الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
79 - كِتَاب الِاسْتِئْذَانِ
1 - بَاب بَدْءِ السَّلَامِ
6227 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ، نفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ. فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ.
قَوْلُهُ: (كِتَابُ الِاسْتِئْذَان - بَابُ بَدْءِ السَّلَامِ) الِاسْتِئْذَانُ طَلَبُ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ لِمَحَلٍّ لَا يَمْلِكُهُ الْمُسْتَأْذِنُ وَبَدْءٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْهَمْزُ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ؛ أَيْ أَوَّلَ مَا وَقَعَ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا تَرْجَمَ لِلسَّلَامِ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ لِمَنْ لَمْ يُسَلِّمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ لِخَادِمِهِ: اخْرُجْ لِهَذَا فَعَلِّمْهُ، فَقَالَ: قُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ، الْحَدِيثَ، وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: بَعَثَنِي أَبِي إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَقُلْتُ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ: لَا تَقُلْ كَذَا، وَلَكِنْ قُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْكَ فَادْخُلْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي بُرَيْدَةَ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ: أَأَدْخُلُ؟ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ لَا يَأْذَنُ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَقَمْتَ إِلَى اللَّيْلِ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ الْبِيكَنْدِيُّ).
قَوْلُهُ: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَاخْتُلِفَ إِلَى مَاذَا يَعُودُ الضَّمِيرُ؟ فَقِيلَ: إِلَى آدَمَ أَيْ خَلَقَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ أُهْبِطَ وَإِلَى أَنْ مَاتَ، دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى، أَوِ ابْتَدَأَ خَلْقَهُ كَمَا وُجِدَ لَمْ يَنْتَقِلْ فِي النَّشْأَةِ كَمَا يَنْتَقِلُ وَلَدُهُ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ.
وَقِيلَ لِلرَّدِّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِنْسَانٌ إِلَّا مِنْ نُطْفَةٍ وَلَا تَكُونُ نُطْفَةُ إِنْسَانٍ إِلَّا مِنْ إِنْسَانٍ وَلَا أَوَّلَ لِذَلِكَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَقِيلَ لِلرَّدِّ عَلَى الطَّبَائِعِيِّينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مِنْ فِعْلِ الطَّبْعِ وَتَأْثِيرِهِ، وَقِيلَ لِلرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبًا حُذِفَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَهُ قِصَّةُ الَّذِي ضَرَبَ عَبْدَهُ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلَّهِ وَتَمَسَّكَ قَائِلُ ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَالْمُرَادُ بِالصُّورَةِ الصِّفَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ عَلَى صِفَتِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: (اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بُعْدٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِيجَابِ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ
لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ بَلْ ضَعِيفٌ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالسَّلَامِ سُنَّةٌ، وَلَكِنْ فِي كَلَامِ الْمَازِرِيِّ مَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ خِلَافٍ فِي ذَلِكَ، كَذَا زَعَمَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَاهُ.
وَقَدْ رَاجَعْتُ كَلَامَ الْمَازِرِيِّ، وَلَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: ابْتِدَاءُ السَّلَامِ سُنَّةٌ وَرَدُّهُ وَاجِبٌ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مِنْ عِبَادَاتِ الْكِفَايَةِ، فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ الْمَشْهُورِ إِلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الرَّدِّ هَلْ هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ؟ وَقَدْ صُرِّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا سَأَذْكُرُهُ بَعْدُ، نَعَمْ وَقَعَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ عِيَاضٌ قَالَ: لَا خِلَافَ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ سُنَّةٌ أَوْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنْ سَلَّمَ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَجْزَأَ عَنْهُمْ، قَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مَعَ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ أَنَّ إِقَامَةَ السُّنَنِ وَإِحْيَاءَهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
قَوْلُهُ: (نَفَرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ) بِالْخَفْضِ فِي الرِّوَايَةِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَمِعْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَاسْمَعْ.
قَوْلُهُ: (مَا يُحَيُّونَكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْمُهْمَلَةِ مِنَ التَّحِيَّةِ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي خَلْقِ آدَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَكَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ هُنَا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مِنَ الْجَوَابِ، وَكَذَا هُوَ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لِلْمُصَنِّفِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا) أَيِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يُحَيُّونَ بِهَا أَوْ يُجِيبُونَ.
قَوْلُهُ: (تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالذُّرِّيَّةِ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدُوكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شُرِعَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَهُمْ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِهِ قَالَ: وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: وَعَلَيْكَ وَرَحْمَتُ اللَّهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ: جَعَلَ اللَّهُ السَّلَامَ تَحِيَّةً لِأُمَّتِنَا وَأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتِنَا. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: كُنَّا نَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: أَنْعِمْ بِكَ عَيْنًا، وَأَنْعِمْ صَبَاحًا. فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ لَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: حُيِّيتَ مَسَاءً حُيِّيتَ صَبَاحًا فَغَيَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالسَّلَامِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ)، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَّمَهُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ لَهُ: فَسَلِّمْ، قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَلْهَمَهُ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ حَمْدِ الْعَاطِسِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: أَنَّ آدَمَ لَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ عَطَسَ فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ أَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْحَدِيثَ. فَلَعَلَّهُ أَلْهَمَهُ أَيْضًا صِفَةَ السَّلَامِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ هِيَ الْمَشْرُوعَةُ لِابْتِدَاءِ السَّلَامِ لِقَوْلِهِ: فَهِيَ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ وَهَذَا فِيمَا لَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ، فَلَوْ سَلَّمَ عَلَى وَاحِدٍ فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَلَوْ حَذَفَ اللَّامَ فَقَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَجْزَأَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وَقَالَ تَعَالَى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنْ بِاللَّامِ أَوْلَى لِأَنَّهَا لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّكْثِيرِ وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ التَّشَهُّدِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الِابْتِدَاءِ: عَلَيْكَ السَّلَامُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: إِذَا قَالَ الْمُبْتَدِئُ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ لَا يَكُونُ سَلَامًا وَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَصْلُحُ لِلِابْتِدَاءِ قَالَهُ الْمُتَوَلِّي، فَلَوْ قَالَهُ بِغَيْرِ وَاوٍ فَهُوَ سَلَامٌ،
قَطَعَ بِذَلِكَ الْوَاحِدِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْزِئَ كَمَا قِيلَ بِهِ فِي التَّحَلُّلِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُعَدَّ سَلَامًا وَلَا يَسْتَحِقَّ جَوَابًا لِمَا رُوِينَاهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرِهِمَا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ عَنْ أَبِي جُرَيٍّ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ مُصَغَّرٌ الْهُجَيْمِيِّ بِالْجِيمِ مُصَغَّرًا قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلَامُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ لِبَيَانِ الْأَكْمَلِ، وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: يُكْرَهُ لِلْمُبْتَدِئِ أَنْ يَقُولَ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ لَا يُكْرَهُ، وَيَجِبُ الْجَوَابُ ; لِأَنَّهُ سَلَامٌ.
قُلْتُ: وَقَوْلُهُ: بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ يُوهِمُ أَنَّ لَهُ طُرُقًا إِلَى الصَّحَابِيِّ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ أَبِي جُرَيٍّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَدَارُهُ عِنْدَ جَمِيعِ مَنْ أَخْرَجَهُ عَلَى أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ رَاوِيَةً عَنْ أَبِي جُرَيٍّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَقَدِ اعْتَرَضَ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْبَقِيعِ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَمَّا أَتَى الْبَقِيعَ: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْحَدِيثَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ السَّلَامَ عَلَى الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ:
عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ قَيْسُ بْنَ عَاصِمٍ.
قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ شِعْرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمَرْثِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ لِمُسْلِمٍ مَعْرُوفٍ قَالَهَا لَمَّا مَاتَ قَيْسٌ، وَمِثْلُهُ مَا أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْجِنَّ رَثَوْا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا:
عَلَيْكَ السَّلَامُ مِنْ أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ
…
يَدُ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْأَدِيمِ الْمُمَزَّقِ
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْبَقِيعِ: لَا يُعَارِضُ النَّهْيَ فِي حَدِيثِ أَبِي جُرَيٍّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحْيَاهُمْ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَامَ الْأَحْيَاءِ، كَذَا قَالَ. وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ.
قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مَخْصُوصًا بِمَنْ يَرَى أَنَّهَا تَحِيَّةُ الْمَوْتَى وَبِمَنْ يَتَطَيَّرُ بِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ فَإِنَّهَا كَانَتْ عَادَةَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. قَالَ عِيَاضٌ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ فَنَقَّحَ كَلَامَهُ فَقَالَ: كَانَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ فِي الِابْتِدَاءِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، فَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جُرَيٍّ وَصَحَّحَهُ ثُمَّ قَالَ: أَشْكَلَ هَذَا عَلَى طَائِفَةٍ وَظَنُّوهُ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى، إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ لَا عَنِ الشَّرْعِ، أَيْ أَنَّ الشُّعَرَاءَ وَنَحْوَهُمْ يُحَيُّونَ الْمَوْتَى بِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِالْبَيْتِ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ مَا فِيهِ، قَالَ: فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُحَيِّيَ بِتَحِيَّةِ الْأَمْوَاتِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ أَيْضًا: كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي تَحِيَّةِ الْمَوْتَى تَأْخِيرَ الِاسْمِ، كَقَوْلِهِمْ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ عِنْدَ الذَّمِّ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّصَّ فِي الْمُلَاعَنَةِ وَرَدَ بِتَقْدِيمِ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ عَلَى الِاسْمِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ عَائِشَةَ لِمَنْ زَارَ الْمَقْبُرَةَ فَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ بِهَا، وَحَدِيثُ أَبِي جُرَيٍّ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا فِي السَّلَامِ عَلَى الشَّخْصِ الْوَاحِدِ.
وَنَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُبْتَدِئَ لَوْ قَالَ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهَا صِيغَةُ جَوَابٍ، قَالَ: وَالْأَوْلَى الْإِجْزَاءُ لِحُصُولِ مُسَمَّى السَّلَامِ؛ وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْوِي بِإِحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ حَضَرَ، وَهِيَ بِصِيغَةِ الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ حَكَى عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِلَفْظِ الرَّدِّ وَعَكْسِهِ وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي بَابِ مَنْ رَدَّ فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ
- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ فِي الْبُخَارِيِّ هُنَا، وَكَذَا لِلْجَمِيعِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَلِأَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَوَقَعَ هُنَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَالُوا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ، وَعَلَيْهَا شَرْحُ الْخَطَّابِيِّ، وَاسْتُدِلَّ بِرِوَايَةِ الْأَكْثَرِ لِمَنْ يَقُولُ: يُجْزِئُ فِي الرَّدِّ أَنْ يَقَعَ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُبْتَدَأُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، قِيلَ: وَيَكْفِي أَيْضًا الرَّدُّ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ مَنْ رَدَّ فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ.
قَوْلُهُ: (فَزَادُوهُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الزِّيَادَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ بِالِاتِّفَاقِ لِوُقُوعِ التَّحِيَّةِ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} فَلَوْ زَادَ الْمُبْتَدِئُ: وَرَحْمَتُ اللَّهِ اسْتُحِبَّ أَنْ يُزَادَ: وَبَرَكَاتُهُ، فَلَوْ زَادَ وَبَرَكَاتُهُ فَهَلْ تُشْرَعُ الزِّيَادَةُ فِي الرَّدِّ؟ وَكَذَا لَوْ زَادَ الْمُبْتَدِئُ عَلَى وَبَرَكَاتُهُ، هَلْ يُشْرَعُ لَهُ ذَلِكَ؟ أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْتَهَى السَّلَامُ إِلَى الْبَرَكَةِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَه
(1)
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، فَقَالَ: حَسْبُكَ إِلَى وَبَرَكَاتُهُ انْتَهَى إِلَى وَبَرَكَاتُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: انْتَهَى السَّلَامُ إِلَى وَبَرَكَاتُهُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الْجَوَازُ، فَأَخْرَجَ مَالِكٌ أَيْضًا فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ أَنَّهُ زَادَ فِي الْجَوَابِ: وَالْغَادِيَاتُ وَالرَّائِحَاتُ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَزِيدُ إِذَا رَدَّ السَّلَامَ، فَأَتَيْتُهُ مَرَّةً فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَزِدْتُ: وَبَرَكَاتُهُ فَرَدَّ وَزَادَ: وَطِيبُ صَلَوَاتِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَطِيبُ صَلَوَاتِهِ.
وَنَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} الْجَوَازُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْبَرَكَةِ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا الْمُبْتَدِئُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: عَشْرٌ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُ اللَّهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: عِشْرُونَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَزَادَ: وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ وَقَالَ: ثَلَاثُونَ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ: ثَلَاثُونَ حَسَنَةً وَكَذَا فِيمَا قَبْلَهَا صَرَّحَ بِالْمَعْدُودِ.
وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ لَهُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ رَفَعَهُ: مَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ زَادَ وَرَحْمَتُ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَمَنْ زَادَ وَبَرَكَاتُهُ كُتِبَتْ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ نَحْوَ حَدِيثِ عِمْرَانَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَزَادَ وَمَغْفِرَتُهُ فَقَالَ أَرْبَعُونَ، وَقَالَ: هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي كِتَابِهِ بِسَنَدٍ وَاهٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَمُرُّ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَيَقُولُ لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوَانُهُ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كُنَّا إِذَا سَلَّمَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الضَّعِيفَةُ إِذَا انْضَمَّتْ قَوِيَ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الزِّيَادَةِ عَلَى وَبَرَكَاتُهُ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَجَاءَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى كُلٍّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ الْبَابِ ; لِأَنَّ فِيهِ: فَقَالُوا السَّلَامُ عَلَيْكَ، وَتُعُقِّبَ
(1)
قال مصحح طبعة بولاق: لعله محرف عن "بابه" كما تقدم غير مرة
بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نُسِبَ إِلَيْهِمْ وَالْمُتَكَلِّمُ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَاحْتَجَّ لَهُ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يُجْزِئُ عَنْهُمْ، وَتُعُقِّبَ بِظُهُورِ الْفَرْقِ.
وَاحْتَجَّ لِلْجُمْهُورِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: يُجْزِي عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِي عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَزَّارُ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ، وَآخَرُ مُرْسَلٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَاحْتَجَّ ابْنُ بَطَّالٍ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْمُبْتَدِئَ لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ تَكْرِيرُ السَّلَامُ بِعَدَدِ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ سَلَامِ آدَمَ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، قَالَ: فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى كُلٍّ فَرْدٍ فَرْدٍ إِذَا سَلَّمَ الْوَاحِدُ عَلَيْهِمْ. وَاحْتَجَّ الْمَاوَرْدِيُّ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْعَدَدِ مِنَ الْجَنَائِزِ، وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: إِنَّمَا كَانَ الرَّدُّ وَاجِبًا ; لِأَنَّ السَّلَامَ مَعْنَاهُ الْأَمَانُ، فَإِذَا ابْتَدَأَ بِهِ الْمُسْلِمُ أَخَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَإِنَّهُ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ الشَّرُّ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ عَنْهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَعَانِي لَفْظِ السَّلَامِ فِي بَابِ السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ مُوَافَقَةُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، حَيْثُ قَالَ: لَا يَجِبُ رَدُّ السَّلَامِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عِنْدَ قِيَامِهِ مِنَ الْمَجْلِسِ إِذَا كَانَ سَلَّمَ حِينَ دَخَلَ، وَوَافَقَهُ الْمُتَوَلِّي، وَخَالَفَهُ الْمُسْتَظْهَرِيُّ فَقَالَ: السَّلَامُ سُنَّةٌ عِنْدَ الِانْصِرَافِ فَيَكُونُ الْجَوَابُ وَاجِبًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، كَذَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ هُنَا وَلِلْجَمِيعِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَوَقَعَ هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ يَعْنِي الْجَنَّةَ وَكَأَنَّ لَفْظَ الْجَنَّةِ سَقَطَ مِنْ رِوَايَتِهِ فَزَادَ فِيهِ يَعْنِي.
قَوْلُهُ: (عَلَى صُورَةِ آدَمَ) تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَيَتَحَيَّوْنَ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ. قُلْتُ: وَفِي الْأَوَّلِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، ثُمَّ لَمَّا حَكَى لِلْعَرَبِ تَرْجَمَ بِلِسَانِهِمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ ذُكِرَتْ قَصَصُهُمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ نُقِلَ كَلَامُهُمْ بِالْعَرَبِيِّ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ بِالْعَرَبِيِّ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ كَلَامَهُمْ تُرْجِمَ بِالْعَرَبِيِّ، وَفِيهِ الْأَمْرُ بِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِهِ وَالْأَخْذُ بِنُزُولٍ مَعَ إِمْكَانِ الْعُلُوِّ، وَالِاكْتِفَاءُ فِي الْخَبَرِ مَعَ إِمْكَانِ الْقَطْعِ بِمَا دُونَهُ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي بَيْنَ آدَمَ وَالْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَوْقَ مَا نُقِلَ عَنِ الْإِخْبَارِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ بِكَثِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
2 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
* فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ: إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ. قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُنَّ، يقَوْلُ اللَّهِ عز وجل:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قَالَ قَتَادَةُ: عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ. {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} ، {خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} مِنْ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي النَّظَرِ إِلَى الَّتِي لَمْ تَحِضْ مِنْ النِّسَاءِ: لَا يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً. وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى الْجَوَارِي
الَّلاتِي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِيَ.
6228 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنْ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
6229 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا فَقَالَ إِذْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا تَكْتُمُونَ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةٍ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِئْنَاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا؛ الِاسْتِئْذَانُ بِتَنَحْنُحٍ وَنَحْوِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا تَتَنَحْنَحُوا أَوْ تَتَنَخَّمُوا، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الدَّارَ اسْتَأْنَسَ يَتَكَلَّمُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا السَّلَامُ، فَمَا الِاسْتِئْنَاسُ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بِتَسْبِيحَةٍ أَوْ تَكْبِيرَةٍ وَيَتَنَحْنَحُ فَيُؤْذِنُ أَهْلَ الْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: الِاسْتِئْنَاسُ هُوَ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثًا، فَالْأُولَى لِيَسْمَعَ، وَالثَّانِيَةُ لِيَتَأَهَّبُوا لَهُ، وَالثَّالِثَةُ إِنْ شَاءُوا أَذِنُوا لَهُ وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا. وَالِاسْتِئْنَاسُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ الْإِينَاسِ وَهُوَ مِنَ الْأُنْسِ بِالضَّمِّ ضِدُّ الْوَحْشَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ النِّكَاحِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ اعْتِزَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، وَفِيهِ: فَقُلْتُ أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَجَلَسَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَعْنَى تَسْتَأْنِسُوا تَسْتَبْصِرُوا لِيَكُونَ الدُّخُولُ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَلَا يُصَادِفُ حَالَةً يَكْرَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْفَرَّاءِ قَالَ: الِاسْتِئْنَاسُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ انْظُرُوا مَنْ فِي الدَّارِ. وَعَنِ الْحَلِيمِيِّ: مَعْنَاهُ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا بِأَنْ تُسَلِّمُوا. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ فِي لُغَةِ الْيَمَنِ الِاسْتِئْذَانُ وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْكَارُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ: كَانَ يَقْرَأُ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَيَقُولُ: أَخْطَأَ الْكَاتِبُ وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ
طَرِيقِ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَتَسْتَأْذِنُوا وَأَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاسْتَشْكَلَهُ وَكَذَا طَعَنَ فِي صِحَّتِهِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ بَعْدَهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ بَنَاهَا عَلَى قِرَاءَتِهِ الَّتِي تَلَقَّاهَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَمَّا اتِّفَاقُ النَّاسِ عَلَى قِرَاءَتِهَا بِالسِّينِ فَلِمُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ الَّذِي وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ عَمَّا يُوَافِقُهُ، وَكَانَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ مِنَ الْأَحْرُفِ الَّتِي تُرِكَتْ لِلْقِرَاءَةِ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى ثُمَّ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، يَعْنِي وَلَمْ يَطَّلِعِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ) هُوَ الْبَصْرِيُّ أَخُو الْحَسَنِ.
قَوْلُهُ: (لِلْحَسَنِ) أَيْ لِأَخِيهِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ، قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُنَّ، يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قَالَ قَتَادَةُ: عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: اصْرِفْ بَصَرَكَ وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إِلَخْ، فَعَلَى رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَكُونُ الْحَسَنُ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ أَثَرَ قَتَادَةَ تَفْسِيرًا لَهَا، وَعَلَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ تَكُونُ تَرْجَمَةً مُسْتَأْنَفَةً وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِهَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الْحَالَيْنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَصْلَ مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِئْذَانِ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ وُقُوعِ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يُرِيدُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ النَّظَرَ إِلَيْهِ لَوْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَأَثَرُ قَتَادَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَصَلَهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قَالَ: عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ.
قَوْلُهُ: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ تَخَلَّلَ أَثَرُ قَتَادَةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَسَقَطَ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ:{حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الْآيَتَيْنِ، وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الْآيَة، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}
قَوْلُهُ: (خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ مِنِ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ نُونِ نُهِيَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَسَقَطَ لَفْظُ مِنْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى الْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ تَمُرُّ بِهِ أَوْ يَدْخُلُ بَيْتًا هِيَ فِيهِ فَإِذَا فُطِنَ لَهُ غَضَّ بَصَرَهُ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَوَدُّ لَوِ اطَّلَعَ عَلَى فَرْجِهَا وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا لَو زَنَى بِهَا، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ النَّظْرَةَ الْمُسْتَرِقَةَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَأَمَّا خَائِنَةُ الْأَعْيُنُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ فَهِيَ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ إِلَى أَمْرٍ مُبَاحٍ لَكِنْ عَلَى خِلَافِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ بِالْقَوْلِ. قُلْتُ: وَكَذَا السُّكُوتُ الْمُشْعِرُ بِالتَّقْرِيرِ فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْقَوْلِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَذَكَرَ مِنْهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَاخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ، فَجَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدَيَّ عَنْهُ فَيَقْتُلُهُ، فَقَالُوا: هَلَّا أَوْمَأْتَ، قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَخْصَرَ مِنْهُ وَزَادَ فِيهِ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ نَذَرَ إِنْ رَأَى ابْنَ أَبِي سَرْحٍ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى يَشُدُّ بَعْضُهَا
بَعْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي النَّظَرِ إِلَى الَّتِي لَمْ تَحِضْ مِنَ النِّسَاءِ: لَا يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يشتهي النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فِي النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ لَا يَصْلُحُ إِلَخْ وَقَالَ: النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ، وَسَقَطَ هَذَا الْأَثَرُ وَالَّذِي بَعْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى الْجَوَارِي الَّتِي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِيَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: سُئِلَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ الْجَوَارِي الَّتِي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ، فَكَرِهَ النَّظَرَ إِلَيْهِنَّ، إِلَّا لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَوَصَلَهُ الْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَزَادَ: اللَّاتِي يُطَافُ بِهِنَّ حَوْلَ الْبَيْتِ. قَالَ الْفَاكِهِيُّ: زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يُلَبِّسُونَ الْجَارِيَةَ وَيَطُوفُونَ بِهَا مُسْفِرَةً حَوْلَ الْبَيْتِ لِيُشْهِرُوا أَمْرَهَا وَيُرَغِّبُوا النَّاسَ فِي شِرَائِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (أَرْدَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْفَضْلَ) هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِغَضِّ الْبَصَرِ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا أُمِنَتِ الْفِتْنَةُ لَمْ يَمْتَنِعْ، قَالَ: وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَوِّلْ وَجْهَ الْفَضْلِ حَتَّى أَدْمَنَ النَّظَرَ إِلَيْهَا لِإِعْجَابِهِ بِهَا فَخَشِيَ الْفِتْنَةَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَفِيهِ مُغَالَبَةُ طِبَاعِ الْبَشَرِ لِابْنِ آدَمَ وَضَعْفُهُ عَمَّا رُكِّبَ فِيهِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى النِّسَاءِ وَالْإِعْجَابِ بِهِنَّ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحِجَابِ مَا يَلْزَمُ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ لَوْ لَزِمَ ذَلِكَ جَمِيعَ النِّسَاءِ لَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخَثْعَمِيَّةَ بِالِاسْتِتَارِ وَلَمَا صَرَفَ وَجْهَ الْفَضْلِ. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا لَيْسَ فَرْضًا لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبْدِيَ وَجْهَهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ رَآهُ الْغُرَبَاءُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} عَلَى الْوُجُوبِ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ.
قُلْتُ: وَفِي اسْتِدْلَالِهِ بِقِصَّةِ الْخَثْعَمِيَّةِ لِمَا ادَّعَاهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَةً، وقَوْلُهُ: عَجُزُ رَاحِلَتِهِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ بَعْدهَا زَايٌ أَيْ مُؤَخَّرُهَا، وقَوْلُهُ: وَضِيئًا: أَيْ لِحُسْنِ وَجْهِهِ وَنَظَافَةِ صُورَتِهِ، وقَوْلُهُ: فَأَخْلَفَ يَدَهُ: أَيْ أَدَارَهَا مِنْ خَلْفِهِ، وقَوْلُهُ: بِذَقَنِ الْفَضْلِ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ بَعْدَهَا نُونٌ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَخَذَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْفَضْلَ كَانَ حِينَئِذٍ أَمْرَدَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا؛ فَإِنْ قِيلَ سَمَّاهُ رَجُلًا بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ، قُلْنَا: بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ وَصَفَ حَالَتَهُ حِينَئِذٍ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالْفَضْلُ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ حِينَئِذٍ رَاهَقَ الِاحْتِلَامَ. قُلْتُ: وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَمَّهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْفَضْلَ لَمَّا سَأَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ لِيُصِيبَ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُلُوغِهِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ نَبَتَتْ لِحْيَتُهُ كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَا لِحْيَةَ لَهُ أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا. الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ وَأَبُو عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ، وَزُهَيْرٌ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ هُوَ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي عَامِرٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي عَامِرٍ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَكَأَنَّ لِأَبِي عَامِرٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ زُهَيْرٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زُهَيْرٍ، وَقَدْ مَضَى فِي الْمَظَالِمِ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
قَوْلُهُ: (إِيَّاكُمْ) هُوَ لِلتَّحْذِيرِ.
قَوْلُهُ: (وَالْجُلُوسَ) بِالنَّصْبِ، وقَوْلُهُ بِالطُّرُقَاتِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الطُّرُقَاتِ وَفِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَهِيَ جَمْعُ الطُّرُقِ بِضَمَّتَيْنِ، وَطُرُقٌ جَمْعُ طَرِيقٍ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كُنَّا قُعُودًا بِالْأَفْنِيَةِ جَمْعُ فِنَاءٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَنُونٍ وَمَدٍّ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُتَّسِعُ أَمَامَ الدَّارِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا لَكُمْ وَلِمَجَالِسِ الصُّعُدَاتِ، بِضَمِّ الصَّادِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ صَعِيدٍ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْوَاسِعُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ، وَمِثْلُهُ لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، زَادَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: فَإِنَّهَا سَبِيلٌ مِنْ سَبِيلِ الشَّيْطَانِ أَوِ النَّارِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسنَا بُدٌّ، نَتَحَدَّثُ فِيهَا)، قَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ لَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّرْغِيبِ وَالْأَوْلَى، إِذْ لَوْ فَهِمُوا الْوُجُوبَ لَمْ يُرَاجِعُوهُ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةَ، وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى الْأَوَامِرَ عَلَى الْوُجُوبِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا رَجَوْا وُقُوعَ النَّسْخِ تَخْفِيفًا لِمَا شَكَوْا مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: فَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّهَا عَزْمَةٌ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ: فَقَالُوا: إِنَّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَأْسٍ قَعَدْنَا نَتَحَدَّثُ وَنَتَذَاكَرُ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا أَبَيْتُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِذَا أَبَيْتُمْ بِحَذْفِ الْفَاءِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا الْمَجْلِسَ) كَذَا لِلْجَمِيعِ هُنَا بِلَفْظِ إِلَّا بِالتَّشْدِيدِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْمَظَالِمِ بِلَفْظِ: فَإِذَا أَتَيْتُمْ إِلَى الْمَجَالِسِ بِالْمُثَنَّاةِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ فِي أَتَيْتُمْ وَبِتَخْفِيفِ اللَّامِ مِنْ إِلَى، وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّهُ لِلْجَمِيعِ هُنَاكَ هَكَذَا، وَقَدْ بَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّهُ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَاكَ كَالَّذِي هُنَا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ: إِمَّا لَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَلَا نَافِيَةٌ وَهِيَ مُمَالَةٌ فِي الرِّوَايَةِ وَيَجُوزُ تَرْكُ الْإِمَالَةِ.
وَمَعْنَاهُ إِلَّا تَتْرُكُوا ذَلِكَ فَافْعَلُوا كَذَا، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
افْعَلْ كَذَا إِنْ كُنْتَ لَا تَفْعَلُ كَذَا،
وَدَخَلَتْ مَا صِلَةٌ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ: فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا، وَفِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ.
قَوْلُهُ: (فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ) فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ: حَقَّهَا، وَالطَّرِيقُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَمَنْ جَلَسَ مِنْكُمْ عَلَى الصَّعِيدِ فَلْيُعْطِهِ حَقَّهُ.
قَوْلُهُ: (قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟) فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّهُ.
قَوْلُهُ: (غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) فِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَزَادَ: وَحُسْنُ الْكَلَامِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ وَزَادَ: وَإِرْشَادُ ابْنِ السَّبِيلِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ، وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَكَذَا فِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ مِنَ الزِّيَادَةِ: وَتُغِيثُوا الْمَلْهُوفَ وَتُهْدُوا الضَّالَّ، وَهُوَ عِنْدَ الْبَزَّارِ بِلَفْظِ: وَإِرْشَادُ الضَّالِّ، وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: اهْدُوا السَّبِيلَ، وَأَعِينُوا الْمَظْلُومَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنَ الزِّيَادَةِ: وَأَعِينُوا عَلَى الْحَمُولَةِ، وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ: ذِكْرُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَفِي حَدِيثِ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ: وَاهْدُوا الْأَغْبِيَاءَ وَأَعِينُوا الْمَظْلُومَ. وَمَجْمُوعُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَدَبًا وَقَدْ نَظَمْتُهَا فِي ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ وَهِيَ:
جَمَعْتُ آدَابَ مَنْ رَامَ الْجُلُوسَ عَلَى الطَّـ
…
ـرِيقِ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْخَلْقِ إِنْسَانَا
افْشُ السَّلَامَ وَأَحْسِنْ فِي الْكَلَامِ وَشَمِّـ
…
ـتْ عَاطِسًا وَسَلَامًا رُدَّ إِحْسَانَا
فِي الْحَمْلِ عَاوِنْ وَمَظْلُومًا أَعِنْ وَأَغِثْ
…
لَهْفَانَ اهْدِ سَبِيلًا واهْدِ حَيْرَانَا
بِالْعُرْفِ مُرْ وَانْهَ عَنْ نُكْرٍ وَكُفَّ أَذًى
…
وَغُضَّ طَرْفًا وَأَكْثِرْ ذِكْرَ مَوْلَانَا
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَعْنَى عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْفِتَنِ بِخُطُورِ النِّسَاءِ الشَّوَابِّ وَخَوْفِ مَا يَلْحَقُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِنَّ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ لَمْ يُمْنَعِ النِّسَاءُ مِنَ الْمُرُورِ فِي الشَّوَارِعِ لِحَوَائِجِهِنَّ، وَمِنَ التَّعَرُّضِ لِحُقُوقِ اللَّهِ
وَلِلْمُسْلِمِينَ مِمَّا لَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ وَحَيْثُ لَا يَنْفَرِدُ أَوْ يَشْتَغِلُ بِمَا يَلْزَمهُ، وَمِنْ رُؤْيَةِ الْمَنَاكِيرِ وَتَعْطِيلِ الْمَعَارِفِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عِنْدَ ذَلِكَ.
فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْمَعْصِيَةِ، وَكَذَا يَتَعَرَّضُ لِمَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَثُرَ ذَلِكَ فَيَعْجِزُ عَنِ الرَّدِّ عَلَى كُلِّ مَارٍّ، وَرَدُّهُ فَرْضٌ فَيَأْثَمُ، وَالْمَرْءُ مَأْمُورٌ بِأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلْفِتَنِ وَإِلْزَامِ نَفْسِهِ مَا لَعَلَّهُ لَا يَقْوَى عَلَيْهِ، فَنَدَبَهُمُ الشَّارِعُ إِلَى تَرْكِ الْجُلُوسِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، فَلَمَّا ذَكَرُوا لَهُ ضَرُورَتَهُمْ إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ مِنْ تَعَاهُدِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَمُذَاكَرَتِهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَتَرْوِيحِ النُّفُوسِ بِالْمُحَادَثَةِ فِي الْمُبَاحِ دَلَّهُمْ عَلَى مَا يُزِيلُ الْمَفْسَدَةَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْآدَابِ الْمَذْكُورَةِ شَوَاهِدُ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى: فَأَمَّا إِفْشَاءُ السَّلَامِ فَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَأَمَّا إِحْسَانُ الْكَلَامِ فَقَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ نَدْبٌ إِلَى حُسْنِ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَإِنَّ الْجَالِسَ عَلَى الطَّرِيقِ يَمُرُّ بِهِ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ بَعْضِ شَأْنِهِمْ وَوَجْهِ طُرُقِهِمْ فَيَجِبُ أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ بِالْجَمِيلِ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَا يَتَلَقَّاهُمْ بِالضَّجَرِ وَخُشُونَةِ اللَّفْظِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ كَفِّ الْأَذَى.
قُلْتُ: وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ هَانِئٍ رَفَعَهُ: مِنْ مُوجِبَاتِ الْجَنَّةِ إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ، وَحُسْنُ الْكَلَامِ. وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَفَعَهُ: فِي الْجَنَّةِ غُرَفٌ لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ. الْحَدِيثَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَفَعَهُ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدٌ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ.
وَأَمَّا تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فَمَضَى مَبْسُوطًا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَدَبِ، وَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ فَسَيَأْتِي أَيْضًا قَرِيبًا، وَأَمَّا الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الْحَمْلِ فَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. الْحَدِيثَ؛ وَفِيهِ: وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُهُ عَلَيْهَا وَيَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةً، وَأَمَّا إِعَانَةُ الْمَظْلُومِ فَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ قَرِيبًا، وَلَهُ شَاهِدٌ آخَرُ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ، وَأَمَّا إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ فَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِيهِ: وَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةَ الْمَلْهُوفَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ.
وَأَخْرَجَ الْمُرْهِبِيُّ فِي الْعِلْمِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ فِي حَدِيثِ: وَاللَّهُ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْلَحَ مِنْهُ: وَاللَّهُ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ، وَأَمَّا إِرْشَادُ السَّبِيلِ فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ صَدَقَةٌ، وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ رَفَعَهُ: مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةً أَوْ هَدَّى زُقَاقًا كَانَ لَهُ عِدْلُ عِتْقِ نَسَمَةٍ، وَهَدَّى بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ، وَالزُّقَاقُ بِضَمِّ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَآخِرَهُ قَافٌ مَعْرُوفٌ، وَالْمُرَادُ مَنْ دَلَّ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ عَلَيْهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى دُخُولِهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: وَيُسْمِعُ الْأَصَمَّ وَيَهْدِي الْأَعْمَى وَيَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَأَمَّا هِدَايَةُ الْحَيْرَانِ فَلَهُ شَاهِدٌ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَفِيهِمَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَذْكُورِ قَرِيبًا: وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَأَمَّا كَفُّ الْأَذَى فَالْمُرَادُ بِهِ كَفُّ الْأَذَى عَنِ الْمَارَّةِ بِأَنْ لَا يَجْلِسَ حَيْثُ يَضِيقُ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقُ أَوْ عَلَى بَابِ مَنْزِلِ مَنْ يَتَأَذَّى بِجُلُوسِهِ عَلَيْهِ أَوْ حَيْثُ يَكْشِفُ عِيَالَهُ أَوْ مَا يُرِيدُ التَّسَتُّرَ بِهِ مِنْ حَالِهِ قَالَهُ عِيَاضٌ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَفَّ أَذَى النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
انْتَهَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ: فَكُفَّ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَكَ الصَّدَقَةُ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ، وَأَمَّا غَضُّ الْبَصَرِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ، وَأَمَّا كَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ فَفِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ يَأْتِي بَعْضُهَا فِي الدَّعَوَاتِ.
3 - بَاب السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}
6230 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ، السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ. فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، فَإِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنْ الْكَلَامِ مَا شَاءَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى): هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ بَعْضِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ لَهُ طُرُقٌ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى شَرْطِ الْمُصَنِّفِ فِي الصَّحِيحِ، فَاسْتَعْمَلَهُ فِي التَّرْجَمَةِ وَأَوْرَدَ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ عَلَى شَرْطِهِ وَهُوَ حَدِيثُ التَّشَهُّدِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَكَذَا ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ: {السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} ؛ وَمَعْنَى السَّلَامِ السَّالِمُ مِنَ النَّقَائِصِ، وَقِيلَ الْمُسَلِّمُ لِعِبَادِهِ، وَقِيلَ الْمُسَلِّمُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ. وَأَمَّا لَفْظُ التَّرْجَمَةِ فَأَخْرَجَهُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَزَادَ: وَضَعَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ.
وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَطَرِيقُ الْمَوْقُوفِ أَقْوَى. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَأَلْفَاظُهُمْ سَوَاءٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا: السَّلَامُ اسْمُ اللَّهِ وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَشَاهِدُهُ حَدِيثُ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ، وَقَالَ: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا فِي رَدِّ السَّلَامِ مِنْ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: وَرَحْمَتُ اللَّهِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السَّلَامِ: فَنَقَلَ عِيَاضٌ أَنَّ مَعْنَاهُ اسْمُ اللَّهِ؛ أَيْ كِلَاءَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَحِفْظُهُ، كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ مَعَكَ وَمُصَاحِبُكَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْكَ فِيمَا تَفْعَلُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ اسْمَ اللَّهِ يُذْكَرُ عَلَى الْأَعْمَالِ تَوَقُّعًا لِاجْتِمَاعِ مَعَانِي الْخَيْرَاتِ فِيهَا وَانْتِفَاءِ عَوَارِضِ الْفَسَادِ عَنْهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: السَّلَامَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} ؛ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمُّ عَمْرٍو
…
وَهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِيَ مِنْ سَلَامِ
فَكَأَنَّ الْمُسَلِّمَ أَعْلَمُ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَالِمٌ مِنْهُ وَأَنْ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ: السَّلَامُ يُطْلَقُ بِإِزَاءِ مَعَانٍ، مِنْهَا السَّلَامَةُ، وَمِنْهَا التَّحِيَّةُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، قَالَ: وَقَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ مَحْضًا، وَقَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى السَّلَامَةِ مَحْضًا، وَقَدْ يَأْتِي مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّحِيَّةَ وَالسَّلَامَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}
قَوْلُهُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: أَوْ رُدُّوهَا؛ وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ عُمُومَ الْأَمْرِ بِالتَّحِيَّةِ مَخْصُوصٌ بِلَفْظِ السَّلَامِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ، عَنِ ابْنِ خُوَيْزٍ مِنْدَادٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحِيَّةِ فِي الْآيَةِ الْهَدِيَّةُ لَكِنْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ، عَنِ ابْنِ خُوَيْزٍ مِنْدَادٍ أَنَّهُ ذَكَرَهُ احْتِمَالًا، وَادَّعَى أَنَّهُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمُ احْتَجُّوا بِذَلِكَ بِأَنَّ
السَّلَامَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ بِخِلَافِ الْهَدِيَّةِ فَإِنَّ الَّذِي يُهْدَى لَهُ إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُهْدِيَ أَحْسَنَ مِنْهَا فَعَلَ وَإِلَّا رَدَّهَا بِعَيْنِهَا.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّدِّ رَدُّ الْمِثْلِ لَا رَدُّ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ سَائِغٌ كَثِيرٌ، وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحِيَّةِ فِي الْآيَةِ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَالرَّدُّ عَلَى الْمُشَمِّتِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ حُكْمُ التَّشْمِيتِ وَالرَّدِّ مَأْخُوذٌ مِنْ حُكْمِ السَّلَامِ وَالرَّدِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَحَا إِلَيْهِ مَالِكٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّشَهُّدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ سَلَّمَ لَمْ يُجْزِئْ فِي جَوَابِهِ إِلَّا السَّلَامُ، وَلَا يُجْزِئُ فِي جَوَابِهِ صُبِّحْتَ بِالْخَيْرِ أَوْ بِالسَّعَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ أَتَى فِي التَّحِيَّةِ بِغَيْرِ لَفْظِ السَّلَامِ هَلْ يَجِبُ جَوَابُهُ أَمْ لَا؟ وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ وُجُوبُ الرَّدِّ أَنْ يَسْمَعَ الْمُبْتَدِئُ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، وَلَا يَكْفِي الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ، بَلْ وَرَدَ الزَّجْرُ عَنْهُ؛ وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ: لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْإِشَارَةُ بِالْإِصْبَعِ، وَتَسْلِيمُ النَّصَارَى بِالْأَكُفِّ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ قُلْتُ: وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ الْيَهُودِ، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ بِالرُّءُوسِ وَالْأَكُفِّ وَالْإِشَارَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يَرِدُ عَلَى هَذَا حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَعُصْبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُودٌ فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ؛ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهَا بِلَفْظِ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، انْتَهَى.
وَالنَّهْيُ عَنِ السَّلَامِ بِالْإِشَارَةِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ قَدَرَ عَلَى اللَّفْظِ حِسًّا وَشَرْعًا، وَإِلَّا فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِمَنْ يَكُونُ فِي شُغْلٍ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّلَفُّظِ بِجَوَابِ السَّلَامِ كَالْمُصَلِّي وَالْبَعِيدِ وَالْأَخْرَسِ، وَكَذَا السَّلَامُ عَلَى الْأَصَمِّ وَلَوْ أَتَى بِالسَّلَامِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ، ثَالِثُهَا يَجِبُ لِمَنْ يُحْسِنُ بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّحِيَّةَ بِغَيْرِ لَفْظِ السَّلَامِ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، إِلَّا إِنْ قَصَدَ بِهِ الْعُدُولَ عَنِ السَّلَامِ إِلَى مَا هُوَ أَظْهَرُ فِي التَّعْظِيمِ مِنْ أَجْلِ أَكَابِرِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَيَجِبُ الرَّدُّ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَوْ أَخَّرَ ثُمَّ اسْتَدْرَكَ فَرَدَّ لَمْ يُعَدَّ جَوَابًا، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَجَمَاعَةٌ، وَكَأَنَّ مَحِلَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ. وَيَجِبُ رَدُّ جَوَابِ السَّلَامِ فِي الْكِتَابِ وَمَعَ الرَّسُولِ، وَلَوْ سَلَّمَ الصَّبِيُّ عَلَى بَالِغٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ صَبِيٌّ فَأَجَابَ أَجْزَأَ عَنْهُمْ فِي وَجْهٍ.
4 - بَاب تَسْلِيمِ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ
6231 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ.
[الحديث 6231 - أطرافه في 6232، 6233، 6234]
قَوْلُهُ: (بَابُ تَسْلِيمِ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ) هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَشْمَلُ الْوَاحِدَ بِالنِّسْبَةِ لِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَالِاثْنَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (يُسَلِّمُ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَقَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بِلَفْظِ: لِيُسَلِّمُ وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِيمَا بَعْدَهُ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَوْ دَخَلَ شَخْصٌ مَجْلِسًا فَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ قَلِيلًا يَعُمُّهُمْ سَلَامٌ وَاحِدٌ فَسَلَّمَ كَفَاهُ، فَإِنْ زَادَ فَخَصَّصَ بَعْضَهُمْ
فَلَا بَأْسَ، وَيَكْفِي أَنْ يَرُدَّ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، فَإِنْ زَادَ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا يَنْتَشِرُ فِيهِمْ فَيَبْتَدِئُ أَوَّلَ دُخُولِهِ إِذَا شَاهَدَهُمْ، وَتَتَأَدَّى سُنَّةُ السَّلَامِ فِي حَقِّ جَمِيعِ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ الرَّدُّ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَإِذَا جَلَسَ سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ السَّلَامِ فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الْبَاقِينَ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ جَلَسَ عِنْدَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْهُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا إِنْ عَادَ فَلَا بَأْسَ، وَإِلَّا فَقَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ سُنَّةُ السَّلَامِ لِأَنَّهُمْ جَمْعٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ بِفِعْلِ بَعْضِهِمْ، وَالثَّانِي أَنَّ سُنَّةَ السَّلَامِ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ سَلَامُهُ الْمُتَقَدِّمُ فَلَا يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ مِنَ الْأَوَائِلِ عَنِ الْأَوَاخِرِ.
5 - بَاب يسلم الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي
6232 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّهُ سَمِعَ ثَابِتًا مَوْلَى ابْنِ يزَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: تَسْلِيمُ عَلَى وَفْقِ التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
قَوْلُهُ: (مَخْلَدٌ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (زِيَادٌ) هُوَ ابْنُ سَعْدٍ الْخُرَاسَانِيُّ نَزِيلُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ هُنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ ثَابِتًا مَوْلَى ابْنِ يَزِيدَ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ الَّتِي بَعْدهَا أَنَّ ثَابِتًا أَخْبَرَهُ وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَزَيْدٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ الْخَطَّابِ أَخُو عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلِذَلِكَ نَسَبُوا ثَابِتًا عَدَوِيًّا، وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، عَنِ الْجُرْجَانِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بِزِيَادَةِ يَاءٍ فِي أَوَّلِهِ وَهُوَ وَهَمٌ، وَثَابِتٌ هُوَ ابْنُ الْأَحْنَفِ وَقِيلَ: ابْنُ عِيَاضِ بْنِ الْأَحْنَفِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَحْنَفَ لَقَبُ عِيَاضٍ، وَلَيْسَ لِثَابِتٍ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرُ تَقَدَّمَ فِي الْمُصَرَّاةِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ.
قَوْلُهُ: (يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي): كَذَا ثَبَتَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ كَمَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ، فَكَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَقَدْ وَافَقَ هَمَّامًا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَهُ، وَاجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ وَقَدِ اجْتَمَعَتْ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ حَكَى قَوْلَ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
6 - بَاب يسلم الْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ
6233 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّ ثَابِتًا أَخْبَرَهُ - وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ -، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ يُسَلِّمُ الْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ) ذَكَرَ فِيهِ الْحَدِيثَ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ; وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا لَامٌ بِزِيَادَةٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ
صَحِيحٍ بِلَفْظِ: يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الرَّاجِلِ، وَالرَّاجِلُ عَلَى الْجَالِسِ، وَالْأَقَلُّ عَلَى الْأَكْثَرِ، فَمَنْ أَجَابَ كَانَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَلَا شَيْءَ لَهُ.
7 - بَاب يسلم الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ
6234 -
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ)، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: هُوَ ابْنُ طَهْمَانَ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ. وَقَدْ وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ بِهِ سَوَاءً، وَأَبُو عَمْرٍو هُوَ حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَاشِدٍ السُّلَمِيُّ قَاضِي نَيْسَابُورَ، وَوَصَلَهُ أَيْضًا أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَامِدِ بْنِ الشَّرَفِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصٍ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْكِرْمَانِيِّ: عَبَّرَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ فِي مَقَامِ الْمُذَاكَرَةِ فَغَلَطٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُدْرِكْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ طَهْمَانَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ مَوْلِدِ الْبُخَارِيِّ بِسِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ ظَهَرَ بِرِوَايَتِهِ فِي الْأَدَبِ أَنَّ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَجُلَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ) هُوَ كَذَا فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَهُوَ أَشْمَلُ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ الَّتِي قَبْلَهَا بِلَفْظِ الْمَاشِي لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَارُّ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيِّ، وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ بِلَفْظِ: يُسَلِّمُ الْفَارِسُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَائِمِ، وَإِذَا حُمِلَ الْقَائِمُ عَلَى الْمُسْتَقِرِّ كَانَ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا أَوْ وَاقِفًا أَوْ مُتَّكِئًا أَوْ مُضْطَجِعًا.
وَإِذَا أُضِيفَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ إِلَى الرَّاكِبِ تَعَدَّدَتِ الصُّوَرُ، وَتَبْقَى صُورَةٌ لَمْ تَقَعْ مَنْصُوصَةً وَهِيَ مَا إِذَا تَلَاقَى مَارَّانِ رَاكِبَانِ أَوْ مَاشِيَانِ وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا الْمَازِرِيُّ فَقَالَ: يَبْدَأُ الْأَدْنَى مِنْهُمَا الْأَعْلَى قَدْرًا فِي الدِّينِ إِجْلَالًا لِفَضْلِهِ؛ لِأَنَّ فَضِيلَةَ الدِّينِ مُرَغَّبٌ فِيهَا فِي الشَّرْعِ، وَعَلَى هَذَا لَوِ الْتَقَى رَاكِبَانِ وَمَرْكُوبٌ أَحَدُهُمَا أَعْلَى فِي الْحِسِّ مِنْ مَرْكُوبِ الْآخَرِ كَالْجَمَلِ وَالْفَرَسِ، فَيَبْدَأُ رَاكِبُ الْفَرَسِ، أَوْ يَكْتَفِي بِالنَّظَرِ إِلَى أَعْلَاهُمَا قَدْرًا فِي الدِّينِ فَيَبْتَدِؤُهُ الَّذِي دُونَهُ، هَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ كَمَا لَا نَظَرَ إِلَى مَنْ يَكُونُ أَعْلَاهُمَا قَدْرًا مِنْ جِهَةِ الدُّنْيَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُلْطَانًا يُخْشَى مِنْهُ، وَإِذَا تَسَاوَى الْمُتَلَاقِيَانِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَأْمُورٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْمُتَهَاجِرَيْنِ فِي أَبْوَابِ الْأَدَبِ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: الْمَاشِيَانِ إِذَا اجْتَمَعَا فَأَيُّهُمَا بَدَأَ بِالسَّلَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ. ذَكَرَهُ عَقِبَ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ وَصَرَّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ، وَأَخْرَجَ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ مَرْفُوعًا بِالزِّيَادَةِ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ: قَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ: لَا يَسْبِقْكَ أَحَدٌ إِلَى السَّلَامِ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ، وَقَالَ: حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَلْتَقِي فَأَيُّنَا يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ؟ قَالَ: أَطْوَعُكُمْ لِلَّهِ.
قَوْلُهُ: (وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ) تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ لَكِنْ لَوْ عُكِسَ الْأَمْرُ فَمَرَّ جَمْعٌ كَثِيرٌ عَلَى جَمْعٍ قَلِيلٍ، وَكَذَا لَوْ مَرَّ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، لَمْ أَرَ فِيهِمَا نَصًّا. وَاعْتَبَرَ النَّوَوِيُّ الْمُرُورَ فَقَالَ: الْوَارِدُ يَبْدَأُ سَوَاءً كَانَ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا،
وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْمُهَلَّبِ: إِنَّ الْمَارَّ فِي حُكْمِ الدَّاخِلِ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ مَنْ مَشَى فِي الشَّوَارِعِ الْمَطْرُوقَةِ؛ كَالسُّوقِ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا عَلَى الْبَعْضِ، لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَقِيَ لَتَشَاغَلَ بِهِ عَنِ الْمُهِمِّ الَّذِي خَرَجَ لِأَجْلِهِ وَلَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْعُرْفِ.
قُلْتُ: وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنْتُ أَغْدُو مَعَ ابْنِ عُمَرَ إِلَى السُّوقِ فَلَا يَمُرُّ عَلَى بَيَّاعٍ وَلَا أَحَدٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا تَصْنَعُ بِالسُّوقِ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ وَلَا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ؟ قَالَ: إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ عَلَى مَنْ لَقِيَنَا. لِأَنَّ مُرَادَ الْمَاوَرْدِيِّ مَنْ خَرَجَ فِي حَاجَةٍ لَهُ فَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِمَا ذَكَرَ، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ خَرَجَ لِقَصْدِ تَحْصِيلِ ثَوَابِ السَّلَامِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْحِكْمَةِ فِيمَنْ شُرِعَ لَهُمُ الِابْتِدَاءُ، فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: تَسْلِيمُ الصَّغِيرِ لِأَجْلِ حَقِّ الْكَبِيرِ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِتَوْقِيرِهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ، وَتَسْلِيمُ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ حَقِّ الْكَثِيرِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ أَعْظَمُ، وَتَسْلِيمُ الْمَارِّ لِشَبَهِهِ بِالدَّاخِلِ عَلَى أَهْلِ الْمَنْزِلِ، وَتَسْلِيمُ الرَّاكِبِ لِئَلَّا يَتَكَبَّرَ بِرُكُوبِهِ فَيَرْجِعُ إِلَى التَّوَاضُعِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَاصِلُ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَفْضُولَ بِنَوْعٍ مَا يَبْدَأُ الْفَاضِلَ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: أَمَّا أَمْرُ الرَّاكِبِ فَلِأَنَّ لَهُ مَزِيَّةً عَلَى الْمَاشِي فَعُوِّضَ الْمَاشِي بِأَنْ يَبْدَأَهُ الرَّاكِبُ بِالسَّلَامِ احْتِيَاطًا عَلَى الرَّاكِبِ مِنَ الزَّهْوِ أَنْ لَوْ حَازَ الْفَضِيلَتَيْنِ وَأَمَّا الْمَاشِي فَلِمَا يَتَوَقَّعُ الْقَاعِدُ مِنْهُ مِنَ الشَّرِّ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ رَاكِبًا، فَإِذَا ابْتَدَأَهُ بِالسَّلَامِ أَمِنَ مِنْهُ ذَلِكَ وَأَنِسَ إِلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْحَاجَاتِ امْتِهَانًا فَصَارَ لِلْقَاعِدِ مَزِيَّةً فَأُمِرَ بِالِابْتِدَاءِ، أَوْ لِأَنَّ الْقَاعِدَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْمَارِّينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ فَسَقَطَتِ الْبَدَاءَةُ عَنْهُ لِلْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ الْمَارِّ فَلَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْقَلِيلُ فَلِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ أَوْ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوِ ابْتَدَءُوا لَخِيفَ عَلَى الْوَاحِدِ الزَّهْوُ فَاحْتِيطَ لَهُ، وَلَمْ يَقَعْ تَسْلِيمُ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَكَأَنَّهُ لِمُرَاعَاةِ السِّنِّ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فِي الشَّرْعِ، فَلَوْ تَعَارَضَ الصِّغَرُ الْمَعْنَوِيُّ وَالْحِسِّيُّ كَأَنْ يَكُونُ الْأَصْغَرُ أَعْلَمَ مَثَلًا فِيهِ نَظَرٌ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا. وَالَّذِي يَظْهَرُ اعْتِبَارُ السِّنِّ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ، كَمَا تُقَدَّمُ الْحَقِيقَةُ عَلَى الْمَجَازِ. وَنَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، عَنِ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ مَحِلَّ الْأَمْرِ فِي تَسْلِيمِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ إِذَا الْتَقَيَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا وَالْآخَرُ مَاشِيًا بَدَأَ الرَّاكِبُ، وَإِنْ كَانَا رَاكِبَيْنِ أَوْ مَاشِيَيْنِ بَدَأَ الصَّغِيرُ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتُ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا بِجُزْئِيَّاتٍ تُخَالِفُهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُنْصَبْ نَصْبَ الْعِلَلِ الْوَاجِبَةِ الِاعْتِبَارٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يُعْدَلَ عَنْهَا، حَتَّى لَوِ ابْتَدَأَ الْمَاشِي فَسَلَّمَ عَلَى الرَّاكِبِ لَمْ يَمْتَنِعْ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِلْأَمْرِ بِإِظْهَارِ السَّلَامِ وَإِفْشَائِهِ، غَيْرَ أَنَّ مُرَاعَاةَ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَوْلَى وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ.
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ الْكَرَاهَةُ، بَلْ يَكُونُ خِلَافَ الْأَوْلَى، فَلَوْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِالِابْتِدَاءِ فَبَدَأَهُ الْآخَرُ كَانَ الْمَأْمُورُ تَارِكًا لِلْمُسْتَحَبِّ وَالْآخَرُ فَاعِلًا لِلسُّنَّةِ، إِلَّا إِنْ بَادَرَ فَيَكُونُ تَارِكًا لِلْمُسْتَحَبِّ أَيْضًا. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ خَالَفَ الرَّاكِبُ أَوِ الْمَاشِي مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ كُرِهَ، قَالَ: وَالْوَارِدُ يَبْدَأُ بِكُلِّ حَالٍ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَوْ جَاءَ أَنَّ الْكَبِيرَ يَبْدَأُ الصَّغِيرَ، وَالْكَثِيرَ يَبْدَأُ الْقَلِيلَ لَكَانَ مُنَاسِبًا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الصَّغِيرَ يَخَافُ مِنَ الْكَبِيرِ وَالْقَلِيلَ مِنَ الْكَثِيرِ، فَإِذَا بَدَأَ الْكَبِيرُ وَالْكَثِيرُ أَمِنَ مِنْهُ الصَّغِيرُ وَالْقَلِيلُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْمَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا اعْتُبِرَ جَانِبُ التَّوَاضُعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحَيْثُ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِاسْتِحْقَاقِهِ التَّوَاضُعَ لَهُ اعْتُبِرَ الْإِعْلَامُ بِالسَّلَامَةِ وَالدُّعَاءُ لَهُ رُجُوعًا إِلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، فَلَوْ كَانَ الْمُشَاةُ كَثِيرًا وَالْقُعُودُ قَلِيلًا تَعَارَضَا وَيَكُونُ الْحُكْمُ حُكْمَ اثْنَيْنِ تَلَاقَيَا مَعًا فَأَيُّهُمَا بَدَأَ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَيَحْتَمِلُ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْمَاشِي كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
8 - بَاب إِفْشَاءِ السَّلَامِ
6235 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ. وَنَهَى عَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ، وَنَهَى عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّيِّ وَالْإِسْتَبْرَقِ.
قَوْلُهُ: (بَاب إِفْشَاءِ السَّلَامِ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَسَقَطَ لَفْظُ بَابٍ لِلْبَاقِينَ، وَالْإِفْشَاءُ الْإِظْهَارُ، وَالْمُرَادُ نَشْرُ السَّلَامِ بَيْنَ النَّاسِ لِيُحْيُوا سُنَّتَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِذَا سَلَّمْتَ فَأَسْمِعْ فَإِنَّهَا تَحِيَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَقَلُّهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يُسْمِعَ الْمُسَلَّمَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُسْمِعْهُ لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِالسُّنَّةِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِقَدْرِ مَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ سَمِعَهُ، فَإِنْ شَكَّ اسْتَظْهَرَ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالسَّلَامِ مَا إِذَا دَخَلَ عَلَى مَكَانٍ فِيهِ أَيْقَاظٌ وَنِيَامٌ فَالسُّنَّةُ فِيهِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ الْمِقْدَادِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجِيءُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ نَائِمًا وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ. وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ، عَنِ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ قَالَ: يُكْرَهُ إِذَا لَقِيَ جَمَاعَةً أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ بِالسَّلَامِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِمَشْرُوعِيَّةِ السَّلَامِ تَحْصِيلُ الْأُلْفَةِ، وَفِي التَّخْصِيصِ إِيحَاشٌ لِغَيْرِ مَنْ خُصَّ بِالسَّلَامِ.
قَوْلُهُ: (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَالشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَشْعَثُ هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ فِيهِ وَفِي أَبِيهِ، وَاسْمُ أَبِيهِ سُلَيْمُ بْنُ أَسْوَدَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَخَالَفَهُمْ جَعْفَرُ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ الْحَدِيثَ)، تَقَدَّمَ فِي اللِّبَاسِ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ لَمْ يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ فِي أَكْثَرِهَا، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا ذَكَرَ فِيهِ سَبْعًا مَأْمُورَاتٍ وَسَبْعًا مَنْهِيَّاتٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا إِفْشَاءُ السَّلَامِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ فِي الطِّبِّ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ فِيهِ وَعَوْنُ الْمَظْلُومِ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فِي أَوَاخِرِ الْأَدَبِ وَسَيَأْتِي إِبْرَارُ الْقَسَمِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَسَبَقَ شَرْحُ الْمَنَاهِي فِي الْأَشْرِبَةِ وَفِي اللِّبَاسِ، وَأَمَّا نَصْرُ الضَّعِيفِ الْمَذْكُورِ هُنَا فَسَبَقَ حُكْمُهُ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ هَذَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ بَدَلَهُ إِجَابَةُ الدَّاعِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْوَلِيمَةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: نَصْرُ الضَّعِيفِ مِنْ جُمْلَةِ إِجَابَةِ الدَّاعِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا وَإِجَابَتُهُ نَصْرُهُ، أَوْ أَنْ لَا مَفْهُومَ لِلْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ السَّبْعُ فَتَكُونُ الْمَأْمُورَاتُ ثَمَانِيَةً، كَذَا قَالَ؛ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ إِجَابَةَ الدَّاعِي سَقَطَتْ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّ نَصْرَ الضَّعِيفِ الْمُرَادُ بِهِ عَوْنُ الْمَظْلُومِ الَّذِي ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَ بَعْضَ الْمَأْمُورَاتِ مِنْ غَالِبِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَوْرَدَ الْحَدِيثُ فِيهَا اخْتِصَارًا.
قَوْلُهُ: (وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ) تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ بِلَفْظِ: وَرَدُّ السَّلَامِ، وَلَا مُغَايَرَةَ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ وَرَدَّهُ مُتَلَازِمَانِ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ ابْتِدَاءً يَسْتَلْزِمُ إِفْشَاءَهُ جَوَابًا، وَقَدْ جَاءَ إِفْشَاءُ السَّلَامِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِلَفْظٍ آخَرَ وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنْهُ رَفَعَهُ: أَفْشُوا السَّلَامَ تَسْلَمُوا، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِثْلُهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا تَحَابُّونَ بِهِ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِيهِ أَنَّ مِنْ فَوَائِدِ إِفْشَاءِ السَّلَامِ حُصُولُ الْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُتَسَالِمَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنِ ائْتِلَافِ الْكَلِمَةِ لِتَعُمَّ الْمَصْلَحَةُ بِوُقُوعِ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى إِقَامَةِ شَرَائِعِ الدِّينِ وَإِخْزَاءِ
الْكَافِرِينَ، وَهِيَ كَلِمَةٌ إِذَا سُمِعَتْ أَخْلَصَتِ الْقَلْبَ الْوَاعِيَ لَهَا عَنِ النُّفُورِ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى قَائِلِهَا.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَفَعَهُ: أَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَأَفْشُوا السَّلَامَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَلِلْأَوَّلَيْنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ: اعْبُدُوا الرَّحْمَنَ وَأَفْشُوا السَّلَامَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: تَدْخُلُوا الْجِنَانَ.
