلَهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: أَلَا إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَرْبَعُونَ دَارًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَمِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ كَالْأُولَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ التَّوْزِيعَ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشْرَةً.

‌33 - بَاب كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ

6021 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ.

6022 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ أَوْ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ".

قَوْلُهُ: (بَابُ كُلِّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ الْحَسَنِ الْهِلَالِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَمَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ كَالْأَوَّلِ، وَزَادَ: وَمَنِ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُلْقِي مِنْ دَلْوِكَ

ص: 447

فِي إِنَاءِ أَخِيكَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَقُولُهُ مِنَ الْخَيْرِ يُكْتَبُ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ بَعْدَ حَدِيثِ جَابِرٍ وَزَادَ عَلَيْهِ: إِنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الشَّرِّ صَدَقَةٌ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْمَعْرُوفُ اسْمُ كُلِّ فِعْلٍ يُعْرَفُ حُسْنُهُ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مَعًا، وَيُطْلَقُ عَلَى الِاقْتِصَادِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنِ السَّرَفِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يُطْلَقُ اسْمُ الْمَعْرُوفِ عَلَى مَا عُرِفَ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ سَوَاءٌ جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَمْ لَا، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الثَّوَابُ، فَإِنْ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ أُجِرَ صَاحِبُهُ جَزْمًا، وَإِلَّا فَفِيهِ احْتِمَالٌ. قَالَ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ مِنْهُ فَلَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْيَسَارِ مَثَلًا، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ.

وَقَوْلُهُ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ أَيْ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِفَرْضٍ إِجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَأَصْلُ الصَّدَقَةِ مَا يُخْرِجُهُ الْمَرْءُ مِنْ مَالِهِ مُتَطَوِّعًا بِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ لِتَحَرِّي صَاحِبِهِ الصِّدْقَ بِفِعْلِهِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا يُحَابِي بِهِ الْمَرْءُ مِنْ حَقِّهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ)؟ أَيْ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ (قَالَ: فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْعَمَلِ وَالتَّكَسُّبِ، لِيَجِدَ الْمَرْءُ مَا يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَيُغْنِيهِ عَلَى ذُلِّ السُّؤَالِ. وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ شَيْئًا مِنْهَا فَتَعَسَّرَ فَلْيَنْتَقِلْ إِلَى غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِيِ.

قَوْلُهُ: (فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ) أَيْ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِهِمَا.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ)؟ أَيْ عَجْزًا أَوْ كَسَلًا.

قَوْلُهُ: (فَلْيَأْمُرْ بِالْخَيْرِ، أَوْ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِيِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ إِلَخْ). قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ جَعَلَ التَّرْكَ عَمَلًا وَكَسْبًا لِلْعَبْدِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ التَّرْكَ لَيْسَ بِعَمَلٍ، وَنُقِلَ عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّهُ مِثْلُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ: مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ: إِنَّ الْحَسَنَةَ إِنَّمَا تُكْتَبُ لِمَنْ هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا إِذَا قَصَدَ بِتَرْكِهَا اللَّهَ - تَعَالَى -، وَحِينَئِذٍ فَيَرْجِعُ إِلَى الْعَمَلِ وَهُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَقَدْ مَضَى هَذَا مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَاسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْكَعْبِيُّ لِقَوْلِهِ: لَيْسَ فِي الشَّرْعِ شَيْءٌ يُبَاحُ، بَلْ إِمَّا أَجْرٌ إِمَّا وِزْرٌ، فَمَنِ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَالْجَمَاعَةُ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدْ أَلْزَمُوهُ أَنْ يَجْعَلَ الزَّانِي مَأْجُورًا لِأَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. قُلْتُ: وَلَا يَرِدُ هذا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الِاشْتِغَالَ بِغَيْرِ الْمَعْصِيَةِ. نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ مَا لَوِ اشْتَغَلَ بِعَمَلِ صَغِيرَةٍ عَنْ كَبِيرَةٍ كَالْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ عَنِ الزِّنَا، وَقَدْ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُرِيدُ الِاشْتِغَالَ بِشَيْءٍ مِمَّا لَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ.

‌34 - بَاب طِيبِ الْكَلَامِ

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ.

6023 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ. قَالَ شُعْبَةُ: أَمَّا مَرَّتَيْنِ فَلَا أَشُكُّ، ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يكن فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ طَيِّبِ الْكَلَامِ) أَصْلُ الطِّيبِ مَا تَسْتَلِذُّهُ الْحَوَاسُّ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: طِيبُ الْكَلَامِ مِنْ جَلِيلِ عَمَلِ الْبِرِّ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الْآيَةَ، وَالدَّفْعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ كَمَا يَكُونُ

ص: 448

بِالْفِعْلِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَفِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ فِي بَابِ مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ كَوْنِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ صَدَقَةً أَنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ يَفْرَحُ بِهِ قَلْبُ الَّذِي يُعْطَاهُ وَيَذْهَبُ مَا فِي قَلْبِهِ، كَذَلِكَ الْكَلَامُ الطَّيِّبُ، فَاشْتَبَهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ.

ثم ذَكَرَ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَفِيهِ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، وَقَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو كَذَا لَهُمْ وَهُوَ ابْنُ مُرَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مَعَ شَرْحِهِ، وَخَيْثَمَةُ شَيْخُ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مَبْسُوطًا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.

‌35 - بَاب الرِّفْقِ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ

6024 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ.

6025 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عن ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُزْرِمُوهُ. ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرِّفْقِ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ) الرِّفْقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا قَافٌ هُوَ لِينُ الْجَانِبِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْأَخْذِ بِالْأَسْهَلِ، وَهُوَ ضِدُّ الْعُنْفِ. وذكر فيه حديثين: أحدهما حديث عائشة في قصة اليهود لما قالوا: السام عليكم، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ فِي حَدِيثِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَأَتَّى مَعَهُ مِنَ الْأُمُورِ مَا لَا يَتَأَتَّى مَعَ ضِدِّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ يُثِيبُ عَلَيْهِ مَا لَا يُثِيبُ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ. وَلَهُ فِي حَدِيثِ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ عَنْهَا: أنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءَ: مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ. . الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ. وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ يُحْرَمُ الرِّفْقَ يُحْرَمُ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: عَنْ صَالِحٍ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.

ثانيهما حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَقَوْلُهُ: لَا تُزْرِمُوهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْإِزْرَامِ، أَيْ لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ، يُقَالُ: زُرِمَ الْبَوْلُ إِذَا انْقَطَعَ وَأَزْرَمْتُهُ قَطَعْتُهُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الدَّمْعِ.

‌36 - بَاب تَعَاوُنِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا

6026 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَدِّي

ص: 449

أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.

6027 -

وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ أَوْ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَعَاوُنِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا) بِجَرِّ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَدَلِ وَيَجُوزُ الضَّمُّ.

قوله سفيان هو الثوري وبريد بن أبي بردة بموحدة وراء مصغر هو ابن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى، نسب لجده، وكنية بريد أبو بردة أيضا. وقد أخرجه النسائي من طريق يحيى القطان: حدثنا سفيان، حدثني أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة. فذكره.

قَوْلُهُ: (الْمُؤْمِنُ للمؤمن كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) اللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْبَعْضِ، وَقَوْلُهُ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا بَيَانٌ لِوَجْهِ التَّشْبِيهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: نَصَبَ بَعْضًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هُوَ مَفْعُولُ يَشُدُّ. قُلْتُ: وَلِكُلٍّ وَجْهٌ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَالْمُعَاوَنَةُ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ وَكَذَا فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ مِنَ الدُّنْيَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) هُوَ بَيَانٌ لِوَجْهِ التَّشْبِيهِ أَيْضًا أَيْ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِثْلَ هَذَا الشَّدِّ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي بَيَانِ أَقْوَالِهِ يُمَثِّلُهَا بِحَرَكَاتِهِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ أَوْ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: اشْفَعُوا) هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَفِي تَرْكِيبِهِ قَلَقٌ، وَلَعَلَّهُ كان فِي الْأَصْلِ: كَانَ إِذَا كَانَ جَالِسًا إِذَا جَاءَ رَجُلٌ إِلَخْ، فَحُذِفَ اخْتِصَارًا أَوْ سَقَطَ عَلَى الرَّاوِيِ لَفْظُ إِذَا كَانَ عَلَى أَنَّنِي تَتَبَّعْتُ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ مِنَ الطُّرُقِ فَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِلَفْظِ جَالِسًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ زُرَيْقٍ، عَنِ الْفِرْيَابِيِّ بِلَفْظِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طَالِبُ الْحَاجَةِ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ الْحَدِيثَ، وَهَذَا السِّيَاقُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ مُخْتَصَرًا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا إِلَخْ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، لَكِنَّهُ جَعَلَهُ كُلَّهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أُوتَى فَأُسْأَلُ أَوْ تُطْلَبُ إِلَيَّ الْحَاجَةُ وَأَنْتُمْ عِنْدِي، فَاشْفَعُوا الْحَدِيثَ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ، وَلَفْظُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ بُرَيْدٍ بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ كِلَاهُمَا عَنْ بُرَيْدٍ بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (فَلْتُؤْجَرُوا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ تُؤْجَرُوا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَعَ فِي أَصْلِ مُسْلِمٍ اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَجَاءَ بِلَفْظِ: فَلْتُؤْجَرُوا، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ مَكْسُورَةً لِأَنَّهَا لَامُ كَيْ، وَتَكُونُ الْفَاءُ زَائِدَةً كَمَا زِيدَتْ فِي حَدِيثِ: قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ لَكُمْ وَيَكُونُ مَعْنَى الْحَدِيثِ اشْفَعُوا كَيْ تُؤْجَرُوا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لَامُ الْأَمْرِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ التَّعَرُّضُ لِلْأَجْرِ بِالشَّفَاعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اشْفَعُوا فَتُعَرَّضُوا بِذَلِكَ لِلْأَجْرِ، وَتُكْسَرُ هَذِهِ اللَّامُ عَلَى أَصْلِ لَامِ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ تَسْكِينُهَا تَخْفِيفًا لِأَجْلِ الْحَرَكَةِ

ص: 450

الَّتِي قَبْلَهَا. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ اشْفَعُوا لِتُؤْجَرُوا وَهُوَ يُقَوِّي أَنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ سَبَبِيَّةً وَاللَّامُ بِالْكَسْرِ وَهِيَ لَامُ كَيْ، وَقَالَ: جَازَ اجْتِمَاعُهُمَا لِأَنَّهُمَا لِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ جَزَائِيَّةً جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَلَى رَأْيٍ أَوْ عَاطِفَةً عَلَى اشْفَعُوا وَاللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ، أَوْ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيِ اشْفَعُوا لِتُؤْجَرُوا فَلْتُؤْجَرْ أَوْ لَفْظُ اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا فِي تَقْدِيرِ إِنْ تَشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَالشَّرْطُ يَتَضَمَّنُ السَّبَبِيَّةَ، فَإِذَا أَتَى بِاللَّامِ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ وَاللَّامُ زَائِدَتَانِ لِلتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا صَحَّ؛ أَيْ: إِذَا عَرَضَ الْمُحْتَاجُ حَاجَتَهُ عَلَيَّ فَاشْفَعُوا لَهُ إِلَيَّ؛ فَإِنَّكُمْ إِنْ شَفَعْتُمْ حَصَلَ لَكُمُ الْأَجْرُ، سَوَاءٌ قَبِلْتُ شَفَاعَتُكُمْ أَمْ لَا، وَيُجْرِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ؛ أَيْ مِنْ مُوجِبَاتِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ عَدَمِهَا، أَيْ إِنْ قَضَيْتُهَا أَوْ لَمْ أَقْضِهَا فَهُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَضَائِهِ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ، رَفَعَهُ: مَنْ سَعَى لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي حَاجَةٍ قُضِيَتْ لَهُ أَوْ لَمْ تُقْضَ غُفِرَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ) كَذَا ثَبَتَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلْيَقْضِ بِاللَّامِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ الَّتِي بَعْدَهَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَطْ وَلِلْبَاقِينَ وَيَقْضِي بِغَيْرِ لَامٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ فَلْيَقْضِ أَيْضًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ لَامَ الْأَمْرِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤْمَرُ، وَلَا لَامَ كَيْ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ وَلْيَقْضِ بِغَيْرِ يَاءِ مَدٍّ، ثُمَّ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ أَيِ اللَّهُمَّ اقْضِ، أَوِ الْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْخَبَرِ. وَفِي حَدِيثِ الْحَضِّ عَلَى الْخَيْرِ بِالْفِعْلِ وَبِالتَّسَبُّبِ إِلَيْهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَالشَّفَاعَةُ إِلَى الْكَبِيرِ فِي كَشْفِ كُرْبَةٍ وَمَعُونَةٍ ضَعِيفٌ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الرَّئِيسِ وَلَا التَّمَكُّنِ مِنْهُ لِيَلِجَ عَلَيْهِ أَوْ يُوَضِّحَ لَهُ مُرَادَهُ لِيَعْرِفَ حَالَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يَحْتَجِبُ. قَالَ عِيَاضٌ: وَلَا يُسْتَثْنَى مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تُسْتَحَبُّ الشَّفَاعَةُ فِيهَا إِلَّا الْحُدُودَ، وَإِلَّا فَمَا لِأَحَدٍ فِيهِ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا مِمَّنْ وَقَعَتْ مِنْهُ الْهَفْوَةُ أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السِّتْرِ وَالْعَفَافِ، قَالَ: وَأَمَّا الْمُصِرُّونَ عَلَى فَسَادِهِمُ الْمُشْتَهِرُونَ فِي بَاطِلِهِمْ، فَلَا يُشَفَّعُ فِيهِمْ لِيُزْجَرُوا عَنْ ذَلِكَ.

‌37 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا

* كِفْلٌ} نَصِيبٌ. قَالَ أَبُو مُوسَى: {كِفْلَيْنِ} أَجْرَيْنِ بِالْحَبَشِيَّةِ.

6028 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ - أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ -، قَالَ: اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرَهُ إِلَى قَوْلِهِ: مُقِيتًا، وَقَدْ عَقَّبَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَجْرِ عَلَى الشَّفَاعَةِ لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ بَلْ مَخْصُوصٌ بِمَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّفَاعَةُ وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ، وَضَابِطُهَا مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ دُونَ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: هِيَ فِي شَفَاعَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ

ص: 451

شَفَعَ لِأَحَدٍ فِي الْخَيْرِ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْأَجْرِ وَمَنْ شَفَعَ لَهُ بِالْبَاطِلِ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْوِزْرِ، وَقِيلَ: الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِ وَالسَّيِّئَةُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (كِفْلُ نَصِيبٍ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: الْكِفْلُ الْوِزْرُ وَالْإِثْمُ. وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْكِفْلَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النَّصِيبُ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْأَجْرَ، وَأَنَّهُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، وَفِي آيَةِ الْحَدِيدِ بِمَعْنَى الْأَجْرِ.

ثم ذكر حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى مَا فِيهِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَوَقَعَ فِيهِ: إِذَا أَتَاهُ صَاحِبُ الْحَاجَةِ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ: صَاحِبُ حَاجَةٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو مُوسَى: كِفْلَيْنِ أَجْرَيْنِ بِالْحَبَشِيَّةِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} قَالَ: ضِعْفَيْنِ بِالْحَبَشِيَّةِ أَجْرَيْنِ.

‌38 - بَاب لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَاحِّشًا

6029 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حِينَ قَدِمَ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ خْيَرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ خُلُقًا.

6030 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ يَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ.

6031 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَحْيَى - هُوَ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ -، عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَّابًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا لَعَّانًا، كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ.

[الحديث 6031 - طرفه في: 6046]

6032 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشاً إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ".

[الحديث 6032 - طرفاه في: 6054، 6131]

ص: 452

قَوْلُهُ: (بَابٌ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَاحِشًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَا مُتَفَحِّشًا بِالتَّشْدِيدِ كَمَا فِي لَفْظِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْر وفِي الْبَابِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ مُتَفَاحِشًا، وَالْفُحْشُ كُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ مِقْدَارِهِ حَتَّى يُسْتَقْبَحَ، وَيَدْخُلَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالصِّفَةِ، يُقَالُ طَوِيلٌ فَاحِشُ الطُّولِ إِذَا أَفْرَطَ فِي طُولِهِ، لَكِنِ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْقَوْلِ أَكْثَرُ. وَالْمُتَفَحِّشُ بِالتَّشْدِيدِ الَّذِي يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وَيُكْثِرُ مِنْهُ وَيَتَكَلَّفُهُ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ، فَقَالَ: الْفَاحِشُ الَّذِي يَقُولُ الْفُحْشَ، وَالْمُتَفَحِّشُ الَّذِي يَسْتَعْمِلُ الْفُحْشَ لِيُضْحِكَ النَّاسَ. ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

الحديث الأول حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْر، وأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ وَهُوَ الْأَعْمَشُ، سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، وَمَنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ الْمَذْكُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَتْنُ بِتَمَامِهِ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا جَاءَ فِي مَعْنَاهُ، وَفِيهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: إِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَوَقَعَ هُنَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: إِنَّ خَيْرَكُمْ، وَتَبَيَّنَ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ مِنْ مُرَادَةٌ فِيهِ. وَوَقَعَ لِلْأَكْثَرِ أَخْيَرُكُمْ بِوَزْنِ أَفْضَلِكُمْ، وَمَعْنَاهُ وَهِيَ عَلَى الْأَصْلِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى بِمَعْنَاهَا، يُقَالُ فُلَانٌ خَيْرٌ مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ فَاحشٍ مُتَفَحِّشٍ.

الحديث الثاني حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ الرِّفْقِ، وَأَنَّ شَرْحَهُ يَأْتِي فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَوَقَعَ هُنَا: يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ. وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ عَيْنَ الْعُنْفِ مُثَلَّثَةٌ وَالْمَشْهُورُ ضَمُّهَا.

الحديث الثالث حَدِيثُ أَنَسٍ قَوْلُهُ: (سَبَّابًا) بِالْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى ثَقِيلَةٌ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ - وَيَجُوزُ فَتْحُهَا - بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَهِيَ مَصْدَرُ عَتَبَ عَلَيْهِ يَعْتِبُ عَتَبًا وَعِتَابًا وَمَعْتَبَةً وَمُعَاتَبَةً، قَالَ الْخَلِيلُ: الْعِتَابُ مُخَاطَبَةُ الْإِدْلَالِ، وَمُذَاكَرَةُ الْمُوحدَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى خَرَّ لِوَجْهِهِ فَأَصَابَ التُّرَابُ جَبِينَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَهُ بِالْعِبَادَةِ كَأَنْ يُصَلِّي فَيَتْرَبُ جَبِينُهُ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ الْجَبِينَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، قَالَ ثَعْلَبٌ: الْجَبِينَانِ يَكْتَنِفَانِ الْجَبْهَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى جَبِينِهِ.

قُلْتُ: وَأَيْضًا فَالثَّانِي بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةِ اسْتَعْمَلَهَا الْعَرَبُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفُوا وَضْعَ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: قَوْلُهُ تَرِبَ جَبِينُهُ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَهِيَ مِنَ التُّرَابِ، أَيْ سَقَطَ جَبِينُهُ لِلْأَرْضِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ رَغِمَ أَنْفُهُ، وَلَكِنْ لَا يُرَادُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَرِبَ جَبِينُهُ، بَلْ هُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ، أَيْ أنَّهَا كَلِمَةٌ تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ وَلَا يُرَادُ حَقِيقَتَهَا.

الحديث الرابع حديث عائشة، قَوْلُهُ:(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى) هُوَ أَبُو عُثْمَانَ الضُّبَعِيُّ الْبَصْرِيُّ، ثِقَةٌ مُسْتَقِيمُ الْحَدِيثِ، قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَشَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ هُوَ أَبُو الْخَطَّابِ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ أَيْضًا، لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ وَآخَرُ فِي الْمَنَاقِبِ. وَشَيْخُهُ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ مَشْهُورٌ كَثِيرُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ اغْتِيَابِ أَهْلِ الْفَسَادِ، وَفِي بَابِ الْمُدَارَاةِ، وَمَعْمَرٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَسِيَاقُ رَوْحٍ أَتَمُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ.

قَوْلُهُ: (أنَّ رَجُلًا) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْأَحْمَقُ الْمُطَاعُ، وَرَجَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ تَأَلُّفَهُ لِيُسْلِمَ قَوْمُهُ لِأَنَّهُ كَانَ رَئِيسُهُمْ، وَكَذَا فَسَّرَهُ بِهِ عِيَاضٌ ثُمَّ الْقُرْطُبِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ جَازِمِينَ بِذَلِكَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ ولَكِنِ احْتِمَالًا لَا جَزْمًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ

ص: 453

اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ: اسْتَأْذَنَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ بَشْكُوَالَ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ عُيَيْنَةَ اسْتَأْذَنَ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الْغَنِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْخَرَّازِ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَسْتَأْذِنُ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ، قَالَ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ الْحَدِيثَ، وَهَكَذَا وَقَعَ لَنَا فِي أَوَاخِرِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ فَوَائِدِ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيِّ وَأَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ، فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ. وَقَدْ حَكَى الْمُنْذِرُ فِي مُخْتَصَرِهِ الْقَوْلَيْنِ؛ فَقَالَ: هُوَ عُيَيْنَةُ، وَقِيلَ: مَخْرَمَةُ. وَأَمَّا شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهُ مَخْرَمَةُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ نَقَلَهُ مِنْ حَاشِيَةٍ بِخَطِّ الدِّمْيَاطِيِّ فَقَصَّرَ، لَكِنَّهُ حَكَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ التِّينِ أَنَّهُ جَوَّزَ أَنَّهُ عُيَيْنَةُ قَالَ: وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ.

قَوْلُهُ: (بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: بِئْسَ أَخُو الْقَوْمِ وَابْنُ الْقَوْمِ، وَهِيَ بِالْمَعْنَى، قَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِالْعَشِيرَةِ الْجَمَاعَةُ أَوِ الْقَبِيلَةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَشِيرَةُ الْأَدْنَى إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِهِ، وَهُمْ وَلَدُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ) بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ أَبْدَى لَهُ طَلَاقَةَ وَجْهِهِ، يُقَالُ: وَجْهُهُ طَلْقٌ وَطَلِيقٌ؛ أَيْ مُسْتَرْسِلٌ مُنْبَسِطٌ غَيْرُ عَبُوسٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَامِرٍ: بَشَّ فِي وَجْهِهِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ: وَاسْتَأْذَنَ آخَرُ، فَقَالَ: نِعْمَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ لَمْ يَهَشَّ لَهُ وَلَمْ يَنْبَسِطْ كَمَا فَعَلَ بِالْآخَرِ، فَسَأَلْتُهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: جَمَعَ هَذَا الْحَدِيثَ عِلْمًا وَأَدَبًا، وَلَيْسَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أُمَّتِهِ بِالْأُمُورِ الَّتِي يُسَمِّيهِمْ بِهَا وَيُضِيفُهَا إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَكْرُوهِ غِيبَةٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ وَيُفْصِحَ بِهِ وَيُعَرِّفَ النَّاسَ أَمْرَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَلَكِنَّهُ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَمِ وَأُعْطِيَهِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ أَظْهَرَ لَهُ الْبَشَاشَةَ وَلَمْ يُجِبْهُ بِالْمَكْرُوهِ، هذا لِتَقْتَدِي بِهِ أُمَّتُهُ فِي اتِّقَاءِ شَرِّ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ، وَفِي مُدَارَاتِهِ لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّهِ وَغَائِلَتِهِ.

قُلْتُ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْخَصَائِصِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلُّ مَنِ اطَّلَعَ مِنْ حَالِ شَخْصٍ عَلَى شَيْءٍ، وَخَشِيَ أَنَّ غَيْرَهُ يَغْتَرُّ بِجَمِيلِ ظَاهِرِهِ فَيَقَعُ فِي مَحْذُورٍ مَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى مَا يَحْذَرُ مِنْ ذَلِكَ قَاصِدًا نَصِيحَتَهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكْشَفَ لَهُ عَنْ حَالِ مَنْ يَغْتَرُّ بِشَخْصٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِعَهُ الْمُغْتَرُّ عَلَى حَالِهِ، فَيُذَمُّ الشَّخْصَ بِحَضْرَتِهِ لِيَتَجَنَّبَهُ الْمُغْتَرُّ لِيَكُونَ نَصِيحَةً، بِخِلَافِ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ جَوَازَ ذَمِّهِ لِلشَّخْصِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ مِمَّنْ يُرِيدُ نُصْحَهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ غِيبَةِ الْمُعْلِنِ بِالْفِسْقِ أَوِ الْفُحْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْجَوارِ فِي الْحُكْمِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْبِدْعَةِ مَعَ جَوَازِ مُدَارَاتِهِمُ اتِّقَاءَ شَرِّهِمْ، مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ فِي دِينِ اللَّهِ - تَعَالَى -. ثُمَّ قَالَ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَارَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ أَنَّ الْمُدَارَاةَ بَذْلُ الدُّنْيَا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا أَوِ الدِّينِ أَوْ هُمَا مَعًا، وَهِيَ مُبَاحَةٌ، وَرُبَّمَا اسْتُحِبَّتْ، وَالْمُدَاهَنَةُ تَرْكُ الدِّينِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا بَذَلَ لَهُ مِنْ دُنْيَاهُ حُسْنَ عِشْرَتِهِ وَالرِّفْقَ فِي مُكَالَمَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَمْدَحْهُ بِقَوْلٍ فَلَمْ يُنَاقِضْ قَوْلُهُ فِيهِ فِعْلَهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِيهِ قَوْلُ حَقٍّ، وَفِعْلَهُ مَعَهُ حُسْنُ عِشْرَةٍ، فَيَزُولُ مَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ - تَعَالَى -.

وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يَكُنْ عُيَيْنَةُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - حِينَئِذٍ أَسْلَمَ، فَلَمْ يَكُنِ الْقَوْلُ فِيهِ غِيبَةً، أَوْ كَانَ أَسْلَمَ وَلَمْ يَكُنْ إِسْلَامُهُ نَاصِحًا، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ بَاطِنَهُ، وَقَدْ كَانَتْ مِنْهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَهُ أُمُورٌ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِ؛ فَيَكُونُ مَا وَصَفَهُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جُمْلَةِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا إِلَانَةُ الْقَوْلِ لَهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فَعَلَى سَبِيلِ التَّأَلُّفِ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْمُدَارَاةِ، وَفِي جَوَازِ غِيبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَنَحْوِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مَتَى عَهِدْتِنِي فَاحِشًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَحَّاشًا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ تَرَكَهُ

ص: 454

النَّاسُ) فِي رِوَايَةِ عُيَيْنَةَ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: ذَكَرَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنَّ الْعَرَبَ أَمَاتُوا مَصْدَرَ يَدَعْ وَمَاضِيهِ، وَالنَّبِيُّ أَفْصَحُ الْعَرَبِ، وَقَدْ نَطَقَ بِالْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، وَبِمَاضِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَأَجَابَ عِيَاضٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ أَمَاتُوهُ أَيْ تَرَكُوا اسْتِعْمَالَهُ إِلَّا نَادِرًا، قَالَ: وَلَفْظُ أَمَاتُوهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مَعَ شَكِّ الرَّاوِيِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، مَعَ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ تَرَكَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ النُّحَاةِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ.

قَوْلُهُ: (اتِّقَاءَ شَرِّهِ) أَيْ قُبْحِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ كَانَ مِنْ جُفَاةِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عُيَيْنَةَ الْمَذْكُورَ خُتِمَ لَهُ بِسُوءٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّقَى فُحْشَهُ وَشَرَّهُ، أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ يَكُونُ شَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ بِلَفْظِ الْعُمُومِ فَمَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ الَّذِي يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ، وَشَرْطُ ذَلِكَ لك أَنْ يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ عُيَيْنَةَ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ؟ وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ يَحْتَمِلُ لِأَنْ يُقَيَّدَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي قِيلَ فِيهَا ذَلِكَ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ تَابَ وَأَنَابَ؟ وَقَدْ كَانَ عُيَيْنَةُ ارْتَدَّ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَحَارَبَ، ثُمَّ رَجَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَضَرَ بَعْضَ الْفُتُوحِ فِي عَهْدِ عُمَرَ، وَلَهُ مَعَ عُمَرَ قِصَّةٌ ذُكِرَتْ فِي تَفْسِيرِ الْأَعْرَافِ، وَيَأْتِي شَرْحُهَا فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -، وَفِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى جَفَائِهِ.

وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ أَحْمَقُ مُطَاعٌ، أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: جَاءَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ. أَلَا أَنْزِلُ لَكَ عَنْ أَجْمَلَ مِنْهَا. فَغَضِبَتْ عَائِشَةُ، وَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أَحْمَقُ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَزَادَ فِيهِ: اخْرُجْ فَاسْتَأْذِنْ، قَالَ: إِنَّهَا يَمِينٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَسْتَأْذِنَ عَلَى مُضَرِيٍّ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَسْلَمَ لَهُ ذَلِكَ، وَلِلْقَاضِي قَبْلَهُ فِي عُيَيْنَةَ لَا يَسْلَمُ لَهُ ذَلِكَ فِي مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْمُدَارَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْمُهَمِ هُنَا بِمَخْرَمَةَ هُوَ الرَّاجِحُ.

‌39 - بَاب حُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ الْبُخْلِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَجَعَ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

6033 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَم تُرَاعُوا لَم تُرَاعُوا، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ، فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا، أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ.

6034 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِراً رضي الله عنه يَقُولُ: "مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ: لَا".

ص: 455

6035 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "كُنَّا جُلُوساً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يُحَدِّثُنَا إِذْ قَالَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاحِشاً وَلَا مُتَفَحِّشاً وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقاً".

6036 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ فَقَالَ الْقَوْمُ هِيَ الشَّمْلَةُ فَقَالَ سَهْلٌ هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْسُوكَ هَذِهِ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجاً إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا فَقَالَ: "نَعَمْ" فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَامَهُ أَصْحَابُهُ قَالُوا مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مُحْتَاجاً إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ شَيْئاً فَيَمْنَعَهُ فَقَالَ رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا".

6037 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ".

6038 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ سَمِعَ سَلَامَ بْنَ مِسْكِينٍ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتاً يَقُولُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلَا لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلَا أَلَا صَنَعْتَ؟ ".

قَوْلُهُ: (بَابُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الْبُخْلِ) جَمَعَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ السَّخَاءَ مِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، بَلْ هُوَ مِنْ مُعْظَمِهَا وَالْبُخْلُ ضِدُّهُ، فَأَمَّا الْحُسْنُ فَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَرْغُوبٍ فِيهِ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِرْضِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْحُسْنِ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الشَّرْعِ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَأَمَّا الْخُلُقُ فَهُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ وَيَجُوزُ سُكُونُهَا، قَالَ الرَّاغِبُ: الْخَلْقُ وَالْخُلُقُ يَعْنِي بِالْفَتْحِ وَبِالضَّمِّ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالشَّرْبِ وَالشُّرْبِ، لَكِنْ خُصَّ الْخَلْقَ الَّذِي بِالْفَتْحِ بِالْهَيْئَاتِ وَالصُّوَرِ الْمُدْرَكَةِ بِالْبَصَرِ، وَخُصَّ الْخُلُقُ الَّذِي بِالضَّمِّ بِالْقُوَى وَالسَّجَايَا الْمُدْرَكَةِ بِالْبَصِيرَةِ انْتَهَى. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَي هِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الطَّوِيلِ فِي دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: الْأَخْلَاقُ أَوْصَافُ الْإِنْسَانِ الَّتِي يُعَامَلُ بِهَا غَيْرُهُ، وَهِيَ مَحْمُودَةٌ وَمَذْمُومَةٌ، فَالْمَحْمُودَةُ عَلَى الْإِجْمَالِ أَنْ تَكُونَ مَعَ غَيْرِكَ عَلَى نَفْسِكَ فَتُنْصِفُ مِنْهَا وَلَا تُنْصِفُ لَهَا، وَعَلَى التَّفْصِيلِ الْعَفْوُ وَالْحِلْمُ وَالْجُودُ وَالصَّبْرُ، وَتَحَمُّلُ الْأَذَى وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ وَالتَّوَادُدُ وَلِينُ الْجَانِبِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهَا ضِدُّ ذَلِكَ،

ص: 456

وَأَمَّا السَّخَاءُ فَهُوَ بِمَعْنَى الْجُودِ، وَهُوَ بَذْلُ مَا يُقْتَنَى بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَعَطْفُهُ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ لِلتَّنْوِيهِ بِهِ. وَأَمَّا الْبُخْلُ فَهُوَ مَنْعُ مَا يُطْلَبُ مِمَّا يُقْتَنَى، وَشَرُّهُ مَا كَانَ طَالِبُهُ مُسْتَحِقًّا وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَالِ الْمَسْئُولِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الْبُخْلِ إِلَى أَنَّ بَعْضَ مَا يَجُوزُ انْطِلَاقُ اسْمِ الْبُخْلِ عَلَيْهِ قَدْ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَمَانِيَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلَانِ مُعَلَّقَانِ.

الحديث الأول: قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَفِيهِ بَيَانُ السَّبَبِ فِي أَكْثَرِيَّةِ جُودِهِ فِي رَمَضَانَ.

الحديث الثاني: قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَخِيهِ إِلَخْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِتَكْرِيرِ قَالَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِلَخْ وَهِيَ أَوْلَى، وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً مُطَوَّلَةً فِي الْمَبْعَثِ النَّبَوِيِّ مَشْرُوحَةً وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا، قَوْلُهُ: وَيَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْمَكَارِمُ جَمْعُ مَكْرُمَةٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهِيَ مِنَ الْكَرَمِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَهُوَ اسْمُ الْأَخْلَاقِ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الْمَحْمُودَةُ، قَالَ: وَلَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ كَرِيمٌ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَ أَكْرَمُ الْأَفْعَالِ مَا يُقْصَدُ بِهِ أَشْرَفُ الْوُجُوهِ، وَأَشْرَفُهَا مَا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنَ الْمُتَّقِي، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وَكُلُّ فَائِقٍ فِي بَابِهِ يُقَالُ لَهُ كَرِيمٌ.

الحديث الثالث: حَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ؛ أَيْ أَحْسَنَهُمْ خَلْقًا وَخُلُقًا، وَأَجْوَدَ النَّاسِ أَيْ أَكْثَرَهُمْ بَذْلًا لِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ أَيْ أَكْثَرَهُمْ إِقْدَامًا مَعَ عَدَمِ الْفِرَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَاقْتِصَارُ أَنَسٍ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثِ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّهَا أُمَّهَاتُ الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ ثَلَاثُ قُوًى:

أَحَدُهَا: الْغَضَبِيَّةُ، وَكَمَالُهَا الشَّجَاعَةُ.

ثَانِيهَا: الشَّهْوَانِيَّةُ، وَكَمَالُهَا الْجُودُ.

ثَالِثهَا: الْعَقْلِيَّةُ، وَكَمَالُهَا النُّطْقُ بِالْحِكْمَةِ. وَقَدْ أَشَارَ أَنَسٌ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَحْسَنُ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَحْسَنِ النَّاسِ حُسْنَ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ تَابِعٌ لِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ الَّذِي يَتْبَعُ صَفَاءَ النَّفْسِ الَّذِي مِنْهُ جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ، الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا الْحِكْمَةُ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَقَوْلُهُ: فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَيْ سَمِعُوا صَوْتًا فِي اللَّيْلِ، فَخَافُوا أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ، وَقَوْلُهُ: فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ؛ أَيْ إِنَّهُ سَبَقَ فَاسْتَكْشَفَ الْخَبَرَ فَلَمْ يَجِدْ مَا يَخَافُ مِنْهُ فَرَجَعَ يُسَكِّنُهُمْ. وَقَوْلُهُ: لَمْ تُرَاعُوا هِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ تَسْكِينِ الرَّوْعِ تَأْنِيسًا وَإِظْهَارًا لِلرِّفْقِ بِالْمُخَاطَبِ.

الحديث الرابع: حَدِيثُ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ.

قَوْلُهُ: (مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَكَذَا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ بِلَفْظِ: مَا سُئِلَ شَيْئًا قَطُّ، فَقَالَ لَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ مَا طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَمَنَعَهُ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

مَا قَالَ لَا قَطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّدِهِ،

قُلْتُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُعْطِي مَا يُطْلَبُ مِنْهُ جَزْمًا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِالرَّدِّ، بَلْ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَعْطَاهُ إِنْ كَانَ الْإِعْطَاءُ سَائِغًا وَإِلَّا سَكَتَ. وَقَدْ وَرَدَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَلَفْظُهُ: إِذَا سُئِلَ فَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ قَالَ نَعَمْ، وَإِذَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يَفْعَلَ سَكَتَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِي فِي الْأَطْعِمَةِ: مَا عَابَ طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: مَعْنَاهُ لَمْ يَقُلْ لَا مَنْعًا لِلْعَطَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقُولَهَا اعْتِذَارًا كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {قُلْتَ لا أَجِدُ

ص: 457

مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} وَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ وَبَيْنَ لَا أَحْمِلُكُمْ.

قُلْتُ: وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لَمَّا سَأَلَ الْأَشْعَرِيُّونَ الْحِمْلَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِي حَدِيثِ الْأَشْعَرِيِّ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ لَا يَحْمِلُهُمْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّ مِنْ عُمُومِ حَدِيثِ جَابِرٍ بِمَا إِذَا سُئِلَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَالسَّائِلُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ ذَلِكَ، أَوْ حَيْثُ كَانَ الْمَقَامُ لَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى السُّكُوتِ مِنَ الْحَالَةِ الْوَاقِعَةِ أَوْ مِنْ حَالِ السَّائِلِ، كَأَنْ يَكُونَ لَمْ يَعْرِفِ الْعَادَةَ، فَلَوِ اقْتَصَرَ فِي جَوَابِهِ عَلَى السُّكُوتِ مَعَ حَاجَةِ السَّائِلِ لَتَمَادَى عَلَى السُّؤَالِ مَثَلًا، وَيَكُونُ الْقَسَمُ عَلَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِقَطْعِ طَمَعِ السَّائِلِ، وَالسِّرُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ أَنَّ الْأَوَّلَ لِبَيَانِ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَهُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّفُ الْإِجَابَةَ إِلَى مَا سُئِلَ بِالْقَرْضِ مَثَلًا أَوْ بِالِاسْتِيهَابِ؛ إِذْ لَا اضْطِرَارَ حِينَئِذٍ إِلَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ. وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ لَازِمِ عَدَمِ قَوْلِ لَا إِثْبَاتَ نَعَمْ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَحْرِيمُ الْبُخْلِ، لِأَنَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَاظَبَ عَلَى شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةَ وُجُوبِهِ، وَالتَّرْجَمَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْبُخْلَ مَكْرُوهٌ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِذَا تَمَّ هَذَا الْبَحْثُ حُمِلَتِ الْكَرَاهَةُ عَلَى التَّحْرِيمِ، لَكِنَّهُ لَا يَتِمُّ لِأَنَّ الَّذِي يَحْرُمُ مِنَ الْبُخْلِ مَا يَمْنَعُ الْوَاجِبَ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ لَكِنْ عَلَى مَنْ هُوَ فِي مَقَامِ النُّبُوَّةِ، إِذْ مُقَابِلُهُ نَقْصٌ مُنَزَّهٌ عَنْهُ الْأَنْبِيَاءُ، فَيَخْتَصُّ الْوُجُوبُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّرْجَمَةُ تَتَضَمَّنُ أَنَّ مِنَ الْبُخْلِ مَا يُكْرَهُ، وَمُقَابِلُهُ أَنَّ مِنْهُ مَا يَحْرُمُ كَمَا أَنَّ فِيهِ مَا يُبَاحُ بَلْ وَيُسْتَحَبُّ بَلْ وَيَجِبُ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى قَوْلِهِ يُكْرَهُ.

الحديث الخامس: حَدِيثُ مَسْرُوقٍ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَرِجَالُهُ إِلَى الصَّحَابَةِ كُوفِيُّونَ، وَقَدْ دَخَلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ صَرِيحًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَحْسَنُكُمْ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ وَهِيَ مُرَادَةٌ هُنَا.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَلِأَحْمَدَ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ نَحْوَهُ بِلَفْظِ أَحْسَنِ النَّاسِ إِسْلَامًا، وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: إِنَّ مِنْ أَحِبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ نَحْوَهُ، وَقَالَ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ، وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَابْنُ حِبَّانَ، مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْإِنْسَانُ؟ قَالَ: خُلُقٌ حَسَنٌ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ حَدِيثُ النَّوَّاسِ بْنُ سَمْعَانَ رَفَعَهُ الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وهُوَ ابْنُ حِبَّانَ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ وَهُوَ عِنْدَ الْبَزَّارِ: وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ،

وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَأَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ

ص: 458

مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَلِلْبَزَّارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ تَبَعًا لِلطَّبَرِيِّ خِلَافًا: هَلْ حُسْنُ الْخُلُقِ غَرِيزَةٌ، أَوْ مُكْتَسَبٌ؟ وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ غَرِيزَةٌ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ أَرْزَاقَكُمُ. الْحَدِيثَ، وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَق الَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: الْخُلُقُ جِبِلَّةٌ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتُونَ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا إِنْ كَانَ مَحْمُودًا، وَإِلَّا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْمُجَاهَدَةِ فِيهِ حَتَّى يَصِيرَ مَحْمُودًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَيَرْتَاضُ صَاحِبُهُ حَتَّى يَقْوَى. قُلْتُ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْأَشَجِّ الْعَصْرِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدِيمًا كَانَا فِيَّ أَوْ حَدِيثًا؟ قَالَ: قَدِيمًا.

قَالَ: الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا، فَتَرْدِيدُهُ السُّؤَالَ وَتَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ يُشْعِرُ بِأَنَّ فِي الْخُلُقِ مَا هُوَ جِبِلِّيٌّ، وَمَا هُوَ مُكْتَسَبٌ.

الحديث السادس: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْبُرْدَةِ الَّتِي سَأَلَ الصَّحَابِيُّ لِتَكُونَ كَفَنَهُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلَّذِي طَلَبَهَا: سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ الْجَنَائِزِ، وَفِي قَوْلِهِمْ: سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا اسْتِعْمَالُ ثَانٍ والضَّمِيرَيْنِ مُنْفَصِلًا وَهُوَ الْمُتَعَيَّنُ هُنَا فِرَارًا مِنَ الِاسْتِثْقَالِ، إِذْ لَوْ قَالَهُ مُتَّصِلًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ هَكَذَا سَأَلْتُمُوهَا، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ الْمُنْفَصِلُ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُتَّصِلِ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ أَخْصَرُ وَأَبْيَنُ، لَكِنْ إِذَا اخْتَلَفَ الضَّمِيرَانِ وَتَقَارَبَا فَالْأَحْسَنُ الِانْفِصَالُ نَحْوَ هَذَا، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الرُّتْبَةِ جَازَ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ، مِثْلَ: أَعْطَيْتُكَهُ، وَأَعْطَيْتُكَ إِيَّاهُ.

الحديث السابع: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَيَنْقُصُ الْعِلْمُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِلْآخَرِ وَجْهٌ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَهُوَ مَقْصُودُ الْبَابِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْبُخْلِ فَإِنَّهُ بُخْلٌ مَعَ حِرْصٍ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ يُلْقَى، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ بِسُكُونِ اللَّامِ، أَيْ يُوضَعُ فِي الْقُلُوبِ فَيَكْثُرُ، وَهُوَ عَلَى هَذَا بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْ يُعْطِي الْقُلُوبُ الشُّحَّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا بِالنَّصْبِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: لَمْ تَضْبِطِ الرُّوَاةُ هَذَا الْحَرْفَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّى بِالتَّشْدِيدِ أَيْ يَتَلَقَّى وَيَتَوَاصَى بِهِ وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ، مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ؛ أَيْ مَا يَعْلَمُهَا وَيُنَبَّهُ عَلَيْهَا، قَالَ: وَلَوْ قِيلَ: يُلْقَى مُخَفَّفَةً لَكَانَ بَعِيدًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُلْقِيَ لَتُرِكَ وَكَانَ مَدْحًا وَالْحَدِيثُ مُسَاقٌ لِلذَّمِّ، وَلَوْ كَانَ بِالْفَاءِ بِمَعْنَى يُوجَدُ لَمْ يَسْتَقِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا اهـ. وَقَدْ ذَكَرْتُ تَوْجِيهَ الْقَافِ.

الحديث الثامن: حَدِيثُ أَنَسٍ، قَوْلُهُ:(خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ) تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، وَمِثْلَهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خِدْمَتِهِ لَهُ كَانَ بَعْدَ قُدُومِهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَبَعْدَ تَزْوِيجِ أُمِّهِ أُمِّ سُلَيْمٍ بِأَبِي طَلْحَةَ، فَقَدْ مَضَى فِي الْوَصَايَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَلَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدَيَّ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَأَشَارَ بِالسَّفَرِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَغَازِي وَغَيْرِهَا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَبَ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ مَنْ يَخْدُمُهُ فَأَحْضَرَ لَهُ أَنَسًا؛ فَأُشْكِلَ هَذَا عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ

ص: 459

بَيْنَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ وَبَيْنَ خُرُوجِهِ إِلَى خَيْبَرَ سِتَّ سِنِينَ وَأَشْهُرًا.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ مَنْ يَكُونُ أَسَنَّ مِنْ أَنَسٍ وَأَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ فِي السَّفَرِ؛ فَعَرَفَ أَبُو طَلْحَةَ مِنْ أَنَسٍ الْقُوَّةَ عَلَى ذَلِكَ فَأَحْضَرَهُ، فَلِهَذَا قَالَ أَنَسٌ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: خَدَمْتُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَإِنَّمَا تَزَوَّجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ بِأَبِي طَلْحَةَ بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعِدَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهَا بَادَرَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَوَالِدُ أَنَسٍ حَيٌّ؛ فَعَرَفَ بِذَلِكَ فَلَمْ يُسْلِمْ وَخَرَجَ فِي حَاجَةٍ لَهُ فَقَتَلَهُ عَدُوٌّ لَهُ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ قَدْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ؛ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ خَطَبَهَا فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلِمَ فَأَسْلَمَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مُدَّةُ خِدْمَةِ أَنَسٍ تِسْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، فَأَلْغَى الْكَسْرَ مَرَّةً وَجَبَرَهُ أُخْرَى.

وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفٌّ قَطُّ، قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْأُفِّ كُلُّ مُسْتَقْذَرٍ مِنْ وَسَخٍ كَقُلَامَةِ الظُّفُرِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، وَيُقَالُ ذَلِكَ لِكُلِّ مُسْتَخَفٍّ بِهِ، وَيُقَالُ أَيْضًا عِنْدَ تَكَرُّهِ الشَّيْءِ وَعِنْدَ التَّضَجُّرِ مِنَ الشَّيْءِ، وَاسْتَعْمَلُوا مِنْهَا الْفِعْلَ كَأَفَفْتُ بِفُلَانٍ، وَفِي أُفٍّ عِدَّةُ لُغَاتٍ: الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَبِالتَّنْوِينِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ هُنَا أُفًّا بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِبَعْضِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ ضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالتَّشْدِيدِ، وَعَلَى ذَلِكَ اقْتَصَرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الرُّمَّانِيُّ فِيهَا لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَبَلَّغَهَا تِسْعًا وَثَلَاثِينَ، وَنَقَلَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ وَزَادَ وَاحِدَةً أَكْمَلَهَا أَرْبَعِينَ، وَقَدْ سَرَدَهَا أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ وَاعْتَمَدَ عَلَى ضَبْطِ الْقَلَمِ. وَلَخَّصَ ضَبْطَهَا صَاحِبُهُ الشِّهَابُ السَّمِينُ وَلَخَّصْتُهُ مِنْهُ، وَهِيَ السِّتَّةُ الْمُقَدَّمَةُ، وَبِالتَّخْفِيفِ كَذَلِكَ سِتَّةٌ أُخْرَى، وَبِالسُّكُونِ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا، وَبِزِيَادَةِ هَاءِ سَاكِنَةٍ فِي آخِرِهِ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا، وَأُفِّي بِالْإِمَالَةِ وَبَيْنَ بَيْنَ وَبِلَا إِمَالَةِ الثَّلَاثَةُ بِلَا تَنْوِينٍ، وَأُفُّو بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ وَإِفِّي بِكَسْرٍ ثُمَّ سُكُونٍ.

فَذَلِكَ ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ ضَمِّ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَفَتْحُهَا، فَأَمَّا بِكَسْرِهَا فَفِي إِحْدَى عَشْرَةَ: كَسْرُ الْفَاءِ وَضَمُّهَا وَمُشَدَّدًا مَعَ التَّنْوِينِ وَعَدَمُهُ أَرْبَعَةٌ وَمُخَفَّفًا بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ التَّنْوِينِ وَعَدَمِهِ سِتَّةٌ، وَأفِّي بِالْإِمَالَةِ وَالتَّشْدِيدِ، وَأَفًّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَفِي سِتٍّ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا مَعَ التَّنْوِينِ وَعَدَمِهِ أَرْبَعَةٌ بِالسُّكُونِ وَبِأَلِفٍ مَعَ التَّشْدِيدِ، وَالَّتِي زَادَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ أُفَاهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَزِيَادَةُ أَلِفٍ وَهَاءٍ سَاكِنَةٍ، وَقُرِئَ مِنْ هَذِهِ اللُّغَاتِ سِتٌّ كُلُّهَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، فَأَكْثَرُ السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْفَاءِ مُشَدَّدًا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَنَافِعٌ، وَحَفْصٌ كَذَلِكَ لَكِنْ بِالتَّنْوِينِ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ بِلَا تَنْوِينٍ، وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ كَذَلِكَ لَكِنْ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسُكُونِ الْفَاءِ. قُلْتُ: وَبَقِيَ مِنَ الْمُمْكِنِ فِي ذَلِكَ أُفَّيْ كَمَا مَضَى لَكِنْ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَأُفَّيْهِ بِزِيَادَةِ هَاءٍ، وَإِذَا ضَمَمْتَ هَاتَيْنِ إِلَى الَّتِي زَادَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَضَفْتَهَا إِلَى مَا بُدِئَ بِهِ صَارَتِ الْعِدَّةُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ كُلُّهَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، فَإِذَا اسْتَعْمَلْتَ الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ كَانَ الَّذِي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ كَذَلِكَ وَبِكَسْرِهَا كَذَلِكَ فَتَكْمُلُ خَمْسًا وَسَبْعِينَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا لِمَ صَنَعْتَ وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى هَلَّا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِشَيْءٍ مِمَّا يَصْنَعُهُ الْخَادِمُ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، وَلِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ مَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا كَذَا، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا كَذَا، وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا تَرْكُ الْعِتَابِ عَلَى مَا فَاتَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَنْدُوحَةً عَنْهُ بِاسْتِئْنَافِ الْأَمْرِ بِهِ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَفَائِدَةُ تَنْزِيهِ اللِّسَانِ عَنِ الزَّجْرِ وَالذَّمِّ وَاسْتِئْلَافِ خَاطِرِ الْخَادِمِ بِتَرْكِ مُعَاتَبَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحَطِّ الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا الْأُمُورُ اللَّازِمَةُ شَرْعًا فَلَا يُتَسَامَحُ فِيهَا لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

‌40 - بَاب كَيْفَ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ

ص: 460

6039 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (كَيْفَ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ)؟ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

وقَوْلُهُ: فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ الْمِهْنَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِفَتْحِهَا، وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ الْكَسْرَ وَفَسَّرَهَا هُنَاكَ بِخِدْمَةِ أَهْلِهِ، وَبَيَّنْتُ أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِيِ عَنْ شُعْبَةَ، وَأَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْهُ عَنْ شُعْبَةَ بِدُونِهَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، وَعَفَّانَ، وَأَبِي قُطْنٍ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ بِدُونِهَا، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ شُعْبَةَ فِي آخِرِهِ: يَعْنِي بِالْمِهْنَةِ فِي خِدْمَةِ أَهْلِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِعَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ سَعْدٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: يَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ: مَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ، وَلَهُ وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيُرَقِّعُ دَلْوَهُ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: مَا كَانَ إِلَّا بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، كَانَ يُفَلِّي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالْبَزَّارُ، وَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى، عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَفِي رِوَايَةِ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي سَعْدٍ: كَانَ أَلْيَنُ النَّاسِ، وَأَكْرَمُ النَّاسِ، وَكَانَ رَجُلًا مِنْ رِجَالِكُمْ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ بَسَّامًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مِنْ أَخْلَاقِ

الْأَنْبِيَاءِ التَّوَاضُعُ، وَالْبُعْدُ عَنِ التَّنَعُّمِ، وَامْتِهَانُ النَّفْسِ لِيُسْتَنَّ بِهِمْ؛ وَلِئَلَّا يَخْلُدُوا إِلَى الرَّفَاهِيَةِ الْمَذْمُومَةِ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى ذَمِّهَا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا}

‌41 - بَاب الْمِقَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى

6640 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمِقَةِ مِنَ اللَّهِ) أَيِ ابْتِدَاؤُهَا مِنَ اللَّهِ. الْمِقَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ هِيَ الْمَحَبَّةُ، وَقَدْ وَمِقَ يَمِقُ، وَالْأَصْلُ الْوَمْقُ وَالْهَاءُ فِيهِ عِوَضٌ عَنِ الْوَاوِ، كَعِدَّةٍ وَوَعْدٍ وَزِنَةٍ وَوَزْنٍ. وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ زِيَادَةٍ وَقَعَتْ فِي نَحْوِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، لَكِنَّهَا عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ الْبُخَارِيِّ فَأَشَارَ إِلَيْهَا فِي التَّرْجَمَةِ كَعَادَتِهِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي ظَبْيَةَ بِمُعْجَمَةٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: الْمِقَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالصِّيتُ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا الْحَدِيثَ. وَلِلْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي وَكِيعٍ الْجَرَّاحِ بْنِ مَلِيحٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ صِيتٌ فِي السَّمَاءِ، فَإِنْ كَانَ حَسَنًا وُضِعَ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ سَيِّئًا

ص: 461

وُضِعَ فِي الْأَرْضِ. وَالصِّيتُ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ أَصْلُهُ الصَّوْتُ كَالرِّيحِ مِنَ الرَّوْحِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ، وَرُبَّمَا قِيلَ لِضِدِّهِ لَكِنْ بِقَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (أَبُو عَاصِمٍ) هُوَ النَّبِيلُ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَرُبَّمَا رَوَى عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ مِثْلَ هَذَا، فَقَدْ عَلَّقَهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ لِأَبِي عَاصِمٍ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ ثَمَّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعٍ) هُوَ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، قَالَ الْبَزَّارُ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ نَافِعٍ إِلَّا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَلَا عَنْ مُوسَى إِلَّا ابْنُ جُرَيْجٍ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَانُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَبُو صَالِحٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّوْحِيدِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْبَزَّارُ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ) وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بَيَانُ سَبَبِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَالْمُرَادُ بِهَا، فَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: أن الْعَبْدَ لِيَلْتَمِسَ مَرْضَاتَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ: يَا جِبْرِيلُ، إِنَّ عَبْدِي فُلَانًا يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي، أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ عَلَيْهِ. . الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي الرِّقَاقِ؛ فَفِيهِ: وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ. . الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَيَجُوزُ الضَّمُّ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَتُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ، وَتَقُولُهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ.

قَوْلُهُ: (فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِلَخْ) فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ) زَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ ثُمَّ يَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} وَثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ أبي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا وَلَمْ يَسُقِ اللَّفْظَ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِيهِ: وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَسَاقَهُ عَلَى مِنْوَالِ الْحُبِّ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ، وَنَحْوَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: وَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ بِسَخَطِ اللَّهِ؛ فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ إِنَّ فُلَانًا يَسْتَسْخِطُنِي، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ عَلَى مِنْوَالِ الْحُبِّ أَيْضًا، وَفِيهِ: فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: سَخْطَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ، وَفِي آخِرِهِ مِثْلُ مَا فِي الْحُبِّ حَتَّى يَقُولَهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ يَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ: يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أَيْ رَضِيَهَا، قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: الْقَبُولُ مَصْدَرٌ لَمْ أَسْمَعْ غَيْرَهُ بِالْفَتْحِ؛ وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ فَيُوضَعُ لَهُ الْمَحَبَّةُ، وَالْقَبُولُ الرِّضَا بِالشَّيْءِ وَمَيْلُ النَّفْسِ إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: قَبِلَ اللَّهُ مِنْكَ قَبُولًا وَالشَّيْءَ وَالْهَدِيَّةَ أُخِذَتْ. وَالْخَبَرُ صُدِّقَ.

وَفِي التَّهْذِيبِ: عَلَيْهِ قَبُولٌ إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ تَقْبَلُهُ، وَالْقَبُولُ مِنَ الرِّيحِ الصَّبَا لِأَنَّهَا تَسْتَقْبِلُ الدَّبُورَ، وَالْقَبُولُ أَنْ يَقْبَلَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ أُمِيتَ الْفِعْلُ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الْقَبُولُ بِفَتْحِ الْقَافِ لَمْ أَسْمَعْ غَيْرَهُ، يُقَالُ فُلَانٌ عَلَيْهِ قَبُولٌ إِذَا قَبِلَتْهُ النَّفْسُ، وَتَقَبَّلْتُ الشَّيْءَ قَبُولًا. وَنَحْوَهُ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَزَادَ: قَبِلْتُهُ قَبُولًا بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَكَذَا قَبِلْتُ هَدِيَّتَهُ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ رَدٌّ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ: إِنَّ الشَّرَّ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَلَيْسَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. انْتَهَى.

وَالْمُرَادُ بِالْقَبُولِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ قَبُولُ الْقُلُوبِ لَهُ بِالْمَحَبَّةِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ وَالرِّضَا عَنْهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَحَبَّةَ قُلُوبِ النَّاسِ عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ: أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْعَبْدِ وَحُصُولُ الثَّوَابِ لَهُ، وَبِمَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ وَإِرَادَتُهُمْ خَيْرَ الدَّارَيْنِ لَهُ وَمَيْلُ قُلُوبِهِمْ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُطِيعًا لِلَّهِ مُحِبًّا لَهُ، وَمَحَبَّةُ الْعِبَادِ لَهُ اعْتِقَادُهُمْ فِيهِ الْخَيْرَ وَإِرَادَتُهُمْ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْهُ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ تُطْلَقُ مَحَبَّةُ اللَّهِ - تَعَالَى - لِلشَّيْءِ عَلَى إِرَادَةِ إِيجَادِهِ وَعَلَى إِرَادَةِ تَكْمِيلِهِ، وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْقَبِيلِ الثَّانِي، وَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ

ص: 462

عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا تُحَدُّ وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا مَنْ قَامَتْ بِهِ وِجْدَانًا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ، وَالْحُبُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِلَهِيٌّ وَرُوحَانِيٌّ وَطَبِيعِيٌّ، وَحَدِيثُ الْبَابِ يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَحُبُّ اللَّهِ الْعَبْدَ حُبٌّ إِلَهِيٌّ، وَحُبُّ جِبْرِيلَ وَالْمَلَائِكَةِ لَهُ حُبٌّ رُوحَانِيٌّ، وَحُبُّ الْعِبَادِ لَهُ حُبٌّ طَبِيعِيٌّ.

‌42 - بَاب الْحُبِّ فِي اللَّهِ

6041 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَجِدُ أَحَدٌ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ لَا يَجِدُ أَحَدٌ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَبَيَانُ أَنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَوَّلُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَلَفْظُهُ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ لَهُ طُرُقًا أُخْرَى.

وقَوْلُهُ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا؛ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ عَلِمَ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ آكَدُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَوَلَدِهِ وَزَوْجِهِ وَجَمِيعِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ وَالْخَلَاصَ مِنَ النَّارِ إِنَّمَا كَانَ بِاللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَمِنْ عَلَامَاتِ مَحَبَّتِهِ نَصْرُ دِينِهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالذَّبُّ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌43 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}

6042 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْأَنْفُسِ، وَقَالَ: بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ، ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا؟! وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَوُهَيْبٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ جَلْدَ الْعَبْدِ.

6043 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ، أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: بَلَدٌ حَرَامٌ، أَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَسَقَطَتِ الْآيَةُ لِغَيْرِهِمَا وَزَادَ:{عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا

ص: 463

حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْفُسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ رِوَايَةٌ هُنَا بِلَفْظِ: ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي الضَّرْطَةِ؛ فَقَالَ: لِمَ يَضْحَكْ أَحَدُهُمْ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: لَا يَسْخَرْ نَهْيٌ عَنِ السُّخْرِيَةِ وَهِيَ فِعْلُ السَّاخِرِ، وَهُوَ الَّذِي يُهْزَأُ مِنْهُ، وَالسُّخْرِيَةُ تَسْخِيرٌ خَاصٌّ وَالسُّخْرِيَةُ سِيَاقَةُ الشَّيْءَ إِلَى الْغَرَضِ الْمُخْتَصِّ بِهِ قَهْرًا، فَوَرَدَ النَّهْيُ عَنِ اسْتِهْزَاءِ الْمَرْءِ الْآخَرِ تَنْقِيصًا لَهُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ خَيْرا مِنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ: بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَوُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ جَلَدَ الْعَبْدَ) يُرِيدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ رَوَوْهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي قِصَّةِ النَّهْي عَنْ ضَرْبِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ جَزَمُوا بِقَوْلِهِمْ جَلْدُ الْعَبْدِ مَوْضِعُ شَكِّ ابْنُ عُيَيْنَةَ هَلْ قَالَ جَلْدُ الْفَحْلِ أَوْ جَلْدُ الْعَبْدِ، وَالتَّعَالِيقُ الثَّلَاثَةُ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِهَا مَوْصُولَةً، أَمَّا رِوَايَةُ الثَّوْرِيِّ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي النِّكَاحِ وَسَاقَهَا كَذَلِكَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ وُهَيْبٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي التَّفْسِيرِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ كَذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا فِي التَّفْسِيرِ أَيْضًا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ تَحْرِيمِ الْعِرْضِ - وَهُوَ مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الشَّخْصِ - أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ أَوْ نَسَبِهِ أَوْ حَسَبِهِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: عِرْضُ الرَّجُلِ بَدَنُهُ وَنَفْسُهُ لَا غَيْرَ، وَمِنْهُ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ. قُلْتُ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْحَصْرِ، وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ قَوْلُ حَسَّانَ:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي

لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

يُخَاطِبُ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ تَهَاجِيهِمْ فِي مَدْحِ الْآبَاءِ وَذَمِّهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ.

‌44 - بَاب مَا يُنْهَى مِنْ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ

6044 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ.

تَابَعَهُ محمد بن جعفر عَنْ شُعْبَةَ.

6045 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ الدِّيلِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ".

6046 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاحِشاً وَلَا لَعَّاناً وَلَا سَبَّاباً كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ".

6047 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ

ص: 464

غَيْرِ الإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِناً فَهُوَ كَقَتْلِهِ وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ".

6048 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَاعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ" فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَقَالَ أَتُرَى بِي بَأْسٌ؟ أَمَجْنُونٌ أَنَا؟ اذْهَبْ".

6049 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَإِنَّهَا رُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْراً لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ".

6050 -

حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ هُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: "رَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْداً وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْداً فَقُلْتُ لَوْ أَخَذْتَ هَذَا فَلَبِسْتَهُ كَانَتْ حُلَّةً وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْباً آخَرَ فَقَالَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلَامٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: "أَسَابَبْتَ فُلَاناً؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. قُلْتُ عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ قَالَ نَعَمْ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفُهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُنْهَى مِنَ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ عَنْ بَدَلَ مِنْ وَهِيَ أَوْلَى، وَفِي الْأَوَّلِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ مَا يُنْهَى عَنْهُ. وَالسِّبَابُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ مِنَ التَّفَاعُلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى السَّبِّ وَهُوَ الشَّتْمُ وَهُوَ نِسْبَةُ الْإِنْسَانِ إِلَى عَيْبٍ مَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَحُكْمُ مَنْ بَدَأَ مِنْهُمَا أَنَّ الْوِزْرَ عَلَيْهِ حَتَّى يتعدى الثَّانِي، كَمَا ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَصَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَهَاتَرَانِ وَيَتَكَاذَبَانِ.

قَوْلُهُ في آخر الحديث الأول تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَصَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَهُوَ غُنْدَرٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، لَكِنْ قَالَ فِيهِ: عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ، وَمَنْصُورٍ، وَزَادَ فِيهِ زُبَيْدًا وَهُوَ بِالزَّايِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ، وَمَعْنَى اللَّعْنِ الدُّعَاءُ بِالْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -.

الحديث الثاني: قَوْلُهُ: (عَنِ الْحُسَيْنِ) هُوَ ابْنُ ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ، وَالْإِسْنَادُ إِلَى أَبِي

ص: 465

ذَرٍّ بَصْرِيُّونَ، وَقَدْ دَخَلَهَا هُوَ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ الْمُعَلِّمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِالسَّنَدِ إِلَى أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ حَدَّثَهُ.

قَوْلُهُ: (لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ، إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَمَا قَالَ)، وَفِي رِوَايَةِ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ، وَفِي أُخْرَى: إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، يَعْنِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ، وَحَارَ بِمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ رَجَعَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَنْتَ فَاسِقٌ، أَوْ قَالَ لَهُ: أَنْتَ كَافِرٌ، فَإِنْ كَانَ لَيْسَ كَمَا قَالَ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَمَا قَالَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِكَوْنِهِ صَدَقَ فِيمَا قَالَ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ فَاسِقًا وَلَا كَافِرًا أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا فِي صُورَةِ قَوْلِهِ لَهُ أَنْتَ فَاسِقٌ، بَلْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَفْصِيلٌ: إِنْ قَصَدَ نُصْحَهُ أَوْ نُصْحَ غَيْرِهِ بِبَيَانِ حَالِهِ جَازَ، وَإِنْ قَصَدَ تَعْيِيرَهُ وَشُهْرَتَهُ بِذَلِكَ وَمَحْضَ أَذَاهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسِّتْرِ عَلَيْهِ وَتَعْلِيمِهِ وَعِظَتِهِ بِالْحُسْنَى، فَمَهْمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِالرِّفْقِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِالْعُنْفِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِغْرَائِهِ وَإِصْرَارِهِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ كَمَا فِي طَبْعِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْأَنَفَةِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْآمِرُ دُونَ الْمَأْمُورِ فِي الْمَنْزِلَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ.

ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ فِي ذَمِّ مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ صَدْرُهُ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ هُنَا، فَهُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فَرَّقَهُ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَيْنِ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَتْنُ فِي بَابِ مَنْ أَكْفَرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ بِمَعْنَى رَجَعَ أَيْضًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الرُّجُوعِ فَقِيلَ رَجَعَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ إِنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا، وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ سِيَاقِ الْخَبَرِ، وَقِيلَ: مَحْمُولٌ عَلَى الْخَوَارِجِ لِأَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ الْمُؤْمِنِينَ، هَكَذَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ، عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. لِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْخَوَارِجَ لَا يَكْفُرُونَ بِبِدْعَتِهِمْ. قُلْتُ: وَلِمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَجْهٌ، وَهُوَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ وَبِالْإِيمَانِ، فَيَكُونُ تَكْفِيرُهُمْ مِنْ حَيْثُ تَكْذِيبِهِمْ لِلشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ صُدُورِ التَّكْفِيرِ مِنْهُمْ بِتَأْوِيلٍ كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي بَابِ مَنْ أَكْفَرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ لِزَجْرِ الْمُسْلِمِ عَنْ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ فِرْقَةِ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ رَجَعَتْ عَلَيْهِ نَقِيصَتُهُ لِأَخِيهِ وَمَعْصِيَته تَكْفِيرِهِ، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ.

وَقِيلَ: يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَؤولَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَا قِيلَ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ، فَيُخَافُ عَلَى مَنْ أَدَامَهَا وَأَصَرَّ عَلَيْهَا سُوءُ الْخَاتِمَةِ، وَأَرْجَحُ مِنَ الْجَمِيعِ أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لِمَنْ يُعْرَفُ مِنْهُ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يَقُمْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ، فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ فَقَدْ رَجَعَ عَلَيْهِ تَكْفِيرُهُ، فَالرَّاجِعُ التَّكْفِيرُ لَا الْكُفْرُ، فَكَأَنَّهُ كَفَّرَ نَفْسَهُ لِكَوْنِهِ كَفَّرَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ، وَمَنْ لَا يُكَفِّرُهُ إِلَّا كَافِرٌ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ؛ وَجَبَ الْكُفْرُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَيْثُ جَاءَ الْكُفْرُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ فَهُوَ جَحْدُ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ الْكُفْرُ فِي الشَّرْعِ بِمَعْنَى جَحْدِ النِّعَمِ وَتَرْكِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي بَابِ كُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: يَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا أَيْ رَجَعَ بِإِثْمِهَا وَلَازَمَ ذَلِكَ، وَأَصْلُ الْبَوْءِ اللُّزُومُ، وَمِنْهُ: أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ أَيْ أُلْزِمُهَا نَفْسِي وَأُقِرُّ بِهَا، قَالَ: وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِهَا رَاجِعٌ إِلَى التَّكْفِيرَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُ كَافِرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْكَلِمَةِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَقُولَ لَهُ إِنْ كَانَ كَافِرًا كُفْرًا شَرْعِيًّا فَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ وَذَهَبَ بِهَا الْمَقُولُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجَعَتْ

ص: 466

لِلْقَائِلِ مَعَرَّةُ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَإِثْمُهُ، كَذَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي رَجَعَ، وَهُوَ مِنْ أَعْدَلِ الْأَجْوِبَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ رَفَعَهُ أن الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فَتَأْخُذُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَآخَرُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَلَكِنَّهُ أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ.

الحديث الثالث: حَدِيثُ أَنَسٍ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ حُسْنِ الْخُلُقِ.

الحديث الخامس: حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا دَالٌ مُهْمَلَاتٌ، وَهُوَ ابْنُ الْجَوْنِ بْنِ أَبِي الْجَوْنِ الْخُزَاعِيُّ، صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ يُقَالُ: كَانَ اسْمُهُ يَسَارٌ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُهْمَلَةٍ، فَغَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَيُكَنَّى أَبَا الْمُطَرِّفِ، وَقُتِلَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً.

قَوْلُهُ: (اسْتَبَّ رَجُلَانِ) لَمْ أَعْرِفْ أَسْمَاءَهُمَا وَوَقَعَ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا السَّنَدِ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ) فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فَاحْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْوَدَجِ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ، وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ: حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّ أَنْفَهُ لَيَتَمَزَّعُ مِنَ الْغَضَبِ.

قَوْلُهُ: (إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ) فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الرَّجِيمِ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَلَفْظُهُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ يَقُولُهَا هَذَا الْغَضْبَانُ لَذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبَ: اللَّهُمَّ إِنَى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقَامَ إِلَى الرَّجُلِ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقَالُوا لَهُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُ مِنْهُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ كَمَا بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ وَلَفْظُهُ: قَالَ: فَجَعَلَ مُعَاذُ يَأْمُرُهُ، فَأَبَى وَضَحِكَ وَجَعَلَ يَزْدَادُ غَضَبًا، قَوْلُهُ:(وَقَالَ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ) فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ، وَهُوَ بِالْمَعْنَى، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرْشَدَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْمُرُوهُ بِذَلِكَ، لَكِنِ اسْتَفَادُوا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ عُمُومِ الْأَمْرِ بِالنَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُهُ: (أَتُرَى بِي بَأْسٌ؟) بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ أَتَظُنُّ، وَوَقَعَ بَأْسٌ هُنَا بِالرَّفْعِ لِلْأَكْثَرِ، وَفِي بَعْضِهَا بَأْسًا بِالنَّصْبِ وَهُوَ أَوْجَهُ.

قَوْلُهُ: (أَمَجْنُونٌ أَنَا) فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: وَهَلْ بِي مِنْ جُنُونٍ؟

قَوْلُهُ: (اذْهَبْ) هُوَ خِطَابٌ مِنَ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَمَرَهُ بِالتَّعَوُّذِ أَيِ امْضِ فِي شُغْلِكَ. وَأَخْلَقُ بِهَذَا الْمَأْمُورِ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا، أَوْ كَانَ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَضَبُ حَتَّى أَخْرَجَهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ بِحَيْثُ زَجَرَ النَّاصِحَ الَّذِي دَلَّهُ عَلَى مَا يُزِيلُ عَنْهُ مَا كَانَ بِهِ مِنْ وَهَجِ الْغَضَبِ بِهَذَا الْجَوَابِ السَّيِّئِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ، وَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَسْتَعِيذُ مِنَ الشَّيْطَانَ إِلَّا مَنْ بِهِ جُنُونٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ نَوْعٌ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلِهَذَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ صُورَتِهِ وَيُزَيِّنُ إِفْسَادَ مَا لَهُ كَتَقْطِيعِ ثَوْبِهِ وَكَسْرِ آنِيَّتِهِ أَوِ الْإِقْدَامِ عَلَى مَنْ أَغْضَبَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ مِمَّا يَتَعَاطَاهُ مَنْ يَخْرُجُ عَنِ الِاعْتِدَالِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ: رَفَعَهُ إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ. . الْحَدِيثَ.

الحديث السادس: عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي ذِكْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصِّيَامِ مَشْرُوحًا، وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِقَوْلِهِ فِيهِ: فَتَلَاحَى أَيْ تَنَازَعَ، وَالتَّلَاحِي بِالْمُهْمَلَةِ أَيِ التَّجَادُلُ وَالتَّنَازُعُ، وَهُوَ يُفْضِي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْمُسَابَبَةِ،

ص: 467

وَتَقَدَّمَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ هُمَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ.

الحديث السابع: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ: سَابَبْتُ رَجُلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ هُوَ بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ، وَكَانَ اسْمُ أُمِّهِ حَمَامَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ التَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ، وَالْجَاهِلِيَّةُ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا هُنَا الْجَهْلُ أَيْ إِنَّ فِيكَ جَهْلًا. وَقَوْلُهُ: قُلْتُ عَلَى سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ أَيْ هَلْ فِيَّ جَاهِلِيَّةٍ أَوْ جَهْلٍ وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ؟ وَقَوْلُهُ: هُمْ إِخْوَانُكُمْ أَيِ الْعَبِيدُ أَوِ الْخَدَمُ حَتَّى يَدْخُلَ مَنْ لَيْسَ فِي الرِّقِّ مِنْهُمْ، وَقَرِينَةُ قَوْلِهِ: تَحْتَ أَيْدِيكُمْ تُرْشِدُ إِلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي ذَمِّ السَّبِّ وَاللَّعْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ احْتِقَارِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مُعْظَمِ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ التَّفَاضُلَ الْحَقِيقِيَّ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّقْوَى، فَلَا يُفِيدُ الشَّرِيفَ النَّسَبِ نَسَبُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى، وَيَنْتَفِعُ الْوَضِيعُ النَّسَبِ بِالتَّقْوَى كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

‌45 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ وَمَا لَا يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ

6051 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَقَالُوا: قَصُرَتْ الصَّلَاةُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ،، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ) أَيْ بِأَوْصَافِهِمْ (نَحْوَ قَوْلِهِمُ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ وَمَا لَا يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ حُكْمِ الْأَلْقَابِ وَمَا لَا يُعْجِبُ الرَّجُلَ أَنْ يُوصَفَ بِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ اللَّقَبَ إِنْ كَانَ مِمَّا يُعْجِبُ الْمُلَقَّبَ وَلَا إِطْرَاءَ فِيهِ مِمَّا يَدْخُلُ فِي نَهْيِ الشَّرْعِ فَهُوَ جَائِزٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُعْجِبُهُ فَهُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ، إِلَّا أنْ يعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى التَّعْرِيفِ بِهِ حَيْثُ يَشْتَهِرُ بِهِ وَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةُ مِنْ ذِكْرِ الْأَعْمَشِ، وَالْأَعْرَجِ وَنَحْوِهِمَا وَعَارِمٍ وَغُنْدَرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَلَّمَ - فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ؛ فَقَالَ: أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَقَالَ فِي سِيَاقِ الرِّوَايَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا: وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي عَلَّقَهَا فِي الْبَابِ فَوَصَلَهَا فِي بَابِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَكِنَّ لَفْظَهُ: أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّعْلِيقِ الْمَذْكُورِ، وَإِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَشَذَّ قَوْمٌ فَشَدَّدُوا حَتَّى نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا حُمَيْدًا الطَّوِيلَ غِيبَةً، وَكَأَنَّ

ص: 468

الْبُخَارِيَّ لَمَّحَ بِذَلِكَ حَيْثُ ذَكَرَ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ وَفِيما: وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ مِثْلِ هَذَا إِنْ كَانَ لِلْبَيَانِ وَالتَّمْيِيزِ فَهُوَ جَائِزٌ،

وَإِنْ كَانَ لِلتَّنْقِيصِ لَمْ يَجُزْ، قَالَ: وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا أَنَّهَا قَصِيرَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اغْتَبْتِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ هَذَا بَيَانًا إِنَّمَا قَصَدَتِ الْإِخْبَارَ عَنْ صِفَتِهَا، فَكَانَ كَالِاغْتِيَابِ انْتَهَى.

الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْغِيبَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ

(1)

، وَفِي

(1)

مِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ بْنِ مُخَارِقٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ

(1)

.

‌46 - بَاب الْغِيبَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}

6052 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يُحَدِّثُ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ؛ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا هَذَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ، فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْغِيبَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الْآيَةَ) هَكَذَا اكْتَفَى بِذِكْرِ الْآيَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْغِيبَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهَا كَمَا ذَكَرَ حُكْمَ النَّمِيمَةِ بَعْدَ بَابَيْنِ؛ حَيْثُ جَزَمَ بِأَنَّ النَّمِيمَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْغِيبَةِ وَفِي حُكْمِهَا، فَأَمَّا حَدُّهَا فَقَالَ الرَّاغِبُ: هِيَ أَنْ يَذْكُرَ الْإِنْسَانُ عَيْبَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مُحْوِجٍ إِلَى ذِكْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: حَدُّ الْغِيبَةِ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُهُ لَوْ بَلَغَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: الْغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ الْإِنْسَانَ فِي غَيْبَتِهِ بِسُوءٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ: ذِكْرُ الْمَرْءِ بِمَا يَكْرَهُهُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي بَدَنِ الشَّخْصِ أَوْ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ خَلْقِهِ أَوْ خُلُقِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَالِدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجِهِ أَوْ خَادِمِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ حَرَكَتِهِ أَوْ طَلَاقَتِهِ أَوْ عُبُوسِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ، سَوَاءٌ ذَكَرْتَهُ بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ وَالرَّمْزِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِمَّنْ يَسْتَعْمِلُ التَّعْرِيضَ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي التَّصَانِيفِ وَغَيْرِهَا كَقَوْلِهِمْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ، أَوْ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الصَّلَاحِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْهَمُ السَّامِعُ الْمُرَادَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ عِنْدَ ذِكْرِهِ: اللَّهُ يُعَافِينَا، اللَّهُ يَتُوبُ عَلَيْنَا، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْغِيبَةِ.

وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا غِيبَةَ الشَّخْصِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُهُ. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي أَخِيكَ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ مَالِكٍ، فَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِغِيبَةِ الشَّخْصِ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فِي غِيبَتِهِ أَوْ فِي حُضُورِهِ، وَالْأَرْجَحُ اخْتِصَاصُهَا بِالْغِيبَةِ مُرَاعَاةً لِاشْتِقَاقِهَا؛ وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَهْلُ اللُّغَةِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْغِيبَةُ ذِكْرُ الْمَرْءِ بِمَا يَكْرَهُهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ. وَكَذَا قَيَّدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ فِي

(1)

كذا بياض في الأصل

ص: 469

التَّفْسِيرِ، وَابْنُ خَمِيسٍ فِي جُزْءٍ لَهُ مُفْرَدٍ فِي الْغِيبَةِ، وَالْمُنْذِرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ آخِرِهِمُ الْكِرْمَانِيُّ، قَالَ: الْغِيبَةُ أَنْ تَتَكَلَّمَ خَلْفَ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُهُ لَوْ سَمِعَهُ وَكَانَ صِدْقًا. قَالَ: وَحُكْمُ الْكِنَايَةِ وَالْإِشَارَةِ مَعَ النِّيَّةِ كَذَلِكَ. وَكَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ مِنْهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ سُلَيْمِ بْنِ جَابِرٍ

(1)

وَالْحَدِيثُ سِيقَ لِبَيَانِ صِفَتِهَا، وَاكْتُفِيَ بِاسْمِهَا عَلَى ذِكْرِ مَحِلِّهَا. نَعَمِ الْمُوَاجَهَةُ بِمَا ذُكِرَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي السَّبِّ وَالشَّتْمِ، وَأَمَّا حُكْمُهَا فَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ مُحَرَّمَتَانِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ.

وَذَكَرَ فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ أَنَّهَا مِنَ الصَّغَائِرِ، وَتَعَقَّبَهُ جَمَاعَةٌ. وَنَقَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ لِأَنَّ حَدَّ الْكَبِيرَةِ صَادِقٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مِمَّا ثَبَتَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِيهِ. وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا مِنَ الصَّغَائِرِ إِلَّا صَاحِبَ الْعُدَةِ

(2)

وَالْغَزَالِيَّ. وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْإِجْمَاعُ فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّفْصِيلِ، فَمَنِ اغْتَابَ وَلِيًّا لِلَّهِ أَوْ عَالِمًا لَيْسَ كَمَنِ اغْتَابَ مَجْهُولَ الْحَالَةِ مَثَلًا. وَقَدْ قَالُوا: ضَابِطُهَا ذِكْرُ الشَّخْصِ بِمَا يَكْرَهُ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يُقَالُ فِيهِ، وَقَدْ يَشْتَدُّ تَأَذِّيهِ بِذَلِكَ وَأَذَى الْمُسْلِمِ مُحَرَّمٌ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ حَدِيثَ أَنَسٍ رَفَعَهُ: لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْشُمونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ. قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَفَعَهُ: إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ أَكَلَ لَحْمَ أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا قُرِّبَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: كُلْهُ مَيِّتًا كَمَا أَكَلَتْهُ حَيًّا، فَيَأْكُلُهُ وَيَكْلَحُ وَيَصِيحُ. سَنَدُهُ حَسَنٌ.

وَفِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَا الْتَقَمَ أَحَدٌ لُقْمَةً شَرًّا مِنَ اغْتِيَابِ مُؤْمِنٍ. . الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَيْضًا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ وَرَجْمِهِ فِي الزِّنَا: وَإِنَّ رَجُلًا قَالَ لِصَاحِبِهِ: انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَدَعْ نَفْسَهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ - لِحِمَارٍ مَيِّتٍ -، فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ هَذَا الرَّجُلِ أَشَدُّ مِنْ أَكْلِ هَذِهِ الْجِيفَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَهَاجَتْ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا الْوَعِيدُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، لَكِنَّ تَقْيِيدَهُ فِي بَعْضِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ قَدْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ بِحَقٍّ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا ذِكْرُ الْمَرْءِ بِمَا فِيهِ.

ثم ذكر المصنف حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْغِيبَةِ بَلْ فِيهِ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا تَرْجَمَ بِالْغِيبَةِ وَذَكَرَ النَّمِيمَةَ؛ لِأَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا ذِكْرُ مَا يَكْرَهُهُ الْمَقُولُ فِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْغِيبَةُ نَوْعٌ مِنَ النَّمِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَمِعَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ مَا نُقِلَ عَنْهُ لَغَمَّهُ. قُلْتُ: الْغِيبَةُ قَدْ تُوجَدُ فِيِ بَعْضِ صُوَرِ النَّمِيمَةِ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي غِيبَتِهِ بِمَا فِيهِ مِمَّا يَسُوؤُهُ قَاصِدًا بِذَلِكَ الْإِفْسَادَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ الَّذِي كَانَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِلَفْظِ الْغِيبَةِ صَرِيحًا، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ هُوَ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى عَلَى قَبْرَيْنِ - فَذَكَرَ فِيهِ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ وَقَالَ فِيهِ - أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَغْتَابُ النَّاسَ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّهُمَا

(1)

بياض بأصله.

(2)

في نسخة العمدة.

ص: 470

يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، وَبَكَى - وَفِيهِ - وَمَا يُعَذَّبَانِ إِلَّا فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ، وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ شَبَابَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى قَبْرٍ يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ. . الْحَدِيثَ، وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِثْلُهُ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ فِي التَّفْسِيرِ. وَأَكْلُ لُحُومِ النَّاسِ

‌47 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ

6053 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ. .

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ) ذَكَرَ فِيهِ أَوَّلَ حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ بِتَمَامِهِ، وَفِي إِيرَادِهِ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ هُنَا إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْغِيبَةِ أَصْلًا إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنْ أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، فَيُسْتَثْنَى ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، وَيَكُونُ مَحَلَّ الزَّجْرِ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْغِيبَةِ وَلَوْ كَرِهَهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا يُذْكَرُ لِقَصْدِ النَّصِيحَةِ مِنْ بَيَانِ غَلَطِ مَنْ يَخْشَى أَنْ يُقَلَّدَ أَوْ يُغْتَرَّ بِهِ فِي أَمْرٍ مَا، فَلَا يَدْخُلُ ذِكْرُهُ بِمَا يَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ مَا تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَقِبَ هَذَا.

وقَالَ ابْنُ التِّينِ: فِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ النَّاسِ لِمَنْ يَكُونُ عَالِمًا بِأَحْوَالِهِمْ لِيُنَبِّهَ عَلَى فَضْلِ الْفَاضِلِ وَمَنْ لَا يَلْحَقُ بِدَرَجَتِهِ فِي الْفَضْلِ، فَيُمْتَثَلُ أَمْرَهُ صلى الله عليه وسلم بِتَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِغِيبَةٍ.

‌48 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ اغْتِيَابِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالرِّيَبِ

6054 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعَت عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلَامَ؟ قَالَ: أَيْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ اغْتِيَابِ أَهْلِ الْفَسَادِ).

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا فِي بَابِ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا. وَقَدْ نُوزِعَ فِي كَوْنِ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ غِيبَةً، وَإِنَّمَا هُوَ نَصِيحَةٌ لِيَحْذَرَ السَّامِعُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُوَاجِهِ الْمَقُولَ فِيهِ بِذَلِكَ لِحُسْنِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ وَاجَهَ الْمَقُولَ فِيهِ بِذَلِكَ لَكَانَ حَسَنًا، وَلَكِنْ حَصَلَ الْقَصْدُ بِدُونِ مُوَاجَهَةٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صُورَةَ الْغِيبَةِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلِ الْغِيبَةَ الْمَذْمُومَةَ شَرْعًا، وَغَايَتُهُ أَنَّ تَعْرِيفَ الْغِيبَةِ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا هُوَ اللُّغَوِيُّ، وَإِذَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ مَا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ تَعْرِيفَهَا الشَّرْعِيَّ. وقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ شَرَّ النَّاسِ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ كَالتَّعْلِيلِ لِتَرْكِهِ مُوَاجَهَتَهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي غِيبَتِهِ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ

ص: 471

أَنَّ الْمُجَاهِرَ بِالْفِسْقِ وَالشَّرِّ لَا يَكُونُ مَا يُذْكَرُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَرَائِهِ مِنَ الْغِيبَةِ الْمَذْمُومَةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: تُبَاحُ الْغِيبَةُ فِي كُلِّ غَرَضٍ صَحِيحٍ شَرْعًا؛ حَيْثُ يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِهَا: كَالتَّظَلُّمِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، وَالِاسْتِفْتَاءِ، وَالْمُحَاكَمَةِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّرِّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَجْرِيحُ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ، وَإِعْلَامُ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ بِسِيرَةِ مَنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ، وَجَوَابُ الِاسْتِشَارَةِ فِي نِكَاحٍ أَوْ عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ، وَكَذَا مَنْ رَأَى مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّدُ إِلَى مُبْتَدِعٍ أَوْ فَاسِقٍ وَيُخَافُ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ. وَمِمَّنْ تَجُوزُ غِيبَتُهُمْ مَنْ يَتَجَاهَرُ بِالْفِسْقِ أَوِ الظُّلْمِ أَوِ الْبِدْعَةِ.

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي ضَابِطِ الْغِيبَةِ وَلَيْسَ بِغِيبَةٍ مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ فَيُسْتَثْنَى أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌49 - بَاب النَّمِيمَةُ مِنْ الْكَبَائِرِ

6055 -

حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عَبِيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَعْضِ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ: يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرة، وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ، كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، والْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا بِكِسْرَتَيْنِ أَوْ ثِنْتَيْنِ، فَجَعَلَ كِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا وَكِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا، فَقَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ النَّمِيمَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ) سَقَطَ لَفْظُ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ.

ذكر فيه حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْقَبْرَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ، لِقَوْلِهِ فِي سِيَاقِهِ: وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَقَدْ صَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: وَكَانَ الْآخَرُ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ.

(لَطِيفَةٌ): أَبْدَى بَعْضُهُمْ لِلْجَمْعِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ مُنَاسَبَةً، وَهِيَ أَنَّ الْبَرْزَخَ مُقَدِّمَةٌ للْآخِرَةِ، وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الصَّلَاةُ وَمِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الدِّمَاءُ، وَمِفْتَاحُ الصَّلَاةِ التَّطَهُّرُ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَمِفْتَاحُ الدِّمَاءِ الْغِيبَةُ وَالسَّعْيُ بَيْنَ النَّاسِ بِالنَّمِيمَةِ بِنَشْرِ الْفِتَنِ الَّتِي يُسْفَكُ بِسَبَبِهَا الدِّمَاءُ.

‌50 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ النَّمِيمَةِ وَقَوْلِهِ تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ وَيَعِيبُ وَاحِدٌ

6056 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ؛ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النَّمِيمَةِ) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى بَعْضِ الْقَوْلِ الْمَنْقُولِ عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ يَجُوزُ إِذَا كَانَ الْمَقُولُ فِيهِ كَافِرًا مَثَلًا، كَمَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ وَنَقْلُ مَا يَضُرُّهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} قَالَ الرَّاغِبُ: هَمْزُ الْإِنْسَانِ اغْتِيَابُهُ، وَالنَّمُّ إِظْهَارُ الْحَدِيثِ بِالْوِشَايَةِ، وَأَصْلُ النَّمِيمَةِ الْهَمْسُ وَالْحَرَكَةُ.

قَوْلُهُ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ وَيَعِيبُ وَاحِدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَيَغْتَابُ بِعيْنٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ مُثَنَّاةٍ وَأَظُنُّهُ تَصْحِيفًا، وَالْهُمَزَةُ الَّذِي يَكْثُرُ مِنْهُ الْهَمْزُ

ص: 472

وَكَذَا اللُّمَزَةُ، وَاللَّمْزُ تَتَبُّعُ الْمَعَايِبِ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ اللَّمْزَ الْعَيْبُ فِي الْوَجْهِ وَالْهَمْزُ فِي الْقَفَا، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ: الْهَمْزُ الْكَسْرِ وَاللَّمْزُ الطَّعْنُ، فَعَلَى هَذَا هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَسْرِ الْكَسْرُ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَبِالطَّعْنِ الطَّعْنُ فِيهَا، وَحُكِيَ فِي مِيمِ يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ الضَّمُّ وَالْكَسْرُ، وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: الْهَمْزُ بِالْعَيْنِ وَالشَّدْقِ وَالْيَدِ، وَاللَّمْزُ بِاللِّسَانِ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ مُعْتَمِرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَهَمَّامٌ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ رَجُلًا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَعُثْمَانُ هُوَ ابْنُ عَفَّانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ حُذَيْفَةُ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: فَقَالَ حُذَيْفَةُ وَأَرَادَهُ أَنْ يَسْمَعَهُ.

قَوْلُهُ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ.

قَوْلُهُ: (قَتَّاتٌ) بِقَافٍ وَمُثَنَّاةٍ ثَقِيلَةٍ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُثَنَّاةٌ أُخْرَى هُوَ النَّمَّامُ، وَوَقَعَ بِلَفْظِ نَمَّامٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَتَّاتِ وَالنَّمَّامِ أَنَّ النَّمَّامَ الَّذِي يَحْضُرُ القصة فَيَنْقُلُهَا، وَالْقَتَّاتُ الَّذِي يَتَسَمَّعُ مِنْ حَيْثُ لَا يُعْلَمُ بِهِ ثُمَّ يَنْقُلُ مَا سَمِعَهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: يَنْبَغِي لِمَنْ حُمِلَتْ إِلَيْهِ نَمِيمَةٌ أَنْ لَا يُصَدِّقَ مَنْ نَمَّ لَهُ، وَلَا يَظُنُّ بِمَنْ نُمَّ عَنْهُ مَا نُقِلَ عَنْهُ، وَلَا يَبْحَثُ عَنْ تَحْقِيقِ مَا ذُكِرَ لَهُ، وَأَنْ يَنْهَاهُ وَيُقَبِّحَ لَهُ فِعْلَهُ، وَأَنْ يَبْغُضَهُ إِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ وَأَنْ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ مَا نُهِيَ النَّمَّامُ عَنْهُ فَيَنِمَّ هُوَ عَلَى النَّمَّامِ فَيَصِيرَ نَمَّامًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي النَّقْلِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ، كَمَنِ اطَّلَعَ مِنْ شَخْصٍ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُؤْذِي شَخْصًا ظُلْمًا فَحَذَّرَهُ مِنْهُ، وَكَذَا مَنْ أَخْبَرَ الْإِمَامَ أَوْ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ بِسِيرَةِ نَائِبِهِ مَثَلًا فَلَا مَنْعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: النَّمِيمَةُ فِي الْأَصْلِ نَقْلُ الْقَوْلِ إِلَى الْمَقُولِ فِيهِ، وَلَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِذَلِكَ بَلْ ضَابِطُهَا كَشْفُ مَا يُكْرَهُ كَشْفُهُ سَوَاءٌ كَرِهَهُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوِ الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ أَوْ غَيْرُهُمَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَنْقُولُ قَوْلًا أَمْ فِعْلًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَيْبًا أمْ لَا، حَتَّى لَوْ رَأَى شَخْصًا يُخْفِي مَا لَهُ فَأَفْشَى كَانَ نَمِيمَةً.

وَاخْتُلِفَ فِي الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ هَلْ هُمَا مُتَغَايِرَتَانِ أَوْ مُتَّحِدَتَانِ، وَالرَّاجِحُ التَّغَايُرُ، وَأَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا وَجْهِيًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّمِيمَةَ نَقْلُ حَالِ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ بِغَيْرِ رِضَاهُ سَوَاءٌ كَانَ بِعِلْمِهِ أَمْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَالْغِيبَةُ ذِكْرُهُ فِي غِيبَتِهِ بِمَا لَا يُرْضِيهِ، فَامْتَازَتِ النَّمِيمَةُ بِقَصْدِ الْإِفْسَادِ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْغِيبَةِ، وَامْتَازَتِ الْغِيبَةُ بِكَوْنِهَا فِي غِيبَةِ الْمَقُولِ فِيهِ، وَاشْتَرَكَتَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. وَمَنِ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي الْغِيبَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَقُولُ فِيهِ غَائِبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌51 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}

6057 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ.

قَالَ أَحْمَدُ: أَفْهَمَنِي رَجُلٌ إِسْنَادَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} قَالَ الرَّاغِبُ: الزُّورُ الْكَذِبُ، قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَائِلًا عَنِ الْحَقِّ، وَالزَّوَرُ بِفَتْحِ الزَّاي الْمَيْلُ. وَكَانَ مَوْقِعُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْمَنْقُولَ بِالنَّمِيمَةِ لَمَّا كَانَ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا؛ فَالْكَذِبُ فِيهِ أَقْبَحُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبَابِ فِي أَوَائِلِ الصِّيَامِ أَخْرَجَهُ عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِالسَّنَدِ وَالْمَتْنِ

ص: 473

وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَقَوْلُهُ هُنَا فِي آخِرِهِ: قَالَ أَحْمَدُ: أَفْهَمَنِي رَجُلٌ إِسْنَادَهُ أَحْمَدُ هُوَ ابْنُ يُونُسَ الْمَذْكُورُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ لَمْ يَتَيَقَّنْ إِسْنَادَهُ مِنْ لَفْظِ شَيْخِهِ فَأَفْهَمَهُ إِيَّاهُ رَجُلٌ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَدْ خَالَفَ أَبُو دَاوُدَ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ؛ فَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ هَذَا، لَكِنْ قَالَ فِي آخَرَه: قَالَ أَحْمَدُ: فَهِمْتُ إِسْنَادَهُ مِنَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَفْهَمَنِي الْحَدِيثَ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ أَرَاهُ ابْنَ أَخِيهِ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، وَهَذَا عَكْسُ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، فَإِنَّ مُقْتَضَى رِوَايَتِهِ أَنَّ الْمَتْنَ فَهِمَهُ أَحْمَدُ مِنْ شَيْخِهِ وَلَمْ يَفْهَمِ الْإِسْنَادَ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.

وَخَبَطَ الْكِرْمَانِيُّ هُنَا؛ فَقَالَ: قَالَ: أَفْهَمَنِي؛ أَيْ كُنْتُ نَسِيتُ هَذَا الْإِسْنَادَ فَذَكَّرَنِي رَجُلٌ إِسْنَادَهُ، وَوَجْهُ الْخَبْطِ نِسْبَتُهُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ نِسْيَانُ الْإِسْنَادِ وَأَنَّ التَّذْكِيرَ وَقَعَ لَهُ مِنَ الرَّجُلِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَهُ مِنَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ خَفِيَ عَنْهُ بَعْضُ لَفْظِهِ أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَمِنَ الْإِسْنَادِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ أَبُو دَاوُدَ فَمِنَ الْمَتْنِ، وَكَانَ الرَّجُلُ بِجَنْبِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَهُ عَمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ فَأَفْهَمَهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَصَدَّى لِلتَّحْدِيثِ بِهِ أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ وَلَمْ يَسْتَجِزْ أَنْ يُسْنِدَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِغَيْرِ بَيَانٍ. وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَعَقَدَ الْخَطِيبُ لِذَلِكَ بَابًا فِي كِتَابِ الْكِفَايَةِ، وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ: أَفْهَمَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ أَيْ إِلَى جَنْبِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ. ثُمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَأَرَادَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَالتَّنْوِينُ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْغَرَضُ مَدْحُ شَيْخِهِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَوْ رَجُلٍ آخَرَ غَيْرِهِ أَفْهَمَنِي اهـ. وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّهُ تَعْظِيمٌ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَفْهَمَهُ مِنْ مُجَرَّدِ قَوْلِ رَجُلٌ، بَلِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا نَسِيَ اسْمَهُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِرَجُلٍ أَوْ كَنَّى عَنِ اسْمِهِ عَمْدًا، وَأَمَّا مَدْحُ شَيْخِهِ فَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَقْتَضِيهِ.

قُلْتُ: وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ لَهُ أَخَوَانِ الْمُغِيرَةُ، وَطَالُوتُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ ابْنِ أَخِيهِ الْمَذْكُورِ وَلَا عَلَى تَعْيِينِ أَبِيهِ أَيِّهِمَا هُوَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنِ اغْتَابَ فِي صَوْمِهِ فَهُوَ مُفْطِرٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى خِلَافِهِ، لَكِنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ إِثْمَهَا لَا يَفِي لَهُ بِأَجْرِ صَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُفْطِرِ. قُلْتُ: وَفِي كَلَامِهِ مُنَاقَشَةٌ لِأَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ لَا ذِكْرَ لِلْغِيبَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ قَوْلُ الزُّورِ وَالْعَمَلُ بِهِ وَالْجَهْلُ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ وَالتَّأْوِيلَ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ هُوَ مَجَازٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ الصَّوْمِ.

‌52 - بَاب مَا قِيلَ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ

6058 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَجِدُ مِنْ شَرار النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ النَّمَّامِ.

قَوْلُهُ: (تَجِدُ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شِرَارٌ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْمَنَاقِبِ من طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: تَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْهُ بِلَفْظِ: تَجِدُونَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،

ص: 474

عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ بِلَفْظِ: مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَقَارِبَةٌ، وَالرِّوَايَاتُ الَّتِي فِيهَا شَرُّ النَّاسِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا مِنْ شَرِّ النَّاسِ، وَوَصْفُهُ بِكَوْنِهِ شَرَّ النَّاسِ أَوْ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مُبَالَغَةٌ فِي ذَلِكَ، وَرِوَايَةُ أَشَرِّ النَّاسِ بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ لُغَةٌ فِي شَرٍّ يُقَالُ: خَيْرٌ وَأَخْيَرُ وَشَرٌّ وَأَشَرُّ بِمَعْنًى، وَلَكِنِ الَّذِي بِالْأَلِفِ أَقَلُّ اسْتِعْمَالًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ خَاصَّةً، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا مُجَانِبَةٌ لِلْأُخْرَى ظَاهِرًا فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِهَا إِلَّا بِمَا ذُكِرَ مِنْ خِدَاعِهِ الْفَرِيقَيْنِ لِيَطَّلِعَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ فَهُوَ شَرُّهُمْ كُلُّهُمْ.

وَالْأَوْلَى حَمْلُ النَّاسِ عَلَى عُمُومِهِ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي شِهَابٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: مِنْ شَرِّ خَلْقِ اللَّهِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا كَانَ ذُو الْوَجْهَيْنِ شَرَّ النَّاسِ؛ لِأَنَّ حَالَهُ حَالُ الْمُنَافِقِ، إِذْ هُوَ مُتَمَلِّقٌ بِالْبَاطِلِ وَبِالْكَذِبِ، مُدْخِلٌ لِلْفَسَادِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ الَّذِي يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا، فَيُظْهِرُ لَهَا أَنَّهُ مِنْهَا وَمُخَالِفٌ لِضِدِّهَا، وَصَنِيعُة نِفَاقٌ وَمَحْضُ كَذِبٍ وَخِدَاعٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ. قَالَ: فَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ بِذَلِكَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَهُوَ مَحْمُودٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَذْمُومَ مَنْ يُزَيِّنُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ عَمَلَهَا وَيُقَبِّحُهُ عِنْدَ الْأُخْرَى وَيَذُمُّ كُلَّ طَائِفَةٍ عِنْدَ الْأُخْرَى، وَالْمَحْمُودُ أَنْ يَأْتِيَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ بِكَلَامٍ فِيهِ صَلَاحُ الْأُخْرَى وَيَعْتَذِرُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَنِ الْأُخْرَى، وَيَنْقُلُ إِلَيْهِ مَا أَمْكَنَهُ مِنَ الْجَمِيلِ وَيَسْتُرُ الْقَبِيحَ.

وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ: الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ هَؤُلَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ جَمَاعَةٌ وَهُوَ أَوْلَى، وَتَأَوَّلَهُ قَوْمٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ يُرَائِي بِعَمَلِهِ؛ فَيُرِي النَّاسَ خُشُوعًا وَاسْتِكَانَةً وَيُوهِمُهُمْ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ حَتَّى يُكْرِمُوهُ، وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، قَالَ: وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لَوِ اقْتَصَرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى صَدْرِهِ؛ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي مُطْلَقِ ذِي الْوَجْهَيْنِ، لَكِنْ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ تَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ؛ وَهِيَ قَوْلُهُ: يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، قُلْتُ: وَقَدِ اقْتَصَرَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى صَدْرِ الْحَدِيثِ، لَكِنْ دَلَّتْ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ اخْتَصَرَهُ، فَإِنَّهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَقَدْ ثَبَتَ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ بِتَمَامِهِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ نُمَيْرٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا هِيَ الَّتِي تَرُدُّ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ صَرِيحًا، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَنْبَغِي لِذِي الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَمَّنْ ذَكَرَهُ بِخِلَافِ حَدِيثِ الْبَابِ؛ فَإِنَّهُ فَسَّرَ مَنْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌53 - بَاب مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يُقَالُ فِيهِ

6059 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يُقَالُ فِيهِ) قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمَذْمُومَ مِنْ نَقَلَةِ الْأَخْبَارِ مَنْ يَقْصِدُ الْإِفْسَادَ، وَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ

ص: 475

النَّصِيحَةَ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ وَيَجْتَنِبُ الْأَذَى فَلَا، وَقَلَّ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَطَرِيقُ السَّلَامَةِ فِي ذَلِكَ لِمَنْ يَخْشَى عَدَمَ الْوُقُوفِ عَلَى مَا يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاحُ الْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ.

وذكر فيه حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي إِخْبَارِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ الْقَائِلِ: هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ تَغَيَّرَ مِنَ الْغَضَبِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَتَمَغَّرَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ صَارَ لَوْنُهُ لَوْنَ الْمَغَرَةِ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِالتَّرْجَمَةِ بَيَانَ جَوَازِ النَّقْلِ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ، لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ نَقْلَهُ مَا نَقَلَ، بَلْ غَضِبَ مِنْ قَوْلِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ، ثُمَّ حَلُمَ عَنْهُ وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُ ائْتِسَاءً بِمُوسَى عليه السلام، وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}

‌54 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّمَادُحِ

6060 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عنِ أَبِي مُوسَى، قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ؛ فَقَالَ: أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ.

6061 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا ذ كِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، يَقُولُهُ مِرَارًا، إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لَا مَحَالَةَ؛ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، واللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا. قَالَ وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ: وَيْلَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّمَادُحِ) هُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الْمَدْحِ أَيِ الْمُبَالَغُ، وَالتَّمَدُّحُ التَّكَلُّفُ وَالْمُمَادَحَةُ أَيْ مَدْحُ كُلٍّ مِنَ الشَّخْصَيْنِ الْآخَرَ، وَكَأَنَّهُ تَرْجَمَ بِبَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُرِيدَ حَمْلَ التَّفَاعُلِ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ فِي الشَّهَادَاتِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْإِطْنَابِ فِي الْمَدْحِ.

أورد فيه حديثين: الأول: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، قَالَ فِيهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ هُوَ الْبَزَّارُ، وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَتَقَدَّمَ الْكُلُّ فِي الشَّهَادَاتِ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ؛ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى تَخْرِيجِهِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِي مَتْنِهِ وَلَا إِسْنَادِهِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَسَمِعْتُهُ أَنَا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ فَذَكَرَهُ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا شَيْخُهُ هُوَ الْخُلْقَانِيُّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا قَافٌ، وَبُرَيْدَةُ بِمُوَحَّدَةٍ وَرَاءٍ يُكَنَّى أَبَا بُرْدَةَ مِثْلَ كُنْيَةِ جَدِّهِ وَهُوَ شَيْخُهُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ عَنْ بُرَيْدٍ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنَا بُرَيْدٌ.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِمَا صَرِيحًا، وَلَكِنْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ؛ فَذَكَرَ

ص: 476

حَدِيثًا قَالَ فِيهِ: فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَالَ لِي: مَنْ هَذَا؟ فَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَقَالَ: اسْكُتْ لَا تُسْمِعْهُ فَتُهْلِكْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فُلَانٌ وَهَذَا وَهَذَا، وَفِي أُخْرَى لَهُ: هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ صَلَاةً، أَوْ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْحَدِيثَ. وَالَّذِي أَثْنَى عَلَيْهِ مِحْجَنُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ ذُو النِّجَادَيْنِ الْمُزَنِيُّ، فَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي الصَّحَابَةِ مَا يُقَرِّبُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَيُطْرِيهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْإِطْرَاءِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدْحِ، وَسَأَذْكُرُ مَا وَرَدَ فِي بَيَانِ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (فِي الْمِدْحَةِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ مَضَتْ فِي الشَّهَادَاتِ فِي الْمَدْحِ بِفَتْحِ الْمِيمِ بِلَا هَاءٍ، وَفِي أُخْرَى فِي مَدْحِهِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَزِيَادَةِ الضَّمِيرِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ أَهْلَكْتُمْ - أَوْ قَطَعْتُمْ - ظَهْرَ الرَّجُلِ) كَذَا فِيهِ بِالشَّكِّ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ: قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ. وَهُمَا بِمَعْنًى، وَالْمُرَادُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْهَلَاكُ لِأَنَّ مَنْ يُقْطَعُ عُنُقُهُ يُقْتَلُ وَمَنْ يُقْطَعُ ظَهْرُهُ يَهْلِكُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدٍ) هُوَ الْحَذَّاءُ، وَصَرَّحَ بِهِ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (أنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا)، وَفِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْهُ فِي كَذَا وَكَذَا لَعَلَّهُ يَعْنِي الصَّلَاةَ لِمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (وَيْحَكَ) هِيَ كَلِمَةُ رَحْمَةٍ وَتَوَجُّعٍ، وَوَيْلٌ كَلِمَةُ عَذَابٍ، وَقَدْ تَأْتِي مَوْضِعَ وَيْحٍ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.

قَوْلُهُ: (قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ يَقُولُهُ مِرَارًا) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ الَّتِي مَضَتْ فِي الشَّهَادَاتِ: وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، مِرَارًا. وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ الَّتِي سَأُنَبِّهُ عَلَيْهَا بَعْدُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا.

قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ.

قَوْلُهُ: (لَا مَحَالَةَ) أَيْ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ وَهِيَ بِمَعْنَى لَا بُدَّ وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ، وَيُحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَوْلِ أَيِ الْقُوَّةُ وَالْحَرَكَةُ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يُرَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يُظَنُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ: إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ.

قَوْلُهُ: (وَاللَّهُ حَسِيبُهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيه وَبَعْدَ التَّحْتَانِيَّةِ السَّاكِنَةِ مُوَحَّدَةٌ أَيْ كَافِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُنَا فَعِيلٌ مِنَ الْحِسَابِ أَيْ مُحَاسَبَةٌ عَلَى عَمَلِهِ الَّذِي يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ مِنْ تَتِمَّةِ الْمَقُولِ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ فَلْيَقُلْ، وَالْمَعْنَى فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ أَنَّ فُلَانًا كَذَا إِنْ كَانَ يُحْسَبُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ سِرَّهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجَازِيهِ، وَلَا يَقُلْ أَتَيَقَّنُ وَلَا أَتَحَقَّقُ جَازِمًا بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يُزَكَّى عَلَى اللَّهِ أَحَدٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ بِفَتْحِ الْكَافِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَلَا يُزَكِّي بِكَسْرِ الْكَافِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا الْمَقُولُ لَهُ فَلْيَقُلْ، وَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ وَلَا أُزَكِّي بِهَمْزَةٍ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ لَا أَقْطَعُ عَلَى عَاقِبَةِ أَحَدٍ وَلَا عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مُغَيَّبًا عَنْهُ، وَجِيءَ بِذَلِكَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ لَا تُزَكُّوا أَحَدًا عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِكُمْ مِنْكُمْ.

قَوْلُهُ: (قَالَ وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ) يَعْنِي بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدِّمِ (وَيْلَكَ) أَيْ وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ وَيْلَكَ بَدَلَ وَيْحَكَ، وَسَتَأْتِي رِوَايَةُ وُهَيْبٍ مَوْصُولَةً فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ وَيْلَكَ، وَيَأْتِي شَرْحُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ هُنَاكَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَاصِلُ النَّهْيِ أَنَّ مَنْ أَفْرَطَ فِي مَدْحِ آخَرَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى الْمَمْدُوحِ الْعُجْبَ لِظَنِّهِ أَنَّهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، فَرُبَّمَا ضَيَّعَ الْعَمَلَ وَالِازْدِيَادَ مِنَ الْخَيْرِ اتِّكَالًا عَلَى مَا وُصِفَ بِهِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: احْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يَمْدَحُ النَّاسَ فِي وُجُوهِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَقَالَ عُمَرُ: الْمَدْحُ هُوَ الذَّبْحُ. قَالَ: وَأَمَّا مَنْ مُدِحَ بِمَا فِيهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، فَقَدْ مُدِحَ صلى الله عليه وسلم فِي الشِّعْرِ وَالْخُطَبِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَلَمْ يَحْثُ فِي وَجْهِ مَادِحِهِ تُرَابًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

ص: 477

فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا هَذَا وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَاسْتَعْمَلَهُ الْمِقْدَادُ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَالثَّانِي الْخَيْبَةُ وَالْحِرْمَانُ كَقَوْلِهِمْ لِمَنْ رَجَعَ خَائِبًا رَجَعَ وَكَفُّهُ مَمْلُوءَةٌ تُرَابًا. وَالثَّالِثُ قُالُوا لَهُ بِفِيكَ التُّرَابُ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ لِمَنْ تَرَكهُ قَوْلَهُ. وَالرَّابِعُ أَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَمْدُوحِ كَأَنْ يَأْخُذَ تُرَابًا فَيَبْذُرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَذَكَّرُ بِذَلِكَ مَصِيرَهُ إِلَيْهِ فَلَا يَطْغَى بِالْمَدْحِ الَّذِي سَمِعَهُ.

وَالْخَامِسُ الْمُرَادُ بِحَثْوِ التُّرَابِ فِي وَجْهِ الْمَادِحِ إِعْطَاؤُهُ مَا طُلِبَ لِأَنَّ كُلَّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابٌ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْبَيْضَاوِيُّ وَقَالَ: شَبَّهَ الْإِعْطَاءَ بِالْحَثْيِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْشِيحِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْلِيلِ وَالِاسْتِهَانَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ دَفْعُهُ عَنْهُ وَقَطْعُ لِسَانِهِ عَنْ عِرْضِهِ بِمَا يُرْضِيهِ مِنَ الرَّضْخِ، وَالدَّافِعُ قَدْ يَدْفَعُ خَصْمَهُ بِحَثْيِ التُّرَابِ عَلَى وَجْهِهِ اسْتِهَانَةً بِهِ.

وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ فَوَرَدَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: إِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحُ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ، وَإِلَى لَفْظِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ رَمَزَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ: وَإِيَّاكُمْ وَالْمَدْحَ فَإِنَّهُ مِنَ الذَّبْحِ، وَأَمَّا مَا مُدِحَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَرْشَدَ مَادِحِيهِ إِلَى مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ ضَبَطَ الْعُلَمَاءُ الْمُبَالَغَةَ الْجَائِزَةَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ الْمَمْنُوعَةِ بِأَنَّ الْجَائِزَةَ يَصْحَبُهَا شَرْطٌ أَوْ تَقْرِيبٌ، وَالْمَمْنُوعَةُ بِخِلَافِهَا، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ الْمَعْصُومِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَيْدٍ كَالْأَلْفَاظِ الَّتِي وَصَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا بَعْضَ الصَّحَابَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ لِابْنِ عَمْرٍو: نِعْمَ الْعَبْدُ عَبْدُ اللَّهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: آفَةُ الْمَدْحِ فِي الْمَادِحِ أَنَّهُ قَدْ يَكْذِبُ وَقَدْ يُرَائِي الْمَمْدُوحَ بِمَدْحِهِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ ظَالِمًا، فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: إِذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ غَضِبَ الرَّبُّ، أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الصَّمْتِ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ يَقُولُ مَا لَا يَتَحَقَّقُهُ مِمَّا لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ إِنَّهُ وَرِعٌ وَمُتَّقٍ وَزَاهِدٌ، بِخِلَافِ

مَا لَوْ قَالَ: رَأَيْتُهُ يُصَلِّي أَوْ يَحُجَّ أَوْ يُزَكِّي فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ تَبْقَى الْآفَةُ عَلَى الْمَمْدُوحِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ الْمَدْحُ كِبْرًا أَوْ إِعْجَابًا أَوْ يَكِلُهُ عَلَى مَا شَهَرَهُ بِهِ الْمَادِحُ فَيَفْتُرُ عَنِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَسْتَمِرُّ فِي الْعَمَلِ غَالِبًا هُوَ الَّذِي يَعُدُّ نَفْسَهُ مُقَصِّرًا، فَإِنْ سَلِمَ الْمَدْحُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَرُبَّمَا كَانَ مُسْتَحَبًّا، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ لَمْ يَضُرَّهُ الْمَدْحُ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا مُدِحَ الرَّجُلُ فِي وَجْهِهِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا تُؤَاخِذنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ.

‌55 - بَاب مَنْ أَثْنَى عَلَى أَخِيهِ بِمَا يَعْلَمُ

وَقَالَ سَعْدٌ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.

6062 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ ذَكَرَ فِي الْإِزَارِ مَا ذَكَرَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ إِزَارِي يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ، قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَثْنَى عَلَى أَخِيهِ بِمَا يَعْلَمُ) أَيْ فَهُوَ جَائِزٌ وَمُسْتَثْنًى مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالضَّابِطُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَدْحِ

ص: 478

مُجَازَفَةٌ، وَيُؤْمَنُ عَلَى الْمَمْدُوحِ الْإِعْجَابُ وَالْفِتْنَةُ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعْدٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مَوْصُولًا فِي مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِ بن سلام مِنْ كِتَابِ الْمَنَاقِبِ.

ثم ذَكَرَ فيه حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مَوْصُولًا فِي قِصَّةِ جَرِّ الْإِزَارِ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ إِزَارِي يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ، قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَفِي لَفْظِ: إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ خُيَلَاءَ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَدْحِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ صِدْقًا مَحْضًا وَكَانَ الْمَمْدُوحُ يُؤْمَنُ مَعَهُ الْإِعْجَابُ وَالْكِبْرُ مُدِحَ بِهِ، وَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي الْمَنْعِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ وَوُصِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا وُصِفَ بِهِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ؛ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ، وَقَوْلِهِ لِلْأَنْصَارِيِّ: عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صُنْعِكُمَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ.

‌56 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

وَقَوْلِهِ {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقوله {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} وَتَرْكِ إِثَارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ

6063 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَا وَكَذَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِي، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَالَ لِي ذَاتَ يَوْمٍ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ تعالى أَفْتَانِي فِي أَمْرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيَّ وَالْآخَرُ عِنْدَ رَأْسِي؛ فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، يَعْنِي مَسْحُورًا، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ. قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطةٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ؛ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ. فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأُخْرِجَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلَّا. . . تَعْنِي تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي، وَأَمَّا أَنَا فَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، قَالَتْ: وَلَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَالنَّسَفِيِّ، وَسَاقَ الْبَاقُونَ إِلَى تَذَكَّرُونَ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: قَالَ شُتَيْرُ بْنُ شَكَلٍ، لِمَسْرُوقٍ: حَدِّثْ يَا أَبَا عَائِشَةَ وَأُصَدِّقُكَ. قَالَ: هَلْ سَمِعْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعَ لِحَلَالٍ وَحَرَامٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ؛ أَيْ إِنَّ إِثْمَ الْبَغْيِ وَعُقُوبَةَ الْبَغْيِ عَلَى الْبَاغِي إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} كَذَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ عَلَى وَفْقِ التِّلَاوَةِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْبَاقِينَ: وَمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ سَبْقُ قَلَمٍ إِمَّا مِنَ الْمُصَنِّفِ وَإِمَّا مِمَّنْ بَعْدَهُ، كَمَا أَنَّ الْمُطَابِقَ لِلتِّلَاوَةِ إِمَّا مِنَ الْمُصَنِّفِ وَإِمَّا مِنْ إِصْلَاحِ مَنْ بَعْدَهُ، وَإِذَا لَمْ تَتَّفِقِ الرِّوَايَاتُ عَلَى شَيْءٍ فَمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الْوَهْمَ مِنَ الْمُصَنِّفِ فَقَدْ تَحَامَلَ عَلَيْهِ. قَالَ

ص: 479

الرَّاغِبُ: الْبَغْيُ مُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ فِي الشَّيْءِ. فَمِنْهُ مَا يُحْمَدُ وَمِنْهُ مَا يُذَمُّ، فَالْمَحْمُودُ مُجَاوَزَةُ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهِ وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهُ إِلَى الْإِحْسَانِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْفَرْضِ بِالتَّطَوُّعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَالْمَذْمُومُ مُجَاوَزَةُ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ وَالْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَالْمُبَاحِ إِلَى الشُّبْهَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ الْبَغْيُ عَلَى الْمَذْمُومِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وَقَالَ - تَعَالَى -: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ - تَعَالَى -: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} وَإِذَا أُطْلِقَ الْبَغْيُ وَأُرِيدَ بِهِ الْمَحْمُودُ يُزَادُ فِيهِ غَالِبًا التَّاءُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} وَقَالَ غَيْرُهُ: الْبَغْيُ الِاسْتِعْلَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْهُ بَغَى الْجُرْحُ إِذَا فَسَدَ.

قَوْلُهُ: (وَتَرْكُ إِثَارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ) ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَتَرْجَمَةِ الْبَابِ مَعَ الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا نَهَى عَنِ الْبَغْيِ، وَأَعْلَمَ أَنَّ ضَرَرَ الْبَغْيِ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْبَاغِيِ، وَضَمِنَ النَّصْرَ لِمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ كَانَ حَقُّ مَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ بِأَنْ يَعْفُوَ عَمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ، وَقَدِ امْتَثَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُعَاقِبِ الَّذِي كَادَهُ بِالسِّحْرِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُطَابَقَةُ التَّرْجَمَةِ لِلْآيَاتِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِخْرَاجَ السِّحْرِ خَشْيَةَ أَنْ يَثُورَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرٌّ؛ فَسَلَكَ مَسْلَكَ الْعَدْلِ فِي أَنْ لَا يَحْصُلَ لِمَنْ لَمْ يَتَعَاطَ السِّحْرَ مَنْ أَثَرِ الضَّرَرِ النَّاشِئِ عَنِ السِّحْرِ شَرٌّ، وَسَلَكَ مَسْلَكَ الْإِحْسَانِ فِي تَرْكِ عُقُوبَةِ الْجَانِي كَمَا سَبَقَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ دَلَالَةَ الِاقْتِرَانِ ضَعِيفَةٌ، لِجَمْعِهِ - تَعَالَى - بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَالْعَدْلُ وَاجِبُ وَالْإِحْسَانُ مَنْدُوبٌ. قُلْتُ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِهِمَا فِي الْآيَةِ؛ فَقِيلَ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ الْفَرَائِضُ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ الْإِخْلَاصُ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ خَلْعُ الْأَنْدَادِ، وَالْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ.

وَقِيلَ: الْعَدْلُ الْفَرَائِضُ، وَالْإِحْسَانُ النَّافِلَةُ وَقِيلَ: الْعَدْلُ الْعِبَادَةُ، وَالْإِحْسَانُ الْخُشُوعُ فِيهَا. وَقِيلَ الْعَدْلُ الْإِنْصَافُ، وَالْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ امْتِثَالُ الْمَأْمُورَاتِ، وَالْإِحْسَانُ اجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ بَذْلُ الْحَقِّ، وَالْإِحْسَانُ تَرْكُ الظُّلْمِ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ اسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْإِحْسَانُ فَضْلُ الْعَلَانِيَةِ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ الْبَذْلُ، وَالْإِحْسَانُ الْعَفْوُ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْإِحْسَانُ فِي الْأَقْوَالِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَقَرَّبِهَا لِكَلَامِهِ الْخَامِسَ وَالسَّادِسَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: الْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ، وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ بِمَزِيدِ الطَّاعَاتِ وَتَوَقِّي الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِالْإِنْصَافِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَدْلُ ضَرْبَانِ مُطْلَقٌ يَقْتَضِي الْعَقْلُ حُسْنَهُ وَلَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ مَنْسُوخًا وَلَا يُوصَفُ بِالِاعْتِدَاءِ بِوَجْهٍ، نَحْوَ أَنْ تُحْسِنَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ وَتَكُفَّ الْأَذَى عَمَّنْ كَفَّ أَذَاهُ عَنْكَ. وَعَدْلٌ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَهُ النَّسْخُ وَيُوصَفُ بِالِاعْتِدَاءِ مُقَابَلَةً كَالْقِصَاصِ وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ وَأَخْذِ مَالِ الْمُرْتَدِّ، وَلِذَا قَالَ - تَعَالَى -:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الْآيَةَ، وَهَذَا النَّحْوُ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمُكَافَأَةِ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَالْإِحْسَانَ مُقَابَلَةُ الْخَيْرِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ وَالشَّرِّ بِالتَّرْكِ أَوْ بِأَقَلِّ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (مَطْبُوبٌ، يَعْنِي مَسْحُورًا) هَذَا التَّفْسِيرُ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ عِنْدَ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَكَذَا قَوْلُهُ فَهَلَّا تَعْنِي تَنَشَّرْتَ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّشْرَةِ أَوْ مِنْ نَشْرِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى إِظْهَارِهِ. وَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهَا فَأُخْرِجَ وَبَيْنَ

ص: 480

قَوْلِهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هَلَّا اسْتَخْرَجْتَهُ، وَأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ الْإِخْرَاجَ الْوَاقِعَ كَانَ لِأَصْلِ السِّحْرِ وَالِاسْتِخْرَاجَ الْمَنْفِيَّ كَانَ لِأَجْزَاءِ السِّحْرِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ حَلِيفٌ لِيَهُودَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا لِلْيَهُودِ بِزِيَادَةِ لَامٍ.

‌57 - بَاب مَا يُنْهَى عَنْ التَّحَاسُدِ وَالتَّدَابُرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}

6064 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا ولا تدابروا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.

6065 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

[الحديث 6065 - طرفه في: 6076]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُنْهَى عَنِ التَّحَاسُدِ وَالتَّدَابُرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ مِنْ بَدَلَ عَنْ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} ؛ أَشَارَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّحَاسُدِ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى وُقُوعِهِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، بَلِ الْحَسَدُ مَذْمُومٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَوْ وَقَعَ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ذُمَّ مَعَ وُقُوعِهِ مَعَ الْمُكَافَأَةِ فَهُوَ مَذْمُومٌ مَعَ الْإِفْرَادِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وذكر في الباب حديثين: أحدهما، قَوْلُهُ:(بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الْأَحْكَامُ غَالِبًا، بَلِ الْمُرَادُ تَرْكَ تَحْقِيقِ الظَّنِّ الَّذِي يَضُرُّ بِالْمَظْنُونِ بِهِ، وَكَذَا مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَائِلَ الظُّنُونِ إِنَّمَا هِيَ خَوَاطِرُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا، وَمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: تَجَاوَزَ اللَّهُ لِلْأُمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا التُّهْمَةُ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا كَمَنْ يَتَّهِمُ رَجُلًا بِالْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِيهَا، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَلَا تَجَسَّسُوا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّخْصَ يَقَعُ لَهُ خَاطِرُ التُّهْمَةِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فَيَتَجَسَّسُ وَيَبْحَثُ وَيَسْتَمِعُ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ قَوْلَهُ - تَعَالَى -:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ؛ فَدَلَّ سِيَاقُ الْآيَةِ عَلَى الْأَمْرِ بِصَوْنِ عِرْضِ الْمُسْلِمِ غَايَةَ الصِّيَانَةِ لِتَقَدُّمِ النَّهْيِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهِ بِالظَّنِّ، فَإِنْ قَالَ الظَّانُّ أَبْحَثُ لِأَتَحَقَّقَ، قِيلَ لَهُ {وَلا تَجَسَّسُوا}؛ فَإِنْ قَالَ تَحَقَّقْتُ مِنْ غَيْرِ تَجَسُّسٍ قِيلَ لَهُ:{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وَقَالَ عِيَاضٌ: اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ قَوْمٌ عَلَى مَنْعِ الْعَمَلِ فِي الْأَحْكَامِ بِالِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، وَحَمَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ظَنٍّ مُجَرَّدٍ عَنِ الدَّلِيلِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ وَلَا تَحْقِيقِ نَظَرٍ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ بِالظَّنِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ أَصْلًا، بَلِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِذَلِكَ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ضَعْفَهُ ظَاهِرٌ وَأَمَّا بُطْلَانُهُ فَلَا، فَإِنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ حُمِلَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَدْ قَرَّبَهُ القرطبي فِي الْمُفْهِمِ، وَقَالَ: الظَّنُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي هُوَ تَغْلِيبُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ لَيْسَ مُرَادًا مِنَ الْحَدِيثِ وَلَا مِنَ الْآيَةِ. فَلَا يُلْتَفَتُ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى إِنْكَارِ الظَّنِّ الشَّرْعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ بِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فِي الْبَيْعِ فَأَبْطَلَ بَيْعَ الْعِينَةِ، وَوَجْهُ

ص: 481

الِاسْتِدْلَالِ النَّهْيُ عَنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ شَرًّا، فَإِذَا بَاعَ شَيْئًا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ بِهِ وَلَمْ يَبْطُلْ بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ سَلَكَ بِهِ مَسْلَكَ الْحِيلَةِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

وَأَمَّا وَصْفُ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، مَعَ أَنَّ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى ظَنٍّ أَصْلًا أَشَدُّ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يَسْتَنِدُ إِلَى الظَّنِّ، فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الظَّنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى شَيْءٍ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ أَصْلًا وَيُجْزَمُ بِهِ، فَيَكُونُ الْجَازِمُ بِهِ كَاذِبًا، وَإِنَّمَا صَارَ أَشَدَّ مِنَ الْكَاذِبِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ فِي أَصْلِهِ مُسْتَقْبَحٌ مُسْتَغْنًى عَنْ ذَمِّهِ، بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّ صَاحِبَهُ يزَعْمِهِ مُسْتَنِدٌ إِلَى شَيْءٍ، فَوُصِفَ بِكَوْنِهِ أَشَدَّ الْكَذِبِ مُبَالَغَةً فِي ذَمِّهِ وَالتَّنْفِيرِ مِنْهُ، وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ الِاغْتِرَارَ بِهِ أَكْثَرُ مِنَ الْكَذِبِ لِخَفَائِهِ غَالِبًا وَوُضُوحِ الْكَذِبِ الْمَحْضِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) قَدِ اسْتُشْكِلَت تَسْمِيَةُ الظَّنِّ حَدِيثًا، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يَنْشَأُ عَنِ الظَّنِّ؛ فَوُصِفَ الظَّنُّ بِهِ مَجَازًا.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا) إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ بِالْجِيمِ وَالْأُخْرَى بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا حَذْفُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا، وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الْمَنَاهِي الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَالْأَصْلُ تَتَحَسَّسُوا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَبْحَثُوا عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ وَلَا تَتَّبِعُوهَا، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - حَاكِيًا عَنْ يَعْقُوبَ عليه السلام:{اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي بِالْمُهْمَلَةِ مِنَ الْحَاسَّةِ إِحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَبِالْجِيمِ مِنَ الْجَسِّ بِمَعْنَى اخْتِبَارِ الشَّيْءِ بِالْيَدِ وَهِيَ إِحْدَى الْحَوَاسِّ، فَتَكُونُ الَّتِي بِالْحَاءِ أَعَمَّ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: ذَكَرَ الثَّانِي لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِمْ بُعْدًا وَسُخْطًا، وَقِيلَ بِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنْ عَوْرَاتِهِمْ وَبِالْحَاءِ اسْتِمَاعُ حَدِيثِ الْقَوْمِ، وَهَذَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَحَدِ صِغَارِ التَّابِعِينَ.

وَقِيلَ: وبِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ، وَبِالْحَاءِ الْبَحْثُ عَمَّا يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقُرْطُبِيُّ، وَقِيلَ بِالْجِيمِ تَتَبُّعُ الشَّخْصِ لِأَجَلِ غَيْرِهِ، وَبِالْحَاءِ تَتَبُّعُهُ لِنَفْسِهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ثَعْلَبٍ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّجَسُّسِ مَا لَوْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى إِنْقَاذِ نَفْسٍ مِنَ الْهَلَاكِ؛ مَثَلًا كَأَنْ يُخْبِرَ ثِقَةً بِأَنَّ فُلَانًا خَلَا بِشَخْصٍ لِيَقْتُلَهُ ظُلْمًا، أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيُشْرَعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّجَسُّسُ وَالْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ اسْتِدْرَاكِهِ، نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْمَاوَرْدِيِّ وَاسْتَجَادَهُ، وَأَنَّ كَلَامَهُ: لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ أَهْلِهَا بِهَا إِلَّا هَذِهِ الصُّورَةَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَحَاسَدُوا) الْحَسَدُ تَمَنِّي الشَّخْصِ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ مُسْتَحِقٍّ لَهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ أَوْ لَا، فَإِنْ سَعَى كَانَ بَاغِيًا، وَإِنْ لَمْ يَسْعَ فِي ذَلِكَ وَلَا أَظْهَرَهُ وَلَا تَسَبَّبَ فِي تَأْكِيدِ أَسْبَابِ الْكَرَاهَةِ الَّتِي نُهِيَ الْمُسْلِمُ عَنْهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَجْزُ بِحَيْثُ لَوْ تَمَكَّنَ لَفَعَلَ فَهَذَا مَأْزُورٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ التَّقْوَى فَقَدْ يُعْذَرُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ الْخَوَاطِرِ النَّفْسَانِيَّةِ؛ فَيَكْفِيهِ فِي مُجَاهَدَتِهَا أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهَا وَلَا يَعْزِمَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ رَفَعَهُ: ثَلَاثٌ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ: الطِّيَرَةُ وَالظَّنُّ وَالْحَسَدُ. قِيلَ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا تَطَيَّرْتَ فَلَا تَرْجِعْ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: مَا مِنْ آد مِيٍّ إِلَّا وَفِيهِ الْحَسَدُ؛ فَمَنْ لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ إِلَى الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ لَمْ يَتْبَعْهُ مِنْهُ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَدَابَرُوا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا تَتَهَاجَرُوا فَيَهْجُرُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، مَأْخُوذٌ مِنْ تَوْلِيَةِ الرَّجُلِ الْآخَرِ دُبُرَهُ إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ حِينَ يَرَاهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ لِلْإِعْرَاضِ مُدَابَرَةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ أَبْغَضَ أَعْرَضَ وَمَنْ أَعْرَضَ وَلَّى دُبُرَهُ، وَالْمُحِبُّ بِالْعَكْسِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَسْتَأْثِرُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْآخَرِ، وَقِيلَ لِلْمُسْتَأْثِرِ مُسْتَدْبِرٌ لِأَنَّهُ يُوَلِّي دُبُرَهُ حِينَ يَسْتَأْثِرُ بِشَيْءٍ دُونَ الْآخَرِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مَعْنَى

ص: 482

التَّدَابُرِ الْمُعَادَاةُ، يَقُولُ: دَابَرْتُهُ أَيْ عَادَيْتُهُ. وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُجَادِلُوا وَلَكِنْ تَعَاوَنُوا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ فَسَّرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بِأَخَصَّ مِنْهُ؛ فَقَالَ: إِذْ سَاقَ حَدِيثَ الْبَابِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ: وَلَا أَحْسِبُ التَّدَابُرَ إِلَّا الْإِعْرَاضَ عَنِ السَّلَامِ، يُدْبِرُ عَنْهُ بِوَجْهِهِ. وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ فَإِنَّهُ يُفْهِمُ أَنَّ صُدُورَ السَّلَامِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْإِعْرَاضَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي بَابِ الْهِجْرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ فِي زِيَادَاتِ كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: التَّدَابُرُ التَّصَارُمُ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَبَاغَضُوا) أَيْ لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ، لِأَنَّ الْبُغْضَ لَا يُكْتَسَبُ ابْتِدَاءً. وَقِيلَ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّبَاغُضِ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ لأَعَمُّ مِنَ الْأَهْوَاءِ، لِأَنَّ تَعَاطِي الْأَهْوَاءِ ضَرْبٌ مِنْ ذَلِكَ، وَحَقِيقَةُ التَّبَاغُضِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَدْ يُطْلَقُ إِذَا كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ مَا كَانَ فِي غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى -، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ فِيهِ وَيُثَابُ فَاعِلُهُ لِتَعْظِيمِ حَقِّ اللَّهِ وَلَوْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ السَّلَامَةِ، كَمَنْ يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَى اعْتِقَادٍ يُنَافِي الْآخَرَ فَيَبْغُضُهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَعْذُورٌ عِنْدَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) بِلَفْظِ الْمُنَادَى الْمُضَافِ، زَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ، وَمِثْلَهُ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُشْبِهُ التَّعْلِيلَ لِمَا تَقَدَّمَ، كَأَنَّهُ قَالَ إِذَا تَرَكْتُمْ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ كُنْتُمْ إِخْوَانًا، وَمَفْهُومُهُ إِذَا لَمْ تَتْرُكُوهَا تَصِيرُوا أَعْدَاءً، وَمَعْنَى كُونُوا إِخْوَانًا اكْتَسِبُوا مَا تَصِيرُونَ بِهِ إِخْوَانًا مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَقَوْلُهُ عِبَادُ اللَّهِ؛ أي يا عباد الله بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ فَحَقُّكُمْ أَنْ تَتَوَاخُوا بِذَلِكَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَعْنَى كُونُوا كَإِخْوَانِ النَّسَبِ فِي الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الزَّائِدَةِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَيْ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا؛ فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ لِمَعَانِي الْأُخُوَّةِ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: لَا أَقُولُ إِلَّا مَا أَقُولُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ الْإِشَارَةَ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ؛ خَبَرٌ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تَضَمَّنَ الْحَدِيثُ تَحْرِيمَ بُغْضِ الْمُسْلِمِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَقَطِيعَتِهِ بَعْدَ صُحْبَتِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ شَرْعِيٍّ، وَالْحَسَدِ لَهُ عَلَى مَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُعَامِلَهُ مُعَامَلَةَ الْأَخِ النَّسِيبِ، وَأَنْ لَا

يُنَقِّبَ عَنْ مَعَايِبِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، وَقَدْ يَشْتَرِكُ الْمَيِّتُ مَعَ الْحَيِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَلَا تَنَافَسُوا وَكَذَا وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، وَبَيَّنَ الِاخْتِلَافَ فِيهَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِهِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهَا. وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ: وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَأَفْرَدَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَمِثْلُهُ في رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ. وَقَدْ أَفْرَدَهَا أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ فِيهِ زِيَادَةٌ سَأَذْكُرُهَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

وَهَذِهِ الطَّرِيقُ مِنْ رِوَايَةِ مَوْلَى عَامِرٍ

ص: 483

أَجْمَعُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ أَحْيَانًا مُخْتَصَرًا وَطَوْرًا بِتَمَامِهِ، وَقَدْ فَرَّقَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَحَادِيثَ، وَمِمَّنْ وَقَعَ عِنْدَهُ بَعْضَهُ مُفَرَّقًا ابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ كِتَابِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ اشْتَمَلَ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْآدَابِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا.

الحديث الثاني: حَدِيثُ أَنَسٍ:

قَوْلُهُ: (لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا) هَكَذَا اقْتَصَرَ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَزَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ فِيهِ: وَلَا تَنَافَسُوا، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ، وَالْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ، قَالَ: وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: خَالَفَ سَعِيدٌ جَمِيعَ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَهُمْ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، أَيِ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِي هَذَا، فَأَدْرَجَهَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَكَذَا قَالَ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهَا عَنْ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ غَيْرَ سَعِيدٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ التَّهَاجُرِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى زِيَادَةٍ وَقَعَتْ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

‌58 - بَاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا}

6066 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا} كَذَا لِلْجَمِيعِ، إِلَّا أَنَّ لَفْظَ بَابٍ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.

وأورد فيه حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ فَقَطْ، وَزَعَمَ ابْنُ بَطَّالٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ التِّينِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ - أَيِ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ -، ثُمَّ حَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّ مُطَابَقَتَهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْبُغْضَ وَالْحَسَدَ يَنْشَآنِ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَذَلِكَ أَنَّهُمَا يَتَأَوَّلَانِ أَفْعَالَ مَنْ يُبْغِضَانِهِ وَيَحْسُدَانِهِ عَلَى أَسْوَأِ التَّأْوِيلِ اهـ. وَالَّذِي وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي النُّسَخِ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا كُلِّهَا أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ.

قَوْلُهُ فِيهِ (وَلَا تَنَاجَشُوا) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخَارِيِّ بِالْجِيمِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، مِنَ النَّجْشِ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا لِيَقَعَ غَيْرُهُ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَحُكْمُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَالَّذِي فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ وَلَا تَنَافَسُوا بِالْفَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، وَمَعْنٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، وَرَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ، وَالْقَعْنَبِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْوَرَكَانِيِّ، وَأَبِي مُصْعَبٍ، وَأَبِي حُذَافَةَ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَكِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ وَلَا تَنَاجَشُوا كَمَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمَنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ كَذَلِكَ فَاخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ على أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهَا عَلَى مَالِكٍ، إِلَّا أَنِّي مَا وَجَدْتُ مَا يُعَضِّدُ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ هَذِهِ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْجَمِيعُ عَلَى

ص: 484

شَيْءٍ وَيَنْفَرِدَ وَاحِدٌ بِخِلَافِهِ وَيَكُونَ مَحْفُوظًا، وَلَمْ أَرَ الْحَدِيثَ فِي نُسْخَتِي مِنْ مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَصْلًا، فَلَا أَدْرِي سَقَطَ عَلَيْهِ أَوْ سَقَطَ مِنَ النُّسْخَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو

نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ رِوَايَةِ الْوَرَكَانِيِّ، عَنْ مَالِكٍ وَوَقَعَ فِيهِ عِنْدَهُ وَلَا تَنَافَسُوا كَالْجَمَاعَةِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَمَا أَدْرِي هَلْ وَقَعَ فِي نُسْخَتِهِ عَلَى وِفَاقِ الْجَمَاعَةِ أَوْ عَلَى مَا عِنْدَنَا وَلَمْ يَعْتَنِ بِبَيَانِ ذَلِكَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى إِنَّ الْحُمَيْدِيَّ سَاقَهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَحْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ قَدْ مَضَتْ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ فِيهَا هَذِهِ اللَّفْظَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا وَلَكِنَّ فِيهَا بَعْدَ قَوْلِهِ إِخْوَانًا وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ قَالَ: وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ فَسَاقَهُ بِهَذَا السَّنَدِ وَالْمَتْنِ بِتَمَامِهِ دُونَ اللَّفْظَةِ الَّتِي أَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا، وَقَالَ: هَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَأَغْفَلَهُ أَبُو مَسْعُودٍ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ فِيهِ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَمَنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ سَوَاءٌ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ طَاوُسٍ تَأْتِي فِي الْفَرَائِضِ.

قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فَسَاقَهُ، وَفِيهِ وَلَا تَنَافَسُوا، قَالَ: فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ لَا مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ وَكَأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحُمَيْدِيَّ مَعَ تَتَبُّعِهِ وَاعْتِنَائِهِ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَى مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَكَذَا أَغْفَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ التَّنْبِيهَ عَلَيْهَا، وَهِيَ عَلَى شَرْطِ فِي التَّمْهِيدِ وَكَذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَلَوْ تَفَطَّنَ لَهَا لَسَاقَهَا فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ كَعَادَتِهِ فِي أَنْظَارِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا فَلَعَلَّهَا مِنْ تَغْيِيرِ بَعْضِ الرُّوَاةِ بَعْدَ الْبُخَارِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌59 - بَاب مَا يجوز مِنْ الظَّنِّ

6067 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا، قَالَ اللَّيْثُ: كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ.

[الحديث 6067 - طرفه في: 6068]

6068 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بِهَذَا، وَقَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ دِينَنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الظَّنِّ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَكَذَا فِي ابْنِ بَطَّالٍ، وَفِي رِوَايَةِ للْقَابِسِيِّ، وَالْجُرْجَانِيِّ مَا يُكْرَهُ لِلْبَاقِينَ مَا يَكُونُ وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِسِيَاقِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّيْثُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا كَانَا مُنَافِقَيْنِ.

قَوْلُهُ: (يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَعْرِفَانِ دِينَنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: تَأْوِيلُ اللَّيْثِ بَعِيدٌ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِفُ جَمِيعَ الْمُنَافِقِينَ، كَذَا قَالَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَدِيثُ لَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ لِأَنَّ فِي التَّرْجَمَةِ إِثْبَاتُ الظَّنِّ وَفِي الْحَدِيثِ نَفْيُ الظَّنِّ، وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّفْيَ فِي الْحَدِيثِ لِظَنِّ النَّفْيِ لَا لِنَفْيِ الظَّنِّ فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّرْجَمَةِ، وَحَاصِلُ التَّرْجَمَةِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الَّذِي

ص: 485

وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ مِنَ الظَّنِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ التَّحْذِيرِ مِنْ مِثْلِ مَنْ كَانَ حَالُهُ كَحَالِ الرَّجُلَيْنِ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الظَّنِّ السُّوءِ بِالْمُسْلِمِ السَّالِمِ فِي دِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّا كُنَّا إِذَا فَقَدْنَا الرَّجُلَ فِي عِشَاءِ الْآخِرَةِ أَسَأْنَا بِهِ الظَّنَّ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَغِيبُ إِلَّا لِأَمْرٍ سَيِّئٍ إِمَّا فِي بَدَنِهِ وَإِمَّا فِي دِينِهِ.

‌60 - بَاب سَتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ

6069 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ.

6070 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ قَالَ: يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا؛ فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ سَتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ) أَيْ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُعَابُ فَيُشْرَعُ لَهُ وَيُنْدَبُ لَهُ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْأُوَسِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، وَقَدْ رَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَفْسِهِ الْكَبِيرِ، وَرُبَّمَا أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً مِثْلُ هَذَا.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ.

قَوْلُهُ: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى) بِفَتْحِ الْفَاءِ مَقْصُورٌ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْعَافِيَةِ، وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنَى عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَإِمَّا سَلَّمَهُ اللَّهُ وَسَلِمَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَمُسْتَخْرِجِي الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ بِالنَّصْبِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ بِالرَّفْعِ وَعَلَيْهَا شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ، وَابْنِ التِّينِ، وَقَالَ: وكَذَا وَقَعَ، وَصَوَابُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ بِالنَّصْبِ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الرَّفْعَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، كَذَا قَالَ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: إِلَّا عَلَى هَذَا بِمَعْنَى لَكِنْ، وَعَلَيْهَا خَرَّجُوا قِرَاءَةَ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو:{وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ} ؛ أَيْ لَكِنِ امْرَأَتكَ، {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} وَكَذَلِكَ هُنَا الْمَعْنَى. لَكِنِ الْمُجَاهِرُونَ بِالْمَعَاصِي لَا يُعَافُونَ، فَالْمُجَاهِرُونَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: حَقُّ الْكَلَامِ النَّصْبُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْعَفْوُ بِمَعْنَى التَّرْكِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ النَّفْيِ، وَمُحَصَّلُ الْكَلَامِ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ يُعْفَى عَنْ ذَنْبِهِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقَ الْمُعْلِنَ اهـ.

وَاخْتَصَرَهُ مِنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: كَتَبَ فِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ الْمُجَاهِرُونَ بِالرَّفْعِ وَحَقُّهُ النَّصْبُ، وَأَجَابَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ بِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ مُعَافًى وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ كُلُّ أُمَّتِي لَا ذَنْبَ عَلَيْهِمْ إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: والْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: الْمَعْنَى

ص: 486

كُلُّ أُمَّتِي يُتْرَكُونَ فِي الْغِيبَةِ إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ، وَالْعَفْوُ بِمَعْنَى التَّرْكِ وَفِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ؛ كَقَوْلِهِ:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} وَالْمُجَاهِرُ الَّذِي أَظْهَرَ مَعْصِيَتَهُ وَكَشَفَ مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيُحَدِّثُ بِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ مَنْ جَاهَرَ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ جَازَ ذِكْرُهُ بِمَا جَاهَرَ بِهِ دُونَ مَا لَمْ يُجَاهِرْ بِهِ اهـ. وَالْمُجَاهِرُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ جَاهَرَ بِكَذَا بِمَعْنَى جَهَرَ بِهِ. وَالنُّكْتَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِفَاعَلَ إِرَادَةُ الْمُبَالَغَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُرَادُ الَّذِي يُجَاهِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالتَّحَدُّثِ بِالْمَعَاصِي، وَبَقِيَّةُ الْحَدِيثِ تُؤَكِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ) كَذَا لِابْنِ السَّكَنِ وَالْكُشْمِيهَنِيِّ وَعَلَيْهِ شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ، وَلِلْبَاقِينَ الْمَجَانَةُ بَدَلَ الْمُجَاهَرَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَإِنَّ مِنَ الْإِجْهَاز كَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ الْجِهَارُ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْإِهْجَارُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: وَإِنْ مِنَ الْهِجَارِ، فَتَحَصَّلْنَا عَلَى أَرْبَعَةٍ أَشْهَرُهَا الْجِهَارُ ثُمَّ تَقْدِيمُ الْهَاءِ وَبِزِيَادَةِ أَلِفٍ قَبْلَ كُلِّ مِنْهُمَا، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ، يَعْنِي إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ لِلْعَذَرِيِّ، وَالسِّجْزِيِّ فِي مُسْلِمٍ الْإِجْهَارُ وَلِلْفَارِسِيِّ الْإِهْجَارُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَقَالَ زُهَيْرٌ الْجِهَارُ، هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سُفْيَانَ، وَابْنِ أَبِي مَاهَانَ، عَنْ مُسْلِمٍ، وَفِي أُخْرَى عَنِ ابْنِ سُفْيَانَ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ الْهِجَارُ، قَالَ عِيَاضٌ: الْجِهَارُ وَالْإِجْهَارُ وَالْمُجَاهَرَةُ كُلُّهُ صَوَابٌ بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَالْإِظْهَارِ، يُقَالُ جَهَرَ وَأَجْهَرَ بِقَوْلِهِ وَقِرَاءَتِهِ إِذَا أَظْهَرَ وَأَعْلَنَ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ لِتَفْسِيرِ قَوْلِهِ أَوَّلًا إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ، قَالَ: وَأَمَّا الْمَجَانَةُ فَتَصْحِيفٌ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا لَا يَبْعُدُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَاجِنَ هُوَ الَّذِي يَسْتَهْتِرُ فِي أُمُورِهِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُبَالِي بِمَا قَالَ وَمَا قِيلَ لَهُ.

قُلْتُ: بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ رُجْحَانُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ بَعْدَهُ لَا يَرْتَابُ أَحَدٌ أَنَّهُ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ فَلَيْسَ فِي إِعَادَةِ ذِكْرِهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ بِلَفْظِ الْمَجَانَةِ فَتُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُجَاهِرُ بِالْمَعْصِيَةِ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُجَّانِ، وَالْمَجَانَةُ مَذْمُومَةٌ شَرْعًا وَعُرْفًا، فَيَكُونُ الَّذِي يُظْهِرُ الْمَعْصِيَةَ قَدِ ارْتَكَبَ مَحْذُورَيْنِ: إِظْهَارَ الْمَعْصِيَةِ وَتَلَبُّسَهُ بِفِعْلِ الْمُجَّانِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَأَمَّا الْإِهْجَارُ فَهُوَ الْفُحْشُ وَالْخَنَاءُ وَكَثْرَةُ الْكَلَامِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمَجَانَةِ، يُقَالُ أَهْجَرَ فِي كَلَامِهِ، وَكَأَنَّهُ أَيْضًا تَصْحِيفٌ مِنَ الْجِهَارِ أَوِ الْإِجْهَارِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى لَا يَبْعُدُ أَيْضًا هُنَا، وَأَمَّا لَفْظُ الْهِجَارِ فَبَعِيدٌ لَفْظًا وَمَعْنًى لِأَنَّ الْهِجَارَ الْحَبْلُ أَوِ الْوِتْرُ تُشَدُّ بِهِ يَدُ الْبَعِيرِ أَوِ الْحَلْقَةُ الَّتِي يُتَعَلَّمُ فِيهَا الطَّعْنُ وَلَا يَصِحُّ لَهُ هُنَا مَعْنًى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: بَلْ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُقَالُ هَجَرَ وَأَهْجَرَ إِذَا أَفْحَشَ فِي كَلَامِهِ فَهُوَ مِثْلُ جَهَرَ وَأَجْهَرَ، فَمَا صَحَّ فِي هَذَا صَحَّ فِي هَذَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْهِجَارِ بِمَعْنَى الْحَبْلِ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ مَصْدَرًا مِنَ الْهُجْرِ بِضَمِّ الْهَاءِ.

قَوْلُهُ: (الْبَارِحَةُ) هِيَ أَقْرَبُ لَيْلَةٍ مَضَتْ مِنْ وَقْتِ الْقَوْلِ، تَقُولُ لَقِيتُهُ بالْبَارِحَةِ، وَأَصْلُهَا مِنْ بَرِحَ إِذَا زَالَ. وَوَرَدَ فِي الْأَمْرِ بِالسِّتْرِ حَدِيثُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ.

الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ مُرْسَلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْجَهْرِ بِالْمَعْصِيَةِ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْعِنَادِ لَهُمْ، وَفِي السِّتْرِ بِهَا السَّلَامَةُ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ، لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ تُذِلُّ أَهْلَهَا، وَمِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فِيهِ حَدٌّ وَمِنَ التَّعْزِيرِ إِنْ لَمْ يُوجِبْ حَدًّا، وَإِذَا تَمَحَّضَ حَقُّ اللَّهِ فَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، فَلِذَلِكَ إِذَا سَتَرَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَفْضَحْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَالَّذِي يُجَاهِرُ يَفُوتُهُ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ مَوْقِعُ إِيرَادِ حَدِيثِ النَّجْوَى عَقِبَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَتْ مُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَعْقُودَةٌ لِسَتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ وَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ سَتْرُ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُصَرِّحٌ بِذَمِّ مَنْ جَاهَرَ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَسْتَلْزِمُ

ص: 487

مَدْحَ مَنْ يَسْتَتِرُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ سِتْرَ اللَّهِ مُسْتَلْزِمٌ لِسِتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ، فَمَنْ قَصَدَ إِظْهَارَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُجَاهَرَةَ بِهَا أَغْضَبَ رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتُرْهُ، وَمَنْ قَصَدَ التَّسَتُّرَ بِهَا حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِسَتْرِهِ إِيَّاهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبُخَارِيَّ [يُشِيرُ] بِذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى تَقْوِيَةِ مَذْهَبِهِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ) فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ، وَصَفْوَانُ مَازِنِيٌّ بَصْرِيٌّ وَأَبُوهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ ثُمَّ الزَّاي مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرَ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ الْمَاضِيَةِ فِي الْمَظَالِمِ عَنْ صَفْوَانَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ آخُذُ بِيَدِهِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ هُودٍ: بَيْنَمَا ابْنُ عُمَرَ يَطُوفُ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّائِلِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: حَدِّثْنِي، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ سَمِعْتَ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ ارَّحْمَنِ؛ وَهِيَ كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟) هِيَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمَرْءُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَلَا يُسْمِعُ غَيْرَهُ، أَوْ يُسْمِعُ غَيْرَهُ سِرًّا دُونَ مَنْ يَلِيهِ، قَالَ الرَّاغِبُ: نَاجَيْتَهُ إِذَا سَارَرْتَهُ، وَأَصْلُهُ أَنْ تَخْلُوَ فِي نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَقِيلَ أَصْلُهُ مِنَ النَّجَاةِ، وَهِيَ أَنْ تَنْجُوَ بِسِرِّكَ مِنْ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَالنَّجْوَى أَصْلُهُ الْمَصْدَرُ، وَقَدْ يُوصَفُ بِهَا فَيُقَالُ هُوَ نَجْوَى وَهُمْ نَجْوَى، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْمُنَاجَاةُ الَّتِي تَقَعُ مِنَ الرَّبِّ سبحانه وتعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ النَّجْوَى لِمُقَابَلَةِ مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ؛ أَيْ يَقْرَبُ مِنْهُ قُرْبَ كَرَامَةٍ وَعُلُوِّ مَنْزِلَةٍ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالنُّونِ بَعْدَهَا فَاءٌ أَيْ جَانِبَهُ، وَالْكَنَفُ أَيْضًا السَّتْرُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْأَوَّلُ مَجَازٌ فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ فِي كَنَفِ فُلَانٍ أَيْ فِي حِمَايَتِهِ وَكِلَاءَتِهِ. وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ بَعْضَهُمْ صَحَّفَهُ تَصْحِيفًا شَنِيعًا؛ فَقَالَ بِالْمُثَنَّاةِ بَدَلَ النُّونِ، وَيُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِلَفْظٍ يَجْعَلُهُ فِي حِجَابِهِ. زَادَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَسِتْرِهِ.

قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ: عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ؛ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ زَادَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ: فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَيَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ صَحِيفَتَكَ فَيَقْرَأُ، وَيُقَرِّرُهُ بِذَنْبٍ ذَنْبٍ، وَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ أَتَعْرِفُ؟

قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ نَعَمْ) زَادَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ أَيْ رَبِّ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ فَيَقُولُ: أَعْرِفُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَيَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً؛ فَيَقُولُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، إِنَّكَ فِي سِتْرِي، لَا يَطَّلِعُ عَلَى ذُنُوبِكَ غَيْرِي. زَادَ هَمَّامٌ، وَسَعِيدٌ، وَهِشَامٌ فِي رِوَايَتِهِمْ: فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ فَيُطْوَى وَهُوَ خَطَأٌ. وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ: وَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُنَافِقُ، وَلِبَعْضِهِمُ: الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ: وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هُودٍ أَنَّ الْأَشْهَادَ جَمْعُ شَاهِدٍ مِثْلُ أَصْحَابٍ وَصَاحِبٍ، وَهُوَ أَيْضًا جَمْعُ شَهِيدٍ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي الْحَدِيثِ تَفَضُّلُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِسِتْرِهِ لِذُنُوبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ يَغْفِرُ ذُنُوبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ أَنْفَذَ الْوَعِيدَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّنْ يَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَسِتْرَهُ أَحَدًا إِلَّا الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ؛ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ

ص: 488

يُنَادَى عَلَيْهِمْ عَلَى رُؤوسِ الْأَشْهَادِ بِاللَّعْنَةِ. قُلْتُ: قَدِ اسْتَشْعَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا؛ فَأَوْرَدَ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَعَهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ: إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجنَةِ. .

الْحَدِيثَ، فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذُّنُوبِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَرَبِّهِ سبحانه وتعالى دُونَ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، فَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْمُقَاصَصَةِ، وَدَلَّ حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعُصَاةِ يُعَذَّبُ بِالنَّارِ ثُمَّ يُخْرَجُ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ هذه الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ الْعُصَاةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِيَامَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَنْ مَعْصِيَتُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَدَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ تَكُونُ مَعْصِيَتُهُ مَسْتُورَةً فِي الدُّنْيَا فَهَذَا الَّذِي يَسْتُرُهَا اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامَةِ وَهُوَ بِالْمَنْطُوقِ، وَقِسْمٌ تَكُونُ مَعْصِيَتُهُ مُجَاهَرَةً فَدَلَّ مَفْهُومُهُ عَلَى أَنَّهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَنْ تَكُونُ مَعْصِيَتُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِبَادِ فَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا: قِسْمٌ تَرْجَحُ سَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ يَقَعُونَ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُخْرَجُونَ بِالشَّفَاعَةِ، وَقِسْمٌ تَتَسَاوَى سَيِّئَاتُهُمْ وَحَسَنَاتُهُمْ فَهَؤُلَاءِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَقَعَ بَيْنَهُمُ التَّقَاصُّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يَفْعَلَهُ

(1)

بِاخْتِيَارِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ وَهُوَ يَفْعَلُ فِي عِبَادِهِ مَا يَشَاءُ.

‌61 - بَاب الْكِبْرِ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مُسْتَكْبِرا فِي نَفْسِهِ عِطْفُهُ رَقَبَتُهُ

6071 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَيْسِيُّ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكِبْرِ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ رَاءٌ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْكِبْرُ وَالتَّكَبُّرُ وَالِاسْتِكْبَارُ مُتَقَارِبٌ، فَالْكِبْرُ الْحَالَةُ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الْإِنْسَانُ مِنْ إِعْجَابِهِ نَفْسِهِ. وَذَلِكَ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى رَبِّهِ بِأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ. وَالتَّكَبُّرُ يَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ الْأَفْعَالُ الْحَسَنَةُ زَائِدَةً عَلَى مَحَاسِنِ الْغَيْرِ وَمِنْ ثَمَّ وُصِفَ سبحانه وتعالى بِالْمُتَكَبِّرِ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّفًا لِذَلِكَ مُتَشَبِّعًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَهُوَ وَصْفُ عَامَّةِ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِ:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وَالْمُسْتَكْبِرُ مِثْلَهُ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْكِبْرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: فَإِنْ ظَهَرَ عَلَى الْجَوَارِحِ يُقَالُ: تَكَبَّرَ، وَإِلَّا قِيلَ: فِي نَفْسِهِ كِبْرٌ. وَالْأَصْلُ هُوَ الَّذِي فِي النَّفْسِ وَهُوَ الِاسْتِرْوَاحُ إِلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ، وَالْكِبْرُ يَسْتَدْعِي مُتَكَبَّرًا عَلَيْهِ يَرَى نَفْسَهُ فَوْقَهُ وَمُتَكَبَّرًا بِهِ، وَبِهِ يَنْفَصِلُ الْكِبْرُ عَنِ الْعُجْبِ، فَمَنْ لَمْ يُخْلَقْ إِلَّا وَحْدَهُ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُعْجَبًا لَا مُتَكَبِّرًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ

6072 -

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: "إِنْ كَانَتْ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ".

(1)

هكذا بياض بالأصل.

ص: 489

مُجَاهِدٌ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مُسْتَكْبِرًا فِي نَفْسِهِ، عِطْفُهُ رَقَبَتُهُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قَالَ: رَقَبَتُهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قَالَ: مُسْتَكْبِرًا فِي نَفْسِهِ، وَمَنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: لَاوِي عُنُقَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أَيْ مُعْرِضٌ مِنَ الْعَظَمَةِ. وَمَنْ طَرِيقِ أَبِي صُخَرٍ الْمَدَنِيِّ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ يَقُولُ: هُوَ الرَّجُلُ يَقُولُ: هَذَا شَيْءٌ ثَنَيْتُ عَلَيْهِ رِجْلِي، فَالْعِطْفُ هُوَ الرِّجْلُ، قَالَ أَبُو صَخْرٍ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ الْعِطْفُ الْعُنُقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. ثم ذكر فيه حديثين: أحدهما حَدِيثُ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ن، وَالْغَرَضُ مِنْهُ وَصْفُ الْمُسْتَكْبِرِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَقَوْلُهُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ. هُوَ بِرَفْعِ كُلُّ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ هُمْ كُلُّ ضَعِيفٍ إِلَخْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أَهْلِ.

ثَانِيهِمَا حَدِيثُ أَنَسٍ:

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى) أَيِ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الطَّبَّاعِ بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ ثَقِيلَةٍ، وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ نَزِيلُ أَذَنَه بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ، وَهُوَ ثِقَةٌ عَالِمٌ بِحَدِيثِ هُشَيْمٍ حَتَّى قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمِعْتُ يَحْيَى الْقَطَّانَ، وَابْنَ مَهْدِيٍّ يَسْأَلَانِهِ عَنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ، وَرَجَّحَهُ عَلَى أَخِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، وَإِسْحَاقُ أَكْبرُ مِنْ مُحَمَّدٍ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَ يَتَفَقَّهُ، وَكَانَ يَحْفَظُ نَحْوَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ، وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ بِوَاسِطَةٍ، وَلَمْ أَرَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَوْضِعٍ آخَرَ فِي الْحَجِّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى: حَدَّثَنَا، قَالَ حَمَّادٌ: وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ تَصْرِيحَهُ عَنْهُ بِالتَّحْدِيثِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَا رِوَايَةٍ، وَأَمَّا الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى فَذَكَرَهُ وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ سَنَدًا، وَقَدْ ضَاقَ مَخْرَجُهُ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا، فَسَاقَهُ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، وَغَفَلَ عَنْ كَوْنِهِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ.

وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ شَيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى فِيهِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ الْبُخَارِيُّ عَنْ تَخْرِيجِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لِتَصْرِيحِ حُمَيْدٍ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بِالتَّحْدِيثِ، فَإِنَّهُ عِنْدَهُ عَنْ هُشَيْمٍ: أَنْبَأَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ وَحُمَيْدٌ مُدَلِّسٌ، وَالْبُخَارِيُّ يُخَرِّجُ لَهُ مَا صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ.

قَوْلُهُ: (فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ فِي حَاجَتِهَا، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: إِنْ كَانَتِ الْوَلِيدَةُ مِنْ وَلَائِدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَجِيءُ فَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى تَذْهَبَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْيَدِ لَازِمُهُ وَهُوَ الرِّفْقُ وَالِانْقِيَادُ. وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَاضُعِ لِذِكْرِهِ الْمَرْأَةَ دُونَ الرَّجُلِ، وَالْأَمَةَ دُونَ الْحُرَّةِ، وَحَيْثُ عَمَّمَ بِلَفْظِ الْإِمَاءِ أَيَّ أَمَةٍ كَانَتْ، وَبِقَوْلِهِ حَيْثُ شَاءَتْ أَيْ مِنَ الْأَمْكِنَةِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْأَخْذِ بِالْيَدِ إِشَارَةٌ إِلَى غَايَةِ التَّصَرُّفِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ حَاجَتُهَا خَارِجَ الْمَدِينَةِ، وَالْتَمَسَتْ مِنْهُ مُسَاعَدَتَهَا فِي تِلْكَ الْحَاجَةِ لساعد عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى مَزِيدِ تَوَاضُعِهِ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّ الْكِبْرِ وَمَدْحِ التَّوَاضُعِ أَحَادِيثُ، مِنْ أَصَحِّهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ.

فَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا، قَالَ: الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ، وَالْغَمْطُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ هُوَ الِازْدِرَاءُ وَالِاحْتِقَارُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِلَفْظٍ الْكِبْرُ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ وَازْدَرَى النَّاسَ، وَالسَّائِلُ الْمَذْكُورُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ؛ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَا أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ سَوَادِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ

ص: 490

ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: الْكِبْرُ السَّفَهُ عَنِ الْحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاسِ. فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟ قَالَ: السَّفَهُ أَنْ يَكُونَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَيُنْكِرُهُ فَيَأْمُرُهُ رَجُلٌ بِتَقْوَى اللَّهِ فَيَأْبَى، وَالْغَمْصُ أَنْ يَجِيءَ شَامِخًا بِأَنْفِهِ، وَإِذَا رَأَى ضُعَفَاءَ النَّاسِ وَفُقَرَاءَهُمْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَجْلِسْ إِلَيْهِمْ مَحْقَرَةً لَهُمْ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً؛ حَتَّى يَجْعَلَهُ اللَّهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً وَضَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: إِيَّاكُمْ وَالْكِبْرَ، فَإِنَّ الْكِبْرَ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ وَإِنَّ عَلَيْهِ الْعَبَاءَةَ.

وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الطَّبَرِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِبْرِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكُفْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكِبْرِ مَا هُوَ اسْتِكْبَارٌ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَعْنَى مَا قُلْنَاهُ؛ لِأَنَّ مُعْتَقِدَ الْكِبْرِ عَلَى رَبِّهِ يَكُونُ لِخَلْقِ اللَّهِ أَشَدَّ اسْتِحْقَارًا انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَار بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. الْحَدِيثَ، وَالْأَمْرُ بِالتَّوَاضُعِ نَهْيٌ عَنِ الْكِبْرِ فَإِنَّهُ ضِدُّهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ فَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَ أَوَّلِ الدَّاخِلِينَ، وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُهَا بِدُونِ مُجَازَاةٍ، وَقِيلَ: جَزَاؤُهُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا وَلَكِنْ قَدْ يُعْفَى عَنْهُ، وَقِيلَ وَرَدَ مَوْرِدَ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَالَ دُخُولِهَا وَفِي قَلْبِهِ كِبْرٌ، حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، وَاسْتَضْعَفَهُ النَّوَوِيُّ فَأَجَادَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ لِذَمِّ الْكِبْرِ وَصَاحِبِهِ لَا لِلْإِخْبَارِ عَنْ صِفَةِ دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَقَامُ يَقْتَضِي حَمْلَ الْكِبْرِ عَلَى مَنْ يَرْتَكِبُ الْبَاطِلَ؛ لِأَنَّ تَحْرِيرَ الْجَوَابِ إِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُ الزِّينَةِ لِإِظْهَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ فَهُوَ جَائِزٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَإِنْ كَانَ لِلْبَطَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى تَسْفِيهِ الْحَقِّ وَتَحْقِيرِ النَّاسِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ الْمَذْمُومُ.

‌62 - بَاب الْهِجْرَةِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ

6073، 6074 - ، 6075 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّهَا: أَنَّ عَائِشَةَ حُدِّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ لَتَنْهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا؛ فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ؛ فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ لَا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا وَلَا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، وَقَالَ لَهُمَا: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ؛ فَإِنَّهَا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي.

فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ؛ فَقَالَا: السَّلَامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: ادْخُلُوا، قَالُوا: كُلُّنَا؟ قَالَتْ: نَعَم، ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَلَا تَعْلَمُ أَنَّ

ص: 491

مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلَّا مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولَانِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنْ الْهِجْرَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ؛ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنْ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ: إِنِّي نَذَرْتُ، وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ. فَلَمْ يَزَالَا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا.

6076 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ"

6077 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ".

[الحديث 6077 - طرفه في: 6237]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْهِجْرَةِ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، أَن تَرْكُ الشَّخْصِ مُكَالَمَةَ الْآخَرِ إِذَا تَلَاقَيَا، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ التَّرْكُ فِعْلًا كَانَ أَوْ قَوْلًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ) قَدْ وَصَلَهُ فِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَأَرَادَ هُنَا أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصٌ بِمَنْ هَجَرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ لِذَلِكَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: تَحْرُمُ الْهِجْرَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِالنَّصِّ وَتُبَاحُ فِي الثَّلَاثِ بِالْمَفْهُومِ، وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ عَلَى الْغَضَبِ، فَسُومِحَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لِيَرْجِعَ وَيَزُولَ ذَلِكَ الْعَارِضُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُعْتَبَرُ ثَلَاثُ لَيَالٍ، حَتَّى لَوْ بَدَأَ بِالْهِجْرَةِ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ أُلْغِيَ الْبَعْضُ وَتُعْتَبَرُ لَيْلَةَ ذلك الْيَوْمِ، وَيَنْقَضِي الْعَفْوُ بِانْقِضَاءِ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ. قُلْتُ: وَفِي الْجَزْمِ بِاعْتِبَارِ اللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ جُمُودٌ، وَقَدْ مَضَى فِي بَابِ مَا نُهِيَ عَنِ التَّحَاسُدِ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ بِلَفْظِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْمُرَخَّصَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، فَحَيْثُ أُطْلِقَتِ اللَّيَالِي أُرِيدَ بِأَيَّامِهَا وَحَيْثُ أُطْلِقَتِ الْأَيَّامُ أُرِيدَ بِلَيَالِيهَا، وَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ مُضِيَّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا مُلَفَّقَةً، إِذَا ابْتُدِئَتْ مَثَلًا مِنَ الظُّهْرِ يَوْمَ السَّبْتِ كَانَ آخِرُهَا الظُّهْرَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُلْغَى الْكَسْرُ، وَيَكُونُ أَوَّلَ الْعَدَدِ مِنَ ابْتِدَاءِ الْيَوْمِ أَوِ اللَّيْلَةِ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ.

ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الحديث الأول: وفِيهِ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ، وَبَاقِيهِ عَنْهُمْ وَعَنْ رَابِعٍ مَوْقُوفٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ) كَذَا عِنْدَ النَّسَفِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمَا وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ؛ فِيهِ: فَقَالَ: عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، وَمَعْمَرٍ، ثَلَاثَتِهِمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَفِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْهُ: حَدَّثَنِي

ص: 492

الطُّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ، وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ أَخًا لَهَا مِنْ أُمِّهَا أُمِّ رُومَانَ، وَفِي رِوَايَةِ صَالِحٍ عَنْهُ: حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ الطُّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الطُّفَيْلِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هَكَذَا اخْتَلَفُوا، وَالصَّوَابُ عِنْدِي وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ، يَعْنِي بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَيْنَهُمَا مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ، قَالَ: وَالطُّفَيْلُ أَبُوهُ هُوَ الَّذِي رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْهُ، يَعْنِي حَدِيثَ: لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ.

أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَكَذَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِ النَّهْيِ عَنِ الْهِجْرَانِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَمِنْ طَرِيقِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ: هَذَا وَهَمٌ، قَالَ: وَكَذَا وَهِمَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي قَوْلِهِ الطُّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ، وَصَالِحٌ فِي قَوْلِهِ عَوْفُ بْنُ الطُّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَصَابَ مَعْمَرٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ فِي قَوْلِهِمَا عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الطُّفَيْلِ، كَذَا قَالَ، ثُمَّ قَالَ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سَخْبَرَةَ الْأَزْدِيَّ قَدِمَ مَكَّةَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ رُومَانَ بِنْتُ عَامِرٍ الْكِنَانِيَّةُ؛ فَحَالَفَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، ثُمَّ مَاتَ فَخَلَفَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى أُمِّ رُومَانَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَعَائِشَةَ، وَكَانَ لَهَا مِنَ الْحَارِثِ الطُّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ فَهُوَ أَخُو عَائِشَةَ لِأُمِّهَا، وَوَلَدَ الطُّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ، عَوْفًا، وَلَهُ عَنْ عَائِشَةَ رِوَايَةٌ غَيْرُ هَذِهِ، وَهُوَ الَّذِي حَدَّثَ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الَّذِي أَصَابَ فِي تَسْمِيَتِهِ وَنَسَبِهِ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَأَمَّا مَعْمَرٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ فَقَلَبَاهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي صَوَّبَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى الْأَوْزَاعِيِّ، فَالرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَرْبِيُّ عَنْهُ هِيَ رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَلَى وَفْقِ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَابْنِ خَالِدٍ، وَأَمَّا شُعَيْبٌ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فَقَلَبَ الْحَارِثُ أَيْضًا فَسَمَّاهُ مَالِكًا، وَحَذَفَهُ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَأَصَابَ وَسَكَتَ عَنْ تَسْمِيَةِ جَدِّهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ رِوَايَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ كَذَلِكَ. وَإِذَا تَحَرَّرَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الَّذِي جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَالِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ كُلُّهُ فِي تَحْرِيرِ اسْمِ الرَّاوِي هُنَا عَنْ عَائِشَةَ وَنَسَبِهِ إِلَّا رِوَايَةَ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ فَإِنَّهَا شَاذَّةٌ؛ لِأَنَّهُ قَلَبَ شَيْخَ الزُّهْرِيِّ فَجَعَلَهُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ، عَلَى أَنَّ لِلْخَبَرِ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ أَصْلًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ لَكِنَّهُ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ عَائِشَةَ حُدِّثَتْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ حَدَّثَتْهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ بَلَغَهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ بن الزبير بيع تلك الدار.

قَوْلُهُ: (فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فِي دَارٍ لَهَا بَاعَتْهَا، فَسَخِطَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أيضًا حدثته.

قَوْلُهُ: (لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِهَا، وَهَذَا مُفَسِّرٌ لِمَا أُبْهِمَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَكَذَا لِمَا تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ، قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ لَا تُمْسِكُ شَيْئًا، فَمَا جَاءَهَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ تَصَدَّقَتْ بِهِ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ الَّذِي هُنَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بَاعَتِ الرِّبَاعَ لِتَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا، وَقَوْلُهُ لَتَنْتَهِيَنَّ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا، هَذَا أَيْضًا يُفَسِّرُ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ: يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى يَدِهَا.

قَوْلُهُ: (لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ كَلِمَةً أَبَدًا، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ بِكَلِمَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ بَدَلَ قَوْلِهِ أَبَدًا حَتَّى يُفَرِّقَ الْمَوْتُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، قَالَ

ص: 493

ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهَا أَنْ لَا أُكَلِّمَ تَقْدِيرُهُ عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ كَلَّمْتُهُ اهـ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِحَذْفِ لَا، وَشَرَحَ عَلَيْهَا الْكِرْمَانِيُّ وَضَبَطَهَا بِالْكَسْرِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ، قَالَ: وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ بِلَفْظِ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ كَلَّمْتُهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّذْرُ مُعَلَّقًا عَلَى كَلَامِهِ لَا أَنَّهَا نَذَرَتْ تَرْكَ كَلَامِهِ نَاجِزًا.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتِ الْهِجْرَةُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي حَتَّى بَدَلَ حِينَ وَالْأَوَّلُ الصَّوَابُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَلَى الصَّوَابِ، وزَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فَطَالَتْ هِجْرَتُهَا إِيَّاهُ فَنَقَصَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ، فَاسْتَشْفَعَ بِكُلِّ جَدِيرٍ أَنَّهَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ، وفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ فَاسْتَشْفَعَ عَلَيْهَا بِالنَّاسِ فَلَمْ تَقْبَلْ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ أَخْرَجَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: فَذَكَرَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، قَالَ: فَاسْتَشْفَعَ إِلَيْهَا بِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ حَدِيثٌ أَخْبَرْتِنِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّوْمِ فَوْقَ ثَلَاثٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: لَا وَالِلَّهِ لَا أُشَفِّعُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ الثَّقِيلَةِ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ أَحَدًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَبَدًا بَدَلَ قَوْلِهِ أَحَدًا، وَجَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَلَا أَحْنَثُ فِي نَذْرِي، وَفِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا آثَمُ فِيهِ أَيْ فِي نَذْرِهَا أَوْ فِي ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَتَكُونُ فِي سَبَبِيَّةً.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ)، أَمَّا الْمِسْوَرُ فَهُوَ ابْنُ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَجَدُّهُ يَغُوثُ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، وَهُوَ ابْنُ وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، يَجْتَمِعُ مَعَ الْمِسْوَرِ فِي عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وَوُهَيْبٌ وَأُهَيْبٌ أَخَوَانِ، وَمَاتَ الْأَسْوَدُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَلَمْ يُسْلِمْ، وَمَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ صَغِيرٌ فَذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ حَدِيثٌ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ الْمُتَقَدِّمَةِ: فَاسْتَشْفَعَ إِلَيْهَا بِرِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبِأَخْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَقَدْ بَيَّنْتُ هُنَاكَ مَعْنَى هَذِهِ الْخُئُولَةِ وَصِفَةِ قَرَابَةِ بَنِي زُهْرَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ.

قَوْلُهُ: (أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَا) بِالتَّخْفِيفِ وَمَا زَائِدَةٌ وَيَجُوزُ التَّشْدِيدُ حَكَاهُ عِيَاضٌ، يَعْنِي إلَا، أَيْ لَا أَطْلُبُ إِلَّا الْإِدْخَالَ عَلَيْهَا، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} وَقَوْلِهِ تعالى: {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} فَقَدْ قُرِنا بِالْوَجْهَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَلَا أَدْخَلْتُمَانِي، زَادَ الْأَوْزَاعِيُّ فَسَأَلَهُمَا أَنْ يَشْتَمِلَا عَلَيْهِ بِأَرْدِيَتِهِمَا.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَإِنَّهُ وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي) لِأَنَّهُ كَانَ ابْنَ أُخْتِهَا، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تَتَوَلَّى تَرْبِيَتَهُ غَالِبًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَا: السَّلَامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فَقَالَا: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي الْأَوَّلِ مَفْتُوحَةً.

قَوْلُهُ: (أَنَدْخُلُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالُوا: كُلُّنَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَا: وَمَنْ مَعَنَا؟ قَالَتْ: وَمَنْ مَعَكُمَا.

قَوْلُهُ: (فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فَبَكَى إِلَيْهَا وَبَكَتْ إِلَيْهِ وَقَبَّلَهَا، وَفِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَنَاشَدَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ اللَّهَ وَالرَّحِمَ.

قَوْلُهُ: (وَيَقُولَانِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى عَمَّا عَلِمْتِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ)، فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ وُرُودُ الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى كَحَدِيثَيْ أَنَسٍ، وَأَبِي أَيُّوبَ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَرْفُوعُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ هُنَا مِنْ مُسْنَدِ الْمِسْوَرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَعَائِشَةَ جَمِيعًا فَإِنَّهَا أَقَرَّتْهُمَا عَلَى ذَلِكَ،

ص: 494

وَقَدْ غَفَلَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ عَنْ ذِكْرِهِ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ لِكَوْنِهِ مُرْسَلًا، وَلَكِنْ ذَكَرُوا أَنْظَارَهُ فَيَلْزَمُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَلَهُ عَنْ عَائِشَةَ طَرِيقٌ أُخْرَى تَقَدَّمَ بَيَانُهَا وَأَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدِ عنِ عُمَيْرٍ عَنْهَما، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ، وَجَاءَ الْمَتْنُ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ بَعْدُ.

(تَنْبِيهٌ): ادَّعَى الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْهِجْرَانَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ تَرْكُ السَّلَامِ إِذَا الْتَقَيَا، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْ عَائِشَةَ فِي حَقِّ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، فَإِنَّهَا حَلَفَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ وَالْحَالِفُ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ لَا يَحْنَثَ، وَتَرْكُ السَّلَامِ دَاخِلٌ فِي تَرْكِ الْكَلَامِ، وَقَدْ نَدِمَتْ عَلَى سَلَامِهَا عَلَيْهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا اعْتَقَدَتْ أَنَّهَا حَنِثَتْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا كَانَتْ تُعْتِقُهُ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنَ التَّذْكِرَةِ) أَيِ التَّذْكِيرِ بِمَا جَاءَ فِي فَضْلِ صِلَةِ الرَّحِمِ وَالْعَفْوِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ.

قَوْلُهُ: (وَالتَّحْرِيجِ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ الْجِيمِ أَيِ الْوُقُوعُ فِي الْحَرَجِ وَهُوَ الضِّيقُ لِمَا وَرَدَ فِي الْقَطِيعَةِ مِنَ النَّهْيِ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ التَّخْوِيفِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَزَالَا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فَكَلَّمَتْهُ بَعْدَمَا خَشِيَ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ، وَقَبِلَتْ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ كَادَتْ أَنْ لَا تَقْبَلَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ ثُمَّ بَعَثَتْ إِلَى الْيَمَنِ بِمَالٍ، فَابْتِيعَ لَهَا بِهِ أَرْبَعُونَ رَقَبَةً، فَأَعْتَقَتْهَا كَفَّارَةً لِنَذْرِهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ الْمُتَقَدِّمَةِ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِعَشْرِ رِقَابٍ فَأَعْتَقَتْهُمْ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَيْهَا بِالْعَشَرَةِ أَوَّلًا، وَلَا يُنَافِي رِوَايَةَ الْبَابِ أَنْ تَكُونَ هِيَ اشْتَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَمَامَ الْأَرْبَعِينَ فَأَعْتَقَتْهُمْ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ: ثُمَّ لَمْ تَزَلْ حَتَّى بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ: ثُمَّ سَمِعْتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ تَذْكُرُ نَذْرَهَا ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: وَدِدْتُ أَنِّي جَعَلْتُ حِينَ حَلَفْتُ عَمَلًا فَأَعْمَلُهُ فَأَفْرُغُ مِنْهُ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهَا هَذَا.

الحديث الثاني والثالث حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي بَابِ التَّحَاسُدِ وَأَرَادَ بِإِيرَادِهِمَا مَعًا أَنَّهُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ شَيْخِهِ، وَأَوَّلُ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْهُ لَا يَحِلُّ لِرَجُلِ كَمَا عَلَّقَهُ أَوَّلًا، وَزَادَ فِيهِ يَلْتَقِيَانِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَيَلْتَقِيَانِ بِزِيَادَةِ فَاءٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) هَكَذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ، وَخَالَفَهُمْ عُقَيْلٌ، فَقَالَ: عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أُبَيٍّ، وَخَالَفَهُمْ كُلَّهُمْ شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يُونُسَ عَنْهُ، فَقَالَ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَوْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: أَمَّا شَبِيبٌ فَلَمْ يَضْبِطْ سَنَدَهُ، وَقَدْ ضَبَطَهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ فَسَاقَهُ عَلَى الصَّوَابِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَمَّا عُقَيْلٌ فَلَعَلَّهُ سَقَطَ عَلَيْهِ لَفْظُ أَيُّوبَ فَصَارَ عَنْ أُبَيٍّ، فَنَسَبَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ كَعْبٍ فَوَهِمَ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَوْقَ ثَلَاثٍ) ظَاهِرُهُ إِبَاحَةُ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثِ، وَهُوَ مِنَ الرِّفْقِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ فِي طَبْعِهِ الْغَضَبُ وَسُوءُ الْخُلُقِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَزُولُ أَوْ يَقِلُّ فِي الثَّلَاثِ.

قَوْلُهُ: (فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) زَادَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الزُّهْرِيِّ: يَسْبِقُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِنْ مَرَّتْ بِي ثَلَاثٌ، فَلَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ، وَخَرَجَ الْمُسَلِّمُ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلِأَحْمَدَ وَالْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ فَإِنَّهُمَا نَاكِثَانِ عَنِ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى صِرَامِهِمَا، وَأَوَّلُهُمَا فَيْئًا يَكُونُ سَبْقُهُ كَفَّارَةً فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: فَإِنْ مَاتَا عَلَى صِرَامِهِمَا لَمْ يَدْخُلَا الْجَنَّةَ جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ

ص: 495

بِالسَّلَامِ) قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: تَزُولُ الْهِجْرَةُ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ وَرَدِّهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَبْرَأُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا بِعَوْدِهِ إِلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوَّلًا. وَقَالَ أَيْضًا: تَرْكُ الْكَلَامِ إِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لَمْ تَنْقَطِعِ الْهِجْرَةُ بِالسَّلَامِ. كَذَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: إِذَا اعْتَزَلَ كَلَامَهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، يَعْنِي وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ يُتَوَقَّى فِيهَا، وَتَرْكَ الْمُكَالَمَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ فِي بَاطِنِهِ عَلَيْهِ شَيْئًا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا زَوَالُ الْهِجْرَةِ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَرْكِهِ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثِ فَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ، وَاسْتُدِلَّ لِلْجُمْهُورِ بِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَوْقُوفٍ، وَفِيهِ: وَرُجُوعُهُ أَنْ يَأْتِيَ فَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: أَخَاهُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَصُّ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ لِمَنْ يَقُولُ: الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمُسْلِمِ لِكَوْنِهِ الَّذِي يَقْبَلُ خِطَابَ الشَّرْعِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ. وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِالْأُخُوَّةِ فَدَالٌّ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ الْكَافِرَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَامْتَنَعَ مِنْ مُكَالَمَتِهِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ أَثِمَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحِلِّ يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيمَ، وَمُرْتَكِبُ الْحَرَامِ آثِمٌ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْهِجْرَانُ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا لِمَنْ خَافَ مِنْ مُكَالَمَتِهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ أَوْ يُدْخِلُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دُنْيَاهُ مَضَرَّةً، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ جَازَ، وَرُبَّ هَجْرٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ مُؤْذِيَةٍ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ عَلَى هَذَا مَا صَدَرَ مِنْ عَائِشَةَ فِي حَقِّ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ إِذَا كَانَ فِي طَاعَةٍ كَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ أَوْ أَنْ أُصَلِّيَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ أَوْ مُبَاحٍ فَلَا نَذْرَ، تَرْكُ الْكَلَامِ يُفْضِي إِلَى التَّهَاجُرِ وَهُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ.

وَأَجَابَ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ إِنَّمَا هُوَ تَرْكُ السَّلَامِ فَقَطْ، وَأنَّ الَّذِي صَدَرَ مِنْ عَائِشَةَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا امْتَنَعَتْ مِنَ السَّلَامِ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَلَا مِنْ رَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِ لَمَّا بَدَأَهَا بِالسَّلَامِ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ نَظِيرَ مَنْ كَانَا فِي بَلَدَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يُكَلِّمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَلَيْسَا مَعَ ذَلِكَ مُتَهَاجِرَيْنِ، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ لَا تَأْذَنُ لِأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ أن يدخل عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ، فَكَانَتْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ مَنَعَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا، كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ الْمَأْخَذِ الَّذِي سَلَكَهُ مِنْ أَوْجُهٍ لَا فَائِدَةَ لِلْإِطَالَةِ بِهَا، وَالصَّوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ غَيْرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ رَأَتِ أن ابْنَ الزُّبَيْرِ ارْتَكَبَ بِمَا قَالَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا، فَإِنَّ فِيهِ تَنْقِيصًا لِقَدْرِهَا وَنِسْبَه لَهَا ارْتِكَابِ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ التَّبْذِيرِ الْمُوجِبِ لِمَنْعِهَا مِنَ التَّصَرُّفِ فِيمَا رَزَقَهَا اللَّهُ - تَعَالَى -، مَعَ مَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ كَوْنِهَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَخَالَتَهُ أُخْتَ أُمِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ عِنْدَهَا فِي مَنْزِلَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي أَوَائِلِ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ، فَكَأَنَّهَا رَأَتْ أَنَّ فِي ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ نَوْعَ عُقُوقٍ، وَالشَّخْصُ يَسْتَعْظِمُ مِمَّنْ يَلُوذُ بِهِ مَا لَا يَسْتَعْظِمُهُ مِنَ الْغَرِيبِ، فَرَأَتْ أَنَّ مُجَازَاتَهُ عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِ مُكَالَمَتِهِ، كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ عُقُوبَةً لَهُمْ لِتَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ كَلَامِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ مُؤَاخَذَةً لِلثَّلَاثَةِ

لِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِمْ وَازْدِرَاءً بِالْمُنَافِقِينَ لِحَقَارَتِهِمْ، فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا صَدَرَ مِنْ عَائِشَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ هَجْرَ الْوَالِدِ وَلَدَهُ وَالزَّوْجِ زَوْجَتَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَا يَتَضَيَّقُ بِالثَّلَاثِ، وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم هَجَرَ نِسَاءَهُ شَهْرًا، وَكَذَلِكَ مَا صَدَرَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ فِي اسْتِجَازَتِهِمْ تَرْكَ مُكَالَمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مَعَ عِلْمِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُهَاجَرَةِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ هُنَا مَقَامَيْنِ أَعْلَى وَأَدْنَى، فَالْأَعْلَى اجْتِنَابُ الْإِعْرَاضِ جُمْلَةً فَيَبْذُلُ السَّلَامَ وَالْكَلَامَ وَالْمُوَادَدَةَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَالْأَدْنَى الِاقْتِصَارُ عَلَى السَّلَامِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ يَتْرُكُ الْمَقَامَ الْأَدْنَى، وَأَمَّا الْأَعْلَى فَمَنْ تَرَكَهُ

ص: 496

مِنَ الْأَجَانِبِ فَلَا يَلْحَقُهُ اللَّوْمُ، بِخِلَافِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا قَطِيعَتِي، أَيْ إِنْ كَانَتْ هِجْرَتِي عُقُوبَةً عَلَى ذَنْبِي فَلْيَكُنْ لِذَلِكَ أَمَدٌ، وَإِلَّا فَتَأْبِيدُ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ عَلِمَتْ بِذَلِكَ لَكِنَّهَا تَعَارَضَ عِنْدَهَا هَذَا وَالنَّذْرُ الَّذِي الْتَزَمَتْهُ، فَلَمَّا وَقَعَ مِنَ اعْتِذَارِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَاسْتِشْفَاعِهِ مَا وَقَعَ رُجِّحَ عِنْدَهَا تَرْكُ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَاحْتَاجَتْ إِلَى التَّكْفِيرِ عَنْ نَذْرِهَا بِالْعِتْقِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ يَعْرِضُ عِنْدَهَا شَكٌّ فِي أَنَّ التَّكْفِيرَ الْمَذْكُورَ لَا يَكْفِيهَا، فَتُظْهِرُ الْأَسَفَ عَلَى ذَلِكَ إِمَّا نَدَمًا عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهَا مِنْ أَصْلِ النَّذْرِ الْمَذْكُورِ وَإِمَّا خَوْفًا مِنْ عَاقِبَةِ تَرْكِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌63 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى

وَقَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا، وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً.

6078 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قال:، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَعْرِفُ غَضَبَكِ وَرِضَاكِ، قَالَتْ: قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّكِ إِذَا كُنْتِ رَاضِيَةً، قُلْتِ: بَلَى وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ سَاخِطَةً قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ، لا أُهَجِرُ إِلَّا اسْمَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى) أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانَ الْهِجْرَانِ الْجَائِزِ ; لِأَنَّ عُمُومَ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لِهَجْرِهِ سَبَبٌ مَشْرُوعٌ، فَتَبَيَّنَ هُنَا السَّبَبُ الْمُسَوِّغُ لِلْهَجْرِ، وَهُوَ لِمَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ، فَيَسُوغُ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا مِنْهُ هَجْرُهُ عَلَيْهَا لِيَكُفَّ عَنْهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ كَعْبٌ) أَيِ ابْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ (حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا، وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً) وَهَذَا طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.

وذكر حَدِيثُ عَائِشَةَ: إِنِّي لَأَعْرِفُ غَضَبَكَ وَرِضَاكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُبَيِّنَ صِفَةَ الْهِجْرَانِ الْجَائِزِ، وَأَنَّهُ يَتَنَوَّعُ بِقَدْرِ الْجُرْمِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِصْيَانِ يَسْتَحِقُّ الْهِجْرَانَ بِتَرْكِ الْمُكَالَمَةِ كَمَا فِي قِصَّةِ كَعْبٍ وَصَاحِبَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُغَاضَبَةِ بَيْنَ الْأَهْلِ وَالْإِخْوَانِ، فَيَجُوزُ الْهَجْرُ فِيهِ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ مَثَلًا، أَوْ بِتَرْكِ بَسْطِ الْوَجْهِ مَعَ عَدَمِ هَجْرِ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ قِيَاسَ هِجْرَانِ مَنْ يُخَالِفُ الْأَمْرَ الشرعي عَلَى هِجْرَانِ اسْمٍ مَنْ يُخَالِفُ الْأَمْرَ الطَّبِيعِيَّ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَصْلٌ فِي هِجْرَانِ أَهْلِ الْمَعَاصِي، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ كَوْنُ هِجْرَانِ الْفَاسِقِ أَوِ الْمُبْتَدِعِ مَشْرُوعًا، وَلَا يُشْرَعُ هِجْرَانُ الْكَافِرِ، وَهُوَ أَشَدُّ جُرْمًا مِنْهُمَا؛ لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ لِلَّهِ أَحْكَامًا فِيهَا مَصَالِحُ لِلْعِبَادِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِشَأْنِهَا، وَعَلَيْهِمُ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِهِ فِيهَا، فَجَنَحَ إِلَى أَنَّهُ تَعَبُّدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ. وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْهِجْرَانَ عَلَى مَرْتَبَتَيْنِ: الْهِجْرَانُ بِالْقَلْبِ، وَالْهِجْرَانُ بِاللِّسَانِ.

فَهِجْرَانُ الْكَافِرِ بِالْقَلْبِ وَبِتَرْكِ التَّوَدُّدِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا، وَإِنَّمَا لَمْ يُشْرَعْ هِجْرَانُهُ بِالْكَلَامِ لِعَدَمِ ارْتِدَاعِهِ بِذَلِكَ عَنْ كُفْرِهِ، بِخِلَافِ الْعَاصِي الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ بِذَلِكَ غَالِبًا، وَيَشْتَرِكُ كُلٌّ مِنَ الْكَافِرِ وَالْعَاصِي فِي مَشْرُوعِيَّةِ مُكَالَمَتِهِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ تَرْكُ الْمُكَالَمَةِ بِالْمُوَادَّةِ وَنَحْوِهَا. وقَالَ

ص: 497

عِيَاضٌ: إِنَّمَا اغْتُفِرَتْ مُغَاضَبَةُ عَائِشَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ - لِأَنَّ الْغَضَبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ - لِأَنَّ الْحَامِلَ لَهَا عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرَةُ الَّتِي جُبِلَتْ عَلَيْهَا النِّسَاءُ، وَهِيَ لَا تَنْشَأُ إِلَّا عَنْ فَرْطِ الْمَحَبَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَضَبُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبُغْضَ اغْتُفِرَ ; لِأَنَّ الْبُغْضَ هُوَ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهَا: لَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ عَلَى أَنَّ قَلْبَهَا مَمْلُوءٌ بِمَحَبَّتِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (أَجَلْ) بِوَزْنِ نَعَمْ وَمَعْنَاهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِلَّا أَنَّ نَعَمْ أَحْسَنُ مِنْ أَجَلْ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، أَجَلْ أَحْسَنُ مِنْ نَعَمْ فِي التَّصْدِيقِ. قُلْتُ: وَهِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وَفْقِ مَا قَالَ.

‌64 - بَاب هَلْ يَزُورُ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا؟

6079 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِمَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً. فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا؛ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قَالَ: إِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي بِالْخُرُوجِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَزُورُ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قِيلَ: الْعَشِيُّ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْعَتَمَةِ وَقِيلَ إِلَى الْفَجْرِ، فَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْعَشَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ الطَّعَامُ، وَبِالْكَسْرِ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْعَتَمَةِ، وَالْعَشِيُّ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْفَجْرِ.

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَعْمَرٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ) وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ ح. وَقَالَ اللَّيْثُ وَهَذَا التَّعْلِيقُ سَبَقَ مُطَوَّلًا فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ مَوْصُولًا عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) كَأَنَّ هَذَا سِيَاقَ مَعْمَرٍ، وَكَأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ قَبْلَ قَوْلِهِ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ كَلَامٌ آخَرُ فَعَطَفَ هَذَا عَلَيْهِ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عروة كَذَا رَأَيْتُهُ فِيهِ بِالْوَاوِ، أَمَّا رِوَايَةُ عُقَيْلٍ فَلَفْظُهُ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ إِلَخْ وَقَدِ اسْتَشْكَلَ كَوْنُ أَبِي بَكْرٍ كَانَ يُحْوِجُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْ يَتَكَلَّفَ الْمَجِيءَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَأَجَابَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجِيءُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ لِمُجَرَّدِ الزِّيَارَةِ، بَلْ لِمَا يَتَزَايَدُ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي هَذَا الْجَوَابُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَمْنَعُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَجِيءُ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّتَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ يَأْمَنُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ مَا لَوْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ إِلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْزِلُ أَبو بَكْرٍ كَانَ بَيْنَ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ يَمُرُّ بِهِ، وَالْمَقْصُودُ الْمَسْجِدُ، وَكَانَ يَشْهَدُهُ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى بِطُولِهِ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ رَمَزَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى تَوْهِينِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا.

وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ أَكْثَرُهَا غَرَائِبُ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ، وَقَدْ جَمَعَ طُرُقَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ، وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ: عَلِيٍّ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْر، وَأَبِي بَرْزَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرٍ، وَحَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَأَقْوَى طُرُقِهِ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ، وَالْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ

ص: 498

السَّقَّاءِ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَقِيلٍ يَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَأَبُو عَقِيلٍ كُوفِيٌّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعَ مِنْهُ أَبِي وَهُوَ صَدُوقٌ، وَذَكَرَه ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ: رُبَّمَا أَخْطَأَ وَأَغْرَبَ. قُلْتُ: وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَقَدْ رَفَعَهُ أَيْضًا يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ رَوَيْنَاهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ السَّقَّاءِ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَدِّهِ يَعْقُوبَ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، فَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِير عَنْهُ، عَنْ أَبِي حِبَّانَ الْكَلْبِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مَوْقُوفًا فِي قِصَّةٍ لَهُ مَعَ عَائِشَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَا عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا؟ قَالَ: قَوْلُ الْأَوَّلِ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا.

فَقَالَ عِبدَ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ: دَعُونَا مِنْ بَطَالَتِكُمْ هَذِهِ، وَأَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ فِي صَلَاتِهِ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْأَمْثَالِ بِأَنَّهُ مِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ، وَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ شَائِعًا فِي الْمُتَقَدِّمِينَ، فَرَوَيْنَاهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي مُحَمَّدٍ السَّقَّاءِ قَالَ: أَنْشَدُونَا لِهِلَالِ بْنِ الْعَلَاءِ:

اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي

لَكَ أَخْلَصُ الثَّقَلَيْنِ قَلْبَا،

لَكِنْ لِقَوْلِ نَبِيِّنَا

زُورُوا عَلَى الْأَيَّامِ غِبَّا

مَنْ زَارَ غِ بًّا

مِنْكُمْ يَزْدَادُ حُبَّا

قُلْتُ: وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوجِزَ فَيَقُولُ:

لَكِنْ لِقَوْلِ نَبِيِّنَا

مَنْ زَارَ غِبًّا زَادَ حُبَّا

وَقَدْ أَنْشَدُونَا لِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الْقُرْطُبِيِّ رَاوِي الْمُوَطَّأِ:

أَقِلَّ زِيَارَةَ الْإِخْوَا

نِ تَزْدَدْ عِنْدَهُمْ قُرْبَا

فَإِنَّ الْمُصْطَفَى قَدْ قَا

لَ زُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبَّا

قُلْتُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ عُمُومَهُ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُوصِيَّةُ ومَوَدَّةٍ ثَابِتَةٍ، فَلَا يَنْقُصُ كَثْرَةُ زِيَارَتِهِ مِنْ مَنْزِلَتِهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الصِّدِّيقُ الْمُلَاطِفُ لَا يَزِيدُهُ كَثْرَةُ الزِّيَارَات إِلَّا مَحَبَّةً، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

‌65 - بَاب الزِّيَارَةِ. وَمَنْ زَارَ قَوْمًا فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ

وَزَارَ سَلْمَانُ، أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَ عِنْدَهُ

6080 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنْ الْبَيْتِ فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِسَاطٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الزِّيَارَةِ) أَيْ مَشْرُوعِيَّتُهَا (وَمَنْ زَارَ قَوْمًا فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ) أَيْ مِنْ تَمَامِ الزِّيَارَةِ أَنْ يُقَدِّمَ لِلزَّائِرِ مَا حَضَرَ، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَهُوَ مِمَّا يُثَبِّتُ الْمَوَدَّةَ، وَيَزِيدُ الْمَحَبَّةِ. قُلْتُ: وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الْحَاكِم،

ص: 499

وَأَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَى جَابِرٍ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ خُبْزًا وَخَلًّا فَقَالَ: كُلُوا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ. إِنَّهُ هَلَاكٌ بِالرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهِ النَّفَرُ مِنْ إِخْوَانِهِ فَيَحْتَقِرُ مَا فِي بَيْتِهِ أَنْ يُقَدِّمَهُ إِلَيْهِمْ، وَهَلَاكٌ بِالْقَوْمِ أَنْ يَحْتَقِرُوا مَا قُدِّمَ إِلَيْهِمْ. وَوَرَدَ فِي فَضْلِ الزِّيَارَةِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَرْفُوعًا: حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رَفَعَهُ: مَنْ زَارَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَرْجِعَ.

قَوْلُهُ: (وَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَ عِنْدَهُ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي جُحَيْفَةَ، تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ.

قَوْلُهُ: (زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) هُمْ أَهْلُ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ كَمَا مَضَى في الصلاة مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَأَوَّلُهُ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ الصَّلَاةَ مَعَكَ، وَصَنَعَ طَعَامًا الْحَدِيثَ، وَأَوْرَدَهُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى وَقِصَّةُ عِتْبَانَ وَطَلَبُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ، قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا مُطَوَّلَةً. وَفِيهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ تَأَخَّرَ حَتَّى أَكَلَ عِنْدَهُمْ، وَفِيهِ قِصَّةُ مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمِ، وَوَقَعَ لَهُ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ الْقِصَّةِ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ كُنْيَةِ الصَّبِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، فَإِنَّ فِيهِ ذِكْرُ الْبِسَاطِ وَنَضْحِهِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الطَّعَامِ، نَعَمْ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، وَفِيهِ ذِكْرُ نَضْحِ الْحَسيرِ الصَّلَاةِ بِهِمْ، ولَكِنْ لَيْسَ فِي أَوَّلِهِ الْقِصَّةُ فِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ الصَّلَاةَ مَعَكَ فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُخْتَصٌّ بِقِصَّةِ عِتْبَانَ، فَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَوَهِمَ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهُ بَيْتُ أَبِي طَلْحَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الزِّيَارَةِ وَدُعَاءِ الزَّائِرِ لِمَنْ زَارَهُ وَطَعِمَ عِنْدَهُ.

‌66 - بَاب مَنْ تَجَمَّلَ لِلْوُفُودِ

6081 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ لِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا الْاتَبرَقُ؟ قُلْتُ: مَا غَلُظَ مِنْ الدِّيبَاجِ، وَخَشُنَ مِنْهُ. قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: رَأَى عُمَرُ عَلَى رَجُلٍ حُلَّةً مِنْ اسْتَبْرَقٍ، فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِ هَذِهِ فَالْبَسْهَا لِوَفْدِ النَّاسِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ. فَمَضَى في ذَلِكَ مَا مَضَى. ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَيْهِ بِحُلَّةٍ، فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: بَعَثْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ، وَقَدْ قُلْتَ فِي مِثْلِهَا إِنَّمَا قلت: قال: إنا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتُصِيبَ بِهَا مَالًا. فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ لِهَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَجَمَّلَ لِلْوُفُودِ) أَيْ حَسَّنَ هَيْئَتَهُ بِالْمَلْبُوسِ وَنَحْوِهِ لِمَنْ يَقْدُمُ عَلَيْهِ، وَالْوُفُودُ جَمْعُ وَافِدٍ، وَهُوَ مَنْ يَقْدُمُ عَلَى مَنْ لَهُ أَمْرٌ أَوْ سُلْطَانٌ زَائِرًا أَوْ مُسْتَرْفِدًا، وَالْمُرَادُ هنا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ لِلْوُفُودِ مَنْ كَانَ يَرِدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ يُرْسِلُهُمْ قَبَائِلُهُمْ يُبَايِعُونَ لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَتَعَلَّمُونَ أُمُورَ الدِّينِ حَتَّى يُعَلِّمُوهُمْ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ للتَّرْجَمَةَ بِصُورَةِ

ص: 500

الِاسْتِفْهَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْكَرَ لُبْسَ الْحَرِيرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَصْلَ التَّجَمُّلِ، لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ مَعَ ذَلِكَ.

ذكر فيه حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ حُلَّةِ عُطَارِدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ. وَعَبْدُ الصَّمَدِ فِي سَنَدِهِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ. وَقَوْلُهُ وَخَشُنَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ لِلْأَكْثَرِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ: تَجَمَّلَ بِهَا الْوُفُودِ وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ. وَقَدِ اعْتَرَضَهَا الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: التَّجَمُّلُ لِلْوُفُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ كَذَا إِلَّا لِمَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ، وَجَوَابُهُ أَنَّ مَعْنَى التَّرْجَمَةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُتَمَسِّكًا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ لِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا مَذْهَبُ الْوَرَعِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي رِوَايَتِهِ: إِلَّا عَلَمًا فِي ثَوْبٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْعَلَمِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ اللُّبْسِ، قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ غَزْلَ فُلَانَةٍ فَأَخَذَ ثَوْبًا فَنَسَجَ فِيهِ مِنْ غَزْلِهَا وَمِنْ غَزْلِ غَيْرِهَا وَكَانَ الَّذِي مِنْ غَزْلِهَا لَوِ انْفَرَدَ لَمْ يَبْلُغْ إِذَا نُسِجَ أَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ مِمَّا يَقَعُ عَلَى مِثْلِهِ اسْمُ اللُّبْسِ لَمْ يَحْنَثْ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، إِلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.

‌67 - بَاب الْإِخَاءِ وَالْحِلْفِ

وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ

6082 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَآخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ.

6083 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِخَاءِ وَالْحِلْفِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَبِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ هُوَ الْمُعَاهَدَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ.

قَوْلُهُ: (آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ) هُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالزُّبَيْرِ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ مَرَّتَيْنِ؛ مَرَّةً بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ فَقَطْ، وَمَرَّةً بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ، وَقَدَّمْتُ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي أَبْوَابِ الْوَلِيمَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا) لِمُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ، فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ عَنْهُ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عَاصِمٍ.

قَوْلُهُ: (عَاصِمٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلُ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،

ص: 501

عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: حَالَفَ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُهَاجِرِينَ بَدَلَ قُرَيْشٍ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَالَ: لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: قَدْ حَالَفَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَزَادَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ مُخْتَصَرًا، وَعُرِفَ مِنْ رِوَايَةِ الْبَابِ تَسْمِيَةُ السَّائِلِ عَنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاعْتِصَامِ مُخْتَصَرًا خَالِيًا عَنِ السُّؤَالِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَحَدِيثُ الْقُنُوتِ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ مَضَى فِي الْوِتْرِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَلَفْظُهُ

(1)

.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى نَحْوَهُ بِاخْتِصَارٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَرْفُوعًا: شَهِدْتُ مَعَ عُمُومَتِي حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ، فَمَا أُحِبُّ أَنْ أَنْكُثَهُ، وَحِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ كَانَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِمُدَّةٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ جَمْعٌ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فَتَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ يَنْصُرُوا الْمَظْلُومَ، وَيُنْصِفُوا بَيْنَ النَّاسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ الْخَيْرِ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ. وَتَضَمَّنَ جَوَابُ أَنَسٍ إِنْكَارَ صَدْرِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْيَ الْحِلْفِ، وَفِيمَا قَالَهُ هُوَ إِثْبَاتُهُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ مَا كَانُوا يَعْتَبِرُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نَصْرِ الْحَلِيفِ، وَلَوْ كَانَ ظَالِمًا، وَمِنْ أَخْذِ الثَّأْرِ مِنَ الْقَبِيلَةِ بِسَبَبِ قَتْلِ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمِنَ التَّوَارُثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمُثْبَتُ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ نَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَالْقِيَامِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ: كَالْمُصَادَقَةِ، وَالْمُوَادَدَةِ، وَحِفْظِ الْعَهْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَسْخِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَذَكَرَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الْحَلِيفَ السُّدُسَ دَائِمًا فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: حَمَلَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَ أَنَسٍ حَالَفَ عَلَى الْمُؤَاخَاةِ.

قُلْتُ: لَكِنْ سِيَاقُ عَاصِمٍ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ الْمُحَالَفَةَ حَقِيقَةً، وَإِلَّا لما كَانَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا، وَتَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ ظَاهِرَةٌ فِي الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا، وَتَقَدَّمَ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَابُ كَيْفَ آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ؟ وَذَكَرَ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُنَا أَوَّلًا، وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ الْحِلْفِ، وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُؤَاخَةِ المذكورة هُنَاكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَنْفِيُّ حِلْفُ التَّوَارُثِ، وَمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ، وَأَمَّا التَّحَالُفُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَالْمُؤَاخَاةِ فِي اللَّهِ - تَعَالَى - فَهُوَ أَمْرٌ مُرَغَّبٌ فِيهِ.

‌68 - بَاب التَّبَسُّمِ وَالضَّحِكِ

وَقَالَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكْتُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى

6084 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَبَتَّ طَلَاقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ، فَجَاءَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا ثَلَاث تَطْلِيقَاتٍ، فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ الزَّبِيرِ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ - لِهُدْبَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا - قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ

(1)

بياض بالأصل.

ص: 502

جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ لِيُؤْذَنَ لَهُ، فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي أَبَا بَكْرٍ، يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّبَسُّمِ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ.

6085 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ فَقَالَ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَقَالَ: عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، لَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَقَالَ: أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، أَتَهَبْنَنِي وَلَمْ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقُلْنَ: إِنَّكَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِيهٍ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ.

6086 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عبد الله بْنِ عمرو قَالَ: لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالطَّائِفِ قَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا نَبْرَحُ أَوْ نَفْتَحَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ قَالَ: فَغَدَوْا فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَثُرَ فِيهِمْ الْجِرَاحَاتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ: فَسَكَتُوا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِالْخَبَرِ كُلِّهِ.

6087 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ؛ وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَ: لَيْسَ لِي، قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ: لَا أَجِدُ، فَأُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ - قَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْعَرَقُ الْمِكْتَلُ - فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ، تَصَدَّقْ بِهَا، قَالَ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي، وَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: فَأَنْتُمْ إِذًا.

6088 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأوسِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدة نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ

ص: 503

فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً. قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَانقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.

6089 -

حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي.

6090 -

وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا.

6091 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ "أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ. فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ أَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَبِمَ شَبَهُ الْوَلَدِ؟ ".

6092 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَجْمِعاً قَطُّ ضَاحِكاً حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ".

6093 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ ح وقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ قَحَطَ الْمَطَرُ فَاسْتَسْقِ رَبَّكَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا نَرَى مِنْ سَحَابٍ فَاسْتَسْقَى فَنَشَأَ السَّحَابُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ مُطِرُوا حَتَّى سَالَتْ مَثَاعِبُ الْمَدِينَةِ فَمَا زَالَتْ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا تُقْلِعُ ثُمَّ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ غَرِقْنَا فَادْعُ رَبَّكَ يَحْبِسْهَا عَنَّا فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَصَدَّعُ عَنْ الْمَدِينَةِ يَمِيناً وَشِمَالاً يُمْطَرُ مَا حَوَالَيْنَا وَلَا يُمْطِرُ مِنْهَا شَيْءٌ يُرِيهِمْ اللَّهُ كَرَامَةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجَابَةَ دَعْوَتِهِ".

قوله: "باب التبسم والضحك" قال أهل اللغة: التبسم مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك وهي الثنايا والأنياب وما يليها وتسمى النواجذ. قوله:

ص: 504

"وقالت فاطمة أسرَّ إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت" هو من طرف من حديث لعائشة عن فاطمة عليها السلام مر بتمامه وشرحه في الوفاة النبوية. قوله: "وقال ابن عباس: إن الله هو أضحك وأبكى" أي خلق في الإنسان الضحك والبكاء، وهذا طرف من حديث لابن عباس تقدم في الجنائز، وأشار فيه ابن عباس - بجواز البكاء بغير نياحة - إلى قوله تعالى في سورة النجم {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ثم ذكر في الباب تسعة أحاديث تقدم أكثرها وفي جميعها ذكر التبسم أو الضحك، وأسبابها مختلفة لكن أكثرها للتعجب، وبعضها للإعجاب، وبعضها للملاطفة. حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة، والغرض منه قولها فيه:"وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم" وقد مر شرحه مستوفى في كتاب الصلاة، وقوله فيه:"وابن سعيد بن العاص جالس" وقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني "وسعيد بن العاص" والصواب الأول وهو خالد وقد وقع مسمى فيما مضى. حديث سعد "استأذن عمر" تقدم شرحه مستوفى في مناقب عمر، والغرض منه قوله:"والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: أضحك الله سنك" ويستفاد منه ما يقال للكبير إذا ضحك، وإسماعيل شيخه فيه هو ابن أبي أويس كما جزم به المزي. وقال أبو علي الجياني: لعله ابن أبى أويس. قلت: وقد تقدم في فضائل الأنصار حديث قال فيه البخاري "حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد" وإسماعيل هذا هو ابن أبي أويس جزما، وهو يؤيد ما جزم به المزي. حديث عمرو هو ابن دينار عن أبي العباس وهو الشاعر عن عبد الله بن عمر. كذا للأكثر بضم العين، وللحموي وحده هنا "عمرو" بفتحها والصواب الأول، وقد تقدم بيانه في غزوة الطائف مع شرح الحديث، والغرض منه هنا قوله:"فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقوله فيه: "لا نبرح أو نفتحها" قال ابن التين: ضبطناه بالرفع والصواب النصب، لأن "أو" إذا كانت بمعنى "حتى" أو "إلى إن" نصبت وهي هنا كذلك. قوله:"قال الحميدي حدثنا سفيان بالخبر كله" تقدم بيان من وصله في غزوة الطائف، ووقع في رواية الكشميهني:"حدثنا سفيان كله بالخبر" والمعني أنه ذكر بصريح الأخبار في جميع السند لا بالعنعنة.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ) هَذَا إِنَّمَا سَمِعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ بِوَاسِطَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ بَيْنَهُمَا.

وَقِصَّةُ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ فِيهِ بَيَانٌ لِمَا أَدْرَجَهُ غَيْرُهُ فَجَعَلَ تَفْسِيرَ الْعَرَقِ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَالنَّوَاجِذُ جَمْعُ نَاجِذَةٍ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ هِيَ الْأَضْرَاسُ، وَلَا تَكَادُ تَظْهَرُ إِلَّا عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ فِي الضَّحِكِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ ثَامِنِ أَحَادِيثِ الْبَابِ: مَا رَأَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ لِأَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَأَقْوَى مِنْهُ أَنَّ الَّذِي نَفَتْهُ غَيْرُ الَّذِي أَثْبَتَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالنَّوَاجِذِ الْأَنْيَابَ مَجَازًا أَوْ تَسَامُحًا وَبِالْأَنْيَابِ مَرَّةً

(1)

فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي مُعْظَمِ أَحْوَالِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى التَّبَسُّمِ، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَضَحِكَ، وَالْمَكْرُوهُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْإِكْثَارُ مِنْهُ أَوِ الْإِفْرَاطُ فِيهِ لِأَنَّهُ يُذْهِبُ الْوَقَارَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ فِعْلِهِ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ،

(1)

لعل هنا سقطا، تمامه:"فعبر بالنواجذ مرة وبالأنياب مرة الخ".

ص: 505

فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَنَسٍ:

قَوْلُهُ: (مَالِكٌ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ إِلَّا عِنْدَ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَمَعْنِ بْنِ عِيسَى، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ لَكِنْ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ، وَزَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ. قُلْتُ: وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ وَمِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَمِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ عُمَارةَ كُلُّهُمْ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ مَالِكٍ وَبَيَّنَ بَعْضَ لَفْظِ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَمْشِي) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ أَدْخُلُ الْمَسْجِدَ.

قَوْلُهُ: (وَعَلَيْهِ بُرْدٌ) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ رِدَاءٌ.

قَوْلُهُ: (نَجْرَانِيٌّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْجِيمِ نِسْبَةٌ إِلَى نَجْرَانَ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ الصَّنِفَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا فَاءٌ وَهِيَ طَرَفُ الثَّوْبِ مِمَّا يَلِي طُرَّتَهُ.

قَوْلُهُ: (فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ) زَادَ هَمَّامٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَفِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ.

قَوْلُهُ: (فَجَبَذَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فَجَذَبَ وَهِيَ بِمَعْنَى جَبَذَ.

قَوْلُهُ: (جَبْذَةٌ شَدِيدَةٌ) فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ حَتَّى رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ الْأَعْرَابِيِّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عُنُقِ وَكَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ.

قَوْلُهُ: (أَثَّرَتْ فِيهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِهَا وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ حَتَّى انْشَقَّ الْبُرْدُ وَذَهَبَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِهِ وَزَادَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ لَمَّا وَصَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُجْرَتِهِ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ لَقِيَهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَأَدْرَكَهُ لَمَّا كَادَ يَدْخُلُ فَكَلَّمَهُ أَوْ مَسَكَ بِثَوْبِهِ لَمَّا دَخَلَ، فَلَمَّا كَادَ يَدْخُلُ الْحُجْرَةَ خَشِيَ أَنْ يَفُوتَهُ فَجَبَذَهُ.

قَوْلُهُ: (مُرْ لِي) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ أَعْطِنَا.

قَوْلُهُ: (فَضَحِكَ) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ مُرُوا لَهُ وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَأَمَرَ لَهُ بِشَيْءٍ وَفِي هذا الْحَدِيثِ بَيَانُ حِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم وَصَبْرِهِ عَلَى الْأَذَى فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَالتَّجَاوُزِ عَلَى جَفَاءِ مَنْ يُرِيدُ تَأَلُّفَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلِيَتَأَسَّى بِهِ الْوُلَاةُ بَعْدَهُ فِي خُلُقِهِ الْجَمِيلِ مِنَ الصَّفْحِ وَالْإِغْضَاءِ وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ:

حَدِيثُ جَرِيرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَابْنُ نُمَيْرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَابْنُ إِدْرِيسَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالْجَمِيعُ كُوفِيُّونَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ وَتَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ بِلَفْظِ إِلَّا ضَحِكَ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، وَالتَّبَسُّمُ أَوَائِلُ الضَّحِكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَقِيَّةُ شَرْحِهِ هُنَاكَ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ:

حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي سُؤَالِ أُمِّ سُلَيْمٍ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِوُقُوعِ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا ضَحِكَهَا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهَا إِنْكَارُهَا احْتِلَامَ الْمَرْأَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ:

قَوْلُهُ: (عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ، وَأَبُو النَّضْرِ هُوَ سَالِمٌ.

قَوْلُهُ: (مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مُسْتَجْمِعًا ضَحِكًا أَيْ مُبَالِغًا فِي الضَّحِكِ لَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، يُقَالُ اسْتَجْمَعَ السَّيْلُ: اجْتَمَعَ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ، وَاسْتَجْمَعَتْ لِلْمَرْءِ أُمُورُهُ: اجْتَمَعَ لَهُ مَا يُحِبُّهُ، فَعَلَى هَذَا قَوْلِهِ ضَاحِكًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِثْلَ لِلَّهِ دَرُّهُ فَارِسًا أَيْ مَا رَأَيْتُهُ مُسْتَجْمِعًا مِنْ جِهَةِ الضَّحِكِ بِحَيْثُ يَضْحَكُ ضَحِكًا تَامًّا مُقْبِلًا بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى الضَّحِكِ، وَاللَّهَوَاتِ بِفَتْحِ الميم وَالْهَاءِ جَمْعُ لَهَاةٍ، وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بِأَعْلَى الْحَنْجَرَةِ مِنْ أَقْصَى الْفَمِ، وَهَذَا الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ وَشَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ:

حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الَّذِي طَلَبَ الِاسْتِقَاءَ ثُمَّ

ص: 506

الِاسْتِصْحَاءَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ ضَحِكُهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ قَوْلِهِ غَرِقْنَا أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ، وَسَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَسَاقَهُ فِي الدَّعَوَاتِ عَلَى لَفْظِ أَبِي عَوَانَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ شَيْخُهُ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُنَانيُّ الْبَصْرِيُّ، وَهُوَ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الَّذِي لَقِيَهُ مَحْبُوبٌ، وَوَهِمَ مَنْ وَحَّدَهُمَا كَشَيْخِنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فَإِنَّهُ جَزَمَ بِذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْهُ هُنَا، وَرَوَى عَنْ رَجُلٍ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا اثْنَانِ أَحَدُهُمَا فِي عِدَادِ شُيُوخِ الْآخَرِ، وَشَيْخُ الْبُخَارِيِّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ وَاسْمُ أَبِيهِ مَحْبُوبٌ، وَالْآخَرُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَاسْمُ أَبِيهِ الْحَسَنُ، وَمَحْبُوبٌ لَقَبُ مُحَمَّدٍ لَا لَقَبُ الْحَسَنِ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ حَدِيثًا وَاحِدًا قَالَ فِيهِ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ الْحَسَنِ وَسَبَبُ الْوَهْمِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَسَانِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مَحْبُوبٌ فَظَنُّوا أَنَّهُ لَقَبُ الْحَسَنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

‌69 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

وَمَا يُنْهَى عَنْ الْكَذِبِ

6094 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا.

6095 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ".

6096 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي قَالَا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وَمَا يُنْهَى عَنِ الْكَذِبِ) قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْقَوْلِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا وَعْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَلَا يَكُونَانِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ إِلَّا فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ يَكُونَانِ فِي غَيْرِهِ كَالِاسْتِفْهَامِ وَالطَّلَبِ، وَالصِّدْقُ مُطَابَقَةُ الْقَوْلِ الضَّمِيرَ وَالْمُخْبَرَ عَنْهُ، فَإِنِ انْخَرَمَ شَرْطٌ لَمْ يَكُنْ صِدْقًا، بَلْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا أَوْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا عَلَى اعْتِبَارَيْنِ، كَقَوْلِ الْمُنَافِقِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ صَدَقَ لِكَوْنِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَذَلِكَ، ويَصِحُّ أَنْ يُقَالَ كَذَبَ لِمُخَالَفَةِ قَوْلِهِ لِضَمِيرِهِ. وَالصِّدِّيقُ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الصِّدْقُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ فِي كُلِّ مَا يَحِقُّ فِي الِاعْتِقَادِ، وَيَحْصُلُ نَحْوَ صَدَقَ ظَنِّي، وَفِي الْفِعْلِ نَحْوَ صَدَقَ فِي الْقِتَالِ، وَمِنْهُ {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} اهـ مُلَخَّصًا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ مَعَ الصَّادِقِينَ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ مِثْلَهُمْ،

ص: 507

وَقِيلَ: مِنْهُمْ.

قُلْتُ: وَأَظُنُّ الْمُصَنِّفَ لَمَّحَ بِذِكْرِ الْآيَةِ إِلَى قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَمَا أَدَّاهُ صِدْقُهُ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ لَهُ مَا وَقَعَ مِنْ تَرْكِ الْمُسْلِمِينَ كَلَامَهُ تِلْكَ الْمُدَّةَ، حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَقَالَ فِي قِصَّتِهِ: مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ، أَعْظَمُ من نَفْسِي مِنْ صِدْقِي أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُ فَأَهْلَكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْكَذِبُ مِنْ قَبَائِحِ الذُّنُوبِ، وَلَيْسَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ، بَلْ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَلِذَلِكَ يُؤْذَنُ فِيهِ حَيْثُ يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا إِلَى الْمَصْلَحَةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ - إِذَا لَمْ يَنْشَأْ عَنْهُ ضَرَرٌ - مُبَاحًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، فَلَا يُبَاحُ مِنْهُ إِلَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: الْكَذِبُ يُجَانِبُ الْإِيمَانَ وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَقَالَ: الصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَفَعَهُ قَالَ: يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ أَنَّ الْأَشْبَهَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَشَاهِدُ الْمَرْفُوعِ مِنْ مُرْسَلِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ فِي الْمُوَطَّأِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: ظَاهِرُهُ يُعَارِضُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَمْلُ حَدِيثِ صَفْوَانَ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ.

قَوْلُهُ: (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَأَمَّا جَرِيرٌ الْمَذْكُورُ فِي ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ فَهُوَ ابْنُ حَازِمٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْمُوصِولَةُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، هَكَذَا وَقَعَ أَوَّلُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَوَقَعَ فِي أَوَّلِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ. وَفِيهِ: وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (إِلَى الْبِرِّ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَصْلُهُ التَّوَسُّعُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرَاتِ كُلِّهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ الْخَالِصِ الدَّائِمِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} قَوْلُهُ: (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، وَكَذَا زَادَهَا فِي الشِّقِّ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا) فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْه اللَّهِ صِدِّيقًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الصِّدْقُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّدْقِ.

قَوْلُهُ: (إنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ) قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْفَجْرِ الشَّقُّ، فَالْفُجُورُ شَقُّ سِتْرِ الدِّيَانَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَيْلِ إِلَى الْفَسَادِ، وَعَلَى الِانْبِعَاثِ فِي الْمَعَاصِي، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلشَّرِّ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَكُونُ وَهُوَ وَزْنُ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَإِظْهَارُهُ لِلْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَإِلْقَاءُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مَالِكٌ بَلَاغًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً مُفِيدَةً، وَلَفْظُهُ: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، فَيُنْكَتُ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُ، فَيُكْتَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكَاذِبِينَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ، وَهُوَ قَصْدُهُ وَالِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَعَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَسَاهَلَ فِيهِ كَثُرَ مِنْهُ فَيُعْرَفُ بِهِ. قُلْتُ: وَالتَّقْيِيدُ بِالتَّحَرِّي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُهُ: وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، وَكَذَا قَالَ فِي الْكَذِبِ، وَعِنْدَهُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ، وَأَوَّلُهُ عِنْدَهُ عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، وَفِيهِ: وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، وَقَالَ فِيهِ: وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ فَذَكَرَهُ، وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ تَوَقَّى الْكَذِبَ بِالْقَصْدِ الصَّحِيحِ إِلَى الصِّدْقِ صَارَ لَهُ الصِّدْقُ سَجِيَّةً حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْوَصْفَ بِهِ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْحَمْدَ وَالذَّمَّ فِيهِمَا يَخْتَصُّ بِمَنْ يَقْصِدُ إِلَيْهِمَا

ص: 508

فَقَطْ، وإِنْ كَانَ الصَّادِقُ فِي الْأَصْلِ مَمْدُوحًا، وَالْكَاذِبُ مَذْمُومًا.

ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ فِي بِلَادِنَا وَغَيْرِهَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَنَقَلَ أَبُو مَسْعُودٍ عَنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ مُثَنَّى، وَابْنِ بَشَّارٍ زِيَادَةً: وَهِيَ إِنَّ شَرَّ الرَّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ ; لِأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ، وَلَا يَعِدُ الرَّجُلُ صَبِيَّهُ ثُمَّ يُخْلِفُهُ فَذَكَرَ أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي كِتَابِهِ، وَذَكَرَهَا أَيْضًا أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَلَيْسَتْ عِنْدَنَا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَالرَّوَايَا جَمْعُ رَوَّيَةٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ مَا يَتَرَوَّى فِيهِ الْإِنْسَانُ قَبْلَ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ رِوَايَةٍ أَيْ لِلْكَذِبِ وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. قُلْتُ: لَمْ أَرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا فِي الْأَطْرَافِ لِأَبِي مَسْعُودٍ وَلَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِلْحُمَيْدِيِّ فَلَعَلَّهُمَا ذَكَرَاهُ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ.

6095 -

حَدَّثَنا ابْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.

ثم ذكر حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ الْحَدِيثَ، وَقد تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَطَرَفه مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ فِي الْمَنَامِ الطَّوِيلِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، وَشَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَفِيهِ الَّذِي رَأَيْتُهُ يَشُقُّ شِدْقَهُ الْكَذَّابُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِذَا كَرَّرَ الرَّجُلُ الْكَذِبَ حَتَّى اسْتَحَقَّ اسْمَ الْمُبَالَغَةِ بِالْوَصْفِ بِالْكَذِبِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ صِفَاتِ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، يَعْنِي فَلِهَذَا عَقَّبَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قُلْتُ: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِ يَشْمَلُ الْكَذِبَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْقَصْدُ الْأَوَّلُ فِي حَدِيثِهِ وَالثَّانِي فِي أَمَارَتِهِ وَالثَّالِثُ فِي وَعْدِهِ.

قَالَ: وَأَخْبَرَ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ بِعُقُوبَةِ الْكَاذِبِ بِأَنَّهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، وَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ فَمُهُ الَّذِي كَذَبَ بِهِ. قُلْتُ: وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ عُقُوبَةَ الْكَاذِبِ أُطْلِقَتْ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِالنَّارِ، فَكَانَ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ بَيَانُهَا.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ: (قَالَا الَّذِي رَأَيْتُهُ يُشَقُّ شِدْقَهُ فَكَذَّابٌ) هَكَذَا وَقَعَ بِالْفَاءِ وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْمَوْصُولَ الَّذِي يَدْخُلُ خَبَرَهُ الْفَاءُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُبْهَمًا عَامًّا، وَأَجَابَ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّهُ نَزَّلَ الْمُعَيَّنَ الْمُبْهَمَ مَنْزِلَةَ الْعَامِّ إِشَارَةً إِلَى اشْتَرَاكِ مَنْ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ فِي الْعِقَابِ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌70 - بَاب الْهَدْيِ الصَّالِحِ

6097 -

حَدَّثَني إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ: أَحَدَّثَكُمْ الْأَعْمَشُ سَمِعْتُ شَقِيقًا قَالَ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ: إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلًّا وَسَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَابْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، لَا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ إِذَا خَلَا.

6098 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُخَارِقٍ سَمِعْتُ طَارِقاً قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم

[الحديث 6098 - طرفه في: 7277]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْهَدْيِ الصَّالِحِ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ هُوَ الطَّرِيقَةُ الصَّالِحَةُ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ طَرِيقِ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ الْهَدْيُ الصَّالِحُ وَالسَّمْتُ الصَّالِحُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَفِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ

ص: 509

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي التَّعْبِيرِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الرُّؤْيَاتِ الصَّالِحَةِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الِاقْتِصَادُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ، كَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْجَوْرِ وَالْعَدْلِ، وَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} وَهَذَا مَحْمُودٌ وَمَذْمُومٌ بِالنِّسْبَةِ، وَالثَّانِي: مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ كَالْجُودِ؛ فَإِنَّهُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْبُخْلِ، وَكَالشَّجَاعَةِ فَإِنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَنَصَّ الْبُخَارِيُّ لَفْظَهُ، وَلَكِنَّهُ حُذِفَ مِنْ آخِرِهِ قَوْلُ أَبِي أُسَامَةَ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ، فَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَأَقَرَّ بِهِ أَبُو أُمامَةَ، وَقَالَ: نَعَمْ وَشَقِيقٌ هُوَ أَبُو وَائِلٍ.

قَوْلُهُ: (دَلًّا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ هُوَ حُسْنُ الْحَرَكَةِ فِي الْمَشْيِ وَالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الطَّرِيقِ.

قَوْلُهُ: (وَسَمْتًا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ هُوَ حُسْنُ الْمَنْظَرِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقَصْدِ فِي الْأَمْرِ وَعَلَى الطَّرِيقِ وَالْجِهَةِ.

قَوْلُهُ: (وَهَدْيًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْهَدْي وَالدَّلُّ مُتَقَارِبَانِ، يُقَالُ فِي السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَفِي الْهَيْبَةِ وَالْمَنْظَرِ وَالشَّمَائِلِ قَالَ: وَالسَّمْتُ يَكُونُ فِي حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَالْمَنْظَرِ مِنْ جِهَةِ الْخَيْرِ، وَالدِّينِ لَا مِنْ جِهَةِ الْجَمَالِ وَالزِّينَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَكِلَاهُمَا جَيِّدٌ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ هَيْئَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.