وَالْأَحَادِيثُ فِي إِفْشَاءِ السَّلَامِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي إِفْشَاءِ السَّلَامِ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِذَا قَعَدَ أَحَدكُمْ فَلْيُسَلِّمْ، وَإِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الْأُولَى أَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَأَخْرُجُ إِلَى السُّوقِ وَمَا لِي حَاجَةٌ إِلَّا أَنْ أُسَلِّمَ وَيُسَلَّمَ عَلَيَّ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ فَاكْتَفَى بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْأَمْرِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي السَّلَامُ سِرًّا بَلْ يُشْتَرَطُ الْجَهْرُ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يَسْمَعَ فِي الِابْتِدَاءِ وَفِي الْجَوَابِ، وَلَا تَكْفِي الْإِشَارَةُ بِالْيَدِ وَنَحْوُهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ الْيَهُودِ فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ بِالرُّءُوسِ وَالْأَكُفِّ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ حَالَةُ الصَّلَاةِ فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ جَيِّدَةٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَدَّ السَّلَامَ وَهُوَ يُصَلِّي إِشَارَةً، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَجُلًا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - ص لَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي فَرَدَّ عَلَيْهِ إِشَارَةً، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ، وَكَذَا مَنْ كَانَ بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ التَّسْلِيمَ يَجُوزُ السَّلَامُ عَلَيْهِ إِشَارَةً وَيَتَلَفَّظُ مَعَ ذَلِكَ بِالسَّلَامِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يُكْرَهُ السَّلَامُ بِالْيَدِ وَلَا يُكْرَهُ بِالرَّأْسِ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اسْتَدَلَّ بِالْأَمْرِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى التَّعْمِيمِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَقِيَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، فَإِذَا سَقَطَ مِنْ جَانِبَيِ الْعُمُومَيْنِ سَقَطَ مِنْ جَانِبَيِ الْخُصُوصَيْنِ إِذْ لَا قَائِلَ يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ دُونَ الْبَاقِينَ، وَلَا يَجِبُ السَّلَامُ عَلَى وَاحِدٍ دُونَ الْبَاقِينَ، قَالَ: وَإِذَا سَقَطَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَسْقُطْ الِاسْتِحْبَابُ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُمْكِنٌ انْتَهَى.
وَهَذَا الْبَحْثُ ظَاهِرٌ فِي حَقِّ مَنْ قَالَ: إِنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، قَالَ: وَيُسْتَثْنَى مِنَ الِاسْتِحْبَابِ مَنْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِتَرْكِ ابْتِدَائِهِ بِالسَّلَامِ كَالْكَافِرِ. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ: إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ. وَالْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِمُعَادَاةِ الْكَافِرِ؛ فَلَا يُشْرَعُ لَهُ فِعْلُ مَا يَسْتَدْعِي مَحَبَّتَهُ وَمُوَادَدَتَهُ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ التَّسْلِيمُ عَلَى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي مَشْرُوعِيَّةِ السَّلَامِ عَلَى الْفَاسِقِ وَعَلَى الصَّبِيِّ، وَفِي سَلَامِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَعَكْسِهِ، وَإِذَا جَمَعَ الْمَجْلِسُ كَافِرًا وَمُسْلِمًا هَلْ يُشْرَعُ السَّلَامُ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمُسْلِمِ؟ أَوْ يَسْقُطُ مِنْ أَجْلِ الْكَافِرِ؟ وَقَدْ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ لِذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَثْنَى مِنَ الْعُمُومِ بِابْتِدَاءِ السَّلَامِ مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ، أَوْ كَانَ فِي الْخَلَاءِ أَوِ الْحَمَّامِ أَوْ نَائِمًا أَوْ نَاعِسًا أَوْ مُصَلِّيًا أَوْ مُؤَذِّنًا مَا دَامَ مُتَلَبِّسًا بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ اللُّقْمَةُ فِي فَمِ الْآكِلِ مَثَلًا شُرِعَ السَّلَامُ عَلَيْهِ، وَيُشْرَعُ فِي حَقِّ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ.
وَاحْتَجَّ لَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ النَّاسَ غَالِبًا يَكُونُونَ فِي أَشْغَالِهِمْ فَلَوْ رُوعِيَ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلِ امْتِثَالُ الْإِفْشَاءِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: احْتَجَّ مَنْ مَنَعَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ فِي الْحَمَّامِ بِأَنَّهُ بَيْتُ الشَّيْطَانِ وَلَيْسَ مَوْضِعَ التَّحِيَّةِ لِاشْتِغَالِ مَنْ فِيهِ بِالتَّنْظِيفِ. قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْقَوِيِّ فِي
الْكَرَاهَةِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَارٌ فَيُسَلِّمُ وَإِلَّا فَلَا، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. الْحَدِيثَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا السَّلَامُ حَالَ الْخُطْبَةِ فِي الْجُمُعَةِ فَيُكْرَهُ لِلْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ فَلَوْ سَلَّمَ لَمْ يَجِبِ الرَّدُّ عِنْدَ مَنْ قَالَ: الْإِنْصَاتُ وَاجِبٌ، وَيَجِبُ عِنْدَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْمُشْتَغِلُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَوْلَى تَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِ فَإِنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ كَفَاهُ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ، وَإِنْ رَدَّ لَفْظًا اسْتَأْنَفَ الِاسْتِعَاذَةَ وَقَرَأَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُشْرَعُ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالدُّعَاءِ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ مُسْتَجْمِعَ الْقَلْبِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَالْقَارِئِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَتَنَكَّدُ بِهِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ مَشَقَّةِ الْأَكْلِ.
وَأَمَّا الْمُلَبِّي فِي الْإِحْرَامِ فَيُكْرَهُ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَطْعَهُ التَّلْبِيَةَ مَكْرُوهٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ مَعَ ذَلِكَ لَفْظًا أَنْ لَوْ سُلِّمَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَلَوْ تَبَرَّعَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِرَدِّ السَّلَامِ إِنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْبَوْلِ وَنَحْوِهِ فَيُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَ آكِلًا وَنَحْوَهُ فَيُسْتَحَبُّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَجِبُ، وَإِنْ كَانَ مُصَلِّيًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ بِلَفْظِ الْمُخَاطَبَةِ كَعَلَيْكَ السَّلَامُ أَوْ عَلَيْكَ فَقَطْ، فَلَوْ فَعَلَ بَطَلَتْ إِنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ لَا إِنْ جَهِلَ فِي الْأَصَحِّ، فَلَوْ أَتَى بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لَمْ تَبْطُلْ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ بِالْإِشَارَةِ، وَإِنْ رَدَّ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ لَفْظًا فَهُوَ أَحَبُّ، وَإِنْ كَانَ مُؤَذِّنًا أَوْ مُلَبِّيًا لَمْ يُكْرَهْ لَهُ الرَّدُّ لَفْظًا لِأَنَّهُ قَدْرٌ يَسِيرٌ لَا يُبْطِلِ الْمُوَالَاةَ.
وَقَدْ تَعَقَّبَ وَالِدِي رحمه الله فِي نُكَتِهِ عَلَى الْأَذْكَارِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ فِي الْقَارِئِ لِكَوْنِهِ يَأْتِي فِي حَقِّهِ نَظِيرَ مَا أَبْدَاهُ هُوَ فِي الدَّاعِي؛ لِأَنَّ الْقَارِئَ قَدْ يَسْتَغْرِقُ فِكْرِهِ فِي تَدَبُّرِ مَعَانِي مَا يَقْرَؤُهُ، ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْهُ بِأَنَّ الدَّاعِيَ يَكُونُ مُهْتَمًّا بِطَلَبِ حَاجَتِهِ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ طَبْعًا، وَالْقَارِئُ إِنَّمَا يُطْلَبُ مِنْهُ التَّوَجُّهُ شَرْعًا فَالْوَسَاوِسُ مُسَلَّطَةٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ يُوَفَّقُ لِلْحَالةِ الْعَلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى نُدُورٍ، انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مِنْ تَنَكُّدِ الدَّاعِي يَأْتِي نَظِيرُهُ فِي الْقَارِئِ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ إِذَا رَدَّ السَّلَامَ بِالْخِطَابِ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَعَنِ الشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ حَقِيقَةَ الْخِطَابِ بَلِ الدُّعَاءَ، وَإِذَا عَذَرْنَا الدَّاعِيَ وَالْقَارِئَ بِعَدَمِ الرَّدِّ فَرَدَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ كَانَ مُسْتَحَبًّا.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقِرَاءَةِ أَوِ التَّسْبِيحِ أَوْ لِانْتِظَارِهِ الصَّلَاةَ لَا يُشْرَعُ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ سُلِّمَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجِبِ الْجَوَابُ، قَالَ: وَكَذَا الْخَصْمُ إِذَا سَلَّمَ عَلَى الْقَاضِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَكَذَلِكَ الْأُسْتَاذُ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ تِلْمِيذُهُ لَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ، كَذَا قَالَ.
وَهَذَا الْأَخِيرُ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ إِفْشَاءِ السَّلَامِ، السَّلَامُ عَلَى النَّفْسِ لِمَنْ دَخَلَ مَكَانًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَيُسْتَحَبُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ طَرِيقِ كُلٍّ مِنْ عَلْقَمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ مَرَّ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ لَهُ السَّلَامُ وَلَا يَتْرُكُهُ لِهَذَا الظَّنِّ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِتَأْثِيمِ الْآخَرِ فَهُوَ غَبَاوَةٌ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَاتِ الشَّرْعِيَّةَ لَا تُتْرَكُ بِمِثْلِ هَذَا، وَلَوْ أَعْمَلْنَا هَذَا لَبَطَلَ إِنْكَارُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ.
قَالَ: وَيَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ لَهُ بِعِبَارَةٍ لَطِيفَةٍ: رَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَرُدَّ لِيَسْقُطَ عَنْكَ الْفَرْضُ، وَيَنْبَغِي إِذَا تَمَادَى عَلَى التَّرْكِ أَنْ يُحَلِّلَهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَرَجَّحَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ الْمَقَالَةَ الَّتِي زَيَّفَهَا
النَّوَوِيُّ بِأَنَّ مَفْسَدَةَ تَوْرِيطِ الْمُسْلِمِ فِي الْمَعْصِيَةِ أَشَدُّ مِنْ تَرْكِ مَصْلَحَةِ السَّلَامِ عَلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا وَامْتِثَالُ الْإِفْشَاءِ قَدْ حَصَلَ مَعَ غَيْرِهِ.
9 - بَاب السَّلَامِ لِلْمَعْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمَعْرِفَةِ
6236 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ.
6237 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ. وَذَكَرَ سُفْيَانُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّلَامِ لِلْمَعْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمَعْرِفَةِ) أَيْ مَنْ يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ؛ أَيْ لَا يَخُصُّ بِالسَّلَامِ مَنْ يَعْرِفُهُ دُونَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ. وَصَدْرُ التَّرْجَمَةِ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ السَّلَامُ فِيهِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَمُرَّ الرَّجُلُ بِالْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي فِيهِ، وَأَنْ لَا يُسَلِّمَ إِلَّا عَلَى مَنْ يَعْرِفُهُ، وَلَفْظُ الطَّحَاوِيِّ: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ السَّلَامَ لِلْمَعْرِفَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يَزِيدُ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ كَمَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) هُوَ مَرْثَدٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ، تُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِيتَهُ وَلَا تَخُصُّ ذَلِكَ بِمَنْ تَعْرِفُ، وَفِي ذَلِكَ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَاسْتِعْمَالُ التَّوَاضُعِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ شِعَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
قُلْتُ: وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفِ احْتَمَلَ أَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُ مِنْ مَعَارِفِهِ، فَقَدْ يُوقِعُهُ فِي الِاسْتِيحَاشِ مِنْهُ، قَالَ: وَهَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِالْمُسْلِمِ، فَلَا يَبْتَدِئُ السَّلَامَ عَلَى كَافِرٍ. قُلْتُ: قَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَجَازَ ابْتِدَاءَ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَشْرُوعِيَّةُ السَّلَامِ لِلْمُسْلِمِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: مَنْ عَرَفْتَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا: مِنْ لَمْ تَعْرِفْ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، بَلْ إِنْ عَرَفَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَذَاكَ وَإِلَّا فَلَوْ سَلَّمَ احْتِيَاطًا لَمْ يَمْتَنِعْ حَتَّى يَعْرِفَ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي مَشْرُوعِيَّةِ السَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْمَعْرِفَةِ اسْتِفْتَاحٌ لِلْمُخَاطَبَةِ لِلتَّأْنِيسِ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ إِخْوَةً فَلَا يَسْتَوْحِشُ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ، وَفِي التَّخْصِيصِ مَا قَدْ يُوقِعُ فِي الِاسْتِيحَاشِ، وَيُشْبِهُ صُدُودَ الْمُتَهَاجِرَيْنِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ.
وَأَوْرَدَ الطَّحَاوِيُّ فِي الْمُشْكِلِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِهِ، وَفِيهِ: فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ صَلَّى هُوَ وَصَاحِبُهُ -، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهَذَا لَا يُنَافِي حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَمِّ السَّلَامِ لِلْمَعْرِفَةِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو ذَرٍّ سَلَّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ
ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّ حَاجَتَهُ كَانَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ أَبِي بَكْرٍ.
قُلْتُ: وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي لَا يَكْفِي فِي تَخْصِيصِ السَّلَامِ، وَأَقْرَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَقْرِيرِ الشَّرْعِ بِتَعْمِيمِ السَّلَامِ، وَقَدْ سَاقَ مُسْلِمٌ قِصَّةَ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ بِطُولِهَا وَلَفْظُهُ: وجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ وَصَاحِبُهُ ثُمَّ صَلَّى فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ السَّلَامِ فَقَالَ: وَعَلَيْكَ وَرَحْمَتُ اللَّهِ، الْحَدِيثَ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ فَأَتَيْتُهُ فَإِنِّي لَأَوَّلُ النَّاسِ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، مَنْ أَنْتَ؟، وَعَلَى هَذَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ تَوَجَّهَ بَعْدَ الطَّوَافِ إِلَى مَنْزِلِهِ وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ وَحْدَهُ.
ويُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا فِي الْمَبْعَثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِهِ أَنَّهُ قَامَ يَلْتَمِسُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَعْرِفُهُ وَيَكْرَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ فَرَآهُ عَلِيٌّ فَعَرَفَهُ أَنَّهُ غَرِيبٌ، فَاسْتَتْبَعَهُ حَتَّى دَخَلَ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ، الْحَدِيثَ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مُسْتَوْفًى وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالرُّكْنِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّرْجَمَةِ.
10 - بَاب آيَةِ الْحِجَابِ
6238 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قال: كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرًا حَيَاتَهُ، وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ، وَقَدْ كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ ابنة جَحْشٍ: أَصْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا عَرُوسًا، فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنْ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا وَبَقِيَ مِنْهُمْ رَهْطٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَطَالُوا الْمُكْثَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ كَيْ يَخْرُجُوا، فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَشَيْتُ مَعَهُ، حَتَّى جَاءَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، ثُمَّ ظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَجَعْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَتَفَرَّقُوا، فَرَجَعَ النبي صلى الله عليه وسلم وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَظَنَّ أَنْ قَدْ خَرَجُوا، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا، فَأُنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ، فَضَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سِتْرًا.
6239 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ أَبِي:، حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ دَخَلَ الْقَوْمُ فَطَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مِنْ الْقَوْمِ، وَقَعَدَ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُمْ حِينَ قَامَ وَخَرَجَ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومُوا.
6240 -
حَدَّثَني إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: احْجُبْ نِسَاءَكَ. قَالَتْ: فَلَمْ يَفْعَلْ. وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجْنَ لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ - وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً - فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ فَقَالَ: عَرَفْناكِ يَا سَوْدَةُ - حِرْصًا عَلَى أَنْ يُنْزَلَ الْحِجَابُ - قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل آيَةَ الْحِجَابِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ آيَةِ الْحِجَابِ) أَيِ الْآيَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَمْرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالِاحْتِجَابِ مِنَ الرِّجَالِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ، كَذَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الرُّوَاةُ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَخَالَفَهُمْ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ، عَنْ مُعْتَمِرٍ فَقَالَ: فَأُنْزِلَتْ: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَأَشَارَ إِلَى شُذُوذِهِ، فَقَالَ: جَاءَ بِآيَةٍ غَيْرِ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْجَمَاعَةُ.
قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ)، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فِيهِ الْتِفَاتٌ أَوْ تَجْرِيدٌ، وقَوْلُهُ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرًا حَيَاتَهُ: أَيْ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وقَوْلُهُ: وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ، أَيْ بِسَبَبِ نُزُولِهِ، وَإِطْلَاقُ مِثْلِ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلْإِعْلَامِ لَا لِلْإِعْجَابِ، وقَوْلُهُ: وَقَدْ كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِصَاصِهِ بِمَعْرِفَتِهِ، لِأَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَكْبَرُ مِنْهُ عِلْمًا وَسِنًّا وَقَدْرًا، وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: مُعْتَمِرٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، وَقَوْلُهُ: قَالَ أَبِي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مُخَفَّفًا، وَالْقَائِلُ هُوَ مُعْتَمِرٌ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ سَمِعْتُ أَبِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسٍ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ لِسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ حَدِيثٌ عَنْ أَنَسٍ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْ أَنَسٍ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُدَلِّسْ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْبُخَارِيُّ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ) أَيْ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُمْ حِينَ قَامَ وَخَرَجَ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومُوا) ثَبَتَ هَذَا كُلُّهُ لِلْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ هُنَا وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ، وَهُوَ أَوْلَى فَإِنَّهُ أَفْرَدَ لِذَلِكَ تَرْجَمَةً كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ بَابًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ): هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ ابْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ وَقَدْ سَمِعَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الْكَثِيرَ مِنِ ابْنِ شِهَابٍ رُبَّمَا أَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةً كَهَذَا.
قَوْلُهُ: (كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: احْجُبْ نِسَاءَكَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل الْحِجَابَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي نُزُولِ الْحِجَابِ بِسَبَبِ قِصَّةِ زَيْنَبَ أَنَّ عُمَرَ حَرَصَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لِسَوْدَةَ مَا قَالَ، فَاتَّفَقَتِ الْقِصَّةُ لِلَّذِينَ قَعَدُوا فِي الْبَيْتِ فِي زَوَاجِ زَيْنَبَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَكَانَ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ سَبَبًا لِنُزُولِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى الْجَمْعِ بِذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ، فَقَالَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ عُمَرَ تَكَرَّرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ قَبْلَ الْحِجَابِ
وَبَعْدَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ضَمَّ قِصَّةً إِلَى أُخْرَى. قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ عُمَرَ قَامَتْ عِنْدَهُ أَنَفَةٌ مِنْ أَنْ يَطَّلِعَ أَحَدٌ عَلَى حُرُمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ أَنْ يَحْجُبَهُنَّ فَلَمَّا نَزَلَ الْحِجَابُ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ لَا يَخْرُجْنَ أَصْلًا فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ فَأَذِنَ لَهُنَّ أَنْ يَخْرُجْنَ لِحَاجَتِهِنَّ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا.
قَالَ عِيَاضٌ: خُصَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَتْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَاخْتُلِفَ فِي نَدْبِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِنَّ قَالُوا: فَلَا يَجُوزُ لَهُنَّ كَشْفُ ذَلِكَ لِشَهَادَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، قَالَ: وَلَا يَجُوزُ إِبْرَازُ أَشْخَاصِهِنَّ وَإِنْ كُنَّ مُسْتَتِرَاتٍ إِلَّا فِيمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْبَرَازِ، وَقَدْ كُنَّ إِذَا حَدَّثْنَ جَلَسْنَ لِلنَّاسِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَإِذَا خَرَجْنَ لِحَاجَةٍ حُجِبْنَ وَسُتِرْنَ انْتَهَى.
وَفِي دَعْوَى وُجُوبِ حَجْبِ أَشْخَاصِهِنَّ مُطْلَقًا إِلَّا فِي حَاجَةِ الْبَرَازِ نَظَرٌ، فَقَدْ كُنَّ يُسَافِرْنَ لِلْحَجِّ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَفِيهِ بُرُوزُ أَشْخَاصِهِنَّ، بَلْ وَفِي حَالَةِ الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا فِي خُرُوجِهِنَّ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَغَيْرِهِ.
(تَنْبِيهٌ) حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ قِصَّةَ سَوْدَةَ هَذِهِ لَا تَدْخُلُ فِي بَابِ الْحِجَابِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي لِبَاسِ الْجَلَابِيبِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِرْخَاءَ الْجَلَابِيبِ هُوَ السَّتْرُ عَنْ نَظَرِ الْغَيْرِ إِلَيْهِنَّ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْحِجَابِ.
11 - بَاب الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ
6241 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَفِظْتُهُ كَمَا أَنَّكَ هَا هُنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ.
6242 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ أَوْ بِمَشَاقِصَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعُنَهُ
[الحديث 6242 - طرفاه في 6889، 6900]
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ) أَيْ شُرِعَ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ لَوْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَرَأَى بَعْضَ مَا يَكْرَهُ مَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ رَفَعَهُ: لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَوْفِ بَيْتٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ دَخَلَ؛ أَيْ صَارَ فِي حُكْمِ الدَّاخِلِ، وَلِلْأَوَّلَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ رَفَعَهُ: إِذَا دَخَلَ الْبَصَرُ فَلَا إِذْنَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ مَلَأَ عَيْنَهُ مِنْ قَاعِ بَيْتٍ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَقَدْ فَسَقَ.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَتْ عَادَةُ سُفْيَانَ كَثِيرًا حَذْفَ الصِّيغَةِ فَيَقُولُ: فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، لَا يَقُولُ: حَدَّثَنَا وَلَا أَخْبَرَنَا وَلَا عَنْ، وَقَوْلُهُ: حَفِظْتُهُ كَمَا أَنَّكَ هَهُنَا، هُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، لَكِنْ قَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُفْيَانَ فَقَالُوا: عَنِ الزُّهْرِيِّ وَرَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَا: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
عُمَرَ، وَقَوْلُهُ: كَمَا أَنَّكَ هَهُنَا، أَيْ حَفِظْتُهُ حِفْظًا كَالْمَحْسُوسِ لَا شَكَّ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَهْلٍ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَيَأْتِي فِي الدِّيَاتِ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ سَهْلًا أَخْبَرَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ وَوَعَدْتُ بِشَرْحِهِ فِي الدِّيَاتِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرٍ، الْأَوَّلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ كُلُّ ثَقْبٍ مُسْتَدِيرٍ فِي أَرْضٍ أَوْ حَائِطٍ، وَأَصْلُهَا مَكَامِنُ الْوَحْشِ، وَالثَّانِي بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ جَمْعُ حُجْرَةٍ وَهِيَ نَاحِيَةُ الْبَيْتِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حُجْرَةٌ بِالْإِفْرَادِ، وَقَوْلُهُ: مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِهَا، وَالْمِدْرَى تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَقَوْلُهُ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُ. كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِوَزْنِ تَفْتَعِلُ، وَلِلْكُشمِيهَنِيِّ تَنْظُرُ وقَوْلُهُ: مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ وَقَعَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ، كَذَا عِنْدَهُ مُبْهَمٌ، وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَامَ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُ مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ: هَكَذَا عَنْكَ، فَإِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ، ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَظُنُّهُمُ اكْتَفَوْا بِقَرْعِ الْبَابِ. وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا سُتُورٌ.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: بِمِشْقَصٍ أَوْ مَشَاقِصَ، بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَقَافٍ وَصَادٍ مُهْمَلَةٍ، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، هَلْ قَالَهُ شَيْخُهُ بِالْإِفْرَادِ أَوْ بِالْجَمْعِ، وَالْمِشْقَصُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ: نَصْلُ السَّهْمِ إِذَا كَانَ طَوِيلًا غَيْرَ عَرِيضٍ. وقَوْلُهُ: يَخْتِلُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ أَيْ يَطْعَنُهُ وَهُوَ غَافِلٌ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ مَنْ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ أَوْ غَيْرُهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ تَعَمَّدَ النَّظَرَ، وَأَمَّا مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ، فَقَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الثَّانِيَةُ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ، عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَاسِ وَالْعِلَلِ، فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ يَتَعَلَّقُ بِأَشْيَاءَ مَتَى وُجِدَتْ فِي شَيْءٍ وَجَبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، فَمَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِئْذَانَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَعْرَضَ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَحْتَاجُ فِي دُخُولِ مَنْزِلِهِ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا الِاسْتِئْذَانُ.
نَعَمْ لَوِ احْتَمَلَ أَنْ يَتَجَدَّدَ فِيهِ مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَيْهِ شُرِعَ لَهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُشْرَعُ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى الْمَحَارِمِ لِئَلَّا تَكُونَ مُنْكَشِفَةَ الْعَوْرَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ نَافِعٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا بَلَغَ بَعْضُ وَلَدِهِ الْحُلُمَ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: مَا عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهَا، وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ نُذَيْرٍ بِالنُّونِ مُصَغَّرٌ: سَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا رَأَيْتَ مَا تَكْرَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى أُمِّي فَدَخَلَ وَاتَّبَعْتُهُ فَدَفَعَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: تَدْخُلُ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: إِنَّهَا فِي حِجْرِي، قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْآثَارِ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ. وَذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ هَذَا الْحَدِيثَ مِثَالًا لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ.
12 - بَاب زِنَا الْجَوَارِحِ دُونَ الْفَرْجِ
6243 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ: فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ.
[الحديث 6243 - طرفه في 6612]
قَوْلُهُ: (بَابُ زِنَا الْجَوَارِحِ دُونَ الْفَرْجِ): أَيْ أَنَّ الزِّنَا لَا يَخْتَصُّ إِطْلَاقُهُ بِالْفَرْجِ، بَلْ يُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ نَظَرٍ وَغَيْرِهِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حِكْمَةِ النَّهْيِ عَنْ رُؤْيَةِ مَا فِي الْبَيْتِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِتَظْهَرَ مُنَاسَبَتُهُ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَفِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ) هَكَذَا اقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ فَسَاقَهُ مَرْفُوعًا بِتَمَامِهِ، وَكَذَا صَنَعَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ، وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّ سِيَاقَهُمَا سَوَاءٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ وَلَفْظُهُ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ اللَّمَمِ، فَقَالَ: لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ مَوْقُوفًا.
فَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ رِوَايَةَ سُفْيَانَ مَوْقُوفَةٌ وَرِوَايَةَ مَعْمَرٍ مَرْفُوعَةٌ، وَمَحْمُودٌ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَقَدْ أَفْرَدَهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ وَعَلَّقَهُ فِيهِ لِوَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ بَيْنَ طَاوُسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ؛ فَكَأَنَّ طَاوُسًا سَمِعَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْقَدَرِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: سمي النَّظَرُ وَالنُّطْقُ زِنًا لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الزِّنَا الْحَقِيقِيِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتَدَلَّ أَشْهَبُ بِقَوْلِهِ: وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ عَلَى أَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا قَالَ: زَنَتْ يَدُكَ، لَا يُحَدُّ. وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ: يُحَدُّ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَخَالَفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَاحْتَجَّ لِلشَّافِعِيِّ فِيمَا ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّ الْأَفْعَالَ تُضَافُ لِلْأَيْدِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وَقَوْلُهُ: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَتَيْنِ جِنَايَةَ الْأَيْدِي فَقَطْ بَلْ جَمِيعُ الْجِنَايَاتِ اتِّفَاقًا، فَكَأَنَّهُ إِذَا قَالَ: زَنَتْ يَدُكَ، وَصَفَ ذَاتَهُ بِالزِّنَا لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتَبَعَّضُ، اهـ. وَفِي التَّعْلِيلِ الْأَخِيرِ نَظَرٌ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا.
13 - بَاب التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا
6244 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا.
6245 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ "عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ قُلْتُ اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ" فَقَالَ وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ بِهَذَا"
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا) أَيْ سَوَاءٌ اجْتَمَعَا أَوِ انْفَرَدَا، وَحَدِيثُ أَنَسٍ شَاهِدٌ لِلْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى شَاهِدٌ لِلثَّانِي، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَاخْتُلِفَ هَلِ السَّلَامُ شَرْطٌ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَوْ لَا؟ فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: صُورَةُ الِاسْتِئْذَانِ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى التَّسْلِيمِ، كَذَا قَالَ، وَسَيَأْتِي مَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ فِي بَابِ إِذَا قَالَ مَنْ ذَا؟ فَقَالَ: أَنَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ الصَّمَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى أَيِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي بَابِ مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلَاثًا، فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَقَدَّمَ هُنَا السَّلَامَ عَلَى الْكَلَامِ وَهُنَاكَ بِالْعَكْسِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ، وَقَوْلُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: إِنَّ السَّلَامَ إِنَّمَا يُشْرَعُ تَكْرَارُهُ إِذَا اقْتَرَنَ بِالِاسْتِئْذَانِ، وَالتَّعَقُّبِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ السَّلَامَ وَحْدَهُ قَدْ يُشْرَعُ تَكْرَارُهُ إِذَا كَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا وَلَمْ يَسْمَعْ بَعْضُهُمْ وَقَصَدَ الِاسْتِيعَابَ، وَبِهَذَا جَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَنَسٍ، وَكَذَا لَوْ سَلَّمَ وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فَتُسَنُّ الْإِعَادَةُ فَيُعِيدُ مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثَّالِثَةِ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذِهِ الصِّيغَةُ تَقْتَضِي الْعُمُومَ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ الْخُصُوصُ وَهُوَ غَالِبُ أَحْوَالِهِ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْكَرْمَانِيِّ مِثْلُهُ وَفِيهِ نَظَرٌ وَكَانَ بِمُجَرَّدِهَا لَا تَقْتَضِي مُدَاوَمَةً وَلَا تَكْثِيرًا، لَكِنْ ذِكْرُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا يُشْعِرُ بِالتَّكْرَارِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ سَلَّمَ ثَلَاثًا فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ، فَعَنْ مَالِكٍ لَهُ أَنْ يَزِيدَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَزِيدُ اتِّبَاعًا لِظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ هَلْ يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ؟ فَقِيلَ: لَا، وَقِيلَ: نَعَمْ. وَقِيلَ: إِذَا كَانَ الِاسْتِئْذَانُ بِلَفْظِ السَّلَامِ لَمْ يَزِدْ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ السَّلَامِ زَادَ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَصَادٍ مُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ مُصَغَّرٌ، وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي وَاللَّهِ يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، وَشَيْخُهُ بُسْرٌ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الْمُعَلَّقَةِ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، عَنْ سُفْيَانَ بِسَنَدِهِ هَذَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا بِالْمَدِينَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ: إِنِّي لَفِي حَلْقَةٍ فِيهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
قَوْلُهُ: (إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ) فِي رِوَايَةِ عَمْرٍو النَّاقِدِ: فَأَتَانَا أَبُو مُوسَى فَزِعًا أَوْ مَذْعُورًا، وَزَادَ: قُلْنَا مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْتُ بَابَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَسَلَّمْتُ عَلَى بَابِهِ ثَلَاثًا فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ. وَتَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمْ
يُؤْذَنْ لَهُ وَكَأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى، فَفَزِعَ عُمَرُ فَقَالَ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ؟ ائْذَنُوا لَهُ. قِيلَ: إِنَّهُ رَجَعَ، وَفِي رِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ أَمْسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، ثُمَّ جِئْتُ الْيَوْمَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي جِئْتُ أَمْسِ فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا ثُمَّ انْصَرَفْتُ، قَالَ قَدْ سَمِعْنَاكَ وَنَحْنُ حِينَئِذٍ عَلَى شُغْلٍ، فَلَوْ مَا اسْتَأْذَنْتَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكَ؟ قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ كَمَا سَمِعْتُ.
وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ أَبَا مُوسَى أَتَى بَابَ عُمَرَ فَاسْتَأْذَنَ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاحِدَةٌ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ فَقَالَ عُمَرُ: ثِنْتَانِ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ فَقَالَ عُمَرُ: ثَلَاثٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَاتَّبَعَهُ فَرَدَّهُ.
وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي بُرْدَةَ: جَاءَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ هَذَا أَبُو مُوسَى، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْأَشْعَرِيُّ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ: رُدُّوهُ عَلَيَّ، وَظَاهِرُ هَذَيْنِ السِّيَاقَيْنِ التَّغَايُرُ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى عُمَرَ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَفِي الثَّانِي أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ: فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الشُّغْلِ الَّذِي كَانَ فِيهِ تَذَكَّرَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ بِرُجُوعِهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْهُ الرَّسُولُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَجَاءَ هُوَ إِلَى عُمَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اشْتَدَّ عَلَيْكَ أَنْ تَحْتَبِسَ عَلَى بَابِي؟ أَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ كَذَلِكَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحْتَبِسُوا عَلَى بَابِكَ، فَقُلْتُ: بَلِ اسْتَأْذَنْتُ. إِلَخْ، وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ تَأْدِيبَهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ يَحْتَبِسُ عَلَى النَّاسِ فِي حَالِ إِمْرَتِهِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْكُوفَةِ، مَعَ مَا كَانَ عُمَرُ فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى: فَقَالَ عُمَرُ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا؟ قُلْتُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ: إِنَّ هَذَا شَيْءٌ حَفِظْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً) زَادَ مُسْلِمٌ: وَإِلَّا أَوْجَعْتُكَ، وَفِي رِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ: فَوَاللَّهِ لَأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ وَبَطْنَكَ أَوْ لَتَأْتِيَنِّي بِمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ لَتَأْتِيَنِّي عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ: وَإِلَّا جَعَلْتُكَ عِظَةً.
قَوْلُهُ: (أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسِ الْأَنْصَارِ فَسَأَلَهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ؟ قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، فَقُلْتُ: أَتَاكُمْ أَخُوكُمْ وَقَدْ أُفْزِعَ فَتَضْحَكُونَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ أُبَيٌّ) هُوَ ابْنُ كَعْبٍ وَهُوَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (لَا يَقُومُ مَعِي إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ) فِي رِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ: فَوَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَحْدَثُنَا سِنًّا، قُمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقُمْتُ مَعَهُ فَذَهَبْتُ إِلَى عُمَرَ فَشَهِدْتُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ: فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: انْطَلِقْ وَأَنَا شَرِيكُكَ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، وَفِي رِوَايَةِ بُكَيْرِ ابْنِ الْأَشَجِّ: فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا، وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَلَى أَنَّ الَّذِي شَهِدَ لِأَبِي مُوسَى عِنْدَ عُمَرَ، أَبُو سَعِيدٍ، إِلَّا مَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ فَإِنَّ فِيهِ: فَقَامَ مَعِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَوْ أَبُو مَسْعُودٍ إِلَى عُمَرَ، هَكَذَا بِالشَّكِّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: فَقَالَ عُمَرُ: إِنْ وَجَدَ بَيِّنَةً تَجِدُوهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ عَشِيَّةً، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَيِّنَةً فَلَنْ تَجِدُوهُ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ بِالْعَشِيِّ وَجَدَهُ قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى مَا تَقُولُ، أَقَدْ وَجَدْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، قَالَ: عَدْلٌ. قَالَ: يَا أَبَا الطُّفَيْلِ - وَفِي لَفْظٍ لَهُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ - مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ
يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَلَا تَكُون عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَنَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَثبتَ.
هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَطَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى فِيهِ ضَعْفٌ، وَرِوَايَةُ الْأَكْثَرِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةً، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ جَاءَ بَعْدَ أَنْ شَهِدَ أَبُو سَعِيدٍ. وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ زِيَادَةٌ مُفِيدَةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَوْ أَبَا مَسْعُودٍ قَالَ لِعُمَرَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَهُوَ يُرِيدُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ حَتَّى أَتَاهُ، فَسَلَّمَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ الثَّانِيَةَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ الثَّالِثَةَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَقَالَ: قَضَيْنَا مَا عَلَيْنَا، ثُمَّ رَجَعَ، فَأَذِنَ لَهُ سَعْدٌ. الْحَدِيثَ، فَثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ فِعْلِهِ.
وَقِصَّةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ هَذِهِ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مُطَوَّلَةً بِمَعْنَاهُ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ كَذَا فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، عَنْ أَنَسٍ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ طَارِقٍ مَوْلَاةِ سَعْدٍ، وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَلَى أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَحَكَى قِصَّةَ أَبِي مُوسَى عَنْهُ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ الثِّقَةِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى بِالْحَدِيثِ مُخْتَصَرًا دُونَ الْقِصَّةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ بِطُولِهِ، وَصَرَّحَ فِي رِوَايَتِهِ بِسَمَاعِ أَبِي سَعِيدٍ لَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُ: فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إِنْ كَانَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ أَحَدٌ فَلْيَقُمْ مَعِي، فَقَالُوا لِأَبِي سَعِيدٍ: قُمْ مَعَهُ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: رَوَى أَبُو سَعِيدٍ حَدِيثَ الِاسْتِئْذَانِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَهُوَ يَشْهَدُ لَهُ عِنْدَ عُمَرَ فَأَدَّى إِلَى عُمَرَ مَا قَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ، وَكَأَنَّهُ نَسِيَ أَسْمَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَدَّثَ بِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَحْدَهُ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْقِصَّةِ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ. قُلْتُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رَدِّ مَا قَالَ الدَّاوُدِيُّ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ فِي التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَهِيَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ مَالِكٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَكَى قِصَّةَ أَبِي مُوسَى عَنْهُ بَعْدَ وُقُوعِهَا بِدَهْرٍ طَوِيلٍ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ رَوَوْهَا عَنْهُ لَمْ يُدْرِكُوهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ قِصَّةِ أَبِي مُوسَى الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، فَكَأَنَّ الرَّاوِيَ لَمَّا اخْتَصَرَهَا وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَرْفُوعِ خَرَّجَ مِنْهَا أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَغَفَلَ عَمَّا فِي آخِرِهَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَرْفُوعَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَهَذَا مِنْ آفَاتِ الِاخْتِصَارِ، فَيَنْبَغِي لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ أَنْ يَتَفَقَّدَ مِثْلَ هَذَا وَإِلَّا وَقَعَ فِي الْخَطَأِ، وَهُوَ كَحَذْفِ مَا لِلْمَتْنِ بِهِ تَعَلُّقٌ، وَتَخْتَلِفُ الدَّلَالَةُ بِحَذْفِهِ.
وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ لَهُمَا هُوَ مِنَ النَّقَلَةِ لِاخْتِلَاطِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ قِصَّةِ أَبِي مُوسَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّنْ وَافَقَ أَبَا مُوسَى عَلَى رِوَايَةِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ هُوَ سُفْيَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَأَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانَ سَمَاعِ بُسْرٍ لَهُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَكَذَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ عِنْدِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، وَأَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ. حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، سَمِعْتُ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِنْكَارَ عُمَرَ عَلَى أَبِي مُوسَى حَدِيثَهُ الْمَذْكُورَ مَعَ كَوْنِهِ وَقَعَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ فِي هَجْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ فِي الْمَشْرُبَةِ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَلَمَّا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ رَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْإِذْنُ،
وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهِ بِعِلْمِهِ، أَوْ لَعَلَّهُ نَسِيَ مَا كَانَ وَقَعَ لَهُ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: شَغَلَنِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ.
قُلْتُ: وَالصُّورَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لِعُمَرَ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً لِمَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى، بَلِ اسْتَأْذَنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَرَجَعَ فَلَمَّا رَجَعَ فِي الثَّالِثَةِ اسْتُدْعِيَ فَأُذِنَ لَهُ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي أَحَالَ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ فِيمَا قُلْتُهُ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْتُ طُرُقَهُ عِنْدَ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي أَوَاخِرِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا ادَّعَاهُ.
وَتَعَلَّقَ بِقِصَّةِ عُمَرَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْبَلُ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ قَبِلَ خَبَرَ أَبِي سَعِيدٍ الْمُطَابِقَ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنِ ادَّعَى أَنَّ خَبَرَ الْعَدْلِ بِمُفْرَدِهِ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ وَجَهْلٌ بِمَذْهَبِ عُمَرَ، فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي مُوسَى: أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ لَا يَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ أَبَا مُوسَى. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ عُمَرُ، لِأَبِي مُوسَى: أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا آنِفًا: فَقَالَ عُمَرُ، لِأَبِي مُوسَى: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ لَأَمِينًا عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ وَنَحْوَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بُرْدَةَ حِينَ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، لِعُمَرَ: لَا تَكُنْ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ التَّثَبُّتُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ لِمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ السَّهْوِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ بِمُفْرَدِهِ فِي تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا وَأَخْذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَثْبِتُ إِذَا وَقَعَ لَهُ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَضَرَ عِنْدَهُ مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ فَخَشِيَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَخْتَلِقُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ طَلَبًا لِلْمَخْرَجِ مِمَّا يَدْخُلُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْمَخْرَجِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَعْرِفْ أَبَا مُوسَى، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ قَوْلٌ خَرَجَ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ مِنْ قَائِلِهِ وَلَا تَدَبُّرٍ، فَإِنَّ مَنْزِلَةَ أَبِي مُوسَى عِنْدَ عُمَرَ مَشْهُورَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتُلِفَ فِي طَلَبِ عُمَرَ مِنْ أَبِي مُوسَى الْبَيِّنَةَ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ فَذَكَرَهَا، وَغَالِبُهَا مُتَدَاخِلٌ، وَلَا تَزِيدُ عَلَى مَا قَدَّمْتُهُ. وَاسْتُدِلَّ بِالْخَبَرِ الْمَرْفُوعِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الثَّلَاثِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا لَمْ يُسْمَعْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَزِيدَ. وَرَوَى سَحْنُونٌ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ إِلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقِيلَ: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ الثَّلَاثِ لِلْإِبَاحَةِ وَالتَّخْفِيفِ عَنِ الْمُسْتَأْذِنِ، فَمَنِ اسْتَأْذَنَ أَكْثَرَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ قَالَ: الِاسْتِئْذَانُ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ كَذَا قَالَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا اللَّفْظُ. وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِئْذَانِ لَا يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظٍ آخَرَ أَعَادَ، قَالَ: وَالْأَصَحُّ لَا يُعِيدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ فِي ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ فَسَلَّمْتُ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي ثُمَّ سَلَّمْتُ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَتَنَحَّيْتُ نَاحِيَةً فَخَرَجَ عَلَيَّ غُلَامٌ فَقَالَ: ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ، فَقَالَ لِي أَبُو سَعِيدٍ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ زِدْتَ - يَعْنِي عَلَى الثَّلَاثِ - لَمْ يُؤْذَنْ لَكَ. وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ الثَّلَاثِ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: الْأُولَى إِعْلَامٌ، وَالثَّانِيَةُ مُؤَامَرَةٌ وَالثَّالِثَةُ عَزْمَةٌ، إِمَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يُرَدَّ.
قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ صَنِيعِ أَبِي مُوسَى حَيْثُ ذَكَرَ اسْمَهُ أَوَّلًا وَكُنْيَتَهُ ثَانِيًا وَنِسْبَتَهُ ثَالِثًا، أَنَّ الْأُولَى هِيَ الْأَصْلُ، وَالثَّانِيَةَ إِذَا جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْتَبَسَ عَلَى مَنِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، وَالثَّالِثَةَ إِذَا
غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ عَرَفَهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ أَصْلَ الثَّلَاثِ فِي الِاسْتِئْذَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} قَالَ وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي تَفْسِيرِهَا وَإِنَّمَا أَطْبَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ الْأَوْقَاتُ.
قُلْتُ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَامْرَأَتَهُ أَسْمَاءَ بِنْتَ مَرْثَدٍ صَنَعَا طَعَامًا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقْبَحَ هَذَا، إِنَّهُ لَيَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا غُلَامُهُمَا وَهُمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَنَزَلَتْ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ، وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لَهُمْ سُتُورٌ عَلَى أَبْوَابِهِمْ فَرُبَّمَا فَاجَأَ الرَّجُلَ خَادِمُهُ أَوْ وَلَدُهُ وَهُوَ عَلَى أَهْلِهِ فَأُمِرُوا أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ. ثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ فَاتَّخَذُوا السُّتُورَ وَالْحِجَالَ فَرَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمُ اللَّهُ بِهِ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، وَإِنِّي لَآمُرُ جَارِيَتِي أَنْ تَسْتَأْذِنَ عَلَيَّ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ إِذَا سَمِعَ الِاسْتِئْذَانَ أَنْ لَا يَأْذَنَ سَوَاءٌ سَلَّمَ مَرَّةً أَمْ مَرَّتَيْنِ أَمْ ثَلَاثًا إِذَا كَانَ فِي شُغْلٍ لَهُ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ يَتَعَذَّرُ بِتَرْكِ الْإِذْنِ مَعَهُ لِلْمُسْتَأْذِنِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْعَالِمَ الْمُتَبَحِّرَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي وَصْفِهِ بِالْعِلْمِ وَالتَّبَحُّرِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَفِيهِ أَنَّ لِمَنْ تَحَقَّقَ بَرَاءَةَ الشَّخْصِ مِمَّا يَخْشَى مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا يَنَالُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ أَنْ يُمَازِحَهُ وَلَوْ كَانَ قَبْلَ إِعْلَامِهِ بِمَا يَطْمَئِنُّ بِهِ خَاطِرُهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَطُولَ الْفَصْلُ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا فِي إِدَامَةِ تَأَذِّي الْمُسْلِمِينَ بِالْهَمِّ الَّذِي وَقَعَ لَهُ كَمَا وَقَعَ لِلْأَنْصَارِ مَعَ أَبِي مُوسَى، وَأَمَّا إِنْكَارُ أَبِي سَعِيدٍ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ اخْتَارَ الْأُولَى وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِزَالَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ قَبْلَ التَّشَاغُلِ بِالْمُمَازَحَةِ.
14 - بَاب إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ؟ وقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هُوَ إِذْنُهُ
6246 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ. وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، أَخْبَرَنَا مُجَاهِدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ، الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأُذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ)؟ يَعْنِي أَوْ يَكْتَفِي بِقَرِينَةِ الطَّلَبِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هُوَ إِذْنُهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: وَقَالَ شُعْبَةُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَحْفُوظُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَهُوَ إِذْنُهُ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ مِثْلُهُ وَزَادَ: إِلَى طَعَامٍ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يَسْمَعْ قَتَادَةُ مِنْ أَبِي رَافِعٍ، كَذَا فِي اللُّؤْلُؤيِّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَلَفْظُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَبْدِ يُقَالُ: لَمْ يَسْمَعْ قَتَادَةُ مِنْ أَبِي رَافِعٍ شَيْئًا كَذَا قَالَ، وَقَدْ ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا
رَافِعٍ حَدَّثَهُ، وَلِلْحَدِيثِ مَعَ ذَلِكَ مُتَابِعٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ. وَأَخْرَجَ لَهُ شَاهِدًا مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَهُوَ إِذْنُهُ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا وَاعْتَمَدَ الْمُنْذِرِيُّ عَلَى كَلَامِ أَبِي دَاوُدَ فَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا لِأَجْلِ الِانْقِطَاعِ، كَذَا قَالَ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مُنْقَطِعًا لَعَلَّقَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ كَمَا هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ صَنِيعِهِ، وَهُوَ غَالِبًا يَجْزِمُ إِذَا صَحَّ السَّنَدُ إِلَى مَنْ عَلَّقَ عَنْهُ كَمَا قَالَ فِي الزَّكَاةِ: وَقَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذٌ، فَذَكَرَ أَثَرًا، وَطَاوُسٌ لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا. وَكَذَا إِذَا كَانَ فَوْقَ مَنْ عَلَّقَ عَنْهُ مَنْ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ كَمَا قَالَ فِي الطَّهَارَةِ: وَقَالَ بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَحَيْثُ وَقَعَ فِيمَا طَوَاهُ مَنْ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ مَرَّضَهُ كَمَا قَالَ فِي النِّكَاحِ: وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ فَذَكَرَ حَدِيثًا، وَمُعَاوِيَةُ هُوَ جَدُّ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ، الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا. اقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي احْتَاجَ إِلَيْهِ هُنَا، وَسَاقَهُ فِي الرِّقَاقِ بِتَمَامِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَظَاهِرُهُ يُعَارِضُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ، وَجَمَعَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ بِتَنْزِيلِ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ: إِنْ طَالَ الْعَهْدُ بَيْنَ الطَّلَبِ وَالْمَجِيءِ احْتَاجَ إِلَى اسْتِئْنَافِ الِاسْتِئْذَانِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَطُلْ لَكِنْ كَانَ الْمُسْتَدْعِي فِي مَكَانٍ يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْإِذْنِ فِي الْعَادَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِئْنَافِ إِذْنٍ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّ الْأَوَّلَ فِيمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يُسْتَأْذَنُ لِأَجْلِهِ، وَالثَّانِي بِخِلَافِهِ. قَالَ: وَالِاسْتِئْذَانُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَحْوَطُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ حَضَرَ صُحْبَةَ الرَّسُولِ أَغْنَاهُ اسْتِئْذَانُ الرَّسُولِ وَيَكْفِيهِ سَلَامُ الْمُلَاقَاةِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنِ الرَّسُولِ احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ. وَبِهَذَا جَمَعَ الطَّحَاوِيُّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: فَأَقْبَلُوا فَاسْتَئْذَنُوا فَدَلَّ ع لَى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ وَإِلَّا لَقَالَ: فَأَقْبَلْنَا، كَذَا قَالَ.
15 - بَاب التَّسْلِيمِ عَلَى الصِّبْيَانِ
6247 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّسْلِيمِ عَلَى الصِّبْيَانِ) سَقَطَ لَفْظُ بَابٍ لِأَبِي ذَرٍّ وَكَأَنَّهُ تَرْجَمَ بِذَلِكَ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ لَا يُشْرَعُ لِأَنَّ الرَّدَّ فَرْضٌ وَلَيْسَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ لَا يَرَى التَّسْلِيمَ عَلَى الصِّبْيَانِ، وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَلَا يُسْمِعُهُمْ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَيَّارٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ هُوَ أَبُو الْحَكَمِ مَشْهُورٌ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ مَعًا فَيَجِيءُ غَالِبًا هَكَذَا عَنْ سَيَّارٍ أَبِي الْحَكَمِ، وَهُوَ عَنَزِيٌّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ بَعْدَهَا زَايٌ وَاسِطِيٌّ مِنْ طَبَقَةِ الْأَعْمَشِ، وَتَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُ عَلَى وَفَاةِ شَيْخِهِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ بِسَنَةٍ وَقِيلَ أَكْثَرُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ثَابِتٍ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ. وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَمْ يُسْنِدْ سَيَّارٌ، عَنْ ثَابِتٍ غَيْرُهُ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ، وَقَدْ حَدَّثَ شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ نَفْسِهِ بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا مِنْهُ فَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً.
وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ أَيْضًا عَنْ آخَرَ اسْمُهُ سَيَّارٌ وَهُوَ ابْنُ سَلَامَةَ أَبُو الْمِنْهَالِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ هُنَا، وَلَمْ نَقِفْ لَهُ عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ ثَابِتٍ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ
بِأَتَمَّ مِنْ سِيَاقِهِ، وَلَفْظِهِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزُورُ الْأَنْصَارَ فَيُسَلِّمُ عَلَى صِبْيَانِهِمْ وَيَمْسَحُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، بِخِلَافِ سِيَاقِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَاءِ الصِّبْيَانِ الْمَذْكُورِينَ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ بِلَفْظِ غِلْمَانٍ بَدَلَ صِبْيَانٍ، وَوَقَعَ لِابْنِ السُّنِّيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ مَطَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ بِلَفْظِ: فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا صِبْيَانُ وَعُثْمَانُ وَاهٍ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: انْتَهَى إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا غُلَامٌ فِي الْغِلْمَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَأَرْسَلَنِي بِرِسَالَةٍ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ حِفْظِ السِّرِّ وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ نَحْوُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَفْظُهُ: وَنَحْنُ صِبْيَانٌ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، وَأَرْسَلَنِي فِي حَاجَةٍ، وَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ يَنْتَظِرُنِي حَتَّى رَجَعْتُ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي السَّلَامِ عَلَى الصِّبْيَانِ تَدْرِيبُهُمْ عَلَى آدَابِ الشَّرِيعَةِ. وَفِيهِ طَرْحُ الْأَكَابِرِ رِدَاءَ الْكِبْرِ وَسُلُوكُ التَّوَاضُعِ وَلِينُ الْجَانِبِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ مَنْ سَلَّمَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الرَّدُّ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ، وَيَنْبَغِي لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالرَّدِّ لِيَتَمَرَّنَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمْعٍ فِيهِمْ صَبِيٌّ فَرَدَّ الصَّبِيُّ دُونَهُمْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمُ الْفَرْضُ، وَكَذَا قَالَ شَيْخُهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَرَدَّهُ الْمُسْتَظْهِرِيُّ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَصَحُّ لَا يُجْزِئُ، وَلَوِ ابْتَدَأَ الصَّبِيُّ بِالسَّلَامِ وَجَبَ عَلَى الْبَالِغِ الرَّدُّ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْتُ: وَيُسْتَثْنَى مِنَ السَّلَامِ عَلَى الصَّبِيِّ مَا لَوْ كَانَ وَضِيئًا وَخُشِيَ مِنَ السَّلَامِ عَلَيْهِ الِافْتِتَانُ فَلَا يُشْرَعُ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مُرَاهِقًا مُنْفَرِدًا.
16 - بَاب تَسْلِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ
6248 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قُلْتُ لسهل: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ - نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ - فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا، فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ، وَمَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ.
6249 -
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ قَالَتْ قُلْتُ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَرَى مَا لَا نَرَى تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"
تَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَقَالَ يُونُسُ وَالنُّعْمَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ "وَبَرَكَاتُهُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ تَسْلِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى رَدِّ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُسَلِّمَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ وَالنِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ. وَهُوَ مَقْطُوعٌ أَوْ مُعْضَلٌ، وَالْمُرَادُ بِجَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ، وَذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ يُؤْخَذُ الْجَوَازُ مِنْهُمَا، وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ: مَرَّ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ فَاكْتَفَى بِمَا هُوَ عَلَى شَرْطِهِ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: كَانَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْعِصْمَةِ مَأْمُونًا مِنَ الْفِتْنَةِ، فَمَنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالسَّلَامَةِ فَلْيُسَلِّمْ وَإِلَّا فَالصَّمْتُ أَسْلَمُ.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا: يُسَلِّمُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا يسَلِّمُ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ، وَسَنَدُهُ وَاهٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ مِثْلُهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَاسْمُ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِيَوْمِ بِزِيَادَةِ مُوَحَّدَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ بِلَفْظِ: كُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَذَكَرَ سَبَبَ الْحَدِيثِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: كُنَّا نَفْرَحُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِسَهْلٍ: وَلِمَ)؟ بِكَسْرِ اللَّامِ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْقَائِلُ هُوَ أَبُو حَازِمٍ رَاوِي الْحَدِيثِ وَالْمُجِيبُ هُوَ سَهْلٌ.
قَوْلُهُ: (كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ) فِي الْجُمُعَةِ امْرَأَةٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا.
قَوْلُهُ: (تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وَبِتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: نَخْلٌ بِالْمَدِينَةِ) الْقَائِلُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَهُوَ الْقَعْنَبِيُّ، وَفَسَّرَ بُضَاعَةَ بِأَنَّهَا نَخْلٌ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّخْلِ الْبُسْتَانُ، وَلِذَلِكَ كَانَ يُؤْتَى مِنْهَا بِالسِّلْقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ أَنَّه كَانَتْ مَزْرَعَةً لِلْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَفَسَّرَهَا غَيْرُهُ بِأَنَّهَا دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ، وَبِهَا بِئْرٌ مَشْهُورَةٌ وَبِهَا مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ الْمَدِينَةِ، كَذَا قَالَ عِيَاضٌ وَمُرَادُهُ بِالْمَالِ الْبُسْتَانُ وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ بِئْرُ بُسْتَانٍ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي سَعِيدٍ فِي حَدِيثِهِ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ أَنَّهَا كَانَتْ تُطْرَحُ فِيهَا خِرَقُ الْحُيَّضِ وَغَيْرُهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُطْرَحُ فِي الْبُسْتَانِ فَيُجْرِيهَا الْمَطَرُ وَنَحْوُهُ إِلَى الْبِئْرِ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ رَأَى بِئْرَ بُضَاعَةَ وَزَرْعَهَا وَرَأَى مَاءَهَا وَبَسَطَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ سُنَنِهِ، وَادَّعَى لطَّحَاوِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ سَيْحًا وَرَوَى ذَلِكَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِيعَابِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فِي قِدْرٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الْقِدْرِ (وَتُكَرْكِرُ) أَيْ تَطْحَنُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْكَرْكَرَةُ الطَّحْنُ وَالْجَشُّ، وَأَصْلُهُ الْكَرُّ، وَضُوعِفَ لِتَكْرَارِ عَوْدِ الرَّحَى فِي الطَّحْنِ مَرَّةً أُخْرَى، وَقَدْ تَكُونُ الْكَرْكَرَةُ بِمَعْنَى الصَّوْتِ كَالْجَرْجَرَةِ، وَالْكَرْكَرَةُ أَيْضًا شِدَّةُ الصَّوْتِ لِلضَّحِكِ حَتَّى يَفْحُشَ وَهُوَ فَوْقَ الْقَرْقَرَةِ.
قَوْلُهُ: (حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ) بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ أَنَّهَا قَبْضَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ شَرْحِهِ هُنَاكَ.
الْحَدِيثَ الثَّانِي:
قَوْلُهُ: (ابْنُ مُقَاتِلٍ) هُوَ مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ الدَّاوُدِيَّ اعْتَرَضَ فَقَالَ: لَا يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ رِجَالٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ذَكَّرَهُمْ بِالتَّذْكِيرِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صُورَةِ الرَّجُلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: سَلَامُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ جَائِزٌ إِذَا أُمِنَتِ الْفِتْنَةُ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَمَنَعَ مِنْهُ رَبِيعَةُ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يُشْرَعُ لِلنِّسَاءِ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ عَلَى الرِّجَالِ لِأَنَّهُنَّ مُنِعْنَ مِنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ، قَالُوا: وَيُسْتَثْنَى الْمَحْرَمُ فَيَجُوزُ لَهَا السَّلَامُ عَلَى مَحْرَمِهَا. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَحُجَّةُ مَالِكٍ حَدِيثُ سَهْلٍ فِي الْبَابِ، فَإِنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ كَانُوا يَزُورُونَهَا وَتُطْعِمُهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ مَحَارِمِهَا انْتَهَى.
وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ أَوْ مَحْرَمٌ أَوْ أَمَةٌ فَكَالرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً نَظَرَ: إِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً يُخَافُ الِافْتِتَانُ بِهَا لَمْ يُشْرَعِ السَّلَامُ لَا ابْتِدَاءً وَلَا جَوَابًا، فَلَوِ ابْتَدَأَ أَحَدُهُمَا كُرِهَ لِلْآخَرِ الرَّدُّ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا يُفْتَتَنُ بِهَا جَازَ. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْصِيلُ فِي الشَّابَّةِ بَيْنَ الْجَمَالِ وَعَدَمِهِ، فَإِنَّ الْجَمَالَ مَظِنَّةُ الِافْتِتَانِ،
بِخِلَافِ مُطْلَقِ الشَّابَّةِ. فَلَوِ اجْتَمَعَ فِي الْمَجْلِسِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ جَازَ السَّلَامُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ شُعَيْبٌ، وَقَالَ يُونُسُ، وَالنُّعْمَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَبَرَكَاتُهُ) أَمَّا مُتَابَعَةُ شُعَيْبٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الرِّقَاقِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ يُونُسَ وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ فَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ بِتَمَامِهِ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ النُّعْمَانِ وَهُوَ ابْنُ راشدٍ فَوَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَوَقَعَتْ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي جُزْءِ هِلَالٍ الْحَفَّارِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: قَدْ أَخْرَجْنَا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: وَبَرَكَاتُهُ وَكَانَ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْبُنَانِيِّ وَمِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَكَذَا قَالَ عُقَيْلٌ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
17 - بَاب إِذَا قَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقَالَ: أَنَا
6250 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرا رضي الله عنه يَقُولُ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: أَنَا أَنَا، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقَالَ: أَنَا) سَقَطَ لَفْظُ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْكَرَاهَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ عَنْ شُعْبَةَ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُطَوَّلًا.
قَوْلُهُ: (فَدَقَقْتُ) بِقَافَيْنِ لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: فَدَفَعْتُ بِفَاءٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَضَرَبْتُ الْبَابَ، وَهِيَ تُؤَيِّدُ رِوَايَةَ فَدَقَقْتُ بِالْقَافَيْنِ، وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِمُسْلِمٍ فِي أُخْرَى: دَعَوْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: أَنَا. فَقَالَ: أَنَا أَنَا، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا أَنَا، وَفِي أُخْرَى: كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ: كَرِهَ ذَلِكَ بِالْجَزْمِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا كَرِهَ قَوْلَ أَنَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُسْتَأْذِنُ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْمُسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ صَوْتَهُ وَلَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ، وَالْغَالِبُ الِالْتِبَاسُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ جَابِرًا لَمْ يَسْتَأْذِنْ بِلَفْظِ السَّلَامِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ طَلَبَ الدُّخُولَ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي حَاجَتِهِ فَدَقَّ الْبَابَ لِيُعْلِمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَجِيئِهِ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ لَهُ.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنَّمَا كَرِهَهُ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَهُ بِغَيْرِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ الْبَابَ عَرَفَ أَنَّ ثُمَّ ضَارِبًا، فَلَمَّا قَالَ: أَنَا، كَأَنَّهُ أَعْلَمَهُ أَنَّ ثَمَّ ضَارِبًا فَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى مَا عَرَفَ مَنْ ضَرَبَ الْبَابَ، قَالَ: وَكَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَعَلَّهُ رَأَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ يَنُوبُ عَنْ ضَرْبِ الْبَابِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الدَّاخِلَ قَدْ يَكُونُ لَا يَسْمَعُ الصَّوْتَ بِمُجَرَّدِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى ضَرْبِ الْبَابِ لِيَبْلُغَهُ صَوْتُ الدَّقِّ فَيَقْرُبَ أَوْ يَخْرُجَ فَيَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَكَلَامُهُ الْأَوَّلُ سَبَقَهُ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: قَوْلُهُ: أَنَا لَا يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ وَلَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَا اسْتَعْمَلَهُ وَكَانَ حَقَّ الْجَوَابِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا جَابِرٌ؛ لِيَقَعَ تَعْرِيفُ الِاسْمِ الَّذِي وَقَعَتِ الْمَسْأَلَةُ عَنْهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَسْجِدَ وَأَبُو مُوسَى يَقْرَأُ. قَالَ: فَجِئْتُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَنَا بُرَيْدَةُ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ: جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ الْحَدِيثُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى، قَالَ
النَّوَوِيُّ: إِذَا لَمْ يَقَعِ التَّعْرِيفُ إِلَّا بِأَنْ يَكُنِّيَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ، وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوِ الْقَارِئُ فُلَانٌ أَوِ الْقَاضِي فُلَانٌ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّمْيِيزُ إِلَّا بِذَلِكَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ السَّبَبَ فِي كَرَاهَةِ قَوْلِ: أَنَا أَنَّ فِيهَا نَوْعًا مِنَ الْكِبْرِ، كَأَنَّ قَائِلَهَا يَقُولُ: أَنَا الَّذِي لَا أَحْتَاجُ أَذْكُرُ اسْمِي وَلَا نَسَبِي.
وَتَعَقَّبَهُ مُغْلَطَايْ بِأَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي حَقِّ جَابِرٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ ذَلِكَ لِئَلَّا يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ وَيَعْتَادَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَشْرُوعِيَّةُ دَقِّ الْبَابِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ هَلْ كَانَ بِآلَةٍ أَوْ بِغَيْرِ آلَةٍ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ أَبْوَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تُقْرَعُ بِالْأَظَافِيرِ.