قَوْلُهُ: (لِابْنِ أُمِّ عَبْدٍ) بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهِيَ تَأْكِيدٌ بَعْدَ التَّأْكِيدِ بِأَنَّ الْمَكْسُورَةَ الَّتِي فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ، وَابْنُ أُمِّ عَبْدٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَفِي الْحَدِيثِ فَضِيلَةٌ لِابْنِ مَسْعُودٍ جَلِيلَةٌ لِشَهَادَةِ حُذَيْفَةَ لَهُ بِأَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ شَبَهًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْخِصَالِ، وَفِيهِ تَوَقَّى حُذَيْفَةُ حَيْثُ قَالَ: مِنْ حِينِ يَخْرُجُ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ فِي الشَّهَادَةِ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ مُشَاهَدَتُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَا أَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ لِأَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ إِذَا خَلَا يَكُونُ فِي انْبِسَاطِهِ لِأَهْلِهِ يَزِيدُ أَوْ يَنْقُصُ عَنْ هَيْئَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِهِ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إِثْبَاتَ نَقْصٍ فِي حَقِّ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى سَمْتِهِ وَهَدْيِهِ وَدَلِّهِ فَيَتَشَبَّهُونَ بِهِ، فَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ حُسْنَ الْهَدْيِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ الْعَمَلِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، فَكَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لِأَجْلِ هَذَا كَانَ يَحْرِصُ عَلَى حُسْنِ الْهَدْيِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ بِقَوْلِ حُذَيْفَةَ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلُ مَالِكٍ كَانَ عُمَرُ أَشْبَهَ النَّاسِ بِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَشْبَهُ النَّاسِ بِعُمَرَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَبِعَبْدِ اللَّهِ ابْنُهُ سَالِمٌ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: وَقَوْلُ حُذَيْفَةَ يُقَدَّمُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِ الشَّبَهِ بِحَمْلِ شَبَهِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالسَّمْتِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، وَقَوْلُ مَالِكٍ بِالْقُوَّةِ فِي الدِّينِ وَنَحْوِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَقَالَةُ حُذَيْفَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ، ويُؤَيِّدُ قَوْلَ مَالِكٍ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَلْزَمَ لِطَرِيقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُمَرَ، وَفِي السُّنَنِ وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَاطِمَةَ عليها السلام قُلْتُ: وَيُجْمَعُ بِالْحَمْلِ فِي هَذَا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَدْيِ عَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ.

قُلْتُ: وَيُجْمَعُ بِالْحَمْلِ عَلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ: حَجَّ عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ فَرَآهُ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَشْبَهَ صَلَاةً

ص: 510

وَلَا هَدْيًا وَلَا خُشُوعًا وَلَا لِبْسَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا الرَّجُلِ انْتَهَى. وَعَمْرٌو الْمَذْكُورُ

(1)

.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُخَارِقٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَيُقَالُ ابْنُ خَلِيفَةَ الْأَحْمَسِيُّ، وَطَارِقٌ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ الْأَحْمَسِيُّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَذَا هُوَ ابْنُ عُمَرَ فَوَهِمَ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ، وَرُوِيَ بِضَمِّهَا ضِدُّ الضَّلَالِ، زَادَ أَبُو خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فِي آخِرِهِ: وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَ {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ بِلَفْظِهَا، وَسَأَذْكُرُ شَرْحَهَا هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. هَكَذَا رَأَيْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ مَوْقُوفًا، وَقَدْ وَرَدَ بَعْضُهُ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَجَاءَ أَكْثَرُهُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا لِأَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ جَعْفَرٍ بِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ: إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ قَالَ يَحْيَى: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا الْحَدِيثَ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ قَالَ فِيهِ: وَيَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ، إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ الْحَدِيثَ.

‌71 - بَاب الصَّبْرِ في الْأَذَى وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}

6099 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ.

[الحديث 6099 - طرفه في: 7378]

6100 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ شَقِيقاً يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ قُلْتُ أَمَّا أَنَا لَاقُولَنَّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَغَضِبَ حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّبْرِ فِي الْأَذَى) أَيْ حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْمُجَازَاةِ عَلَى الْأَذَى قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْحِلْمِ (وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى جِهَادُ النَّفْسِ، وَقَدْ جَبَلَ اللَّهُ الْأَنْفُسَ عَلَى التَّأَلُّمِ بِمَا يُفْعَلُ بِهَا وَيُقَالُ فِيهَا ; وَلِهَذَا شَقَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسْبَتُهُمْ لَهُ إِلَى الْجَوْرِ فِي الْقِسْمَةِ،

(1)

بياض بالأصل، كأنه محل ترجمة عمرو.

ص: 511

لَكِنَّهُ حَلُمَ عَنِ الْقَائِلِ فَصَبَرَ لِمَا عَلِمَ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِ الصَّابِرِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَأْجُرُهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالصَّابِرُ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُنْفِقِ؛ لِأَنَّ حَسَنَتَهُ مُضَاعَفَةٌ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ، وَالْحَسَنَةُ فِي الْأَصْلِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَّا مَنْ شَاءَ الله أَنْ يَزِيدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْإِيمَانِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي فضل الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى حَدِيثٌ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَحَابِيٍّ لَمْ يُسَمَّ.

قَوْلُهُ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى (لَيْسَ أَحَدٌ أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِيِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِسَنَدِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ فِيهِ: أَحَدٌ بِغَيْرِ شَكٍّ.

قَوْلُهُ: (أَصْبَرَ عَلَى أَذًى) هُوَ بِمَعْنَى الْحِلْمِ، أَوْ أَطْلَقَ الصَّبْرَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْحَبْسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ حَبْسُ الْعُقُوبَةِ عَلَى مُسْتَحِقِّهَا عَاجِلًا، وَهَذَا هُوَ الْحِلْمُ.

قَوْلُهُ: (عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ) قَدْ بَيَّنَهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ بِهِ وَيَرْزُقُهُمْ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ الْمَاضِيَةِ فِي بَابِ مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يَعْلَمُ بِلَفْظِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، أَنَّهَا قِسْمَةُ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنِ أَبِي وَائِلٍ لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ؛ أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى نَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) تَقَدَّمَتْ تَسْمِيَتُهُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ مَا أَرَادَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ أَمَا لَأَقُولَنَّ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: هِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أَمَّا بِتَشْدِيدِهَا وَلَيْسَ بِبَيِّنٍ. قُلْتُ: وَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَمَ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ التَّخْفِيفَ، وَيُوَجِّهُ التَّشْدِيدَ عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ أَمَّا إِذْ قُلْتَ ذَلِكَ لَأَقُولَنَّ.

قَوْلُهُ: (فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ) قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ بِأَكْثَرِ مِنْ عَشْرَةِ أَبْوَابٍ بِلَفْظِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَهُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ الْمُعْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ) فِي رِوَايَةٍ أَنْ بِفَتْحٍ وَتَخْفِيفٍ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ فَذَكَرَهُ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ فَقَالَ: فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى الْحَدِيثَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ إِخْبَارِ الْإِمَامِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ بِمَا يُقَالُ فِيهِمْ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ لِيُحَذِّرُوا الْقَائِلَ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا يُبَاحُ مِنَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ لِأَنَّ صُورَتَهُمَا مَوْجُودَةٌ فِي صَنِيعِ ابْنِ مَسْعُودٍ، هَذَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ أَنَّ قَصْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَ نُصْحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِعْلَامَهُ بِمَنْ يَطْعَنُ فِيهِ مِمَّنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ النِّفَاقَ لِيَحْذَرَ مِنْهُ، وَهَذَا جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ لِيُؤْمَنَ مِنْ كَيْدِهِمْ، وَقَدِ ارْتَكَبَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ بِمَا قَالَ: إِثْمًا عَظِيمًا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ. وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْفَضْلِ قَدْ يُغْضِبُهُمْ مَا يُقَالُ فِيهِمْ مِمَّا لَيْسَ فِيهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اقْتِدَاءً بِمُوسَى عليه السلام، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: قَدْ أُوذِيَ مُوسَى إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} قَدْ حُكِيَ فِي صِفَةِ أَذَاهُمْ لَهُ ثَلَاثُ قَصَصٍ: إِحْدَاهَا قَوْلُهُمْ هُوَ آدَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُ ذَلِكَ وَشَرْحُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.

ثَانِيهَا فِي قِصَّةِ مَوْتِ هَارُونَ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ أَيْضًا فِي قِصَّةِ مُوسَى، ثَالِثُهَا فِي قِصَّتِهِ مَعَ قَارُونَ حَيْثُ أَمَرَ الْبَغِيَّ أَنْ تَزْعُمَ أَنَّ مُوسَى

ص: 512

رَاوَدَهَا حَتَّى كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَلَاكِ قَارُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ قَارُونَ فِي آخِرِ أَخْبَارِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.

‌72 - بَاب مَنْ لَمْ يُوَاجِهْ النَّاسَ بِالْعِتَابِ

6101 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً.

[الحديث 6601 - طرفه في: 7301]

6102 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ هُوَ ابْنُ أَبِي عُتْبَةَ مَوْلَى أَنَسٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئاً يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يُوَاجِهِ النَّاسَ بِالْعِتَابِ) أَيْ حَيَاءً مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ أَبُو الضُّحَى، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ابْنُ عِمْرَانَ الْبَطِينُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ: عَنْ أَبِي الضُّحَى وَمِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالَ نَحْوَ جَرِيرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَذَلِكَ، وَمِنْ طَرِيقِ أبي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَتَرَخَّصَ فِيهِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرٍ.

قَوْلُهُ: (فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَبَلَغَ ذَلِكَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَأَنَّهُمْ كَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا.

قَوْلُهُ: (فَخَطَبَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ.

قَوْلُهُ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ مَا بَالُ رِجَالٍ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا لَا يُنَافِي التَّرْجَمَةَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُوَاجَهَةُ مَعَ التَّعْيِينِ، كَأَنْ يَقُولَ: مَا بَالُكَ يَا فُلَانُ تَفْعَلُ كَذَا، وَمَا بَالُ فُلَانٍ يَفْعَلُ كَذَا. فَأَمَّا مَعَ الْإِبْهَامِ فَلَمْ تَحْصُلِ الْمُوَاجَهَةُ، وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهَا مَوْجُودَةً، وَهِيَ مُخَاطَبَةٌ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ وَلَمْ يُمَيَّزْ عَنْهُمْ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُخَاطَبْ.

قَوْلُهُ: (يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ بَلَغَهُمْ عَنِّي أَمْرٌ تَرَخَّصْتُ فِيهِ فَكَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ إِنِّي لِأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) جَمَعَ بَيْنَ الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، أَيْ أنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ رَغْبَتَهُمْ عَمَّا أَفْعَلُ أَقْرَبُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ أَعْلَمَهُمْ بِالْقُرْبَةِ وَأَوْلَاهُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَيَغْضَبُ ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا وَقَدْ أَوْضَحْتُ شَرْحَهُ هُنَاكَ، وَذَكَرْتُ فِيهِ أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ أَفْرَادِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَطَرِيقُ مَسْرُوقٍ هَذِهِ مُتَابَعَةٌ جَيِّدَةٌ لِأَصْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَفِيقًا بِأُمَّتِهِ؛ فَلِذلِكَ خَفَّفَ عَنْهُمُ الْعِتَابَ ; لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يَجُوزُ لَهُمْ مِنَ الْأَخْذِ بِالشِّدَّةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا لَأَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى فِعْلِهِ. قُلْتُ: أَمَّا الْمُعَاتَبَةُ فَقَدْ حَصَلَتْ

ص: 513

مِنْهُ لَهُمْ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُمَيِّزِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ ذَلِكَ سَتْرًا عَلَيْهِ، فَحَصَلَ مِنْهُ الرِّفْقَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا بِتَرْكِ الْعِتَابِ أَصْلًا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بكون مَا فَعَلُوهُ غَيْرَ حَرَامٍ فَوَاضِحٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهُمْ بِفِعْلِ مَا فَعَلَهُ هُوَ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَمِّ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الْمُبَاحِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ، وَالْإِنْكَارِ وَالتَّلَطُّفِ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ أَعْرِفْ أَعْيَانَ الْقَوْمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا الشَّيْءَ الَّذِي تَرَخَّصَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وَجَدْتُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ بِهِ ذَلِكَ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ فَأَغْتَسِلُ وَأَصُومُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلنَا، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي وَنَحْوُ هَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ ثَلَاثَةَ رَهْطٍ سَأَلُوا عَنْ عَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السِّرِّ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قَوْلُهُمْ: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَفِيهِ قَوْلُهُ لهم: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ.

وثالث أحاديث الباب: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ يَأْتِي فِي بَابِ الْحَيَاءِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا فِي بَابِ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ ; لِأَنَّهُمْ جَزَمُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ مَا يَكْرَهُهُ بِتَغَيُّرِ وَجْهِهِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ.

‌73 - بَاب مَنْ أكفر أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ

6103 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

6104 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا".

6105 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلَامِ كَاذِباً فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَكْفَرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ) كَذَا قَيَّدَ مُطْلَقَ الْخَبَرِ بِمَا إِذَا صَدَرَ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ مِنْ قَائِلِهِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) أَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ ابْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ فَهُوَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّارِمِيُّ، جَزَمَ بِذَلِكَ أَبُو نَصْرٍ الْكَلَابَاذِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْجَمِيعِ بِالْعَنْعَنَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي

ص: 514

رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ الْمُعَلَّقَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ) هُوَ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْمُعَلَّقِ وَحَدِيثٍ آخَرَ مَوْصُولٍ مَضَى فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) يَعْنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْيَمَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ النَّصرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا لَيْسَ فِيهِ بَيْنَ يَحْيَى، وَأَبِي سَلَمَةَ وَاسِطَةٌ، وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ أبي حُذَيْفَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ بِهَذَا السَّنَدِ وَقَالَ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ لَمْ يُذْكَرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ. انْتَهَى. وَقَدْ رَفَعَهُ النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ كَمَا تَرَى، وَدَلَّ صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بَيْنَ يَحْيَى، وَأَبِي سَلَمَةَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ لَمْ تَقْدَم فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بِدُونِ ذِكْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عِنْدَهُ، إِمَّا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ يَحْيَى سَمِعَهُ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ بِوَاسِطَةٍ ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَعْتَدَّ بِزِيَادَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ لِضَعْفِ حِفْظِهِ عِنْدَهُ.

وَقَدِ اسْتَدْرَكَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَيْهِ إِخْرَاجَهُ لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَقَالَ: يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ مُدَلِّسٌ، وَقَدْ زَادَ فِيهِ عِكْرِمَةُ رَجُلًا، وَالْحَقُّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُتَعَقَّبُ بِهِ الْبُخَارِيُّ لِأَنَّهُ لَمْ تَخْفَ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ بَلْ عَرَفَهَا وَأَبْرَزَهَا وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا لَا تَقْدَحُ، وَكَان ذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ مَعْرُوفٌ وَمَتْنُهُ مَشْهُورٌ مَرْوِيٌّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ مَرَاتِبَ الْعِلَلِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَأَنَّ مَا ظَاهِرُهُ الْقَدْحُ مِنْهَا إِذَا انْجَبَرَ زَالَ عَنْهُ الْقَدْحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثم ذكر المصنف حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمَعْنَى.

وحَدِيثُ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ كذلك، وتَقَدَّمَ شَرْحُهُما في الباب المشار إليه. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كُنْتُ أَسْأَلُ الْمُهَلَّبَ كَثِيرًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ لِصُعُوبَتِهِ فَيُجِيبُنِي بِأَجْوِبَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ قَالَ: قَوْلُهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ يَعْنِي فَهُوَ كَاذِبٌ لَا كَافِرٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَالْتَزَمَ الْمِلَّةَ الَّتِي حَلَفَ بِهَا قَالَ عليه السلام: فَهُوَ كَمَا قَالَ مِنَ الْتِزَامِ تِلْكَ الْمِلَّةِ إِنْ صَحَّ قَصْدُهُ بِكَذِبِهِ إِلَى الْتِزَامِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، لَا فِي وَقْتٍ ثَانٍ إِذَا كَانَ ذلك عَلَى سَبِيلِ الْخَدِيعَةِ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ. قُلْتُ: وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ كَافِرًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَالْكَافِرِ فِي حَالِ حَلِفِهِ بِذَلِكَ خَاصَّةً، وَسَيَأْتِي أَنَّ غَيْرَهُ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ.

‌74 - بَاب مَنْ لَمْ يَرَ إِكْفَارَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا أَوْ جَاهِلًا

وَقَالَ عُمَرُ، لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: إِنَّهُ نَافق، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ

6106 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا سَلِيمٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رضي الله عنه كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَاةَ، فَقَرَأَ بِهِمْ الْبَقَرَةَ قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ ثَلَاثًا. اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا،

ص: 515

وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَنَحْوَهَما.

6107 -

حَدَّثَنا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حدثنا المغيرة، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ.

6108 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ، وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ إِكْفَارَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا أَوْ جَاهِلًا) أَيْ بِالْحُكْمِ أَوْ بِحَالِ الْمَقُولِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ، لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِنَّهُ نَافَقَ)، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مُنَافِقٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا مَعَ شَرْحِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ.

ثم ذكر حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حَيْثُ طَوَّلَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَفَارَقَهُ الرَّجُلُ فَصَلَّى وَحْدَهُ، فَقَالَ مُعَاذٌ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، وَقد تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ أَبُوهُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ. وَقَوْلُهُ فَتَجَوَّزُ رَجُلٌ بِالْجِيمِ وَالزَّاي لِلْجَمِيعِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيِ انْحَازَ فَصَلَّى وَحْدَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو الْمُغِيرَةِ هُوَ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ الْحِمْصِيُّ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ قَدْ حَدَّثَ عَنْهُ كَثِيرًا بِلَا وَاسِطَةٍ. وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ مَعَ شَرْحِهِ، وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَاضِحٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْحَالِفِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى بِقَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَدِيمَ حَالُهُ عَلَى مَا قَالَ فَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ حُبُوطِ عَمَلِهِ فِيمَا نَطَقَ بِهِ مِنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَنَفَى عَنْهُ الْإِيمَانَ فِي حَالَةِ الزِّنَا خَاصَّةً انْتَهَى. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِطْلَاقٌ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ تَعْلِيمُ مَنْ نَسِيَ أَوْ جَهِلَ فَحَلَفَ بِذَلِكَ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى مَا يُكَفِّرُ عَنْهُ مَا وَقَعَ فِيهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ أَرْشَدَ مَنْ تَلَفَّظَ بِشَيْءٍ مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُ التَّلَفُّظُ بِهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى مَا يَرْفَعُ الْحَرَجَ عَنِ الْقَائِلِ أَنْ لَوْ قَالَ ذَلِكَ قَاصِدًا إِلَى مَعْنَى مَا قَالَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْجِيهَ هَذَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَمُنَاسَبَةِ الْأَمْرِ بِالصَّدَقَةِ لِمَنْ قَالَ أُقَامِرُكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْمَالِ فِي الْبَاطِلِ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ فِي الْحَقِّ.

ثم ذكر المصنف حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي حَلِفِ عُمَرَ بِأَبِيهِ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَقَصَدَ بِذِكْرِهِ هُنَا الْإِشَارَةَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ لَكِنْ لَمَّا كَانَ حَلِفُ عُمَرَ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يسمع النَّهْيُ كَانَ مَعْذُورًا فِيمَا صَنَعَ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى نَهْيهِ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ أَنَّ حَقَّ أَبِيهِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ لِعَبْدِهِ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌75 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الْغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لِأَمْرِ اللَّهِ تعالى

ص: 516

وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}

6109 -

حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، وَقَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ.

6110 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إِنِّي لَاتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا قَالَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَباً فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ قَالَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ".

6111 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَأَى فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً فَحَكَّهَا بِيَدِهِ فَتَغَيَّظَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ وَجْهِهِ فَلَا يَتَنَخَّمَنَّ حِيَالَ وَجْهِهِ فِي الصَّلَاةِ".

6112 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: "عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الإِبِلِ قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا".

6113 -

وَقَالَ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: "احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً أَوْ حَصِيراً فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيهَا فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَباً فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الْغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لِأَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ

ص: 517

عَلَيْهِمْ} كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى، إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَمْتَثِلُ فِيهِ أَمْرَ اللَّهِ مِنَ الشِّدَّةِ. وَذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ تَقَدَّمَتْ كُلُّهَا وَفِي كُلٍّ مِنْهَا ذَكَرَ غَضَبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ مَرْجِعُهَا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَأَظْهَرَ الْغَضَبَ فِيهَا لِيَكُونَ أَوْكَدَ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْقِرَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي اللِّبَاسِ، وَيَسَرَةُ شَيْخُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَالْمُهْمَلَةِ.

الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ تَطْوِيلِ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي النُّخَامَةِ فِي الْقِبْلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ: حِيَالَ وَجْهِهِ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ خَفِيفَةٌ أَيْ تِلْقَاءَه.

الرَّابِعُ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي اللُّقَطَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ.

الْخَامِسُ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجَيْرَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ، وَحُجَيْرَةٌ تَصْغِيرُ حُجْرَةٍ بِالرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ رِوَايَةٌ بِالزَّايِ، وَيُقَالُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ، وَالْخَصَفَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ فَاءٌ: مَا يُتَّخَذُ مِنْ خُوصِ الْمُقْلِ أَوِ النَّخْلِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَقَالَ الْمَكِّيُّ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَلْخِيُّ أَحَدُ مَشَايِخِهِ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، عَنِ الْمَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِتَمَامِهِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ شَيْخُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ هُوَ الزِّيَادِيُّ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ الْكَلَابَاذِيُّ: أَخْرَجَ لَهُ شِبْهَ الْمَقْرُونِ! وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: رَوَى لَهُ اسْتِشْهَادًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ الْبُخَارِيِّ بِقَلِيلٍ، مَاتَ فِي حُدُودِ الْخَمْسِينَ وَيُقَالُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي حَوَاشِيهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ غُنْدَرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى لَفْظِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ.

وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مُغْضَبًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ غَضَبَهُ لِكَوْنِهِمُ اجْتَمَعُوا بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَمْ يَكْتَفُوا بِالْإِشَارَةِ مِنْهُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِمْ، بَلْ بَالَغُوا فَحَصَبُوا بَابَهُ وَتَتَبَّعُوهُ، أَوْ غَضِبَ لِكَوْنِهِ تَأَخَّرَ إِشْفَاقًا عَلَيْهِمْ لِئَلَّا تُفْرَضَ عَلَيْهِم وَهُمْ يَظُنُّونَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ أَيْ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا صَلَاةُ النَّافِلَةِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ فِي بَيْتِهِ مِنْ فَرِيضَةٍ، وَزَيَّفَهُ بِحَدِيثِ الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌76 - بَاب الْحَذَرِ مِنْ الْغَضَبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}

وَقَوْلِهِ عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

6114 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ.

6115 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ قَالَ اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَباً قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَاعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ". فَقَالُوا

ص: 518

لِلرَّجُلِ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ".

6116 -

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَوْصِنِي قَالَ لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَاراً قَالَ لَا تَغْضَبْ".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَذَرِ مِنَ الْغَضَبِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} وَقَوْلُهُ عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى قَوْلِهِ: الْمُحْسِنِينَ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي الْبَابِ فَعِنْدَ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ يَصْطَرِعُونَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: فُلَانٌ مَا يُصَارِعُ أَحَدًا إِلَّا صَرَعَهُ، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟ رَجُلٌ كَلَّمَهُ رَجُلٌ فَكَظَمَ غَيْظَهُ فَغَلَبَهُ وَغَلَبَ شَيْطَانَهُ وَغَلَبَ شَيْطَانَ صَاحِبِهِ رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَلَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْغَضَبِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا ضَمَّ مَنْ يَكْظِمُ غَيْظَهُ إِلَى مَنْ يَجْتَنِبُ الْفَوَاحِشَ كَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقْصُودِ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ) بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ: الَّذِي يَصْرَعُ النَّاسَ كَثِيرًا بِقُوَّتِهِ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، وَالصُّرْعَةُ بِسُكُونِ الرَّاءِ بِالْعَكْسِ وَهُوَ مَنْ يَصْرَعُهُ غَيْرُهُ كَثِيرًا، وَكُلُّ مَا جَاءَ بِهَذَا الْوَزْنِ بِالضَّمِّ وَبِالسُّكُونِ فَهُوَ كَذَلِكَ كَهُمْزَةٍ وَلُمْزَةٍ وَحُفْظَةٍ وَخُدْعَةٍ وَضُحْكَةٍ، وَوَقَعَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَوَّلُهُ مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ قَالَ ابْنُ التِّينِ: ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِسُكُونِهَا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ عَكْسُ الْمَطْلُوبِ، قَالَ: وَضُبِطَ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ بِفَتْحِ الصَّادِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ - كَرَّرَهَا ثَلَاثًا - الَّذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الزِّمِّيُّ بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، لَمْ أَرَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ رِوَايَةً إِلَّا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَأَبُو حَصِينٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) خَالَفَهُ الْأَعْمَشُ فَقَالَ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا لَوْلَا عَنْعَنَةُ الْأَعْمَشِ.

قَوْلُهُ: (أنَّ رَجُلًا) هُوَ جَارِيَةُ بِالْجِيمِ ابْنُ قُدَامَةَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ مُبْهَمًا وَمُفَسَّرًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِغَيْرِهِ، فَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي قَوْلًا أَنْتَفِعُ بِهِ وَأَقْلِلْ، قَالَ: لَا تَغْضَبْ، وَلَكَ الْجَنَّةُ وَفِيهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: لَا تَغْضَبْ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ قَوْلًا وَأَقْلِلْ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ.

قَوْلُهُ: (أَوْصِنِي) فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ مَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ لَعَلِّي أَعِيهِ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ نَحْوُهُ.

قَوْلُهُ: (فَرَدَّدَ مِرَارًا) أَيْ رَدَّدَ السُّؤَالَ يَلْتَمِسُ أَنْفَعَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أبلغ، أَوْ أَعَمَّ، فَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا تَغْضَبْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: كُلُّ ذَلِكَ

ص: 519

يَقُولُ لَا تَغْضَبْ، وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: لَا تَغْضَبْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِيهَا بَيَانُ عَدَدِ الْمِرَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلَاثًا لِتُفْهَمَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ كَانَ لَا يُرَاجَعُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَزَادَ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ قَالَ: تَفَكَّرْتُ فِيمَا قَالَ فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تَغْضَبِ اجْتَنِبْ أَسْبَابَ الْغَضَبِ وَلَا تَتَعَرَّضْ لِمَا يَجْلِبُهُ. وَأَمَّا نَفْسُ الْغَضَبِ فَلَا يَتَأَتَّى النَّهْيُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لَا يَزُولُ مِنَ الْجِبِلَّةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الطَّبْعِ الْحَيَوَانِيِّ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ، وَمَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُكْتَسَبُ بِالرِّيَاضَةِ فَهُوَ الْمُرَادُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَغْضَبْ لِأَنَّ أَعْظَمَ مَا يَنْشَأُ عَنه الْغَضَبِ الْكِبْرُ لِكَوْنِهِ يَقَعُ عِنْدَ مُخَالَفَةِ أَمْرٍ يُرِيدُهُ فَيَحْمِلُهُ الْكِبْرُ عَلَى الْغَضَبِ، فَالَّذِي يَتَوَاضَعُ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ يَسْلَمُ مِنْ شَرِّ الْغَضَبِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَفْعَلْ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ الْغَضَبُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أنَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ أَشَدُّ مِنْ مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ أَعْظَمَ النَّاسِ قُوَّةً.

وَقَالَ غَيْرُهُ: لَعَلَّ السَّائِلَ كَانَ غَضُوبًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ كُلَّ أَحَدٍ بِمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ، فَلِهَذَا اقْتَصَرَ فِي وَصِيَّتِهِ لَهُ عَلَى تَرْكِ الْغَضَبِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: جَمَعَ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: لَا تَغْضَبْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّ الْغَضَبَ يَئُولُ إِلَى التَّقَاطُعِ وَمَنْعِ الرِّفْقِ، وَرُبَّمَا آلَ إِلَى أَنْ يُؤْذِيَ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ فَيُنْتَقَصُ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَعَلَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ شَهْوَتِهِ وَمِنْ غَضَبِهِ، وَكَانَتْ شَهْوَةُ السَّائِلِ مَكْسُورَةٌ فَلَمَّا سَأَلَ عَمَّا يَحْتَرِزُ بِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ نَهَاهُ عَنِ الْغَضَبِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ نَفْسَهُ عِنْدَ حُصُولِهِ كَانَ قَدْ قَهَرَ أَقْوَى أَعْدَائِهِ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، لِأَنَّ أَعْدَى عَدُوٍّ لِلشَّخْصِ شَيْطَانُهُ وَنَفْسُهُ، وَالْغَضَبُ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا، فَمَنْ جَاهَدَهُمَا حَتَّى يَغْلِبَهُمَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْمُعَالَجَةِ كَانَ لِقَهْرِ نَفْسِهِ عَنِ الشَّهْوَةِ أَيْضًا أَقْوَى. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ: أَرَادَ لَا تَعْمَلْ بَعْدَ الْغَضَبِ شَيْئًا مِمَّا نَهَيْتُ عَنْهُ، لَا أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ جُبِلَ عَلَيْهِ وَلَا حِيلَةَ فِي دَفْعِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: خَلَقَ اللَّهُ الْغَضَبَ مِنَ النَّارِ وَجَعَلَهُ غَرِيزَةً فِي الْإِنْسَانِ، فَمَهْمَا قَصَدَ أَوْ نُوزِعَ فِي غَرَضٍ مَا اشْتَعَلَتْ نَارُ الْغَضَبِ، وَثَارَتْ حَتَّى يَحْمَرَّ الْوَجْهُ وَالْعَيْنَانِ مِنَ الدَّمِ ; لِأَنَّ الْبَشَرَةَ تَحْكِي لَوْنَ مَا وَرَاءَهَا، وَهَذَا إِذَا غَضِبَ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَاسْتَشْعَرَ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ فَوْقَهُ تَوَلَّدَ مِنْهُ انْقِبَاضُ الدَّمِ مِنْ ظَاهِرِ الْجِلْدِ إِلَى جَوْفِ الْقَلْبِ فَيَصْفَرُّ اللَّوْنُ حُزْنًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى النَّظِيرِ تَرَدَّدَ الدَّمُ بَيْنَ انْقِبَاضٍ وَانْبِسَاطٍ فَيَحْمَرُّ وَيَصْفَرُّ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْغَضَبِ تَغَيُّرُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، كَتَغَيُّرِ اللَّوْنِ وَالرِّعْدَةِ فِي الْأَطْرَافِ وَخُرُوجِ الْأَفْعَالِ عَنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَاسْتِحَالَةِ الْخِلْقَةِ حَتَّى لَوْ رَأَى الْغَضْبَانُ نَفْسَهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ لَكَانَ غَضَبُهُ حَيَاءً مِنْ قُبْحِ صُورَتِهِ وَاسْتِحَالَةِ خِلْقَتِهِ، هَذَا كُلُّهُ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَقُبْحُهُ أَشَدُّ مِنَ الظَّاهِرِ ; لِأَنَّهُ يُوَلِّدُ الْحِقْدَ فِي الْقَلْبِ وَالْحَسَدَ وَإِضْمَارَ السُّوءِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، بَلْ أَوْلَى شَيْءٍ يَقْبُحُ مِنْهُ بَاطِنُهُ، وَتَغَيُّرُ ظَاهِرِهِ ثَمَرَةُ تَغَيُّرِ بَاطِنِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ أَثَرُهُ فِي الْجَسَدِ، وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي اللِّسَانِ فَانْطِلَاقُهُ بِالشَّتْمِ وَالْفُحْشِ الَّذِي يَسْتَحِي مِنْهُ الْعَاقِلُ وَيَنْدَمُ قَائِلُهُ عِنْدَ سُكُونِ الْغَضَبِ وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْغَضَبِ أَيْضًا فِي الْفِعْلِ بِالضَّرْبِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِنْ فَاتَ ذَلِكَ بِهَرَبِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَيُمَزِّقُ ثَوْبَ نفسه وَيَلْطِمُ خَدَّهُ، وَرُبَّمَا سَقَطَ صَرِيعًا، وَرُبَّمَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَسَرَ الْآنِيَةَ وَضَرَبَ مَنْ لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ جَرِيمَةٌ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ عَرَفَ مِقْدَارَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ اللَّطِيفَةُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَغْضَبْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَاسْتِجْلَابِ الْمَصْلَحَةِ فِي دَرْءِ

ص: 520

الْمَفْسَدَةِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ إِحْصَاؤُهُ وَالْوُقُوفُ عَلَى نِهَايَتِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْغَضَبِ الدُّنْيَوِيِّ لَا الْغَضَبِ الدِّينِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيُعِينُ عَلَى تَرْكِ الْغَضَبِ اسْتِحْضَارُ مَا جَاءَ فِي كَظْمِ الْغَيْظِ مِنَ الْفَضْلِ، وَمَا جَاءَ فِي عَاقِبَةِ ثَمَرَةِ الْغَضَبِ مِنَ الْوَعِيدِ، وَأَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيْطَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، وَأَنْ يَتَوَضَّأَ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ عَطِيَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الطُّوفِيُّ: أَقْوَى الْأَشْيَاءِ فِي دَفْعِ الْغَضَبِ اسْتِحْضَارُ التَّوْحِيدِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ أَنْ لَا فَاعِلَ إِلَّا اللَّهُ، وَكُلُّ فَاعِلٍ غَيْرُهُ فَهُوَ آلَةٌ لَهُ، فَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ بِمَكْرُوهٍ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَاسْتَحْضَرَ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَمْ يُمَكِّنْ ذَلِكَ الْغَيْرَ مِنْهُ انْدَفَعَ غَضَبُهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ غَضِبَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ غَضَبُهُ عَلَى رَبِّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَهُوَ خِلَافُ الْعُبُودِيَّةِ. قُلْتُ: وَبِهَذَا يَظْهَرُ السِّرُّ فِي أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي غَضِبَ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ أَمْكَنَهُ اسْتِحْضَارُ مَا ذُكِرَ، وَإِذَا اسْتَمَرَّ الشَّيْطَانُ مُتَلَبِّسًا مُتَمَكِّنًا مِنَ الْوَسْوَسَةِ لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنَ اسْتِحْضَارُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌77 - بَاب الْحَيَاءِ

6117 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: إِنَّ مِنْ الْحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ مِنْ الْحَيَاءِ سَكِينَةً. فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ؟

6118 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الإِيمَانِ".

6119 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مَوْلَى أَنَسٍ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَيَاءِ) بِالْمَدِّ تَقَدَّمَ تَعْرِيفُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَوَقَعَ لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ أَنَّ أَصْلَ الْحَيَاءِ الِامْتِنَاعُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الِانْقِبَاضِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاءِ وَلَازِمُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ أَصْلَهُ، وَلَمَّا كَانَ الِامْتِنَاعُ لَازِمَ الْحَيَاءِ كَانَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى مُلَازَمَةِ الْحَيَاءِ حَضٌّ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ فِعْلِ مَا يُعَابُ، وَالْحَيَاء بِالْقَصْرِ الْمَطَرُ. وذكر فيه ثلاثة أحاديث:

الأول: قَوْلُهُ: (عَنْ قَتَادَةَ) كَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ شُعْبَةَ، وَخَالَفَهُمْ شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ فَقَالَ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ بَدَلَ قَتَادَةَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ، وَوَقَعَ نَظِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَيْضًا لِلْعَلَاءِ بن زِيَادٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي السَّوَّارِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ رَاءٌ اسْمُهُ حُرَيْثٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ حُجَيْرُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْدَ مُسْلِمٍ سَمِعْتُ أَبَا السَّوَّارِ.

قَوْلُهُ: (الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ) فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ عِنْدَ أَحْمَدَ. وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ الْعَدَوِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ

ص: 521

وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ: الْحَيَاءُ مِنَ الدِّينِ؟ فَقَالَ: بَلْ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ.

قَوْلُهُ: (بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةُ مُصَغَّرٌ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي الدَّعَوَاتِ.

قَوْلُهُ: (مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ: إنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ الْعَدَوِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوِ الْحِكْمَةِ بِالشَّكِّ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَصْلِ إِصَابَةُ الْحَقِّ بِالْعِلْمِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنَ الشِّعْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

قَوْلُهُ: (إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ السَّكِينَةُ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ الْعَدَوِيِّ إِنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مُتَعَيِّنَةٌ وَمِنْ أَجْلِهَا غَضِبَ عِمْرَانُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي ذِكْرِ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مَا يُنَافِي كَوْنَهُ خَيْرًا، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَضِبَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْهُ ; لِأَنَّ التَّبْعِيضَ يُفْهِمُ أَنَّ مِنْهُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَهُوَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى كَلَامِ بُشَيْرٍ أَنَّ مِنَ الْحَيَاءِ مَا يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى الْوَقَارِ بِأَنْ يُوَقِّرَ غَيْرَهُ وَيَتَوَقَّرَ هُوَ فِي نَفْسِهِ. وَمِنْهُ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَتَحَرَّك النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِذِي الْمُرُوءَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عِمْرَانُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَاقَهُ فِي مَعْرِضِ مَنْ يُعَارِضُ كَلَامَ الرَّسُولِ بِكَلَامِ غَيْرِهِ، وَقِيلَ إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ لكَوْنَهُ خَافَ أَنْ يَخْلِطَ السُّنَّةَ بِغَيْرِهَا. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى حُسْنُ التَّوْجِيهِ السَّابِقِ.

قَوْلُهُ: (وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ: لَا أُرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُعَارِضُ فِيهِ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَتُعَرِّضُ فِيهِ بِحَدِيثِ الْكُتُبِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْمَاضِي، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ لِبُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ هَذَا قِصَّةً مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ تُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ يَتَسَاهَلُ فِي الْأَخْذِ عَنْ كُلِّ مَنْ لَقِيَهُ.

الحديث الثاني:

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) هُوَ الْمَاجِشُونُ.

قَوْلُهُ: (مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ) تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ مَعَ شَرْحِهِ، وَلَمْ أَعْرِفِ اسْمَ الرَّجُلِ وَلَا اسْمَ أَخِيهِ إِلَى الْآنِ، وَالْمُرَادُ بِوَعْظِهِ أَنَّهُ يَذْكُرُ لَهُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُلَازَمَتِهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ.

قَوْلُهُ: (الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ) حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَمَالُ الْإِيمَانِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسْتَحِي يَنْقَطِعُ بِحَيَائِهِ عَنِ الْمَعَاصِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَقِيَّةٌ، فَصَارَ كَالْإِيمَانِ الْقَاطِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعَاصِي. قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا جُعِلَ الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ غَرِيزَةً لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى قَانُونِ الشَّرْعِ يَحْتَاجُ إِلَى قَصْدٍ وَاكْتِسَابٍ وَعِلْمٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ خَيْرًا كُلُّهُ وَلَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ فَأَشْكَلَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَصُدُّ صَاحِبَهُ عَنْ مُوَاجَهَةِ مَنْ يَرْتَكِبُ الْمُنْكَرَاتِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْحُقُوقِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاءِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا يَكُونُ شَرْعِيًّا، وَالْحَيَاءُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ الْإِخْلَالُ بِالْحُقُوقِ لَيْسَ حَيَاءً شَرْعِيًّا، بَلْ هُوَ عَجْزٌ وَمَهَانَةٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ حَيَاءٌ لِمُشَابَهَتِهِ لِلْحَيَاءِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُشِيرَ إِلَى أن مَنْ كَانَ الْحَيَاءُ مِنْ خُلُقَهُ أَنَّ الْخَيْرَ يَكُونُ فِيهِ أَغْلَبُ فَيَضْمَحِلُّ مَا لَعَلَّهُ يَقَعُ مِنْهُ مِمَّا ذكَرُ فِي جَنْبِ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِالْحَيَاءِ مِنَ الْخَيْرِ، أَوْ لِكَوْنِهِ إِذَا صَارَ عَادَةً وَتَخَلَّقَ بِهِ صَاحِبُهُ يَكُونُ سَبَبًا لِجَلْبِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ مِنْهُ الْخَيْرُ بِالذَّاتِ وَالسَّبَبِ.

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ: الْحَيَاءُ الْمُكْتَسَبُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ بِهِ دُونَ الْغَرِيزِيِّ، غَيْرَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِيهِ غَرِيزَةً مِنْهُ فَإِنَّهَا تُعِينُهُ عَلَى الْمُكْتَسَبِ، وَقَدْ يَنْطَبِعُ بِالْمُكْتَسَبِ حَتَّى يَصِيرَ غَرِيزِا، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جُمِعَ لَهُ النَّوْعَانِ فَكَانَ فِي الْغَرِيزِيِّ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا،

ص: 522

وَكَانَ فِي الْحَيَاءِ الْمُكْتَسَبِ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا صلى الله عليه وسلم انْتَهَى.

وبهذا تعرف مناسبة ذكر الْحَدِيثُ الثالث هنا، وقد تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ عَنْ مَوْلَى أَنَسٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَحَكَى الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ الْفَرَبْرِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بَدَلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ الْبُخَارِيُّ، هَكَذَا جَزَمَ بِتَسْمِيَتِهِ هُنَا، وَتَقَدَّمَ كَذَلِكَ مُسَمًّى هُنَاكَ، وَفِي اسْمِهِ خِلَافٌ فَقِيلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ مُكَبَّرًا، وَقَوْلُهُ الْعَذْرَاءِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ رَاءٌ وَمَدٌّ هِيَ الْبِكْرُ، وَالْخِدْرُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُحْبَسُ فِيهِ وَتَسْتَتِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌78 - بَاب إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ

6120 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) كَذَا تَرْجَمَ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ وَضَمَّهُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ إِلَى تَرْجَمَةِ الْحَيَاءِ.

قَوْلُهُ: (زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ أَبُو خَيْثَمَةَ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى رِبْعِيِّ فِي آخِرِ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ) وَقَعَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ إِنَّ آخِرَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى وَالنَّاسُ يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ، وَالْعَائِدُ عَلَى مَا مَحْذُوفٌ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ وَللْعَائِدُ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ، وَأَدْرَكَ بِمَعْنَى بَلَغَ، وَإِذَا لَمْ تَسْتَحِ اسْم الْكَلِمَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِتَأْوِيلِ هَذَا الْقَوْلِ.

قَوْلُهُ: (فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ دُونَ الْخَبَرِ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي يَكُفُّ الْإِنْسَانَ عَنْ مُوَاقَعَةِ الشَّرِّ هُوَ الْحَيَاءُ فَإِذَا تَرَكَهُ صَارَ كَالْمَأْمُورِ طَبْعًا بِارْتِكَابِ كُلِّ شَرٍّ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ وَالْإِشَارَةُ إِلَى شَرْحِهِ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَوَاخِرِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأُشِيرَ هُنَا إِلَى زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ: الْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، أَيْ إِذَا أَرَدْتَ فِعْلَ شَيْءٍ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَسْتَحِي إِذَا فَعَلْتَهُ مِنَ اللَّهِ وَلَا مِنَ النَّاسِ فَافْعَلْهُ وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَى هَذَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ، وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْوَاجِبُ، وَالْمَنْدُوبُ يُسْتَحَى مِنْ تَرْكِهِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْحَرَامُ، وَالْمَكْرُوهُ يُسْتَحَى مِنْ فِعْلِهِ، وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَالْحَيَاءُ مِنْ فِعْلِهِ جَائِزٌ، وَكَذَا مَنْ تَرَكَهُ فَتَضَمَّنَ الْحَدِيثُ الْأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ. وَقِيلَ هُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، وَمَعْنَاهُ إِذَا نُزِعَ مِنْكَ الْحَيَاءُ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّ اللَّهَ مُجَازِيكَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ الْحَيَاءِ، وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَيْرِ، أَيْ مَنْ لَا يَسْتَحِي يَصْنَعُ مَا أَرَادَ.

‌79 - بَاب مَا لَا يُسْتَحْيَا مِنْ الْحَقِّ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ

6121 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ.

6122 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ

ص: 523

الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَلَا يَتَحَاتُّ، فَقَالَ الْقَوْمُ: هِيَ شَجَرَةُ كَذَا، هِيَ شَجَرَةُ كَذَا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ، وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ، فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ.

6123 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مَرْحُومٌ، سَمِعْتُ ثَابِتًا أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا فَقَالَتْ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ فِيَّ؟ فَقَالَتْ ابْنَتُهُ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا، فَقَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، عَرَضَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا لَا يُسْتَحْى مِنَ الْحَقِّ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ) هَذَا تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ الْمَاضِي فِي الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الْحَيَاءَ خَيْرٌ كُلَّهُ، أَوْ يُحْمَلُ الْحَيَاءُ فِي الْخَبَرِ الْمَاضِي عَلَى الْحَيَاءِ الشَّرْعِيِّ فَيَكُونُ مَا عَدَاهُ مِمَّا يُوجَدُ فِيهِ حَقِيقَةُ الْحَيَاءِ لُغَةً لَيْسَ مُرَادًا بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ.

وذكر فيه ثلاثة أحاديث تقدمت، وهي ظاهرة فيما ترجم له، أحدها: حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي سُؤَالِ أُمِّ سُلَيْمٍ عَنِ احْتِلَامِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.

وَعَنْ شُعْبَةَ:، حَدَّثَنَا خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ .. مِثْلَهُ. فَحَدَّثْتُ بِهِ عُمَرَ فَقَالَ: لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا.

ثانيها: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ إِنْكَارِ عُمَرَ عَلَى ابْنِهِ تَرْكَهُ قَوْلَهُ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ لِكَوْنِهِ اسْتَحَى، وَتَمَنِّيهِ أَنْ لَوْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا أَيْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ كَمَا تَقَدَّمَ صَرِيحًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

ثالثها: حَدِيثُ أَنَسٍ:

قَوْلُهُ: (مَرْحُومٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَطَّارُ.

قَوْلُهُ: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ اسْمِهَا، وقوله: فَقَالَتِ ابْنَتُهُ الضَّمِيرُ لِأَنَسٍ، وَاسْمُ ابْنَتِهِ فِيمَا أَظُنُّ أُمَيْنَةُ بِنُونٍ مُصَغَّرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.

‌80 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا. وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيفَ وَالتسري عَلَى النَّاسِ

6124 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَهُمَا: يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا. قَالَ أَبُو مُوسَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ يُصْنَعُ فِيهَا شَرَابٌ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ: الْبِتْعُ، وَشَرَابٌ مِنْ الشَّعِيرِ يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ.

6125 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا.

6126 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ، إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ

ص: 524

النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ بِهَا لِلَّهِ.

6127 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنَّا عَلَى شَاطِئِ نَهَرٍ بِالْأَهْوَازِ قَدْ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ، فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ عَلَى فَرَسٍ فَصَلَّى وَخَلَّى فَرَسَهُ، فَانْطَلَقَتْ الْفَرَسُ فَتَرَكَ صَلَاتَهُ، وَتَبِعَهَا حَتَّى أَدْرَكَهَا، فَأَخَذَهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَضَى صَلَاتَهُ، وَفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ، فَأَقْبَلَ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ؛ تَرَكَ صَلَاتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: مَا عَنَّفَنِي أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: إِنَّ مَنْزِلِي مُتَرَاخٍ، فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُ لَمْ آتِ أَهْلِي إِلَى اللَّيْلِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى مِنْ تَيْسِيرِهِ.

6128 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ح. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيفَ وَالتَّسَرِّي عَلَى النَّاسِ) أَمَّا حَدِيثُ يَسِّرُوا فَوَصَلَهُ فِي الْبَابِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرَ حَدِيثًا فِي صَلَاةِ الضُّحَى وَفِيهِ: وَكَانَ يُحِبُّ مَا خَفَّ عَلَى النَّاسِ وَفِي حَدِيثِ أَيْمَنَ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَفِيهِ: وَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ مَخَافَةَ أَنْ تَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا خُفِّفَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ مِنَ الْفَوَائِتِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَصَلَ فِي الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ وَفِيهِ أَنَّهُ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَرَأَى مِنْ

.

وذكر في الباب أيضا خمسة أحاديث:

الأول: حَدِيثُ أَنَسٍ: يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا. .

الحديث الثاني: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَلِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا.

قَوْلُهُ: (يَسِّرُوا) هُوَ أَمْرٌ بِالتَّيْسِيرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَخْذُ بِالتَّسْكِينِ تَارَةً، وَبِالتَّيْسِيرِ أُخْرَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّنْفِيرَ يُصَاحِبُ الْمَشَقَّةَ غَالِبًا، وَهُوَ ضِدُّ التَّسْكِينِ، وَالتَّبْشِيرَ يُصَاحِبُ التَّسْكِينَ غَالِبًا، وَهُوَ ضِدُّ التَّنْفِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ أَبُو مُوسَى وَمُعَاذٌ رضي الله عنهما إِلَى الْيَمَنِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْبِتْعِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالتَّيْسِيرِ فِيمَا كَانَ مِنَ النَّوَافِلِ مِمَّا كَانَ شَاقًّا لِئَلَّا يُفْضِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْمَلَلِ فَيَتْرُكَهُ أَصْلًا، أَوْ يُعْجَبُ بِعَمَلِهِ فَيُحْبَطُ فِيمَا رُخِّصَ فِيهِ مِنَ الْفَرَائِضِ كَصَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا لِلْعَاجِزِ، وَالْفِطْرِ فِي الْفَرْضِ لِمَنْ سَافَرَ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ، وَزَادَ غَيْرُهُ فِي ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحَدِهِمَا بُدٌّ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ.

وَإِسْحَاقُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، وَجَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، وَتَرَدَّدَ الْكَلَابَاذِيُّ وَتَبِعَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ هَلْ هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ أَوْ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ؟

الحديث الثالث: حَدِيثُ عَائِشَةَ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يُتَصَوَّرُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ مَا فِيهِ إِثْمٌ، وَمَا لَا إِثْمَ فِيهِ إِذَا صَدَرَ مِنَ الْكُفَّارِ

ص: 525

مَثَلًا، وَفِيهِ تَوْجِيهٌ آخَرُ تَقَدَّمَ هُنَاكَ.

الحديث الرابع: حَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ.

قَوْلُهُ: (وَفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَهُ رَأْيٌ يَظُنُّ أَنَّهُ مُحْسِنٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءِ بِنُونٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ أَيْ زَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يَقُولُ فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّأْيِ رَأْيُ الْخَوَارِجِ، وَالتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّحْقِيرِ، أَيْ رَأْيٌ فَاسِدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ.

الحَدِيثُ الخامس: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ الرِّفْقِ وَأَنَّ شَرْحَهُ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْغُلُوَّ وَمُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ فِي الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا مَذْمُومٌ، وَأَنَّ الْمَحْمُودَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ مَا أَمْكَنَتِ الْمُوَاظَبَةُ مَعَهُ، وَأَمِنَ صَاحِبُهُ الْعُجْبَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ.

‌81 - بَاب الِانْبِسَاطِ إِلَى النَّاسِ

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَالِطِ النَّاسَ، وَدِينَكَ لَا تَكْلِمَنَّهُ، وَالدُّعَابَةِ مَعَ الْأَهْلِ

6129 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟

[الحديث 6129 - طرفه في: 6203]

6130 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي".

قَوْلُهُ: (بَابُ الِانْبِسَاطِ إِلَى النَّاسِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَعَ النَّاسِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَالِطِ النَّاسَ وَدِينَكَ لَا تَكْلِمَنَّهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الْكَلْمِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ الْجَرْحُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَرُوِيَ بِالْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ الْكَافِ وَالنُّونُ مُشَدَّدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَوْلُهُ: وَدِينَكَ يَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ بِمُوَحَّدَتَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَالِطُوا النَّاسَ وَصَافُوهُمْ بِمَا يَشْتَهُونَ، وَدِينُكُمْ لَا تَكْلِمُنَّهُ وَهَذِهِ بِضَمِّ الْمِيمِ لِلْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: خَالِطُوا النَّاسَ وَزَايِلُوهُمْ فِي الْأَعْمَالِ وَعَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ لَكِنْ قَالَ: وَانْظُرُوا أَلَّا تَكْلِمُوا دِينَكُمْ.

قَوْلُهُ: (وَالدُّعَابَةُ مَعَ الْأَهْلِ) هُوَ بَقِيَّةُ التَّرْجَمَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى الِانْبِسَاطِ فهو بِالْجَرِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى بَابٍ فَيُقْرَأُ بِالرَّفْعِ، وَالدُّعَابَةُ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبَعْدَ الْأَلِفٍ مُوَحَّدَةٌ هِيَ الْمُلَاطَفَةُ فِي الْقَوْلِ بِالْمِزَاحِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا، قَالَ: إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا، وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلا تُمَازِحْهُ الْحَدِيثَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا فِيهِ إِفْرَاطٌ أَوْ مُدَاوَمَةٌ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ،

ص: 526

وَالتَّفَكُّرِ فِي مُهِمَّاتِ الدِّينِ، وَيَئُولُ كَثِيرًا إِلَى قَسْوَةِ الْقَلْبِ وَالْإِيذَاءِ وَالْحِقْدِ وَسُقُوطِ الْمَهَابَةِ وَالْوَقَارِ، وَالَّذِي يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْمُبَاحُ، فَإِنْ صَادَفَ مَصْلَحَةً مِثْلَ تَطَييبِ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ، وَمُؤَانَسَتِهِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: مِنَ الْغَلَطِ أَنْ يُتَّخَذَ الْمِزَاحُ حِرْفَةً، وَيُتَمَسَّكُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَزَحَ، فَهُوَ كَمَنْ يَدُورُ مَعَ الرِّيحِ حَيْثُ دَارَ، وَيَنْظُرُ رَقْصَهُمْ، وَيُتَمَسَّكُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِعَائِشَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِمْ.

وذكر فيه حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ النُّغَيْرِ، وسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنَ الشِّعْرِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

وحَدِيثُ عَائِشَةَ كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ، وَمُحَمَّدٌ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِيَ) أَيْ مِنْ أَقْرَانِهَا.

قَوْلُهُ: (يَتَقَمَّعَنَ) بِمُثَنَّاةٍ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِنُونٍ سَاكِنَةٍ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ يَتَغَيَّبْنَ مِنْهُ، وَيَدْخُلْنَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَمْعِ التَّمْرَةِ أَيْ يَدْخُلْنَ فِي السِّتْرِ كَمَا يُدْخِلْنَ التَّمْرَةَ فِي قِمَعِهَا.

قَوْلُهُ: (فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ) بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ أَيْ يُرْسِلُهُنَّ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ صُوَرِ الْبَنَاتِ وَاللَّعِبِ مِنْ أَجْلِ لَعِبِ الْبَنَاتِ بِهِنَّ، وَخُصَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ، وَبِهِ جَزَمَ عِيَاضٌ وَنَقَلَهُ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْعَ اللَّعِبِ لِلْبَنَاتِ لِتَدْرِيبِهِنَّ مِنْ صِغَرِهِنَّ عَلَى أَمْرِ بُيُوتِهِنَّ وَأَوْلَادِهِنَّ. قَالَ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَحَكَى عَنِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ لِابْنَتِهِ الصُّوَرَ، وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَقَدْ تَرْجَمَ ابْنُ حِبَّانَ الْإِبَاحَةَ لِصِغَارِ النِّسَاءِ اللَّعِبَ بِاللِّعَبِ، تَرْجَمَ إِبَاحَةَ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ اللَّعِبَ بِالْبَنَاتِ، فَلَمْ يُقَيَّدْ بِالصِّغَرِ وَفِيهِ نَظَرٌ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ لِعَائِشَةَ فِي ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: إِنْ كَانَتِ اللُّعَبُ كَالصُّورَةِ فَهُوَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَإِلَّا فَقَدْ يُسَمَّى مَا لَيْسَ بِصُورَةٍ لُعْبَةً، وَبِهَذَا جَزَمَ الْحَلِيمِيُّ فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ صُورَةٌ كَالْوَثَنِ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ اللَّعِبُ مَعَ الْبَنَاتِ أَيِ الْجَوَارِي، وَالْبَاءُ هُنَا بِمَعْنَى مَعَ حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ، وَرَدَّهُ. قُلْتُ: وَيَرُدُّهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي الْجَامِعِ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْهُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكُنَّ جِوَارِي يَأْتِينَ فَيَلْعَبْنَ بِهَا مَعِيَ وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ وَهُنَّ اللُّعَبُ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَغَيْرُهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي هَتْكِهِ السِّتْرَ الَّذِي نَصَبَتْهُ عَلَى بَابِهَا قَالَتْ: فَكَشَفَ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَلَى بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: بَنَاتِي. قَالَتْ: وَرَأَى فِيهَا فَرَسًا مَرْبُوطًا لَهُ جَنَاحَانِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قُلْتُ: فَرَسٌ. قَالَ: فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ؟ قُلْتُ: أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ خَيْلٌ لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ فَضَحِكَ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِاللُّعَبِ غَيْرُ الْآدَمِيَّاتِ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّعِبَ بِالْبَنَاتِ لَيْسَ كَالتَّلَهِّي بِسَائِرِ الصُّوَرِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا الْوَعِيدُ: وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لِعَائِشَةَ فِيهَا لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ غَيْرَ بَالِغٍ. قُلْتُ: وَفِي الْجَزْمِ بِهِ نَظَرٌ، لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ ; لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً إِمَّا أَكْمَلَتْهَا أَوْ جَاوَزَتْهَا أَوْ قَارَبَتْهَا. وَأَمَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ قَطْعًا، فَيَتَرَجَّحُ في رِوَايَةُ مَنْ قَالَ فِي خَيْبَرَ، وَيُجْمَعُ بِمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ التَّعَارُضِ.

‌82 - بَاب الْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ

وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ

ص: 527

6131 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ حَدَّثَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ: أَيْ عَائِشَةُ: إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ.

6132 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِداً لِمَخْرَمَةَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: "قَدْ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ" قَالَ أَيُّوبُ بِثَوْبِهِ وَأَنَّهُ يُرِيهِ إِيَّاهُ وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شَيْءٌ". رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ) هُوَ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَأَصْلُهُ الْهَمْزُ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُدَافَعَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الدَّفْعُ بِرِفْقٍ. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِيهِ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى إِيرَادِ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، فَمِمَّا وَرَدَ فِيهِ صَرِيحًا حديث لِجَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَفِي سَنَدِهِ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي آدَابِ الْحُكَمَاءِ بِسَنَدٍ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مُدَارَاةُ النَّاسِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَكْشِرُ) بِالْكَافِ السَّاكِنَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ السَّاكِنَةِ وَالنُّونِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْقَافِ السَّاكِنَةِ قِبلَ اللَّامُ الْمَكْسُورَةُ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ مِنَ الْقِلَا بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَهُوَ الْبُغْضُ، وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ جَزَمَ ابْنُ التِّينِ، وَمِثْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُزَّمِّلِ مِنَ الْكَشَّافِ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَالدِّينَوَرِيُّ فِي الْمُجَالَسَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ وَنَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ اللَّعْنِ وَلَمْ يَذْكُرِ الدِّينَوَرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ جُبَيْرَ بْنَ نُفَيْرٍ، وَرَوَيْنَاهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِي مِنْ طَرِيقِ كَامِلٍ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنَّا لَنَكْشِرُ أَقْوَامًا فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَ اللَّفْظَ الْمُعَلَّقَ سَوَاءً، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا وَالْكَشْرُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ أَوَّلِهِ ظُهُورُ الْأَسْنَانِ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عِنْدَ الضَّحِكِ، وَالِاسْمُ الْكِشْرَةُ كَالْعِشْرَةِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُدَارَاةُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ خَفْضُ الْجَنَاحِ لِلنَّاسِ، وَلِينُ الْكَلِمَةِ، وَتَرْكُ الْإِغْلَاظِ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ، وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ.

وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُدَارَاةَ هِيَ الْمُدَاهَنَةُ فَغَلَطَ ; لِأَنَّ الْمُدَارَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا وَالْمُدَاهَنَةُ مُحَرَّمَةٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ مِنَ الدِّهَانِ وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى الشَّيْءِ وَيُسْتَرُ بَاطِنُهُ، وَفَسَّرَهَا الْعُلَمَاءُ بِأَنَّها مُعَاشَرَةُ الْفَاسِقِ وَإِظْهَارُ الرِّضَا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ عَلَيْهِ، وَالْمُدَارَاةُ هِيَ الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ فِي التَّعْلِيمِ، وَبِالْفَاسِقِ فِي النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ، وَتَرْكُ الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَظْهَرُ مَا هُوَ فِيهِ، وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِلُطْفِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا

ص: 528

احْتِيجَ إِلَى تَأَلُّفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ثم ذكر حديثين تقدما: أحدهما: حَدِيثُ عَائِشَةَ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَوْضِعِ شَرْحِهِ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنَ اغْتِيَابِ أَهْلِ الْفَسَادِ، وَالنُّكْتَةُ فِي إِيرَادِهِ هُنَا التَّلْمِيحُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ بِلَفْظِ الْمُدَارَاةِ. وَهُوَ عِنْدَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ أُدَارِيهِ عَنْ نِفَاقِهِ، وَأَخْشَى أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ غَيْرَهُ.

والثاني: حَدِيثُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ وَفِيهِ قِصَّةُ أَبِيهِ مَخْرَمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ ; وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شَيْءٌ وَقَدْ رَمَزَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِهِ عَقِبَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ بِأَنَّهُ الْمُبْهَمَ فِيهِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ قَبْلُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرَّ رَجُلٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: بِئْسَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو الْعَشِيرَةِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ كَأَنَّ لَهُ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ. وَشَرَحَ ابْنُ بَطَّالٍ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ كَانَ مُنَافِقًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَأْمُورًا بِالْحُكْمِ بِمَا ظَهَرَ، لَا بِمَا يَعْلَمُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي الْمُبْهَمِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا، لَا مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَلَا عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ فِي مَخْرَمَةَ مَا قِيلَ لِمَا كَانَ فِي خُلُقِهِ مِنَ الشِّدَّةِ، فَكَانَ لِذَلِكَ فِي لِسَانِهِ بَذَاءَةٌ، وَأَمَّا عُيَيْنَةُ فَكَانَ إِسْلَامُهُ ضَعِيفًا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أَهْوَجَ، فَكَانَ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَلَمَّا جَاءَ قَالَ خَبَّأْتُ هَذَا لَكَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ قَدْ خَبَّأْتُ وَقَوْلُهُ: قَالَ أَيُّوبُ هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: بِثَوْبِهِ وَأَنَّهُ يُرِيهِ إِيَّاهُ وَالْمَعْنَى أَشَارَ أَيُّوبُ بِثَوْبِهِ لِيُرِي الْحَاضِرِينَ كَيْفِيَّةَ مَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ كَلَامِهِ مَعَ مَخْرَمَةَ، وَلَفْظُ الْقَوْلِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْفِعْلُ، وَقَوْلُهُ: رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ وَصُورَتُهُ مُرْسَلٌ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ إِلَخْ) أَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانَ وَصْلِ الْخَبَرِ، وَأَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَحَمَّادٍ وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُمَا الْإِرْسَالَ لَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْأَصْلِ مَوْصُولٌ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ وَصْلِ رِوَايَةِ حَاتِمٍ هَذِهِ فِي الشَّهَادَاتِ.

‌83 - بَاب لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ

وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ

6133 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ) اللَّدْغُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مَا يَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ، وَاللَّذْعُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَالْجُحْرُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا حَكِيمَ إِلَّا بِتَجْرِبَةٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِوَزْنِ عَظِيمٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَا حِلْمَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ إِلَّا بِتَجْرِبَةٍ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَّا لِذِي تَجْرِبَةٍ وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا حِلْمَ إِلَّا بِالتَّجَارِبِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ ثُمَّ انْتَبَهَ فَقَالَ: لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ. قَالَهَا ثَلَاثًا وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو عَثْرَةٍ، وَلَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ

ص: 529

وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: مَعْنَاهُ: لَا يَحْصُلُ الْحِلْمُ حَتَّى يَرْتَكِبَ الْأُمُورَ وَيَعْثُرَ فِيهَا فَيَعْتَبِرُ بِهَا وَيَسْتَبِينُ مَوَاضِعَ الْخَطَأِ وَيَجْتَنِبُهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَعْنَى لَا يَكُونُ حَلِيمًا كَامِلًا إِلَّا مَنْ وَقَعَ فِي زَلَّةٍ وَحَصَلَ مِنْهُ خَطَأٌ فَحِينَئِذٍ يَخْجَلُ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَسْتُرَ مَنْ رَآهُ عَلَى عَيْبٍ فَيَعْفُوَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ عَلِمَ نَفْعَهَا وَضَرَرَهَا فَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ الْحَلِيمِ بِذِي التَّجْرِبَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْحَكِيمِ بِخِلَافِهِ، وَأَنَّ الْحَلِيمَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ تَجْرِبَةٌ قَدْ يَعْثُرُ فِي مَوَاضِعَ لَا يَنْبَغِي لَهُ فِيهَا الْحِلْمُ بِخِلَافِ الْحَلِيمِ الْمُجَرِّبِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ أَثَرِ مُعَاوِيَةَ لِحَدِيثِ الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَخْرَجَه الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَكَذَا قَالَ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ فِيهِ، وَخَالَفَهُمْ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، وَزَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ فَقَالَا: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ زَمْعَةَ، وَابْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ، وَاسْتَغْرَبَهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُعَافَى قَالَ: وَأَمَّا زَمْعَةُ فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا أَبُو نُعَيْمٍ. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَرَوَاهُ عَنْ زَمْعَةَ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ.

قَوْلُهُ: (لَا يُلْدَغُ) هُوَ بِالرَّفْعِ عن صِيغَةِ الْخَبَرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، أَيْ لِيَكُنِ الْمُؤْمِنُ حَازِمًا حَذِرًا لَا يُؤْتَى مِنْ نَاحِيَةِ الْغَفْلَةِ، فَيُخْدَعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَمَا يَكُونُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ أَوْلَاهُمَا بِالْحَذَرِ، وَقَدْ رُوِيَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ فِي الْوَصْلِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَكَذَلِكَ قَرَأْنَاهُ، قِيلَ: مَعْنَى لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ قَائِلُ هَذَا أَنَّ عُمُومَ الْخَبَرِ يَتَنَاوَلُ هَذَا فَيُمْكِنُ وَإِلَّا فَسَبَبُ الْحَدِيثِ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّغْفِيلِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْفِطْنَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ إِذَا نُكِبَ مِنْ وَجْهٍ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الْأَكْثَرُ وَمِنْهُمُ الزُّهْرِيُّ رَاوِي الْخَبَرِ، فَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ لَمَّا قَدِمَ مِنْ عِنْدَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ قَالَ: أَوْفَى عَنِّي دَيْنِي، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ شِهَابٍ تَعُودُ تُدَانُ؟ قُلْتُ: لَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: لَا يُعَاقَبُ فِي الدُّنْيَا بِذَنْبٍ فَيُعَاقَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَامِلِ الَّذِي قَدْ أَوْقَفَتْهُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى غَوَامِضِ الْأُمُورِ حَتَّى صَارَ يَحْذَرُ مِمَّا سَيَقَعُ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُغَفَّلُ فَقَدْ يُلْدَغُ مِرَارًا.

قَوْلُهُ: (مِنْ جُحْرٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالسَّرَخْسِيِّ (وَاحِدٍ) وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ جُحْرِ حَيَّةٍ وَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِيهِ أَدَبٌ شَرِيفٌ أَدَّبَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ وَنَبَّهَهُمْ كَيْفَ يَحْذَرُونَ مِمَّا يَخَافُونَ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ حَذِرٌ أَخْرَجَهُ صَاحِبُ مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ قَالَ: وَهَذَا الْكَلَامُ مِمَّا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَوَّلُ مَا قَالَهُ لِأَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ وَكَانَ شَاعِرًا فَأُسِرَ بِبَدْرٍ فَشَكَا عَائِلَةً وَفَقْرًا فَمَنَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَطْلَقَهُ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، فَظَفِرَ بِهِ بِأُحُدٍ فَقَالَ: مُنَّ عَلَيَّ وَذَكَرَ فَقْرَهُ وَعِيَالَهُ؛ .. لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ: سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ، وَأُمِرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَأَخْرَجَ قِصَّتَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِيِ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي تَهْذِيبِ السِّيرَةِ بَلَغَنِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَئِذٍ: لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، وَصَنِيعُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْثَالِ مُشْكِلٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّهُ مَثَلٌ قَدِيمٌ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا السَّبَبُ يُضَعِّفُ الْوَجْهَ الثَّانِي يَعْنِي الرِّوَايَةَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ

ص: 530

عَلَى النَّهْيِ.

وَأَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ يُوَجَّهُ بِأَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى مِنْ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الْمَيْلَ إِلَى الْحِلْمِ جَرَّدَ مِنْهَا مُؤْمِنًا حَازِمًا فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، يَعْنِي لَيْسَ مِنْ شِيمَةِ الْمُؤْمِنِ الْحَازِمِ الَّذِي يَغْضَبُ لِلَّهِ أَنْ يَنْخَدِعَ مِنَ الْغَادِرِ الْمُتَمَرِّدِ، فَلَا يَسْتَعْمِلُ الْحِلْمَ فِي حَقِّهِ، بَلْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا قَالَ فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحِلْمَ لَيْسَ مَحْمُودًا مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ الْجُودَ لَيْسَ مَحْمُودًا مُطْلَقًا، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي وَصْفِ الصَّحَابَةِ:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} قَالَ: وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ بِالرَّفْعِ فَيَكُونُ إِخْبَارًا مَحْضًا، لَا يُفْهَمُ هَذَا الْغَرَضُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَتَكُونُ الرِّوَايَةُ بِصِيغَةِ النَّهْيِ أَرْجَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ احْتَرِسُوا مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَلَهُ عِلَّتَانِ، وَصَحَّ مِنْ قَوْلِ مُطَرِّفٍ التَّابِعِيِّ أَخْرَجَهُ مُسَدَّدٌ.

‌84 - بَاب حَقِّ الضَّيْفِ

6134 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، قُمْ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّكَ عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمُرٌ، وَإِنَّ مِنْ حَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَذَلِكَ الدَّهْرُ كُلُّهُ. قَالَ: فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ غَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: فَصُمْ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قُلْتُ: إني أُطِيقُ غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ، قُلْتُ: وَمَا صَوْمُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ؟ قَالَ: نِصْفُ الدَّهْرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ حَقِّ الضَّيْفِ).

قَوْلُهُ: (حُسَيْنٌ) هُوَ الْمُعَلِّمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قوله: وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَالزَّوْرُ بِفَتْحِ الزَّاي وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا رَاءٌ الزَّائِرُ، وَقَدْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

‌85 - بَاب إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ

وَقَوْلِهِ تعالى: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: يُقَالُ هُوَ زَوْرٌ، وَهَؤُلَاءِ زَوْرٌ وَضَيْفٌ، وَمَعْنَاهُ أَضْيَافُهُ وَزُوَّارُهُ؛ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ مِثْلُ قَوْمٍ رِضًا وَعَدْلٍ

ويُقَالُ مَاءٌ غَوْرٌ، وَمَاءَانِ غَوْرٌ، وَمِيَاهٌ غَوْرٌ، وَيُقَالُ: الْغَوْرُ الْغَائِرُ لَا تَنَالُهُ الدِّلَاءُ، كُلَّ شَيْءٍ غُرْتَ فِيهِ فَهُوَ مَغَارَةٌ

{تَزَاوَرُ} تَمِيلُ مِنْ الزَّوَرِ، وَالْأَزْوَرُ الْأَمْيَلُ

6135 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ.

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ

مِثْلَهُ، وَزَادَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.

ص: 531

6136 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.

6137 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى فيه؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ.

6138 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} يُشِيرُ إِلَى أَنَّ لَفْظَ ضَيْفٍ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ أَضْيَافٌ، وَالْكَثْرَةِ ضُيُوفٌ وَضِيفَانٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يُقَالُ هُوَ زَوْرٌ وَضَيْفٌ وَمَعْنَاهُ أَضْيَافُهُ وَزُوَّارُهُ ; لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ مِثْلَ قَوْمِ رِضًا وَعَدْلٍ، وَيُقَالُ مَاءٌ غَوْرٌ وَبِئْرٌ غَوْرٌ، وَمَاآنِ غَوْرٌ وَمِيَاهٌ غَوْرٌ) قُلْتُ: ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي وَالْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَطْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْفَرَّاءِ قَالَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} الْعَرَبُ تَقُولُ: مَاءٌ غَوْرٌ وَمَاآنِ غَوْرٌ وَمِيَاهٌ غَوْرٌ وَلَا يَجْمَعُونَ غَوْرًا وَلَا يُثَنُّونَهُ فَلَمْ يَقُولُوا مَاآنِ غَوْرَانِ وَلَا مِيَاهٌ أَغْوَارٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْرِ يُقَالُ هَؤُلَاءِ زَوْرُ فُلَانٍ وَضَيْفُ فُلَانٍ مَعْنَاهُ أَضْيَافُهُ وَزُوَّارُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَأُجْرِيَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ قَوْمٌ عَدْلٌ وَقَوْمٌ رِضًا وَمُقْنَعٌ وَقَالَ غَيْرُهُ: الزَّوْرُ جَمْعُ زَائِرٍ كَرَاكِبٍ وَرَكْبٌ. قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَجَزَمَ بِهِ فِي الصِّحَاحِ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ الْغَوْرُ الْغَائِرُ لَا تَنَالُهُ الدِّلَاءُ، كُلُّ شَيْءٍ غُرْتَ فِيهِ فَهُوَ مَغَارَةٌ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: غَوْرٌ أَيْ غَائِرٌ وَالْغَوْرُ مَصْدَرٌ.

قَوْلُهُ: (تَزَاوَرُ تَمِيلُ مِنَ الزَّوْرِ، وَالْأَزْوَرُ الْأَمْيَلُ). قُلْتُ: هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} أَيْ تَمِيلُ، وَهُوَ مِنَ الزَّوْرِ يَعْنِي بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ الْعِوَجُ وَالْمَيْلُ. ثُمَّ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أحدها: حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَنْبَأَنَا مَالِكٌ مِثْلَهُ يَعْنِي بِإِسْنَادِهِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ لِيَصْمُتْ ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَقَالَ الطُّوفِيُّ: سَمِعْنَاهُ بِكَسْرِهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ التَّخْيِيرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الشِّقَّيْنِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ فَيَكُونُ وَاجِبًا، أَوْ مَنْهِيًّا فَيَكُونُ حَرَامًا، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَقُلْ وَفِي قَوْلِهِ: لِيَسْكُتْ لِمُطْلَقِ الْإِذْنِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ ; نَعَمْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاحُ حَسَنًا لِدُخُولِهِ فِي الْخَيْرِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَلْيُفَكِّرْ قَبْلَ كَلَامِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ وَلَا يَجُرُّ إِلَى مُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَالسَّلَامَةُ فِي السُّكُوتِ لِئَلَّا يَجُرَّ الْمُبَاحُ إِلَى الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ

ص: 532

حِبَّانَ وَمَنْ حَسِبَ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ.

ثانيها: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْهُ، وَفِي أَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كُلُّ ذَلِكَ فِي بَابِ إِكْرَامِ الْجَارِ بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ وَبَيَانُ الْمُرَادِ بِهِ. قَالَ الطُّوفِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ انْتِفَاءُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَأَطِعْنِي، تَهْيِيجًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ، لَا أَنَّهُ بِانْتِفَاءِ طَاعَتِهِ يَنْتَفِي أَنَّهُ ابْنُهُ.

ثالثها: حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يَقْرُونَنَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ (جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) قَالَ السُّهَيْلِيُّ: رُوِيَ جَائِزَتُهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ أَيْ يُكْرَمُ جَائِزَتَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً.

قَوْلُهُ: (وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ سُئِلَ عَنْهُ مَالِكٌ فَقَالَ: يُكْرِمُهُ وَيُتْحِفُهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ضِيَافَةٌ. قُلْتُ: وَاخْتَلَفُوا هَلِ الثَّلَاثُ غَيْرُ الْأَوَّلِ أَوْ بعد مِنْهَا؟ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَتَكَلَّفُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بِالْبِرِّ وَالْإِلْطَافِ، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ: يُقَدِّمُ لَهُ مَا حَضَرَهُ وَلَا يَزِيدُهُ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ يُعْطِيهِ مَا يَجُوزُ بِهِ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَتُسَمَّى الْجِيزَةُ، وَهِيَ قَدْرُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مِنْ مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ أَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ بِهِ الضَّيْفُ أَنْ يُتْحِفَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْبِرِّ عَلَى مَا بِحَضْرَتِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَفي الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يُقَدِّمُ لَهُ مَا يَحْضُرُهُ، فَإِذَا مَضَى الثَّلَاثُ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ، فَمَا زَادَ عَلَيْها مِمَّا يُقَدِّمُهُ لَهُ يَكُونُ صَدَقَةً. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ بِلَفْظِ الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَأَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، كَأَنَّهُ قِيلَ كَيْفَ يُكْرِمُهُ؟ قَالَ: جَائِزَتُهُ.

وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ زَمَانُ جَائِزَتِهِ أَيْ بِرُّهُ، وَالضِّيَافَةُ يَوْمُ وَلَيْلَةٌ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَلَى الْيَوْمِ الْأَخِيرِ أَيْ قَدْرَ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مَا يَكْفِيهِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَجَائِزَتُهُ بَيَانًا لِحَالَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمُسَافِرَ تَارَةً يُقِيمُ عِنْدَ مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَهَذَا لَا يُزَادُ عَلَى الثَّلَاثِ بِتَفَاصِيلِهَا، وَتَارَةً لَا يُقِيمُ فَهَذَا يُعْطَى مَا يَجُوزُ بِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلَعَلَّ هَذَا أَعْدَلُ الْأَوْجُهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتَدَلَّ بِجَعْلِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ صَدَقَةً عَلَى أَنَّ الَّذِي قَبْلَهَا وَاجِبٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِتَسْمِيَتِهِ صَدَقَةً التَّنْفِيرُ عَنْهُ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ خُصُوصًا الْأَغْنِيَاءَ يَأْنَفُونَ غَالِبًا مِنْ أَكْلِ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَجْوِبَةُ مَنْ لَمْ يُوجِبِ الضِّيَافَةَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عُقْبَةَ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ: جَائِزَتُهُ قَالَ: وَالْجَائِزَةُ تَفَضُّلٌ وَإِحْسَانٌ لَيْسَتْ وَاجِبَةً. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجَائِزَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَطِيَّةَ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ، وَهِيَ مَا يُعْطَاهُ الشَّاعِرُ وَالْوَافِدُ، فَقَدْ ذَكَرَ فِيِ الْأَوَائِلِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَمَّاهَا جَائِزَةً بَعْضُ الْأُمَرَاءِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَائِزَةِ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ قَبْلُ.

قُلْتُ: وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْعَطِيَّةِ لِلشَّاعِرِ وَنَحْوِهِ جَائِزَةً فَلَيْسَ بِحَادِثٍ: لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَجِيزُوا الْوَفْدَ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ أَلَا أُعْطِيكَ، أَلَا أَمْنَحُكَ، أَلَا أُجِيزُكَ؟ فَذَكَرَ حَدِيثَ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا كَذَلِكَ لَيْسَ بِحَادِثٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِي عِنْدَهُ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَبِفَتْحِهَا فِي الْمَاضِي وَبِكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُحْرِجَهُ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مِنَ الْحَرَجِ وَهُوَ الضِّيقُ. وَالثَّوَاءُ بِالتَّخْفِيفِ وَالْمَدُّ الْإِقَامَةُ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ حَتَّى يُؤَثِّمَهُ أَيْ يُوقِعَهُ فِي الْإِثْمِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَغْتَابُهُ

ص: 533

لِطُولِ مَقَامِهِ أَوْ يَعْرِضُ لَهُ بِمَا يُؤْذِيهِ أَوْ يَظُنُّ بِهِ ظَنًّا سَيِّئًا، وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْإِقَامَةُ بِاخْتِيَارِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الزِّيَادَةَ فِي الْإِقَامَةِ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى يُحْرِجَهُ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ إِذَا ارْتَفَعَ الْحَرَجُ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ قِيلَ: يَا رَسُولَ، وَمَا يُؤَثِّمُهُ؟ قَالَ: يُقِيمُ عِنْدَهُ لَا يَجِدُ شَيْئًا يُقَدِّمُهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَفِيهِ قِصَّةٍ لِسَلْمَانَ مَعَ ضَيْفِهِ حَيْثُ طَلَبَ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى مَا قَدَّمَ لَهُ فَرَهَنَ مَطْهَرَتَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ إِنَّمَا كُرِهَ لَهُ الْمَقَامُ بَعْدَ الثَّلَاثِ لِئَلَّا يُؤْذِيَهُ فَتَصِيرَ الصَّدَقَةُ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْمَنِّ وَالْأَذَى. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ الَّذِي فِي الثَّلَاثِ لَا يُسَمَّى صَدَقَةً، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: لِئَلَّا يُؤْذِيَهُ فَيُوقِعَهُ فِي الْإِثْمِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَأْجُورًا.

‌86 - بَاب صُنْعِ الطَّعَامِ وَالتَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ

6139 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ، أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ فقَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ؛ فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمْ الْآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ سَلْمَانُ.

أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبٌ الشوَائِيُّ يُقَالُ: وَهْبُ الْخَيْرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ صُنْعِ الطَّعَامِ وَالتَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي جُحَيْفَةَ فِي قِصَّةِ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.

قَوْلُهُ: (أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبٌ السُّوَائِيُّ) يَعْنِي بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ (وَهْبُ الْخَيْرِ) أَيْ كَانَ يُقَالُ لَهُ وَهْبُ الْخَيْرِ، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ. وَوَقَعَ فِي التَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ حَدِيثُ سَلْمَانَ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، فِيهِ قِصَّةُ سَلْمَانَ مَعَ ضَيْفِهِ حَيْثُ طَلَبَ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى مَا قَدَّمَ لَهُ، فَرَهَنَ مَطْهَرَتَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ لَمَّا فَرَغَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَنَعْنَا بِمَا رَزَقَنَا. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: لَوْ قَنَعْتَ مَا كَانَتْ مَطْهَرَتِي مَرْهُونَةٌ.

‌87 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْغَضَبِ وَالْجَزَعِ عِنْدَ الضَّيْفِ

6140 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَضَيَّفَ رَهْطًا فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: دُونَكَ أَضْيَافَكَ، فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ فَقَالَ: اطْعَمُوا فَقَالُوا: أَيْنَ

ص: 534

رَبُّ مَنْزِلِنَا؟ قَالَ: اطْعَمُوا قَالُوا: مَا نَحْنُ بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا قَالَ: اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ، فَأَبَوْا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَسَكَتُّ فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِي لَمَّا جِئْتَ فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ: سَلْ أَضْيَافَكَ فَقَالُوا: صَدَقَ، أَتَانَا بِهِ قَالَ: فَإِنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِي، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ فَقَالَ الْآخَرُونَ: وَاللَّهِ لَا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ، قَالَ: لَمْ أَرَ فِي الشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ، وَيْلَكُمْ، مَا أَنْتُمْ لِمَ لَا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ؟ هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ الْأُولَى لِلشَّيْطَانِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْجَزَعِ عِنْدَ الضَّيْفِ).

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي قِصَّةِ أَضْيَافِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنَ التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَأَخَذَ الْغَضَبُ مِنْهُ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ، وَهُوَ مِنَ الْمَوْجِدَةِ وَهِيَ الْغَضَبُ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ.

‌88 - بَاب قَوْلِ الضَّيْفِ لِصَاحِبِهِ: والله لَا آكُلُ حَتَّى يأْكُلَ. فِيهِ حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

6141 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِضَيْفٍ لَهُ - أَوْ بِأَضْيَافٍ لَهُ - فَأَمْسَى عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ أُمِّي: احْتَبَسْتَ عَنْ ضَيْفِكَ - أَوْ أَضْيَافِكَ - اللَّيْلَةَ قَالَ: أومَا عَشَّيْتِهِمْ؟ فَقَالَتْ: عَرَضْنَا عَلَيْهِ - أَوْ عَلَيْهِمْ - فَأَبَوْا - أَوْ فَأَبَى - فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَسَبَّ وَجَدَّعَ وَحَلَفَ لَا يَطْعَمُهُ، فَاخْتَبَأْتُ أَنَا فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، فَحَلَفَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَحَلَفَ الضَّيْفُ - أَوْ الْأَضْيَافُ - أَنْ لَا يَطْعَمَهُ - أَوْ يَطْعَمُوهُ - حَتَّى يَطْعَمَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّ هَذِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، فَجَعَلُوا لَا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرَّةِ عَيْنِي إِنَّهَا الْآنَ لَأَكْثَرُ قَبْلَ أَنْ نَأْكُلَ فَأَكَلُوا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الضَّيْفِ لِصَاحِبِهِ: وَاللَّهِ لَا آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي جُحَيْفَةَ، يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَسَلْمَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَما فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَلَمْ تَقَعْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَلَا هَذَا التَّعْلِيقُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَإِنَّمَا سَاقَ قِصَّةَ أَضْيَافِ أَبِي بَكْرٍ تِلْوَ الطَّرِيقِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرَةٌ، وَسُلَيْمَانُ فِي سَنَدِهَا هُوَ التَّيْمِيُّ. وَقَوْلُهُ: الْأُولَى لِلشَّيْطَانِ أَيِ الْحَالَةُ الَّتِي غَضِبَ فِيهَا وَحَلَفَ، وَتَقَدَّمَ لَهُ تَوْجِيهٌ مُتَعَقِّبٌ.

‌89 - بَاب إِكْرَامِ الْكَبِيرِ، وَيَبْدَأُ الْأَكْبَرُ بِالْكَلَامِ وَالسُّؤَالِ

6142، 6143 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ

ص: 535

يَسَارٍ مَوْلَى الْأَنْصَارِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَحُوَيِّصَةُ، وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ، فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَبِّرْ الْكُبْرَ. قَالَ يَحْيَى: لِيَلِيَ الْكَلَامَ الْأَكْبَرُ فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَسْتَحِقُّونَ قَتِيلَكُمْ - أَوْ قَالَ: صَاحِبَكُمْ - بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرٌ لَمْ نَرَهُ قَالَ: فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ فِي أَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْمٌ كُفَّارٌ، فَوَادَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِهِ. قَالَ سَهْلٌ: فَأَدْرَكْتُ نَاقَةً مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ، فَدَخَلَتْ مِرْبَدًا لَهُمْ فَرَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا. قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ بُشَيْرٍ، عَنْ سَهْلٍ، قَالَ يَحْيَى: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مَعَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ بُشَيْرٍ، عَنْ سَهْلٍ وَحْدَهُ.

6144 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَلَا تَحُتُّ وَرَقَهَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَلَمَّا لَمْ يَتَكَلَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هِيَ النَّخْلَةُ، فَلَمَّا خَرَجْتُ مَعَ أَبِي قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ، وَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَه؟ لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: مَا مَنَعَنِي إِلَّا أَنِّي لَمْ أَرَكَ وَلَا أَبَا بَكْرٍ تَكَلَّمْتُمَا، فَكَرِهْتُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِكْرَامِ الْكَبِيرِ، وَيَبْدَأُ الْأَكْبَرُ بِالْكَلَامِ وَالسُّؤَالِ) الْمُرَادُ الْأَكْبَرُ فِي السِّنِّ إِذَا وَقَعَ التَّسَاوِي فِي الْفَضْلِ، وَإِلَّا فَيُقَدَّمُ الْفَاضِلُ فِي الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ إِذَا عَارَضَهُ السِّنُّ.

وذكر فيه حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي قِصَّةِ مُحَيِّصَةَ، وَحُوَيِّصَةَ، وسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْقَسَامَةِ، وَقَوْلُهُ: فَوَدَاهُمْ هُوَ لِلْأَكْثَرِ، وَيُرْوَى بِالْفَاءِ بَدَلَ الْوَاوِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ قِبَلِهِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَبُشَيْرٌ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ هُوَ ابْنُ يَسَارٍ بِتَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ:، حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ أَيْضًا، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.

ثم ذكر حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ الْحَدِيثَ، وقد تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مُسْتَوْفًى، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِإِيرَادِهِ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْكَبِيرِ حَيْثُ يَقَعُ التَّسَاوِي، أَمَّا لَوْ كَانَ عِنْدَ الصَّغِيرِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْكَبِيرِ فَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْكَلَامِ بِحَضْرَةِ الْكَبِيرِ ; لِأَنَّ عُمَرَ تَأَسَّفَ حَيْثُ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَدُهُ مَعَ أَنَّهُ اعْتَذَرَ لَهُ بِكَوْنِهِ بِحُضُورِهِ وَحُضُورِ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَ ذَلِكَ تَأَسَّفَ عَلَى كَوْنِهِ لَمْ يَتَكَلَّمْ.

‌90 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ وَالْحُدَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهُ

وَقَوْلِهِ تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ *

ص: 536

إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ

6145 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً.

6146 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْتُ جُنْدَباً يَقُولُ: "بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ:

هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ

وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ

6147 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ".

6148 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلاً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الأَكْوَعِ أَلَا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ قَالَ وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلاً شَاعِراً فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يَقُولُ:

اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فَاغْفِرْ فِدَاءٌ لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا

وَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا

وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا

فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا السَّائِقُ قَالُوا عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ وَجَبَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْلَا أَمْتَعْتَنَا بِهِ قَالَ فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ الْيَوْمَ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَاناً كَثِيرَةً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذِهِ النِّيرَانُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ قَالُوا عَلَى لَحْمٍ قَالَ عَلَى أَيِّ لَحْمٍ قَالُوا عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَهْرِقُوهَا وَاكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ أَوْ ذَاكَ" فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ فَتَنَاوَلَ بِهِ يَهُودِيّاً لِيَضْرِبَهُ وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ

ص: 537

رُكْبَةَ عَامِرٍ فَمَاتَ مِنْهُ فَلَمَّا قَفَلُوا قَالَ سَلَمَةُ رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاحِباً فَقَالَ لِي: "مَا لَكَ فَقُلْتُ فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي زَعَمُوا أَنَّ عَامِراً حَبِطَ عَمَلُهُ قَالَ مَنْ قَالَهُ قُلْتُ قَالَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ الأَنْصَارِيُّ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَبَ مَنْ قَالَهُ إِنَّ لَهُ لَاجْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِيٌّ نَشَأَ بِهَا مِثْلَهُ"

6149 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ فَقَالَ: "وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقاً بِالْقَوَارِيرِ" قَالَ أَبُو قِلَابَةَ فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ".

[الحديث 6149 - أطرافه في: 6161، 6202، 6209، 6210، 6211]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ وَالْحُدَاءِ).

أَمَّا الشِّعْرُ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِمَا دَقَّ وَمِنْهُ لَيْتَ شِعْرِي ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْكَلَامِ الْمُقَفَّى الْمَوْزُونِ قَصْدًا، وَيُقَالُ أَصْلُهُ الشَّعَرُ بِفَتْحَتَيْنِ، يُقَالُ: شَعَرْتُ أَصَبْتُ الشِّعْرَ، وَشَعَرْتُ بِكَذَا عَلِمْتُ عِلْمًا دَقِيقًا كَإِصَابَةِ الشِّعْرِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: قَالَ بَعْضُ الْكُفَّارِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ شَاعِرٌ، فَقِيلَ لِمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَوْزُونَةِ وَالْقَوَافِي، وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّهُ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَأْتِي بِهِ الشَّاعِرُ كَذِبٌ، وَمِنْ ثَمَّ سَمَّوُا الْأَدِلَّةَ الْكَاذِبَةَ شِعْرًا، وَقِيلَ فِي الشِّعْرِ: أَحْسَنُهُ وأَكْذَبُهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا ذُكِرَ فِي حَدِّ الشِّعْرِ أَنَّ شَرْطَهُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ مَوْزُونًا اتِّفَاقًا فَلَا يُسَمَّى شِعْرًا، وَأَمَّا الرَّجَزُ فَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْجِيمِ بَعْدَهَا زَايٌ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الشِّعْرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِشِعْرٍ لِأَنَّهُ يُقَالُ رَاجِزٌ لَا شَاعِرٌ، سُمِّيَ رَجَزًا لِتَقَارُبِ أَجْزَائِهِ وَاضْطِرَابِ اللِّسَانِ بِهِ، وَيُقَالُ رَجَزَ الْبَعِيرُ إِذَا تَقَارَبَ خَطْوُهُ وَاضْطَرَبَ لِضَعْفٍ فِيهِ، وَأَمَّا الْحُدَاءُ فَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ: سَوْقُ الْإِبِلِ بِضَرْبٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْغِنَاءِ، وَالْحُدَاءُ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالرَّجَزِ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنَ الشِّعْرِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَهُ عَلَى الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْإِبِلِ أَنَّهَا تُسْرِعُ السَّيْرَ إِذَا حُدِيَ بِهَا.

وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ مُرْسَلًا، وَأَوْرَدَهُ الْبَزَّارُ مَوْصُولًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ حَدَا الْإِبِلَ عَبْدٌ لِمُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ كَانَ فِي إِبِلٍ لِمُضَرَ فَقَصَّرَ، فَضَرَبَهُ مُضَرُ عَلَى يَدِهِ فَأَوْجَعَهُ فَقَالَ: يَا يَدَاهُ يَا يَدَاهُ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَأَسْرَعَتِ الْإِبِلُ لَمَّا سَمِعَتْهُ فِي السَّيْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَبْدَأَ الْحُدَاءِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى إِبَاحَةِ الْحُدَاءِ، وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ إِشْعَارٌ بِنَقْلِ خِلَافِ فِيهِ، وَمَانِعُهُ مَحْجُوجٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَيَلْتَحِقُ بِالْحُدَاءِ هُنَا الْحَجِيجُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى التَّشَوُّقِ إِلَى الْحَجِّ بِذِكْرِ الْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَنَظِيرُهُ مَا يُحَرِّضُ أَهْلُ الْجِهَادِ عَلَى الْقِتَالِ، وَمِنْهُ غِنَاءُ الْمَرْأَةِ لِتَسْكِينِ الْوَلَدِ فِي الْمَهْدِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} سَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَفْظَةٌ وَقَوْلُهُ وَهِيَ زِيَادَةٌ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْمُرَادُ بِالشُّعَرَاءِ شُعَرَاءُ الْمُشْرِكِينَ، يَتَّبِعُهُمْ غُوَاةُ النَّاسِ وَمَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ وَعُصَاةُ الْجِنِّ وَيَرْوُونَ شِعْرَهُمْ ; لِأَنَّ الْغَاوِيَ لَا يَتَّبِعُ إِلَّا غَاوِيًا مِثْلَهُ، وَسَمَّى الثَّعْلَبِيُّ مِنْهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزِّبَعْرَى، وَهُبَيْرَةَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ،

ص: 538

وَمُسَافِعَ، وَعَمْرَو بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَاعِرَيْنِ تَهَاجَيَا، فَكَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ وَهُمُ الْغُوَاةُ السُّفَهَاءُ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} - إِلَى قَوْلِهِ - مَا لَا يَفْعَلُونَ قَالَ: فَنَسَخَ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَثْنَى فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ - مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلَةٍ - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَهُمْ يَبْكُونَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّا شُعَرَاءُ. فَقَالَ: اقْرَءُوا مَا بَعْدَهَا {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَنْتُمْ {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أَنْتُمْ.

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ بِالْإِبْهَامِ لِيَدْخُلَ مَعَهُمْ مَنِ اقْتَدَى بِهِمْ، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ مَعَ الثَّلَاثَةِ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فِي كُلِّ وَادٍ قَالَ: فِي كُلِّ لَغْوٍ، وَفِي قَوْلِهِ: يَهِيمُونَ قَالَ: يَخُوضُونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَهِيمُونَ أَيْ يَقُولُونَ فِي الْمَمْدُوحِ وَالْمَذْمُومِ مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُمْ كَالْهَائِمِ عَلَى وَجْهِهِ، وَالْهَائِمُ الْمُخَالِفُ لِلْقَصْدِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا يُكْرَهُ مِنْهُ) هُوَ قَسِيمُ قَوْلِهِ: مَا يَجُوزُ، وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّ الشِّعْرِ الْجَائِزِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكْثُرْ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَخَلَا عَنْ هَجْوٍ، وَعَنِ الْإِغْرَاقِ فِي الْمَدْحِ وَالْكَذِبِ الْمَحْضِ، وَالتَّغَزُّلِ بِمُعَيَّنٍ لَا يَحِلُّ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِهِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ وَغَيْرِهَا وَقَالَ: مَا أُنْشِدَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوِ اسْتَنْشَدَهُ، لَمْ يُنْكِرْهُ. قُلْتُ: وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ شَيْخُ شُيُوخِنَا مُجَلَّدًا فِي أَسْمَاءِ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِنَ اصَّحَابَةِ شَيْءٌ مِنْ شِعْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْبَابِ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ دَالَّةً عَلَى الْجَوَازِ، وَبَعْضُهَا مُفَصِّلٌ لِمَا يُكْرَهُ مِمَّا لَا يُكْرَهُ، وَتَرْجَمَ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الشِّعْرِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ فِرْيَةً الشَّاعِرُ يَهْجُو الْقَبِيلَةَ بِأَسْرِهَا وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ أَعْظَمُ النَّاسِ فِرْيَةً رَجُلٌ هَاجَى رَجُلًا فَهَجَا الْقَبِيلَةَ بِأَسْرِهَا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: الشَّعْرُ مِنْهُ حَسَنٌ وَمِنْهُ قَبِيحٌ، خُذِ الْحَسَنَ وَدَعِ الْقَبِيحَ، وَلَقَدْ رَوَيْتُ مِنْ شِعْرِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَشْعَارًا مِنْهَا الْقَصِيدَةُ فِيهَا أَرْبَعُونَ بَيْتًا، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى أَوَّلُهُ مِنْ حَدِيثِهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ، فَحَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَقَالَ: لَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا الْكَلَامُ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَاقْتَصَرَ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ فَقَصَّرَ، وَعَابَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الِاقْتِصَارَ عَلَى نِسْبَةِ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَدْ شَارَكَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ وَهُوَ مَالِكِيٌّ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً عَنِ الْحُدَاءِ وَالشِّعْرِ وَالْغِنَاءِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فاحْشًا.

الحديث الأول: قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيَّ، وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَرْبَعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ قُرَشِيُّونَ مَدَنِيُّونَ فِي نَسَقٍ، فَالزُّهْرِيُّ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَمَنْ فَوْقَهُ مِنْ كِبَارِهِمْ ; وَلِمَرْوَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ مَزِيَّةُ إِدْرَاكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّهُمَا مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ مَعْدُودَانِ فِي التَّابِعِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ رُؤْيَةٌ وَأَنَّهُ عُدَّ لِذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، وَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَرْوَانَ فِي الصَّحَابَةِ لِإِدْرَاكِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الشُّرُوطِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى

ص: 539

الزُّهْرِيِّ فِي سَنَدِهِ: فَالْأَكْثَرُ عَلَى مَا قَالَ شُعَيْبٌ. وَقَالَ مَعْمَرٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بَدَلَ أَبِي بَكْرٍ مَوْصُولًا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا، وَوَافَقَ رَبَاحُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مَعْمَرٍ الْجَمَاعَةَ، وَكَذَا قَالَ هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، لَكِنْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَسْوَدِ وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَحَذَفَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، مَرْوَانَ مِنَ السَّنَدِ، وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً) أَيْ قَوْلًا صَادِقًا مُطَابِقًا لِلْحَقِّ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْحِكْمَةِ الْمَنْعُ، فَالْمَعْنَى أنَّ مِنَ الشِّعْرِ كَلَامًا نَافِعًا يَمْنَعُ مِنَ السَّفَهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا، وَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عَيًّا. فَقَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا، فَالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَجِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ. وَإن قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا فَيُكَلَّفُ الْعَالِمُ إِلَى عِلْمِهِ مَا لَا يَعْلَمْ فَيَجْهَلُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا فَهِيَ هَذِهِ الْمَوَاعِظُ وَالْأَمْثَالُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عَيًّا فَعَرْضُكَ كَلَامَكَ عَلَى مَنْ لَا يُرِيدُهُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَفْهُومُهُ أَنَّ بَعْضَ الشِّعْرِ لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَابْنِ مَاجَهْ بِلَفْظِ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُبَّمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْكَلِمَةُ الْحَكِيمَةُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَا كَانَ فِي الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ ذِكْرُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَتَعْظِيمٌ لَهُ وَوَحْدَانِيَّتُهُ وَإِيثَارُ طَاعَتِهِ وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ فَهُوَ حَسَنٌ مُرَغَّبٌ فِيهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ حِكْمَةٌ، وَمَا كَانَ كَذِبًا وَفُحْشًا فَهُوَ مَذْمُومٌ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ الشِّعْرَ مُطْلَقًا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الشِّعْرُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ تَمَثَّلَ بِأَوَّلِ بَيْتِ شِعْرٍ ثُمَّ سَكَتَ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ أَجِدَ فِي صَحِيفَتِي شِعْرًا، وَعَنِ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي قُرْآنًا، قَالَ قُرْآنُكَ الشِّعْرُ ثُمَّ أَجَابَ عَلى ذَلِكَ بِأَنَّهَا أَخْبَارٌ وَاهِيَةٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ الْهَانِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ قُوَّتِهَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِيهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ بَعْدَ بَابٍ، وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ سَائِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اسْتَنْشَدَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فَأَنْشَدْتُهُ حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ قَافِيَةٍ.

وَعَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: صَحِبْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ فَقَلَّ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ إِلَّا وَهُوَ يُنْشِدُنِي شِعْرًا. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَمِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا الشِّعْرَ وَأَنْشَدُوهُ وَاسْتَنْشَدُوهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ خَالِدِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ إِيَاسُ بْنُ خَيْثَمَةَ فَقَالَ: أَلَا أَنْشُدُكَ مِنْ شِعْرِي؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ لَا تُنْشِدْنِي إِلَّا حَسَنًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْحَرِفِينَ وَلَا مُتَمَاوِتِينَ، وَكَانُوا يَتَنَاشَدُونَ الْأَشْعَارَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَيَذْكُرُونَ أَمْرَ جَاهِلِيَّتِهِمْ، فَإِذَا أُرِيدَ أَحَدُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ دَارَتْ حَمَالِيقُ عَيْنَيْهِ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أُجَالِسُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي فِي الْمَسْجِدِ فَيَتَنَاشَدُونَ الْأَشْعَارَ وَيَذْكُرُونَ حَدِيثَ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ وَحَدِيثَ الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ رَسُولِ

ص: 540

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَنْهَاهُمْ، وَرُبَّمَا يَتَبَسَّمُ.

الحديث الثاني:

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ جُنْدَبًا) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ الْمَاضِيَةِ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ: جُنْدَبُ بْنُ سُفْيَانَ الْبَجَلِيُّ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ جُنْدُبٍ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ.

قَوْلُهُ: (فَعَثَرَ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: هَلْ أَنْتِ إِلَّا أصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ) هَذَانِ قِسْمَانِ مِنْ رَجَزٍ، وَالتَّاءُ فِي آخِرِهِمَا مَكْسُورَةٌ عَلَى وَفْقِ الشِّعْرِ، وَجَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُمَا فِي الْحَدِيثِ بِالسُّكُونِ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَعَمَّدَ إِسْكَانَهُمَا لِيُخْرِجَ الْقِسْمَيْنِ عَنِ الشِّعْرِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ ضَرْبٍ إلى آخَرَ مِنَ الشِّعْرِ وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْبَحْرِ الْمُلَقَّبِ الْكَامِلَ، وَفِي الثَّانِي زِحَافٌ جَائِزٌ. قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ النَّاسِ فَرَوَى دَمِيتِ وَلَقِيتِ بِغَيْرِ مَدٍّ؛ فَخَالَفَ الرِّوَايَةَ لِيَسْلَمَ مِنَ الْإِشْكَالِ فَلَمْ يُصِبْ، وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَمَثِّلًا أَوْ قَالَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِإِنْشَائِهِ فَخَرَجَ مَوْزُونًا، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ ابْنَ أَبِي الدُّنْيَا فِي مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ أَوْرَدَهُمَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَذَكَرَ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا قُتِلَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ فَأُصِيبَ إِصْبَعُهُ، فَارْتَجَزَ وَجَعَلَ يَقُولُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَزَادَ:

يَا نَفْسُ إِنْ لَا تُقْتَلِي تَمُوتِي

هَذِي حِيَاضُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيتِ

وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ لَقِيتِ

إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ

وَهَكَذَا جَزَمَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُمَا مِنْ شِعْرِ ابْنِ رَوَاحَةَ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كَانَ رَافَقَ أَبَا بَصِيرٍ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَعَثَرَ بِالْحَرَّةِ فَانْقَطَعَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولٌ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي زِيَادَاتِ السِّيرَةِ حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لِي بِعَبَّاسِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنَا فَذَكَرَ قِصَّةً فِيهَا فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَهُمَا وَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ رَوَاحَةَ ضَمَّنَهُمَا شِعْرَهُ وَزَادَ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ قِصَّةَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ قِصَّةِ مُؤْتَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فِي أَوَائِلِ غَزْوَةِ خَيْبَرَ فِي الرَّجَزِ الْمَنْسُوبِ لِعَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ: اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَأَنَّهُ نُسِبَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِابْنِ رَوَاحَةَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَمَثُّلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ وَإِنْشَادِهِ حَاكِيًا عَنْ غَيْرِهِ فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَمَثَّلُ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَتَمَثَّلُ مِنْ شِعْرِ ابْنِ رَوَاحَةَ: وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْنِي الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَقُولُ: أَفْلَحَ مَنْ يُعَالِجُ الْمَسَاجِدَا. فَيَقُولُهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ ابْنُ رَوَاحَةَ: يَتْلُو الْقُرْآنَ قَائِمًا وَقَاعِدَا. فَيَقُولُهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي التَّارِيخِ عَنْ عَائِشَةَ:

تَفَاءَلْ بِمَا تَهْوَى تَكُنْ فَلَقَلَّمَا

يُقَالُ لِشَيْءٍ كَانَ إِلَّا تَحَقَّقَا

قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُعْرِبْهُ لِئَلَّا يَكُونَ شِعْرًا، فَهُوَ شَيْءٌ لَا يَصِحُّ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وَهَائِهِ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ، وَالْحَدِيثُ

ص: 541

الثَّالِثُ فِي الْبَابِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكِيَ الشِّعْرَ عَنْ نَاظِمِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ وَأَنَّهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الْكَلَامِ مِنْهُ مَنْظُومًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى ذَلِكَ وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ شِعْرًا.

وَقَدْ وَقَعَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، لَكِنَّ غَالِبَهَا أَشْطَارُ أَبْيَاتٍ وَالْقَلِيلُ مِنْهَا وَقَعَ وَزْنَ بَيْتٍ تَامٍّ، فَمِنَ التَّامِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} - {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} - {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} - {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} - {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} - {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} - {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} - {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} - {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} - {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} - {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} - {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} - {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} وَكَذَلِكَ السُّجُودُ - {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} - {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا} - {يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ} - {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} - {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} - {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} - {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} - {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} وَالْوَاوُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى الْوَزْنِ لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي النَّظْمِ وَيُسَمَّى الْخَزْمُ بِالزَّايِ بَعْدَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ.

وَأَمَّا الْأَشْطَارُ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا فَمِنْهَا: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} - {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} - {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ} - {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} - {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} - {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} - {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} - إنه {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا} - {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} - {أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} - {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} - {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} - {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} - {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} - {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} - {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} - {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} - {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} - {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} - {نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} - {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} - {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} - {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} - {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} - {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} - {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} - {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} - {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} - {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} - {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} - {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} - {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} - {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} - {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} - {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} - {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ} - {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} - {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ} - {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} -

{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} - {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} - {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} - {فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} - {زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} - {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} - {ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ} - {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} وَمِنَ التَّامِّ أَيْضًا: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ * وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا} وَإِذَا انْتَهَى إِلَى النَّاسِ تَمَّ أَيْضًا، وَأَيْضًا {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ * وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا} وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْحَدِيثِ: إِنَّ وُقُوعَ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ مِنَ الْفَصِيحِ لَا يُسَمَّى شِعْرًا، وَلَا يُسَمَّى قَائِلُهُ شَاعِرًا.

الحديث الثالث: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ كَلِمَةَ لَبِيد: ثُمَّ تَمَثَّلَ أَوَّلَهُ وَتَرَكَ آخِرَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زَائِدَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَمَنْ تَابَعَهُ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.

الحديث

ص: 542

الرابع: حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعَ فِي قِصَّةِ عَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ في كِتَابِ الْمَغَازِي، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلًا فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يُؤْخَذُ مِنْهُ جَمِيعُ التَّرْجَمَةِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ وَالْحُدَاءِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الرَّجَزُ مِنْ جُمْلَةِ الشِّعْرِ، وَقَوْلُهُ: اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَ اهْتَدَيْنَا قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا رَجَزٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْزُونٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ رَجَزٌ مَوْزُونٌ، وَإِنَّمَا زِيدَ فِي أَوَّلِهِ سَبَبٌ خَفِيفٌ وَيُسَمَّى الْخَزْمُ بِالْمُعْجَمَتَيْنِ وَقَوْلُهُ: فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا أَمَّا فِدَاءٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْمَدِّ مَنُونٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُهُ بِالْقَصْرِ، وَشَرْطُ اتِّصَالِهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ كَالَّذِي هُنَا، قَالَهُ ابْنُ التِّينِ: وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا يُقَالُ لِلَّهِ فِدَاءً لَكَ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ لِشَخْصٍ فَيَخْتَارُ شَخْصٌ آخَرُ أَنْ يَحِلَّ بِهِ دُونَ ذَلِكَ الْآخَرِ وَيَفْدِيهِ، فَهُوَ إِمَّا مَجَازٌ عَنِ الرِّضَا كَأَنَّهُ قَالَ: نَفْسِي مَبْذُولَةٌ لِرِضَاكَ أَوْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ وَقَعَتْ خِطَابًا لِسَامِعِ الْكَلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ تَوْجِيهٌ آخَرُ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَاهُ اغْفِرْ لَنَا مَا ارْتَكَبْنَاهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَفِدَاءً لَكَ دُعَاءٌ أَيِ افْدِنَا مِنْ عِقَابِكَ عَلَى مَا اقْتَرَفْنَا مِنْ ذُنُوبِنَا، كَأَنَّهُ قَالَ: اغْفِرْ لَنَا وَافْدِنَا مِنْكَ فِدَاءً لَكَ، أَيْ مِنْ عِنْدَكَ فَلَا تُعَاقِبْنَا بِهِ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ جَعَلَ اللَّامَ لِلتَّبْيِينِ مِثْلَ هَيْتَ لَكَ، وَاسْتَدَلَّ بِجَوَازِ الْحُدَاءِ عَلَى جَوَازِ غِنَاءِ الرُّكْبَانِ الْمُسَمَّى بِالنَّصْبِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ النَّشِيدِ بِصَوْتٍ فِيهِ تَمْطِيطٌ، وَأَفْرَطَ قَوْمٌ فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ الْغِنَاءِ مُطْلَقًا بِالْأَلْحَانِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْمُوسِيقَى، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتُلِفَ فِيهِ، فَأَبَاحَهُ قَوْمٌ مُطْلَقًا، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ مُطْلَقًا، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَنْعُ، وَكَذَا أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ. وَنَقَلَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي كِتَابِ السَّمَاعِ الْجَوَازَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلَّا فِي النَّصْبِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَوَّلًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْغِنَاءُ الْمَمْنُوعُ مَا فِيهِ تَمْطِيطٌ وَإِفْسَادٌ لِوَزْنِ الشِّعْرِ طَلَبًا للضرب وَخُرُوجًا مِنْ مَذَاهِبِ الْعَرَبِ. وَإِنَّمَا وَرَدَتِ الرُّخْصَةُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ دُونَ أَلْحَانِ الْعَجَمِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْحِجَازِ يُرَخِّصُونَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ: أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ جِدًّا وَأَنْ يَصْحَبَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَهُ بِأَنَّ فِيهِ تَرْوِيحًا لِلنَّفْسِ، فَإِنْ فَعَلَهُ لِيَقْوَى عَلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ مُطِيعٌ أَوْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ عَاصٍ، وَإِلَّا فَهُوَ مِثْلُ التَّنَزُّهِ فِي الْبُسْتَانِ وَالتَّفَرُّجِ عَلَى الْمَارَّةِ.

وَأَطْنَبَ الْغَزَالِيُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ الْحُدَاءَ بِالرَّجَزِ وَالشِّعْرِ لَمْ يَزَلْ يُفْعَلُ فِي الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَرُبَّمَا الْتُمِسَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ إِلَّا أَشْعَارٌ تُوزَنُ بِأَصْوَاتٍ طَيِّبَةٍ وَأَلْحَانٍ مَوْزُونَةٍ، كَذَلِكَ الْغِنَاءُ أَشْعَارٌ مَوْزُونَةٌ بِأَصْوَاتٍ مُسْتَلَذَّةٍ وَأَلْحَانٍ مَوْزُونَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ

(1)

وَالْحَلِيمِيُّ مَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى الدَّوَاءِ أَوْ شَهِدَ بِهِ طَبِيبٌ عَدْلٌ عَارِفٌ.

الحديث الخامس: قَوْلُهُ: (إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ.

قَوْلُهُ: (أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ) يَأْتِي فِي بَابِ الْمَعَارِيضِ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ فَحَدَى الْحَادِي وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْمَعَارِيضِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ بِلَفْظِ وَكَانَ مَعَهُمْ سَائِقٌ وَحَادٍ وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ حَمَّادِ

(1)

بياض بأصله.

ص: 543

بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ كَانَ أَنْجَشَةُ يَحْدُو بِالنِّسَاءِ، وَكَانَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ يَحْدُو بِالرِّجَالِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادٍ، وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَادٍ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْمَعَارِيضِ وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ وَأَنْجَشَةُ غُلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسُوقُ بِهِنَّ وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَاشْتَدَّ بِهِنَّ السِّيَاقِ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عَدِيٍّ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ فَإِذَا أَعْنَقَتِ الْإِبِلُ وَهِيَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَنُونٍ وَقَافٍ أَيْ أَسْرَعَتْ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَالْعَنَقُ بِفَتْحَتَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ) فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْحَارِثِ وَكَانَ يَحْدُو بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَنِسَائِهِمْ وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ عِشْرِينَ بَابًا كَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فِي الثِّقَلِ وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرٍ، وَالرَّامَهُرْمُزِيِّ فِي الْأَمْثَالِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ مَسْعَدَةَ كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ فَقَالَ: عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ السَّمَرْقَنْدِيِّ فِي مُسْلِمٍ أُمَّ سَلَمَةَ بَدَلَ أُمِّ سُلَيْمٍ قَالَ: وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَعَ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَوِّي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ. قُلْتُ: وَتَضَافُرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّهَا أُمُّ سُلَيْمٍ يَقْضِي بِأَنَّ قَوْلَهُ أُمُّ سَلَمَةَ تَصْحِيفٌ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ) فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ كَانَ فِي سَفَرٍ لَهُ وَكَانَ غُلَامٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْمَعَارِيضِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَغُلَامٌ أَسْوَدُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادٍ وَغُلَامٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْجِيمِ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ ثُمَّ هَاءُ تَأْنِيثٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ يَا أَنْجَشُ عَلَى التَّرْخِيمِ، قَالَ الْبَلَاذُرِيِّ: كَانَ أَنْجَشَةُ حَبَشِيًّا يُكَنَّى أَبَا مَارِيَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ نَفَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُخَنَّثِينَ.

قَوْلُهُ: (رُوَيْدَكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ رُوَيْدًا، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ ارْفُقْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ رُوَيْدَكَ ارْفُقْ، جَمَعَ بَيْنَهُمَا رَوَيْنَاهُ فِي جُزْءِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ. وَأَخْرَجَهُ الْحَارِثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ فَقَالَ: كَذَلِكَ سَوْقُكَ وَهِيَ بِمَعْنَى كَفَاكَ. قَالَ عِيَاضٌ: قَوْلُهُ رُوَيْدًا مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ أَيْ سُقْ سَوْقًا رُوَيْدًا، أَوِ احْدُ حَدْوًا رُوَيْدًا. أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ أَرْوِدْ رُوَيْدًا مِثْلَ ارْفُقْ رِفْقًا. أَوْ عَلَى الْحَالِ أَيْ سِرْ رُوَيْدًا، أَوْ رُوَيْدَكَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَوْ مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيِ الْزَمْ رِفْقَكَ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ أَرْوِدْ رُوَيْدَكَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: رُوَيْدًا: أَرْوَدَ كَأَمْهَلَ يُمْهِلُ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَهُوَ مِنَ الرَّوْدِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَهُوَ التَّرَدُّدُ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ بِرِفْقٍ رَادَ وَارْتَادَ، وَالرَّائِدُ طَالِبُ الْكَلَأِ، وَرَادَتِ الْمَرْأَةُ تَرُودُ إِذَا مَشَتْ عَلَى هَيِّنَتِهَا. وَقَالَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ: رُوَيْدًا تَصْغِيرُ رَوْدٍ وَهُوَ مَصْدَرُ فِعْلِ الرَّائِدِ، وَهُوَ الْمَبْعُوثُ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي مَعْنَى الْمُهْمَلَةِ إِلَّا مُصَغَّرًا، قَالَ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعَيْنِ أَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى التَّزوِيدِ فِي الْوَعِيدِ لَمْ يُنَوَّنْ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: قَوْلُهُ رُوَيْدًا أَيِ ارْفُقْ، جَاءَ بِلَفْظِ التَّصْغِيرِ لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّقْلِيلُ أَيِ ارْفُقْ قَلِيلًا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ تَصْغِيرِ الْمُرَخَّمِ وَهُوَ أَنْ يُصَغَّرَ الِاسْمُ بَعْدَ حرفِ الزَّوَائِدِ كَمَا قَالُوا فِي أَسْوَدَ سُوَيْدٍ فَكَذَا فِي أَرْوَدَ رُوَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (سَوْقُكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ سَيْرُكَ وَهُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيِ ارْفُقْ فِي سَوْقِكَ، أَوْ سُقْهُنَّ كَسَوْقِكَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: رُوَيْدًا أَيِ ارْفُقْ، وَسَوْقُكَ مَفْعُولٌ بِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ سَوْقًا، وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِقَوْلِهِ: ارْفُقْ سَوْقًا، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ سُقْ سَوْقًا. وَقَرَأْتُ بِخَطِّ ابْنِ الصَّائِغِ الْمُتَأَخِّرِ: رُوَيْدَكَ إِمَّا مَصْدَرٌ وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ، وَإِمَّا اسْمُ فِعْلٍ وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ، وَسَوْقُكَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِ حَدْوُكَ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: رُوَيْدَكَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَرْوِدْ أَيْ أَمْهِلْ، وَالْكَافُ الْمُتَّصِلَةُ بِهِ حَرْفُ خِطَابٍ، وَفَتْحَةُ دَالِهِ بِنَائِيَّةٌ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ رُوَيْدَكَ مَصْدَرًا مُضَافًا إِلَى الْكَافِ نَاصِبُهَا سَوْقُكَ، وَفَتْحَةُ دَالِهِ عَلَى هَذَا إِعْرَابِيَّةٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْوَجْهُ

ص: 544

النَّصْبُ بِرُوَيْدًا وَالتَّقْدِيرُ أَمْهِلْ سَوْقَكَ، وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ وَلَيْسَتِ اسْمًا، وَرُوَيْدًا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ.

قَوْلُهُ: (بِالْقَوَارِيرِ) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ رُوَيْدَكَ سَوْقُكَ وَلَا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ، وَزَادَ حَمَّادٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: يَعْنِي النِّسَاءَ، فَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ: وَلَا تَكْسِرُوا الْقَوَارِيرَ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ، وَالْقَوَارِيرُ جَمْعُ قَارُورَةٍ وَهِيَ الزُّجَاجَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاسْتِقْرَارِ الشَّرَابِ فِيهَا. وَقَالَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ: كَنَّى عَنِ النِّسَاءِ بِالْقَوَارِيرِ لِرِقَّتِهِنَّ وَضَعْفِهِنَّ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَالنِّسَاءُ يُشَبَّهْنَ بِالْقَوَارِيرِ فِي الرِّقَّةِ وَاللَّطَافَةِ وَضَعْفِ الْبِنْيَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى سُقْهُنَّ كَسَوْقِكَ الْقَوَارِيرَ لَوْ كَانَتْ مَحْمُولَةً عَلَى الْإِبِلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: شَبَّهَهُنَّ بِالْقَوَارِيرِ لِسُرْعَةِ انْقِلَابِهِنَّ عَنِ الرِّضَا، وَقِلَّةِ دَوَامِهِنَّ عَلَى الْوَفَاءِ، كَالْقَوَارِيرِ يُسْرِعُ إِلَيْهَا الْكَسْرُ وَلَا تَقْبَلُ الْجَبْرَ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الشُّعَرَاءُ ذَلِكَ، قَالَ بَشَّارٌ:

ارْفُقْ بِعَمْرٍو إِذَا حَرَّكْتَ نِسْبَتَهُ

فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ قَوَارِيرِ

قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ.

قوله: سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هَذَا مَا قَالَهُ أَبُو قِلَابَةَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ لِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّكَلُّفِ وَمُعَارَضَةِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الِاسْتِعَارَةِ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ جَلِيًّا، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَارُورَةِ وَالْمَرْأَةِ وَجْهٌ التَّشْبِيهِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِمَا ظَاهِرٌ، لَكِنِ الْحَقَّ أَنَّهُ كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالسَّلَامَةِ عَنِ الْعَيْبِ ; وَلَا يَلْزَمُ فِي الِاسْتِعَارَةِ أَنْ يَكُونَ جَلَاءُ وَجْهِ الشَّبَهِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِمَا، بَلْ يَكْفِي الْجَلَاءُ الْحَاصِلُ مِنَ الْقَرَائِنِ الْحَاصِلَةِ، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدُ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ مِنْ مِثْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَلَاغَةِ، وَلَوْ صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا بَلَاغَةَ لَهُ لَعِبْتُمُوهَا. قَالَ: وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِ أَبِي قِلَابَةَ. قُلْتُ: وَلَيْسَ مَا قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ بَعِيدًا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ يَتَنَطَّعُ فِي الْعِبَارَةِ وَيَتَجَنَّبُ الْأَلْفَاظَ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْهَزْلِ. وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ الصَّحَابِيِّ لِغُلَامِهِ: ائْتِنَا بِسُفْرَةٍ نَعْبَثْ بِهَا، فَأَنْكَرْتُ عَلَيْهِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ أَنْجَشَةُ أَسْوَدَ وَكَانَ فِي سَوْقِهِ عُنْفٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِالْمَطَايَا. وَقِيلَ: كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ بِالْحُدَاءِ فَكَرِهَ أَنْ تَسْمَعَ النِّسَاءُ الْحُدَاءَ، فَإِنَّ حُسْنَ الصَّوْتِ يُحَرِّكُ مِنَ النُّفُوسِ، فَشَبَّهَ ضَعْفَ عَزَائِمِهِنَّ وَسُرْعَةَ تَأْثِيرِ الصَّوْتِ فِيهِنَّ بِالْقَوَارِيرِ فِي سُرْعَةِ الْكَسْرِ إِلَيْهَا.

وَجَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ بِالْأَوَّلِ فَقَالَ: الْقَوَارِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ النِّسَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عَلَى الْإِبِلِ الَّتِي تُسَاقُ حِينَئِذٍ، فَأَمَرَ الْحَادِي بِالرِّفْقِ فِي الْحُدَاءِ لِأَنَّهُ يَحُثُّ الْإِبِلَ حَتَّى تُسْرِعَ فَإِذَا أَسْرَعَتْ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى النِّسَاءِ السُّقُوطُ، وَإِذَا مَشَتْ رُوَيْدًا أُمِنَ عَلَى النِّسَاءِ السُّقُوطُ، قَالَ: وَهَذَا مِنَ الِاسْتِعَارَةِ الْبَدِيعَةِ ; لِأَنَّ الْقَوَارِيرَ أَسْرَعُ شَيْءٍ تَكْسِيرًا، فَأَفَادَتِ الْكِنَايَةُ مِنَ الْحَضِّ عَلَى الرِّفْقِ بِالنِّسَاءِ فِي السَّيْرِ مَا لَمْ تُفِدْهُ الْحَقِيقَةُ لَوْ قَالَ: ارْفُقْ بِالنِّسَاءِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ اسْتِعَارَةٌ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَالْقَرِينَةُ حَالِيَّةٌ لَا مَقَالِيَّةٌ، وَلَفْظُ الْكَسْرِ تَرْشِيحٌ لَهَا. وَجَزَمَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ بِالثَّانِي وَقَالَ: شَبَّهَ النِّسَاءَ بِالْقَوَارِيرِ لِضَعْفِ عَزَائِمِهِنَّ، وَالْقَوَارِيرُ يُسْرِعُ إِلَيْهَا بكَسْر، فَخَشِيَ مِنْ سَمَاعِهِنَّ النَّشِيدَ الَّذِي يَحْدُو بِهِ أَنْ يَقَعَ بِقُلُوبِهِنَّ مِنْهُ، فَأَمَرَهُ بِالْكَفِّ، فَشَبَّهَ عَزَائِمَهُنَّ بِسُرْعَةِ تَأْثِيرِ الصَّوْتِ فِيهِنَّ بِالْقَوَارِيرِ فِي إِسْرَاعِ الْكَسْرِ إِلَيْهَا. وَرَجَّحَ عِيَاضٌ هَذَا الثَّانِي فَقَالَ هَذَا أَشْبَهُ بِمَسَاقِ الْكَلَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَبِي قِلَابَةَ، وَإِلَّا فَلَوْ عَبَّرَ عَنِ السُّقُوطِ بِالْكَسْرِ لَمْ يَعِبْهُ أَحَدٌ. وَجَوَّزَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: شَبَّهَهُنَّ بِالْقَوَارِيرِ لِسُرْعَةِ تَأَثُّرِهِنَّ وَعَدَمِ تَجَلُّدِهِنَّ، فَخَافَ عَلَيْهِنَّ مِنْ حَثِّ السَّيْرِ بِسُرْعَةِ السُّقُوطِ أَوِ التَّأَلُّمِ مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ النَّاشِئِ

ص: 545

عَنِ السُّرْعَةِ، أَوْ خَافَ عَلَيْهِنَّ الْفِتْنَةَ مِنْ سَمَاعِ النَّشِيدِ.

قُلْتُ: وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ الثَّانِي، وَلِذَلِكَ أَدْخَلَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ الْمَعَارِيضِ، وَلَوْ أُرِيدَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ فِي لفظ الْقَوَارِيرِ تَعْرِيضٌ.

‌91 - بَاب هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ

6150 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَكَيْفَ بِنَسَبِي؟ فَقَالَ حَسَّانُ: لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنْ الْعَجِينِ. وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: لَا تَسُبُّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

6151 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ الْهَيْثَمَ بْنَ أَبِي سِنَانٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي قَصَصِهِ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ أَخًا لَكُمْ لَا يَقُولُ الرَّفَثَ، يَعْنِي بِذَلكَ ابْنَ رَوَاحَةَ قَالَ:

وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ

إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ

أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا

بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ

يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ

إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمشركينَ الْمَضَاجِعُ

تَابَعَهُ عُقَيْلٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَالْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

6152 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ح. وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، نَشَدْتُكَ اللَّه هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَا حَسَّانُ، أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ.

6153 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِحَسَّانَ: اهْجُهُمْ - أَوْ قَالَ: هَاجِهِمْ - وَجِبْرِيلُ مَعَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ) الْهِجَاءُ وَالْهَجْوُ بِمَعْنًى، وَيُقَالُ هَجَوْتُهُ وَلَا تَقُلْ هَجَيْتُهُ. وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الشِّعْرِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ الْإِشَارَةُ إِلَى حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ لَمَّا هَجَانَا الْمُشْرِكُونَ قَالَ لنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُولُوا كَمَا يَقُولُونَ لَكُمْ فَإِنْ

ص: 546

كُنَّا لَنُعَلِّمُهُ إِمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

وذكر فيه خمسة أحاديث:

الحديث الأول والثاني:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ سَلَامٍ نَسَبَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَعَبْدَةُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ. وَقَوْلُهُ اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ، وَوَقَعَ فِي طَرِيقٍ مُرْسَلَةٍ بَيَانُ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ: فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ هَجَا رَهْطٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَأْمُرُ عَلِيًّا فَيَهْجُو هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ نَصَرُوا بِأَيْدِيهِمْ أَحَقُّ أَنْ يَنْصُرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ. فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: أَرَادَنَا وَاللَّهِ. فَأَرْسَلُوا إِلَى حَسَّانَ، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِمَقُولِي مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَبُصْرَى، فَقَالَ: أَنْتَ لَهَا، فَقَالَ لَا عِلْمَ لِي بِقُرَيْشٍ، فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَخْبِرْهُ عَنْهُمْ وَنَقِّبْ لَهُ فِي مَثَالِبِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَوْلُهُ لَأَسُلَّنَّكَ أَيْ لَأُخَلِّصن نَسَبَكَ مِنْ هجوهِمْ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ نَسَبِكَ فَيَنَالُهُ الْهَجْوُ، كَالشَّعَرَةِ إِذَا انْسَلَّتْ لَا يَبْقَى عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْعَجِينِ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ سَبِّ الْمُشْرِكِ جَوَابًا عَنْ سَبِّهِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مُطْلَقُ النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَسُبُّوا الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَدَاءَةِ بِهِ، لَا عَلَى مَنْ أَجَابَ مُنْتَصِرًا.

وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي يُنَافِحُ بِفَاءٍ وَمُهْمَلَةٍ أَيْ يُخَاصِمُ بِالْمُدَافَعَةِ، وَالْمُنَافِحُ الْمُدَافِعُ، تَقُولُ نَافَحْتُ عَنْ فُلَانٍ أَيْ دَافَعْتُ عَنْهُ.

الحديث الثالث: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي شِعْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا بَيَانُ مُتَابَعَةِ عَقِيلٍ وَمَنْ وَصَلَهَا وَرِوَايَةُ الزُّبَيْدِيِّ وَمَنْ وَصَلَهَا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ الشِّعْرَ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَانَ حَسَنًا وَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ الذَّمُّ مِنَ الشِّعْرِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ، وَفِي الثَّالِثِ إِلَى عَمَلِهِ، وَفِي الثَّانِي إِلَى تَكْمِيلِهِ غَيْرَهُ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَامِلٌ مُكَمِّلٌ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ لِلْجَمِيعِ فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ

إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ

إِلَّا الْكُشْمِيهَنِيَّ فَقَالَ بِالْمُشْرِكِينَ وَاسْتَثْقَلَتْ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْقَافِ مِنَ الثِّقَلِ. وَزَعَمَ عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ اسْتَقَلَّتْ بِمُثَنَّاةٍ فَقَطْ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ قَالَ: وَهُوَ فَاسِدُ الرِّوَايَةِ وَالنَّظْمِ وَالْمَعْنَى. قُلْتُ: وَرِوَايَتُنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ مُتْقَنَةٌ وَهِيَ كَالْجَادَّةِ.

الحديث الرابع: قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَبُو عَتِيقٍ كُنْيَةُ جَدِّهِ مُحَمَّدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ شُعَيْبٍ مُفْرَدَةً فِي بَابِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَقَرَنَهَا هُنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ وَلَفْظُهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمِعْتَ وَقَالَ هُنَا نَشَدْتُكَ اللَّهَ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي شَيْخِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُنَاكَ، وَتَوْجِيهُ الْجَمْعِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ هَلْ سَمِعْتَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ نَعَمْ يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَعَدَّ الْمِزِّيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْأَطْرَافِ مِنْ مُسْنَدِ حَسَّانَ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُسْنَدِ حَسَّانَ.

الحديث الخامس: قَوْلُهُ: (عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِحَسَّانَ) هَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ شُعْبَةَ فَقَالَ فِيهِ عَنِ الْبَرَاءِ، عَنْ حَسَّانَ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ حَسَّانَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَدْ أَوْرَدْتُ هَذَا فِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ مَعْزُوًّا إِلَى التِّرْمِذِيِّ، وَهُوَ سَهْوٌ كَأَنَّ سَبَبَهُ الْتِبَاسُ الرَّقْمِ، فَإِنَّهُ لِلتِّرْمِذِيِّ ت وَلِلنَّسَائِيِّ ن وَهُمَا يَلْتَبِسَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ ذَلِكَ فِيهِ لِحَسَّانَ فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ.

ص: 547

‌92 - بَاب مَا يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ الشِّعْرُ

حَتَّى يَصُدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ

6154 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا.

6155 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا حتى يَرِيهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ الشِّعْرَ حَتَّى يَصُدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ) هُوَ فِي هَذَا الْحَمْلِ مُتَابِعٌ لِأَبِي عُبَيْدٍ كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الذَّمَّ إذا كَانَ لِلِامْتِلَاءِ وَهُوَ الَّذِي لَا بَقِيَّةَ لِغَيْرِهِ مَعَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُهُ الذَّمُّ.

ثم ذكر فيه حَدِيثُ: لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَادَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَتَّى يَرِيَهُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةٌ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنِ الشَّيْخِ الَّذِي أَخْرَجَهُ عَنْهُ هُنَا، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ النَّسَفِيِّ، وَنَسَبَهَا بَعْضُهُمْ لِلْأَصِيلِيِّ، وَلِسَائِرِ رُوَاةِ الصَّحِيحِ قَيْحًا يَرِيهِ بِإِسْقَاطِ حَتَّى، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي أَكْثَرِهَا حَتَّى يَرِيَهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ حَتَّى يَرِيَهُ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَتَّى يَرِيَهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِإِسْقَاطِ حَتَّى فَعَلَى ثُبُوتِهَا يُقْرَأُ يَرِيَهِ بِالنَّصْبِ، وَعَلَى حَذْفِهَا بِالرَّفْعِ، قَالَ: وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُبْتَدِئِينَ يَقْرَءُونَهَا حَتَّى جَرْيًا عَلَى الْمَأْلُوفِ، وَهُوَ غَلَطٌ، إِذْ لَيْسَ هُنَا مَا يَنْصِبُ. وَذُكِرَ أَنَّ ابْنَ الْخَشَّابِ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ. وَوَجَّهَ بَعْضَهُمُ النَّصْبَ عَلَى بَدَلِ الْفِعْلِ مِنَ الْفِعْلِ، وَإِجْرَاءِ إِعْرَابٍ يَمْتَلِئُ عَلَى يَرِيَهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ: لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ مِنْ عَانَتِهِ إِلَى لَهَاتِهِ قَيْحًا يَتَخَضْخَضُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبٌ وَلَفْظُهُ بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعَرَجِ إِذْ عَرَضَ لَنَا شَاعِرٌ يُنْشِدُ فَقَالَ: أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ ; لَأَنْ يَمْتَلِئَ فَذَكَرَهُ. وَيَرِيَهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ - آخِرُ الْحُرُوفِ - بَعْدَهَا رَاءٌ ثُمَّ يَاءٌ أُخْرَى، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ مِنَ الْوَرْيِ بِوَزْنِ الرَّمْيِ يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ مَوْرَى غَيْرُ مَهْمُوزٍ، وَهُوَ أَنْ يُورَى جَوْفُهُ وَأَنْشَدَ:

قَالَتْ لَهُ وَرْيًا إِذَا تَنَحْنَحَا

تَدْعُو عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْوَرْيُ هُوَ أَنْ يَأْكُلَ الْقَيْحُ جَوْفَهُ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ فِيهِ الْفَتْحَ بِوَزْنِ الْفَرْيِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ بِالسُّكُونِ الْمَصْدَرُ، وَبِالْفَتْحِ الِاسْمُ. وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ حَتَّى يَرِيَهُ أَيْ يُصِيبَ رِئَتَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الرِّئَةَ مَهْمُوزَةٌ، فَإِذَا بَنَيْتَ مِنْهُ فِعْلًا قُلْتَ: رَأَهُ يَرْأَهُ فَهُوَ مَرْئِيٌّ انْتَهَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ أَصْلِهَا مَهْمُوزًا أَنْ لَا تُسْتَعْمَلَ مُسَهَّلَةً، وَيُقَرِّبُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّئَةَ إِذَا امْتَلَأَتْ قَيْحًا يَحْصُلُ الْهَلَاكُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ جَوْفُ أَحَدِكُمْ فَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ يَحْتَمِلُ ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَوْفَهُ كُلَّهُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْقَلْبِ وَغَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَلْبَ خَاصَّةً وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الطِّبِّ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقَيْحَ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَلْبِ شَيْءٌ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَمُوتُ لَا مَحَالَةَ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْقَلْبِ مِمَّا فِي

ص: 548

الْجَوْفِ مِنَ الْكَبِدِ وَالرِّئَةِ.

قُلْتُ: وَيُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ: لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ مِنْ عَانَتِهِ إِلَى لَهَاتِهِ وَتَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لِلثَّانِي لِأَنَّ مُقَابِلَهُ - وَهُوَ الشِّعْرُ - مَحَلُّهُ الْقَلْبُ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنِ الْفِكْرِ، وَأَشَارَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ إِلَى عَدَمِ الْفَرْقِ فِي امْتِلَاءِ الْجَوْفِ مِنَ الشِّعْرِ بَيْنَ مَنْ يُنْشِئُهُ أَوْ يَتَعَانَى حِفْظَهُ مِنْ شِعْرِ غَيْرِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ قَيْحًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ؛ الْمُدَّةُ لَا يُخَالِطُهَا دَمٌ، وَقَوْلُهُ شِعْرًا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ شِعْرٍ، لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا لَمْ يَكُنْ مَدْحًا حَقًّا كَمَدْحِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى الذِّكْرِ وَالزُّهْدِ وَسَائِرِ الْمَوَاعِظِ مِمَّا لَا إِفْرَاطَ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَرِيبًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا يَعْنِي الشِّعْرَ الَّذِي هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّ الَّذِي هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ شَطْرَ بَيْتٍ لَكَانَ كُفْرًا، فَكَأَنَّهُ إِذَا حَمَلَ وَجْهَ الْحَدِيثِ عَلَى امْتِلَاءِ الْقَلْبِ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ رَخَّصَ فِي الْقَلِيلِ مِنْهُ، وَلَكِنْ وَجْهَهُ عِنْدِي أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُهُ مِنَ الشِّعْرِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهِ فَيَشْغَلَهُ عَنِ الْقُرْآنِ وَعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ وَالْعِلْمُ الْغَالِبَيْنِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ جَوْفُهُ مُمْتَلِئًا مِنَ الشِّعْرِ.

قُلْتُ: وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ مِنْ رِوَايَةِ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: يَعْنِي مِنَ الشِّعْرِ الَّذِي هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَدْ وَقَعَ لَنَا ذَلِكَ مَوْصُولًا مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ، فَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَيْحًا أَوْ دَمًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا هُجِيتَ بِهِ وَفِي سَنَدِهِ رَاوٍ لَا يُعْرَفُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لَمْ يَحْفَظْ إِنَّمَا قَالَ: مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا هُجِيتُ بِهِ، وَابْنُ الْكَلْبِيِّ وَاهِي الْحَدِيثِ، وَأَبُو صَالِحٍ شَيْخُهُ مَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ السَّمَّانُ الْمُتَّفَقُ عَلَى تَخْرِيجِ حَدِيثِهِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بَلْ هَذَا آخَرُ ضَعِيفٌ يُقَالُ لَهُ بَاذَانِ، فَلَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ.

وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ أَبِي عُبَيْدٍ مَا أَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرٍ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَتْحَ وَغَيْرَهَا وَكَانَ شَاعِرًا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنِي فِي الشِّعْرِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَزَادَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ امْسَحْ عَلَى رَأْسِي، قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي فَمَا قُلْتُ: بَيْتَ شَعْرٍ بَعْدُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ بَعْدَ قَوْلِهِ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَمَرَّهَا عَلَى كَبِدِي وَبَطْنِي وَزَادَ الْبَغَوِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: فَإِنْ رَابَكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَاشْبِبْ بِامْرَأَتِكَ وَامْدَحْ رَاحِلَتَكَ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الِامْتِلَاءُ مِنَ الشِّعْرِ لَمَا أَذِنَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ. بَلْ دَلَّتِ الزِّيَادَةُ الْأَخِيرَةُ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْمُبَاحِ مِنْهُ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي غَزْوَةِ وَدَّانَ عَنْ جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ رُوِيَ فِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَأَوَّلَتْ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مَا هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْكَرَتْ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الشِّعْرِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فَإِنْ قُلْنَا بِذَلِكَ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا عَيْبُ امْتِلَاءِ الْجَوْفِ مِنْهُ، فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ رِوَايَةُ الْيَسِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، وَلَا الِاسْتِشْهَادُ بِهِ فِي اللُّغَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ اسْتِشْكَالَ أَبِي عُبَيْدٍ وَقَالَ: عَائِشَةُ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَإِنَّ الَّذِي يَرْوِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ لَا يَكْفُرُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمُّوا بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ صَنِيعِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي إِيرَادِهِ بَعْضَ أَشْعَارِ الْكَفَرَةِ فِي هَجْوِ الْمُسْلِمِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِتَأْوِيلِ أَبِي عُبَيْدٍ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ ثَابِتٌ بِاللُّغَةِ ; لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْكَثِيرِ مِنَ الشِّعْرِ لَيْسَ كَالْكَثِيرِ فَخُصَّ الذَّمُّ بِالْكَثِيرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِامْتِلَاءُ دُونَ الْقَلِيلِ مِنْهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي الذَّمِّ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ بَنَى هَذَا التَّأْوِيلَ عَلَى اجْتِهَادِهِ فَلَا يَكُونُ نَاقِلًا لِلُّغَةِ، فَجَوَابُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا فَسَّرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِهِ عَلَى مَا تَلَقَّفَهُ مِنْ لِسَانِ

ص: 549

الْعَرَبِ لَا عَلَى مَا يَعْرِضُ فِي خَاطِرِهِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ تَحَرُّزِهِ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى كَرَاهَةِ الشِّعْرِ مُطْلَقًا وَإِنْ قَلَّ وَإِنْ سَلِمَ مِنَ الْفُحْشِ. وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ خُذُوا الشَّيْطَانَ

(1)

وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، أَوْ كَانَ الشِّعْرُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ شِعْرُهُ الَّذِي يَنْشُدُهُ إِذْ ذَاكَ مِنَ الْمَذْمُومِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهِيَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ، وَلَا عُمُومَ لَهَا فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَأَلْحَقَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ بِامْتِلَاءِ الْجَوْفِ بِالشِّعْرِ الْمَذْمُومِ حَتَّى يَشْغَلَهُ عَمَّا عَدَاهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ الِامْتِلَاءُ مِنَ السَّجْعِ مَثَلًا، وَمِنْ كُلِّ عِلْمٍ مَذْمُومٍ كَالسِّحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي تُقَسِّي الْقَلْبَ وَتَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَتُحْدِثُ الشُّكُوكَ فِي الِاعْتِقَادِ، وَتُفْضِي بِهِ إِلَى التَّبَاغُضِ وَالتَّنَافُسِ.

(تَنْبِيهٌ): مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَمِّ الشِّعْرِ أَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ، فَزَجَرَهُمْ عَنْهُ لِيُقْبِلُوا عَلَى الْقُرْآنِ وَعَلَى ذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَعِبَادَتِهِ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ مَا أُمِرَ بِهِ لَمْ يَضُرَّهُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌93 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَرِبَتْ يَمِينُكِ، وَعَقْرَى، حَلْقَى

6156 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ، قَالَ: ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ. قَالَ عُرْوَةُ: فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ.

6157 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْفِرَ فَرَأَى صَفِيَّةَ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً؛ لِأَنَّهَا حَاضَتْ فَقَالَ: عَقْرَى حَلْقَى. لُغَةٌ قُرَيْشٍ. إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا، ثُمَّ قَالَ: أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ يَعْنِي الطَّوَافَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَانْفِرِي إِذًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَرِبَتْ يَمِينُكَ، وَعَقْرَى حَلْقَى) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ لِعَائِشَةَ مُقَدِّمًا فِيهِمَا مَا تَرْجَمَ بِهِ:

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُهَما فِي قِصَّةِ أَبِي الْقُعَيْسِ فِي الرَّضَاعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي بَابِ الْأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: أَصْلُ تَرِبَتِ افْتَقَرَتْ، وَلَكِنَّهَا كَلِمَةٌ

(1)

هو في صحيح مسلم (كتاب الشعر) رقم 2259 عن أبي سعيد "بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا الشيطان - أو - أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا".

ص: 550

تُقَالُ وَلَا يُرَادُ بِهَا الدُّعَاءُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّحْرِيضَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُ إِنْ خَالَفَ أَسَاءَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: مَعْنَاهُ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدَيْكَ إِلَّا التُّرَابُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ مَثَلٌ جَرَى عَلَى أَنَّهُ إِنْ فَاتَكَ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ افْتَقَرْتَ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: افْتَقَرْتَ إِنْ فَاتَكَ فَاخْتَصَرَ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ افْتَقَرْتَ مِنَ الْعِلْمِ. وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَدْحِ عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ كَمَا قَالُوا لِلشَّاعِرِ: قَاتَلَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَجَادَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

ثَانِيهُمَا: حَدِيثُهَما فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ لَمَّا حَاضَتْ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فِي بَابِ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَمَا أَفَاضَتْ وَضَبَطَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ بِالْقَصْرِ وَبِالتَّنْوِينِ، وَذَكَرَ فِي الْأَمْثَالِ أَنَّهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِالْمَدِّ، وَفِي كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ بِالْقَصْرِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِيُّ: هُوَ بِالْمَدِّ وَبِالْقَصْرِ مَعًا، قَالُوا: وَالْمَعْنَى عَقَرَهَا اللَّهُ وَحَلَقَهَا، وَفِيهِ مِنَ الْقَوْلِ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَرِبَتْ.

‌94 - بَاب مَا جَاءَ فِي زَعَمُوا

6158 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أن أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أبي هانئ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أن أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أَجَرْتُهُ فُلَانُ بْنُ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ. قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: وَذَاكَ ضُحًى.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي زَعَمُوا) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ قِيلَ لِأَبِي مَسْعُودٍ: مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي زَعَمُوا؟ قَالَ: بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا.

وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ بِإِخْرَاجِهِ حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ وَفِيهِ قَوْلُهَا زَعَمَ ابْنُ أُمِّي فَإِنَّ أُمَّ هَانِئٍ أَطْلَقَتْ ذَلِكَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالْأَصْلُ فِي زَعْمِ لأَنَّهَا تُقَالُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُ صِحَّتُهُ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ الْكَذِبُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَثُرَ اسْتِعْمَالُ الزَّعيمِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْمَاضِي فِي كِتَابِ الْعِلْمِ زَعَمَ رَسُولُكَ وَقَدْ أَكْثَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي أَشْيَاءَ يَرْتَضِيهَا زَعَمَ الْخَلِيلُ.

‌95 - بَاب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: وَيْلَكَ

6159 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ.

6160 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 551

رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْهَا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ، وفِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ.

زاد في رواية أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ رُكُوبِ الْبُدْنِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ.

6161 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، وَكَانَ مَعَهُ غُلَامٌ لَهُ أَسْوَدُ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ يَحْدُو، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ بِالْقَوَارِيرِ.

6162 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ ثَلَاثاً مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحاً لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلَاناً وَاللَّهُ حَسِيبُهُ وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَداً إِنْ كَانَ يَعْلَمُ".

6163 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَالضَّحَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ ذَاتَ يَوْمٍ قِسْماً فَقَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ قَالَ: "وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ" فَقَالَ عُمَرُ ائْذَنْ لِي فَلأَضْرِبْ عُنُقَهُ قَالَ لَا إِنَّ لَهُ أَصْحَاباً يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمُرُوقِ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ" قَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَشْهَدُ أَنِّي كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ حِينَ قَاتَلَهُمْ فَالْتُمِسَ فِي الْقَتْلَى فَأُتِيَ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم".

6164 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ وَيْحَكَ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ أَعْتِقْ رَقَبَةً قَالَ مَا أَجِدُهَا قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً قَالَ مَا أَجِدُ فَأُتِيَ بِعَرَقٍ فَقَالَ خُذْهُ فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى غَيْرِ أَهْلِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَيْنَ طُنُبَيْ الْمَدِينَةِ أَحْوَجُ مِنِّي فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ قَالَ خُذْهُ".

تَابَعَهُ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ "وَيْلَكَ".

ص: 552

6165 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا.

6166 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، قال: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَيْلَكُمْ - أَوْ وَيْحَكُمْ، قَالَ شُعْبَةُ: شَكَّ هُوَ - لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.

وَقَالَ النَّضْرُ، عَنْ شُعْبَةَ: وَيْحَكُمْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: وَيْلَكُمْ أَوْ وَيْحَكُمْ.

6167 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ قَائِمَةٌ؟ قَالَ: وَيْلَكَ وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ؟ فَقُلْنَا: وَنَحْنُ كَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَفَرِحْنَا يَوْمَئِذٍ فَرَحًا شَدِيدًا، فَمَرَّ غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ، وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِي فَقَالَ: إِنْ أُخِّرَ هَذَا فَلَنْ يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. وَاخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ وَيْلَكَ) تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ عِنْدَ شَرْحِ أَوَّلِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَصْلَ وَيْلٍ وَيْ وَهِيَ كَلِمَةُ تَأَوُّهٍ، فَلَمَّا كَثُرَ قَوْلُهُمْ: وَيْ لِفُلَانٍ وَصَلُوهَا بِاللَّامِ وَقَدَّرُوهَا أَنَّهَا مِنْهَا فَأَعْرَبُوهَا. وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ: وَيْلٌ لِلتَّقْبِيحِ عَلَى الْمُخَاطَبِ فِعْلَهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَيْلٌ قُبُوحٌ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى التَّحَسُّرِ. وَوَيْحٌ تَرَحُّمٌ. وَوَيْسٌ اسْتِصْغَارٌ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ ويل واد فِي جَهَنَّمَ، فَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَنْ قَالَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ مَقَرًّا مِنَ النَّارِ. وَفِي كِتَابِ مَنْ حَدَّثَ وَنَسِيَ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: أَنْتَ حَدَّثْتَنِي عَنِّي عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: وَيْحٌ كَلِمَةُ رَحْمَةٍ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ وَيْلَ كَلِمَةُ عَذَابٍ، وَوَيْحَ كَلِمَةُ رَحْمَةٍ. وَعَنِ الْيَزِيدِيِّ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، تَقُولُ وَيْحٌ لِزَيْدٍ وَوَيْلٌ لِزَيْدٍ، وَلَكَ أَنْ تَنْصِبَهُمَا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ كَأَنَّكَ قُلْتَ: أَلْزَمَهُ اللَّهُ وَيْلًا أَوْ وَيْحًا.

قُلْتُ: وَتَصَرُّفُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الْيَزِيدِيِّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ فِي الْبَابِ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ وَيْلٍ فَقَطْ، وَمَا وَرَدَ بِلَفْظِ وَيْحٍ فَقَطْ، وَمَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِيهِمَا، وَلَعَلَّهُ رَمَزَ إِلَى تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا فِي قِصَّةٍ: لَا تَجْزَعِي مِنَ الْوَيْحِ فَإِنَّهُ كَلِمَةُ رَحْمَةٍ، وَلَكِنِ اجْزَعِي مِنَ الْوَيْلِ أَخْرَجَهُ الْخَرَائِطِيُّ فِي مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ بِسَنَدٍ وَاهٍ وَهُوَ آخِرُ حَدِيثٍ فِيهِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: وَيْلٌ وَوَيْحٌ وَوَيْسٌ كَلِمَاتٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ عِنْدَ الذَّمِّ، قَالَ: وَوَيْحٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُزْنِ، وَوَيْسٌ مِنَ الْأَسَى وَهُوَ الْحُزْنُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ أَهْلَ

ص: 553

اللُّغَةِ إِنَّمَا قَالُوا: وَيْلٌ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الْحُزْنِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ: الْوَيْلُ الْحُزْنُ فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ أَنَّ الدُّعَاءَ بِالْوَيْلِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْحُزْنِ. وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي سَاقَهَا الْمُؤَلِّفُ رحمه الله هُنَا فِيهَا مَا اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي لَفْظِهِ هَلْ هِيَ وَيْلٌ أَوْ وَيْحٌ، وَفِيهَا مَا تَرَدَّدَ الرَّاوِي فَقَالَ وَيْلٌ أَوْ وَيْحٌ، وَفِيهَا مَا جَزَمَ فِيهِ بِأَحَدِهِمَا، وَمَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَلِمَةُ تَوَجُّعٍ يُعْرَفُ هَلِ الْمُرَادُ الذَّمُّ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ السِّيَاقِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِهَا الْجَزْمَ بِوَيْلٍ وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى الْعَذَابِ بِظَاهِرٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مِنْهُمَا مَا ذُكِرَ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ إِحْدَاهُمَا مَوْضِعَ الْأُخْرَى. وَقَوْلُهُ: وَيْسٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَسَى، مُتَعَقَّبٌ لِاخْتِلَافِ تَصْرِيفِ الْكَلِمَتَيْنِ.

وذكر المصنف في الباب تسعة أحاديث تقدمت كلها:

الحديث الأول والثاني لأبي هريرة وأَنَسٍ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِسَائِقِ الْبَدَنَةِ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ، هذا لفظ أنس، وَمَا وَقَعَ في حديث أنس مِنَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ فِي قَوْلِهِ ثَلَاثًا أَوْ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، وَهَلْ قَالَ لَهُ وَيْلَكَ أَوْ وَيْحَكَ.

الحديث الثالث: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أَنْجَشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.

الحديث الرابع: حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ أَثْنَى رَجُلٌ وَفِيهِ وَيْلُكَ قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّمَادُحِ.

الحديث الخامس: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ وَقَوْلُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، قَالَ: وَيْلُكَ مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ شَرْحِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ وَفِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ. وَقَوْلُهُ هُنَا: عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ وَالنُّونِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ خَيْرُ فِرْقَةٍ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ، وَالضَّحَّاكُ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ شُرَحْبِيلَ الْمِشْرَفِيُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ.

تَابَعَهُ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ: وَيْلَكَ.

الحديث السادس: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَقَالَ: وَيْلُكَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ. وَقَوْلُهُ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ. وَقَوْلُهُ أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ فِيهِ رَدٌّ عَلَى مِنْ أَعَلَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ بِأَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ لِرِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ لَهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ هَكَذَا رَوَيْنَاهُ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ، وَعُقْبَةَ لَا بَأْسَ بِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْزَاعِيُّ لَقِيَ الزُّهْرِيَّ فَحَدَّثَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَلَغَهُ مِنْهُ فَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَقَوْلُهُ: مَا بَيْنَ طُنْبَيِ الْمَدِينَةِ بِضَمِّ الطَّاءِ والْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، تَثْنِيَةُ طُنْبٍ أَيْ نَاحِيَتَيِ الْمَدِينَةِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِضَمَّتَيْنِ، وَالْأَصْلُ ضَمُّ النُّونِ وَتُسَكَّنُ تَخْفِيفًا، وَأَصْلُ الطُّنْبِ الْحَبْلُ لِلْخَيْمَةِ فَاسْتُعِيرَ لِلطَّرَفِ مِنَ النَّاحِيَةِ. وَقَوْلُهُ: أَحْوَجَ مِنِّي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَفْقَرَ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ وَقَالَ خُذْهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ثُمَّ قَالَ أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ يُونُسُ) يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) يَعْنِي بِسَنَدِهِ فِي قَوْلِهِ: فَقَالَ: وَيْحَكَ، قَالَ وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ وَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَنْبَسَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ زِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِتَمَامِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ: وَيْحَكَ وَمَا ذَاكَ؟

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيْلَكَ) يَعْنِي بَدَلَ قَوْلِهِ وَيْحَكَ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ بسنده الْمَذْكُورِ فِيهِ فَقَالَ: مَا لك وَيْلَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي.