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَهَذَا مَحْمُولٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَدَبِ، وَهُوَ حَسَنٌ لِمَنْ قَرُبَ مَحَلُّهُ مِنْ بَابِهِ، أَمَّا مَنْ بَعُدَ عَنِ الْبَابِ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُهُ صَوْتُ الْقَرْعِ بِالظُّفْرِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَعَ بِمَا فَوْقَ ذَلِكَ بِحَسَبِهِ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ السَّبَبَ فِي قَرْعِهِمْ بَابَهُ بِالْأَظَافِيرِ أَنَّ بَابَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حِلَقٌ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ فَعَلُوهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَوْقِيرًا وَإِجْلَالًا وَأَدَبًا.
18 - بَاب مَنْ رَدَّ فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: رَدَّ الْمَلَائِكَةُ عَلَى آدَمَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُ اللَّهِ
6251 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَي رَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ - وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ - فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ - أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا - عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا.
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ فِي الْأَخِيرِ: حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا.
6252 -
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَدَّ فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى مَنْ قَالَ: لَا يُقَدَّمُ عَلَى لَفْظِ السَّلَامِ شَيْءٌ، بَلْ يَقُولُ فِي الِابْتِدَاءِ وَالرَّدِّ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَوْ مَنْ قَالَ: لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْإِفْرَادِ بَلْ يَأْتِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، أَوْ مَنْ قَالَ لَا يَحْذِفُ الْوَاوَ بَلْ يُجِيبُ بِوَاوِ الْعَطْفِ فَيَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، أَوْ مَنْ قَالَ: يكْفِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى عَلَيْكَ بِغَيْرِ لَفْظِ السَّلَامِ، أَوْ مَنْ قَالَ: لَا يَقْتَصِرُ عَلَى عَلَيْكَ السَّلَامُ؛ بَلْ يَزِيدُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ.
وَهَذِهِ خَمْسَةُ
مَوَاضِعَ جَاءَتْ فِيهَا آثَارٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا، فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَاضِي أَنَّ السَّلَامَ اسْمُ اللَّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَدَّمَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ، نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُبْتَدِئَ لَوْ قَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ لَمْ يُجْزِئْ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ، عَنِ الْمُتَوَلِّي أَنَّ مَنْ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ لَا يَكُونُ سَلَامًا وَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا، وَتَعَقَّبَهُ بِالرَّدِّ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ بِتَقْدِيمِ لَفْظِ عَلَيْكُمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَلَوْ أَسْقَطَ الْوَاوَ فَقَالَ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَهُوَ سَلَامٌ، وَيَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، وَإِنْ كَانَ قَلَبَ اللَّفْظَ الْمُعْتَادَ.
هَكَذَا جَعَلَ النَّوَوِيُّ الْخِلَافَ فِي إِسْقَاطِ الْوَاوِ وَإِثْبَاتِهَا، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي تَقْدِيمِ عَلَيْكُمْ عَلَى السَّلَامِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ الْوَاحِدِيِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي التَّحَلُّلِ بِلَفْظِ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، وَالْأَصَحُّ الْحُصُولُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جُرَيٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي قُرَّةُ بْنُ إِيَاسٍ الْمُزَنِيُّ الصَّحَابِيُّ: إِذَا مَرَّ بِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَلَا تَقُلْ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، فَتَخُصَّهُ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَحْدَهُ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَوْ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي الرَّدُّ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ تَقْتَضِي التَّعْظِيمَ فَلَا يَكُونُ امْتَثَلَ الرَّدُّ بِالْمِثْلِ فَضْلًا عَنِ الْأَحْسَنِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْمُجِيبَ لَوْ قَالَ: عَلَيْكَ بِغَيْرِ وَاوٍ لَمْ يُجْزِئْ، وَإِنْ قَالَ بِالْوَاوِ فَوَجْهَانِ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ يَقُولُ: وَعَلَيْكَ وَرَحْمَتُ اللَّهِ. وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةٍ سَأَذْكُرُهَا فِي بَابِ كَيْفَ الرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَأَمَّا الْخَامِسُ: فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا فِي بَابِ تَسْلِيمِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَفِيهِ بَيَانُ مَنْ زَادَ فِيهِ وَبَرَكَاتُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: رَدُّ الْمَلَائِكَةِ عَلَى آدَمَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُ اللَّهِ) هَذَا طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَجَزَمَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا اللَّفْظِ مِمَّا يُقَوِّي رِوَايَةَ الْأَكْثَرِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ.
قَوْلُهُ: (عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْعُمَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) قَدْ قَالَ فِيهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهِيَ رِوَايَةُ يَحْيَى الْقَطَّانِ الْمَذْكُورَةُ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَبَيَّنْتُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَيُّ الرِّوَايَتَيْنِ أَرْجَحُ.
قَوْلُهُ: (إنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ) الْحَدِيثُ فِي قِصَّةِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قولُهُ فِيهِ: ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ارْجِعْ وَتَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ بِلَفْظِ: فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَقَالَ وَعَلَيْكَ، وَسَقَطَ ذَلِكَ أَصْلًا مِنَ الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى فِي: بَابِ أَمْرِ الَّذِي لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ بِالْإِعَادَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ فِي الْأَخِيرِ: حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا) وَصَلَ الْمُصَنِّفُ رِوَايَةَ أَبِي أُسَامَةَ هَذِهِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ النُّكْتَةَ فِي اقْتِصَارِ الْبُخَارِيِّ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا فِي الْأَخِيرِ: ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا فَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ رَاوِيَهَا خُولِفَ فَذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي أُسَامَةَ مُشِيرًا إِلَى تَرْجِيحِهَا. وَأَجَابَ الدَّاوُدِيُّ عَنْ أَصْلِ الْإِشْكَالِ بِأَنَّ الْجَالِسَ قَدْ يُسَمَّى قَائِمًا؛ لِقولِهِ تَعَالَى: {مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ التَّعْلِيمَ إِنَّمَا وَقَعَ لِبَيَانِ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَالَّذِي يَلِيهَا هُوَ الْقِيَامُ، يَعْنِي فَيَكُونُ قَوْلُهُ: حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، هُوَ الْمُعْتَمَدَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الدَّاوُدِيَّ عَرَفَ ذَلِكَ وَجَعَلَ الْقِيَامَ مَحْمُولًا عَلَى الْجُلُوسِ وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ، وَالْإِشْكَالُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا
وَجِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً لَا تُشْرَعُ الطُّمَأْنِينَةُ فِيهَا، فَلِذَلِكَ احْتَاجَ الدَّاوُدِيُّ إِلَى تَأْوِيلِهِ، لَكِنَّ الشَّاهِدَ الَّذِي أَتَى بِهِ عَكَسَ الْمُرَادَ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ هُنَا أَنْ يَأْتِيَ بَشَاهِدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ قَدْ يُسَمَّى جُلُوسًا، وَفِي الْجُمْلَةِ الْمُعْتَمَدُ للتَّرْجِيحُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَصَرَّحَ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّشَهُّدَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6252 حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأَخِيرَةِ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا) هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَسَاقَهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ بِتَمَامِهِ.
19 - بَاب إِذَا قَالَ: فُلَانٌ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ
6253 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: إِنَّ جِبْرِيلَ يُقْرِأ عليكِ السَّلَامَ. قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ فُلَانٌ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَهُوَ لَفْظُ حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي مَنَاقِبِ عَائِشَةَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَهِيَ: اقْرَأِ السَّلَامَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ إِرْسَالِ السَّلَامِ، وَيَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ تَبْلِيغُهُ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ بِالْوَدِيعَةِ أَشْبَهُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرَّسُولَ إِنِ الْتَزَمَهُ أَشْبَهَ الْأَمَانَةَ وَإِلَّا فَوَدِيعَةٌ وَالْوَدَائِعُ إِذَا لَمْ تُقْبَلْ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. قَالَ: وَفِيهِ إِذَا أَتَاهُ شَخْصٌ بِسَلَامٍ مِنْ شَخْصٍ أَوْ فِي وَرَقَةٍ وَجَبَ الرَّدُّ عَلَى الْفَوْرِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُبَلِّغِ كَمَا أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَنَّهُ بَلَّغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَلَامَ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ: وَعَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ أَنَّ خَدِيجَةَ لَمَّا بَلَّغَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ جِبْرِيلَ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهَا قَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَمِنْهُ السَّلَامُ، وَعَلَيْكَ وَعَلَى جِبْرِيلَ السَّلَامُ وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا رَدَّتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ حَدِيثُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ فَتًى مِنْ أَسْلَمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ الْجِهَادَ، فَقَالَ: ائْتِ فُلَانًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: ادْفَعْ إِلَيَّ مَا تَجَهَّزْتَ بِهِ.
20 - بَاب التَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ
6254 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ - وَذَلِكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ - حَتَّى مَرَّ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ، وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا. فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ
سَلُولَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَلَا تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ: أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ - يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ - قَالَ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاصْفَحْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الَّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُونَهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ. فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَاب التَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ: ابْنُ سَلُولَ، هِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ هَوَازِنَ وَهُوَ اسْمُ أُمِّهِ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْصَرِفُ. قُلْتُ: وَمُرَادُهُ أَنَّ اسْمَ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَافَقَ اسْمَ الْقَبِيلَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا أَنَّهُمَا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ. وَفِيهِ: حَتَّى مَرَّ فِي مَجْلِس فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ: فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا فِي بَابِ كُنْيَةِ الْمُشْرِكِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: السُّنَّةُ إِذَا مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ أَنْ يُسَلِّمَ بِلَفْظِ التَّعْمِيمِ وَيَقْصِدُ بِهِ الْمُسْلِمَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِثْلُهُ إِذَا مَرَّ بِمَجْلِسٍ يَجْمَعُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَبِمَجْلِسٍ فِيهِ عُدُولٌ وَظَلَمَةٌ، وَبِمَجْلِسٍ فِيهِ مُحِبٌّ وَمُبْغِضٌ. وَاسْتَدَلَّ النَّوَوِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْبَابِ، وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى مَنْعِ ابْتِدَاءِ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ صَرِيحًا فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطَّرِيقِ. وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ - وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ - الْغِفَارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي رَاكِبٌ غَدًا إِلَى الْيَهُودِ، فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: يَجُوزُ ابْتِدَاءِ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ لِقولِهِ تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} وَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ فَقَالَ: نَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَلَا نَبْدَؤُهُمْ. قَالَ عَوْنٌ: فَقُلْتُ لَهُ: فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَرَى بَأْسًا أَنْ نَبْدَأَهُمْ. قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: لِقولِهِ تَعَالَى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ}
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ أنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَقِيَهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ السَّلَامَ تَحِيَّةً لِأُمَّتِنَا وَأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتِنَا. هَذَا رَأْيُ أَبِي أُمَامَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَائِهِمْ أَوْلَى.
وَأَجَابَ عِيَاضٌ عَنِ الْآيَةِ وَكَذَا عَنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لِأَبِيهِ بِأَنَّ الْقَصْدَ بِذَلِكَ الْمُتَارَكَةُ وَالْمُبَاعَدَةُ وَلَيْسَ الْقَصْدُ فِيهِمَا التَّحِيَّةَ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ السَّلَفِ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} نُسِخَتْ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ حَدِيثِ أُسَامَةَ فِي سَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْكُفَّارِ حَيْثُ كَانُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ السَّلَامِ عَلَى الْكُفَّارِ ; لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَامٌّ وَحَدِيثُ أُسَامَةَ خَاصٌّ، فَيَخْتَصُّ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ مَا إِذَا كَانَ الِابْتِدَاءُ لِغَيْرِ سَبَبٍ وَلَا حَاجَةٍ مِنْ حَقِّ صُحْبَةٍ أَوْ مُجَاوَرَةٍ أَوْ مُكَافَأَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ مَنْعُ ابْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ الْمَشْرُوعِ، فَأَمَّا لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي خُرُوجَهُمْ عَنْهُ كَأَنْ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ وَغَيْرِهِ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمُ: السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مِثْلَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَالِكٍ: إِذَا سَلَّمْتَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقُلِ:: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَيَحْسَبُونَ أَنَّكَ سَلَّمْتَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ صَرَفْتَ السَّلَامَ عَنْهُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ، مَعْنَاهُ لَا تَتَنَحَّوْا لَهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ الضَّيِّقِ إِكْرَامًا لَهُمْ وَاحْتِرَامًا، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُنَاسِبَةً لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى فِي الْمَعْنَى، وَلَيْسَ الْمَعْنَى إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ فَأَلْجِئُوهُمْ إِلَى حَرْفِهِ حَتَّى يَضِيقَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَذًى لَهُمْ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ أَذَاهُمْ بِغَيْرِ سَبَبٍ.
21 - بَاب مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى مَنْ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَلَمْ يَرُدَّ سَلَامَهُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ تَوْبَتُهُ، وَإِلَى مَتَى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةُ الْعَاصِي؟
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الْخَمْرِ
6255 -
حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِنَا، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟ حَتَّى كَمَلَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً، وَآذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى مَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا، وَمَنْ لَمْ يَرُدَّ سَلَامَهُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ تَوْبَتُهُ، وَإِلَى مَتَى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةُ الْعَاصِي؟) أَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فَأَشَارَ إِلَى الْخِلَافِ فِيهِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَى الْفَاسِقِ وَلَا الْمُبْتَدِعِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى السَّلَامِ بِأَنْ خَافَ تَرَتُّبَ مَفْسَدَةٍ فِي دَيْنٍ أَوْ دُنْيَا إِنْ لَمْ يُسَلِّمْ سَلَّمَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَزَادَ: وَيَنْوِي أَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَجُوزُ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الدَّلِيلَ أَعَمُّ مِنَ الدَّعْوَى.
وَأَلْحَقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَهْلِ الْمَعَاصِي مَنْ يَتَعَاطَى خَوَارِمَ الْمُرُوءَةِ، كَكَثْرَةِ الْمِزَاحِ وَاللَّهْوِ وَفُحْشِ الْقَوْلِ وَالْجُلُوسِ فِي الْأَسْوَاقِ لِرُؤْيَةِ مَنْ يَمُرُّ مِنَ النِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يُسَلَّمُ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ لَهُمْ وَالتَّبَرِّي مِنْهُمْ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي فَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا فَقِيلَ: يُسْتَبْرَأُ حَالُهُ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: خَمْسِينَ يَوْمًا كَمَا فِي قِصَّةِ كَعْبٍ، وَقِيلَ: لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ بَلِ الْمَدَارُ عَلَى وُجُودِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مُدَّعَاهُ فِي تَوْبَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي سَاعَةٍ وَلَا يَوْمٍ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْجِنَايَةِ وَالْجَانِي. وَقَدِ اعْتَرَضَ الدَّاوُدِيُّ عَلَى مَنْ حَدَّهُ بِخَمْسِينَ لَيْلَةً أَخْذًا مِنْ قِصَّةِ كَعْبٍ فَقَالَ: لَمْ يَحِدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِينَ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ كَلَامَهُمْ إِلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ؛ يَعْنِي فَتَكُونُ وَاقِعَةَ
حَالٍ لَا عُمُومَ فِيهَا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ وَمَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا عَظِيمًا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُرَدُّ عليهم السلام كَمَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَجَّ الْبُخَارِيُّ لِذَلِكَ بِقِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ انْتَهَى.
وَالتَّقْيِيدُ بِمَنْ لَمْ يَتُبْ جَيِّدٌ لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ بِقِصَّةِ كَعْبٍ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ وَتَابَ، وَلَكِنْ أَخَّرَ الْكَلَامَ مَعَهُ حَتَّى قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ، وَقَضَيْتُهُ أَنْ لَا يُكَلَّمَ حَتَّى تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْقَبُولِ فِي قِصَّةِ كَعْبٍ كَانَ مُمْكِنًا، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيَكْفِي ظُهُورُ عَلَامَةِ النَّدَمِ وَالْإِقْلَاعِ وَأَمَارَةِ صِدْقِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (اِقْتَرَفَ) أَيِ اكْتَسَبَ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الِاقْتِرَافُ التُّهْمَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الْخَمْرِ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ جَمْعُ شَارِبٍ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يَجْمَعْهُ اللُّغَوِيُّونَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالُوا شَارِبٌ وَشَرْبٌ مِثْلُ صَاحِبٍ وَصَحْبٍ انْتَهَى. وَقَدْ قَالُوا: فَسَقَةٌ وَكَذَبَةٌ فِي جَمْعِ فَاسِقٍ وَكَاذِبٍ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ بْنِ أَبِي جَبَلَةَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِلَفْظِ: لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شُرَّابِ الْخَمْرِ، وَبِهِ إِلَيْهِ قَالَ: لَا تَعُودُوا شُرَّابَ الْخَمْرِ إِذَا مَرِضُوا، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا نَحْوَهُ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ الصَّحِيحِ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَا تُسَلِّمُوا عَلَى مَنْ شَرِبَ الْخَمْرِ وَلَا تَعُودُوهُمْ إِذَا مَرِضُوا وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ إِذَا مَاتُوا وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِسَنَدٍ أَضْعَفَ مِنْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ) هُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، وَذَكَرَ قِطَعًا يَسِيرَةً مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ سَاقَهُ فِي الْمَغَازِي بِطُولِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَقَوْلُهُ: وَآتِي هُوَ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مِنَ الْإِتْيَانِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَنْ كَلَامِنَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ آخِرُهُ: فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا قِصَّتُهُ مَعَ أَبِي قَتَادَةَ وَتَسَوُّرُهُ عَلَيْهِ الْحَائِطَ وَامْتِنَاعُ أَبِي قَتَادَةَ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِ وَمِنْ جَوَابِهِ لَهُ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ.
وَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ هُنَا، وَفِيهِ مَا تَرْجَمَ بِهِ مِنْ تَرْكِ السَّلَامِ تَأْدِيبًا وَتَرْكِ الرَّدِّ أَيْضًا، وَهُوَ مِمَّا يُخَصُّ بِهِ عُمُومُ الْأَمْرِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَكَسَ ذَلِكَ أَبُو أُمَامَةَ؛ فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَمُرُّ بِمُسلَّمٍ وَلَا نَصْرَانِيٍّ وَلَا صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّا أُمِرْنَا بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى دَلِيلِ الْخُصُوصِ.
وَاسْتَثْنَى ابْنُ مَسْعُودٍ مَا إِذَا احْتَاجَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمُ لِضَرُورَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ، كَقَضَاءِ حَقِّ الْمُرَافَقَةِ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كُنْتُ رِدْفًا لِابْنِ مَسْعُودٍ، فَصَحِبَنَا دَهْقَانُ، فَلَمَّا انْشَعَبَتْ لَهُ الطَّرِيقُ أَخَذَ فِيهَا، فَأَتْبَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بَصَرَهُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقُلْتُ: أَلَسْتَ تَكْرَهُ أَنْ يُبْدَءُوا بِالسَّلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ حَقُّ الصُّحْبَةِ. وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ، وَحُمِلَ عَلَيْهِ سَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
22 - بَاب كَيْفَ الرَدُّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بالسَّلَامُ
6256 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ
مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَقَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ.
[الحديث 6257 - طرفه في: 6928]
6258 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ"
[الحديث 6258 - طرفه في: 6926]
قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ الرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ)؟ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلِذَلِكَ تَرْجَمَ بِالْكَيْفِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ يَكُونُ وَفْقَ الِابْتِدَاءِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحْسَنَ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى التَّفْرِقَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَالَ قَوْمٌ: رَدُّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرْضٌ لِعُمُومِ الْآيَةِ.
وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ فَرُدَّ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُسْلِمِينَ فَلَا يُرَدُّ السَّلَامُ عَلَى الْكَافِرِ مُطْلَقًا، فَإِنْ أَرَادَ مَنْعَ الرَّدِّ بِالسَّلَامِ وَإِلَّا فَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَرُدُّ عَلَيْهِ.
الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ:
قَوْلُهُ: (أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ) كَذَا قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ مِثْلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَدَبِ، وَقَالَ سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ وَسَيَأْتِي فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ.
قَوْلُهُ: (دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ) لَمْ أَعْرِفْ أَسْمَاءَهُمْ، لَكِنْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ: ثَعْلَبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ: وَعَلَيْكُمْ؛ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الرَّهْطِ الْمَذْكُورِينَ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْكَلَامَ عَنْهُمْ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ مِنْ نِسْبَةِ الْقَوْلِ إِلَى جَمَاعَةٍ وَالْمُبَاشِرُ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ وَرِضَاهُمْ بِهِ فِي قُوَّةِ مَنْ شَارَكَهُ فِي النُّطْقِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ) كَذَا فِي الْأُصُولِ بِأَلِفٍ سَاكِنَةٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّانِي أَنَّهُ جَاءَ بِالْهَمْزِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ السَّوْمِ بِالْمَوْتِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَوْتُ الْعَاجِلُ.
قَوْلُهُ: (فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْأَدَبِ: فَقَالَتْ: عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهَا: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَالذَّامُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ لُغَةٌ فِي الذَّمِّ ضِدُّ الْمَدْحِ، يُقَالُ: ذَمٌّ بِالتَّشْدِيدِ وَذَامٌ بِالتَّخْفِيفِ وَذَيْمٌ بِتَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ، وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ أَنَّ الذَّامَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْمُعْجَمَةِ، وَلَوْ رُوِيَ بِالْمُهْمَلَةِ مِنَ الدَّوَامِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَلَكِنْ كَانَ يَحْتَاجُ لِحَذْفِ الْوَاوِ لِيَصِيرَ صِفَةً لِلسَّامِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الدَّامُ لُغَةٌ فِي الدَّائِمِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَسَّرَ أَبُو عُبَيْدٍ السَّامَ بِالْمَوْتِ وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ قَتَادَةَ تَأَوَّلَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: تَفْسِيرُ السَّامُ عَلَيْكُمْ تُسَامُونَ دِينَكُمْ وَهُوَ - يَعْنِي السَّامَ - مَصْدَرُ سَئِمَهُ سَآمَةً وَسَآمًا؛ مِثْلُ رَضَعَهُ رَضَاعَةً وَرَضَاعًا.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَوَجَدْتُ هَذَا الَّذِي فَسَّرَهُ قَتَادَةُ مَرْوِيًّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ أَتَى يَهُودِيٌّ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدُّوا عَلَيْهِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ؟ قَالُوا: سَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ سَامَ عَلَيْكُمْ؛ أَيْ تُسَامُونَ دِينَكُمْ. قُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَيْ تُسَامُونَ دِينَكُمْ تَفْسِيرَ قَتَادَةَ كَمَا بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ عَبْدِ الْوَارِثِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخَطَّابِيُّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ؟ قَالُوا: نَعَمْ سَلَّمَ عَلَيْنَا، قَالَ: فَإِنَّهُ قَالَ: السَّامُ عَلَيْكُمْ أَيْ تُسَامُونَ دِينَكُمْ، رُدُّوهُ عَلَيَّ، فَرَدُّوهُ فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: قلت: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: عَلَيْكُمْ مَا قُلْتُمْ، لَفْظُ الْبَزَّارِ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: أَنَّ يَهُودِيًّا سَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتَدْرُونَ، وَالْبَاقِي نَحْوُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ: رُدُّوهُ إِلَخْ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكَ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّعْنَةُ) يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ فَهِمَتْ كَلَامَهُمْ بِفِطْنَتِهَا فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ، وَظَنَّتْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أَنَّهُمْ تَلَفَّظُوا بِلَفْظِ السَّلَامِ فَبَالَغَتْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَقَ لَهَا سَمَاعُ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ فِي الْبَابِ وَإِنَّمَا أَطْلَقَتْ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةَ إِمَّا لِأَنَّهَا كَانَتْ تَرَى جَوَازَ لَعْنِ الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ بِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ لَا سِيَّمَا إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي التَّأْدِيبَ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَقَدَّمَ لَهَا عِلْمٌ بِأَنَّ الْمَذْكُورِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَطْلَقَتِ اللَّعْنَ وَلَمْ تُقَيِّدْهُ بِالْمَوْتِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ لَا يَتَعَوَّدَ لِسَانُهَا بِالْفُحْشِ، أَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهَا الْإِفْرَاطَ فِي السَّبِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْأَدَبِ فِي بَابِ الرِّفْقِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى جَوَازِ لَعْنِ الْمُشْرِكِ الْمُعَيَّنِ الْحَيِّ فِي بَابِ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (مَهْلًا يَا عَائِشَةُ) تَقَدَّمَ بِشَرْحِهِ فِي بَابِ الرِّفْقِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ.
قَوْلُهُ: (فَقَدْ قُلْتُ عَلَيْكُمْ) وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَشُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِثْبَاتِ الْوَاو. قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ انْخِدَاعِ الْكَبِيرِ لِلْمَكَايِدِ وَمُعَارَضَتُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ إِذَا رُجِيَ رُجُوعُهُ.
قُلْتُ: فِي تَقْيِيدِهِ بِذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ حِينَئِذٍ كَانُوا أَهْلَ عَهْدٍ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِمَصْلَحَةِ التَّآلُفِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) يَأْتِي فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمُ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْ: وَعَلَيْكَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَالَّذِي عِنْدَ جَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ: فَقُلْ: عَلَيْكَ لَيْسَ فِيهِ الْوَاوُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِغَيْرِ وَاوٍ.
وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ بِغَيْرِ وَاوٍ لِأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُدْخِلْ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ الْوَاوَ. قُلْتُ: لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْمُوَطَّآتِ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: فَقُلْ: وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ وَبِصِيغَةِ الْجَمْعِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ يَعْنِي عَنْ مَالِكٍ.
قُلْتُ: أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ رَوْحٍ، وَمَعْنٍ، وَقُتَيْبَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِغَيْرِ وَاوٍ وَبِالْإِفْرَادِ كَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِلَفْظِ: قُلْ عَلَيْكَ بِغَيْرِ وَاوٍ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ وَحْدَهُ: فَقُلْ: عَلَيْكُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِغَيْرِ وَاوٍ أَيْضًا.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ وَحْدَهُ بِلَفْظِ: فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْ مُسْلِمٍ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ دِينَارٍ بِلَفْظِ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فَإِنَّمَا يَقُولُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقُلْ: عَلَيْكُمْ. بِغَيْرِ وَاوٍ وَبِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ مِثْلَ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ بَعْدَهُ: وَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ فِيهِ: وَعَلَيْكُمْ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي الْحَاشِيَةِ: حَدِيثُ مَالِكٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَحَدِيثُ الثَّوْرِيِّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ مَالِكٍ عِنْدَهُمَا بِالْوَاوِ، فَأَمَّا أَبُو دَاوُدَ فَلَعَلَّهُ حَمَلَ رِوَايَةَ مَالِكٍ عَلَى رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ أَوِ اعْتَمَدَ رِوَايَةَ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ مَالِكٍ، وَأَمَّا الْمُنْذِرِيُّ فَتَجَوَّزَ فِي عَزْوِهِ لِلْبُخَارِيِّ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا سَبَبٌ أَذْكُرُهُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ. حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَعْنِي جَدَّهُ بِلَفْظِ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ. كَذَا رَوَاهُ مُخْتَصَرًا، وَرَوَاهُ قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ أَتَمَّ مِنْهُ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْنَا فَكَيْفَ نَرُدُّ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: قُولُوا: وَعَلَيْكُمْ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِ: مَرَّ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام فَقَالَ: قَالَ: السَّامُ عَلَيْكُمْ. فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ، فَقَالَ: رُدُّوا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ نَحْوَ رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: رُدُّوهُ، فَرَدُّوهُ، فَقَالَ: أَقُلْتَ: السَّامُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ بِزِيَادَةٍ فِيهِ، وَسَيَأْتِي فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ: سَمِعْتَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَعَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا يَقُولُ؟ قَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ.
وَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ أَنَّ الْقَائِلَ أَلَا نَقْتُلُهُ عُمَرُ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَأَتَمُّهَا سِيَاقًا رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ هَذِهِ، وَكَأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَمَّا أَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ ذَلِكَ سَأَلُوا حِينَئِذٍ عَنْ كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ كَمَا رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، وَلَمْ يَقَعْ هَذَا السُّؤَالُ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ.
وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ أَنَسٍ فِي لَفْظِ الْجَوَابِ وَهُوَ: وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ وَبِصِيغَةِ الْجَمْعِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ وَكَذَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُهَنِيِّ، وَأَبِي بَصْرَةَ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قُلْتُ: هُوَ أَوَّلُ أَحَادِيثِ الْبَابِ، قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَصْرَةَ فَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.
قُلْتُ: هُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، فَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ: عَنْ أَبِي بَصْرَةَ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّحَاوِيُّ أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْهُ مِثْلَ مَا قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالْمَحْفُوظُ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: فَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِثْبَاتِ الْوَاوِ وَإِسْقَاطِهَا فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي أَيِّ الرِّوَايَتَيْنِ أَرْجَحُ. فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ لَا يَقولُهَا بِالْوَاوِ لِأَنَّ فِيهَا تَشْرِيكًا، وَبَسْطُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ يَقْتَضِي تَقْرِيرَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى
وَزِيَادَةَ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا كَمَنْ قَالَ: زَيْدٌ كَاتِبٌ، فَقُلْتُ: وَشَاعِرٌ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْوَصْفَيْنِ لِزَيْدٍ، قَالَ: وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ: يَقُولُ: عَلَيْكُمُ السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ يَعْنِي الْحِجَارَةَ، وَوَهَّاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ لَنَا سَبُّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَيُؤَيِّدُ إِنْكَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ لَمَّا سَبَّتْهُمْ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ قَالَ: يَقُولُ: عَلَاكُمُ السَّلَامُ، بِالْأَلِفِ أَيِ ارْتَفَعَ. وَتَعَقَّبَهُ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ؛ كَمَا يُرَدُّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهًا عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ لَكِنْ لَا يَقُولُ: وَرَحْمَتُ اللَّهِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلْقَمَةَ: يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: إِنْ سَلَّمْتَ فَقَدْ سَلَّمَ الصَّالِحُونَ، وَإِنْ تَرَكْتَ فَقَدْ تَرَكُوا. وَعَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لَا يُرَدُّ عليهم السلام أَصْلًا، وَعَنْ بَعْضِهِمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ. وَالرَّاجِحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَلَكِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ زَادَوَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ فِي الْأَصَحِّ عَنْ أَنَسٍ: أُمِرْنَا أَنْ لَا نَزِيدَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى: وَعَلَيْكُمْ وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْخَطَّابِيِّ نَحْوَ مَا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فَقَالَ: رِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَلَيْكُمْ بِغَيْرِ وَاوٍ أَحْسَنُ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْوَاوِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ رَدَدْتُ مَا قُلْتُمُوهُ عَلَيْكُمْ، وَبِالْوَاوِ يَصِيرُ الْمَعْنَى عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ لِأَنَّ الْوَاوَ حَرْفُ التَّشْرِيكِ، انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ نَقَلَهُ مِنْ مَعَالِمِ السُّنَنِ لِلْخَطَّابِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: هَكَذَا يَرْوِيهِ عَامَّةُ الْمُحَدِّثِينَ وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ، وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَرْوِيهِ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بِحَذْفِهَا يَصِيرُ قَوْلُهُمْ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ، وَبِالْوَاوِ يَقَعُ الِاشْتِرَاكُ وَالدُّخُولُ فِيمَا قَالُوهُ انْتَهَى.