الحديث السابع: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (أَخْبِرْنِي عَنِ الْهِجْرَةِ، قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ) الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَإنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الْأَعْيَانِ قَبْلَ فَتْحَ مَكَّةَ،

ص: 554

فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَذِّرُهُمْ شِدَّةِ الْهِجْرَةِ وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِهِ صلى الله عليه وسلم لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ لِلْأَكْثَرِ أَيْ مِنْ وَرَاءِ الْقُرَى، وَالْقَرْيَةُ يُقَالُ لَهَا الْبَحْرَةُ لِاتِّسَاعِهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ جِيمٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَقَوْلُهُ أَنْ يَتْرَكَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ مِنَ التَّرْكِ وَالْكَافُ أَصْلِيَّةٌ، وَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ وَنَصْبِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ أَيْ لَنْ يُنْقِصَكَ.

الحديث الثامن: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: وَيْلُكُمْ أَوْ وَيْحُكُمْ قَالَ شُعْبَةُ: شَكَّ هُوَ) يَعْنِي شَيْخَهُ وَاقِدَ بْنَ مُحَمَّدٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّضْرُ) هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ (عَنْ شُعْبَةَ) يَعْنِي بِهَذَا السَّنَدِ (وَيْحَكُمْ) يَعْنِي لَمْ يَشُكَّ. وقَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ أَخُو وَاقِدٍ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ جَدِّهِ ابْنِ عُمَرَ (وَيْلُكُمْ أَوْ وَيْحُكُمْ) يَعْنِي مِثْلَ مَا قَالَ أَخُوهُ وَاقِدٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَوْ مِمَّنْ فَوْقَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ طَرِيقُ عُمَرَ هَذِهِ مَوْصُولَةً فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مُطَوَّلًا فِي بَابِ قَوْلِهِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

الحديث التاسع:

قَوْلُهُ: (هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ) صَرَّحَ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ قَتَادَةَ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ عَقِبَ هَذَا.

قَوْلُهُ: (إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ) فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ إنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَهُ نَحْوُهُ ; وَفِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْآتِيَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَنْ أَنَسٍ بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَارِجِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ أَنَّهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ الْيَمَانِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ حَدِيثَهُ بِذَلِكَ مُخَرَّجٌ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَبُو مُوسَى أَوْ أَبُو ذَرٍّ فَقَدْ وَهِمَ فَإِنَّهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي مَعْنَى الْجَوَابِ وَهُوَ أَنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ سُؤَالُهُمَا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ أَبِي مُوسَى، وَأَبِي ذَرٍّ إِنَّمَا سَأَلَ عَنِ الرَّجُلِ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ، وَهَذَا سَأَلَ مَتَى السَّاعَةُ؟

قَوْلُهُ: (مَتَى السَّاعَةُ قَائِمَةٌ) يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ. وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ وَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ.

قَوْلُهُ: (وَيْلَكَ، مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا) زَادَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ كَثِيرِ عَمَلٍ أَحْمَدُ عَلَيْهِ نَفْسِي وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَذْكُرْ كَثِيرًا وَفِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْمَذْكُورَةِ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ ثُمَّ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ مِنْ كَبِيرِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا وَأَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا.

قَوْلُهُ: (إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) أَيْ مُلْحَقٌ بِهِمْ حَتَّى تَكُونَ مِنْ زُمْرَتِهِمْ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ إِيرَادُ أَنَّ مَنَازِلَهُمْ مُتَفَاوِتَةٌ فَكَيْفَ تَصِحُّ الْمَعِيَّةُ! فَيُقَالُ: إِنَّ الْمَعِيَّةَ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاجْتِمَاعِ فِي شَيْءٍ مَا، وَلَا تَلْزَمُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا اتُّفَقَ أَنَّ الْجَمِيعَ دَخَلُوا الْجَنَّةَ صَدَقَتِ الْمَعِيَّةُ، وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الدَّرَجَاتُ، وَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْنَا: وَنَحْنُ كَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ) هَذَا يُؤَيِّدُ مَا بَيَّنْتُ بِهِ الْمَعِيَّةَ ; لِأَنَّ دَرَجَاتِ الصَّحَابَةِ مُتَفَاوِتَةٌ.

قَوْلُهُ: (فَفَرِحْنَا يَوْمَئِذٍ فَرَحًا شَدِيدًا) فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَنَسٍ فَلَمْ أَرَ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا فَرَحًا أَشَدَّ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (فَمَرَّ غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ مَرَّ غُلَامٌ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَبْلَهُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِي) أَيْ مِثْلِي فِي السِّنِّ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْقَرْنُ الْمِثْلُ فِي السِّنِّ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَبِكَسْرِهَا؛ الْمِثْلُ فِي الشَّجَاعَةِ قَالَ: وَفَعْلٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا لَا يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ، إِلَّا أَلْفَاظٌ لَمْ يَعُدُّوا هَذَا فِيهَا.

ص: 555

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسٍ وَذَلِكَ الْغُلَامُ مِنْ أَتْرَابِي يَوْمَئِذٍ وَالْأَتْرَابُ جَمْعُ تِرْبٍ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَهُمُ الْمُتَمَاثِلُونَ، شُبِّهُوا بِالتَّرَائِبِ الَّتِي هِيَ ضُلُوعٌ الصَّدْرِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ فِي آخِرِهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بَعْدُ غُلَامٌ قَالَ ابْنُ بَشْكُوَالَ اسْمُ هَذَا الْغُلَامِ مُحَمَّدٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ وَغُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ الْحَدِيثَ. قَالَ: وَقِيلَ اسْمُهُ سَعْدٌ. ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَنِ السَّاعَةِ - فَذَكَرَ حَدِيثًا - قَالَ فَنَظَرَ إِلَى غُلَامٍ مِنْ دَوْسٍ يُقَالُ لَهُ سَعْدٌ وَهَذَا أَخْرَجَهُ الْبَارُودِيُّ فِي الصَّحَابَةِ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَنَسٍ وَقَالَ فِيهِ مَرَّ سَعْدٌ الدَّوْسِيُّ قَالَ وَرَوَاهُ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ فَقَالَ فِيهِ: فَقَالَ لِشَابٍّ مِنْ دَوْسٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ سَعْدٍ.

قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسٍ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى غُلَامٍ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ فَيَحْتَمِلُ التَّعَدُّدُ، أَوْ كَانَ اسْمُ الْغُلَامِ سَعْدًا وَيُدْعَى مُحَمَّدًا أَوْ بِالْعَكْسِ، وَدَوْسٌ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالَفَ الْأَنْصَارَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: إِنْ أُخِّرَ هَذَا فَلَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَلَنْ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ وَهِيَ أَوْلَى. وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ إِنْ يَعِشْ هَذَا الْغُلَامُ فَعَسَى أَنْ لَا يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ لَئِنْ عَمَّرَ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ، كَذَا فِي الطُّرُقِ كُلِّهَا بِإِسْنَادِ الْإِدْرَاكِ لِلْهَرَمِ، وَلَوْ أُسْنِدَ لِلْغُلَامِ لَكَانَ سَائِغًا، وَلَكِنْ أُشِيرَ بِالْأَوَّلِ إِلَى أَنَّ الْأَجَلَ كَالْقَاصِدِ لِلشَّخْصِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَارُودِيِّ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا بَدَلَ قَوْلِهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ لَا يَبْقَى مِنْكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْمُرَادُ. وَلَهُ فِي أُخْرَى: مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ: أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ يَظُنُّونَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الدُّنْيَا تَنْقَضِي بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ الصَّحَابِيُّ فَوَهِلَ النَّاسُ فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ انْخِرَامَ قَرْنِهِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ عِيَاضٌ مُخْتَصَرًا.

قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي الْخَارِجِ كَذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ مِمَّنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ مَقَالَتِهِ تِلْكَ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ سَنَةِ مَوْتِهِ أَحَدٌ وَكَانَ آخِرُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَوْتًا أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَائِلَةَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَةِ سَاعَةُ الَّذِينَ كَانُوا حَاضِرِينَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الْمُرَادَ مَوْتُهُمْ، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى يَوْمِ مَوْتِهِمُ اسْمَ السَّاعَةِ لِإِفْضَائِهِ بِهِمْ إِلَى أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ الْعُظْمَى كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ الْمُبَالَغَةَ فِي تَقْرِيبِ قِيَامِ السَّاعَةِ لَا التَّحْدِيدَ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا تَقُومُ عِنْدَ بُلُوغِ الْمَذْكُورِ الْهَرَمَ.

قَالَ: وَهَذَا عَمَلٌ شَائِعٌ لِلْعَرَبِ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُبَالَغَةِ عِنْدَ تَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ تَحْقِيرِهِ وَعِنْدَ تَقْرِيبِ الشَّيْءِ وَعِنْدَ تَبْعِيدِهِ، فَيَكُونُ حَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ قَرِيبًا جِدًّا، وَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ الثَّانِي جَزَمَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ وَاسْتَبْعَدَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَشَارِقِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمَحْفُوظُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ لِلَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ تَأْتِيكُمْ سَاعَتُكُمْ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَوْتَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَابًا فَخَشِيَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ لَا أَدْرِي مَتَى السَّاعَةُ فَيَرْتَابُوا فَكَلَّمَهُمْ بِالْمَعَارِيضِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ كَانَ الْأَعْرَابُ إِذَا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَيَنْظُرُ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ

ص: 556

مِنْهُمْ سِنًّا فَيَقُولُ: إِنْ يَعِشْ هَذَا حَتَّى يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ قَالَ عِيَاضٌ وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ رِوَايَةٌ وَاضِحَةٌ تُفَسِّرُ كُلَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ فِي غَيْرِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنَّ الْغُلَامَ الْمَذْكُورَ لَا يُؤَخَّرُ وَلَا يُعَمَّرُ وَلَا يَهْرَمُ، أَيْ فَيَكُونُ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ فَكَذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الْجَزَاءُ، فَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِمْرَارُ الْإِشْكَالِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ حَمَلَ السَّاعَةَ عَلَى انْقِرَاضِ الدُّنْيَا وَحُلُولِ أَمْرِ الْآخِرَةِ كَانَ مُقْتَضَى الْخَبَرِ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ ذَلِكَ بِمِقْدَارِ مَا لَوْ عَمَّرَ ذَلِكَ الْغُلَامُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْهَرَمَ، وَالْمُشَاهَدُ خِلَافُ ذَلِكَ،

وَإِنْ حَمَلَ السَّاعَةَ عَلَى زَمَنٍ مَخْصُوصٍ رَجَعَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ سِنَّ الْهَرَمِ لَا حَدَّ لِقَدْرِهِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مَحْذُوفًا، كَذَا قَالَ.

قَوْلُهُ: (وَاخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَنَسًا) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظُهُ بَلْ أَحَالَ بِهِ عَلَى رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَنَسٍ، وَسَاقَهَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَلَفْظُهُ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ هَمَّامٍ، فَكَأَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِالِاخْتِصَارِ مَا زَادَهُ هَمَّامٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: فَقُلْنَا: وَنَحْنُ كَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَفَرِحْنَا يَوْمَئِذٍ فَرَحًا شَدِيدًا، فَمَرَّ غُلَامٌ إِلَخْ.

‌96 - بَاب عَلَامَةِ الحُبِّ في اللَّهِ لِقَوْلِهِ تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}

6168 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ.

[الحديث 6168 - طرفه في: 6169]

6169 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْماً وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".

تَابَعَهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

6170 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ قَالَ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".

تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ

6171 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ".

ص: 557

قَوْلُهُ: (بَابُ عَلَامَةِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّرْجَمَةِ مَحَبَّةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، أَوْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ، أَوِ الْمَحَبَّةُ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، بِحَيْثُ لَا يَشُوبُهَا شَيْءٌ مِنَ الرِّيَاءِ، وَالْآيَةُ مُسَاعِدَةٌ لِلْأَوَّلَيْنِ، وَاتِّبَاعُ الرَّسُولِ عَلَامَةٌ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّهَا مُسَبِّبَةٌ لِلِاتِّبَاعِ، وَلِلثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ انْتَهَى. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُطَابَقَةِ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ. وَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَالْمُشْكِلُ مِنْهُ جَعْلُ ذَلِكَ عَلَامَةَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي الَّذِي أَبْدَاهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَأَنَّ الْمُرَادَ عَلَامَةُ حُبِّ الْعَبْدِ لِلَّهِ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ أَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَدَلَّ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِامْتِثَالِ جَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ طَرِيقِ التَّفَضُّلِ بِاعْتِقَادِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ اسْتِيفَاءُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، بَلْ مَحَبَّةُ مَنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ كَافِيَةٌ فِي حُصُولِ أَصْلِ النَّجَاةِ، وَالْكَوْنِ مَعَ الْعَامِلَيْنِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهُمْ إِنَّمَا هِيَ لِأَجْلِ طَاعَتِهِمْ. وَالْمَحَبَّةُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَأَثَابَ اللَّهُ مُحِبَّهُمْ عَلَى مُعْتَقَدِهِ، إِذِ النِّيَّةُ هِيَ الْأَصْلُ وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لَهَا، وَلَيْسَ مِنْ لَازِمِ الْمَعِيَّةِ الِاسْتِوَاءُ فِي الدَّرَجَاتِ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لِقَوْلِهِمْ تَصْدِيقًا مِنْ عَمَلٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَذَكَرَ الْكَلْبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ قَالَ الْيَهُودُ:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وَفِي تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ، قَالُوا: إِنَّمَا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ حُبًّا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ. وَفِي تَفْسِيرِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّمَا نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ حُبًّا لِلَّهِ لِتُقَرِّبَنَا إِلَيْهِ زُلْفَى فَنَزَلَتْ.

قَوْلُهُ: (شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ سَمِعَ أَبَا وَائِلٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هَكَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ شُعْبَةَ فَقَالُوا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْسُبُوهُ مِنْهُمُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَعَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَحَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَند بُنْدَارٍ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ الْآتِيَةِ عَقِبَ هَذَا، وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُهُ، وَلَكِنَّ صَنِيعَ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنِ أَبِي مُوسَى جَمِيعًا وَأَنَّ الطَّرِيقَيْنِ صَحِيحَانِ لِأَنَّهُ بَيَّنَ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُرَجِّحْ، وَلِذَا ذَكَرَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ الطَّرِيقَيْنِ صَحِيحَانِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصْلًا، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الْمُحِبِّينَ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أَتَيْتُ أَنَا وَأَخِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ.

تَابَعَهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ،

ص: 558

عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ - تَابَعَهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَرِيرًا الْأَوَّلَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ فَوَصَلَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الْمُحِبِّينَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَزْهَرِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِ، عَنْ وَهْبِ عن جَرِيرٍ بن حازم، حَدَّثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَنْسِبْ عَبْدَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَمُتَابَعَتُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْجَوَابِ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَعَطَفَهَا عَلَى رِوَايَةِ شُعْبَةَ فَقَالَ مِثْلَهُ، وَسَاقَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ لَفْظَهَا وَلَمْ يَنْسِبْ عَبْدَ اللَّهِ أَيْضًا، وَسَاقَهَا الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْمُكَمَّلِ مُطَوَّلَةً.

قَوْلُهُ: (وَأَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ) يَعْنِي أَنَّ الثَّلَاثَةَ رَوَوْهُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو عَوَانَةَ هَذَا هُوَ الْوَضَّاحُ، وَأَمَّا أَبُو عَوَانَةَ صَاحِبُ الصَّحِيحِ فَاسْمُهُ يَعْقُوبُ وَمُتَابَعَةُ أَبِي عَوَانَةَ الوضاح وَصَلَهَا أَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ، وَالْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْمُكَمَّلِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ عَنْهُ وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ.

تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مُوسَى) هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ قَبِيصَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَقَالَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ بُنْدَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَيْثُ لَمْ يُنْسَبْ، فَالْمُرَادُ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو مُوسَى، وَأَنَّ مَنْ نَسَبَهُ ظَنَّ أَنَّهُ ابْنُ مَسْعُودٍ لِكَثْرَةِ مَجِيءِ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ فِي رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ، وَلَكِنَّهُ هُنَا خَرَجَ عَنِ الْقَاعِدَةِ، وَتَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ مَنْ صَرَّحَ أَنَّهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ وَهُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ هَذِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ فَقَالَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ حَسِبَ، وَكَذَا قَالَ أَبُو يَعْلَى، عَنْ أَبِي خَثيمَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ كُلُّهُمْ عَنْ جَرِيرٍ، وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ تَابَعَهُ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ رِوَايَتِهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ شَيْبَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَلَمْ يَنْسِبْهُ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ) يَعْنِي عَنِ الْأَعْمَشِ، وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْهُمَا وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كُنَاسَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَوَجَدْتُ لِلْأَعْمَشِ فِيهِ إِسْنَادًا آخَرَ أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ رَشِيقٍ فِي ش يُوخِ مَكَّةَ لَهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّوسِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ بِهِ وَقَالَ: غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ سَهْلٌ، قُلْتُ: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنِّي لَا أَعْرِفُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَلَعَلَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ مَتْنُ حَدِيثٍ فِي إِسْنَادِ حَدِيثٍ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ) فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ وَأَوْلَى مَا فُسِّرَ بِهِ هَذَا الْمُبْهَمُ أَنَّهُ أَبُو مُوسَى رَاوِي الْحَدِيثِ، فَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كُنَاسَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ عِنْدِ أَبِي نُعَيْمٍ فَإِنَّ لَفْظَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ قَوْمًا وَلَا أَلْحَقُ بِهِمْ الْحَدِيثَ وَأَبُو مُوسَى إِنْ جَازَ أَنْ يُبْهِمَ نَفْسَهُ فَيَقُولُ: أَتَى رَجُلٌ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قُلْتُ لِصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْهَوَا شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي مَسِيرٍ، فَنَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ فَقَالَ: أَيَا مُحَمَّدُ، فَأَجَابَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ فَقَالَ: هَاؤُمُ.

قَالَ: أَرَأَيْتَ الْمَرْءَ يُحِبُّ الْقَوْمَ الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الْمُحِبِّينَ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَهَذَا الْأَعْرَابِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ صَفْوَانُ بْنُ قُدَامَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّكَ، قَالَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَقَدْ وَقَعَ هَذَا السُّؤَالُ لِغَيْرِ مَنْ ذُكِرَ، فَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ أَيْضًا وَأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ

ص: 559

طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ الْحَدِيثَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، فَإِنْ كَانَ مَضْبُوطًا أَمْكَنَ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الْمُبْهَمُ فِي حَدِيثِ ابن مُوسَى، لَكِنِ الْمَحْفُوظَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ لرَّجُل يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُ النَّاس عَلَيْهِ كَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، فَلَعَلَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْآتِيَةِ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ وَهِيَ أَبْلَغُ فَإِنَّ النَّفْيَ بِلَمَّا أَبْلَغُ مِنَ النَّفْيِ بِلَمْ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ وَلَوْ بَعْدَ اللَّحَاقِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَمْ يَلْحَقْ بِعَمَلِهِمْ وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَبْلُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ بِعَمَلِهِمْ وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمِثْلِ عَمَلِهِمْ وَهُوَ يُفَسِّرُ الْمُرَادَ.

قَوْلُهُ: (الْمَرْءُ مَنْ أَحَبَّ) قَدْ جَمَعَ أَبُو نُعَيْمٍ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ كِتَابُ الْمُحِبِّينَ مَعَ الْمَحْبُوبِينَ وَبَلَغَ الصَّحَابَةُ فِيهِ نَحْوَ الْعِشْرِينَ، وَفِي رِوَايَةِ أَكْثَرِهِمْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ أَنَسٍ الْآتِي عَقِبَ هَذَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، وَيُقَالُ إِنَّ أَبَاهُ تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ شُعْبَةَ، وَضَاقَ مَخْرَجُهُ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فَأَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدَانَ، وَوَقَعَ لِي من رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ شُعْبَةَ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُحِبِّينَ مِنْ طَرِيقِ السَّمَيْدَعِ بْنِ وَاهِبٍ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَاهُ مَنْصُورٌ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمٍ وَاسْتَغْرَبَهُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ رَجُلًا) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَسْمِيَتِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (مَتَى السَّاعَةُ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَنَسٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ فِي أَوَّلِهِ بَيْنَمَا أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَارِجَيْنِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمَلِيحِ الرَّقِّيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَعَرَّضَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ دَخَلَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ وَمَنْ رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ على السَّاعَةِ؟ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ سَأَلَهُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَلَمْ يُجِبْهُ حِينَئِذٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ ثم صلى ثم قال: أين السائل عن الساعة؟ ويجمع بينهما بأن سأله والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فلم يجبه حينئذ، فما انصرف من الصلاة وَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ رَآهُ فَتَذَكَّرَ سُؤَالَهُ، أَوْ عَاوَدَهُ الْأَعْرَابِيُّ فِي السُّؤَالِ فَأَجَابَهُ حِينَئِذٍ.

قَوْلُهُ: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا)؟ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: سَلَكَ مَعَ السَّائِلِ أُسْلُوبَ الْحَكِيمِ، وَهُوَ تَلَقِّي السَّائِلَ بِغَيْرِ مَا يَطْلُبُ مِمَّا يُهِمُّهُ أَوْ هُوَ أَهَمُّ.

قَوْلُهُ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) زَادَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَكَ مَا احْتَسَبْتَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَلَهُ مِثْلُهُ مِنْ طَرِيقِ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَلَهُ مَا اكْتَسَبَ وَمِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، وَعَلَيْكَ مَا اكْتَسَبْتَ، وَعَلَى اللَّهِ مَا احْتَسَبْتَ.

‌97 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: اخْسَأْ

6172 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ، سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ صَائِدٍ: قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا فَمَا هُوَ؟ قَالَ: الدُّخُّ قَالَ: اخْسَأْ.

6173 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ

ص: 560

بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدَهُ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فِي أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ - وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ الْحُلُمَ - فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَضَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. ثُمَّ قَالَ لِابْنِ صَيَّادٍ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُلِّطَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا. قَالَ: هُوَ الدُّخُّ. قَالَ: اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنْ يَكُنْ هُوَ لَا تُسَلَّطُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ.

6174 -

قَالَ سَالِمٌ: فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ - وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ أَوْ زَمْزَمَةٌ - فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ: أَيْ صَافِ - وَهُوَ اسْمُهُ - هَذَا مُحَمَّدٌ. فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ!.

6175 -

قَالَ سَالِمٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، ولَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: خَسَأْتُ الْكَلْبَ: بَعَّدْتُهُ، {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} مُبْعَدِينَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: اخْسَأْ) سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْسَأْ زَجْرٌ لِلْكَلْبِ وَإِبْعَادٌ لَهُ، هَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَاسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ فِي كُلِّ مَنْ قَالَ أَوْ فَعَلَ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ مِمَّا يُسْخِطُ اللَّهَ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ صَيَّادٍ: قَدْ خَبَّأْتُ لَكَ خَبِئًا، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ قَالَ: الدُّخُّ. قال: اخسأ. وأخرجه من رواية عبد الله بن عمر قال: انطلق عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه قبل ابن صياد، فذكر الحديث مطولا، وفيه: اخسأ، فلن تعدو قدرك.

وقد سبق مطولا في أواخر كتاب الجنائز، وقوله في هذه الرواية: فرضه النبي صلى الله عليه وسلم، قال الخطابي: وقع هنا بالضاد المعجمة وهو غلط؛ والصواب بالصاد المهملة، أي قبض عليه بثوبه يضم بعضه إلى بعض، وقال ابن بطال: من رواه بالمعجمة فمعناه دفعه حتى وقع فتكسر، يقال: رض الشيء فهو رضيض ومرضوض إذا انكسر.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: خَسَأْتَ الْكَلْبَ بَعَّدْتَهُ، خَاسِئِينَ مُبْعَدِينَ) ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} ؛ أَيْ قَاصِرينَ مُبْعَدِينَ، يُقَالُ:

ص: 561

خَسَأْتُهُ عَنِّي، وَخَسَأَ هُوَ، يَعْنِي يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} ؛ أَيْ مُبْعَدًا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: خَسَأَ الْبَصَرُ انْقَبَضَ عَنْ مَهَانَةٍ، وَخَسَأْتَ الْكَلْبَ فَخَسَأَ أَيْ زَجَرْتَهُ مُسْتَهِينًا بِهِ فَانْزَجَرَ. وَقالَ ابْنُ التِّينِ فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ اخْسَأْ: مَعْنَاهُ اسْكُتْ صَاغِرًا مَطْرُودًا. وَثَبَتَتِ الْهَمْزَةُ فِي آخِرِ اخْسَأْ فِي رِوَايَةٍ، وَحُذِفَتْ فِي أُخْرَى بِلَفْظِ: اخْسَ؛ وَهُوَ تَخْفِيفٌ.

‌98 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ: مَرْحَبًا. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ: مَرْحَبًا بِابْنَتِي.

وَقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: جِئْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ

6176 -

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مُضَرُ، وَإِنَّا لَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَنَدْعُوا بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا. فَقَالَ: أَرْبَعٌ وَأَرْبَعٌ؛ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ، وَأَعْطُوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ. وَلَا تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ: مَرْحَبًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَرْحَبًا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ مَرْحَبًا: لَقِيتَ رَحْبًا وَسَعَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَفِيهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ بِالرَّحْبِ وَالسَّعَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ؛ أَيْ: لَقِيتَ سَعَةً لَا ضِيقًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ: مَرْحَبًا بِابْنَتِي) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي الْحَدِيثَ، وَفِيهِ الْقَدْرُ الْمُعَلَّقُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: جِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عُقَيْلٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، وَفِيهِ اغْتِسَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرُ ذَلِكَ.

ثم ذكر حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي وَفْدِ عَبْدِ قَيْسٍ، وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَفِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مُسْتَوْفًى، وَأَخْرَجَهُ هُنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي التَّيَّاحِ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ وَاسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ، وَوَقَعَ فِي سِيَاقِ مَتْنِهِ أَلْفَاظٌ لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ: مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: أَرْبَعٌ وَأَرْبَعٌ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَأَعْطُوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَلَا تَشْرَبُوا الْحَدِيثَ. وَالْمَعْنَى: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ. وَمِنْهَا جَعْلُهُ إِعْطَاءَ الْخُمُسِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْبَعِ، وَفِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الْأَرْبَعِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا خَطَبَ فَاطِمَةَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَ فِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: اسْتَأْذَنَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ وَالْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِيهِ أَحَادِيثَ أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ.

ص: 562

‌99 - بَاب مَا يُدْعَى النَّاسُ بِآبَائِهِمْ

6177 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ.

6178 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُدْعَى النَّاسُ بِآبَائِهِمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَذَكَرُهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِلَفْظِ: هَلْ يُدْعَى النَّاسُ زَادَ فِي أَوَّلِهِ هَلْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ سَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ فِي بَابِ تَحْوِيلِ الِاسْمِ وَاسْتَغْنَى الْمُصَنِّفُ عَنْهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ بِحَدِيثِ الْبَابِ، وهو حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْغَادِرِ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ لِقَوْلِهِ فِيهِ: غَدْرَةُ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، فَتَضَمَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى أَبِيهِ فِي الْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ. ووَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى يُنْصَبُ بَدَلَ يُرْفَعُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ هُنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يَعْنِي لِأَنَّ الْغَرَضَ إِظْهَارُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ لَا يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِأُمَّهَاتِهِمْ سَتْرًا عَلَى آبَائِهِمْ. قُلْتُ: هُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مِثْلَهُ وَقَالَ: مُنْكَرٌ. أَوْرَدَهُ فِي تَرْجَمَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الطَّبَرِيِّ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَالدُّعَاءُ بِالْآبَاءِ أَشَدُّ فِي التَّعْرِيفِ وَأَبْلَغُ فِي التَّمْيِيزِ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْحُكْمِ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ.

قُلْتُ: وَهَذَا يَقْتَضِي حَمْلَ الْآبَاءِ عَلَى مَنْ كَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا لَا عَلَى مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَيُنْظَرُ كَلَامُهُ مِنْ شَرْحِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: وَالْغَدْرُ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ. وَفِيهِ أَنَّ لِصَاحِبِ كُلِّ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي يُرِيدُ اللَّهُ إِظْهَارَهَا عَلَامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا صَاحِبُهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} قَالَ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ لِكُلِّ غَدْرَةٍ لِوَاءً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ عِدَّةُ أَلْوِيَةٍ بِعَدَدِ غَدَرَاتِهِ. قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي نَصْبِ اللِّوَاءِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَقَعُ غَالِبًا بِضِدِّ الذَّنْبِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدْرُ مِنَ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ نَاسَبَ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ بِالشُّهْرَةِ، وَنَصْبُ اللِّوَاءِ أَشْهَرُ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْعَرَبِ.

‌100 - بَاب لَا يَقُلْ: خَبُثَتْ نَفْسِي

6179 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي.

6180 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي. تَابَعَهُ عُقَيْلٌ

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَقُلْ: خَبُثَتْ نَفْسِي) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ، وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالضَّمِّ أَصْوَبُ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْخُبْثُ يُطْلَقُ عَلَى الْبَاطِلِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْكَذِبِ فِي الْمَقَالِ، وَالْقَبِيحِ فِي

ص: 563

الْفِعَالِ. قُلْتُ: وَعَلَى الْحَرَامِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ.

أورد حَدِيثُ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي، وحديث سهل بن حنيف مثله سواء. قَالَ الْخَطَّابِيُّ تَبَعًا لِأَبِي عُبَيْدٍ: لَقِسَتْ وَخَبُثَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَإِنَّمَا كَرِهَ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ اسْمَ الْخُبْثِ فَاخْتَارَ اللَّفْظَةَ السَّالِمَةَ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ تَبْدِيلُ الِاسْمِ الْقَبِيحِ بِالْحَسَنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى لَقِسَتْ غَثَتْ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ، وَهُوَ يَرْجِعُ أَيْضًا إِلَى مَعْنَى خَبِثت، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ سَاءَ خُلُقُهَا، وَقِيلَ: مَالَتْ بِهِ إِلَى الدَّعَةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ عَلَى مَعْنَى الْأَدَبِ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ فِي الَّذِي يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِهِ فَيُصْبِحُ خَبِيثَ النَّفْسِ. وَنَطَقَ الْقُرْآنُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} قُلْتُ: لَكِنْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ إِلَّا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ مِنْ كَرَاهَةِ وَصْفِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ سَبَقَ لِهَذَا عِيَاضٌ فَقَالَ: الْفَرْقُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ عَنْ صِفَةِ شَخْصٍ مَذْمُومِ الْحَالِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ إِطْلَاقُ ذَلِكَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لِلنَّدْبِ، وَالْأَمْرُ بِقَوْلِهِ لَقِسَتْ لِلنَّدْبِ أَيْضًا، فَإِنْ عَبَّرَ بِمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ كَفَى، وَلَكِنْ تَرَكَ الْأَوْلَى.

قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ مُجَانَبَةِ الْأَلْفَاظِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَسْمَاءِ، وَالْعُدُولُ إِلَى مَا لَا قُبْحَ فِيهِ، وَالْخُبْثُ وَاللَّقْسُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ يَتَأَدَّى بِكُلٍّ مِنْهُمَا لَكِنْ لَفْظُ الْخُبْثِ قَبِيحٌ وَيَجْمَعُ أُمُورًا زَائِدَةً عَلَى الْمُرَادِ، بِخِلَافِ اللَّقْسِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِامْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ. قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ يَطْلُبُ الْخَيْرَ حَتَّى بِالْفَأْلِ الْحَسَنِ، وَيُضِيفُ الْخَيْرَ إِلَى نَفْسِهِ وَلَوْ بِنِسْبَةٍ مَا، وَيَدْفَعُ الشَّرَّ عَنْ نَفْسِهِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَيَقْطَعُ الْوَصْلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الشَّرِّ حَتَّى فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ. قَالَ: وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا أَنَّ الضَّعِيفَ إِذَا سُئِلَ عَنْ حَالِهِ لَا يَقُولُ لَسْتُ بِطَيِّبٍ، بَلْ يَقُولُ ضَعِيفٌ، وَلَا يُخْرِجُ نَفْسَهُ مِنَ الطَّيِّبِينَ فَيُلْحِقُهَا بِالْخَبِيثِينَ.

(تَنْبِيهٌ): أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ حَدِيثَ سَهْلٍ مِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ثُمَّ قَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى، وَقَالَ: هُوَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَالصَّحِيحُ يُونُسُ. قُلْتُ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِلَّا عَنْ يُونُسَ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عُقَيْلٌ) يَعْنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ وَالْمَتْنِ، وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ وَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلٍ وَسَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَثَبَتَتْ لِلنَّسَفِيِّ وَالْبَاقِينَ.

‌101 - بَاب لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ

6181 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ: يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.

6182 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ وَلَا تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ".

[الحديث 6182 - طرفه في: 6183]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ) هَذَا اللَّفْظُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي

ص: 564

هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ، وَبَعْدَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ.

قَوْلُهُ: (اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: هَكَذَا لِلْجَمِيعِ إِلَّا لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ فَقَالَ فِيهِ: اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَهَكَذَا وَقَعَ فِي الزُّهْرِيَّاتِ لِلذُّهْلِيِّ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ، وَلَكِنَّ لَفْظَهُ: لَا يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: الْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ لِيُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ عِنْدَ اللَّيْثِ عَنْ شَيْخَيْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، وَابْنُ بُكَيْرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بِهِ.

قَوْلُهُ (قَالَ اللَّهُ: يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ) هَذِهِ رِوَايَةُ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرِوَايَةُ مَعْمَرٍ بَعْدَهَا بِلَفْظِ: وَلَا تَقُولُوا يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ أَوَّلُهُ: لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى مَعْمَرٍ فِي شَيْخِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ: قَالَ اللَّهُ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَهَكَذَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِيَ الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَدْ مَضَى فِي التَّفْسِيرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْحَدِيثَانِ لِلزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ جَمِيعًا صَحِيحَانِ.

قُلْتُ: قَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ: كِلَاهُمَا مَحْفُوظٌ، لَكِنْ حَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ أَشْهَرُهُمَا، قُلْتُ: وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ فِيهِ عَنْ مَعْمَرٍ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالَ: عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَسُبُّ أَحَدُكُمُ الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ ; وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ الْعِنَبِ الْكَرْمَ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَقُلِ ابْنُ آدَمَ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، إِنِّي أَنَا الدَّهْرُ، أُرْسِلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا. وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ، وَالْبَاقِي مِثْلُ رِوَايَةِ عبد الْأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ، عَنْ مَالِكٍ فِي آخِرِهِ: فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: خَالَفَ جَمِيعَ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ، وَجَمِيعَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْجَمِيعَ قَالُوا: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: أَنَا الدَّهْرُ، الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي لِي أُجَدِّدُهَا وَأُبْلِيهَا، وَآتِي بِمُلُوكٍ بَعْدَ مُلُوكٍ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَقُولُوا خَيْبَةُ الدَّهْرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلنَّسَفِيِّ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، وَفِي غير الْبُخَارِيِّ: وَاخَيْبَةَ الدَّهْرِ؛ الْخَيْبَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ: الْحِرْمَانُ، وَهِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى النُّدْبَةِ، كَأَنَّهُ فَقَدَ الدَّهْرَ لِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ فَنَدَبَهُ مُتَفَجِّعًا عَلَيْهِ أَوْ مُتَوَجِّعًا مِنْهُ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ دُعَاءٌ عَلَى الدَّهْرِ بِالْخَيْبَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: قَحَطَ اللَّهُ نَوْءَهَا، يَدْعُونَ عَلَى الْأَرْضِ بِالْقَحْطِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ هَذَا أَصْلُهَا ثُمَّ صَارَتْ تُقَالُ لِكُلِّ مَذْمُومٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: وَادَهْرَهُ وَادَهْرَهُ، وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِلْمَكْرُوهِ فَسَبَّهُ أَخْطَأَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ، فَإِذَا سَبَبْتُمْ مَنْ أَنْزَلَ ذَلِكَ بِكُمْ رَجَعَ السَّبُّ إِلَى اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ، وَمُحَصَّلُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ؛ أَيِ الْمُدَبِّرُ لِلْأُمُورِ.

ثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ؛ أَيْ صَاحِبُ الدَّهْرِ.

ثَالِثُهَا: التَّقْدِيرُ مُقَلِّبُ الدَّهْرِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: بِيَدِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: بِيَدِيَ

ص: 565

اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ أُجَدِّدُهُ وَأُبْلِيهِ وَأَذْهَبُ بِالْمُلُوكِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مَنْ نَسَبَ شَيْئًا مِنَ الْأَفْعَالِ إِلَى الدَّهْرِ حَقِيقَةً كَفَرَ، وَمَنْ جَرَى هَذَا اللَّفْظُ عَلَى لِسَانِهِ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِشَبَهِهِ بِأَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ نَحْوُ التَّفْصِيلِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِمْ: مُطِرْنَا بِكَذَا. وَقَالَ عِيَاضٌ: زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ لَهُ أَنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَهُوَ غَلَطٌ؛ فَإِنَّ الدَّهْرَ مُدَّةُ زَمَانِ الدُّنْيَا، وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ أَمَدُ مَفْعُولَاتِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِعْلِهِ لِمَا قَبْلَ الْمَوْتِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ الْجَهَلَةُ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى مَنْ لَا رُسُوخَ لَهُ فِي الْعِلْمِ ; لِأَنَّ الدَّهْرَ عِنْدَهُمْ حَرَكَاتُ الْفَلَكِ وَأَمَدُ الْعَالَمِ وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ وَلَا صَانِعَ سِوَاهُ، وَكَفَى فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: أَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فَكَيْفَ يُقَلِّبُ الشَّيْءُ نَفْسَهُ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّنْعَةَ فَقَدْ سَبَّ صَانِعَهَا، فَمَنْ سَبَّ نَفْسَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَقْدَمَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ بِغَيْرِ مَعْنًى، وَمَنْ سَبَّ مَا يَجْرِي فِيهِمَا مِنَ الْحَوَادِثِ، وَذَلِكَ هُوَ أَغْلَبُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ حَيْثُ نَفَى عَنْهُمَا التَّأْثِيرُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا ذَنْبَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الْحَوَادِثُ فَمِنْهَا مَا يَجْرِي بِوَسَاطَةِ الْعَاقِلِ الْمُكَلَّفِ فَهَذَا يُضَافُ شَرْعًا وَلُغَةً إِلَى الَّذِي جَرَى عَلَى يَدَيْهِ، وَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لِكَوْنِهِ بِتَقْدِيرِهِ، فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مِنْ أَكْسَابِهِمْ، وَلَهَذَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، وَهِيَ فِي الِابْتِدَاءِ خَلْقُ اللَّهِ. وَمِنْهَا مَا يَجْرِي بِغَيْرِ وَسَاطَةٍ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى قُدْرَةِ الْقَادِرِ، وَلَيْسَ الِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِعْلٌ وَلَا تَأْثِيرٌ لَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا يَجْرِي مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْعَاقِلِ. ثُمَّ أَشَارَ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ تَنْبِيهٌ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، وَأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى تَرْكِ سَبِّ كُلِّ شَيْءٍ مُطْلَقًا إِلَّا مَا أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ أَيْضًا مَنْعُ الْحِيلَةِ فِي الْبُيُوعِ كَالْعَيِّنَةِ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ لِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَجَعَلَهُ سَبًّا لِخَالِقِهِ.

‌102 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ

وَقَدْ قَالَ: إِنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ، كَقَوْلِهِ: لَا مُلْكَ إِلَّا الِلَّهِ، فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ الْمُلْكِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُلُوكَ أَيْضًا فَقَالَ:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا}

6183 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَيَقُولُونَ الْكَرْمُ، إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَقَدْ قَالَ: إِنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ، كَقَوْلِهِ: لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ الْمُلْكِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُلُوكَ أَيْضًا فَقَالَ:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} غَرَضُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْحَصْرَ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الْأَحَقَّ بِاسْمِ الْكَرْمِ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُسَمَّى كَرْمًا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ إِنَّمَا الْمُفْلِسُ مَنْ ذُكِرَ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ مَنْ يُفْلِسُ فِي الدُّنْيَا لَا يُسَمَّى مُفْلِسًا، وَبِقَوْلِهِ إِنَّمَا الصُّرَعَةُ كَذَلِكَ، وَكَذَا قَوْلُهُ لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ؛ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى غَيْرُهُ مَلِكًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُلْكَ الْحَقِيقِيَّ وَإِنْ سُمِّيَ غَيْرُهُ مَلِكًا، وَاسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ

ص: 566

الْمُلُوكَ، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ عِدَّةُ أَمْثِلَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الْمَلِكُ؛ فِي صَاحِبِ يُوسُفَ وَغَيْرِهِ، وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ تَرْكُ الْمُبَالَغَةِ وَالْإِغْرَاقِ فِي الْوَصْفِ إِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَحَدِيثُ إِنَّمَا الْمُفْلِسُ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الرِّقَاقِ، وَحَدِيثُ إِنَّمَا الصُّرَعَةُ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَحَدِيثُ لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ أَبْغَضِ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَوَقَعَ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ هُنَا بِلَفْظِ: لَا مُلْكَ إِلَّا لِلَّهِ؛ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَحَذْفِ الْأَلِفِ بَعْدَ قَوْلِهِ إِلَّا، وَالْأَوَّلُ هُوَ اللَّائِقُ لِلسِّيَاقِ.

قَوْلُهُ: (وَيَقُولُونَ الْكَرْمُ، إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ) هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ. وَوَقَعَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِلَفْظِ: لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ كَرْمًا، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ، إِنَّمَا الْكَرْمُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ. وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: لَا تَقُولُوا الْكَرْمَ، وَلَكِنْ قُولُوا الْعِنَبَ وَالْحَبْلَةَ. قَالُوا: وَفِي قَوْلِهِ فِي الْبَابِ وَيَقُولُونَ عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ حُذِفَ هُنَا، وَكَأَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: يَقُولُونَ؛ بِغَيْرِ وَاوٍ، أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، وَذَكَرَهُ بِالْوَاوِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ، وَلَكِنْ قَالَ فِيهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ، وَقَالَ مَرَّةً: يَبْلُغُ بِهِ، وَقَالَ مَرَّةً: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَعَمْرٍو النَّاقِدِ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا السَّنَدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُولُوا كَرْمٌ، فَإِنَّ الْكَرْمَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ. وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ الْكَرْمُ، وهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: يَقُولُونَ الْكَرْمُ شَجَرُ الْعِنَبِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ اسْمَ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ فِي الْكُتُبِ الْكَرْمُ مِنْ أَجْلِ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى الْخَلِيقَةِ، وَإِنَّكُمْ تَدْعُونَ الْحَائِطَ مِنَ الْعِنَبِ الْكَرْمَ الْحَدِيثَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ تَأْكِيدُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِمَحْوِ اسْمِهَا، وَلِأَنَّ فِي تَبْقِيَةِ هَذَا الِاسْمِ لَهَا تَقْرِيرًا لِمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَهُ مِنْ تَكَرُّمِ شَارِبِهَا فَنَهَى عَنْ تَسْمِيَتِهَا كَرْمًا، وَقَالَ: إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ وَهُدَى الْإِسْلَامِ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُمْ سَمَّوُا الْعِنَبَ كَرْمًا لِأَنَّ الْخَمْرَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْهُ تَحُثُّ عَلَى السَّخَاءِ وَتَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ حَتَّى قَالَ شَاعِرُهُمْ:

وَالْخَمْرُ مُشْتَقَّةُ الْمَعْنَى مِنَ الْكَرْمِ

وَقَالَ آخَرُ:

شُقِقْتُ مِنَ الصِّبَى وَاشْتُقَّ مِنِّي

كَمَا اشْتُقَّتْ مِنَ الْكَرْمِ الْكُرُومُ

فَلِذَلِكَ نَهَى عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ بِالْكَرْمِ حَتَّى لَا يُسَمُّوا أَصْلَ الْخَمْرِ بِاسْمٍ مَأْخُوذٍ مِنَ الْكَرْمِ، وَجُعِلَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَتَّقِي شُرْبَهَا وَيَرَى الْكَرَمَ فِي تَرْكِهَا أَحَقَّ بِهَذَا الِاسْمِ، انْتَهَى. وَأَمَّا قَوْلُ الْأَزْهَرِيِّ: سُمِّيَ الْعِنَبُ كَرْمًا لِأَنَّهُ ذُلِّلَ لِقَاطِفِهِ وَلَيْسَ فِيهِ سُلَّاءٌ يَعْقِرُ جَانِيهِ وَيَحْمِلُ الْأَصْلَ مِنْهُ مِثْلَ مَا تَحْمِلُ النَّخْلَةُ فَأَكْثَرُ، وَكُلِّ شَيْءٍ كَثُرَ فَقَدْ كَرُمَ، فَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الِاشْتِقَاقِ لَكِنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ أَنْسَبُ لِلنَّهْيِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: النَّهْيُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا وَعَنْ تَسْمِيَةِ شَجَرِهَا أَيْضًا لِلْكَرَاهِيَةِ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ، عَنِ الْمَازِرِيِّ أَنَّ السَّبَبَ فِي النَّهْيِ أَنَّهُ لَمَّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الْخَمْرُ وَكَانَتْ طِبَاعُهُمْ تَحُثُّهُمْ عَلَى الْكَرَمِ كَرِهَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَمَّى هَذَا الْمُحَرَّمُ بِاسْمٍ تَهِيجُ طِبَاعُهُمْ إِلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْمُحَرِّكِ لَهُمْ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ مَحِلَّ النَّهْيِ إِنَّمَا هُوَ تَسْمِيَةُ الْعِنَبِ كَرْمًا، وَلَيْسَتِ الْعِنَبَةُ مُحَرَّمَةً، وَالْخَمْرُ لَا تُسَمَّى عِنَبَةً بَلِ الْعِنَبُ قَدْ يُسَمَّى خَمْرًا بِاسْمِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ.

قُلْتُ: وَالَّذِي قَالَهُ الْمَازِرِيُّ مُوَجَّهٌ ; لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى إِرَادَةِ حَسْمِ الْمَادَّةِ بِتَرْكِ تَسْمِيَةِ أَصْلِ الْخَمْرِ بِهَذَا الِاسْمِ الْحَسَنِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ النَّهْيُ تَارَةً عَنِ الْعِنَبِ وَتَارَةً عَنْ شَجَرَةِ الْعِنَبِ فَيَكُونُ التَّنْفِيرُ

ص: 567

بِطَرِيقِ الْفَحْوَى ; لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ تَسْمِيَةِ مَا هُوَ حَلَالٌ فِي الْحَالِ بِالِاسْمِ الْحَسَنِ لِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ بِالْقُوَّةِ مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ تَسْمِيَةِ مَا يُنْهَى عَنْهُ بِالِاسْمِ الْحَسَنِ أَحْرَى. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ مَا مُلَخَّصُهُ: لَمَّا كَانَ اشْتِقَاقُ الْكَرَمِ مِنَ الْكَرْمِ، وَالْأَرْضُ الْكَرِيمَةُ هِيَ أَحْسَنُ الْأَرْضِ فَلَا يَلِيقُ أَنْ يُعَبَّرَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا عَنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ خَيْرُ الْحَيَوَانِ، وَخَيْرُ مَا فِيهِ قَلْبُهُ ; لِأَنَّهُ إِذَا صَلَحَ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَهُوَ أَرْضٌ لِنَبَاتِ شَجَرَةِ الْإِيمَانِ. قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ - بِاللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى أَوْ بِهِمَا أَوْ مُشْتَقًّا مِنْهُ أَوْ مُسَمًّى بِهِ - إِنَّمَا يُضَافُ بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَأَهْلَهُ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَفِي تَشْبِيهِ الْكَرْمِ بِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ مَعْنًى لَطِيفٌ ; لِأَنَّ أَوْصَافَ الشَّيْطَانِ تَجْرِي مَعَ الْكَرْمَةِ كَمَا يَجْرِي الشَّيْطَانُ فِي بَنِي آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، فَإِذَا غَفَلَ الْمُؤْمِنُ عَنْ شَيْطَانِهِ أَوْقَعَهُ فِي الْمُخَالَفَةِ، كَمَا أَنَّ مَنْ غَفَلَ عَنْ عَصِيرِ كَرْمِة تَخَمَّرَ فَتَنَجَّسَ.

وَيُقَوِّي التَّشَبُّهَ أَيْضًا أَنَّ الْخَمْرَ يَعُودُ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالتَّخْلِيلِ فَيَعُودُ طَاهِرًا، وكَذَا الْمُؤْمِنُ يَعُودُ مِنْ سَاعَتِهِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ طَاهِرًا مِنْ خَبَثِ الذُّنُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي كَانَ مُتَنَجِّسًا بِاتِّصَافِهِ بِهَا إِمَّا بِبَاعِثٍ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ مَوْعِظَةٍ وَنَحْوِهَا وَهُوَ كَالتَّخْلِيلِ، أَوْ بِبَاعِثٍ مِنْ نَفْسِهِ وَهُوَ كَالتَّخَلُّلِ. فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمُعَالَجَةِ قَلْبِهِ لِئَلَّا يَهْلِكَ وَهُوَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ.

(تَنْبِيهٌ): الْحَبْلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ وَائِلٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَسُكُونُ الْمُوَحَّدَةِ وَبِفَتْحِهَا أَيْضًا وَهُوَ أَشْهَرُ: هِيَ شَجَرَةُ الْعِنَبِ، وَقِيلَ: أَصْلُ الشَّجَرَةِ، وَقِيلَ: الْقَضِيبُ مِنْهَا. وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ: الْحَبَلُ بِفَتْحَتَيْنِ شَجَرُ الْعِنَبِ، الْوَاحِدَ حَبْلَةُ، وَبِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُونِ الْكَرْمُ، وَقِيلَ: الْأَصْلُ مِنْ أَصُولِهِ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمُ ثَمَرِ السَّمَرِ وَالْعِضَاهِ.

‌103 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ: فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. فِيهِ الزُّبَيْرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

6184 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفَدِّي أَحَدًا غَيْرَ سَعْدٍ؛ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. أَظُنُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) تَقَدَّمَ ضَبْطُ فِدَاكَ، وَمَعْنَاهُ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنَ الرَّجَزِ وَالشِّعْرِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (فِيهِ الزُّبَيْرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى مَا وَصَلَهُ فِي مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: جُعِلْتُ أَنَا وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي النِّسَاءِ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ قَوْلُ الزُّبَيْرِ: فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَوَيْهِ فَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.

قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (يَفْدِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْفَاءِ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَالتَّشْدِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ فِي إِثْبَاتِ التَّفْدِيَةِ لَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَا فِي نَفْيِ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ سَعدٍ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ رَمَزَ بِذَلِكَ إِلَى هَذَا الْجَمْعِ، وَغَفَلَ مَنْ خَصَّ حَدِيثَ الزُّبَيْرِ بِتَخْرِيجِ مُسْلِمٍ مَعَ إِخْرَاجِ الْبُخَارِيِّ لَهُ وَرَمْزِهِ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: أَظُنُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ تَقَدَّمَ الْجَزْمُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَلَفْظُهُ: فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ارْمِ سَعْدُ، فِدَاكَ

ص: 568

أَبِي وَأُمِّي وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ سَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه.

‌104 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا

6185 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةُ مُرْدِفُهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَثَرَتْ النَّاقَةُ، فَصُرِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَرْأَةُ، وَأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ - قَالَ: أَحْسِبُ اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ! هَلْ أَصَابَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْمَرْأَةِ. فَأَلْقَى أَبُو طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَصَدَ قَصْدَهَا فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا، فَقَامَتْ الْمَرْأَةُ، فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِمَا فَرَكِبَا فَسَارُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ - أَوْ قَالَ: أَشْرَفُوا عَلَى الْمَدِينَةِ - قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ. فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ)؛ أَيْ: هَلْ يُبَاحُ أَوْ يُكْرَهُ؟ وَقَدِ اسْتَوْعَبَ الْأَخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى الْجَوَازِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ آدَابُ الْحُكَمَاءِ وَجَزَمَ بِجَوَازِ ذَلِكَ فَقَالَ: لِلْمَرْءِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِسُلْطَانِهِ وَلِكَبِيرِهِ وَلِذَوِي الْعِلْمِ وَلِمَنْ أَحَبَّ مِنْ إِخْوَانِهِ غَيْرَ مَحْظُورٍ عَلَيْهِ ذَلِكَ، بَلْ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ تَوْقِيرَهُ وَاسْتِعْطَافَهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَحْظُورًا لَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِلَ ذَلِكَ وَلَأَعْلَمَهُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدٍ غَيْرَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ أَنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ مَعَ شَرْحِهِ.

ثم ذكر حَدِيثُ أَنَسٍ فِي إِرْدَافِ صَفِيَّةَ، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَلْحَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ! هَلْ أَصَابَكَ شَيْءٌ؟، وَقَدْ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُدَ نَحْوَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَسَاقَ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ الْحَدِيثَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ فِي التَّرْجَمَةِ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: دَخَلَ الزُّبَيْرُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ شَاكٍ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتَ أَعْرَابِيَّتَكَ بَعْدُ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ، ثُمَّ قَالَ: لَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَاوِمُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ فِي الصِّحَّةِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ صَرِيحُ الْمَنْعِ، بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَرْكُ الْأَوْلَى فِي الْقَوْلِ لِلْمَرِيضِ إِمَّا بِالتَّأْنِيسِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَإِمَّا بِالدُّعَاءِ وَالتَّوَجُّعِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا سَاغَ ذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي دَعَا بِذَلِكَ كَانَ أَبَوَاهُ مُشْرِكَيْنِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي طَلْحَةَ كَانَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ، وَكَذَا أَبُو ذَرٍّ. وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ كَانَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْتَرَضَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَسْوِيغِ قَوْلِ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَوَّغَ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ نَفْسَهُ أَعَزُّ مِنْ أَنْفُسِ الْقَائِلِينَ وَآبَائِهِمْ وَلَوْ كَانُوا أَسْلَمُوا، فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِفَاطِمَةَ: فِدَاكِ أَبُوكِ وَمِنْ حَدِيثِ

ص: 569

ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ: فِدَاكُمْ أَبِي وَأُمِّي وَمَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ.

‌105 - بَاب أَحَبِّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عز وجل

6186 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقُلْنَا: لَا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلَا كَرَامَةَ. فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَمِّ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَرَدَ بِهَذَا اللَّفْظِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رفعه: إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ بَعْدَ بَابٍ، وَآخَرُ عَنْ مُجَاهِدٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِثْلُهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَلْتَحِقُ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مَا كَانَ مِثْلَهُمَا كَعَبْدِ الرَّحِيمِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ وَعَبْدِ الصَّمَدِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَا هُوَ وَصْفٌ وَاجِبٌ لِلَّهِ وَمَا هُوَ وَصْفٌ لِلْإِنْسَانِ وَوَاجِبٌ لَهُ وَهُوَ الْعُبُودِيَّةُ. ثُمَّ أُضِيفَ الْعَبْدُ إِلَى الرَّبِّ إِضَافَةً حَقِيقِيَّةً فَصَدَقَتْ أَفْرَادُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَشَرُفَتْ بِهَذَا التَّرْكِيبِ فَحَصَلَتْ لَهَا هَذِهِ الْفَضِيلَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الِاسْمَيْنِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ إِضَافَةُ عَبْدٍ إِلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرِهِمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُهَيْرٍ الثَّقَفِيِّ رَفَعَهُ: إِذَا سَمَّيْتُمْ فَعَبِّدُوا، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ مَا تُعُبِّدَ بِهِ؛ وَفِي إِسْنَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا ضَعْفٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَابِرٍ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ) اسْمُ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَسَمَّاهُ الْقَاسِمُ) مُقْتَضَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ خَالِدٍ الواسطي بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا: فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا، إِلَّا أَنَّهُ أَوْرَدَهُ عَقِبَ رِوَايَةِ عَبْثَرٍ - وَهُوَ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ، بِعَيْنِ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ - عَنْ حُصَيْنٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تُكَنُّوا بِكُنْيَتِي، فَإِنَّمَا بُعِثْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ.

ثُمَّ سَاقَ رِوَايَةَ خَالِدٍ وَقَالَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُذْكَرْ: فَإِنَّمَا بُعِثْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ، وَكَأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى خَالِدٍ، فَإِنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ وُهَيْبِ بْنِ بَقِيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ فَقَالَ: فَسَمَّاهُ الْقَاسِمُ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ فَقَالَ: سَمَّاهُ الْقَاسِمُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ يُوسُفَ الْقَاضِي عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ خَالِدٍ فَقَالَ: سَمَّاهُ بِاسْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وهَكَذَا قَالَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَلَى مُسْلِمٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ رِوَايَةِ رِفَاعَةَ بْنِ الْهَيْثَمِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ زِيَادٍ الْبُكَائِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ كَمَا قَالَ رِفَاعَةُ، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى شُعْبَةَ أَيْضًا فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} يَعْنِي قَسْمُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابٍ فَرْضُ الْخُمُسِ، فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَاكَ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ - وَهُوَ الْأَعْمَشُ -، وَمَنْصُورٌ، وَقَتَادَةُ قَالُوا: سَمِعْنَا سَالِمًا - أَيِ ابْنَ أَبِي الْجَعْدِ -، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا.

قَالَ: وَقَالَ عُمَرُو - يَعْنِي ابْنَ مَرْزُوقٍ -، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ بِسَنَدِهِ: أَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ الْقَاسِمَ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ الْقَاسِمَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ فَقَالَ فِيهِ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا، فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ:

ص: 570

لَا نَدَعُكَ تُسَمِّيهِ بِاسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ بِابْنِهِ حَامِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ لِي غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ بَيَّنَ شُعْبَةُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: حَمَلْتُهُ عَلَى عُنُقِي، أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ مُسْنَدِ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ عَنْهُ، وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ جَابِرٍ، وَفِيهِ أَوْرَدَهُ أَصْحَابُ الْمَسَانِيدِ وَالْأَطْرَافِ، وَقَدَّمْتُ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ قَالَ أَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ الْقَاسِمَ أَرْجَحُ، وَذَكَرْتُ وَجْهَ رُجْحَانِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ فِي ذَلِكَ كَمَا أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (لَا نُكَنِّيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلَا كَرَامَةَ) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَلَا نُنَعِّمُكَ عَيْنًا؛ هُوَ مِنَ الْإِنْعَامِ، أَيْ لَا نُنَعِّمُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ فَتَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ تَكْنِيَةِ الْمَرْءِ بِمَنْ يُولَدُ لَهُ وَلَا يَخْتَصُّ بِأَوَّلِ أَوْلَادِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ: فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: سَمِّ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ) فِي مُطَابَقَةِ التَّرْجَمَةِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ عُسْرٌ، وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ التَّكَنِّي بِكُنْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اقْتَضَى مَشْرُوعِيَّةُ الْكُنْيَةِ، وَأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ أَنْ يُسَمِّيَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ اخْتَارَ لَهُ اسْمًا يَطِيبُ خَاطِرُهُ بِهِ إِذْ غَيَّرَ الِاسْمَ، فَاقْتَضَى الْحَالُ أَنَّهُ لَا يُشِيرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِاسْمٍ حَسَنٍ، وَتَوْجِيهُ كَوْنِهِ أَحْسَنُ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَشَارِقِ: لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَفِيهَا أُصُولٌ وَفُرُوعٌ؛ أَيْ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِقَاقِ، قَالَ: وَلِلْأُصُولِ أُصُولٌ؛ أَيْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَأُصُولُ الْأُصُولِ اسْمَانِ: اللَّهُ، وَالرَّحْمَنُ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِمَا أَحَدٌ. وَمَا وَرَدَ مِنْ رَحْمنِ الْيَمَامَةِ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّهُ مُضَافٌ، وَقَوْلُ شَاعِرِهِمْ:

وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا

تَغَالَى فِي الْكُفْرِ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَحَدٌ، وَلَا يُرَدُّ إِطْلَاقُ مَنْ أَطْلَقَهُ وَصْفًا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّسْمِيَةَ بِذَلِكَ، وَقَدْ لُقِّبَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْمَلِكَ الرَّحِيمَ وَلَمْ يَقَعْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الرَّحْمَنِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ كَانَتْ إِضَافَةُ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً مَحْضَةً، فَظَهَرَ وَجْهُ الْأَحَبِّيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌106 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْنُوا بِكُنْيَتِي

قَالَهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

6187 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقَالُوا: لَا نَكْنِيهِ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْنُوا بِكُنْيَتِي.

6188 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي.

6189 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقَالُوا: لَا نَكْنِيكَ بِأَبِي الْقَاسِمِ وَلَا نُنْعِمُكَ عَيْنًا. فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: سْمِ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ.

ص: 571

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا) بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَوْ بِسُكُونِ الْكَافِ وَضَمِّ النُّونِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَلَا تَكْتَنُوا؛ بِسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا نُونٌ.

قَوْلُهُ: (بِكُنْيَتِي) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: بِكِنْوَتِي؛ بِالْوَاوِ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهِيَ بِمَعْنَاهَا، كَنَوْتُهُ وَكَنَّيْتُهُ بِمَعْنًى، قَالَ عِيَاضٌ: رَوَوْهُ كُلُّهُمْ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ بِالْيَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْكُنْيَةِ وَالتَّعْرِيفُ بِهَا فِي أَوَائِلِ الْمَنَاقِبِ فِي بَابِ كُنْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فِيهِ أَنَسٌ) يُشِيرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْبُيُوعِ ثُمَّ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِهَذَا، وَفِيهِ قِصَّةٌ سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا، وَلَفْظُهُ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تُكَنُّوا بِكُنْيَتِي. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي ذَلِكَ ثُمَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ حَدِيثَ جَابِرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَاقْتَصَرَ فِيهِ على الْمَتْنُ، وَلَفْظُهُ كَحَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ - عَنْهُ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمُ، فَقَالُوا: لَا نُكَنِّيكَ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْهُ: فَقُلْنَا: لَا نَكْنِيكَ بِأَبِي الْقَاسِمِ وَلَا نُنَعِّمُكَ عَيْنًا. فَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ إِمَّا بِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ هَذَا وَبَعْضَهُمْ قَالَ هَذَا، وَإِمَّا أَنَّهُمْ مَنَعُوا أَوَّلًا مُطْلَقًا ثُمَّ اسْتَدْرَكُوا فَقَالُوا: حَتَّى نَسْأَلَ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَيْضًا: فَقَالَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تُكَنُّوا بِكُنْيَتِي، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: فَقَالَ: سَمِّ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْآخَرُ. وَقَوْلُهُ: لَا نَكْنِيكَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَعَ التَّخْفِيفِ وَبِضَمِّهِ مَعَ التَّشْدِيدِ، وَنُنَعِّمُكَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتُلِفَ فِي التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبٍ:

الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا أَمْ لَا، ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ.

وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَيَخْتَصُّ النَّهْيُ بِحَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ لِمَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ ; لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا يَفْعَلُونَهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا إِطْبَاقُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْمَذْهَبِ الثَّانِي، وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَبْلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي السُّوقِ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَمْ أَعْنِكَ، فَقَالَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تُكَنُّوا بِكُنْيَتِي. قَالَ: فَفَهِمُوا مِنَ النَّهْيِ الِاخْتِصَاصَ بِحَيَاتِهِ لِلسَّبَبِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ زَالَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهَذَا السَّبَبُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، فَمَا خَرَجَ صَاحِبُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَمِمَّا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّوَوِيَّ أَوْرَدَ الْمَذْهَبَ الثَّالِثَ مَقْلُوبًا فَقَالَ: يَجُوزُ لِمَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ بِهِ قَائِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبْقُ قَلَمٍ، وَقَدْ حَكَى الْمَذَاهِبَ الثَّلَاثَةَ فِي الْأَذْكَارِ عَلَى الصَّوَابِ، وَكَذَا هِيَ فِي الرَّافِعِيِّ. وَمِمَّا تَعَقَّبَهُ السُّبْكِيُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَجَّحَ مَنْعَ التَّكْنِيَةِ بِأَبِي الْقَاسِمِ مُطْلَقًا، وَلِمَا ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي خُطْبَةِ الْمِنْهَاجِ كناه فَقَالَ: الْمُحَرِّرُ لِلْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ الرَّافِعِيِّ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: لِلْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ فَقَطْ، أَوْ يُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ وَلَا يُكَنِّيهِ بِالْكُنْيَةِ الَّتِي يَعْتَقِدُ الْمُصَنِّفُ مَنْعَهَا.

وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِ الرَّافِعِيِّ الْجَوَازَ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَهِرٌ بِذَلِكَ، وَمَنْ شُهِرَ بِشَيْءٍ لَمْ يَمْتَنِعْ تَعْرِيفُهُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ هَذَا الْقَصْدِ فَإِنَّهُ لَا يُسَوَّغُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ ابْنَهُ الْقَاسِمَ لِئَلَّا يَكُنَّى أَبَا الْقَاسِمِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ مَذْهَبًا رَابِعًا وَهُوَ الْمَنْعُ مِنِ التَّسْمِيَةِ بِمُحَمَّدٍ مُطْلَقًا، وَكَذَا التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ مُطْلَقًا، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدٍ: كَتَبَ عُمَرُ: لَا تُسَمُّوا أَحَدًا بِاسْمِ نَبِيٍّ، وَاحْتَجَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: يُسَمُّونَهُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ يَلْعَنُونَهُمْ، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى أَيْضًا، وَسَنَدُهُ لَيِّنٌ. قَالَ عِيَاضٌ: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ

ص: 572

إِعْظَامًا لِاسْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِئَلَّا يُنْتَهَكَ. وَقَدْ كَانَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا مُحَمَّدُ، فَعَلَ اللَّهُ بِكَ وَفَعَلَ، فَدَعَاهُ وَقَالَ: لَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَبُّ بِكَ، فَغَيَّرَ اسْمَهُ. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ نَظَرَ عُمَرُ إِلَى ابْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ - وَكَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا - وَرَجُلٌ يَقُولُ لَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: لَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسُبُّ بِكَ، فَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ.

وَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي طَلْحَةَ وَهُمْ سَبْعَةٌ لِيُغَيِّرَ أَسْمَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ - وَهُوَ كَبِيرُهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمَّانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا! فَقَالَ: قُومُوا فَلَا سَبِيلَ إِلَيْكُمْ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَحَكَى غَيْرُهُ مَذْهَبًا خَامِسًا وَهُوَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا فِي حَيَاتِهِ، التَّفْصِيلُ بَعْدَهُ بَيْنَ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ، فَيَمْتَنِعُ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الثَّالِثَ الَّذِي ارْتَضَاهُ الرَّافِعِيُّ وَسماهُ النَّوَوِيُّ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي فَلَا يَكْتَنِي بِكُنْيَتِي، وَمَنِ اكْتَنَى بِكُنْيَتِي فَلَا يَتَسَمَّى بِاسْمِي لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ: إِذَا سَمَّيْتُمْ بِي فَلَا تُكَنُّوا بِي، وَإِذَا كَنَّيْتُمْ بِي فَلَا تُسَمُّوا بِي قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلَ رِوَايَةِ هِشَامٍ، وَرَوَاهُ مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ. قُلْتُ: وَوَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو يَعْلَى، وَلَفْظُهُ: لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ اسْمِي وَكُنْيَتِي.

وَللتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ، وَقَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، اللَّهُ يُعْطِي وَأَنَا أَقْسِمُ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَاخْتُلِفَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ وَعَلَى أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَمُوسَى بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، قُلْتُ: وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ عَمِّهِ رَفَعَهُ: لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ اسْمِي وَكُنْيَتِي. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَأَنَا ابْنُ أُسْبُوعَيْنِ، فَأُتِيَ بِي إِلَيْهِ فَمَسَحَ عَلَى رَأْسِي وَقَالَ: سَمُّوهُ بِاسْمِي وَلَا تُكَنُّوهُ بِكُنْيَتِي. وَرِوَايَةُ أَبِي زُرْعَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى بِلَفْظِ: مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي فَلَا يَكْتَنِي بِكُنْيَتِي. وَاحْتَجَّ لِلْمَذْهَبِ الثَّانِي بِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وُلِدَ لِي مِنْ بَعْدِكَ وَلَدٌ أُسَمِّيهِ بِاسْمِكَ وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: فَسَمَّانِي مُحَمَّدًا وَكَنَّانِي أَبَا الْقَاسِمِ.

وَكَانَ رُخْصَةً مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَوَيْنَا هَذِهِ الرُّخْصَةَ فِي أَمَالِي الْجَوْهَرِيِّ وَأَخْرَجَهَا ابْنُ عَسَاكِرٍ فِي التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ طَرِيقِهِ وَسَنَدُهَا قَوِيٌّ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ ثُمَّ تَكْنِيَةُ عَلِيٍّ وَلَدَهُ أَبَا الْقَاسِمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى التَّحْرِ مِ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى التَّحْرِيمِ لَأَنْكَرَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمَا مَكَّنُوهُ أَنْ يُكَنِّي وَلَدَهُ أَبَا الْقَاسِمِ أَصْلًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا فَهِمُوا مِنَ النَّهْيِ التَّنْزِيهَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْحَصِرِ الْأَمْرُ فِيمَا قَالَ، فَلَعَلَّهُمْ عَلِمُوا الرُّخْصَةَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، أَوْ فَهِمُوا تَخْصِيصَ النَّهْيِ بِزَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا أَقْوَى لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ سَمَّى ابْنَهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّاهُ أَبَا الْقَاسِمِ وَهُوَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ.

وَقَدْ جَزَمَ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي كَنَّاهُ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ ظِئْرِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ وَكَذَا يُقَالُ لِكُنْيَةِ كُلٍّ مِنَ الْمُحَمَّدِينَ - ابْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَابْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ - أَبُو الْقَاسِمِ، وَأَنَّ آبَاءَهُمْ كَنَّوْهُمْ بِذَلِكَ، قَالَ عِيَاضٌ: وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ:

ص: 573

يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمَّيْتُ ابْنِي مُحَمَّدًا وَكَنَّيْتُهُ أَبَا الْقَاسِمِ، فَذُكِرَ لِي أَنَّكَ تَكْرَهُ ذَلِكَ. قَالَ: مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي! فَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عِمْرَانَ الْحَجَبِيَّ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْهَا، وَمُحَمَّدٌ الْمَذْكُورُ مَجْهُولٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ النَّهْيِ. وَفِي الْجُمْلَةِ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ الْمَذْهَبُ الْمُفَصَّلُ الْمَحْكِيُّ أَخِيرًا مَعَ غَرَابَتِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازِ: لَكِنَّ الْأَوْلَى الْأَخْذُ بِالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَبْرَأُ لِلذِّمَّةِ وَأَعْظَمُ لِلْحُرْمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌107 - باب اسْمِ الْحَزْنِ

6190 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَاهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: حَزْنٌ. قَالَ: أَنْتَ سَهْلٌ. قَالَ: لَا أُغَيِّرُ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا زَالَتْ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَحْمُودٌ - هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ - قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ بِهَذَا.

[الحديث 6190 - طرفه في: 6193]

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْمِ الْحَزْنِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّاي: مَا غَلُظَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ ضِدُّ السَّهْلِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْخُلُقِ، يُقَالُ: فِي فُلَانٍ حُزُونَةٌ؛ أَيْ فِي خُلُقِهِ غِلْظَةٌ وَقَسَاوَةٌ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ) هُوَ سَعِيدٌ، وَسَمَّاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَكَذَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، وَأَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ وَغَيْرُهُمَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَاهُ جَاءَ) كَذَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَتَابَعَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قال فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجَدِّهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السَّرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ عُقْبَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، وَعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَقَالَا فِي رِوَايَتِهِمَا: عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. وَكَذَا أَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ الضَّيْفِ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَفِيهِ: عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ عَلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَبِحَسْبِهِ يَكُونُ الْحَدِيثُ إِمَّا مِنْ مُسْنَدِ الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَإِمَّا مِنْ مُسْنَدِ حَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ وَالِدِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ أَعْرَضَ الْحُمَيْدِيُّ تَبَعًا لِأَبِي مَسْعُودٍ عَنِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِ الْمُسَيَّبِ، وَأَمَّا الْكَلَابَاذِيُّ فَجَزَمَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ حَزْنٍ، وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَلَا سِيَّمَا وَفِيهِمُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: أَنْتَ سَهْلٌ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، وَمِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ الضَّيْفِ جَمِيعًا قَالَ: بَلِ اسْمُكَ سَهْلٌ.

قَوْلُهُ: (لَا أُغَيِّرُ اسْمًا) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ: فَقَالَ: لَا، السَّهْلُ يُوطَأُ وَيُمْتَهَنُ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ قَالَ كُلًّا مِنَ الْكَلَامَيْنِ فَنَقَلَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَنْقُلْهُ الْآخَرُ.

قَوْلُهُ: (فَمَا زَالَتِ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ: (فَظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُصِيبُنَا بَعْدَهُ حُزُونَةٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَحْمُودٌ - هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ) كَذَا ثَبَتَ لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَ مَحْمُودٌ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ خَلَفٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَلَفْظُهُ كَمَا

ص: 574

قَدَّمْتُهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ - وَهُوَ الْغِطْرِيفِيُّ -، عَنِ الْهَيْثَمِ فَقَالَ فِي السَّنَدِ: عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَاهُ جَاءَهُ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أنَّ الْأَمْرَ بِتَحْسِينِ الْأَسْمَاءِ وَبِتَغْيِيرِ الِاسْمِ إِلَى أَحْسَنَ مِنْهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ؛ يُرِيدُ اتِّسَاعَ التَّسْهِيلِ

(1)

فِيمَا يُرِيدُونَهُ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُرِيدُ الصُّعُوبَةَ فِي أَخْلَاقِهِمْ، إِلَّا أَنَّ سَعِيدًا أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْغَضَبِ فِي اللَّهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُشِيرُ إِلَى الشِّدَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ فِي أَخْلَاقِهِمْ. فَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ النَّسَبِ أَنَّ فِي وَلَدِهِ سُوءَ خُلُقٍ مَعْرُوفٌ فِيهِمْ لَا يَكَادُ يُعْدَمُ مِنْهُمْ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْكِرْمَانِيُّ هُنَا: قَالُوا: لَمْ يَرْوِ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ - وَهُوَ وَأَبُوهُ صَحَابِيَّانِ - إِلَّا ابْنُهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنْ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْ وَاحِدٍ لَيْسَ لَهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٍ. قُلْتُ: وَهَذَا الْمَشْهُورُ رَاجِعٌ إِلَى غَرَابَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُذِعْهُ إِلَّا الْحَاكِمُ وَمَنْ تَلَقَّى كَلَامَهُ، وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَلَمْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ الْبُخَارِيِّ صَرِيحًا، وَقَدْ وُجِدَ عَمَلُهُ عَلَى خِلَافِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ؛ مِنْهَا: هَذَا فُلَانٌ يُعْتَدُّ بِهِ وَقَدْ قَرَّرْتُ ذَلِكَ فِي النُّكَتِ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَكُلُّهُمْ عُدُولٌ، فَلَا يُقَالُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتْ صُحْبَتُهُ مَجْهُولٌ، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ فَهُوَ مَرْجُوحٌ، وَيَحْتَاجُ مَنِ ادَّعَى الشَّرْطَ فِي بَقِيَّةِ الْمَوَاضِعِ إِلَى الْأَجْوِبَةِ.

‌108 - بَاب تَحْوِيلِ الِاسْمِ إِلَى اسْمٍ أَحْسَنَ مِنْهُ

6191 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: أُتِيَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ وُلِدَ، فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ - وَأَبُو أُسَيْدٍ جَالِسٌ - فَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمَرَ أَبُو أُسَيْدٍ بِابْنِهِ فَاحْتُمِلَ مِنْ فَخِذِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفَاقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: قَلَبْنَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: مَا اسْمُهُ؟ قَالَ: فُلَانٌ. قَالَ: وَلَكِنْ اسْمِهِ الْمُنْذِرَ. فَسَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ الْمُنْذِرَ.

6192 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ زَيْنَبَ كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَقِيلَ تُزَكِّي نَفْسَهَا فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ".

6193 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ قَالَ: "جَلَسْتُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَحَدَّثَنِي أَنَّ جَدَّهُ حَزْناً قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا اسْمُكَ قَالَ اسْمِي حَزْنٌ قَالَ بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ قَالَ مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْماً سَمَّانِيهِ أَبِي" قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ بَعْدُ".

قَوْلُهُ: (بَابُ تَحْوِيلِ الِاسْمِ إِلَى اسْمٍ أَحْسَنَ مِنْهُ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُنْتَزَعَةٌ مِمَّا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ عُرْوَةَ:

(1)

لعله امتناع التسهيل.

ص: 575

كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَمِعَ الِاسْمَ الْقَبِيحَ حَوَّلَهُ إِلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامٍ بِذِكْرِ عَائِشَةَ فِيهِ.

وفيه ثلاثة أحاديث؛ الأول: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (أُتِيَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ أبي أُسَيْدٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ وُلِدَ) أَبُو أُسَيْدٍ بِالتَّصْغِيرِ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَلَهُ أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ وَلَدِهِ هَذَا فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَغَازِي، وَتَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِيهِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ إِذَا وُلِدَ لِأَحَدِهِمُ الْوَلَدُ أُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُحَنِّكَهُ وَيُبَارِكَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ.

قَوْلُهُ: (فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ) يَعْنِي إِكْرَامًا لَهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ)؛ أَيِ اشْتَغَلَ، وَكُلُّ مَا شَغَلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ أَلْهَاكَ عَنْ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: رُوِيَ لَهِيَ بِوَزْنِ عَلِمَ وَهِيَ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَبِالْفَتْحِ لُغَةُ طَيِّئٍ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَفَاقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ أَيِ انْقَضَى مَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِهِ فَأَفَاقَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَ الصَّبِيَّ فَسَأَلَ عَنْهُ، يُقَالُ: أَفَاقَ مِنْ نَوْمِهِ وَمِنْ مَرَضِهِ وَاسْتَفَاقَ بِمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (قَلَّبْنَاهُ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ؛ أَيْ: صَرَفْنَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ: أَقْلَبْنَاهُ؛ بِزِيَادَةِ هَمْزَةٍ أَوَّلَهُ، قَالَ: وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا، وَأَثْبَتَهَا غَيْرُهُ لُغَةً.