وَقَدْ رَجَعَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ فِي الْإِعْلَامِ مِنْ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْهَا نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ الدَّاعِيَ إِذَا دَعَا بِشَيْءٍ ظُلْمًا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ وَلَا يَجِدُ دُعَاؤُهُ مَحَلًّا فِي الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: سَلَّمَ نَاسٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: وَعَلَيْكُمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ وَغَضِبَتْ: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: بَلَى قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَنُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ فِينَا، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا.
وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةِ مِنْ عَائِشَةَ وَجَوَابِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَهَا مَنْ أَنْكَرَ الرِّوَايَةَ بِالْوَاوِ وَقَدْ تَجَاسَرَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَاهُ فَقَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي هَذَا الْبَابِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ مَالِكٍ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَهِيَ أَصْوَبُ مِنَ الَّتِي بِالْوَاوِ، لِأَنَّهُ بِحَذْفِهَا يَرْجِعُ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ وَبِإِثْبَاتِهَا يَقَعُ الِاشْتِرَاكُ انْتَهَى.
وَمَا أَفْهَمَهُ مِنْ تَضْعِيفِ الرِّوَايَةِ بِالْوَاوِ وَتَخْطِئَتِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَرْدُودٌ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ حَذْفَ الْوَاوِ وَإِثْبَاتَهَا ثَابِتَانِ جَائِزَانِ وَبِإِثْبَاتِهَا أَجْوَدُ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ، وَفِي مَعْنَاهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: عَلَيْكُمُ الْمَوْتُ، فَقَالَ: وَعَلَيْكُمْ أَيْضًا أَيْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ كُلُّنَا نَمُوتُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيكِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الذَّمِّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: فِي الْعَطْفِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَقُولُ: عَلَيْكُمْ مَا تُرِيدُونَ بِنَا، أَوْ مَا تَسْتَحِقُّونَ، وَلَيْسَ هُوَ عَطْفًا عَلَى عَلَيْكُمْ فِي كَلَامِهِمْ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قِيلَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَأَوْلَى الْأَجْوِبَةِ أَنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا، وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، عَنِ ابْنِ رُشْدٍ تَفْصِيلًا يَجْمَعُ الرِّوَايَتَيْنِ إِثْبَاتُ الْوَاوِ وَحَذْفُهَا فَقَالَ: مَنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ قَالَ السَّامُ أَوِ السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ فَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ بِحَذْفِ الْوَاوِ
وَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ فَلْيَرُدَّ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ. فَيَجْتَمِعُ مِنْ مَجْمُوعِ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: مَنْ فَسَّرَ السَّامَ بِالْمَوْتِ فَلَا يُبْعِدْ ثُبُوتَ الْوَاوِ وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالسَّآمَةِ فَإِسْقَاطُهَا هُوَ الْوَجْهُ. قُلْتُ: بَلِ الرِّوَايَةُ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ ثَابِتَةٌ وَهِيَ تُرَجِّحُ التَّفْسِيرَ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيطِ الثِّقَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ لَا يُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِ ابْتِدَاءُ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ، حَكَاهُ الْبَاجِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: لِأَنَّهُ بَيَّنَ حُكْمَ الرَّدِّ وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ، كَذَا قَالَ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ: لَوِ ابْتَدَأَ شَخْصًا بِالسَّلَامِ وَهُوَ يَظُنُّهُ مُسْلِمًا فَبَانَ كَافِرًا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَرِدُّ مِنْهُ سَلَامَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ حِينَئِذٍ لَا فَائِدَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِكَوْنِهِ قَصَدَ السَّلَامَ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَهُ فَائِدَةَ وَهُوَ إِعْلَامُ الْكَافِرِ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ، قُلْتُ: وَيَتَأَكَّدُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُخْشَى إِنْكَارُهُ لِذَلِكَ أَوِ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ إِذَا كَانَ الَّذِي سَلَّمَ مِمَّنْ يقْتَدَي بِهِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّدَّ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ فَلَا يُجْزِئُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَقِيلَ: إِنْ أَجَابَ بِالْوَاوِ أَجْزَأَ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ كَافٍ فِي حُصُولِ مَعْنَى السَّلَامِ لَا فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ؛ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الَّذِي بِغَيْرِ وَاوٍ، وَأَمَّا الَّذِي بِالْوَاوِ فَقَدْ وَرَدَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، مِنْهَا فِي الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ وَرَحْمَتُ اللَّهِ. وَلَهُ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ سَلْمَانَ: أَتَى رَجُلٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ. قُلْتُ: لَكِنْ لَمَّا اشْتُهِرَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ لِلرَّدِّ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ يَنْبَغِي تَرْكُ جَوَابِ الْمُسْلِمِ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي أَصْلِ الرَّدِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
23 - بَاب مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ مَنْ يُحْذَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ
6259 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: حَدَّثَنِي حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ - وَكُلُّنَا فَارِسٌ - فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: قُلْنَا: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِي مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بِهَا فَابْتَغَيْنَا فِي رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، قَالَ صَاحِبَايَ: مَا نَرَى كِتَابًا. قَالَ: قُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَأُجَرِّدَنَّكِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ مِنِّي أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا - وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ - فَأَخْرَجَتْ الْكِتَابَ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَا بِي إِلَّا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا غَيَّرْتُ وَلَا بَدَّلْتُ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلَّا وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: صَدَقَ، فَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: فَقَالَ: يَا عُمَرُ
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ، قَالَ: فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ مَنْ يُحْذَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ)؛ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْأَثَرَ الْوَارِدَ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ الْغَيْرِ يُخَصُّ مِنْهُ مَا يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا إِلَى دَفْعِ مَفْسَدَةٍ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ النَّظَرِ، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَكَأَنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ، وَيُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ شَيْخُهُ فِيهِ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، شَيْخٌ كُوفِيٌّ أَصْلُهُ مِنَ الْأَنْبَارِ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ مِنَ السِّتَّةِ إِلَّا الْبُخَارِيُّ، وَمَا لَهُ فِي الصَّحِيحِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى فِي الْمَغَازِي وَالتَّفْسِيرِ، مِنْهَا فِي الْمَغَازِي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَبَقِيَّةُ رِجَالِ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى بُهْلُولٍ: الضَّحَّاكُ وَسُمِّيَ بِهِ، وَلَا يُفْتَحُ أَوَّلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فَعْلُولٌ بِالْفَتْحِ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ هَتْكُ سَتْرِ الذَّنْبِ، وَكَشْفُ الْمَرْأَةِ الْعَاصِيَةِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرِ فِي كِتَابِ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَّهَمًا فَلَا حُرْمَةَ لَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي لَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُ عُمَرَ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ قَوْلُهُ قَبْلَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ لِشِدَّتِهِ فِي أَمْرِ اللَّهِ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ مَنْعِ الْقَوْلِ السَّيِّئِ لَهُ، وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ إِقَامَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ لِلذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَادِقٌ فِي اعْتِذَارِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ.
24 - بَاب كَيْفَ يُكْتَبُ الْكِتَابُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ؟
6260 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّامِ - فَأَتَوْهُ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُرِئَ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ. .
قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ يُكْتَبُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ جَوَازُ كِتَابَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْكَاتِبِ عَلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ.
قَالَ: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ مُكَاتَبَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالسَّلَامِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، قُلْتُ: فِي جَوَازِ السَّلَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ السَّلَامُ الْمُقَيَّدُ، مِثْلَ مَا فِي الْخَبَرِ: السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَوِ السَّلَامُ عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِالْحَقِّ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ.
25 - بَاب بِمَنْ يُبْدَأُ فِي الْكِتَابِ
6261 وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نَجَرَ خَشَبَةً فَجَعَلَ الْمَالَ فِي جَوْفِهَا وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَحِيفَةً: مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بِمَنْ يُبْدَأُ فِي الْكِتَابِ؟) أَيْ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ؟ ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الرَّجُلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي اقْتَرَضَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ حَدِيثًا عَلَى شَرْطِهِ مَرْفُوعًا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا، وَهُوَ عَلَى قَاعِدَتِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا إِذَا وَرَدَتْ حِكَايَتُهُ فِي شَرْعِنَا وَلَمْ يُنْكَرْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا سِيقَ مَسَاقَ الْمَدْحِ لِفَاعِلِهِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ كَوْنُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ كَتَبَ فِي الصَّحِيفَةِ مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَرِيبًا لَكِنْ قَدْ يَكُونُ تَرَكَهُ لِأَنَّ بَدَاءَةَ الْكَبِيرِ بِنَفْسِهِ إِلَى الصَّغِيرِ وَالْعَظِيمِ إِلَى الْحَقِيرِ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّرَدُّدُ فِيمَا هُوَ بِالْعَكْسِ أَوِ الْمُسَاوِي.
وَقَدْ أَوْرَدَ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ كُبَرَاءِ آلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ هَذِهِ الرِّسَالَةَ: لِعَبْدِ اللَّهِ مُعَاوِيَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ. وَأَوْرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ عَنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ: قَرَأْتُ كِتَابًا مِنَ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ. وَعَنْ نَافِعٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَبْدَءُوا بِأَنْفُسِهِمْ. وَعَنْ نَافِعٍ: كَانَ عُمَّالُ عُمَرَ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ بَدَءُوا بِأَنْفُسِهِمْ.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: السُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ الْكَاتِبُ بِنَفْسِهِ، وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ: أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا بَدَأَ بِاسْمِ الرَّجُلِ قَبْلَهُ إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْهُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ: هُوَ كَمَا لَوْ أَوْسَعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ: لَا تَبْدَأْ بِأَحَدٍ قَبْلَكَ وَلَوْ كَانَ أَبَاكَ أَوْ أُمَّكَ أَوْ أَكْبَرَ مِنْكَ، فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
قُلْتُ: وَالْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَانَ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ نَافِعٍ: كَانَتْ لِابْنِ عُمَرَ حَاجَةٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى كَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى مُعَاوِيَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ: أَمَّا بَعْدُ، بَعْدَ الْبَسْمَلَة، وَأَخْرَجَ فِيهِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُبَايِعُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِعَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، سَلَامٌ عَلَيْكَ. إِلَخْ وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ طَرَفًا مِنْهُ، وَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ هُنَاكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ) تَقَدَّمَ فِي الْكَفَالَةِ بَيَانُ مَنْ وَصَلَهُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخْذَ خَشَبَةً) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَأَوْرَدَهُ فِي الْكَفَالَةِ وَغَيْرِهَا مُطَوَّلًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) أَيِ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعُمَرُ هَذَا مَدَنِيٌّ قَدِمَ وَاسِطَ، وَهُوَ صَدُوقٌ فِيهِ ضَعْفٌ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُعَلَّقِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ. . فَذَكَرَ مِثْلَ اللَّفْظِ الْمُعَلَّقِ هُنَا. وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَاهِرٍ الْمُخَلِّصِ مُطَوَّلًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا مُوسَى، وَقَدْ ذَكَرْتُ فَوَائِدَهُ عِنْدَ شَرْحِهِ مِنْ كِتَابِ الْكَفَالَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَكَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ.
قَوْلُهُ: (نَجَرَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْجِيمِ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْقَافِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ فِي قِصَّةِ صَاحِبِ الْخَشَبَةِ إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَجُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ عَلَى إِثْبَاتِهَا، وَأَنْكَرَهَا الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالشَّيْخَانِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
قُلْتُ: أَمَّا الشِّيرَازِيُّ فَلَا يُحْفَظُ عَنْهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَإِنَّمَا أَنْكَرَا مَا وَقَعَ مُعْجِزَةً مُسْتَقِلَّةً لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَإِيجَادِ وَلَدٍ عَنْ غَيْرِ وَالِدٍ، وَالْإِسْرَاءِ إِلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ بِالْجَسَدِ فِي الْيَقَظَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ إِمَامُ الصُّوفِيَّةِ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ بِذَلِكَ، وَبَسْطُ هَذَا يَلِيقُ بِمَوْضِعٍ آخَرَ، وَعَسَى أَنْ يَتَيَسَّرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
26 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ
6262 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ فَجَاءَ، فَقَالَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ - أَوْ قَالَ: خَيْرِكُمْ - فَقَعَدَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ. فَقَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: أَفْهَمَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: إِلَى حُكْمِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِحُكْمِ قِيَامِ الْقَاعِدِ لِلدَّاخِلِ، وَلَمْ يَجْزِمْ فِيهَا بِحُكْمٍ لِلِاخْتِلَافِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ كَعَادَتِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ) تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَمِمَّا لَمْ يُذْكَرْ هُنَاكَ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ حَكَى فِي الْعِلَلِ أَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ رَوَاهُ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: (عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ) هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْبُخَارِيُّ (أَفْهَمَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ) يَعْنِي شَيْخَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِسَنَدِهِ هَذَا (مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ إِلَى حُكْمِكَ) يَعْنِي مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ فِيهِ: عَلَى حُكْمِكَ، وَصَاحِبُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ كَاتِبَ الْوَاقِدِيِّ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ بِهَذَا السَّنَدِ، أَوِ ابْنِ الضُّرَيْسِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ الرَّازِيِّ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ.
وَشَرَحَهُ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: قَوْلُهُ: إِلَى حُكْمِكَ أَيْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: سَمِعْتُ أَنَا مِنْ أَبِي الْوَلِيدِ بِلَفْظِ: عَلَى حُكْمِكَ وَبَعْضُ أَصْحَابِي نَقَلُوا لِي عَنْهُ بِلَفْظِ: إِلَى بِصِيغَةِ الِانْتِهَاءِ بَدَلَ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ، كَذَا قَالَ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَمْرُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ بِإِكْرَامِ الْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَشْرُوعِيَّةِ إِكْرَامِ أَهْلِ الْفَضْلِ فِي مَجْلِسِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَالْقِيَامِ فِيهِ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَإِلْزَامِ النَّاسِ كَافَّةً بِالْقِيَامِ إِلَى الْكَبِيرِ مِنْهُمْ.
وَقَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ قَوْمٌ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا، فَقُمْنَا لَهُ، فَقَالَ: لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ.
وَأَجَابَ عَنْهُ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، مُضْطَرِبُ السَّنَدِ، فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ أَبَاهُ دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ. وَأَجَابَ عَنْهُ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ إِنَّمَا فِيهِ نَهْيُ مَنْ يُقَامُ لَهُ عَنِ السُّرُورِ بِذَلِكَ، لَا نَهْيَ مَنْ يَقُومُ لَهُ إِكْرَامًا لَهُ.
وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ الرِّجَالُ عَلَى رَأْسِهِ كَمَا يُقَامُ بَيْنَ يَدَيْ مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ نَهْيَ الرَّجُلِ عَنِ الْقِيَامِ لِأَخِيهِ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ بَطَّالٍ لِلْجَوَازِ بِمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى فَاطِمَةَ بِنْتَهُ قَدْ أَقْبَلَتْ رَحَّبَ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَبَّلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا حَتَّى يُجْلِسَهَا فِي مَكَانِهِ.
قُلْتُ: وَحَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ، كَمَا مَضَى فِي الْمَنَاقِبِ وَفِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْقِيَامِ. وَتَرْجَمَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ بَابُ الْقِيَامِ وَأَوْرَدَ مَعَهُ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ، وَكَذَا صَنَعَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَزَادَ مَعَهُمَا حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ وَفِيهِ: فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الْمُبْدَأُ بِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَدِيثُ ابْنَ بُرَيْدَةَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ فَذَكَرَهُ وَفِيهِ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ عَلَى النَّاسِ، فَيَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ الرِّجَالُ، يُحِبُّ أَنْ يَكْثُرَ عِنْدَهُ الْخُصُومُ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ.
وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ مُعَاوِيَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ عَامِرٍ فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ، لِابْنِ عَامِرٍ: اجْلِسْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، وَأَحْمَدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ حَبِيبٍ مِثْلُهُ، وَقَالَ: الْعِبَادُ بَدَلَ الرِّجَالِ، وَمِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ حَبِيبٍ مِثْلُهُ وَزَادَ فِيهِ: وَلَمْ يَقُمِ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ أَرْزَنَهُمَا، قَالَ: فَقَالَ: مَهْ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ عِبَادُ اللَّهِ قِيَامًا.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَبِيبٍ بِلَفْظِ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَقَامُوا لَهُ. وَبَاقِيهِ كَلَفْظِ حَمَّادٍ. وَأَمَّا التِّرْمِذِيُّ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبٍ، وَلَفْظُهُ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ صَفْوَانَ حِينَ رَأَوْهُ، فَقَالَ: اجْلِسَا، فَذَكَرَ مِثْلَ لَفْظِ حَمَّادٍ.، وَسُفْيَانَ وَإِنْ كَانَ مِنْ رِجَالِ الْحِفْظِ إِلَّا أَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ وَفِيهِمْ مِثْلُ شُعْبَةَ أَوْلَى بِأَنْ تَكُونَ رِوَايَتُهُمْ مَحْفُوظَةً مِنَ الْوَاحِدِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَقُمْ، وَأَمَّا إِبْدَالُ ابْنِ عَامِرٍ، بِابْنِ صَفْوَانَ فَسَهْلٌ لِاحْتِمَالِ الْجَمْعِ بِأَنْ يَكُونَا مَعًا وَقَعَ لَهُمَا ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ الْإِتْيَانُ فِيهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَفِي رِوَايَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمَذْكُورِة، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ إِلَى الْجَمْعِ الْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فَتَرْجَمَ أَوَّلًا بَابَ قِيَامِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ وَأَوْرَدَ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَرْجَمَ بَابَ قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ الْقَاعِدِ وَبَابَ مَنْ كَرِهَ أَنْ يَقْعُدَ وَيَقُومَ لَهُ النَّاسُ وَأَوْرَدَ فِيهِمَا حَدِيثَ جَابِرٍ: اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: إِنْ كِدْتُمْ لَتَفْعَلُوا فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا قِيَامَ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ تَعْظِيمًا، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِجْلَزٍ، وَمُحَصَّلُ الْمَنْقُولِ عَنْ مَالِكٍ إِنْكَارُ الْقِيَامِ مَا دَامَ الَّذِي يُقَامُ لِأَجْلِهِ لَمْ يَجْلِسْ وَلَوْ كَانَ فِي شُغْلِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ تُبَالِغُ فِي إِكْرَامِ زَوْجِهَا فَتَتَلَقَّاهُ
وَتَنْزِعُ ثِيَابَهُ وَتَقِفُ حَتَّى يَجْلِسَ، فَقَالَ: أَمَّا التَّلَقِّي فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَأَمَّا الْقِيَامُ حَتَّى يَجْلِسَ فَلَا، فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ الْجَبَابِرَةِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ جَوَازُ إِطْلَاقِ السَّيِّدِ عَلَى الْخَيِّرِ الْفَاضِلِ، وَفِيهِ أَنَّ قِيَامَ الْمَرْءُوسِ لِلرَّئِيسِ الْفَاضِلِ وَالْإِمَامِ الْعَادِلِ وَالْمُتَعَلِّمِ لِلْعَالِمِ مُسْتَحَبٌّ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِمَنْ كَانَ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَمَعْنَى حَدِيثِ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُقَامَ لَهُ أَيْ بِأَنْ يُلْزِمَهُمْ بِالْقِيَامِ لَهُ صُفُوفًا عَلَى طَرِيقِ الْكِبْرِ وَالنَّخْوَةِ.
وَرَجَّحَ الْمُنْذِرِيُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجَمْعِ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيِّ، وَأَنَّ الْقِيَامَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْقِيَّمِ فِي حَاشِيَةِ السُّنَنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ سِيَاقَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ الْقِيَامَ لَهُ لَمَّا خَرَجَ تَعْظِيمًا، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُقَالُ لَهُ الْقِيَامُ لِلرَّجُلِ وَإِنَّمَا هُوَ الْقِيَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ أَوْ عِنْدَ الرَّجُلِ، قَالَ: وَالْقِيَامُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: قِيَامٌ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ وَهُوَ فِعْلُ الْجَبَابِرَةِ، وَقِيَامٌ إِلَيْهِ عِنْدَ قُدُومِهِ وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقِيَامٌ لَهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَهُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ.
قُلْتُ: وَوَرَدَ فِي خُصُوصِ الْقِيَامِ عَلَى رَأْسِ الْكَبِيرِ الْجَالِسِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُمْ عَظَّمُوا مُلُوكَهُمْ بِأَنْ قَامُوا وَهُمْ قُعُودٌ. ثُمَّ حَكَى الْمُنْذِرِيُّ قَوْلَ الطَّبَرِيِّ، وَأَنَّهُ قَصَرَ النَّهْيَ عَلَى مَنْ سَرَّهُ الْقِيَامُ لَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةِ التَّعَاظُمِ وَرُؤْيَةِ مَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، وَسَيَأْتِي تَرْجِيحُ النَّوَوِيِّ لِهَذَا الْقَوْلِ.
ثُمَّ نَقَلَ الْمُنْذِرِيُّ عَنْ بَعْضِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَنَّهُ رَدَّ الْحُجَّةَ بِقِصَّةِ سَعْدٍ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ لِسَعْدٍ لِيُنْزِلُوهُ عَنِ الْحِمَارِ لِكَوْنِهِ كَانَ مَرِيضًا، قَالَ: وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، قُلْتُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى مُسْتَنَدِ هَذَا الْقَائِلِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْهَا فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقِصَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَجِيئِهِ مُطَوَّلًا وَفِيهِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَلَمَّا طَلَعَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، فَأَنْزَلُوهُ.
وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَخْدِشُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِقِصَّةِ سَعْدٍ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَامِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ الْقِيَامِ وَنَقَلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمُ احْتَجُّوا بِهِ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: لَا أَعْلَمُ فِي قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ حَدِيثًا أَصَحَّ مِنْ هَذَا، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: لَوْ كَانَ الْقِيَامُ الْمَأْمُورُ بِهِ لِسَعْدٍ هُوَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَمَا خَصَّ بِهِ الْأَنْصَارَ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي أَفْعَالِ الْقُرْبِ التَّعْمِيمُ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَامُ لِسَعْدٍ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَكَانَ هُوَ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَنْ فَعَلَهُ وَأَمَرَ بِهِ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَا فَعَلَهُ وَلَا فَعَلُوهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ لِغَيْرِ مَا وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِيُنْزِلُوهُ عَنْ دَابَّتِهِ لِمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْمَرَضِ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ أَنَّ الْقَبِيلَةَ تَخْدِمُ كَبِيرَهَا فَلِذَلِكَ خَصَّ الْأَنْصَارَ بِذَلِكَ دُونَ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ لَا كُلُّهُمْ وَهُمُ الْأَوْسُ مِنْهُمْ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ كَانَ سَيِّدَهُمْ دُونَ الْخَزْرَجِ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ الْقِيَامَ الْمَأْمُورَ بِهِ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ لِلْإِعَانَةِ فَلَيْسَ هُوَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ، بَلْ لِأَنَّهُ غَائِبٌ قَدِمَ، وَالْقِيَامُ لِلْغَائِبِ إِذَا قَدِمَ مَشْرُوعٌ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا هُوَ لِتَهْنِئَتِهِ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ مِنْ تَحْكِيمِهِ وَالرِّضَا بِمَا يَحْكُمُ بِهِ، وَالْقِيَامُ لِأَجْلِ التَّهْنِئَةِ مَشْرُوعٌ أَيْضًا.
ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ أَنَّ الْقِيَامَ يَقَعُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَحْظُورٌ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ تَكَبُّرًا وَتَعَاظُمًا عَلَى الْقَائِمِينَ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: مَكْرُوهٌ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ لِمَنْ لَا يَتَكَبَّرُ وَلَا يَتَعَاظَمُ عَلَى الْقَائِمِينَ، ولَكِنْ يَخْشَى أَنْ يَدْخُلَ نَفْسَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَحْذَرُ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْجَبَابِرَةِ. وَالثَّالِثُ: جَائِزٌ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ وَيُؤْمَنُ مَعَهُ التَّشَبُّهَ بِالْجَبَابِرَةِ. وَالرَّابِعُ: مَنْدُوبٌ وَهُوَ أَنْ يَقُومَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَرَحًا بِقُدُومِهِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ، أَوْ إِلَى مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ
نِعْمَةٌ فَيُهَنِّئُهُ بِحُصُولِهَا أَوْ مُصِيبَةٌ فَيُعَزِّيهِ بِسَبَبِهَا.
وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ مَعْنَى قَوْلِهِ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ؛ أَيْ إِلَى إِعَانَتِهِ وَإِنْزَالِهِ مِنْ دَابَّتِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّعْظِيمَ لَقَالَ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ. وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ لِلتَّعْظِيمِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْإِكْرَامِ، وَمَا اعْتَلَّ بِهِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ إِلَى وَاللَّامِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ إِلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ أَفْخَمُ مِنَ اللَّامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قُومُوا وَامْشُوا إِلَيْهِ تَلَقِّيًّا وَإِكْرَامًا، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ الْمُشْعِرِ بِالْعِلِّيَّةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: سَيِّدِكُمْ عِلَّةٌ لِلْقِيَامِ لَهُ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ شَرِيفًا عَلِيَّ الْقَدْرِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْقِيَامُ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ جَائِزٌ كَقِيَامِ الْأَنْصَارِ لِسَعْدٍ وَطَلْحَةَ، لِكَعْبٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ يُقَامُ لَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ اسْتِحْقَاقَهُ لِذَلِكَ حَتَّى إِنْ تَرَكَ الْقِيَامَ لَهُ حَنِقَ عَلَيْهِ أَوْ عَاتَبَهُ أَوْ شَكَاهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ نَدَبَ الشَّرْعُ الْمُكَلَّفَ بِالْمَشْيِ إِلَيْهِ فَتَأَخَّرَ حَتَّى قَدِمَ الْمَأْمُورُ لِأَجْلِهِ فَالْقِيَامُ إِلَيْهِ يَكُونُ عِوَضًا عَنِ الْمَشْيِ الَّذِي فَاتَ، وَاحْتَجَّ النَّوَوِيُّ أَيْضًا بِقِيَامِ طَلْحَةَ، لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِّ بِأَنَّ طَلْحَةَ إِنَّمَا قَامَ لِتَهْنِئَتِهِ وَمُصَافَحَتِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ لِلْقِيَامِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ فِي الْمُصَافَحَةِ، وَلَوْ كَانَ قِيَامُهُ مَحَلَّ النِّزَاعِ لَمَا انْفَرَدَ بِهِ، فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ لَهُ وَلَا أَمَرَ بِهِ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ حَضَرَ، وَإِنَّمَا انْفَرَدَ طَلْحَةُ لِقُوَّةِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَنَّ التَّهْنِئَةَ وَالْبِشَارَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَوَدَّةِ وَالْخُلْطَةِ، بِخِلَافِ السَّلَامِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ.
وَالتَّفَاوُتُ فِي الْمَوَدَّةِ يَقَعُ بِسَبَبِ التَّفَاوُتِ فِي الْحُقُوقِ وَهُوَ أَمْرٌ مَعْهُودٌ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَانَ لِكَعْبٍ عِنْدَهُ مِنَ الْمَوَدَّةِ مِثْلُ مَا عِنْدَ طَلْحَةَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى وُقُوعِ الرِّضَا عَنْ كَعْبٍ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ طَلْحَةُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ عَقِبَ مَنْعِ النَّاسِ مِنْ كَلَامِهِ مُطْلَقًا، وَفِي قَوْلِ كَعْبٍ: لَمْ يَقُمْ إِلَيَّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَامَ إِلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ: وَإِذَا حُمِلَ فِعْلُ طَلْحَةَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ تَرَكَ الْمَنْدُوبَ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ النَّوَوِيُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ فِي حَقِّ فَاطِمَةَ.
وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الْحَاجِّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ لَهَا لِأَجْلِ إِجْلَاسِهَا فِي مَكَانِهِ إِكْرَامًا لَهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقِيَامِ الْمُنَازَعِ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا مَا عُرِفَ مِنْ ضِيقِ بُيُوتِهِمْ وَقِلَّةِ الْفُرُشِ فِيهَا، فَكَانَتْ إِرَادَةُ إِجْلَاسِهِ لَهَا فِي مَوْضِعِهِ مُسْتَلْزِمَةً لِقِيَامِهِ. وَأَمْعَنَ فِي بَسْطِ ذَلِكَ.
وَاحْتَجَّ النَّوَوِيُّ أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَامَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْحَاجِّ بِأَنَّ هَذَا الْقِيَامَ لَوْ كَانَ مَحَلَّ النِّزَاعِ لَكَانَ الْوَالِدَانِ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْأَخِ، وَإِنَّمَا قَامَ لِلْأَخِ إِمَّا لِأَنْ يُوَسِّعَ لَهُ فِي الرِّدَاءِ أَوْ فِي الْمَجْلِسِ. وَاحْتَجَّ النَّوَوِيُّ أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي قِصَّةِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، أَنَّهُ لَمَّا فَرَّ إِلَى الْيَمَنِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَرَحَلَتِ امْرَأَتُهُ إِلَيْهِ حَتَّى أَعَادَتْهُ إِلَى مَكَّةَ مُسْلِمًا فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَثَبَ إِلَيْهِ فَرِحًا وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ، وَبِقِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنَ الْحَبَشَةِ فَقَالَ: مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أُسَرُّ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ أَوْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ.
وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إِلَيْهِ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ. وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ. وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِّ بِأَنَّ قِيَامَهُمْ كَانَ لِضَرُورَةِ الْفَرَاغِ لِيَتَوَجَّهُوا إِلَى أَشْغَالِهِمْ، وَلِأَنَّ بَيْتَهُ كَانَ بَابُهُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ لَمْ يَكُنْ وَاسِعًا إِذْ ذَاكَ فَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يَسْتَوُوا قِيَامًا إِلَّا وَهُوَ قَدْ دَخَلَ، كَذَا قَالَ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ سَبَبَ تَأْخِيرِهِمْ حَتَّى يَدْخُلَ لِمَا يَحْتَمِلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْرٍ يَحْدُثُ لَهُ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِذَا تَفَرَّقُوا أَنْ يَتَكَلَّفَ اسْتِدْعَاءَهُمْ، ثُمَّ
رَاجَعْتُ سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ فَوَجَدْتُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ، وَهُوَ قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَبَذَ رِدَاءَهُ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا رَجُلًا فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ عَلَى بَعِيرِهِ تَمْرًا وَشَعِيرًا، وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: انْصَرِفُوا - رَحِمَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ احْتَجَّ النَّوَوِيُّ بِعُمُومَاتِ تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ وَإِكْرَامِ ذِي الشَّيْبَةِ وَتَوْقِيرِ الْكَبِيرِ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْحَاجِّ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْقِيَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومَاتِ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ قَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ فَيُخَصُّ مِنَ الْعُمُومَاتِ.
وَاسْتَدَلَّ النَّوَوِيُّ أَيْضًا بِقِيَامِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالسَّيْفِ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْحَاجِّ بِأَنَّهُ كَانَ بِسَبَبِ الذَّبِّ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ أَذَى مَنْ يَقْرَبُ مِنْهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ.
ثُمَّ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ وَحَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَتَرْجَمَ لَهُ بَابُ كَرَاهِيَةِ قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ، وَتَرْجَمَ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بَابُ كَرَاهِيَةِ الْقِيَامِ لِلنَّاسِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَقْرَبُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِمُ الْفِتْنَةَ إِذَا أَفْرَطُوا فِي تَعْظِيمِهِ فَكَرِهَ قِيَامَهُمْ لَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ: لَا تُطْرُونِي، وَلَمْ يَكْرَهْ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ لِبَعْضِهِمْ وَقَامُوا لِغَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ بَلْ أَقَرَّهُ وَأَمَرَ بِهِ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْوُدِّ وَالصَّفَاءِ مَا لَا يَحْتَمِلُ زِيَادَةَ بِالْإِكْرَامِ بِالْقِيَامِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقِيَامِ مَقْصُودٌ، وَإِنْ فُرِضَ لِلْإِنْسَانِ صَاحِبٌ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْقِيَامِ.