قَوْلُهُ: (مَا اسْمُهُ؟ قَالَ: فُلَانٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ سَمَّاهُ اسْمًا لَيْسَ مُسْتَحْسَنًا فَسَكَتَ عَنْ تَعْيِينِهِ، أَوْ سَمَّاهُ فَنَسِيَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنَّ اسْمَهُ الْمُنْذِرُ)؛ أَيْ: لَيْسَ هَذَا الِاسْمُ الَّذِي سَمَّيْتُهُ بِهِ اسمه الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، بَلْ هُوَ الْمُنْذِرُ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: سَمَّاهُ الْمُنْذِرَ تَفَاؤُلًا أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ يُنْذِرُ بِهِ. قُلْتُ: وَتَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي أَنَّهُ سُمِّيَ الْمُنْذِرَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو السَّاعِدِيِّ الْخَزْرَجِيِّ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ مِنْ رَهْطِ أَبِي أُسَيْدٍ.

الحديث الثاني:

قَوْلُهُ: (عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ) هُوَ ابْنُ هِلَالٍ مَوْلَى أَنَسٍ، وَأَبُو رَافِعٍ هُوَ نُفَيْعٌ الصَّانِعُ.

قَوْلُهُ: (أنَّ زَيْنَبَ كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، كَذَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ - وَهُوَ غُنْدَرٌ -، عَنْ شُعْبَةَ، وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا السَّنَدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ اسْمُ مَيْمُونَةَ بَرَّةَ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَكْبَرُ، وَزَيْنَبُ هِيَ بِنْتُ جَحْشٍ أَوْ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ، وَالْأُولَى زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالثَّانِيَةُ رَبِيبَتُهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كَانَ اسْمُهَا أَوَّلًا بَرَّةَ فَغَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، كَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقِصَّةُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَت: سُمِّيَتْ بَرَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ. قَالُوا: مَا نُسَمِّيهَا؟ قَالَ: سَمُّوهَا زَيْنَبَ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ: وَكَانَ اسْمُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بَرَّةَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْمِي بَرَّةُ، فَلَوْ غَيَّرْتَهُ! فَإِنَّ الْبَرَّةَ صَغِيرَةٌ. فَقَالوا: كَانَ مُسْلِمًا

(1)

لَسَمَّيْتُهُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهَا، وَلَكِنْ هُوَ جَحْشٌ، فَالْجَحْشُ أَكْبَرُ مِنَ الْبَرَّةِ.

وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ لِجُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ اسْمُ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بَرَّةَ، فَحَوَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْمَهَا فَسَمَّاهَا جُوَيْرِيَةَ، كَرِهَ أَنْ يَقُولَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدَ بَرَّةَ.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ: تُزَكِّي نَفْسَهَا)؛ أَيْ لِأَنَّ لَفْظَةَ بَرَّةٍ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبِرِّ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي قِصَّةِ جُوَيْرِيَةَ: كَرِهَ أَنْ يُقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ، وَقَالَ فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ.

الحديث الثالث:

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ؛ أَيِ ابْنُ عُثْمَانَ الْحَجَبِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَحَدَّثَنِي أَنَّ جَدَّهُ حَزْنًا) هَكَذَا أَرْسَلَ سَعِيدٌ الْحَدِيثَ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ عَبْدَ الْحَمِيدِ، وَلِمَا حَدَّثَ بِهِ الزُّهْرِيَّ وَصَلَهُ عَنْ

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: هكذا في جملة النسخ، وحرر

ص: 576

أَبِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهَذَا عَلَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرْسَلَ إِذَا جَاءَ مَوْصُولًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ تَبَيَّنَ صِحَّةُ مَخْرَجِ الْمُرْسَلِ، وَقَاعِدَةُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ لَا يَقْدَحُ الْمُرْسَلُ فِي الْمَوْصُولِ إِذَا كَانَ الْوَاصِلُ أَحْفَظَ مِنَ الْمُرْسِلِ كَالَّذِي هُنَا، فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَحْفَظُ مِنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا تَنْبَغِي التَّسْمِيَةُ بِاسْمٍ قَبِيحِ الْمَعْنَى، وَلَا بِاسْمٍ يَقْتَضِي التَّزْكِيَةَ لَهُ، وَلَا بِاسْمٍ مَعْنَاهُ السَّبُّ. قُلْتُ: الثَّالِثُ أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتِ الْأَسْمَاءُ إِنَّمَا هِيَ أَعْلَامٌ لِلْأَشْخَاصِ لَا يُقْصَدُ بِهَا حَقِيقَةُ الصِّفَةِ، لَكِنْ وَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنْ يَسْمَعَ سَامِعٌ بِالِاسْمِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُسَمَّى، فَلِذَلِكَ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحَوِّلُ الِاسْمَ إِلَى مَا إِذَا دُعِيَ بِهِ صَاحِبُهُ كَانَ صِدْقًا، قَالَ: وَقَدْ غَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِدَّةَ أَسْمَاءٍ، وَلَيْسَ مَا غَيَّرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَنْعِ مِنَ التَّسَمِّي بِهَا بَلْ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ، قَالَ: وَمِنْ ثَمَّ أَجَازَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُسَمَّى الرَّجُلُ الْقَبِيحُ بِحَسَنٍ وَالْفَاسِدُ بِصَالِحٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُلْزِمْ حَزْنًا لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ تَحْوِيلِ اسْمِهِ إِلَى سَهْلٍ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا لَمَا أَقَرَّهُ عَلَى قَوْلِهِ: لَا أُغَيِّرُ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي، انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِتَحْسِينِ الْأَسْمَاءِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ فِي سَنَدِهِ انْقِطَاعًا بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَكَرِيَّا رَاوِيهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ [وَأَبِي الدَّرْدَاءِ] فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَدْ غَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَاصَ، وَعَتَلَةَ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا لَامٌ - وَشَيْطَانٌ، وَغُرَابٌ، وَحُبَابٌ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ - وَشِهَابٌ، وَحَرْبٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَالْعَاصِي الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ مُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْعَدَوِيُّ وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ، وَوَقَعَ مِثْلُهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَالْأَخْبَارُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَعَتَلَةُ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ، وَشَيْطَانٌ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَغُرَابٌ هُوَ مُسْلِمٌ أَبُو رَايِطَةَ، وَحُبَابٌ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَشِهَابٌ هُوَ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَحَرْبٌ هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ سَمَّاهُ عَلِيٌّ أَوَّلًا حَرْبًا، وَأَسَانِيدُهَا مُبَيَّنَةٌ فِي كِتَابِي فِي الصَّحَابَةِ.

‌109 - بَاب مَنْ سَمَّى بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ أَنَسٌ: قَبَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ؛ يَعْنِي ابْنَهُ

6194 -

حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قُلْتُ لِابْنِ أَبِي أَوْفَى رَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَاتَ صَغِيراً وَلَوْ قُضِيَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيٌّ عَاشَ ابْنُهُ وَلَكِنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ".

6195 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لَهُ مُرْضِعاً فِي الْجَنَّةِ".

6196 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ". وَرَوَاهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

6197 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي

ص: 577

هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ".

6198 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ وُلِدَ لِي غُلَامٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَدَفَعَهُ إِلَيَّ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي مُوسَى".

6199 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَالَ: "انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ سَمَّى بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ حَدِيثَانِ صَرِيحَانِ:

أَحَدُهُمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ.

ثَانِيهُمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَالْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ - بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ - رَفَعَهُ: تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ، وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ، وَمُرَّةُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلِمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ أَحَبِّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ فِي حَرْثِ الدُّنْيَا أَوْ حَرْثِ الْآخِرَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَزَالُ يَهُمُّ بِالشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَأَمَّا الْأَخِيرَانِ فَلِمَا فِي الْحَرْبِ مِنَ الْمَكَارِهِ وَلِمَا فِي مُرَّةَ مِنَ الْمَرَارَةِ. وَكَأَنَّ الْمُؤَلِّفُ رحمه الله لَمَّا لَمْ يَكُونَا عَلَى شَرْطِهِ اكْتَفَى بِمَا اسْتَنْبَطَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُغَيِّرَ أَسْمَاءَ أَوْلَادِ طَلْحَةَ وَكَانَ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ فِي مِثْلِ تَرْجَمَةِ هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: سَمَّانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُوسُفَ الْحَدِيثَ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَيْهِ أَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا مَوْصُولَةً وَمُعَلَّقَةً؛ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ: قَبَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ؛ يَعْنِي ابْنَهُ) ثَبَتَ هَذَا التَّعْلِيقُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ أَيْضًا، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْجَنَائِزِ.

الحديث الثاني، قَوْلُهُ:(حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ نُسِبَ لِجَدِّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ هُوَ الْعَبْدِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِابْنِ أَبِي أَوْفَى) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الصَّحَابِيُّ ابْنُ الصَّحَابِيِّ.

قَوْلُهُ: (رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَاتَ صَغِيرًا) تَضَمَّنَ كَلَامُهُ جَوَابَ السُّؤَالِ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ وَصَرَّحَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: نَعَمْ رَأَيْتُهُ، لَكِنْ مَاتَ صَغِيرًا. ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي خَالِدٍ بِلَفْظِ: قَالَ: نَعَمْ، كَانَ أَشْبَهَ النَّاسِ بِهِ، مَاتَ وَهُوَ صَغِيرٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ: سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ حِينَ مَاتَ؟ قَالَ: كَانَ صَبِيًّا.

قَوْلُهُ: (وَلَوْ قُضِيَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ نَبِيٌّ عَاشَ ابْنُهُ) إِبْرَاهِيمُ (وَلَكِنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ) هَكَذَا جَزَمَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَقَدْ تَوَارَدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ: فَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 578

صَلَّى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ، لَوْ عَاشَ لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، وَلَأَعْتَقْتُ أَخْوَالَهُ الْقِبْطَ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ: سَأَلْتُ أَنَسًا: كَمْ بَلَغَ إِبْرَاهِيمُ؟ قَالَ: كَانَ قَدْ مَلَأَ الْمَهْدَ، وَلَوْ بَقِيَ لَكَانَ نَبِيًّا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لِيَبْقَى ; لِأَنَّ نَبِيَّكُمْ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَلَفْظُ أَحْمَدَ: ولَوْ عَاشَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ.

فَهَذِهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٌ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا ذَلِكَ، فَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي حَمَلَ النَّوَوِيُّ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ مِنْ كِتَابِ تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ عَلَى اسْتِنْكَارِ ذَلِكَ وَمُبَالَغَتِهِ حَيْثُ قَالَ: هُوَ بَاطِلٌ، وَجَسَارَةٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ، وَمُجَازَفَةٌ وَهُجُومٌ عَلَى عَظِيمٌ مِنَ الزَّلَلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَحْضَرَ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِينَ، فَرَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَأَخَّرَ عنهم فَقَالَ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَنْكَرَ قَبْلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فَقَالَ هَذَا لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَقَدْ وَلَدَ نُوحٌ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَكَمَا يَلِدُ غَيْرُ النَّبِيِّ نَبِيًّا فَكَذَا يَجُوزُ عَكْسُهُ، حَتَّى نُسِبَ قَائِلُهُ إِلَى الْمُجَازَفَةِ وَالْخَوْضِ فِي الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الَّذِي نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِينَ إِنَّمَا أَتَوْا فِيهِ بِقَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ.

الحديث الثالث حَدِيثُ الْبَرَاءِ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَرْضَعَ؛ أَيْ: مَنْ يُتِمُّ إِرْضَاعَهُ. وَبِفَتْحِهَا؛ أَيْ: إنَّ لَهُ رَضَاعًا فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قال فِي الصِّحَاحِ: امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ أَيْ لَهَا وَلَدٌ تُرْضِعُهُ، فَهِيَ مُرْضِعَةٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، فَإِنْ وَصَفْتَهَا بِإِرْضَاعِهِ قُلْتَ: مَرْضِعَةٌ؛ يَعْنِي بِفَتْحِ الْمِيمِ. قَالَ: وَالْمَعْنَى هُنَا يَصِحُّ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ. قُلْتُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: إنَّ لَهُ مُرْضِعًا تُرْضِعُهُ فِي الْجَنَّةِ؛ وَالْمَعْنَى: تُكْمِلُ إِرْضَاعَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ كَانَ ابْنَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا عَاشَ سَبْعِينَ يَوْمًا.

الحديث الرابع حَدِيثُ جَابِرٍ: سَمُّوا بِاسْمِي ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ بِتَمَامِهِ.

الحديث الخامس، قَوْلُهُ:(وَرَوَاهُ أَنَسٌ) تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا فِي بَابِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: سَمُّوا بِاسْمِي.

الحديث السادس والسابع والثامن حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ هُنَا: بِكِنْوَتِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ. . . الْحَدِيثَ) هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ جَمَعَهُمَا الرَّاوِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا. . . الْحَدِيثَ) هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

الحديث التاسع عَنْ أَبِي مُوسَى - هُوَ الْأَشْعَرِيُّ - قَالَ: وُلِدَ لِي غُلَامٌ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَكْبَرُ وَلَدِ أَبِي مُوسَى) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ أَبَا مُوسَى كُنِّيَ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَكُنِّيَ بِابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ يُكَنَّى أَبَا إِبْرَاهِيمَ.

الحديث الحادي عشر، قَوْلُهُ: (رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مَوْصُولًا فِي الْكُسُوفِ وَمُعَلَّقًا، لَكِنْ لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، إِلَّا فِي رِوَايَةٍ أَسْنَدَهَا فِي بَابِ كُسُوفِ الْقَمَرِ مَعَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ أَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا كَرِهَ عُمَرُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَسُبَّ أَحَدٌ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ، فَأَرَادَ تَعْظِيمَ الِاسْمِ لِئَلَّا يُبْتَذَلَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَصْدٌ حَسَنٌ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ: يُسَمُّونَهُمْ

ص: 579

مُحَمَّدًا وَيَلْعَنُونَهُمْ قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَكَمِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْمَنْعِ، بَلْ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ لَعْنِ مَنْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ سَمُّوا بِاسْمِي. قَالَ: يُقَالُ إِنَّ طَلْحَةَ قَالَ لِلزُّبَيْرِ: أَسْمَاءُ بَنِيَّ أَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَسْمَاءُ بَنِيكَ أَسْمَاءُ الشُّهَدَاءِ. فَقَالَ: أَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ بَنِيَّ شُهَدَاءَ، وَأَنْتَ لَا تَرْجُو أَنْ يَكُونَ بَنُوكَ أَنْبِيَاءَ. فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ أَوْلَى مِنَ الَّذِي فَعَلَهُ طَلْحَةُ.

‌110 - بَاب تَسْمِيَةِ الْوَلِيدِ

6200 -

أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ من المؤمنين، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَسْمِيَةِ الْوَلِيدِ) وَرَدَ فِي كَرَاهِةِ هَذَا الِاسْمِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَمِّي الرَّجُلُ عَبْدَهُ أَوْ وَلَدَهُ حَرْبًا أَوْ مُرَّةَ أَوْ وَلِيدًا الْحَدِيثَ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَوَرَدَ فِيهِ أَيْضًا حَدِيثٌ آخَرُ مُرْسَلٌ أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ السَّكْسَكِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ أَمَالِيهِ عَنْ مَعْمَرٍ؛ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: وُلِدَ لِأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ وَلَدٌ فَسَمَّاهُ الْوَلِيدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمَّيْتُمُوهُ بِأَسْمَاءِ فَرَاعِنَتِكُمْ، لَيَكُونَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ هُوَ أَشَرُّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ، قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فَكَانُوا يَرَوْنَهُ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ.

ثُمَّ رَأَيْنَا أَنَّهُ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ لِفِتْنَةِ النَّاسِ بِهِ حِينَ خَرَجُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَانْفَتَحَتِ الْفِتَنُ عَلَى الْأُمَّةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَكَثُرَ فِيهِمُ الْقَتْلُ، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: غَيَّرُوا اسْمَهُ فَسَمَّوْهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَبَيَّنَ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ أَخُو أُمّ سَلَمَةَ لِأُمِّهَا، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ فَزَادَ فِيهِ: قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ بِهِ فَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، فَادَّعَى ابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، فَقَالَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ فِي تَرْجَمَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ: هَذَا خَبَرٌ بَاطِلٌ، مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا رَوَاهُ عُمَرُ، وَلَا حَدَّثَ بِهِ سَعِيدٌ وَلَا الزُّهْرِيُّ وَلَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ، ثُمَّ أَعَلَّهُ بِإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ.

وَاعْتَمَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ فَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ فَلَمْ يُصِبْ، فَإِنَّ إِسْمَاعِيلَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ انْفِرَادِهِ فَإِنَّمَا انْفَرَدَ بِزِيَادَةِ عُمَرَ فِي الْإِسْنَادِ، وَإِلَّا فَأَصْلُهُ كَمَا ذَكَرْتُ عِنْدَ الْوَلِيدِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْهُ، وَعِنْدَ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، فَإِنْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ تَلَقَّاهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ فَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ شَاهِدًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْرَجَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلِيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي غُلَامٌ مِنْ آلِ الْمُغِيرَةِ اسْمُهُ

ص: 580

الْوَلِيدُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: الْوَلِيدُ. قَالَ: قَدِ اتَّخَذْتُمُ الْوَلِيدَ حَنَّانًا، غَيِّرُوا اسْمَهُ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فِرْعَوْنُ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْوَلِيدِ مَوْصُولًا بِذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنِ اسْتُخْلِفَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ وَإِلَّا فَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. قُلْتُ: وَعِنْدِي أَنَّ ذِكْرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ مِنْ أَوْهَامِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ أَوْمَأَ إِلَيْهِ كَعَادَتِهِ وَأَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى الْجَوَازِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَغَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَعَادَتِهِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ الْمَذْكُورَ قَدْ قَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا كَمَا مَضَى فِي الْمَغَازِي، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم غَيَّرَ اسْمَهُ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَغْيِيرِ اسْمِ الْوَلِيدِ فَذَلِكَ اسْمُ وَلَدِ الْمَذْكُورِ فَغَيَّرَهُ فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَيُّوبَ الْمَخْزُومِيِّ فِي قِصَّةِ موت الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَعْدَ أَنْ جَاءَ إلى الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا ; وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهِيَ تَقُولُ: أبْكِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَبَا الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَقَالَ: إِنْ كِدْتُمْ لَتَتَّخِذُونَ الْوَلِيدَ حَنَّانًا، فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. وَوَصَلَهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ وَجْهٍ وَاهٍ إِلَى أَيُّوبَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الوليد بن الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَهُ. وَمِنْ شَوَاهِدِ الْحَدِيثِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ قَالَ: الْوَلِيدُ اسْمُ فِرْعَوْنَ هَادِمِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، يَبُوءُ بِدَمِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ جِدًّا.

‌111 - بَاب مَنْ دَعَا صَاحِبَهُ فَنَقَصَ مِنْ اسْمِهِ حَرْفًا

وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هِرٍّ

6201 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَائِشَ، هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ. قُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ. قَالَتْ: وَهُوَ يَرَى مَا لَا نَرَى.

6202 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فِي الثَّقَلِ وَأَنْجَشَةُ غُلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسُوقُ بِهِنَّ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَنْجَشُ رُوَيْدَكَ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ دَعَا صَاحِبَهُ فَنَقَصَ مِنَ اسْمِهِ حَرْفًا) كَذَا اقْتَصَرَ عَلَى حَرْفٍ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ في عَائِشُ وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي أَنْجَشُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَنَازَعَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي مُطَابَقَتِهِ فَقَالَ: لَيْسَ مِنَ التَّرْخِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَقْلُ اللَّفْظِ مِنَ التَّصْغِيرِ وَالتَّأْنِيثِ إِلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّذْكِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ كُنَّاهُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُرَيْرَةُ تَصْغِيرُ هِرَّةٍ فَخَاطَبَهُ بِاسْمِهَا مُذَكَّرًا، فَهُوَ نُقْصَانٌ فِي اللَّفْظِ وَزِيَادَةٌ فِي الْمَعْنَى. قُلْتُ: فَهُوَ نَقْصٌ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ كَوْنُ النَّقْصِ مِنْهُ حَرْفًا فِيهِ نَظَرٌ، وَكَأَنَّهُ لَحَظَ الِاسْمَ قَبْلَ التَّصْغِيرِ وَهِيَ هِرَّةٌ فَإِذَا حَذَفَ الْيَاءَ الْأَخِيرَةَ صَدَقَ أَنَّهُ نَقَصَ مِنَ

ص: 581

الِاسْمِ حَرْفًا، وَقَدْ تَرْجَمَ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِثْلَهُ، لَكِنْ قَالَ شَيْئًا بَدَلَ حَرْفًا وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ وَالنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَضْرِبُ كَتِفَهُ يَقُولُ: أَكُنْتَ عَثَمُ وَجِبْرِيلُ يُوحِي إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هِرٍّ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا، وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي الْأَطْعِمَةِ أَوَّلُهُ: أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ وَفِيهِ: فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، فَقَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ. وَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ حَدِيثٌ أَوَّلُهُ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ عَلَى الْأَرْضِ بِكَبِدِي مِنَ الْجُوعِ، وَفِيهِ مِثْلُهُ.

قَوْلُهُ: (يَا أَنْجَشُ، رُوَيْدَكَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنَ الشِّعْرِ، وَأَكْثَرُ مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَاتِ بِغَيْرِ تَرْخِيمٍ، وَيَجُوزُ فِي الشِّينِ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ كَمَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ.

‌112 - بَاب الْكُنْيَةِ لِلصَّبِيِّ وَقَبْلَ أَنْ يُولَدَ لِلرَّجُلِ

6203 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ: أَحْسِبُهُ فَطِيمًا - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكُنْيَةِ لِلصَّبِيِّ، وَقَبْلَ أَنْ يُولَدَ لِلرَّجُلِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَلِدُ الرَّجُلُ ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ أَبِي عُمَيْرٍ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِأَحَدِ رُكْنَيِ التَّرْجَمَةِ، وَالرُّكْنُ الثَّانِي مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِلْحَاقِ بَلْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ مَنَعَ تَكْنِيَةَ مَنْ لَمْ يُولَدْ لَهُ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّهُ خِلَافُ الْوَاقِعِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَالطَّحَاوِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ صُهَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: مَالَكَ تُكَنَّى أَبَا يَحْيَى وَلَيْسَ لَكَ وَلَدٌ؟ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَنَّانِي. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو: قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنِّي أُكَنَّى أَبَا النَّضْرِ وَلَيْسَ لِي وَلَدٌ، وَأَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ: مَنِ اكْتَنَى وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ فَهُوَ أَبُو جَعْرٍ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانَ عَلْقَمَةُ يُكَنَّى أَبَا شِبْلٍ وَكَانَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ، وَقَوْلُهُ جَعْرٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَشِبْلٌ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ. وَأَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كَنَّانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لِي. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْعَرَبِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

لَهَا كُنْيَةُ عَمْرٍو وَلَيْسَ لَهَا عَمْرٌو

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَكْتَنُونَ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ عَنْ هِلَالٍ الْوَزَّانِ قَالَ: كَنَّانِي عُرْوَةُ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لِي. قُلْتُ: وَكُنْيَةُ هِلَالٍ الْمَذْكُورِ أَبُو عَمْرٍو، وَيُقَالُ: أَبُو أُمَيَّةَ، وَيُقَالُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَنَّاهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَانُوا يُكَنُّونَ الصَّبِيَّ تَفَاؤُلًا بِأَنَّهُ سَيَعِيشُ حَتَّى يُولَدَ لَهُ، وَلِلْأَمْنِ مِنَ التَّلْقِيبِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ يَذْكُرُ أَبْنَاءَكُمْ شَخْصًا فَيُعَظِّمُهُ أَنْ لَا يَذْكُرَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ، فَإِذَا كَانَتْ لَهُ كُنْيَةٌ أَمِنَ مِنْ تَلْقِيبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ قَائِلُهُمْ: بَادِرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالْكُنَى قَبْلَ أَنْ تَغْلِبَ عَلَيْهَا الْأَلْقَابُ. وَقَالُوا: الْكُنْيَةُ لِلْعَرَبِ كَاللَّقَبِ لِلْعَجَمِ، وَمِنْ ثَمَّ كُرِهَ لِلشَّخْصِ أَنْ يُكَنِّي نَفْسَهُ إِلَّا إِنْ قَصَدَ التَّعْرِيفَ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو التَّيَّاحِ - بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ

ص: 582

مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ - هُوَ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ فِي بَابِ الِانْبِسَاطِ إِلَى النَّاسِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ هَكَذَا، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَمِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِشُعْبَةَ فِيهِ طُرُقٌ.

قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا) هَذَا قَالَهُ أَنَسٌ تَوْطِئَةٌ لِمَا يُرِيدُ يذكره مِنْ قِصَّةِ الصَّبِيِّ، وَأَوَّلُ حَدِيثِ شُعْبَةَ المذكور، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَزُورُ أُمَّ سُلَيْمٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَذْكُورِ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدِ اخْتَلَطَ بِنَا أَهْلُ الْبَيْتِ يَعْنِي لِبَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ، وَأُمِّ سُلَيْمٍ، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَغْشَانَا وَيُخَالِطُنَا، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي أَبَا طَلْحَةَ كَثِيرًا، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حُمَيْدٍ: كَانَ يَأْتِي أُمَّ سُلَيْمٍ وَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا، وَكَانَ إِذَا مَشَى يَتَوَكَّأُ، وَلِابْنِ سَعْدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَارُودِ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ يَزُورُ أُمَّ سُلَيْمٍ فَتُتْحِفُهُ بِالشَّيْءِ تَصْنَعُهُ لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ) هُوَ بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: كَانَ لِي أَخٌ صَغِيرٌ، وَهُوَ أَخُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ أُمِّهِ، فَفِي رِوَايَةِ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَةِ: وَكَانَ لَهَا - أَيْ أُمِّ سُلَيْمٍ - ابْنٌ صَغِيرٌ، وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَكَانَ لَهَا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ ابْنٌ يُكَنَّى أَبَا عُمَيْرٍ، وَفِي رِوَايَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عُمَرَ: كَانَ بَنِيَّ لِأَبِي طَلْحَةَ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ لَهُ ابْنٌ - قَالَ: أَحْسِبُهُ فَطِيمًا فِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَطِيمً؛ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَكْتُبُ الْمَنْصُوبَ الْمُنَوَّنَ بِلَا أَلِفٍ، وَالْأَصْلُ فَطِيمٌ لِأَنَّهُ صِفَةُ أَخٍ وَهُوَ مَرْفُوعٌ، لَكِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ أَحْسِبُهُ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ مِثْلُ مَا فِي الْأَصْلِ فَطِيمٌ بِمَعْنَى مَفْطُومٌ؛ أَيِ انْتَهَى إِرْضَاعُهُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ)؛ أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا جَاءَ) زَادَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي رِوَايَتِهِ: إِذَا جَاءَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ يُمَازِحُهُ، وَلِأَحْمَدَ فِي رِوَايَتِهِ عِنْ حُمَيْدٍ مِثْلُهُ، وَفِي أُخْرَى: يُضَاحِكُهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ: يُهَازِلُهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُثَنَّى بْنِ سعيد عند أَبِي عَوَانَةَ: يُفَاكِهُهُ.

قَوْلُهُ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ) فِي رِوَايَةِ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: فَزَارَنَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا شَأْنِي أَرَى أَبَا عُمَيْرٍ ابْنَكِ خَاثرَ النَّفْسِ! بِمُعْجَمَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ؛ أَيْ: ثَقِيلُ النَّفْسِ غَيْرُ نَشِيطٍ. وَفِي رِوَايَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ حُمَيْدٍ: فَجَاءَ يَوْمًا وَقَدْ مَاتَ نُغَيْرُهُ، زَادَ مَرْوَانُ: الَّذِي كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، زَادَ إِسْمَاعِيلُ: فَوَجَدَهُ حَزِينًا، فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ وَسَاقَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ بِتَمَامِهِ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ الْمُشَارِ إِلَيْهَا: فَقَالَ: مَا شَأْنُ أَبِي عُمَيْرٍ حَزِينًا، وَفِي رِوَايَةِ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: فَجَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ، فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ: فَكَانَ يَسْتَقْبِلُهُ وَيَقُولُ.

قَوْلُهُ: (مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟) بِنُونٍ وَمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ مُصَغَّرٌ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ.

قَوْلُهُ: (نُغَيْرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ) وَهُوَ طَيْرٌ صَغِيرٌ وَاحِده نُغْرَةٌ وَجَمْعُهُ نُغْرَانِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: طُوَيْرٌ لَهُ صَوْتٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ الصَّعْوُ بِمُهْمَلَتَيْنِ بِوَزْنِ الْعَفْوِ كَمَا فِي رِوَايَةِ رِبْعِيٍّ: فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: مَاتَتْ صَعْوَتُهُ الَّتِي كَانَ يَلْعَبُ بِهَا، فَقَالَ: أَيْ أَبَا عُمَيْرٍ، مَاتَ النُّغَيْرُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَالصَّعْوُ لَا يُوصَفُ بِحُسْنِ الصَّوْتِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

كَالصَّعْوِ يَرْتَعُ فِي الرِّيَاضِ وَإِنَّمَا

حُبِسَ الْهَزَارُ لِأَنَّهُ يَتَرَنَّمُ

قَالَ عِيَاضٌ: النُّغَيْرُ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ يُشْبِهُ الْعُصْفُورَ، وَقِيلَ: هِيَ فَرَاخُ الْعَصَافِيرِ، وَقِيلَ: هِيَ نَوْعٌ مِنَ الْحُمَّرِ؛ بِضَمِّ

ص: 583

الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ ثُمَّ رَاءٌ، قَالَ: وَالرَّاجِحُ أَنَّ النُّغَيْرَ طَائِرٌ أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَالْمُحْكَمِ: الصَّعْوُ صَغِيرُ الْمِنْقَارِ أَحْمَرُ الرَّأْسِ.

قَوْلُهُ: (فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا. . . إِلَخْ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا أَيْضًا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عِدَّةُ فَوَائِدَ جَمَعَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَاصِّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، وَمِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَقَدْ جَمَعْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ طُرُقَهُ وَتَتَبَّعْتُ مَا فِي رِوَايَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ. وَذَكَرَ ابْنِ الْقَاصِّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ عَابَ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يَرْوُونَ أَشْيَاءَ لَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي عُمَيْرٍ هَذَا قَالَ: وَمَا دَرَى أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهِ الْفِقْهِ وَفُنُونِ الْأَدَبِ وَالْفَائِدَةِ سِتِّينَ وَجْهًا. ثُمَّ سَاقَهَا مَبْسُوطَةً، فَلَخَّصْتُهَا مُسْتَوْفِيًا مَقَاصِدَهُ، ثُمَّ أَتْبَعْتُهُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الزَّوَائِدِ عَلَيْهِ فَقَالَ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّأَنِّي فِي الْمَشْيِ، وَزِيَارَةُ الْإِخْوَانِ، وَجَوَازُ زِيَارَةِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ شَابَّةٌ وَأُمِنَتِ الْفِتْنَةُ، وَتَخْصِيصُ الْإِمَامِ بَعْضَ الرَّعِيَّةِ بِالزِّيَارَةِ، وَمُخَالَطَةُ بَعْضِ الرَّعِيَّةِ دُونِ بَعْضٍ، وَمَشْيُ الْحَاكِمُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ كَثْرَةَ الزِّيَارَةِ لَا تُنْقِصُ الْمَوَدَّةَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَزُورُ لِطَمَعٍ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ كَثْرَةِ مُخَالَطَةِ النَّاسِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَخْشَى الْفِتْنَةَ أَوِ الضَّرَرَ.

وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْمُصَافَحَةِ لِقَوْلِ أَنَسٍ فِيهِ: مَا مَسِسْتُ كَفًّا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالرَّجُلِ دُونِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الَّذِي مَضَى فِي صِفَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ شَثْنَ الْكَفَّيْنِ خَاصٌّ بِعَبَالَةِ الْجِسْمِ لَا بِخُشُونَةِ اللَّمْسِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ صَلَاةِ الزَّائِرِ فِي بَيْتِ الْمَزُورِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الزَّائِرُ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِهِ، وَجَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ، وَتَرْكُ التَّقَزُّزِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ فِي الْبَيْتِ صَغِيرًا وَصَلَّى مَعَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ وَجَلَسَ فِيهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ لِأَنَّ نَضْحَهُمُ الْبِسَاطَ إِنَّمَا كَانَ لِلتَّنْظِيفِ. وَفِيهِ أَنَّ الِاخْتِيَارَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقُومَ عَلَى أَرْوَحِ الْأَحْوَالِ وَأَمْكَنِهَا، خِلَافًا لِمَنِ اسْتَحَبَّ مِنَ الْمُشَدِّدِينَ فِي الْعِبَادَةِ أَنْ يَقُومَ عَلَى أَجْهَدِهَا. وَفِيهِ جَوَازُ حَمْلِ الْعَالِمِ عِلْمَهُ إِلَى مَنْ يَسْتَفِيدُهُ مِنْهُ، وَفَضِيلَةٌ لِآلِ أَبِي طَلْحَةَ وَلِبَيْتِهِ إِذا صَارَ فِي بَيْتِهِمْ قِبْلَةٌ يَقْطَعُ بِصِحَّتِهَا. وَفِيهِ جَوَازُ الْمُمَازَحَةِ وَتَكْرِيرِ الْمَزْحِ وَأَنَّهَا إِبَاحَةُ سُنَّةٍ لَا رُخْصَةٌ، وَأَنَّ مُمَازَحَةَ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ جَائِزَةٌ، وَتَكْرِيرُ زِيَارَةِ الْمَمْزُوحِ مَعَهُ. وَفِيهِ تَرْكُ التَّكَبُّرِ وَالتَّرَفُّعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ الْكَبِيرِ فِي الطَّرِيقِ فَيَتَوَافَرُ أوْ فِي الْبَيْتِ فَيَمْزَحُ، وَأَنَّ الَّذِي وَرَدَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِ أَنَّ سِرَّهُ يُخَالِفُ عَلَانِيَتَهُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ. وَفِيهِ الْحُكْمُ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنَ الْأَمَارَاتِ فِي الْوَجْهِ مِنْ حُزْنه أَوْ غَيْرِهِ.

وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَيْنِ عَلَى حَالِ صَاحِبِهَا، إِذا اسْتَدَلَّ صلى الله عليه وسلم بِالْحُزْنِ الظَّاهِرِ عَلَى الْحُزْنِ الْكَامِنِ حَتَّى حَكَمَ بِأَنَّهُ حَزِينٌ فَسَأَلَ أُمَّهُ عَنْ حُزْنِهِ، وَفِيهِ التَّلَطُّفُ بِالصَّدِيقِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَالسُّؤَالُ عَنْ حَالِهِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِي الزَّجْرِ عَنْ بُكَاءِ الصَّبِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا بَكَى عَنْ سَبَبٍ عَامِدًا وَمِنْ أَذًى بِغَيْرِ حَقٍّ. وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الَّذِي أَجَابَ عَنْ سَبَبِ حُزْنِ أَبِي عُمَيْرٍ كَانَ كَذَلِكَ. وَفِيهِ جَوَازُ تَكْنِيَةِ مَنْ لَمْ يُولَدْ لَهُ، وَجَوَازُ لَعِبِ الصَّغِيرِ بِالطَّيْرِ، وَجَوَازُ تَرْكِ الْأَبَوَيْنِ وَلَدَهُمَا الصَّغِيرَ يَلْعَبُ بِمَا أُبِيحَ اللَّعِبُ بِهِ، وَجَوَازُ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِيمَا يَتَلَهَّى بِهِ الصَّغِيرُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَجَوَازُ إِمْسَاكِ الطَّيْرِ فِي الْقَفَصِ وَنَحْوِهِ، وَقَصِّ جَنَاحِ الطَّيْرِ إِذْ لَا يَخْلُو حَالُ طَيْرِ أَبِي عُمَيْرٍ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَيُّهُمَا كَانَ الْوَاقِعُ الْتَحَقَ بِهِ الْآخَرُ فِي الْحُكْمِ. وَفِيهِ جَوَازُ إِدْخَالِ الصَّيْدِ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ وَإِمْسَاكِهِ بَعْدَ إِدْخَالِهِ، خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ مِنْ إِمْسَاكِهِ وَقَاسَهُ عَلَى مَنْ صَادَ ثُمَّ أَحْرَمَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِرْسَالُ. وَفِيهِ جَوَازُ تَصْغِيرِ الِاسْمِ وَلَوْ كَانَ لِحَيَوَانٍ، وَجَوَازُ مُوَاجَهَةِ الصَّغِيرِ بِالْخِطَابِ خِلَافًا

ص: 584

لِمَنْ قَالَ: الْحَكِيمُ لَا يُوَاجِهُ بِالْخِطَابِ إِلَّا مَنْ يَعْقِلُ وَيَفْهَمُ، قَالَ: وَالصَّوَابُ الْجَوَازُ حَيْثُ لَا يَكُونُ هُنَاكَ طَلَبُ جَوَابٍ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُخَاطِبْهُ فِي السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ بَلْ سَأَلَ غَيْرَهُ. وَفِيهِ مُعَاشَرَةُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ.

وَفِيهِ جَوَازُ قَيْلُولَةِ الشَّخْصِ فِي بَيْتٍ غَيْرِ بَيْتِ زَوْجَتِهِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ زَوْجَتُهُ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْقَيْلُولَةِ، وَجَوَازُ قَيْلُولَةِ الْحَاكِمِ فِي بَيْتِ بَعْضِ رَعِيَّتِهِ وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً، وَجَوَازُ دُخُولِ الرَّجُلِ بَيْتَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجُهَا غَائِبٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا إِذَا انْتَفَتِ الْفِتْنَةُ. وَفِيهِ إِكْرَامُ الزَّائِرِ وَأَنَّ التَّنَعُّمَ الْخَفِيفَ لَا يُنَافِي السُّنَّةَ، وَأَنَّ تَشْيِيعَ الْمَزُورِ الزَّائِرَ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَفِيهِ أَنَّ الْكَبِيرَ إِذَا زَارَ قَوْمًا وَاسَى بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُ صَافَحَ أَنَسًا، وَمَازَحَ أَبَا عُمَيْرٍ، وَنَامَ عَلَى فِرَاشِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَصَلَّى بِهِمْ فِي بَيْتِهِمْ حَتَّى نَالُوا كُلُّهُمْ مِنْ بَرَكَتِهِ، انْتَهَى مَا لَخَّصْتُهُ مِنْ كَلَامِهِ فِيمَا اسْتَنْبَطَ مِنْ فَوَائِدِ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أَبِي عُمَيْرٍ.

ثُمَّ ذَكَرَ فَصْلًا فِي فَائِدَةِ تَتَبُّعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنْ خِلَافِ مَنْ شَرَطَ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ أَنْ تَتَعَدَّدَ طُرُقُهُ، فَقِيلَ: لِاثْنَيْنِ، وَقِيلَ: لِثَلَاثَةٍ، وَقِيلَ: لِأَرْبَعَةٍ، وَقِيلَ: حَتَّى يَسْتَحِقَّ اسْمَ الشُّهْرَةِ، فَكَانَ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ مَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ لِكُلِّ أَحَدٍ غَالِبًا، وَفِي جَمِيعِ الطُّرُقِ أَيْضًا وَمَعْرِفَةِ مَنْ رَوَاهَا وَكَمِّيَّتِهَا الْعِلْمُ بِمَرَاتِبِ الرُّوَاةِ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ. وَفِيهَا الِاطِّلَاعُ عَلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ بِانْكِشَافِ غَلَطِ الْغَالِطِ وَبَيَانِ تَدْلِيسِ الْمُدَلِّسِ وَتَوْصِيلِ الْمُعَنْعَنِ. ثُمَّ قَالَ: وَفِيمَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَمْعِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاسْتِنْبَاطِ فَوَائِدِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَهْمِ فِي النَّقْلِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُهْتَدَى لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَنْبَطَ مِنْهَا وَاحِدَةٌ، وَلَكِنْ مِنْ عَجَائِبِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ أَنَّهَا تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ; وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ مُلَخَّصًا. وَقَدْ سَبَقَ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى فَوَائِدِ قِصَّةِ أَبِي عُمَيْرٍ بِخُصُوصِهَا مِنَ الْقُدَمَاءِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَشُيُوخِ أَصْحَابِ السُّنَنِ، ثُمَّ تَلَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ ثُمَّ تَلَاهُ الْخَطَّابِيُّ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرُوهُ يَقْرُبُ مِنْ عَشْرَةِ فَوَائِدَ فَقَطْ، وَقَدْ سَاقَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ مَا ذَكَرَهُ ابْنِ الْقَاصِّ بِتَمَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ مَا هُوَ وَاضِحٌ، وَمِنْهَا الْخَفِيُّ، وَمِنْهَا الْمُتَعَسِّفُ. قَالَ: وَالْفَوَائِدُ الَّتِي ذَكَرَهَا آخِرًا وَأَكْمَلَ بِهَا السِّتِّينَ هِيَ مِنْ فَائِدَةِ جَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ لَا مِنْ خُصُوصِ هَذَا الْحَدِيثِ.

وَقَدْ بَقِيَ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْخَطَّابِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ لَا يَحْرُمُ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ أَنَّهُ صِيدَ فِي الْحِلِّ ثُمَّ أُدْخِلَ الْحَرَمَ فَلِذَلِكَ أُبِيحَ إِمْسَاكُهُ، وَبِهَذَا أَجَابَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَحْمَدَ وَالْكُوفِيِّينَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ لَا يَحْرُمُ صَيْدُهُ. وَأَجَابَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَعَكَسَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: قِصَّةُ أَبِي عُمَيْرٍ تَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُتَعَقَّبٌ. وَمَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ الْقَاصِّ مِنْ مُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يُمَيِّزُ التَّحْقِيقُ فِيهِ جَوَازُ مُوَاجَهَتِهِ بِالْخِطَابِ إِذَا فُهِمَ الْخِطَابُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ فَائِدَةً وَلَوْ بِالتَّأْنِيسِ لَهُ، وَكَذَا فِي تَعْلِيمِهِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ عِنْدَ قَصْدِ تَمْرِينِهِ عَلَيْهِ مِنَ الصِّغَرِ كَمَا فِي قِصَّةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ لَمَّا وَضَعَ التَّمْرَةَ فِي فِيهِ قَالَ لَهُ: كِخْ كِخْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا مُطْلَقًا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ خِطَابَ مَنْ حَضَرَ أَوِ اسْتِفْهَامَهُ مِمَّنْ يَعْقِلُ، وَكَثِيرًا مَا يُقَالُ لِلصَّغِيرِ الَّذِي لَا يَفْهَمُ أَصْلًا إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْوَعْكِ: كَيْفَ أَنْتَ؟ وَالْمُرَادُ سُؤَالُ كَافِلِهِ أَوْ حَامِلِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا اسْتِحْبَابُ النَّضْحِ فِيمَا لَمْ يُتَيَقَّنْ طَهَارَتُهُ.

وَفِيهِ أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ لَا يُقْصَدُ مَعَانِيهَا، وَأَنَّ إِطْلَاقَهَا عَلَى الْمُسَمَّى لَا يَسْتَلْزِمُ الْكَذِبَ ; لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَمْ يَكُنْ أَبًا وَقَدْ دُعِيَ أَبَا عُمَيْرٍ. وَفِيهِ جَوَازُ السَّجْعِ فِي الْكَلَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلَّفًا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ مِنَ النَّبِيِّ كَمَا امْتَنَعَ مِنْهُ إِنْشَاءُ الشِّعْرِ. وَفِيهِ إِتْحَافُ الزَّائِرِ بِصَنِيعِ مَا يَعْرِفُ

ص: 585

أَنَّهُ يُعْجِبُهُ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَفِيهِ جَوَازُ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ وَقَدْ جَاءَتْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَفِيهِ جَوَازُ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَجَوَازُ الْإِتْيَانِ بِهِ تَارَةً مُطَوَّلًا وَتَارَةً مُلَخَّصًا، وَجَمِيعُ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنَسٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ بَعْدَهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ مِنْهُ وَالْكَثِيرُ مِنْهُ مِمَّنْ بَعْدَهُ، وَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنَ اتِّحَادِ الْمَخَارِجِ وَاخْتِلَافِهَا. وَفِيهِ مَسْحُ رَأْسِ الصَّغِيرِ لِلْمُلَاطَفَةِ، وَفِيهِ دُعَاءُ الشَّخْصِ بِتَصْغِيرِ اسْمِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِيذَاءِ، وَفِيهِ جَوَازُ السُّؤَالِ عَمَّا السَّائِلُ بِهِ عَالِمٌ لِقَوْلِهِ: مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ بَعْدَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مَاتَ. وَفِيهِ إِكْرَامُ أَقَارِبِ الْخَادِمِ وَإِظْهَارُ الْمَحَبَّةِ لَهُمْ ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنْ صَنِيعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أُمِّ سُلَيْمٍ وَذَوِيهَا كَانَ غَالِبه بِوَاسِطَةِ خِدْمَةِ أَنَسٍ لَهُ.

وَقَدْ نُوزِعَ ابْنُ الْقَاصِّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِ جَوَازِ لَعِبِ الصَّغِيرِ بِالطَّيْرِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِالنَّهْيِ عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحَقُّ أَنْ لَا نَسْخَ، بَلِ الَّذِي رُخِّصَ فِيهِ لِلصَّبِيِّ إِمْسَاكُ الطَّيْرِ لِيَلْتَهِيَ بِهِ، وَأَمَّا تَمْكِينُهُ مِنْ تَعْذِيبِهِ وَلَا سِيَّمَا حَتَّى يَمُوتَ فَلَمْ يُبَحْ قَطُّ. وَمِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ الْقَاصِّ وَلَا غَيْرُهُ فِي قِصَّةِ أَبِي عُمَيْرٍ أَنَّ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي آخِرِ رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: فَمَرِضَ الصَّبِيُّ فَهَلَكَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قِصَّةِ مَوْتِهِ وَمَا وَقَعَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ مِنْ كِتْمَانِ ذَلِكَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ حَتَّى نَامَ مَعَهَا، ثُمَّ أَخْبَرَتْهُ لَمَّا أَصْبَحَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَدَعَا لَهُمْ فَحَمَلَتْ ثُمَّ وَضَعَتْ غُلَامًا، فَأَحْضَرَهُ أَنَسٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَحَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شرح ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِهِ فِي بَابِ الْمَعَارِيضِ قَرِيبًا.

وَقَدْ جَزَمَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي أَنْسَابِ الْخَزْرَجِ بِأَنَّ أَبَا عُمَيْرٍ مَاتَ صَغِيرًا، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي الصَّحَابَةِ: لَعَلَّهُ الْغُلَامُ الَّذِي جَرَى لِأُمِّ سُلَيْمٍ، وَأَبِي طَلْحَةَ فِي أَمْرِهِ مَا جَرَى، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْ رِوَايَةَ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ الْمُصَرِّحَةَ بِذَلِكَ فَذَكَرَهُ احْتِمَالًا، وَلَمْ أَرَ عِنْدَ مَنْ ذَكَرَ أَبَا عُمَيْرٍ فِي الصَّحَابَةِ لَهُ غَيْرَ قِصَّةِ النُّغَيْرِ، وَلَا ذَكَرُوا لَهُ اسْمًا، بَلْ جَزَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِأَنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ جَعْلُ الِاسْمِ الْمُصَدَّرِ بِأَبٍ أَوْ أُمٍّ اسْمًا عَلَمًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْمٌ غَيْرُهُ، لَكِنْ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ فِي رِوَايَةِ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: يُكَنَّى أَبَا عُمَيْرٍ أَنَّ لَهُ اسْمًا غَيْرَ كُنْيَتِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ حَدِيثًا، وَأَبُو عُمَيْرٍ هَذَا ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَنَسٍ وَذَكَرُوا أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْحَاكِمُ، أَبُو أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ، فَلَعَلَّ أَنَسًا سَمَّاهُ بِاسْمِ أَخِيهِ لِأُمِّهِ وَكَنَّاهُ بِكُنْيَتِهِ، وَيَكُونُ أَبُو طَلْحَةَ سَمَّى ابْنَهُ الَّذِي رُزِقَهُ خَلَفًا مِنْ أَبِي عُمَيْرٍ بِاسْمِ أَبِي عُمَيْرٍ لَكِنَّهُ لَمْ يُكَنِّهِ بِكُنْيَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ النِّسَاءِ لِأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ قَدْ أَخْرَجَ فِي أَوَاخِرِهِ فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ سُلَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ أَبُو سَهْلٍ الْبَصْرِيُّ وَفِيهِ مَقَالٌ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ زَوْجَ أُمِّ سُلَيْمٍ كَانَ لَهُ مِنْهَا ابْنٌ يُقَالُ لَهُ حَفْصٌ، غُلَامٌ قَدْ تَرَعْرَعَ، فَأَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ وَهُوَ صَائِمٌ فِي بَعْضِ شُغْلِهِ، فَذَكَرَ قِصَّةً نَحْوَ الْقِصَّةِ الَّتِي فِي الصَّحِيحِ بِطُولِهَا فِي مَوْتِ الْغُلَامِ وَنَوْمِهَا مَعَ أَبِي طَلْحَةَ وَقَوْلِهَا له: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعَارَكَ عَارِيَةً. . . إِلَخْ وَإِعْلَامِهِا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَدُعَائِهِ لَهُمَا وَوِلَادَتِهَا وَإِرْسَالِهَا الْوَلَدَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُحَنِّكَهُ. وَفِي الْقِصَّةِ مُخَالَفَةٌ لِمَا فِي الصَّحِيحِ، مِنْهَا أَنَّ الْغُلَامَ كَانَ صَحِيحًا فَمَاتَ بَغْتَةً، وَمِنْهَا أَنَّهُ تَرَعْرَعَ، وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ. فَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ اسْمَ أَبِي عُمَيْرٍ حَفْصٌ، وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ وَفِي الْمُبْهَمَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنَ النَّوَادِرِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِقِصَّةِ أَبِي عُمَيْرٍ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَفِظَ اللَّهُ أَخَانَا صَالِحَ بْنَ مُحَمَّدٍ - يَعْنِي الْحَافِظَ الْمُلَقَّبَ جَزَرَةُ - فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَبْسُطُنَا غَائِبًا وَحَاضِرًا، كَتَبَ إِلَيَّ أَنَّهُ

ص: 586

لَمَّا مَاتَ الذُّهْلِيُّ - يَعْنِي بِنَيْسَابُورَ - أَجْلَسُوا شَيْخًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ مَحْمِشٌ، فَأَمْلَى عَلَيْهِمْ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمِيرٍ، مَا فَعَلَ الْبَعِيرُ؟ قَالَهُ بِفَتْحِ عَيْنِ عَمِيرٍ بِوَزْنِ عَظِيمٍ، وَقَالَ بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَدَلَ النُّونِ وَأَهْمَلَ الْعَيْنَ بِوَزْنِ الْأَوَّلِ فَصَحَّفَ الِاسْمَيْنِ مَعًا. قُلْتُ: وَمَحْمِشٌ هَذَا لَقَبٌ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ بَيْنَهُمَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ السُّلَمِيُّ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ: رَوَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ

‌113 - بَاب التَّكَنِّي بِأَبِي تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كُنْيَةٌ أُخْرَى

6204 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ رضي الله عنه إِلَيْهِ لَأَبُو تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا، وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ غَاضَبَ يَوْمًا فَاطِمَةَ، فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ في الْمَسْجِدِ، فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتْبَعُهُ، فَقَالَ: هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الْجِدَارِ، فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَامْتَلَأَ ظَهْرُهُ تُرَابًا - فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّكَنِّي بِأَبِي تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كُنْيَةٌ أُخْرَى) وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي مَنَاقِبِهِ، وَفِيهِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي سَبَبِ ذَلِكَ وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْتَنِعٌ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي إِمْكَانُ الْجَمْعِ وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي بَابِهِ مِنْ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ: أَنَا أَبُو حَسَنٍ.

وقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ سُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَقَوْلُهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِهَذَا السَّنَدِ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَقَوْلُهُ: وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ التِّينِ: صَوَابُهُ أَبَا تُرَابٍ. قُلْتُ: وَلَيْسَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْأَصْلِ خَطَأٌ بَلْ هُوَ مُوَجَّهٌ عَلَى الْحِكَايَةِ، أَوْ عَلَى جَعْلِ الْكُنْيَةِ اسْمًا. وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَبَا تُرَابٍ وَنَبَّهَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا بِالنَّصْبِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: إِنْ كَانَتْ لَأَحَبَّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ فِيهِ إِطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى الْكُنْيَةِ، وَأَنَّثَ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الْكُنْيَةِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَكَانَتْ زَائِدَةٌ، وَأَحَبَّ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ إِنْ، وَهِيَ وَإِنْ خُفِّفَتْ لَكِنْ لَا يُوجِبُ تَخْفِيفُهَا إِلْغَاءَهَا. قُلْتُ: وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَا قَالَ، بَلْ كَانَتْ عَلَى حَالِهَا. وَأَشَارَ سَهْلٌ بِذَلِكَ إِلَى انْقِضَاءِ مَحَبَّتِهِ بِمَوْتِهِ، وَسَهْلٌ إِنَّمَا حَدَّثَ بِذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ بِدَهْرٍ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وَأَنَّثَ كَانَتْ عَلَى تَأْنِيثِ الْأَسْمَاءِ مِثْلَ {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} وَمِثْلَ كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ كَذَا قَالَ، وَمَا تَقَدَّمَ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ نَدْعُوَهَا بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ وَدَالٍ سَاكِنَةٍ وَالْوَاوُ مُحَرَّكَةٌ؛ بِمَعْنَى نَذْكُرُهَا، كَذَا لِلنَّسَفِيِّ.

وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْوَقْتِ: أَنْ يُدْعَاهَا، وَهُوَ بِتَحْتَانِيَّةٍ أَوَّلُهُ مَضْمُومَةٌ، وَلِسَائِرِ الرُّوَاةِ: يُدْعَى بِهَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ؛ أَيْ يُنَادَى بِهَا، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ شَيْخِهِ الْمَذْكُورِ هُنَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَكَذَا لِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ: أَنْ يَدْعُوَهُ بِهَا

ص: 587

وَقَوْلُهُ: فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ فِي الْمَسْجِدِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ، وَعَنْهُ فِي بَدَلَ إِلَى، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: إِلَى الْجِدَارِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ بِلَفْظِ: فَإِذَا هُوَ رَاقِدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُقَوِّي رِوَايَةَ الْأَكْثَرِ هُنَا. وَقَوْلُهُ يَتَّبِعُهُ بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ وَالْعَيْنُ مُهْمَلَةُ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: يَبْتَغِيهِ؛ بِتَقْدِيمِ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ، وَالْغَيْنُ مُعْجَمَةٌ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ. وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ جَوَازُ تَكْنِيَةِ الشَّخْصِ بِأَكْثَرَ مِنْ كُنْيَةٍ، وَالتَّلْقِيبُ بِلَفْظِ الْكُنْيَةِ وَبِمَا يُشْتَقُّ مِنْ حَالِ الشَّخْصِ، وَأَنَّ اللَّقَبَ إِذَا صَدَرَ مِنَ الْكَبِيرِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ لَفْظَ مَدْحٍ، وَأَنَّ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّنْقِيصِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا كَانَ أَهْلُ الشَّامِ يَنْتَقِصُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِزَعْمِهِمْ حَيْثُ يَقُولُونَ لَهُ: ابْنُ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، فَيَقُول: تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْفَضْلِ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ الْكَبِيرِ مِنْهُمْ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ مِنَ الْغَضَبِ، وَقَدْ يَدْعُوهُ ذَلِكَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ وَلَا يُعَابُ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ خُرُوجِ عَلِيٍّ خَشْيَةَ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَنَابِ فَاطِمَةَ رضي الله عنهما فَحَسَمَ مَادَّةَ الْكَلَامِ بِذَلِكَ إِلَى أَنْ تَسْكُنَ فَوْرَةُ الْغَضَبِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَفِيهِ كَرَمُ خُلُقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ عَلِيٍّ لِيَتَرَضَّاهُ، وَمَسَحَ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ لِيُبْسِطَهُ، وَدَاعَبَهُ بِالْكُنْيَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ حَالَتِهِ، وَلَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى مُغَاضَبَتِهِ لِابْنَتِهِ مَعَ رَفِيعِ مَنْزِلَتِهَا عِنْدَهُ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الرِّفْقِ بِالْأَصْهَارِ وَتَرْكُ مُعَاتَبَتِهِمْ إِبْقَاءً لِمَوَدَّتِهِمْ، لِأَنَّ الْعِتَابَ إِنَّمَا يُخْشَى مِمَّنْ يُخْشَى مِنْهُ الْحِقْدُ لَا مِمَّنْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ): أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِهِ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَعَلِيٌّ فِي غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ عَلِيًّا نَائِمًا وَقَدْ عَلَاهُ تُرَابٌ، فَأَيْقَظَهُ وَقَالَ لَهُ: مَالَكَ أَبَا تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ؟ الْحَدِيثَ. وَغَزْوَةُ الْعُشَيْرَةِ كَانَتْ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّ عَلِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَقِبَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ إِذَا غَضِبَ عَلَى فَاطِمَةَ فِي شَيْءٍ لَمْ يُكَلِّمْهَا، بَلْ كَانَ يَأْخُذُ تُرَابًا فَيَضَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى ذَلِكَ عَرَفَ، فَيَقُولُ: مَالَكَ يَا أَبَا تُرَابٍ؟ فَهَذَا سَبَبٌ آخَرُ يُقَوِّي التَّعَدُّدَ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حَدِيثُ سَهْلٍ فِي الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌114 - بَاب أَبْغَضِ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ

6205 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَخْنَى الْأَسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ.

[الحديث 6205 - طرفه في: 6206]

6206 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً قَالَ: "أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ" وَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ "أَخْنَعُ الأَسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الأَمْلَاكِ" قَالَ سُفْيَانُ يَقُولُ غَيْرُهُ تَفْسِيرُهُ شَاهَانْ شَاهْ

قَوْلُهُ: (بَابُ أَبْغَضِ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عز وجل كَذَا تَرْجَمَ بِلَفْظِ: أَبْغَضَ، وَهُوَ بِالْمَعْنَى. وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ:

ص: 588

أَخْبَثَ؛ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ، وَبِلَفْظِ: أَغْيَظَ، وَهُمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: أَكْرَهِ الْأَسْمَاءِ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: أَبْغَضُ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ خَالِدٌ وَمَالِكٌ، قَالَ: وَمَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا لِأَنَّ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ تَسَمَّى بِهِمَا، قَالَ: وَفِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ خَازِنِ النَّارِ مَالِكًا، قَالَ: وَالْعِبَادُ وَإِنْ كَانُوا يَمُوتُونَ فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تَفْنَى، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فَمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَحْثِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْفَضْلِ الْمَدَنِيِّ أَحَدِ الضُّعَفَاءِ مِنْ مَنَاكِيرِهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ مَا سُمِّيَ بِهِ، وَأَصْدَقُهَا الْحَارِثُ، وَهَمَّامٌ، وَأَكْذَبُ الْأَسْمَاءِ خَالِدٌ وَمَالِكٌ، وَأَبْغَضُهَا إِلَى اللَّهِ مَا سُمِّيَ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَضْبِطِ الدَّاوُدِيُّ لَفْظَ الْمَتْنِ، أَوْ هُوَ مَتْنٌ آخَرُ اطَّلَعَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ عَلَى ضَعْفِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ تَسْمِيَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ فَلَيْسَ بِوَاضِحٍ، لِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِ الْمَنْعِ بِمَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا.

وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ لِجَوَازِ التَّسْمِيَةِ بخَالِدٍ بِمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تَفْنَى فَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَلَيْسَ بِوَاضِحٍ أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَدْ قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} وَالْخُلْدُ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ بِغَيْرِ مَوْتٍ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْأَرْوَاحِ لَا تَفْنَى أَنْ يُقَالَ: صَاحِبُ تِلْكَ الرُّوحِ خَالِدٌ.

قَوْلُهُ: (أَخْنَى) كَذَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ لِلْأَكْثَرِ، مِنَ الْخَنَا - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ مَقْصُورٌ - وَهُوَ الْفُحْشُ فِي الْقَوْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَخْنَى عَلَيْهِ الدَّهْرُ؛ أَيْ أَهْلَكَهُ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي: أَخْنَعَ؛ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ مِنَ الْخُنُوعِ وَهُوَ الذُّلُّ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الْحُمَيْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ عَقِبَ رِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: أَخْنَعُ: أَذَلُّ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ - يَعْنِي إِسْحَاقَ اللُّغَوِيَّ - عَنْ أَخْنَعَ فَقَالَ: أَوْضَعُ، قَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَشَدُّ الْأَسْمَاءِ صَغَارًا. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْخَانِعُ الذَّلِيلُ وَخَنَعَ الرَّجُلُ ذَلَّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ أَذَلَّ الْأَسْمَاءِ كَانَ مَنْ تَسَمَّى بِهِ أَشَدَّ ذُلًّا، وَقَدْ فَسَّرَ الْخَلِيلُ أَخْنَعَ بِأَفْجَرَ فَقَالَ: الْخَنْعُ الْفُجُورُ، يُقَالُ: أَخْنَعَ الرَّجُلُ إِلَى الْمَرْأَةِ؛ إِذَا دَعَاهَا لِلْفُجُورِ. قُلْتُ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْخَنَا وَهُوَ الْفُحْشُ. وَوَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: أَخْنَعُ: أَقْبَحُ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ وَرَدَ بِلَفْظِ: أَنْخَعَ؛ بِتَقْدِيمِ النُّونِ عَلَى الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ بِمَعْنَى أَهْلَكَ؛ لِأَنَّ النَّخْعَ الذَّبْحُ وَالْقَتْلُ الشَّدِيدُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ: أَغْيَظَ؛ بِغَيْنٍ وَظَاءٍ مُعْجَمَتَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَلِكُ الْأَمْلَاكِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ.

وَوَقَعَ فِي شَرْحِ شَيْخِنَا ابْنِ الْمُلَقِّنِ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَفْحَشُ الْأَسْمَاءِ، وَلَمْ أَرَهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ أَخْنَى، وَقَوْلُهُ: أَخْنَعُ اسْمٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرُ مَرَّةٍ: أَخْنَعُ الْأَسْمَاءِ؛ أَيْ قَالَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي إِرَادَةِ الْكَثْرَةِ، وَسَأَذْكُرُ تَوْجِيهَ الرِّوَايَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (عِنْدَ اللَّهِ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةٌ هُنَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (تَسَمَّى)؛ أَيْ سَمَّى نَفْسَهُ، أَوْ سُمِّيَ بِذَلِكَ فَرَضِيَ بِهِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ) بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ مَلِكٍ، وَالْأَمْلَاكُ جَمْعُ مَلِكٍ - بِالْكَسْرِ وَبِالْفَتْحِ - وَجَمْعُ مَلِيكٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: يَقُولُ غَيْرُهُ)؛ أَيْ غَيْرُ أَبِي الزِّنَادِ.

قَوْلُهُ: (تَفْسِيرُهُ شَاهَانْ شَاهْ) هَكَذَا ثَبَتَ لَفْظُ

ص: 589

تَفْسِيرِهِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ سُفْيَانُ: مِثْلُ شَاهَانْ شَاهْ، فَلَعَلَّ سُفْيَانَ قَالَهُ مَرَّةً نَقْلًا وَمَرَّةً مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ سُفْيَانَ مِثْلَهُ وَزَادَ مِثْلَ ذَلِكَ الصِّينَ، وَشَاهَانْ شَاهْ بِسُكُونِ النُّونِ وَبِهَاءٍ فِي آخِرِهِ وَقَدْ تُنَوَّنُ، وَلَيْسَتْ هَاءَ تَأْنِيثٍ فَلَا يُقَالُ بِالْمُثَنَّاةِ أَصْلًا.

وَقَدْ تَعَجَّبَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ تَفْسِيرِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ اللَّفْظَةُ الْعَرَبِيَّةُ بِاللَّفْظَةِ الْعَجَمِيَّةِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ آخَرُونَ، وَهُوَ غَفْلَةٌ مِنْهُمْ عَنْ مُرَادِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ شَاهَانْ شَاهْ كَانَ قَدْ كَثُرَ التَّسْمِيَةُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فَنَبَّهَ سفيان عَلَى أَنَّ الِاسْمَ الَّذِي وَرَدَ الْخَبَرُ بِذَمِّهِ لَا يَنْحَصِرُ فِي مَلِكِ الْأَمْلَاكِ بَلْ كُلُّ مَا أَدَّى مَعْنَاهُ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ فَهُوَ مُرَادٌ بِالذَّمِّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: مِثْلَ شَاهَانْ شَاهْ وَقَوْلُهُ: شَاهَانْ شَاهْ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: شَاهٍ شَاهْ؛ بِالتَّنْوِينِ بِغَيْرِ إِشْبَاعٍ فِي الْأُولَى، وَالْأَصْلُ هُوَ الْأُولَى، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَخْفِيفٌ مِنْهَا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الصَّوَابَ: شَاهْ شَاهَانْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ الْعَجَمِ تَقْدِيمُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ، فَإِذَا أَرَادُوا قَاضِي الْقُضَاةِ بِلِسَانِهِمْ قَالُوا: موبذان موبذ، فموبذ هُوَ الْقَاضِي وَموبذان جَمْعُهُ، فَكَذَا شَاهْ هُوَ الْمَلِكُ وَشَاهَانْ هُوَ الْمُلُوكُ، قَالَ عِيَاضٌ: اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ صَاحِبُ الِاسْمِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ: هَمَّامٍ أَغْيَظُ رَجُلٍ، فَكَأَنَّهُ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: تَسَمَّى، فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ اسْمُ رَجُلٍ تَسَمَّى، بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَأَنَّ أَخْنَعَ الْأَسْمَاءِ.

وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّسَمِّي بِهَذَا الِاسْمِ لِوُرُودِ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ؛ مِثْلُ: خَالِقِ الْخَلْقِ، وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، وَسُلْطَانِ السَّلَاطِينِ، وَأَمِيرِ الْأُمَرَاءِ. وَقِيلَ: يَلْتَحِقُ بِهِ أَيْضًا مَنْ تَسَمَّى بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْخَاصَّةِ بِهِ كَالرَّحْمَنِ وَالْقُدُّوسِ وَالْجَبَّارِ. وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ مَنْ تَسَمَّى قَاضِي الْقُضَاةِ أَوْ حَاكِمَ الْحُكَّامِ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} أَيْ أَعْدَلُ الْحُكَّامِ وَأَعْلَمُهُمْ، إِذْ لَا فَضْلَ لِحَاكِمٍ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، قَالَ: وَرُبَّ غَرِيقٍ فِي الْجَهْلِ وَالْجَوْرِ مِنْ مُقَلِّدِي زَمَانِنَا قَدْ لُقِّبَ أَقْضَى الْقُضَاةِ وَمَعْنَاهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ فَاعْتَبِرْ وَاسْتَعْبِرْ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِحَدِيثِ: أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ، قَالَ: فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنْ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ أَطْلَقَ عَلَى قَاضٍ يَكُونُ أَعْدَلَ الْقُضَاةِ أَوْ أَعْلَمَهُمْ فِي زَمَانِهِ أَقْضَى الْقُضَاةِ، أَوْ يُرِيدُ إِقْلِيمَهُ أَوْ بَلَدَهُ. ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَاضِي الْقُضَاةِ وَأَقْضَى الْقُضَاةِ، وَفِي اصْطِلَاحِهِمْ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ فَوْقَ الثَّانِي وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا هُنَا.

وَقَدْ تَعَقَّبَ كَلَامَ ابْنِ الْمُنِيرِ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فَصَوَّبَ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الْمَنْعِ وَرَدَّ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ قَضِيَّةِ عَلِيٍّ بِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِي ذَلِكَ وَقَعَ فِي حَقِّ مَنْ خُوطِبَ بِهِ وَمَنْ يَلْتَحِقُ بِهِمْ فَلَيْسَ مُسَاوِيًا لِإِطْلَاقِ التَّفْضِيلِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، قَالَ: وَلَا يَخْفَى مَا فِي إِطْلَاقِ ذَلِكَ مِنَ الْجَرَاءَةِ وَسُوءِ الْأَدَبِ، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَنُعِتَ بِذَلِكَ فَلَذَّ فِي سَمْعِهِ فَاحْتَالَ فِي الْجَوَازِ فَإِنَّ الْحَقَّ أَحَقُّ أَنْ تتَّبَعَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمِنَ النَّوَادِرِ أَنَّ الْقَاضِي عِزَّ الدِّينِ بْنَ جَمَاعَةَ قَالَ أنَّهُ رَأَى أَبَاهُ فِي الْمَنَامِ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ: مَا كَانَ عَلَيَّ أَضَرُّ مِنْ هَذَا الِاسْمِ، فَأَمَرَ الْمُوَقِّعِينَ أَنْ لَا يَكْتُبُوا لَهُ فِي السِّجِلَّاتِ قَاضِي الْقُضَاةِ بَلْ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِ أَبِيهِ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْوَظِيفَةِ، بَلْ هُوَ الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ بِقَاضِي الْقُضَاةِ وُجِدَتْ فِي الْعَصْرِ الْقَدِيمِ مِنْ عَهْدِ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ مَنَعَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ جَوَازِ تَلْقِيبِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ فِي عَصْرِهِ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ مَعَ أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ كَانَ يُقَالُ لَهُ: أَقْضَى الْقُضَاةِ، وَكَأَنَّ وَجْهَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا الْوُقُوفُ مَعَ الْخَبَرِ وَظُهُورُ إِرَادَةِ الْعَهْدِ الزَّمَانِيِّ فِي الْقُضَاةِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يَلْتَحِقُ بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ

ص: 590

قَاضِي الْقُضَاةِ وَإِنْ كَانَ اشْتُهِرَ فِي بِلَادِ الشَّرْقِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى كَبِيرِ الْقُضَاةِ، وَقَدْ سَلِمَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ مِنْ ذَلِكَ، فَاسْمُ كَبِيرِ الْقُضَاةِ عِنْدَهُمْ قَاضِي الْجَمَاعَةِ، قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الْأَدَبِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ; لِأَنَّ الزَّجْرَ عَنْ مَلِكِ الْأَمْلَاكِ وَالْوَعِيدَ عَلَيْهِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَرَادَ مَنْ تَسَمَّى بِذَلِكَ أَنَّهُ مَلِكٌ عَلَى مُلُوكِ الْأَرْضِ أَمْ عَلَى بَعْضِهَا، سَوَاءٌ كَانَ مُحِقًّا فِي ذَلِكَ أَمْ مُبْطِلًا، مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ قَصَدَ ذَلِكَ وَكَانَ فِيهِ صَادِقًا وَمَنْ قَصَدَهُ وَكَانَ فِيهِ كَاذِبًا.

قَالَ سُفْيَانُ: يَقُولُ غَيْرُهُ تَفْسِيرُهُ شَاهَانْ شَاهْ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، وَهِيَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (رِوَايَةٌ) كَذَا فِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ: يَبْلُغُ بِهِ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ سُفْيَانَ مِثْلُهُ، وَكِلَاهُمَا كِنَايَةٌ عَنِ الرَّفْعِ بِمَعْنَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ.

‌115 - بَاب كُنْيَةِ الْمُشْرِكِ، وَقَالَ مِسْوَرٌ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ

6207 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ. وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ وَأُسَامَةُ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي حَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَسَارَا، حَتَّى مَرَّا بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ ابْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ وَقَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا. فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ، لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا، فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا، فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. فَاسْتتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَساوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنوا.

ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَابَّتَهُ، فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْ سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ - يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ - قَالَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ، اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ، فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ وَلَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ. فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الْآيَةَ، وَقَالَ:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرًا فَقَتَلَ اللَّهُ بِهَا مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ وَسَادَةِ قُرَيْشٍ فَقَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَنْصُورِينَ غَانِمِينَ مَعَهُمْ أُسَارَى مِنْ صَنَادِيدِ

ص: 591

الْكُفَّارِ وَسَادَةِ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ، فَبَايِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمُوا.

6208 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ. قَالَ: نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، لَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ كُنْيَةِ الْمُشْرِكِ)؛ أَيْ: هَلْ يَجُوزُ ابْتِدَاءً؟ وَهَلْ إِذَا كَانَتْ لَهُ كُنْيَةٌ تَجُوزُ مُخَاطَبَتُهُ أَوْ ذِكْرُهُ بِهَا؟ وَأَحَادِيثُ الْبَابِ مُطَابِقَةٌ لِهَذَا الْأَخِيرِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الثَّانِي فِي الْحُكْمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مِسْوَرٌ) هُوَ ابْنُ مَخْرَمَةَ الزُّهْرِيُّ، كَذَا لِلْجَمِيعِ إِلَّا النَّسَفِيَّ فَسَقَطَ هَذَا التَّعْلِيقُ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَوَقَعَ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ: وَهُوَ الْأَشْهَرُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ وَسَاقَ الْمَتْنَ عَلَى لَفْظِهِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَقَوْلُهُ: عَنْ عُرْوَةَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَتَقَدَّمَ سِيَاقُ لَفْظِ شُعَيْبٍ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ، وَهِيَ كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَكَانَ حِينَئِذٍ لَمْ يُظْهِرِ الْإِسْلَامَ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَظَاهِرٌ فِي آخِرِهِ.

ثم ذَكَرَ حَدِيثَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ قُبَيْلَ الْإِسْرَاءِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِإِيرَادِهِ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا سَمِعَهُ وَأَقَرَّهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ تَكْنِيَةُ الْكَافِرِ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ ذَكَرَهُمَا: وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ أَبِي طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}

ثم ذكر الحديث الثاني وقَوْلُهُ فِيهِ: (أَبُو حُبَابٍ)، قَالَ: وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا وُجِدَ فِيهِ الشَّرْطُ، وَهُوَ أَنْ لَا يُعْرَفَ إِلَّا بِكُنْيَتِهِ أَوْ خِيفَ مِنْ ذِكْرِ اسْمِهِ فِتْنَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ فَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ وَلَمْ يُكَنِّهِ وَلَا لَقَّبَهُ بِلَقَبِهِ وَهُوَ قَيْصَرُ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ فَلَا نُكَنِّيهِمْ وَلَا نُلِينُ لَهُمْ قَوْلًا، وَلَا نُظْهِرُ لَهُمْ وُدًّا، وَقَدْ تَعَقَّبَ كَلَامَهُ بِأَنَّهُ لَا حَصْرَ فِيمَا ذَكَرَ بَلْ قِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِي ذِكْرِهِ بِكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ وَهُوَ بِاسْمِهِ أَشْهَرُ لَيْسَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّ الَّذِي ذُكِرَ بِذَلِكَ عِنْدَهُ كَانَ قَوِيًّا فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُخْش ى مَعَهُ أَنْ لَوْ ذُكِرَ عَبْدُ اللَّهِ بِاسْمِهِ أَنْ يَجُرَّ بِذَلِكَ فِتْنَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّأَلُّفِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: فِيهِ جَوَازُ تَكْنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى وَجْهِ التَّأَلُّفِ إِمَّا رَجَاءَ إِسْلَامِهِمْ أَوْ لِتَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ مِنْهُمْ، وَأَمَّا تَكْنِيَةُ أَبِي طَالِبٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ اشْتِهَارُهُ بِكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ، وَأَمَّا تَكْنِيَةُ أَبِي لَهَبٍ فَقَدْ أَشَارَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ إِلَى احْتِمَالٍ رَابِعٍ وَهُوَ اجْتِنَابُ نِسْبَتِهِ إِلَى عُبُودِيَّةِ الصَّنَمِ لِأَنَّهُ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى، وَهَذَا سَبَقَ إِلَيْهِ ثَعْلَبٌ وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا ذُكِرَ بِكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} قِيلَ: وَإِنَّ تَكْنِيَتَهُ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ التَّجْنِيسِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْبَلَاغَةِ أَوِ الْمُجَازَاةِ، أُشِيرَ إِلَى أَنَّ الَّذِي نَفْخَرُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْجَمَالِ

وَالْوَلَدِ كَانَ سَبَبًا فِي خِزْيهِ وَعِقَابِهِ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَمَنِينَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ اسْمُ أَبِي لَهَبٍ عَبْدَ الْعُزَّى وَكُنْيَتُهُ أَبُو

ص: 592

عُتْبَةَ، وَأَمَّا أَبُو لَهَبٍ فَلَقَبٌ لُقِّبَ بِهِ لِأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ يَتَلَأْلَأُ وَيَلْتَهِبُ جَمَالًا، قَالَ: فَهُوَ لَقَبٌ وَلَيْسَ بِكُنْيَةٍ.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ يُقَوِّي الْإِشْكَالَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ اللَّقَبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ لِلْكَافِرِ لَمْ يَصْلُحْ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: هَذِهِ التَّكْنِيَةُ لَيْسَتْ لِلْإِكْرَامِ بَلْ لِلْإِهَانَةِ إِذْ هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَهَنَّمِيِّ إِذْ مَعْنَاهُ تَبَّتْ يَدَا الْجَهَنَّمِيِّ، فَهُوَ مُتَعَقَّبٌ لِأَنَّ الْكُنْيَةَ لَا نَظَرَ فِيهَا إِلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ، بَلِ الِاسْمُ إِذَا صُدِّرَ بِأُمٍّ أَوْ أَبٍ فَهُوَ كُنْيَةٌ، سَلَّمْنَا لَكِنَّ اللَّهَبَ لَا يَخْتَصُّ بِجَهَنَّمَ وَإِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي ذِكْرِهِ بِكُنْيَتِهِ أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَآلَهُ إِلَى النَّارِ ذَاتِ اللَّهَبِ وَوَافَقَتْ كُنْيَتُهُ حَالَهُ حَسُنَ أَنْ يُذْكَرَ بِهَا، وَأَمَّا مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ النَّوَوِيُّ مِنَ الْكِتَابِ إِلَى هِرَقْلَ فَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِ الْكِتَابِ ذِكْرُهُ بِعَظِيمِ الرُّومِ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِالتَّعْظِيمِ، وَاللَّقَبُ لِغَيْرِ الْعَرَبِ كَالْكُنَى لِلْعَرَبِ، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَرْعٌ: إِذَا كَتَبَ إِلَى مُشْرِكٍ كِتَابًا وَكَتَبَ فِيهِ سَلَامًا أَوْ نَحْوَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ كَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ إِلَى هِرَقْلَ، فَذَكَرَ الْكِتَابَ، وَفِيهِ: عَظِيمُ الرُّومِ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ التَّنَاقُضُ، وَقَدْ جَمَعَ أَبِي رحمه الله فِي نُكَتٍ لَهُ عَلَى الْأَذْكَارِ بِأَنَّ قَوْلَهُ عَظِيمُ الرُّومِ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِهِرَقْلَ فَإِنَّهُ عَظِيمُهُمْ فَاكْتَفَى بِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ مَلِكُ الرُّومِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَتَبَهَا لَأَمْكَنَ هِرَقْلَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَا فِي أَنَّهُ أَقَرَّهُ عَلَى الْمَمْلَكَةِ.