وَاعْتَرَضَ ابْنُ الْحَاجِّ بِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ إِلَّا لَوْ سَلَّمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَقُومُونَ لِأَحَدٍ أَصْلًا، فَإِذَا خَصُّوهُ بِالْقِيَامِ لَهُ دَخَلَ فِي الْإِطْرَاءِ، لَكِنَّهُ قَرَّرَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يُسَوَّغُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا مَعَ غَيْرِهِ مَا لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الْإِطْرَاءُ وَيَتْرُكُوهُ فِي حَقِّهِ؟ فَإِنْ كَانَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ لِلْإِكْرَامِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِكْرَامِ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَى الْأَمْرِ بِتَوْقِيرِهِ فَوْقَ غَيْرِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ قِيَامَهُمْ لِغَيْرِهِ إِنَّمَا كَانَ لِضَرُورَةِ قُدُومٍ أَوْ تَهْنِئَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا عَلَى صُورَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَنَّ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ فِي صُورَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ أَوْ لِلْمَعْنَى الْمَذْمُومِ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنَ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ عَكَسَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الصَّاحِبُ لَمْ تَتَأَكَّدْ صُحْبَتُهُ لَهُ وَلَا عَرَفَ قَدْرَهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ بِتَرْكِ الْقِيَامِ بِخِلَافِ مَنْ تَأَكَّدَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ وَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ مِنْهُ وَعَرَفَ مِقْدَارَهُ لَكَانَ مُتَّجَهًا فَإِنَّهُ يَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ مَزِيدُ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالتَّوْقِيرِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.
قَالَ: وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهِ وَأَقْرَبَ مِنْهُ مَنْزِلَةً كَانَ أَقَلَّ تَوْقِيرًا لَهُ مِمَّنْ بَعُدَ لِأَجْلِ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْوُدِّ، وَالْوَاقِعُ فِي صَحِيحِ الْأَخْبَارِ خِلَافُ ذَلِكَ كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ السَّهْوِ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَقَدْ كَلَّمَهُ ذُو الْيَدَيْنِ مَعَ بُعْدِ مَنْزِلَتِهِ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ.
قَالَ: وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّ خَوَاصَّ الْعَالِمِ وَالْكَبِيرِ وَالرَّئِيسِ لَا يُعَظِّمُونَهُ وَلَا يُوَقِّرُونَهُ لَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَنْ بَعُدَ مِنْهُ، وَهَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ: إِنَّ الْأَصَحَّ وَالْأَوْلَى، بَلِ الَّذِي لَا حَاجَةَ إِلَى مَا سِوَاهُ، أَنَّ مَعْنَاهُ زَجْرُ الْمُكَلَّفِ أَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ. قَالَ: وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْقِيَامِ بِمَنْهِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَحَبَّةُ الْقِيَامِ، فَلَوْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ فَقَامُوا لَهُ أَوْ لَمْ يَقُومُوا فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَبَّ ارْتَكَبَ التَّحْرِيمَ سَوَاءٌ قَامُوا أَوْ لَمْ يَقُومُوا، قَالَ: فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِتَرْكِ الْقِيَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْقِيَامُ سَبَبٌ لِلْوُقُوعِ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْوُقُوعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَبَّةِ خَاصَّةً، انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْحَاجِّ بِأَنَّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي تَلَقَّى ذَلِكَ
مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ قَدْ فَهِمَ مِنْهُ النَّهْيَ عَنِ الْقِيَامِ الْمُوقِعِ لِلَّذِي يُقَامُ لَهُ فِي الْمَحْذُورِ، فَصَوَّبَ فِعْلَ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْقِيَامِ دُونَ مَنْ قَامَ، وَأَقَرُّوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقِيَّمِ فِي حَوَاشِي السُّنَنِ: فِي سِيَاقِ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ رَدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ يَقُومُ الرِّجَالُ بِحَضْرَتِهِ، لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ إِنَّمَا رَوَى الْحَدِيثَ حِينَ خَرَجَ فَقَامُوا لَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِّ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْقِيَامِ أَنَّ الشَّخْصَ صَارَ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ بَيْنَ مَنْ يُسْتَحَبُّ إِكْرَامُهُ وَبِرُّهُ كَأَهْلِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ وَالْعِلْمِ، أَوْ يَجُوزُ كَالْمَسْتُورِينَ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَجُوزُ كَالظَّالِمِ الْمُعْلِنِ بِالظُّلْمِ أَوْ يُكْرَهُ كَمَنْ لَا يَتَّصِفُ بِالْعَدَالَةِ وَلَهُ جَاهٌ، فَلَوْلَا اعْتِيَادُ الْقِيَامِ مَا احْتَاجَ أَحَدٌ أَنْ يَقُومَ لِمَنْ يَحْرُمُ إِكْرَامُهُ أَوْ يُكْرَهُ، بَلْ جَرَّ ذَلِكَ إِلَى ارْتِكَابِ النَّهْيِ لِمَا صَارَ يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّرْكِ مِنَ الشَّرِّ.
وَفِي الْجُمْلَةِ مَتَى صَارَ تَرْكُ الْقِيَامِ يُشْعِرُ بِالِاسْتِهَانَةِ أَوْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ امْتَنَعَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ. وَنَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ التَّفْصِيلَ فِيهِ فَقَالَ: الْمَحْذُورُ أَنْ يُتَّخَذَ دَيْدَنًا كَعَادَةِ الْأَعَاجِمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ لِقَادِمٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ لِحَاكِمٍ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
قُلْتُ: وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي أَجْوِبَةِ ابْنِ الْحَاجِّ كَالتَّهْنِئَةِ لِمَنْ حَدَثَتْ لَهُ نِعْمَةٌ أَوْ لِإِعَانَةِ الْعَاجِزِ أَوْ لِتَوْسِيعِ الْمَجْلِسِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْقِيَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْظَامِ مَكْرُوهٌ وَعَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ لَا يُكْرَهُ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ. ضَبَطْنَاهُ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ جِبْرِيلَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ، أَيْ صَادَفْتُ حُكْمُ اللَّهِ.
27 - بَاب الْمُصَافَحَةِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَّمَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي.
6263 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَكَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ.
6264 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُصَافَحَةِ) هِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الصَّفْحَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِفْضَاءُ بِصَفْحَةِ الْيَدِ إِلَى صَفْحَةِ الْيَدِ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ: تَمَامُ تَحِيَّتِكُمْ بَيْنكُمُ الْمُصَافَحَةُ.
وَأَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: قَدْ أَقْبَلَ أَهْلُ الْيَمَنِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ حَيَّانَا بِالْمُصَافَحَةِ، وَفِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ الْمُصَافَحَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَّمَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ) سَقَطَ هَذَا التَّعْلِيقُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ وَثَبَتَ لِلْبَاقِينَ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ
يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي، وَهَنَّأَنِي) هُوَ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الطَّوِيلِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَجَاءَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ بَابِ الْمُعَانَقَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ قَتَادَةَ قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ الْحَسَنُ - يَعْنِي الْبَصْرِيَّ - يُصَافِحُ وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُصَافَحَةُ حَسَنَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدِ اسْتَحَبَّهَا مَالِكٌ بَعْدَ كَرَاهَتِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُصَافَحَةُ سُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا عِنْدَ التَّلَاقِي. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبَرَاءِ رَفَعَهُ: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، وَزَادَ فِيهِ ابْنُ السُّنِّيِّ: وَتَكَاشَرَا بِوُدٍّ وَنَصِيحَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، وَحَمِدَا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَاهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الرُّويَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْبَرَاءِ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَافَحَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ هَذَا مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ، فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُصَافَحَةِ. فَذَكَرَ نَحْوَ سِيَاقِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ.
وَفِي مُرْسَلِ عَطَاءٍ، الْخُرَاسَانِيِّ فِي الْمُوَطَّأِ: تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ. وَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ مَوْصُولًا، وَاقْتَصَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى شَوَاهِدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْمُصَافَحَةِ بِمَا بَعْدَ صَلَاتَيِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَقَدْ مَثَّلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ الْبِدْعَةَ الْمُبَاحَةَ بها. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَصْلُ الْمُصَافَحَةِ سُنَّةٌ، وَكَوْنُهُمْ حَافَظُوا عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا يُخْرِجُ ذَلِكَ عَنْ أَصْلِ السُّنَّةِ.
قُلْتُ: ولِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ، فَإِنَّ أَصْلَ صَلَاةِ النَّافِلَةِ سُنَّةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدَ كَرِهَ الْمُحَقِّقُونَ تَخْصِيصَ وَقْتٍ بِهَا دُونَ وَقْتٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ تَحْرِيمَ مِثْلِ ذَلِكَ كَصَلَاةِ الرَّغَائِبِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا، وَيُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْأَمْرِ بِالْمُصَافَحَةِ الْمَرْأَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ وَالْأَمْرَدُ الْحَسَنُ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْوَاوِ بَيْنَهُمَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرَهَا هَاءُ تَأْنِيثٍ هُوَ ابْنُ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ) أَيِ ابْنُ زُهْرَةَ بْنِ عُثْمَانَ مِنْ بَنِي تَمِيمِ بْنِ مُرَّةَ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) كَذَا اخْتَصَرَهُ، وَكَذَا أَوْرَدَهُ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ. وَأَغْفَلَ الْمِزِّيُّ ذِكْرَهُ هُنَا، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ أَيْضًا.
وَذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ لَهِيعَةَ جَمِيعًا عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ بِتَمَامِهِ، وَأَسْقَطَهُ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ. وَابْنُ لَهِيعَةَ، وَرِشْدِينُ لَيْسَا مِنْ شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَلَمْ يَقَعْ لِأَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ، فَأَخْرَجَهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ بِتَمَامِهِ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَ الْقَدْرَ الْمُخْتَصَرَ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ وَهْبِ اللَّهِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، وَوَهْبُ اللَّهِ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ، وَوَجْهُ إِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمُصَافَحَةِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْيَدِ يَسْتَلْزِمُ الْتِقَاءَ صَفْحَةِ الْيَدِ بِصَفْحَةِ الْيَدِ غَالِبًا، وَمِنْ ثَمَّ أَفْرَدَهَا بِتَرْجَمَةٍ تَلِي هَذِهِ لِجَوَازِ وُقُوعِ الْأَخْذِ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْمُصَافَحَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُصَافَحَةَ وَالْمُعَانَقَةَ، وَذَهَبَ إِلَى هَذَا سَحْنُونٌ وَجَمَاعَةٌ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ الْمُصَافَحَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صَنِيعُهُ فِي الْمُوَطَّأِ، وَعَلَى جَوَازِهِ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
28 - بَاب الْأَخْذِ بِالْيَدَيْن، وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ابْنَ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ
6265 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَيْفٌ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ - التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا، فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: السَّلَامُ. يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَخْذِ بِالْيَدِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي، وَلِلْبَاقِينَ: بِالْيَدَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِالْيَمِينِ وَهُوَ غَلَطٌ. وَسَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَأَثَرُهَا وَحَدِيثُهَا مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ابْنَ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ) وَصَلَهُ غُنْجَارٌ فِي تَارِيخِ بُخَارَى مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعَ أَبِي مِنْ مَالِكٍ، وَرَأَى حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يُصَافِحُ ابْنَ الْمُبَارَكِ بِكِلْتَا يَدَيْهِ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِيهِ نَحْوَهُ وَقَالَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْمُرَادِيِّ: حَدَّثَنِي أَصْحَابُنَا يَحْيَى وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: رَأَيْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ وَجَاءَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِمَكَّةَ فَصَافَحَهُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ، وَيَحْيَى الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ الْبِيكَنْدِيُّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: مِنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ الْأَخْذُ بِالْيَدِ. وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ رَجَّحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ أَحَدِ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ لَا يَنْزِعُ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ يَدَهُ، وَلَا يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُهُ.
قَوْلُهُ: (عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ التَّشَهُّدَ) كَذَا عِنْدَهُ بِتَأْخِيرِ الْمَفْعُولِ عَنِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ الْآتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ لَفْظُ التَّشَهُّدِ.
قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: (وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ ثُمَّ نُونٍ أَصْلُهُ ظَهْرِنَا وَالتَّثْنِيَةُ بِاعْتِبَارِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْهُ وَالْمُتَأَخِّرِ، أَيْ كَائِنٌ بَيْنَنَا وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ زِيَادَةٌ لِلتَّأْكِيدِ وَلَا يَجُوزُ كَسْرُ النُّونِ الْأُولَى، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: السَّلَامُ يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هَكَذَا جَاءَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ التَّشَهُّدِ هَذَا فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ مِنْ رِوَايَةِ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَيْسَتْ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى وَأَمَّا هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَظَاهِرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ بِكَافِ الْخِطَابِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَرَكُوا الْخِطَابَ وَذَكَرُوهُ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ فَصَارُوا يَقُولُونَ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ، فَالْقَائِلُ: يَعْنِي هُوَ الْبُخَارِيُّ، وَإِلَّا فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ وَمُصَنَّفِهِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَلَمَّا قُبِضَ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ.
وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ أَشْبَعْتُ الْقَوْلَ فِي هَذَا عِنْدَ شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْأَخْذُ بِالْيَدِ هُوَ مُبَالَغَةُ الْمُصَافَحَةِ، وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَقْبِيلِ الْيَدِ، فَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ وَأَنْكَرَ مَا رُوِيَ فِيهِ، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا مِنَ الْغَزْوِ حَيْثُ فَرُّوا قَالُوا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ أَنَا فِئَةُ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَقَبَّلْنَا يَدَهُ، قَالَ: وَقَبَّلَ أَبُو لُبَابَةَ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَصَاحِبَاهُ يَدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تَابَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ. ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَقَبَّلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَدَ عُمَرَ حِينَ قَدِمَ، وَقَبَّلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَدَ ابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ، قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهَهَا مَالِكٌ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ وَالتَّعَظُّمِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ لِدِينِهِ أَوْ لِعِلْمِهِ أَوْ لِشَرَفِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ: أَنَّ يَهُودِيَّيْنِ أَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ. الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: فَقَبَّلَا يَدَهُ وَرِجْلَهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قُلْتُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ، وَحَدِيثُ أَبِي لُبَابَةَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَابْنُ الْمُقْرِي، وَحَدِيثُ كَعْبٍ وَصَاحِبَيْهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُقْرِي، وَحَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَخْرَجَهُ سُفْيَانُ فِي جَامِعِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُقْرِي، وَحَدِيثُ صَفْوَانَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وَقَدْ جَمَعَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِي جُزْءًا فِي تَقْبِيلِ الْيَدِ سَمِعْنَاهُ، أَوْرَدَ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً وَآثَارًا، فَمِنْ جَيِّدِهَا حَدِيثُ الزَّارِعِ الْعَبْدِيِّ وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ: فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَمِنْ حَدِيثِ مَزِيدَةَ الْعَصَرِيِّ مِثْلُهُ، وَمِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: قُمْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبَّلْنَا يَدَهُ. وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ عُمَرَ قَامَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبَّلَ يَدَهُ، وَمِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ وَالشَّجَرَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي أَنْ أُقَبِّلَ رَأَسَكَ وَرِجْلَيْكَ فَأَذِنَ لَهُ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَزِينٍ قَالَ: أَخْرَجَ لَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ كَفًّا لَهُ ضَخْمَةً كَأَنَّهَا كَفُّ بَعِيرٍ، فَقُمْنَا إِلَيْهَا فَقَبَّلْنَاهَا، وَعَنْ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَبَّلَ يَدَ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا قَبَّلَ يَدَ الْعَبَّاسِ وَرِجْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُقْرِي، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ أَبِي أَوْفَى: نَاوِلْنِي يَدَكَ الَّتِي بَايَعْتَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَاوَلَنِيهَا فَقَبَّلْتُهَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: تَقْبِيلُ يَدَ الرَّجُلِ لِزُهْدِهِ وَصَلَاحِهِ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ شَرَفِهِ أَوْ صِيَانَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لَا يُكْرَهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ، فَإِنْ كَانَ لِغِنَاهُ أَوْ شَوْكَتِهِ أَوْ جَاهِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا فَمَكْرُوهٌ شَدِيدُ الْكَرَاهَةِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي: لَا يَجُوزُ.
29 - بَاب الْمُعَانَقَةِ، وَقَوْلِ الرَّجُلِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟
6266 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا - يَعْنِي ابْنَ أَبِي طَالِبٍ - خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ح. وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: أَلَا تَرَاهُ؟ أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ ثلَاث عَبْدُ الْعَصَا، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيُتَوَفَّى فِي وَجَعِهِ، وَإِنِّي لَأَعْرِفُ فِي وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَوْتَ، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَسْأَلَهُ فِيمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ؟ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا آمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا. قَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فمنعناها لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا، وَإِنِّي لَا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَدًا.
قَوْلُهُ: (بَابِ الْمُعَانَقَةِ وَقَوْلُ الرَّجُلِ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَ لَفْظُ الْمُعَانَقَةِ وَوَاوُ الْعَطْفِ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ وَضَرَبَ عَلَيْهَا الدِّمْيَاطِيُّ فِي أَصْلِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ؛ لِأَنَّهُ رَوَى عَنْ بِشْرِ بْنِ شُعَيْبٍ فِي بَابِ مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قُلْتُ: وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ وَهُنَا وَاحِدٌ وَالصِّيغَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ، فَكَانَ حَقُّهُ إِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِإِسْحَاقَ هُنَاكَ ابْنُ مَنْصُورٍ أَنْ يَقُولَ هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ) هُوَ إِسْنَادٌ آخَرُ إِلَى الزُّهْرِيِّ يَرُدُّ عَلَى مَنْ ظَنَّ انْفِرَادَ شُعَيْبٍ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، وَلَمْ أَسْتَحْضِرْ حِينَئِذٍ رِوَايَةَ يُونُسَ هَذِهِ، فَهُمْ عَلَى هَذَا ثَلَاثَةٌ مِنْ حُفَّاظِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ رَوَوْهُ عَنْهُ، وَسِيَاقُ الْمُصَنِّفِ عَلَى لَفْظِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ هَذَا، وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ عَلَى لَفْظِ شُعَيْبٍ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ وَقَدْ ذَكَرْتُ شَرْحَهُ هُنَاكَ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: تَرْجَمَ لِلْمُعَانَقَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْبَابِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ مُعَانَقَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ الْحَدِيثَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَسْوَاقِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فَلَمْ يَجِدْ لَهُ سَنَدًا غَيْرَ السَّنَدِ الْأَوَّلِ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ شَيْئًا، فَبَقِيَ الْبَابُ فَارِغًا مِنْ ذِكْرِ الْمُعَانَقَةِ، وَكَانَ بَعْدَهُ بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ. وَفِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ، فَلَمَّا وَجَدَ نَاسِخُ الْكِتَابِ التَّرْجَمَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ ظَنَّهُمَا وَاحِدَةً إِذْ لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا حَدِيثًا.
وَفِي الْكِتَابِ مَوَاضِعُ مِنَ الْأَبْوَابِ فَارِغَةٌ لَمْ يُدْرِكْ أَنْ يُتِمَّهَا بِالْأَحَادِيثِ، مِنْهَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ. انْتَهَى، وَفِي جَزْمِهِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا أَخْرَجَهُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ فَإِنَّهُ تَرْجَمَ فِيهِ بَابَ الْمُعَانَقَةِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ إِلَيْهِ رَحْلِي شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَبَعَثْتُ إِلَيْهِ فَخَرَجَ، فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ الْحَدِيثَ فَهَذَا أَوْلَى بِمُرَادِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مُعَلَّقًا فَقَالَ: وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَنَدِهِ هُنَاكَ.
وَأَمَّا جَزْمُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَنَدًا آخَرَ فَفِيهِ نَظَرٌ: لِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ بِسَنَدٍ آخَرَ وَعَلَّقَهُ فِي مَنَاقِبِ الْحَسَنِ، فَقَالَ: وَقَالَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ:، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ طَرَفًا مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ أَرَادَ ذِكْرَهُ لَعَلَّقَ مِنْهُ مَوْضِعَ حَاجَتِهِ أَيْضًا بِحَذْفِ أَكْثَرِ السَّنَدِ أَوْ بَعْضِهِ، كَأَنْ يَقُولَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَوْ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُمَا تَرْجَمَتَانِ خَلَتِ الْأُولَى عَنِ الْحَدِيثِ فَضَمَّهُمَا النَّاسِخُ فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنْ فِي الْجَزْمِ بِهِ نَظَرٌ.
وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَاوِي الْكِتَابِ مَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ بَعْضَ مَنْ سَمِعَ الْكِتَابَ كَانَ يَضُمُّ بَعْضَ التَّرَاجِمِ إِلَى بَعْضٍ وَيَسُدُّ الْبَيَاضَ، وَهِيَ قَاعِدَةٌ يُفْزَعُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَطْبِيقِ الْحَدِيثِ عَلَى التَّرْجَمَةِ، وَيُؤَيِّدهُ إِسْقَاطُ لَفْظِ الْمُعَانَقَةِ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَقَدْ تَرْجَمَ فِي الْأَدَبِ بَابَ كَيْفَ أَصْبَحْتَ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ، وَأَفْرَدَ بَابَ الْمُعَانَقَةِ عَنْ هَذَا الْبَابِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ كَمَا ذَكرْتُ، وَقَوَّى ابْنُ التِّينِ مَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ بَابِ الْمُعَانَقَةِ قَوْلُ الرَّجُلِ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ بِغَيْرِ وَاوٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا تَرْجَمَتَانِ.
وَقَدْ أَخَذَ ابْنُ جَمَاعَةَ كَلَامَ ابْنِ بَطَّالٍ جَازِمًا بِهِ وَاخْتَصَرَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: تَرْجَمَ بِالْمُعَانَقَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَكَأَنَّهُ تَرْجَمَ وَلَمْ
يَتَّفِقْ لَهُ حَدِيثٌ يُوَافِقُهُ فِي الْمَعْنَى وَلَا طَرِيقٌ آخَرُ لِسَنَدِ مُعَانَقَةِ الْحَسَنِ، وَلَمْ يَرَ أَنْ يَرْوِيَهُ بِذَلِكَ السَّنَدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ إِعَادَةُ السَّنَدِ الْوَاحِدِ، أَوْ لَعَلَّهُ أَخَذَ الْمُعَانَقَةَ مِنْ عَادَتِهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِمْ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ، فَاكْتَفَى بِكَيْفَ أَصْبَحْتَ لِاقْتِرَانِ الْمُعَانَقَةِ بِهِ عَادَةً. قُلْتُ: وَقَدْ قَدَّمْتُ الْجَوَابَ عَنِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَخِيرُ فَدَعْوَى الْعَادَةِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ فِي بَابِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ حَدِيثَ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمَّا أُصِيبَ أَكْحَلُهُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرَّ بِهِ يَقُولُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ. الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ فِيهِ لِلْمُعَانَقَةِ ذِكْرٌ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَقَالَ: صَالِحٌ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُصْبِحُ صَائِمًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: بِخَيْرٍ. الْحَدِيثَ. وَمِنْ حَدِيثِ مُهَاجِرٍ الصَّائِغِ: كُنْتُ أَجْلِسُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ إِذَا قِيلَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِحُذَيْفَةَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ، أَوْ كَيْفَ أَمْسَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَحْمَدُ اللَّهَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَيْفَ أَنْتَ؟ قَالَ: أَحْمَدُ اللَّهَ. قَالَ: هَذَا الَّذِي أَرَدْتُ مِنْكَ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ نَحْوَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا، فَهَذِهِ عِدَّةُ أَخْبَارٍ لَمْ تَقْتَرِنْ فِيهَا الْمُعَانَقَةُ بِقَوْلِ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ وَنَحْوِهَا، بَلْ وَلَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ اثْنَيْنِ تَلَاقَيَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ حَتَّى يَسْتَقِيمَ الْحَمْلُ عَلَى الْعَادَةِ فِي الْمُعَانَقَةِ حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ مَنْ حَضَرَ بَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَوْا خُرُوجَ عَلِيٍّ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنْ حَالِهِ فِي مَرَضِهِ فَأَخْبَرَهُمْ، فَالرَّاجِحُ أَنَّ تَرْجَمَةَ الْمُعَانَقَةِ كَانَتْ خَالِيَةً مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمُعَانَقَةِ أَيْضًا حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ مِنْ عَنَزَةَ لَمْ يُسَمَّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَافِحُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ؟ قَالَ: مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إِلَّا صَافَحَنِي، وَبَعَثَ إِلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي، فَلَمَّا جِئْتُ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ فَالْتَزَمَنِي، فَكَانَتْ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا هَذَا الرَّجُلَ الْمُبْهَمَ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: كَانُوا إِذَا تَلَاقَوْا تَصَافَحُوا، وَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا، وَلَهُ فِي الْكَبِيرِ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَقِيَ أَصْحَابَهُ لَمْ يُصَافِحْهُمْ حَتَّى يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُعَانَقَةِ، فَكَرِهَهَا مَالِكٌ، وَأَجَازَهَا ابْنُ عُيَيْنَةَ. ثُمَّ سَاقَ قِصَّتَهُمَا فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يُونُسَ اللَّيْثِيِّ الْمَدَنِيِّ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهَا ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ جَعْفَرٍ مِنْ تَارِيخِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يُونُسَ قَالَ: اسْتَأْذَنَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى مَالِكٍ فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ خَاصٌّ وَعَامٌّ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ لَعَانَقْتُكَ، قَالَ: قَدْ عَانَقَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، قَالَ: جَعْفَرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ذَاكَ خَاصٌّ، قَالَ: مَا عَمَّهُ يَعُمُّنَا.
ثُمَّ سَاقَ سُفْيَانُ الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنَ الْحَبَشَةِ اعْتَنَقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ. قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: هَذِهِ الْحِكَايَةُ بَاطِلَةٌ، وَإِسْنَادُهَا مُظْلِمٌ. قُلْتُ: وَالْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِغَيْرِ هَذَا الْإِسْنَادِ، فَأَخْرَجَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ جَعْفَرًا لَمَّا قَدِمَ تَلَقَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَّلَ جَعْفَرًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَأَخْرَجَ الْبَغْوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ اسْتَقْبَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَسَنَدُهُ
مَوْصُولٌ لَكِنْ فِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُرْيَانَا يَجُرُّ ثَوْبَهُ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَأَخْرَجَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ. وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي أَخْذِ الْعَبَّاسِ بِيَدِ عَلِيٍّ جَوَازُ الْمُصَافَحَةِ وَالسُّؤَالِ عَنْ حَالِ الْعَلِيلِ كَيْفَ أَصْبَحَ، وَفِيهِ جَوَازُ الْيَمِينِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَفِيهِ أَنَّ الْخِلَافَةَ لَمْ تُذْكَرْ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ أَصْلًا لِأَنَّ الْعَبَّاسَ حَلَفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَأْمُورًا لَا آمِرًا لِمَا كَانَ يَعْرِفُ مِنْ تَوْجِيهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَا إِلَى غَيْرِهِ، وَفِي سُكُوتِ عَلِيٍّ دَلِيلٌ عَلَى عِلْمِ عَلِيٍّ بِمَا قَالَ الْعَبَّاسُ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ لَوْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِصَرْفِهَا عَنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمْ يُمَكِّنْهُمْ أَحَدٌ بَعْدَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ وَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَمَرْتُ عُمَرَ فَامْتَنَعَ ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ عُمَرُ مِنْ وِلَايَتِهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْهَمُ مُرَادَ عَلِيٍّ. وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ بَيَانَ مُرَادِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا خَشِيَ أَنْ يَكُونَ مَنْعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ مِنَ الْخِلَافَةِ حُجَّةً قَاطِعَةً بِمَنْعِهِمْ مِنْهَا عَلَى الِاسْتِمْرَارِ تَمَسُّكًا بِالْمَنْعِ الْأَوَّلِ لَوْ رَدَّهُ بِمَنْعِ الْخِلَافَةِ نَصًّا، وَأَمَّا مَنْعُ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى مَنْعِ الْخِلَافَةِ وَإِنْ كَانَ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ فَهُوَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ لَا النَّصِّ، وَلَوْلَا قَرِينَةُ كَوْنِهِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مَا قَوِيَ، وَإِلَّا فَقَدِ اسْتَنَابَ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرَهُ فِي أَسْفَارِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا اسْتَنْبَطَهُ أَوَّلًا فَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ مُسْتَنَدَ الْعَبَّاسِ فِي ذَلِكَ الْفَرَاسَةُ وَقَرَائِنُ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ يَنْحَصِرْ ذَلِكَ فِي أَنَّ مَعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّصَّ عَلَى مَنْعِ عَلِيٍّ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ هُنَاكَ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِعَلِيٍّ بَعْدَ أَنْ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ فَيُبَايِعَكَ النَّاسُ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْعَبَّاسَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ نَصٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِعَلِيٍّ: أَلَا تَرَاهُ، أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ. إِلَخْ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: الضَّمِيرُ فِي تَرَاهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَلَيْسَتِ الرُّؤْيَةُ هُنَا الرُّؤْيَةَ الْبَصَرِيَّةَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ أَلَا تَرَى بِغَيْرِ ضَمِيرٍ. وَقوْلُهُ: لَوْ لَمْ تَكُنِ الْخِلَافَةُ فِينَا آمَرْنَاهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَهُوَ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ أَيْ شَاوَرْنَاهُ، قَالَ: وَقَرَأْنَاهُ بِالْقَصْرِ مِنَ الْأَمْرِ، قُلْتُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالْمُرَادُ سَأَلْنَاهُ، لِأَنَّ صِيغَةَ الطَّلَبِ كَصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يُؤَكِّدُ عَلَيْهِ فِي السُّؤَالِ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ آمِرٌ لَهُ بِذَلِكَ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعُلُوُّ وَلَا الِاسْتِعْلَاءُ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَاوُدِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ مَا اسْتَعْمَلَ النَّاسُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ فِي زَمَنِ طَاعُونِ عَمَوَاسَ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقُولُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَبِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
قُلْتُ: وَالْجَوَابُ حَمْلُ الْأَوَّلِيَّةِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ بِمَشْرُوعِيَّةِ السَّلَامِ لِلْمُتَلَاقِيَيْنِ، ثُمَّ حَدَثَ السُّؤَالُ عَنِ الْحَالِ، وَقَلَّ مَنْ صَارَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَالسُّنَّةُ الْبَدَاءَةُ بِالسَّلَامِ، وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِيهِ مَا وَقَعَ مِنَ الطَّاعُونِ فَكَانَتِ الدَّاعِيَةُ مُتَوَفِّرَةً عَلَى سُؤَالِ الشَّخْصِ مِنْ صِدِيقِهِ عَنْ حَالِهِ فِيهِ، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى اكْتَفَوْا بِهِ عَنِ السَّلَامِ، وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ سُؤَالِ الشَّخْصِ عَمَّنْ عِنْدَهُ مِمَّنْ عَرَفَ أَنَّهُ مُتَوَجِّعٌ وَبَيْنَ سُؤَالِ مَنْ حَالُهُ يَحْتَمِلُ الْحُدُوثَ.
30 - بَاب مَنْ أَجَابَ بِلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ
6267 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ - ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلَاثًا - هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ.
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مُعَاذٍ بِهَذَا.
6268 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً اسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُدًا ذَهَبًا، تأْتِي عَلَيَّ لَيْلَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - وَأَرَانَا بِيَدِهِ - ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْأَكْثَرُونَ هُمْ الْأَقَلُّونَ، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا، ثُمَّ قَالَ لِي: مَكَانَكَ لَا تَبْرَحْ يَا أَبَا ذَرٍّ حَتَّى أَرْجِعَ، فَانْطَلَقَ حَتَّى غَابَ عَنِّي فَسَمِعْتُ صَوْتًا، فَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عُرِضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَبْرَحْ، فَمَكُثْتُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُ صَوْتًا خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عُرِضَ لَكَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَكَ فَقُمْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ لِزَيْدٍ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ لَحَدَّثَنِيهِ أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ. قَالَ الْأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ. وَقَالَ أَبُو شِهَابٍ عَنْ الْأَعْمَشِ: يَمْكُثُ عِنْدِي فَوْقَ ثَلَاثٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَجَابَ بِلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ:(أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ) وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ بَعْضِ حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَفِي الْجِهَادِ وَيَأْتِي مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ.