قَالَ: وَلَا يَرِدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ صَاحِبِ مِصْرَ: وَقَالَ الْمَلِكُ؛ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ أَمْرٍ مَضَى وَانْقَضَى بِخِلَافِ هِرَقْلَ، انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ أَنَّ ذِكْرَ عَظِيمِ الرُّومِ وَالْعُدُولَ عَنْ مَلِكِ الرُّومِ حَيْثُ كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صِفَةٍ تُمَيِّزُهُ عِنْدَ الِاقْتِصَارِ عَلَى اسْمِهِ ; لِأَنَّ مَنْ يَتَسَمَّى بِهِرَقْلَ كَثِيرٌ، فَقِيلَ عَظِيمُ الرُّومِ لِيُمَيَّزَ عَمَّنْ يَتَسَمَّى بِهِرَقْلَ، فَعَلَى هَذَا فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْكِتَابَةِ لِكُلِّ مَلِكٍ مُشْرِكٍ بِلَفْظِ عَظِيمِ قَوْمِهِ إِلَّا إِنِ احْتِيجَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ لِلتَّمْيِيزِ. وَعَلَى عُمُومِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّأَلُّفِ أَوْ مِنْ خَشْيَةِ الْفِتْنَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ بِلَا تَقْيِيدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِذَا ذُكِرَ قَيْصَرُ وَأَنَّهُ لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ الرُّومَ فَقَدْ شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُلُوكِ كَكِسْرَى لِمَلِكِ الْفُرْسِ، وَخَاقَانَ لِمَلِكِ التُّرْكِ، وَالنَّجَاشِيِّ لِمَلِكِ الْحَبَشَةِ، وَتُبَّعٍ لِمَلِكِ الْيَمَنِ، وَبَطْلَيُوسَ لِمَلِكِ الْيُونَانِ، وَالْقَطَنُونِ لِمَلِكِ الْيَهُودِ وَهَذَا فِي الْقَدِيمِ ثُمَّ صَارَ يُقَالُ لَهُ: رَأْسُ الْجَالُوتِ، وَنُمْرُودُ لِمَلِكِ الصَّابِئَةِ، وَدَهْمِي لِمَلِكِ الْهِنْدِ، وَقُورُ لِمَلِكِ السِّنْدِ، وَيَعْبُورُ لِمَلِكِ الصِّينِ، وَذُو يَزِنَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَذْوَاءِ لِمَلِكِ حِمْيَرَ، وَهَيَاجُ لِمَلِكِ الزَّنْجِ، وَزِنْبِيلُ لِمَلِكِ الْخَزَرِ، وَشَاهْ أَرْمَنَ لِمَلِكِ أَخْلَاطَ، وَكَابِلَ لِمَلِكِ النُّوبَةِ، وَالْأَفْشِينُ لِمَلِكِ فَرْغَانَةَ وَأُسْرُوسَنَةَ، وَفِرْعَوْنُ لِمَلِكِ مِصْرَ، وَالْعَزِيزُ لِمَنْ ضَمَّ إِلَيْهَا الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَجَالُوتُ لِمَلِكِ الْعَمَالِقَةِ ثُمَّ الْبَرْبَرِ، وَالنُّعْمَانُ لِمَلِكِ الْغَرْبِ مِنْ قِبَلِ الْفُرْسِ، نُقِلَ أَكْثَرُ هَذَا الْفَصْلِ مِنَ السِّيرَةِ لِمُغَلْطَايَ وَفِي بَعْضِهِ نَظَرٌ.

‌116 - بَاب الْمَعَارِيضُ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ،

وَقَالَ إِسْحَاقُ: سَمِعْتُ أَنَسًا: مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ، فَقَالَ: كَيْفَ الْغُلَامُ؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هَدَأَت نَفَسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ. وَظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ

6209 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَحَدَا الْحَادِي، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارْفُقْ يَا أَنْجَشَةُ - وَيْحَكَ - بِالْقَوَارِيرِ.

6210 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ.، وَأَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ، وَكَانَ غُلَامٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: رُوَيْدَكَ

ص: 593

يَا أَنْجَشَةُ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: يَعْنِي النِّسَاءَ.

6211 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حدثنا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَادٍ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ، لَا تَكْسِرْ الْقَوَارِيرَ. قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ.

6212 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (الْمَعَارِيضُ) وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ التِّينِ الْمَعَارِضُ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَصَوَابُهُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، قَالَ: وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ مِنَ التَّعْرِيضِ خِلَافِ التَّصْرِيحِ.

قَوْلُهُ: (مَنْدُوحَةٌ) بِوَزْنِ مَفْعُولَةٍ بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ؛ أَيْ فُسْحَةٌ وَمُتَّسَعٌ، نَدَحْتُ الشَّيْءَ وَسَّعْتُهُ، وَانْتَدَحَ فُلَانٌ بِكَذَا اتَّسَعَ، وَانْتَدَحَتِ الْغَنَمُ فِي مَرَابِضِهَا إِذَا اتَّسَعَتْ مِنَ الْبِطْنَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي الْمَعَارِيضَ من الاتساع مَا يُغْنِي عَنِ الْكَذِبِ. وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَحِبْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ فَمَا أَتَى عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلَّا أَنْشَدَنَا فِيهِ شِعْرًا وَقَالَ: إِنَّ فِي مَعَارِيضِ الْكَلَامِ مَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي التَّهْذِيبِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ مَرْفُوعًا وَوَهَّاهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ كَامِلٍ فِي فَوَائِدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِهِ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِسَنَدٍ وَاهٍ أَيْضًا، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: أَمَا فِي الْمَعَارِيضِ مَا يَكْفِي الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَذِبِ؟ وَالْمَعَارِيضُ وَالْمَعَارِضُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ أَوْ بِحَذْفِهَا كَمَا تَقَدَّمَ جَمْعُ مِعْرَاضٍ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالْقَوْلِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ خِلَافُ التَّصْرِيحِ، وَهُوَ التَّوْرِيَةُ بِالشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: التَّعْرِيضُ كَلَامٌ لَهُ وَجْهَانِ فِي صِدْقٍ وَكَذِبٍ، أَوْ بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ. قُلْتُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كَلَامٌ لَهُ وَجْهَانِ يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا وَالْمُرَادُ لَازِمُهُ.

وَمِمَّا يَكْثُرُ السُّؤَالُ عَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَالْكِنَايَةِ، وَلِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ جُزْءٌ جَمَعَهُ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ التَّابِعِيُّ الْمَشْهُورُ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَنَائِزِ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُ أُمِّ سُلَيْمٍ: هَدَأَ نَفَسُهُ ; وَأَرْجُو أَنْ قَدِ اسْتَرَاحَ، فَإِنَّ أَبَا طَلْحَةَ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمَرِيضَ تَعَافَى ; لِأَنَّ قَوْلَهَا: هَدَأَ مَهْمُوزٌ بِوَزْنِ سَكَنَ وَمَعْنَاهُ، وَالنَّفَسُ بِفَتْحِ الْفَاءِ مُشْعِرٌ بِالنَّوْمِ، وَالْعَلِيلُ إِذَا نَامَ أَشْعَرَ بِزَوَالِ مَرَضِهِ أَوْ خِفَّتِهِ، وَأَرَادَتْ هِيَ أَنَّهُ انْقَطَعَ بِالْكُلِّيَّةِ بِالْمَوْتِ، وَذَلِكَ قَوْلُهَا: وَأَرْجُو أَنَّهُ اسْتَرَاحَ، فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ اسْتَرَاحَ مِنَ الْمَرَضِ بِالْعَافِيَةِ، وَمُرَادُهَا أَنَّهُ اسْتَرَاحَ مِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا وَأَلَمِ الْمَرَضِ، فَهِيَ صَادِقَةٌ بِاعْتِبَارِ مُرَادِهَا، وَخَبَرُهَا بِذَلِكَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْأَمْرِ الَّذِي فَهِمَهُ أَبُو طَلْحَةَ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ الرَّاوِي: ظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ؛ أَيْ بِاعْتِبَارِ مَا فَهِمَ هُوَ.

ثم ذكر حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أَنْجَشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنَ الشِّعْرِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ: رِفْقًا بِالْقَوَارِيرِ، فَإِنَّهُ كَنَّى بِذَلِكَ عَنِ النِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ هُنَاكَ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي فَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ: إِنَّا وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا؛ أَيْ لِسُرْعَةِ جَرْيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَكَأَنَّهُ اسْتَشْهَدَ بِحَدِيثَيْ

ص: 594

أَنَسٍ لِجَوَازِ التَّعْرِيضِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لِمَعْنًى جَامِعٍ بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: حَدِيثُ الْقَوَارِيرِ وَالْفَرَسِ لَيْسَا مِنَ الْمَعَارِيضِ بَلْ مِنَ الْمَجَازِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ جَائِزًا قَالَ: فَالْمَعَارِيضُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: شَبَّهَ جَرْيَ الْفَرَسِ بِالْبَحْرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ، يَعْنِي ثُمَّ أَطْلَقَ صِفَةَ الْجَرْيِ عَلَى نَفْسِ الْفَرَسِ مَجَازًا، قَالَ: وَهَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ، وَمَحَلُّ الْجَوَازِ فِيمَا يُخَلِّصُ مِنَ الظُّلْمِ أَوْ يُحَصِّلُ الْحَقَّ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهَا فِي عَكْسِ ذَلِكَ مِنْ إِبْطَالِ الْحَقِّ أَوْ تَحْصِيلِ الْبَاطِلِ فَلَا يَجُوزُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَاهِلَةَ عَيُونًا - أَيْ كَثِيرَ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ - فَرَأَى بَغْلَةً لِشُرَيْحٍ فَأُعْجِبَ بِهَا، فَخَشِيَ شُرَيْحٌ عَلَيْهَا فَقَالَ: إِنَّهَا إِذَا رَبَضَتْ لَا تَقُومُ حَتَّى تُقَامَ، فَقَالَ: أُفٌّ أُفٌّ، فَسَلِمَتْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ شُرَيْحٌ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تُقَامَ؛ أَيْ حَتَّى يُقِيمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.

‌117 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلشَّيْءِ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ يَنْوِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم للْقَبْرَيْنِ: يُعَذَّبَانِ بِلَا كَبِيرٍ، وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ

6213 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنا يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسُوا بِشَيْءٍ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلشَّيْءِ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ يَنْوِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ.

الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْقَبْرَيْنِ: يُعَذَّبَانِ بِلَا كَبِيرٍ، وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ) وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي بَابِ النَّمِيمَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ بِلَفْظِ: وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ.

الثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْكُهَّانِ لَيْسُوا بِشَيْءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الطِّبِّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَيْسُوا بِشَيْءٍ فِيمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ؛ أَيْ لَيْسَ قَوْلُهُمْ بِشَيْءٍ صَحِيحٍ يُعْتَمَدُ كَمَا يُعْتَمَدُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يُخْبِرُ عَنِ الْوَحْي، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ مُتْقَنٍ أَوْ قَالَ قَوْلًا غَيْرَ سَدِيدٍ: مَا عَمِلْتُ أَوْ مَا قُلْتُ شَيْئًا. وقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ: إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّفْيِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذِبًا. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} ؛ وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْقَدْرُ وَالشَّرَفُ، أَيْ كَانَ مَوْجُودًا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرٌ يُذْكَرُ بِهِ، أمَّا وَهُوَ مُصَوَّرٌ مِنْ طِينٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِهِ آدَمُ أَوْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ أنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ.

‌118 - بَاب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ،

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} قَالَ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ: رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ

6214 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ

ص: 595

عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ثُمَّ فَتَرَ عَنِّي الْوَحْيُ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

6215 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي شَرِيكٌ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ أَوْ بَعْضُهُ قَعَدَ ينَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَرَأَ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}

قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَزَادَ الْأَصِيلِيُّ وَغَيْرُهُ:{وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ التَّرْجَمَةِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى مَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ الرَّدُّ عَلَى مَنْ كَرِهَ أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَعَنْ عَطَاءٍ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ تَخَشُّعًا. نَعَمْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ؟ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ. وَلِمُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ نَحْوُهُ، وَلِابْنِ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ، وَقَالَ: أنْ تَلْتَمِعْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

وَحَاصِلُ طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي تَخْصِيصِ الْإِبِلِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الدَّوَابِّ بِأَشْيَاءَ امْتَازَتْ بِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ اسْمَ السَّحَابِ، فَإِنْ ثَبَتَ فَمُنَاسَبَتُهَا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ظَاهِرَةٌ، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ مِنَ الْأُفُقِ الْعُلْوِيِّ وَشَيْئَيْنِ مِنَ الْأُفُقِ السُّفْلِيِّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَعْتَبِرُ بِهِ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْحَقِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَيُّوبُ) هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ: رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ)، وَقَعَ هَذَا التَّعْلِيقُ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَطْ وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوَّلُهُ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي وَيَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: الرَّفِيقَ الْأَعْلَى أَخْرَجَهُ هَكَذَا أَحْمَدُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ بِتَمَامِهِ، لَكِنْ فِيهِ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.

ثم ذكر حَدِيثُ جَابِرٍ فِي فَتْرَةِ الْوَحْيِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَرَفَعْتُ بَصَرِي إِلَى السَّمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.

وحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِتُّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ مَشْرُوحًا فِي بَابِ التَّهَجُّدِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا مَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ يَتَحَدَّثُ يُكْثِرُ أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. فَحَاصِلُ طَرِيقِ الْجَمْعِ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌119 - بَاب من نَكْتِ الْعُودِ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ

ص: 596

6216 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عُودٌ يَضْرِبُ بِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَفْتِحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: افْتَتحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. فَذَهَبْتُ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ. ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. فَإِذَا عُمَرُ، فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ. ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - فَقَالَ: افْتَحْ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ - أَوْ تَكُونُ. فَذَهَبْتُ فَإِذَا عُثْمَانُ، فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ، قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ من نَكْتِ الْعُودِ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ) النَّكْتُ بِالنُّونِ وَالْمُثَنَّاةِ: الضَّرْبُ الْمُؤَثِّرُ.

ذكر فيه حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِي قِصَّةِ الْقُفِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَنَاقِبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا بِلَفْظِ عُودٍ يَضْرِبُ بِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ: يَنْكُتُ فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ خَفِيفَةٍ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ وَهُوَ غَلَطٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِمْسَاكُ الْعَصَا وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ عَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَنْ يَتَعَصَّبُ لِلْعَجَمِ، وَفِي اسْتِعْمَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُودِ هُنَا الْمِخْصَرَةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَلَيْسَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَفِقْهُ التَّرْجَمَةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مِنَ الْعَبَثِ الْمَذْمُومِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ مِنَ الْعَاقِلِ عِنْدَ التَّفَكُّرِ فِي الشَّيْءِ ثُمَّ لَا يَسْتَعْمِلُهُ فِيمَا لَا يَضُرُّ تَأْثِيرُهُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَنْ يَتَفَكَّرُ وَفِي يَدِهِ سِكِّينٌ فَيَسْتَعْمِلُهَا فِي خَشَبَةٍ تَكُونُ فِي الْبِنَاءِ الَّذِي فِيهَا

(1)

فَسَادًا، فَذَاكَ هُوَ الْعَبَثُ الْمَذْمُومُ.

‌120 - بَاب الرَّجُلِ يَنْكُتُ الشَّيْءَ بِيَدِهِ فِي الْأَرْضِ

6217 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، وَمَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ الْأَرْضَ بِعُودٍ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ فُرِغَ مِنْ مَقْعَدِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. فَقَالُوا: أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّجُلِ يَنْكُتُ الشَّيْءَ بِيَدِهِ فِي الْأَرْضِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَمَضَى الْحَدِيثُ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ واللَّيْلِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ بِعُودٍ.

وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ: شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ؛ هُوَ الْأَعْمَشُ، وَمَنْصُورٌ هُوَ

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: انظر ما مرجع الضمير وتأمل، ولذا وجد بياض في بعض النسخ بين قوله فيها وقوله بعده فسادا.

ص: 597

ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ: عَنِ الْأَعْمَشِ، وَذَهِلَ الْكِرْمَانِيُّ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ سُلَيْمَانَ هُوَ التَّيْمِيُّ.

‌121 - بَاب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ

6218 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجَرِ - يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ - حَتَّى يُصَلِّينَ؟ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي ثَوْرٍ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ.

6219 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً مِنْ الْعِشَاءِ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ مَعَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ الَّذِي عِنْدَ مَسْكَنِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِمَا رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَفَذَا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ. قَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا مَا قَالَ، قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ مَعْنَاهُ تَعْظِيمُ اللَّهِ وَتَنْزِيهُهُ مِنَ السُّوءِ، وَاسْتِعْمَالُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَاسْتِعْظَامِ الْأَمْرِ حَسَنٌ، وَفِيهِ تَمْرِينُ اللِّسَانِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا تَوْجِيهٌ جَيِّدٌ، كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ رَمَزَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ.

وذكر المصنف فيه حَدِيثُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فِي قِصَّةِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ. فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَقَوْلُهُ: الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ، الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْبَوَاقِي، وَقَدْ تُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَوَاضِي وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُمَا بِقَوْلِهِمَا سُبْحَانَ اللَّهِ التَّعَجُّبُ مِنَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا؛ أَيْ عَظُمَ وَشَقَّ. وَقَوْلُهُ: يَقْذِفُ فِي قُلُوبِكُمَا كَذَا هُنَا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الِاعْتِكَافِ بِلَفْظِ: فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا. وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ شَرْحِهِ فِي الْعِلْمِ. وَتَأْتِي بَقِيَّتُهُ فِي الْفِتَنِ، وَقَوْلُهُ مِنَ الْخَزَائِنِ قِيلَ: عَبَّرَ بِهَا عَنِ الرَّحْمَةِ، كَقَوْلِهِ: خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّي، كَمَا عَبَّرَ بِالْفِتَنِ عَنِ الْعَذَابِ لِأَنَّهَا أَسْبَابٌ مُؤَدِّيَةٌ إِلَيْهِ، أو الْمُرَادَ بِالْخَزَائِنِ إِعْلَامُهُ بِمَا سَيُفْتَحُ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ بِالْغَنَائِمِ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي يَفْتَحُونَهَا

ص: 598

وَإنَّ الْفِتَنَ تَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا وَقَعَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي ثَوْرٍ) هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ حَيْثُ قَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ فِي قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَقِيَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جُنُبٌ، وَفِيهِ: فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجَسُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ، وَفِيهِ: قَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا. قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَذَرَتْ أَنْ تَنْحَرَ نَاقَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! بِئْسَمَا جَزَيْتِهَا، وَكِلَاهُمَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ مُؤَخَّرًا آخِرَ هَذَا الْبَابِ وَالْخَطْبُ فِيهِ سَهْلٌ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ إِيرَادُ حَدِيثِ صَفِيَّةَ الْمَذْكُورِ عَقِبَ حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مُتَّصِلًا بِهِ، ثُمَّ اسْتَشْكَلَ مُطَابَقَتَهُ لِلتَّرْجَمَةِ وَقَالَ: سَأَلْتُ الْمُهَلَّبَ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّمَا أَوْرَدَهُ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ فُرِغَ مِنْ مَقْعَدِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَوَّاهُ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، أَشَارَ إِلَى أَنَّ أَقْوَى أَسْبَابِ النَّارِ الْفِتَنُ وَالْعَصَبِيَّةُ فِيهَا وَالتَّقَاتُلُ عَلَى الْمَالِ وَمَا يُفْتَحُ مِنَ الْخَزَائِنِ اهـ. وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ عَلَى وَفْقِ مَا نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي بَابِ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ لِلتَّعَجُّبِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّكَلُّفِ، وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ لَا يُفِيدُ مُطَابَقَةَ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ التَّرْجَمَةِ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجَمَةِ.

‌122 - بَاب النَّهْيِ عَنْ الْخَذْفِ

6220 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ صُهْبَانَ الْأَزْدِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَذْفِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ وَلَا يَنْكَأُ الْعَدُوَّ، وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْخَذْفِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الذالِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ، تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وشرح الحديث فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ.

‌123 - بَاب الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ

6221 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: عَطَسَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: هَذَا حَمِدَ اللَّهَ، وَهَذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ.

[الحديث 6221 - طرفه في: 6225]

ص: 599

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ)؛ أَيْ مَشْرُوعِيَّتُهُ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ الصَّرِيحِ بِهِ، وَلَكِنْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَأَمَّا لَفْظُهُ فَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الْحَمْدِ لِلَّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي بَعْدَ بَابَيْنِ، وَعَنْ طَائِفَةٍ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. قَالَ: وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ فِيهِ: هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَفَعَهُ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: يَقُولُ الْعَاطِسُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلِابْنِ السُّنِّيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ مِثْلُهُ، وَلِأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ رَفَعَهُ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَنْ طَائِفَةٍ: يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قُلْتُ: وَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَوَرَدَ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، فَعِنْدَهُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَنْ قَالَ عِنْدَ عَطْسَةٍ سَمِعَهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا كَانَ، لَمْ يَجِدْ وَجَعَ الضِّرْسِ وَلَا الْأُذُنِ أَبَدًا وَهَذَا مَوْقُوفٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: مَنْ بَادَرَ الْعَاطِسَ بِالْحَمْدِ عُوفِيَ مِنْ وَجَعِ الْخَاصِرَةِ وَلَمْ يَشْتَكِ ضِرْسَهُ أَبَدًا وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَلِلْمُصَنِّفِ أَيْضًا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا عَطَسَ الرَّجُلُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ الْمَلَكُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَإِنْ قَالَ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ الْمَلَكُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. وَعَنْ طَائِفَةٍ مَا زَادَ مِنَ الثَّنَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَمْدِ كَانَ حَسَنًا، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ فِي التَّهْذِيبِ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: عَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَقَالَ له النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. وَعَطَسَ آخَرُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ. فَقَالَ: ارْتَفَعَ هَذَا عَلَى هَذَا تِسْعَ عَشْرَةَ دَرَجَةً.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَطَسْتُ، فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ ثَلَاثًا. فَقُلْتُ: أَنَا. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدِ ابْتَدَرَهَا بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مَلَكًا أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَذْكُورَةَ الْمَغْرِبُ، وَسَنَدُهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَأَصْلُهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْعُطَاسِ، وَإِنَّمَا فِيهِ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ إِلَخْ بِنَحْوِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ بِشَرْحِهِ. وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: جَاءَ رَجُلٌ فَدَخَلَ فِي الصَّفِّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ السُّنِّيِّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ نَحْوَهُ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَطَسَ، فَخَلَّى يَدَيَّ ثُمَّ قَامَ فَقَالَ شَيْئًا لَمْ أَفْهَمْهُ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِذَا أَنْتَ عَطَسْتَ فَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لِكَرَمِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ لِعِزِّ جَلَالِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: صَدَقَ عَبْدِي ثَلَاثًا مَغْفُورًا لَهُ. وَأَمَّا الثَّنَاءُ الْخَارِجُ عَنِ الْحَمْدِ فَوَرَدَ فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الْيَشْكُرِيِّ قَالَ: عَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ تَمَّمْتَهَا وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَيُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: عَطَسَ رَجُلٌ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى

ص: 600

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ الرَّبِيعِ. قُلْتُ: وَهُوَ صَدُوقٌ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا. وَرَجَّحَ الْبَيْهَقِيُّ مَا تَقَدَّمَ عَلَى رِوَايَةِ زِيَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَا أَصْلَ لِمَا اعْتَادَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ اسْتِكْمَالِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَذَا الْعُدُولُ مِنَ الْحَمْدِ إِلَى أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَمْدِ فَمَكْرُوهٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ ابْنَهُ عَطَسَ فَقَالَ: أَبٌ، فَقَالَ: وَمَا أَبٌ؟ إِنَّ الشَّيْطَانَ جَعَلَهَا بَيْنَ الْعَطْسَةِ وَالْحَمْدِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ أَشْ بَدَلَ أَبٍ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ الْعَاطِسَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ يَزِيدَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَوْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالَّذِي يَتَحَرَّرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ، لَكِنْ مَا كَانَ أَكْثَرَ ثَنَاءً أَفْضَلُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَأْثُورًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْعَاطِسِ أَنْ يَقُولَ عَقِبَ عُطَاسِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَوْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَكَانَ أَحْسَنَ، فَلَوْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَانَ أَفْضَلَ، كَذَا قَالَ، وَالْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ ثُمَّ الْأَوْلَوِيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ التَّيْمِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: سَمِعْتُ أَنَسًا.

قَوْلُهُ: (عَطَسَ) بِفَتْحِ الطَّاءِ فِي الْمَاضِي، وَبِكَسْرِهَا وَضَمِّهَا فِي الْمُضَارِعِ.

قَوْلُهُ: (رَجُلَانِ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ: أَحَدُهُمَا أَشْرَفُ مِنَ الْآخَرِ، وَإنَّ الشَّرِيفَ لَمْ يَحْمَدْ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُمَا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَابْنُ أَخِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَشَمَّتَ) بِالْمُعْجَمَةِ، وَلِلسَّرَخْسِيِّ بِالْمُهْمَلَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: فَشَمَّتَ أَوْ سَمَّتَ؛ بِالشَّكِّ فِي الْمُعْجَمَةِ أَوِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ مِنَ التَّشْمِيتِ، قَالَ الْخَلِيلُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا: يُقَالُ بِالْمُعْجَمَةِ وَبِالْمُهْمَلَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: كُلُّ دَاعٍ بِالْخَيْرِ مُشَمِّتٌ بِالْمُعْجَمَةِ وَبِالْمُهْمَلَةِ، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الشِّينَ وَالسِّينَ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ بِمَعْنًى اهـ. وَهَذَا لَيْسَ مُطَّرِدًا بَلْ هُوَ فِي مَوَاضِعَ مَعْدُودَةٍ، وَقَدْ جَمَعَهَا شَيْخُنَا شَمْسُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فِي جُزْءٍ لَطِيفٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّشْمِيتُ بِالْمُعْجَمَةِ أَعْلَى وَأَكْثَرُ. وَقَالَ عِيَاضٌ: هُوَ كَذَلِكَ لِلْأَكْثَرِ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَفِي الرِّوَايَةِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الِاخْتِيَارُ أنه بِالْمُهْمَلَةِ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّمْتِ وَهُوَ الْقَصْدُ وَالطَّرِيقُ الْقَوِيمُ. وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ إِلَى تَرْجِيحِهِ، وَقَالَ الْقَزَّازُ: التَّشْمِيتُ التَّبْرِيكُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ شَمَّتَهُ إِذَا دَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَشَمَّتَ عَلَيْهِ إِذَا بَرَّكَ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ تَزْوِيجِ عَلِيٍّ بِفَاطِمَةَ: شَمَّتَ عَلَيْهِمَا؛ إِذَا دَعَا لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ.

وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: التَّسْمِيتُ بِالْمُهْمَلَةِ أَفْصَحُ، وَهُوَ مِنْ سَمَتِ الْإِبِلُ فِي الْمَرْعَى إِذَا جُمِعَتْ، فَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا: جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَكَ. وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ سَمْتَ الْإِبِلِ إِنَّمَا هُوَ بِالْمُعْجَمَةِ، وَكَذَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ بِالْمُعْجَمَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى سَمَّتَهُ دَعَا لَهُ بِأَنْ يَجْمَعَ شَمْلَهُ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْمُعْجَمَةِ مِنَ الشَّمَاتَةِ وَهُوَ فَرَحُ الشَّخْصِ بِمَا يَسُوءُ عَدُوَّهُ فَكَأَنَّهُ دَعَا لَهُ أَنْ لا يَكُونَ فِي حَالٍ مَنْ يَشْمَتُ بِهِ، أَوْ أَنَّهُ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ أَدْخَلَ عَلَى الشَّيْطَانِ مَا يَسُوؤُهُ فَشَمِتَ هُوَ بِالشَّيْطَانِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الشَّوَامِتِ جَمْعُ شَامِتَةٍ وَهِيَ الْقَائِمَةُ، يُقَالُ: لَا تَرَكَ اللَّهُ لَهُ شَامِتَةً؛ أَيْ قَائِمَةً. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: تَكَلَّمَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى اشْتِقَاقِ اللَّفْظَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنُوا الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ بَدِيعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَاطِسَ يَنْحَلُّ كُلُّ عُضْو فِي رَأْسِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْعُنُقِ وَنَحْوِهِ، فَكَأَنَّهُ إِذَا قِيلَ رَحِمَكَ اللَّهُ كَانَ مَعْنَاهُ أَعْطَاهُ اللَّهُ رَحْمَةً يَرْجِعُ بِهَا بِذَلِكَ العضو إِلَى حَالِهِ قَبْلَ الْعُطَاسِ وَيُقِيمُ عَلَى حَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، فَإِنْ كَانَ التَّسْمِيتُ بِالْمُهْمَلَةِ فَمَعْنَاهُ رَجَعَ كُلُّ

ص: 601

عُضْوٍ إِلَى سَمْتِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهُ صَانَ اللَّهُ شَوَامِتَهُ أَيْ قَوَائِمُهُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ بَدَنِهِ عَنْ خُرُوجِهَا عَنِ الِاعْتِدَالِ.

قَالَ: وَشَوَامِتُ كُلِّ شَيْءٍ قَوَائِمُهُ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ ; فَقِوَامُ الدَّابَّةِ بِسَلَامَةِ قَوَائِمِهَا الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا إِذَا سَلِمَتْ، وَقِوَامُ الْآدَمِيِّ بِسَلَامَةِ قَوَائِمِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ وَهِيَ رَأْسُهُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ عُنُقٍ وَصَدْرٍ اهـ مُلَخَّصًا.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لَهُ) السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ الْعَاطِسُ الَّذِي لَمْ يَحْمَدْ، وَقَعَ كَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِلَفْظِ: فَسَأَلَهُ الشَّرِيفُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابَيْنِ بِلَفْظِ: فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَمَّتَّ هَذَا وَلَمْ تُشَمِّتْنِي وَهَذَا قَدْ يُعَكِّرُ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ الشَّرِيفَ الْمَذْكُورَ هُوَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فَإِنَّهُ كَانَ كَافِرًا وَمَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يُخَاطِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهَا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَا يُخَاطِبُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ لِعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الْمَذْكُورِ، فَفِي الصَّحَابَةِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ الْأَسْلَمِيُّ لَهُ ذِكْرٌ فِي الصَّحَابَةِ وَحَدِيثٌ رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيُّ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَفِي الصَّحَابَةِ أَيْضًا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ الْأَزْدِيُّ ذَكَرَهُ وَثِيمَةُ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ وَوَرَدَ لَهُ مَرْثِيَةٌ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَامِرٌ الْمَشْهُورُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ هَذَيْنِ، ثُمَّ رَاجَعْتُ مُعْجَمَ الطَّبَرَانِيِّ فَوَجَدْتُ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الدَّلَالَةَ الظَّاهِرَةَ عَلَى أَنَّهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ الْفَارِسُ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَلَامٌ، ثُمَّ عَطَسَ ابْنُ أَخِيهِ فَحَمِدَ فَشَمَّتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَطَسَ

عَامِرٌ فَلَمْ يَحْمَدْ فَلَمْ يُشَمِّتْهُ، فَسَأَلَهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قِصَّةُ غَزْوَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ وَكَانَ هُوَ السَّبَبُ فِيهَا، وَمَاتَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ بَعْدَ ذَلِكَ كَافِرًا فِي قِصَّةٍ لَهُ مَشْهُورَةٍ فِي مَوْتِهِ ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (هَذَا حَمِدَ اللَّهَ وَهَذَا لَمْ يَحْمَدْ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ هَذَا ذَكَرَ اللَّهَ فَذَكَرْتُهُ، وَأَنْتَ نَسِيتَ اللَّهَ فَنَسِيتُكَ، وَقَدْ تقَدَّمُ أَنَّ النِّسْيَانَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ التَّرْكُ. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ أَنَّ الْعُطَاسَ يَدْفَعُ الْأَذَى مِنَ الدِّمَاغِ الَّذِي فِيهِ قُوَّةُ الْفِكْرِ، وَمِنْهُ مَنْشَأُ الْأَعْصَابِ الَّتِي هِيَ مَعْدِنُ الْحِسِّ وَبِسَلَامَتِهِ تَسْلَمُ الْأَعْضَاءُ، فَيَظْهَرُ بِهَذَا أَنَّهَا نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ فَنَاسَبَ أَنْ تُقَابَلَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ وَإِضَافَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ لَا إِلَى الطَّبَائِعِ اهـ. وَهَذَا بَعْضُ مَا ادَّعَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ التَّشْمِيتَ إِنَّمَا يُشْرَعُ لِمَنْ حَمِدَ اللَّهَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَفِيهِ جَوَازُ السُّؤَالِ عَنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ وَبَيَانِهَا لِلسَّائِلِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ، وَفِيهِ أَنَّ الْعَاطِسَ إِذَا لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ لَا يُلَقَّنِ الْحَمْدَ لِيَحْمَدَ فَيُشَمَّتَ، كَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ ثَالِثِ بَابٍ.

وَمِنْ آدَابِ الْعَاطِسِ أَنْ يَخْفِضَ بِالْعَطْسِ صَوْتَهُ وَيَرْفَعَهُ بِالْحَمْدِ، وَأَنْ يُغَطِّي وَجْهَهُ لِئَلَّا يَبْدُوَ مِنْ فِيهِ أَوْ أَنْفِهِ مَا يُؤْذِي جَلِيسَهُ، وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْحِكْمَةُ فِي خَفْضِ الصَّوْتِ بِالْعُطَاسِ أَنَّ فِي رَفْعِهِ إِزْعَاجًا لِلْأَعْضَاءِ، وَفِي تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ أَنَّهُ لَوْ بَدَرَ مِنْهُ شَيْءٌ آذَى جَلِيسَهُ، وَلَوْ لَوَى عُنُقَهُ صِيَانَةً لِجَلِيسِهِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ الِالْتِوَاءِ، وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَطَسَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَخَفَضَ صَوْتَهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَمِنْ فَوَائِدِ التَّشْمِيتِ تَحْصِيلُ الْمَوَدَّةِ وَالتَّأْلِيفُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَأْدِيبُ الْعَاطِسِ بِكَسْرِ النَّفْسِ عَنِ الْكِبْرِ، وَالْحَمْلِ عَلَى التَّوَاضُعِ، لِمَا فِي ذِكْرِ الرَّحْمَةِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالذَّنْبِ الَّذِي لَا يَعْرَى عَنْهُ أَكْثَرُ الْمُكَلَّفِينَ.

ص: 602

‌124 - بَاب تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ، فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ

6222 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ؛ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ. وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ؛ عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ - أَوْ قَالَ: حَلْقَةِ الذَّهَبِ - وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالسُّنْدُسِ، وَالْمَيَاثِرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ)؛ أَيْ مَشْرُوعِيَّة التَّشْمِيتِ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَلَمْ يُعَيَّنِ الْحُكْمُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، فَذَكَرَ فِيهَا: وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ. وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَذَكَرَ مِنْهَا التَّشْمِيتَ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ مَنْ عِنْدَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَنَحْوُهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ، وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِهَا ابْنُ مُزَيْنٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا إِنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَقَوَّاهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَوَاشِي السُّنَنِ فَقَالَ: جَاءَ بِلَفْظِ الْوُجُوبِ الصَّرِيحِ، وَبِلَفْظِ الْحَقِّ الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَبِلَفْظِ عَلَى الظَّاهِرَةِ فِيهِ، وَبِصِيغَةِ الْأَمْرِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَبِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَثْبَتُوا وُجُوبَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ بِدُونِ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَرَجَّحَهُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَيُجْزِئُ الْوَاحِدُ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلِ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ لَا تُنَافِي كَوْنَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِنْ وَرَدَ فِي عُمُومِ الْمُكَلَّفِينَ فَفَرْضُ الْكِفَايَةِ يُخَاطَبُ بِهِ الْجَمِيعُ عَلَى الْأَصَحِّ وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ فَرْضٌ عَلَى مُبْهَمٍ فَإِنَّهُ يُنَافِي كَوْنَهُ فَرْضَ عَيْنٍ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَوَّلَهُ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلُ وَأَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ.

ثم ذكر المصنف حَدِيثُ الْبَرَاءِ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ؛ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مُعْظَمِهِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ التَّفْصِيلُ الَّذِي فِي التَّرْجَمَةِ، وَإِنَّمَا ظَاهِرُهُ أَنَّ كُلَّ عَاطِسٍ يُشَمَّتُ عَلَى التَّعْمِيمِ، قَالَ: وَإِنَّمَا التَّفْصِيلُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي، قَالَ: وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلَفْظِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَيَذْكُرَ بَعْدَهُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الْبَرَاءِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومَ لَكِنِ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ بِبَعْضِ الْعَاطِسِينَ وَهُمُ الْحَامِدُونَ، قَالَ: وَهَذَا مِنَ الْأَبْوَابِ الَّتِي أَعْجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ عَنْ تَهْذِيبِهَا، كَذَا قَالَ.

وَالْوَاقِعُ أَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ لَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَلْ قَدْ أَكْثَرَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ، فَطَالَمَا تَرْجَمَ بِالتَّقْيِيدِ

ص: 603

وَالتَّخْصِيصِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ إِطْلَاقٍ أَوْ تَعْمِيمٍ، وَيُكْتَفَى مِنْ دَلِيلِ التَّقْيِيدِ وَالتَّخْصِيصِ بِالْإِشَارَةِ إِمَّا لِمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ أَوْ فِي حَدِيثٍ آخِرَ كَمَا صَنَعَ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِهِ مِنْ تَقْيِيدِ الْأَمْرِ بِتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ بِمَا إِذَا حَمِدَ، وَهَذَا أَدَقُّ التَّصَرُّفَيْنِ، وَدَلَّ إِكْثَارُهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَنْ عَمْدٍ مِنْهُ لَا أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ تَهْذِيبِهِ، بَلْ عَدَّ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ مِنْ دَقِيقِ فَهْمِهِ وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِ فِي إِيثَارِ الْأَخْفَى عَلَى الْأَجْلَى شَحْذًا لِلذِّهْنِ وَبَعْثًا لِلطَّالِبِ عَلَى تَتَبُّعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ. وَقَدْ خُصَّ مِنْ عُمُومِ الْأَمْرِ بِتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ جَمَاعَةٌ: الْأَوَّلُ مَنْ لَمْ يَحْمَدْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ. الثَّانِي الْكَافِرُ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ: يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَكَانَ يَقُولُ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحْ بَالَكُمْ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِذَا نَظَرْنَا إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إِنَّ التَّشْمِيتَ الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ دَخَلَ الْكُفَّارُ فِي عُمُومِ الْأَمْرِ بِالتَّشْمِيتِ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَنْ خَصَّ التَّشْمِيتَ بِالرَّحْمَةِ لَمْ يَدْخُلُوا.

قَالَ: وَلَعَلَّ مَنْ خَصَّ التَّشْمِيتَ بِالدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ بَنَاهُ عَلَى الْغَالِبِ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِوَضْعِ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا الْبَحْثُ أَنْشَأَهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الشَّرْعِ فَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي مُطْلَقِ الْأَمْرِ بِالتَّشْمِيتِ، لَكِنْ لَهُمْ تَشْمِيتٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الدُّعَاءُ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَإِصْلَاحِ الْبَالِ وَهُوَ الشَّأْنُ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ تَشْمِيتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ بِخِلَافِ الْكُفَّارِ. الثَّالِثُ الْمَزْكُومُ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْعُطَاسُ فَزَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ بِالتَّشْمِيتِ يَشْمَلُ مَنْ عَطَسَ وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ، لَكِنْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يُشَمِّتُهُ وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ زُكَامٌ هَكَذَا أَخْرَجَهُ مَوْقُوفًا مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ كَذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: شَمِّتْ أَخَاكَ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، وَقَالَ فِيهِ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَفَعَهُ مُوسَى بْنُ قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ أَيْضًا. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ: إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ، ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ، ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَقُلْ: إِنَّكَ مَضْنُوكٌ قَالَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ: لَا أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ.

وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فَشَمِّتْهُ ثَلَاثًا، فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ زُكَامٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: شَمِّتُوهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ زَادَ فَهُوَ دَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ؛ مَوْقُوفٌ أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْدَهُ فَشَمَّتَهُ، ثُمَّ عَطَسَ فَقَالَ لَهُ فِي الرَّابِعَةِ: أَنْتَ مَضْنُوكٌ؛ مَوْقُوفٌ أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، لَكِنْ قَالَ: فِي الثَّالِثَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ: شَمِّتْهُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ زَادَ فَهُوَ رِيحٌ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ إِذَا تَتَابَعَ عَلَيْهِ الْعُطَاسُ ثَلَاثًا، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: إِذَا تَكَرَّرَ الْعُطَاسُ مُتَتَابِعًا فَالسُّنَّةُ أَنْ يُشَمِّتَهُ لِكُلِّ مَرَّةٍ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، رَوَيْنَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ مَزْكُومٌ هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ فَقَالَا: قَالَ سَلَمَةُ: عَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا شَاهِدٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، ثُمَّ عَطَسَ الثَّانِيَةَ أَوِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هَذَا رَجُلٌ مَزْكُومٌ اهـ كَلَامُهُ، وَنُقِلَتْه مِنْ نُسْخَةٍ عَلَيْهَا خَطُّهُ بِالسَّمَاعِ عَلَيْهِ، وَالَّذِي نَسَبَهُ إِلَى أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ إِعَادَةِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَاطِسِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ

ص: 604

لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِهَا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو عَوَانَةَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ مُسْلِمٌ وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَفَاوِتَةٌ،

وَلَيْسَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِعَادَةُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فِي الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ مَا نَسَبَهُ إِلَى أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّ عِنْدَهُمَا: ثُمَّ عَطَسَ الثَّانِيَةَ أَوِ الثَّالِثَةَ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ لَفْظَ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَجُلًا عَطَسَ وَالْبَاقِي مِثْلَ سِيَاقِ مُسْلِمٍ سَوَاءٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أُخْرَى، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ عَطَسَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ بَعْدَهُ مِثْلَ أَبِي دَاوُدَ سَوَاءٌ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ عِنْدَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ فَأَحَالَ بِهِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي الثَّانِيَةِ: أَنْتَ مَزْكُومٌ. وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ قَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ: قَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: أَنْتَ مَزْكُومٌ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ رَوَوْهُ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ فِيهَا تَعَرُّضٌ لِلثَّالِثَةِ، وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ رواية مَنْ قَالَ: فِي الثَّالِثَةِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ قَالَ: فِي الثَّانِيَةِ، وَقَدْ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ فِي مُصَنَّفِهِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: عَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَمَّتَهُ، ثُمَّ عَطَسَ فَشَمَّتَهُ، ثُمَّ عَطَسَ فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: أَنْتَ مَزْكُومٌ هَكَذَا رَأَيْتُ فِيهِ: ثُمَّ عَطَسَ فَشَمَّتَهُ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ عَطَسَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ مَزْكُومٌ وَهَذَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ لَكِنِ الْأَكْثَرُ عَلَى تَرْكِ ذِكْرِ التَّشْمِيتِ بَعْدَ الْأُولَى، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بِلَفْظٍ آخَرَ قَالَ: يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ ثَلَاثًا ; فَمَا زَادَ فَهُوَ مَزْكُومٌ وَجَعَلَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَفَادَ تَكْرِيرَ التَّشْمِيتِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ لِمُخَالَفَةِ جَمِيعِ أَصْحَابِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ فِي سِيَاقِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ عِكْرِمَةَ الْمَذْكُورِ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ وَكِيعًا فَإِنَّ فِي حِفْظِهِ مَقَالًا، فَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَهُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثٍ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ سَوَاءٌ تَتَابَعَ عُطَاسُهُ أَمْ لَا، فَلَوْ تَتَابَعَ وَلَمْ يَحْمَدْ لِغَلَبَةِ الْعُطَاسِ عَلَيْهِ ثُمَّ كَرَّرَ الْحَمْدَ بِعَدَدِ الْعُطَاسِ فَهَلْ يُشَمَّتُ بِعَدَدِ الْحَمْدِ؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَظَاهِرُ الْخَبَرِ نَعَمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ السُّنِّيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ النَّهْيَ عَنِ التَّشْمِيتِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَلَفْظُهُ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيُشَمِّتْهُ جَلِيسُهُ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ثَلَاثٍ فَهُوَ مَزْكُومٌ، وَلَا يُشَمِّتُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ رَجُلٌ لَمْ أَتَحَقَّقْ حَالَهُ، وَبَاقِي إِسْنَادِهِ صَحِيحٌ.

قُلْتُ: الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ الْحَرَّانِيُّ، وَالْحَدِيثُ عِنْدَهُمَا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ، وَمُحَمَّدٌ مُوَثَّقٌ، وَأَبُوهُ يُقَالُ لَهُ: الْحَرَّانِيُّ؛ ضَعِيفٌ، قَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ وَلَا مَأْمُونٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا الَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الصَّحَابِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ ثَلَاثًا، فَإِنْ زَادَ فَإِنْ شِئْتَ فَشَمِّتْهُ وَإِنْ شِئْتَ فَلَا فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثُ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ.

قُلْتُ: إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ الضَّعْفَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذَ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْغَرَابَةِ الضَّعْفُ، وَأَمَّا وَصْفُ التِّرْمِذِيِّ إِسْنَادَهُ بِكَوْنِهِ مَجْهُولًا فَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ رِجَالِ الْإِسْنَادِ فَإِنَّ مُعْظَمَهُمْ مُوَثَّقُونَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ تَغْيِيرُ اسْمِ بَعْضِ رُوَاتِهِ وَإِبْهَامُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ أَخْرَجَاهُ مَعًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا؛ فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ فَفِيهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أُمِّهِ حَمِيدَةَ - أَوْ

ص: 605

عُبَيْدَةَ - بِنْتِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهَا، وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَالْحَدِيثُ مَعَ ذَلِكَ مُرْسَلٌ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ، وَيَزِيدُ هُوَ أَبُو خَالِدٍ الدَّالَانِيُّ وَهُوَ صَدُوقٌ فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ، وَيَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأُمُّهُ حَمِيدَةُ رَوَى عَنْهَا أَيْضًا زَوْجُهَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَذَكَرَهَا ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَأَبُوهَا عُبَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ ذَكَرُوهُ فِي الصَّحَابَةِ لِكَوْنِهِ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ رُؤْيَةٌ، قَالَهُ ابْنُ السَّكَنِ، قَالَ: وَلَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ.

وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: رِوَايَتُهُ مُرْسَلَةٌ وَحَدِيثُهُ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ فَفِيهَا عَنْ عُمَرَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أَبِيهَا كَذَا سَمَّاهُ عُمَرُ وَلَمْ يُسَمِّ أُمَّهُ وَلَا أَبَاهَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ، فمن ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ إِسْنَادٌ مَجْهُولٌ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْهُولٍ، وَأَنَّ الصَّوَابَ يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ لَا عُمَرُ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ فَقَالُوا: يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَالُوا: حَمِيدَةُ؛ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَجْهُولٌ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِخَيْرٍ، وَصِلَةٌ وَتَوَدُّدٌ لِلْجَلِيسِ، فَالْأَوْلَى الْعَمَلُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: دَلَّ حَدِيثُ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَلَى أَنَّهُ يُشَمَّتُ ثَلَاثًا وَيُقَالُ: أَنْتَ مَزْكُومٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهِيَ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، فَالْعَمَلُ بِهَا أَوْلَى. ثُمَّ حَكَى النَّوَوِيُّ، عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا هَلْ يَقُولُ لِمَنْ تَتَابَعَ عُطَاسُهُ أَنْتَ مَزْكُومٌ فِي الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ؟ عَلَى أَقْوَالٍ، وَالصَّحِيحُ فِي الثَّالِثَةِ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ أنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يُشَمَّتُ بَعْدَهَا لِأَنَّ الَّذِي بِكَ مَرَضٌ وَلَيْسَ مِنَ الْعُطَاسِ الْمَحْمُودِ النَّاشِئِ عَنْ خِفَّةِ الْبَدَنِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ مَرَضًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُشَمَّتَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ أَحْوَجُ إِلَى الدُّعَاءِ مِنْ غَيْرِهِ، قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ يُدْعَى لَهُ بِدُعَاءٍ يُلَائِمُهُ لَا بِالدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ لِلْعَاطِسِ بَلْ مِنْ جِنْسِ دُعَاءِ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ بِالْعَافِيَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: يُكَرَّرُ التَّشْمِيتُ إِذَا تَكَرَّرَ الْعُطَاسُ إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ مَزْكُومٌ فَيَدْعُو لَهُ بِالشِّفَاءِ، قَالَ: وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعُمُومَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ وَهُوَ الزُّكَامُ، قَالَ: وَعِنْدَ هَذ ايَسْقُطُ الْأَمْرُ بِالتَّشْمِيتِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالزُّكَامِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُشَمَّتَ مَنْ عُلِمَ أَنَّ بِهِ زُكَامًا أَصْلًا، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْعِلَّةُ دُونَ التَّعْلِيلِ وَلَيْسَ الْمُعَلَّلُ هُوَ مُطْلَقُ التَّرْكِ لِيَعُمَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ، بَلِ الْمُعَلَّلُ هُوَ التَّرْكُ بَعْدَ التَّكْرِيرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَلْزَمُ تَكَرُّرُ التَّشْمِيتِ لِأَنَّهُ مَزْكُومٌ، قَالَ: وَيَتَأَيَّدُ بِمُنَاسَبَةِ الْمَشَقَّةِ النَّاشِئَةِ عَنِ التَّكْرَارِ. الرَّابِعُ مِمَّنْ يُخَصُّ مِنْ عُمُومِ الْعَاطِسِينَ مَنْ يَكْرَهُ التَّشْمِيتَ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَكْرَهُ التَّشْمِيتَ أَنَّهُ لَا يُشَمَّتُ إِجْلَالًا لِلتَّشْمِيتِ أَنْ يُؤَهَّلَ لَهُ مَنْ يَكْرَهُهُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتْرُكُ السُّنَّةَ لِذَلِكَ؟ قُلْنَا: هِيَ سُنَّةٌ لِمَنْ أَحَبَّهَا، فَأَمَّا مَنْ كَرِهَهَا وَرَغِبَ عَنْهَا فَلَا. قَالَ: وَيَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي السَّلَامِ وَالْعِيَادَةِ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ خَافَ مِنْهُ ضَرَرًا، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَيُشَمَّتُ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ وَمُنَاقَضَةً لِلْمُتَكَبِّرِ فِي مُرَادِهِ وَكَسْرًا لِسَوْرَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِجْلَالِ التَّشْمِيتِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ لَفْظَ التَّشْمِيتِ دُعَاءٌ بِالرَّحْمَةِ فَهُوَ يُنَاسِبُ الْمُسْلِمَ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسُ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُسْتَثْنَى أَيْضًا مَنْ عَطَسَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَإِنَّهُ يَتَعَارَضُ الْأَمْرُ بِتَشْمِيتِ مَنْ سَمِعَ الْعَاطِسَ وَالْأَمْرُ بِالْإِنْصَاتِ لِمَنْ سَمِعَ الْخَطِيبَ، وَالرَّاجِحُ الْإِنْصَاتُ لِإِمْكَانِ تَدَارُكِ التَّشْمِيتِ بَعْدَ فَرَاغِ الْخَطِيبِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ قِيلَ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ. وَعَلَى هَذَا، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُ التَّشْمِيتِ حَتَّى يَفْرُغُ الْخَطِيبُ أَوْ يُشْرَعُ لَهُ التَّشْمِيتُ بِالْإِشَارَةِ؟ فَلَوْ كَانَ الْعَاطِسُ الْخَطِيبُ فَحَمِدَ وَاسْتَمَرَّ فِي خُطْبَتِهِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ حَمِدَ فَوَقَفَ قَلِيلًا لِيُشَمَّتَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُشْرَعَ تَشْمِيتُهُ. السَّادِسُ مِمَّنْ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَثْنَى مَنْ كَانَ عِنْدَ عُطَاسِهِ فِي حَالَةٍ

ص: 606

يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ، كَمَا إِذَا كَانَ عَلَى الْخَلَاءِ أَوْ فِي الْجَمَاعَةِ فَيُؤَخِّرُ ثُمَّ يَحْمَدُ اللَّهَ فَيُشَمَّتُ، فَلَوْ خَالَفَ فَحَمِدَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ هَلْ يَسْتَحِقُّ التَّشْمِيتَ؟ فِيهِ نَظَرٌ.

‌125 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْعُطَاسِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ التَّثَاؤُبِ

6223 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ. وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا قَالَ هَاء ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْعُطَاسِ وَمَا يُكْرَهُ مِنَ التَّثَاؤُبِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ فِيهِمَا مُنْصَرِفٌ إِلَى سَبَبِهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُطَاسَ يَكُونُ مِنْ خِفَّةِ الْبَدَنِ وَانْفِتَاحِ الْمَسَامِّ وَعَدَمِ الْغَايَةِ فِي الشِّبَعِ وَهُوَ بِخِلَافِ التَّثَاؤُبِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ عِلَّةِ امْتِلَاءِ الْبَدَنِ وَثِقَلِهِ مِمَّا يَكُونُ نَاشِئًا عَنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالتَّخْلِيطِ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ يَسْتَدْعِي النَّشَاطَ لِلْعِبَادَةِ وَالثَّانِي عَلَى عَكْسِهِ.

قَوْلُهُ: (سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هَكَذَا قَالَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَتَابَعَهُ عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ عِنْدَ الْحَاكِمِ؛ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَخَالَفَهُمُ الْقَاسِمُ بْنُ يَزِيدَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ: عَنْ أَبِيهِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الطَّيَالِسِيِّ. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ أَبِيهِ، وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ رِوَايَةَ مَنْ قَالَ: عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ) يَعْنِي الَّذِي لَا يَنْشَأُ عَنْ زُكَامٍ، لِأَنَّهُ الْمَأْمُورُ فِيهِ بِالتَّحْمِيدِ وَالتَّشْمِيتِ، وَيَحْتَمِلُ التَّعْمِيمَ فِي نَوْعَيِ الْعُطَاسِ وَالتَّفْصِيلُ فِي التَّشْمِيتِ خَاصَّةً، وَقَدْ وَرَدَ مَا يَخُصُّ بَعْضَ أَحْوَالِ الْعَاطِسِينَ، فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْيَقْظَانِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ قَالَ: الْعُطَاسُ وَالنُّعَاسُ وَالتَّثَاؤُبُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الطَّبَرَانِيِّ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ النُّعَاسَ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا.

قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: لَا يُعَارِضُ هَذَا حديث أبي هريرة - يعني حَدِيثُ الْبَابِ فِي مَحَبَّةِ الْعُطَاسِ وَكَرَاهَةِ التَّثَاؤُبِ - لِكَوْنِهِ مقيدا بِحَالِ الصَّلَاةِ، فَقَدْ يَتَسَبَّبُ الشَّيْطَانُ فِي حُصُولِ الْعُطَاسِ لِلْمُصَلِّي لِيَشْغَلَهُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْعُطَاسَ إِنَّمَا لَمْ يُوصَفْ بِكَوْنِهِ مَكْرُوهًا فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بِخِلَافِ التَّثَاؤُبِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي التَّثَاؤُبِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ: فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَلَمْ يَأْتِ ذَلِكَ فِي الْعُطَاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ وَيُحِبُّ الْعُطَاسَ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ جَدِّ عَدِيٍّ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ أَيْضًا وَهُوَ مَوْقُوفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يُسْتَحَبُّ لِلْعَاطِسِ أَنْ لَا يُبَالِغَ فِي إِخْرَاجِ الْعَطْسَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَبْعٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فَذَكَرَ مِنْهَا شِدَّةَ الْعُطَاسِ.

قَوْلُهُ: (فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ مُبَادَرَةِ الْعَاطِسِ بِالتَّحْمِيدِ، وَنَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَنَّى فِي حَقِّهِ حَتَّى يَسْكُنَ وَلَا يُعَاجِلْهُ بِالتَّشْمِيتِ، قَالَ: وَهَذَا فِيهِ غَفْلَةٌ عَنْ شَرْطِ

ص: 607

التَّشْمِيتِ وَهُوَ تَوَقُّفُهُ عَلَى حَمْدِ الْعَاطِسِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ مَكْحُولٍ الْأَزْدِيِّ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ، فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِنْ كُنْتَ حَمِدْتَ اللَّهَ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّشْمِيتَ إِنَّمَا يُشْرَعُ لِمَنْ سَمِعَ الْعَاطِسَ وَسَمِعَ حَمْدَهُ، فَلَوْ سَمِعَ مَنْ يُشَمِّتُ غَيْرَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ هُوَ عُطَاسَهُ وَلَا حَمْدَهُ هَلْ يُشْرَعُ لَهُ تَشْمِيتَهُ؟ سَيَأْتِي قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ بَابَيْنِ.

‌126 - بَاب إِذَا عَطَسَ كَيْفَ يُشَمَّتُ؟

6224 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ - أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَإِذَا قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا عَطَسَ كَيْفَ يُشَمَّتُ؟) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) هُوَ السَّمَّانُ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ.

قَوْلُهُ: (إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النِّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، وَأَبِي النَّضْرِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، وَفِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ؛ كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَذْكُورِ بِهِ بِلَفْظِ: فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِهَا. وَاسْتُدِلَّ بِأَمْرِ الْعَاطِسِ بِحَمْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يُشْرَعُ حَتَّى لِلْمُصَلِّي، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ فِي بَابِ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّ ذَلِكَ يُشْرَعُ فِي النَّافِلَةِ لَا فِي الْفَرِيضَةِ، وَيَحْمَدُ مَعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ. وَجَوَّزَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يُسِرُّ بِهِ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ مَعَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ فَإِنَّهُ جَهَرَ بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ.

نَعَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَجْلِ اشْتِرَاطِ الْمُوَالَاةِ فِي قِرَاءَتِهَا، وَجَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ يَحْمَدُ فِي نَفْسِهِ، وَنَقَلَ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ لَا يَحْمَدُ حَتَّى يَفْرُغَ وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ غُلُوٌّ.

قَوْلُهُ: (وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ - أَوْ صَاحِبُهُ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَكَذَا وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ: فَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ وَلَمْ يَشُكَّ، وَالْمُرَادُ بِالْأُخُوَّةِ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ.

قَوْلُهُ: (يَرْحَمُكَ اللَّهُ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً بِالرَّحْمَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَلَى طَرِيقِ الْبِشَارَةِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ أَيْ: هِيَ طُهْرٌ لَكَ، فَكَأَنَّ الْمُشَمِّتَ بَشَّرَ الْعَاطِسَ بِحُصُولِ الرَّحْمَةِ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِسَبَبِ حُصُولِهَا لَهُ فِي الْحَالِ لِكَوْنِهَا دَفَعَتْ مَا يَضُرُّهُ، قَالَ: وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى قَاعِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْصَرِفْ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ انْصَرَفَ إِلَيْهِ، وَإِنْ أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى الْغَالِبِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرِ الْقَائِلُ الْمَعْنَى الْغَالِبَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ إِلَى هَذَا قَوْمٌ فَقَالُوا: يَقُولُ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ؛ يَخُصُّهُ بِالدُّعَاءِ وَحْدَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَطَسَ،

ص: 608

فَأَلْهَمَهُ رَبُّهُ أَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَقُولُ: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ - بِالْجِيمِ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ إِذَا شَمَّتَ يَقُولُ: عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ النَّارِ، يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَأَدَّى إِلَّا بِالْمُخَاطَبَةِ، وَأَمَّا مَا اعْتَادَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِمْ لِلرَّئِيسِ: يَرْحَمُ اللَّهُ سَيِّدَنَا فَخِلَافُ السُّنَّةِ، وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُ شَمَّتَ رَئِيسًا فَقَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا سَيِّدَنَا، فَجَمَعَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ شَمَّتَ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ جَوَابُ التَّشْمِيتِ، وَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى هَذَا، وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ يَقُولُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا. قُلْتُ: وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَبْلُ، فَفِيهِ: وَلْيَقُلْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ. قُلْتُ: وَقَدْ وَافَقَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى وَحَدِيثَ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وحديث علي عند الطبراني أَيْضًا وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: الثَّانِي أَوْلَى ; لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَحْسَنُ إِلَّا لِلذِّمِّيِّ.

وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ جَوَابِ التَّشْمِيتِ بِقَوْلِ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ تَشْمِيتُ الْيَهُودِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ تَخْرِيجِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، قَالَ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ إِذْ لَا تَضَادَّ بَيْنَ خَبَرِ أَبِي مُوسَى وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَعْنِي حَدِيثَ الْبَابِ - لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي جَوَابِ التَّشْمِيتِ وَحَدِيثَ أَبِي مُوسَى فِي التَّشْمِيتِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اجْتَمَعَ الْيَهُودُ وَالْمُسْلِمُونَ فَعَطَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَشَمَّتَهُ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا، فَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَيَرْحَمُنَا وَإِيَّاكُمْ. وَقَالَ لِلْيَهُودِ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. فَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ ضَعِيفٌ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الِاسْتِغْفَارَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَكُلُّ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْخَبَرِ بِالْأَمْرِ بِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ: وَهَذَا أَثْبَتُ مَا يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ مِنْ أَثْبَتِ الْأَخْبَارِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ.

وَقَدْ أَخَذَ بِهِ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} قَالَ: وَالَّذِي يُجِيبُ بِقَوْلِهِ: غَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ ولَا يَزِيدُ الْمُشَمِّتَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ ; لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ سَتْرُ الذَّنْبِ وَالرَّحْمَةُ تَرْكُ الْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ دُعَائُهُ لَهُ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِصْلَاحِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنْ مُوَاقَعَةِ الذَّنْبِ صَالِحَ الْحَالِ، فَهُوَ فَوْقَ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ أَوْلَى. وَاخْتَارَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ أَنْ يَجْمَعَ الْمُجِيبُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَيَكُونُ أَجْمَعَ لِلْخَيْرِ وَيَخْرُجُ مِنَ الْخِلَافِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ.

قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْعَاطِسِ ; يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِمَّا رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَظِيمِ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، فَإِنَّهُ أَذْهَبَ عَنْهُ الضَّرَرَ

ص: 609

بِنِعْمَةِ الْعُطَاسِ ثُمَّ شَرَعَ لَهُ الْحَمْدَ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ، ثُمَّ الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ بَعْدَ الدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ، وَشَرَعَ هَذِهِ النِّعَمَ الْمُتَوَالِيَاتِ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا، وَفِي هَذَا لِمَنْ رَآهُ بِقَلْبٍ لَهُ بَصِيرَةٌ زِيَادَةُ قُوَّةٍ فِي إِيمَانِهِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَحْصُلُ بِعِبَادَةِ أَيَّامٍ عَدِيدَةٍ، وَيُدَاخِلُهُ مِنْ حُبِّ اللَّهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي بَالِهِ، وَمِنْ حُبِّ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَتْ مَعْرِفَةُ هَذَا الْخَيْرِ عَلَى يَدِهِ وَالْعِلْمُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ سُنَّتُهُ مَا لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ. قَالَ: وَفِي زِيَادَةِ ذَرَّةٍ مِنْ هَذَا مَا يَفُوقُ الْكَثِيرَ مِمَّا عَدَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا. وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: أَنْوَاعُ الْبَلَاءِ وَالْآفَاتِ كُلُّهَا مُؤَاخَذَاتٌ، وَإِنَّمَا الْمُؤَاخَذَةُ عَنْ ذَنْبٍ، فَإِذَا حَصَلَ الذَّنْبُ مَغْفُورًا وَأَدْرَكَتِ الْعَبْدَ الرَّحْمَةُ لَمْ تَقَعِ الْمُؤَاخَذَةُ، فَإِذَا قِيلَ لِلْعَاطِسِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَمَعْنَاهُ: جَعَلَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ لِتَدُومَ لَكَ السَّلَامَةُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَنْبِيهِ الْعَاطِسِ عَلَى طَلَبِ الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ، وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَ لَهُ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: غَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ.

قَوْلُهُ: (بَالُكُمْ شَأْنُكُمْ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} ؛ أَيْ: شَأْنَهُمْ.

‌127 - بَاب لَا يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ إِذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ

6225 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: عَطَسَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَمَّتَّ هَذَا وَلَمْ تُشَمِّتْنِي! قَالَ: إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ وَلَمْ تَحْمَدْ اللَّهَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ إِذَا لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ) أَوْرَدَ فِي حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَاضِي فِي بَابِ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِالرَّجُلِ الَّذِي وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ فِيهَا، لَكِنْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى بِلَفْظِ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلَا تُشَمِّتُوهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ لَمْ يُشَمَّتْ. قُلْتُ: هُوَ مَنْطُوقُهُ، لَكِنْ هَلِ النَّهْيُ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ؟ الْجُمْهُورُ عَلَى الثَّانِي، قَالَ: وَأَقَلُّ الْحَمْدِ وَالتَّشْمِيتِ أَنْ يُسْمِعَ صَاحِبَهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا أَتَى بِلَفْظٍ آخَرَ غَيْرِ الْحَمْدِ لَا يُشَمَّتُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: عَطَسَ رَجُلٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَلَيْكَ وَعَلَى أُمِّكَ، وَقَالَ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّشْمِيتُ لِمَنْ حَمِدَ إِذَا عَرَفَ السَّامِعُ أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، كَمَا لَوْ سَمِعَ الْعَطْسَةَ وَلَمْ يَسْمَعِ الْحَمْدَ بَلْ سَمِعَ مَنْ شَمَّتَ ذَلِكَ الْعَاطِسَ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ لَهُ التَّشْمِيتُ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِهِ لِمَنْ عَطَسَ فَحَمِدَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُشَمِّتُهُ مَنْ سَمِعَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ اخْتِلَافًا فِيهِ وَرَجَّحَ أَنَّهُ يُشَمِّتُهُ.

قُلْتُ: وَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِينَ عِنْدَ الْعَاطِسِ جَهَلَةٌ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ تَشْمِيتِ مَنْ حَمِدَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَحْمَدْ، وَالتَّشْمِيتُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ حَمِدَ فَيَمْتَنِعُ تَشْمِيتُ هَذَا وَلَوْ شَمَّتَهُ مَنْ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ هَلْ حَمِدَ أَوْ لَا، فَإِنْ عَطَسَ وَحَمِدَ وَلَمْ يُشَمِّتْهُ أَحَدٌ فَسَمِعَهُ مَنْ بَعُدَ عَنْهُ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ حِينَ يَسْمَعُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي دَاوُدَ صَاحِبِ السُّنَنِ أنه كَانَ فِي سَفِينَةٍ فَسَمِعَ عَاطِسًا عَلَى الشَّطِّ حَمِدَ فَاكْتَرَى قَارِبًا بِدِرْهَمٍ حَتَّى جَاءَ إِلَى الْعَاطِسِ فَشَمَّتَهُ ثُمَّ رَجَعَ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَعَلَّهُ يَكُونُ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا رَقَدُوا سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: يَا أَهْلَ

ص: 610

السَّفِينَةِ إِنَّ أَبَا دَاوُدَ اشْتَرَى الْجَنَّةَ مِنَ اللَّهِ بِدِرْهَمٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَضَرَ مَنْ عَطَسَ فَلَمْ يَحْمَدْ أَنْ يُذَكِّرَهُ بِالْحَمْدِ لِيَحْمَدَ فَيُشَمِّتُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. وَزَعَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ جَهْلٌ مِنْ فَاعِلِهِ، قَالَ: وَأَخْطَأَ فِيمَا زَعَمَ، بَلِ الصَّوَابُ اسْتِحْبَابُهُ. قُلْتُ: احْتَجَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لِقَوْلِهِ بِأَنَّهُ إِذَا نَبَّهَهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَلْزَمْهَا، قَالَ: فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ جَمَعَ جَهَالَتَيْنِ؛ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَإِيقَاعُهُ التَّشْمِيتَ قَبْلَ وُجُودِ الْحَمْدِ مِنَ الْعَاطِسِ.

وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ - وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّهُ الْأَوْزَاعِيُّ - أَنَّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْدَهُ فَلَمْ يَحْمَدْ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ يَقُولُ مَنْ عَطَسَ؟ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. قُلْتُ: وَكَأَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْكُرِ الَّذِي عَطَسَ فَلَمْ يَحْمَدْ لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ احْتِمَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا، فَلَعَلَّ تَرْكَ ذَلِكَ لِذَلِكَ، لَكنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ بَطَّالٍ أَرَادَ تَأْدِيبَهُ عَلَى تَرْكِ الْحَمْدِ بِتَرْكِ تَشْمِيتِهِ، ثُمَّ عَرَّفَهُ الْحُكْمَ وَأَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ الْحَمْدَ لَا يَسْتَحِقُّ التَّشْمِيتَ. وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَفَعَلَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ شَمَّتَ مَنْ حَمِدَ وَلَمْ يُشَمِّتْ مَنْ لَمْ يَحْمَدْ، كَمَا سَاقَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ.

‌128 - بَاب إِذَا تَثَاءَبَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ

6226 -

حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا تَثَاوبَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي: تَثَاءَبَ بِهَمْزَةٍ بَدَلَ الْوَاوِ، قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَحْبُوبِيِّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِالْوَاوِ، وَفِي رِوَايَةِ السِّنْجِيِّ بِالْهَمْزِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ بِالْهَمْزِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَأَمَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ فَبِالْوَاوِ، قَالَ: وَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ مُسْلِمٍ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْهَمْزِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْجَوْهَرِيُّ كَوْنَهُ بِالْوَاوِ، وَقَالَ: تَقُولُ تَثَاءَبْتُ عَلَى وَزْنِ تَفَاعَلْتُ وَلَا تَقُلْ تَثَاوَبْتُ، قَالَ: وَالتَّثَاؤُبُ أَيْضًا مَهْمُوزٌ، وَقَدْ يَقْلِبُونَ الْهَمْزَةَ الْمَضْمُومَةَ وَاوًا، وَالِاسْمُ الثُّؤَبَاءُ بِضَمٍّ ثُمَّ هَمْزٍ عَلَى وَزْنِ الْخُيَلَاءِ، وَجَزَمَ ابْنُ دُرَيْدٍ، وَثَابِتُ بْنُ قَاسِمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِأَنَّ الَّذِي بِغَيْرِ وَاوٍ بِوَزْنِ تَيَمَّمْتُ، فَقَالَ ثَابِتٌ: لَا يُقَالُ تَثَاءَبَ بِالْمَدِّ مُخَفَّفًا، بَلْ يُقَالُ تَثَأَّبَ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: أَصْلُهُ مِنْ ثَئِبَ فَهُوَ مَثْئُوبٌ إِذَا اسْتَرْخَى وَكَسِلَ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَبِالْهَمْزِ وَالْمَدِّ أَشْهَرُ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عُمُومُ الْأَمْرِ بِالرَّدِّ يَتَنَاوَلُ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ فَيُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. قُلْتُ: وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ صَرِيحًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فَمِهِ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ مِثْلُ لَفْظِ التَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ) قَالَ

ص: 611

ابْنُ بَطَّالٍ: إِضَافَةُ التَّثَاؤُبِ إِلَى الشَّيْطَانِ بِمَعْنَى إِضَافَةِ الرِّضَا وَالْإِرَادَةِ؛ أَيْ أنَّ الشَّيْطَانُ يُحِبُّ أَنْ يَرَى الْإِنْسَانَ مُتَثَائِبًا لِأَنَّهَا حَالَةٌ تَتَغَيَّرُ فِيهَا صُورَتُهُ فَيَضْحَكُ مِنْهُ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الشَّيْطَانَ فَعَلَ التَّثَاؤُبَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مَكْرُوهٍ نَسَبَهُ الشَّرْعُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ وَاسِطَتُهُ، وَأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ حَسَنٍ نَسَبَهُ الشَّرْعُ إِلَى الْمَلَكِ لِأَنَّهُ وَاسِطَتُهُ، قَالَ: وَالتَّثَاؤُبُ مِنَ الِامْتِلَاءِ وَيَنْشَأُ عَنْهُ التَّكَاسُلُ وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الشَّيْطَانِ، وَالْعُطَاسُ مِنْ تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَيَنْشَأُ عَنْهُ النَّشَاطُ وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أُضِيفَ التَّثَاؤبُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الشَّهَوَاتِ إِذْ يَكُونُ عَنْ ثِقَلِ الْبَدَنِ وَاسْتِرْخَائِهِ وَامْتِلَائِهِ، وَالْمُرَادُ التَّحْذِيرُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ التَّوَسُّعُ فِي الْمَأْكَلِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ)؛ أَيْ يَأْخُذُ فِي أَسْبَابِ رَدِّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ يَمْلِكُ دَفْعَهُ لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ لَا يُرَدُّ حَقِيقَةً، وَقِيلَ: مَعْنَى إِذَا تَثَاءَبَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَثَاءَبَ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَاضِي فِيهِ بِمَعْنَى الْمُضَارِعِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ: فَإِن قَالَ: آهْ، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ هَكَذَا قَيَّدَهُ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَلَا يَعْوِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْهُ. قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: أَكْثَرُ رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ فِيهَا إِطْلَاقُ التَّثَاؤُبِ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى تَقْيِيدُهُ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلِلشَّيْطَانِ غَرَضٌ قَوِيٌّ فِي التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كَرَاهَتُهُ فِي الصَّلَاةِ أَشَدَّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُكْرَهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُطْلَقَ إِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْأَمْرِ لَا فِي النَّهْيِ، وَيُؤَيِّدُ كَرَاهَتَهُ مُطْلَقًا كَوْنُهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَنْبَغِي كَظْمُ التَّثَاؤُبِ فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَإِنَّمَا خَصَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّهَا أَوْلَى الْأَحْوَالِ بِدَفْعِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ اعْتِدَالِ الْهَيْئَةِ وَاعْوِجَاجِ الْخِلْقَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ فِي ابْنِ مَاجَهْ: وَلَا يَعْوِي، فَإِنَّهُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، شَبَّهَ التَّثَاؤُبَ الَّذِي يُسْتَرْسَلُ مَعَهُ بِعُوَاءِ الْكَلْبِ تَنْفِيرًا عَنْهُ وَاسْتِقْبَاحًا لَهُ فَإِنَّ الْكَلْبَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَفْتَحُ فَاهُ وَيَعْوِي، وَالْمُتَثَائِبُ إِذَا أَفْرَطَ فِي التَّثَاؤُبِ شَابَهَهُ. وَمِنْ هُنَا تَظْهَرُ النُّكْتَةُ فِي كَوْنِهِ يَضْحَكُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ صَيَّرَهُ مَلْعَبَةً لَهُ بِتَشْوِيهِ خَلْقِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الدُّخُولُ حَقِيقَةً، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ لَكِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَا دَامَ ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْمُتَثَائِبُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ غَيْرُ ذَاكِرٍ فَيَتَمَكَّنُ الشَّيْطَانُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ حَقِيقَةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ الدُّخُولَ وَأَرَادَ التَّمَكُّنَ مِنْهُ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ فَيَتَنَاوَلُ مَا إِذَا انْفَتَحَ بِالتَّثَاؤُبِ فَيُغَطَّى بِالْكَفِّ وَنَحْوِهِ وَمَا إِذَا كَانَ مُنْطَبِقًا حِفْظًا لَهُ عَنِ الِانْفِتَاحِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.

وَفِي مَعْنَى وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ وَضْعُ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُحَصِّلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودَ، وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ الْيَدُ إِذَا لَمْ يَرْتَدَّ التَّثَاؤُبُ بِدُونِهَا، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَغَيْرِهِ، بَلْ يَتَأَكَّدُ فِي حَالِ الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيُسْتَثْنَى ذَلِكَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ وَضْعِ الْمُصَلِّي يَدَهُ عَلَى فَمِهِ. وَمِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُتَثَائِبُ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ نَظْمُ قِرَاءَتِهِ، وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ وَالتَّابِعِينَ

ص: 612

الْمَشْهُورِينَ، وَمَنَ الْخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ مُرْسَلِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: مَا تَثَاءَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ، وَأَخْرَجَ الْخَطَّابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ: مَا تَثَاءَبَ نَبِيٌّ قَطُّ وَمَسْلَمَةُ أَدْرَكَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَهُوَ صَدُوقٌ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ أَنَّ التَّثَاؤُبَ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقَعَ فِي الشِّفَاءِ لِابْنِ سَبْعٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَتَمَطَّى، لِأَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْأَدَبِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَتَيْنِ وَسِتَّةٍ وَخَمْسِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ. الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَتَا حَدِيثٍ وَحَدِيثٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَحَدِيثِ: الرَّحِمُ شُجْنَةٌ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو: لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا، وَحَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ: مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ: كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ دِينَنَا، وَحَدِيثِ أَنَسٍ: إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ، وَحَدِيثِ حُذَيْفَةَ: إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلًّا وَسَمْتًا، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ يَا كَافِرُ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَغْضَبْ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: لَأَنْ يَمْتَلِئَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ابْنِ صَيَّادٍ، وَحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ فِي اسْمِ الْحَزْنِ، وَحَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فِي إِبْرَاهِيمَ ابْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَحَدَ عَشَرَ أَثَرًا بَعْضُهَا مَوْصُولٌ وَبَعْضُهَا مُعَلَّقٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 613