وَقَوْلُهُ فِيهِ: قُلْتُ لِزَيْدٍ أَيِ ابْنِ وَهْبٍ، وَالْقَائِلُ هُوَ الْأَعْمَشُ وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِيهَا أَنَّ الْأَعْمَشَ رَوَاهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَقوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو شِهَابٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ يَعْنِي عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ كَمَا تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الِاسْتِقْرَاضِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَتَى بِقَوْلِهِ: يَمْكُثُ عِنْدِي فَوْقَ ثَلَاثٍ بَدَلَ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْبَابِ: تَأْتِي عَلَيَّ لَيْلَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، وَبَقِيَّةُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ سَوَاءٌ إِلَّا الْكَلَامَ الْأَخِيرَ فِي سُؤَالِ الْأَعْمَشِ، زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ إِلَى آخِرِهِ، وَقَوْلُهُ: أُرْصِدُهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَقَوْلُهُ: فَقُمْتُ أَيْ أَقَمْتُ فِي مَوْضِعِي وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}
وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: انْطَلَقَتْ بِي أُمِّي إِلَى رَجُلٍ جَالِسٍ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ.
قُلْتُ: وَأُمُّهُ هِيَ أُمُّ جَمِيلٍ بِالْجِيمِ بِنْتِ الْمُحَلَّلِ بِمُهْمَلَةٍ وَلَامَيْنِ الْأُولَى ثَقِيلَةٌ.
31 - بَاب لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ
6269 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ) هَكَذَا تَرْجَمَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ وَهُوَ خَبَرٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ بِلَفْظِ النَّهْيِ لَا يُقِمْ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ الْحَسَنِ، وَرَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ يَزِيدَ، وَطَاهِرُ بْنُ مِدْرَارٍ بِلَفْظِ: لَا يُقِيمَنَّ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ النَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ، وَكَذَا عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي الْمُوَطَّأِ إِلَّا عِنْدَ ابْنِ وَهْبٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْحَسَنِ، وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ يَزِيدَ، وَطَاهِرِ بْنِ مِدْرَارٍ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ يَزِيدَ الْجَرْمِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ جَمِيعًا عَنْ مَالِكٍ، وَضَاقَ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَفْسِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِيهِ.
32 - بَاب {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} الْآيَةَ
6270 -
حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ مَكَانَهُ.
قَوْلُهُ: بَابُ {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ. وَزَادَ غَيْرُهُ: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} الْآيَةَ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِمَجْلِسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَجْلِسُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ قُلْتُ لَفْظُ الطَّبَرِيِّ عَنْ قَتَادَةَ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَوْهُ مُقْبِلًا ضَيَّقُوا مَجْلِسَهُمْ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنْ يُوَسِّعَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ.
قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ الثَّقِيلَةِ قَالَ نَزَلَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فَلَمْ يَجِدُوا مَكَانًا، فَأَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاسًا مِمَّنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ فَأَجْلَسَهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَتَكَلَّمَ الْمُنَافِقُونَ فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَجْلِسُ الْقِتَالِ قَالَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ {انْشُزُوا} انْهَضُوا لِلْقِتَالِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْخَيْرِ، وَقَوْلُهُ: افْسَحُوا
يَفْسَحِ اللَّهُ أَيْ وَسِّعُوا يُوَسِّعِ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ
قَوْلُهُ: سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسُ فِيهِ آخَرُ. كَذَا فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: لَا يُقِمِ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ ثُمَّ يَجْلِسْ فِيهِ.
قَوْلُهُ: وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا. هُوَ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ قَبِيصَةَ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ: وَلَكِنْ لِيَقُلِ افْسَحُوا وَتَوَسَّعُوا وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ قَبِيصَةَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ لِيَقُلْ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَشَارَ مُسْلِمٌ إِلَى أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَفَرَّدَ بِهَا عَنْ نَافِعٍ، وَأَنَّ مَالِكًا، وَاللَّيْثَ، وَأَيُّوبَ، وَابْنَ جُرَيْجٍ رَوَوْهُ عَنْ نَافِعٍ بِدُونِهَا، وَأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ زَادَ قُلْتُ لِنَافِعٍ: فِي الْجُمُعَةِ؟ قَالَ وَفِي غَيْرِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ زِيَادَةُ ابْنُ جُرَيْجٍ هَذِهِ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يُخَالِفْ إِلَى مَقْعَدِهِ فَيَقْعُدْ فِيهِ، وَلَكِنْ يَقُولُ: افْسَحُوا. فَجَمَعَ بَيْنَ الزِّيَادَتَيْنِ وَرَفَعَهُمَا وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ سُؤَالِ ابْنِ جُرَيْجٍ، لِنَافِعٍ.
قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: هَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْمَجَالِسِ وَلَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْمَجَالِسِ الْمُبَاحَةِ إِمَّا عَلَى الْعُمُومِ كَالْمَسَاجِدِ وَمَجَالِسِ الْحُكَّامِ وَالْعِلْمِ وَإِمَّا عَلَى الْخُصُوصِ كَمَنْ يَدْعُو قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ إِلَى مَنْزِلِهِ لِوَلِيمَةٍ وَنَحْوِهَا وَأَمَّا الْمَجَالِسُ الَّتِي لَيْسَ لِلشَّخْصِ فِيهَا مِلْكٌ وَلَا إِذْنَ لَهُ فِيهَا فَإِنَّهُ يُقَامُ وَيُخْرَجُ مِنْهَا، ثُمَّ هُوَ فِي الْمَجَالِسِ الْعَامَّةِ وَلَيْسَ عَامًّا فِي النَّاسِ بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِغَيْرِ الْمَجَانِينِ وَمَنْ يَحْصُلُ مِنْهُ الْأَذَى كَآكِلِ الثُّومِ النِّيِّئِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالسَّفِيهِ إِذَا دَخَلَ مَجْلِسَ الْعِلْمِ أَوِ الْحُكْمِ. قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا النَّهْيِ مَنْعُ اسْتِنْقَاصِ حَقِّ الْمُسْلِمِ الْمُقْتَضِي لِلضَّغَائِنِ وَالْحَثِّ عَلَى التَّوَاضُعِ الْمُقْتَضِي لِلْمُوَادَدَةِ، وَأَيْضًا فَالنَّاسُ فِي الْمُبَاحِ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فَمَنْ سَبَقَ إِلَى شَيْءٍ اسْتَحَقَّهُ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ شَيْئًا فَأَخَذَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ غَصْبٌ وَالْغَصْبُ حَرَامٌ.
فَعَلَى هَذَا قَدْ يَكُونُ بَعْضُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ وَبَعْضُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ قَالَ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا فَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ يَتَوَسَّعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَنْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يَفْضُلَ مِنَ الْجَمْعِ مَجْلِسٌ لِلدَّاخِلِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ
قَوْلُهُ (يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يُجْلَسَ مَكَانَهُ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ قَبِيصَةَ عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ بِلَفْظِ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ وَقَوْلُهُ: يَجْلِسُ. فِي رِوَايَتنَا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَبَطَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْغَرْنَاطِيُّ فِي نُسْخَتِهِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى وَزْنِ يُقَامُ.
وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْخَصِيبِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ آخِرَهُ مُوَحَّدَةٌ بِوَزْنِ عَظِيمٍ وَاسْمُهُ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ فَذَهَبَ لِيَجْلِسَ فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ: جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ، وَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَا.
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ لَفْظُهُ مِثْلُ لَفْظِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ فَكَأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَقَدْ قَالَ الْبَزَّارُ: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا هَذِهِ. وَفِي سَنَدِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى وَقِيلَ مَوْلَى قُرَيْشٍ وَهُوَ بَصْرِيٌّ لَا يُعْرَفُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتُلِفَ فِي النَّهْيِ فَقِيلَ لِلْأَدَبِ وَإِلَّا فَالَّذِي يَجِبُ لِلْعَالِمِ أَنْ يَلِيَهُ أَهْلُ الْفَهْمِ وَالنَّهْيِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ سَبَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مُبَاحٍ أَنْ يُقَامَ مِنْهُ. وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ أَحَقَّ بِهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ ثَبَتَ أَنَّهُ حَقُّهُ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ،
فَإِنَّهُ رَاوِي الْحَدِيثِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ مِنْهُ.
وَأَجَابَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَدَبِ أَنَّ الْمَوْضِعَ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ مِلْكَهُ قَبْلَ الْجُلُوسِ وَلَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّيَّةِ فِي حَالَةِ الْجُلُوسِ الْأَوْلَوِيَّةُ، فَيَكُونُ مَنْ قَامَ تَارِكًا لَهُ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ جُمْلَةً، وَمَنْ قَامَ لِيَرْجِعَ يَكُونُ أَوْلَى.
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ بِهِ وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ إِذَا كَانَتْ أَوْبَتُهُ قَرِيبَةً، وَإِنْ بَعُدَ فَلَا أَرَى ذَلِكَ لَهُ وَلَكِنَّهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ اخْتِصَاصِ الْجَالِسِ بِمَوْضِعِهِ إِلَى أَنْ يَقُومَ مِنْهُ وَمَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَدَبِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِلْكًا لَهُ لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّهُ غَيْرُ مِلْكٍ لَهُ لَكِنْ يَخْتَصُّ بِهِ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ غَرَضُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَلَكَ مَنْفَعَتَهُ فَلَا يُزَاحِمُهُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا هَذَا فِي حَقِّ مَنْ جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ لِصَلَاةٍ مَثَلًا ثُمَّ فَارَقَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِ كَإِرَادَةِ الْوُضُوءِ مَثَلًا أَوْ لِشُغْلٍ يَسِيرٍ ثُمَّ يَعُودُ لَا يَبْطُلُ اخْتِصَاصُهُ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ خَالَفَهُ وَقَعَدَ فِيهِ وَعَلَى الْقَاعِدِ أَنْ يُطِيعَهُ.
وَاخْتُلِفَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا الْوُجُوبُ وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهَا، قَالَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُومَ مِنْهُ وَيَتْرُكَ لَهُ فِيهِ سَجَّادَةً وَنَحْوَهَا أَمْ لَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنِ اعْتَادَ بِمَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ لِلتَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى فَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ إِذَا عُرِفَ بِهِ قَالَ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَلَيْسَ بِحَقٍّ وَاجِبٍ، وَلَعَلَّهُ مُرَادُ مَالِكٍ. وَكَذَا قَالُوا فِي مَقَاعِدِ الْبَاعَةِ مِنَ الْأَفْنِيَةِ وَالطُّرُقِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُتَمَلَّكَةٍ قَالُوا مَنِ اعْتَادَ بِالْجُلُوسِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَتِمَّ غَرَضُهُ. قَالَ: وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، عَنْ مَالِكٍ قَطْعًا لِلتَّنَازُعِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اسْتَثْنَى أَصْحَابُنَا مِنْ عُمُومِ قَوْلِ: لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسْ فِيهِ. مَنْ أَلِفَ مِنَ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ أَوْ يُقْرِئُ فِيهِ قُرْآنًا أَوْ عِلْمًا فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ سَبَقَهُ إِلَى الْقُعُودِ فِيهِ وَفِي مَعْنَاهُ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الشَّوَارِعِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ لِمُعَامَلَةٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا مَا نُسِبَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ وَرَعٌ مِنْهُ وَلَيْسَ قُعُودُهُ فِيهِ حَرَامًا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِرِضَا الَّذِي قَامَ وَلَكِنَّهُ تَوَرُّعٌ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَامَ لِأَجْلِهِ اسْتَحْيَى مِنْهُ فَقَامَ عَنْ غَيْرِ طِيبِ قَلْبِهِ فَسَدَّ الْبَابَ لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا أَوْ رَأَى أَنَّ الْإِيثَارَ بِالْقُرْبِ مَكْرُوهٌ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى، فَكَانَ يَمْتَنِعُ لِأَجْلِ ذَلِكَ لِئَلَّا يَرْتَكِبَ ذَلِكَ أَحَدٌ بِسَبَبِهِ. قَالَ عُلَمَاءُ أَصْحَابِنَا: وَإِنَّمَا يُحْمَدُ الْإِيثَارُ بِحُظُوظِ النَّفْسِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا
33 - بَاب مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَوْ بَيْتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ أَصْحَابَهُ أَوْ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ لِيَقُومَ النَّاسُ
6271 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعَا النَّاسَ، طَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مَعَهُ مِنْ النَّاسِ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَدْخُلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا، قَالَ: فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ، فَأَرْخَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}
قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَوْ بَيْتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ أَصْحَابَهُ أَوْ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ لِيَقُومَ النَّاسُ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ زَوَاجِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَنُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ وَفِيهِ فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ وَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ غَيْرِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَأَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ لَا يُطِيلُ الْجُلُوسَ بَعْدَ تَمَامِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ لِئَلَّا يُؤْذِيَ أَصْحَابَ الْمَنْزِلِ وَيَمْنَعَهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِهِمْ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى تَضَرَّرَ بِهِ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَنْ يُظْهِرَ التَّثَاقُلَ بِهِ وَأَنْ يَقُومَ بِغَيْرِ إِذْنٍ حَتَّى يَتَفَطَّنَ لَهُ وَأَنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَأْذُونِ لَهُ فِي الدُّخُولِ أَنْ يُقِيمَ إِلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
34 - بَاب الِاحْتِبَاءِ بِالْيَدِ وَهُوَ الْقُرْفُصَاءُ
6272 -
حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا.
قَوْلُهُ: بَابُ الِاحْتِبَاءِ بِالْيَدِ وَهُوَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَهِيَ الْقُرْفُصَاءُ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْفَاءِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ صَادٌ مُهْمَلَةٌ وَمَدٌّ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ ضَمَمْتَ الْقَافَ وَالْفَاءَ مَدَدْتَ وَإِنْ كَسَرْتَ قَصَرْتَ، وَالَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْبُخَارِيُّ الِاحْتِبَاءَ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْقُرْفُصَاءُ جِلْسَةُ الْمُحْتَبِي، وَيُدِيرُ ذِرَاعَيْهِ وَيَدَيْهِ عَلَى سَاقَيْهِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: قِيلَ هِيَ الِاحْتِبَاءُ، وَقِيلَ: جِلْسَةُ الرَّجُلِ الْمُسْتَوْفِزِ، وَقِيلَ: جِلْسَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَلْيَتَيْهِ. قَالَ وَحَدِيثُ قَيْلَةَ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِيهِ وَبِيَدِهِ عَسِيبُ نَخْلَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْتَبِ بِيَدَيْهِ.
قُلْتُ: وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ الِاحْتِبَاءِ، فَإِنَّهُ تَارَةً يَكُونُ بِالْيَدَيْنِ وَتَارَةً بِثَوْبٍ، فَلَعَلَّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي رَأَتْهُ قَيْلَةُ كَانَ مُحْتَبِيًا بِثَوْبِهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ: الِاحْتِبَاءُ أَنْ يَجْمَعَ ثَوْبَهُ ظَهْرَهُ وَرُكْبَتَيْهِ. قُلْتُ: وَحَدِيثُ قَيْلَةَ وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا لَامٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَطَوَّلَهُ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ أَنَّهَا قَالَتْ. . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: قَالَتْ فَجَاءَ رَجُلٌ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَعَلَيْهِ أَسْمَالٌ مُلَيَّتَيْنِ قَدْ كَانَتَا بِزَعْفَرَانٍ فَنَفَضَتَا وَبِيَدِهِ عَسِيبُ نَخْلَةٍ مُقَشَّرَةٍ قَاعِدًا الْقُرْفُصَاءَ. قَالَتْ فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَخَشِّعَ فِي الْجِلْسَةِ أَرُعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ، فَقَالَ لَهُ: جَلِيسُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْعَدْتَ الْمِسْكِينَةَ، فَقَالَ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيَّ: يَا مِسْكِينَةُ عَلَيْكِ السَّكِينَةُ، فَذَهَبَ عَنِّي مَا أَجِدُ مِنَ الرُّعْبِ الْحَدِيثَ وَقَوْلُهُ فِيهِ وَعَلَيْهِ أَسْمَالٌ بِمُهْمَلَةٍ جَمْعُ سَمَلٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الثَّوْبُ الْبَالِي، ومُلَيَّتَيْنِ بِالتَّصْغِيرِ تَثْنِيَةُ مُلَاءَةٍ، وَهِيَ الرِّدَاءُ، وَقِيلَ: الْقُرْفُصَاءُ الِاعْتِمَادُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَمَسُّ أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ وَالَّذِي يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الِاحْتِبَاءَ قَدْ يَكُونُ بِصُورَةِ الْقُرْفُصَاءِ لَا أَنَّ كُلَّ احْتِبَاءٍ قُرْفُصَاءُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ، هُوَ الْقُومِسِيُّ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، نَزَلَ بَغْدَادَ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَمَاتَ قَبْلَهُ بِسِتِّ سِنِينَ وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثٌ آخَرُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَلَهُمْ شَيْخٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ الْوَاسِطِيُّ نَزِيلُ بَغْدَادَ قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْكَلَابَاذِيُّ: سَمِعَ مِنْ هُشَيْمٍ وَمَاتَ قَبْلَ الْقُومِسِيِّ بِسِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً
قَوْلُهُ (مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ) هُوَ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَدَنِيُّ، وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِهِ هَذَا دَرَجَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ أَصْحَابِ فُلَيْحٍ مِثْلِ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ وَنَزَلَ فِي حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ دَرَجَةً؛
لِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ الْكَثِيرَ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.
قَوْلُهُ (بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ مَدٍّ أَيْ جَانِبِهَا مِنْ قِبَلِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا. كَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ مُخْتَصَرًا وَرُوِّينَاهُ فِي الْجُزْءِ السَّادِسِ مِنْ فَوَائِدِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي غَزِيَّةَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ الْقَاضِي، عَنْ فُلَيْحٍ نَحْوَهُ وَزَادَ فَأَرَانَا فُلَيْحٌ مَوْضِعَ يَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ مَوْضِعَ الرُّسْغِ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ أَبِي غَزِيَّةَ بِسَنَدٍ آخَرَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، دُونَ كَلَامِ فُلَيْحٍ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي غَزِيَّةَ، عَنْ فُلَيْحٍ وَلَمْ يَذْكُرْ كَلَامَ فُلَيْحٍ أَيْضًا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ لِأَبِي غَزِيَّةَ فِيهِ شَيْخَيْنِ وَأَبُو غَزِيَّةَ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَلَسَ احْتَبَى بِيَدَيْهِ زَادَ الْبَزَّارُ: وَنَصَبَ رُكْبَتَيْهِ.
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: جَلَسَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَضَمَّ رِجْلَيْهِ فَأَقَامَهُمَا وَاحْتَبَى بِيَدَيْهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ الِاحْتِبَاءِ بِالْيَدَيْنِ مَا إِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَاحْتَبَى بِيَدَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى كَمَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَضْعِ إِحْدَاهُمَا عَلَى رُسْغِ الْأُخْرَى، وَلَا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَتَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ التَّشْبِيكِ فِي الْمَسْجِدِ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْتَبِي أَنْ يَصْنَعَ بِيَدَيْهِ شَيْئًا وَيَتَحَرَّكُ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ عَوْرَتَهُ تَبْدُو إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، فَيَجُوزُ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الِاحْتِبَاءَ قَدْ يَكُونُ بِالْيَدَيْنِ فَقَطْ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَفَرَّقَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ التِّينِ بَيْنَ الِاحْتِبَاءِ وَالْقُرْفُصَاءِ، فَقَالَ: الِاحْتِبَاءُ أَنْ يُقِيمَ رِجْلَيْهِ وَيُفَرِّجَ بَيْنَ رُكْبَيَتْهِ وَيُدِيرَ عَلَيْهِ ثَوْبًا وَيَعْقِدَهُ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ غَيْرُهُ فَلَا يُنْهَى عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَهُوَ الْقُرْفُصَاءُ، كَذَا قَالَ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا تَقَدَّمَ.
35 - بَاب مَنْ اتَّكَأَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ
وقَالَ خَبَّابٌ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُوسِّدٌ بُرْدَةً، فقُلْتُ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ
6273 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ.
6274 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ مِثْلَهُ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اتَّكَأَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ) قِيلَ الِاتِّكَاءُ الِاضْطِجَاعُ وَقَدْ مَضَى فِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى سَرِيرٍ أَيْ مُضْطَجِعٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَدْ أَثَّرَ السَّرِيرُ فِي جَنْبِهِ كَذَا قَالَ عِيَاضٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ تَمَامِ الِاضْطِجَاعِ، وَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كُلُّ مُعْتَمِدٍ عَلَى شَيْءٍ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ فَهُوَ مُتَّكِئٌ، وَإِيرَادُ الْبُخَارِيِّ حَدِيثَ خَبَّابٍ الْمُعَلَّقَ يُشِيرُ بِهِ إِلَى أَنَّ الِاضْطِجَاعَ اتِّكَاءٌ وَزِيَادَةٌ، وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ هُوَ
وَأَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ وَنَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ كَرِهَ الِاتِّكَاءَ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ فِيهِ رَاحَةً كَالِاسْتِنَادِ وَالِاحْتِبَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ خَبَّابٌ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ أَيْضًا هُوَ ابْنُ الْأَرَتِّ الصَّحَابِيُّ، وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُعَلَّقُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لَهُ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ فِي أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ لِقولِهِ فِيهِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَدَبِ، وَوَرَدَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ لَمَّا قَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالُوا: ذَلِكَ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ قَالَ الْمُهَلَّبُ: يَجُوزُ لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي وَالْإِمَامِ الِاتِّكَاءُ فِي مَجْلِسِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ لِأَلَمٍ يَجِدُهُ فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ، أَوْ لِرَاحَةٍ يَرْتَفِقُ بِذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ جُلُوسِهِ.
36 - بَاب مَنْ أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ لِحَاجَةٍ أَوْ قَصْدٍ
6275 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ لِحَاجَةٍ) أَيْ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَقَوْلُهُ أَوْ قَصْدٍ أَيْ لِأَجْلِ قَصْدِ شَيْءٍ مَعْرُوفٍ، وَالْقَصْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَقْصُودِ، أَيْ أَسْرَعَ لِأَمْرِ الْمَقْصُودِ.
ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ جَوَازُ إِسْرَاعِ الْإِمَامِ فِي حَاجَتِهِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ إِسْرَاعَهُ عليه الصلاة والسلام فِي دُخُولِهِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ صَدَقَةٍ أَحَبَّ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي وَقْتِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مُتَّصِلٌ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْمَذْكُورِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ هُنَاكَ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا تَامًّا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ فِي التَّرْجَمَةِ: لِحَاجَةٍ أَوْ قَصْدٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ كَانَ لِتِلْكَ الْحَاجَةِ الْخَاصَّةِ، فَيُشْعِرُ بِأَنَّ مَشْيَهُ لِغَيْرِ الْحَاجَةِ كَانَ عَلَى هِينَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ تَعَجَّبُوا مِنْ إِسْرَاعِهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ عَادَتِهِ، فَحَاصِلُ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْإِسْرَاعَ فِي الْمَشْيِ إِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَلَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ بِسَنَدٍ مُرْسَلٍ أَنَّ مِشْيَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ مِشْيَةَ السُّوقِيِّ لَا الْعَاجِزِ وَلَا الْكَسْلَانِ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسْرِعُ فِي الْمَشْيِ، وَيَقُولُ: هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الزَّهْوِ وَأَسْرَعُ فِي الْحَاجَةِ، قَالَ غَيْرُهُ: وَفِيهِ اشْتِغَالٌ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي التَّشَاغُلُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمَشْيُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ هُوَ السُّنَّةُ إِسْرَاعًا وَبُطْئًا، لَا التَّصَنُّيعُ فِيهِ وَلَا التَّهَوُّرُ.
37 - بَاب السَّرِيرِ
6276 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَسْطَ السَّرِيرِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَكُونُ لِي الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلُّ انْسِلَالًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّرِيرِ) بِمُهْمَلَاتٍ وَزْنَ عَظِيمٍ مَعْرُوفٌ، ذَكَرَ الرَّاغِبُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّرُورِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ لِأُولِي
النِّعْمَةُ. قَالَ: وَسَرِيرُ الْمَيِّتِ لِشَبَهِهِ بِهِ فِي الصُّورَةِ وَلِلتَّفَاؤُلِ بِالسُّرُورِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالسَّرِيرِ عَنِ الْمُلْكِ وَجَمْعُهُ أَسِرَّةٌ وَسُرُرٌ بِضَمَّتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَحُ الرَّاءَ اسْتِثْقَالًا لِلضَّمَّتَيْنِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ السَّرِيرِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ وَنَوْمُ الْمَرْأَةِ بِحَضْرَةِ زَوْجِهَا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وَقَوْلُهُ فِيهِ وَسَطُ السَّرِيرِ، قَرَأْنَاهُ بِسُكُونِ السِّينِ وَالَّذِي فِي اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ بِفَتْحِهَا، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَسَطُ الشَّيْءِ يُقَالُ بِالْفَتْحِ لِلْكَمِّيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ كَالْجِسْمِ الْوَاحِدِ نَحْوَ وَسَطُهُ صُلْبٌ، وَيُقَالُ: بِالسُّكُونِ لِلْكَمِّيَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ بَيْنَ جِسْمَيْنِ نَحْوَ وَسْطَ الْقَوْمِ. قُلْتُ: وَهَذَا مِمَّا يُرَجِّحُ الرِّوَايَةَ بِالتَّحْرِيكِ وَلَا يُمْنَعُ السُّكُونُ وَوَجْهُ إِيرَادِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ يَسْتَدْعِي دُخُولَ الْمَنْزِلِ، فَذَكَرَ مُتَعَلِّقَاتِ الْمَنْزِلِ اسْتِطْرَادًا.
38 - بَاب مَنْ أُلْقِيَ لَهُ وِسَادَةٌ
6277 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، ح وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ زَيْدٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَحَدَّثَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَقَالَ لِي: أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: خَمْسًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: سَبْعًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: تِسْعًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِحْدَى عَشْرَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ، شَطْرَ الدَّهْرِ؛ صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ.
6278 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَدِمَ الشَّأْمَ ح و حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ "ذَهَبَ عَلْقَمَةُ إِلَى الشَّأْمِ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي جَلِيسًا فَقَعَدَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ مِمَّنْ أَنْتَ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي كَانَ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ يَعْنِي حُذَيْفَةَ أَلَيْسَ فِيكُمْ أَوْ كَانَ فِيكُمْ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي عَمَّارًا أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسَادِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ كَيْفَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَأُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قَالَ {وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} فَقَالَ مَا زَالَ هَؤُلَاءِ حَتَّى كَادُوا يُشَكِّكُونِي وَقَدْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أُلْقِي لَهُ وِسَادَةٌ. أُلْقِيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَذَكَّرَهُ لِأَنَّ التَّأْنِيثَ لَيْسَ حَقِيقِيًّا. وَيُقَالُ: وِسَادَةٌ وَوِسَادٌ، وَهِيَ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَتَقولُهَا هُذَيْلٌ بِالْهَمْزِ بَدَلَ الْوَاوِ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الرَّأْسُ، وَقَدْ يُتَّكَأُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ شَاهِينَ الْوَاسِطِيُّ، وَخَالِدٌ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، وَقَوْلُهُ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَوْنٍ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا
بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَشَيْخُهُ هُوَ الطَّحَّانُ الْمَذْكُورُ، وَشَيْخُهُ خَالِدٌ هُوَ ابْنُ مِهْرَانَ الْحَذَّاءُ، وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ الثَّانِي دَرَجَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ شَاهِينَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَتَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ الْمَتْنِ فِي الصِّيَامِ، وَسَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا عَلَى لَفْظِ عَمْرِو بْنِ عَوْنٍ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِهِ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ النَّازِلِ حَتَّى لَا تَتَمَحَّضَ إِعَادَتُهُ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدِ اطَّرَدَ لَهُ هَذَا الصَّنِيعُ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ؛ إِمَّا ذُهُولًا، وَإِمَّا لِضِيقِ الْمَخْرَجِ.
قَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ بِوَزْنِ عَظِيمٍ، اسْمُهُ عَامِرٌ، وَقِيلَ: زَيْدُ بْنُ أُسَامَةَ الْهُذَلِيُّ.
قَوْلُهُ: دَخَلْتَ مَعَ أَبِيكَ زَيْدٍ. هَذَا الْخِطَابُ لِأَبِي قِلَابَةَ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَلَمْ أَرَ لِزَيْدٍ ذِكْرًا إِلَّا فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ: ابْنُ عَامِرِ بْنِ نَاتِلٍ بِنُونٍ وَمُثَنَّاةٍ ابْنِ مَالِكِ بْنِ عُبَيْدٍ الْجَرْمِيِّ.
قَوْلُهُ: فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ إِكْرَامُ الْكَبِيرِ، وَجَوَازُ زِيَارَةِ الْكَبِيرِ تِلْمِيذَهُ وَتَعْلِيمَهُ فِي مَنْزِلِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ وَإِيثَارُ التَّوَاضُعِ، وَحَمْلُ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَجَوَازُ رَدِّ الْكَرَامَةِ، حَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِذَلِكَ مَنْ تُرَدد عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ الْبِيكَنْدِيُّ وَيَزِيدُ هُوَ ابْنُ هَارُونَ، وَمُغِيرَةُ هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي مَنَاقِبِ عَمَّارٍ مَشْرُوحًا وَقَوْلُهُ فِيهِ ارْزُقْنِي جَلِيسًا فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ فِي مَنَاقِبِ عَمَّارٍ: جَلِيسًا صَالِحًا وَكَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَقَوْلُهُ: أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسَادِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْوِسَادَةِ يَعْنِي أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَ سِوَاكِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوِسَادِهِ وَيَتَعَاهَدُ خِدْمَتَهُ فِي ذَلِكَ بِالْإِصْلَاحِ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ بِزِيَادَةِ: وَالْمَطْهَرَةِ وَتَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَى الدَّاوُدِيِّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِوَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ التِّينِ هُنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهُمَا جِهَازًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ إِيَّاهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَ أَبِي الدَّرْدَاءِ بَلِ السِّيَاقُ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ وَصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَا كَانَ اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَضِيَّةُ مَا قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ هُنَاكَ وَابْنُ التِّينِ هُنَا أَنْ يَكُونَ وَصَفَهُ بِالتَّقَلُّلِ، وَتِلْكَ صِفَةٌ كَانَتْ لِغَالِبِ مَنْ كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِيهِ أَلَيْسَ فِيكُمْ أَوْ كَانَ فِيكُمْ هُوَ شَكٌّ مِنْ شُعْبَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُغِيرَةَ بِلَفْظِ وَفِيكُمْ وَهِيَ فِي مَنَاقِبِ عَمَّارٍ، وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ بِلَفْظِ، أَوَ لَمْ يَكُنْ فِيكُمْ، وَهِيَ فِي مَنَاقِبِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّيْطَانِ؛ يَعْنِي عَمَّارًا) فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ: الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ يَعْنِي عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ: أَلَمْ يَكُنْ فِيكُمُ الَّذِي أُجِيرَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ فِي الْمَنَاقِبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى مَا جَاءَ عَنْ عَمَّارٍ أنْ كَانَ ثَابِتًا، فَإِنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَانَ عَمَّارٌ يَقُولُ: قَاتَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، أَرْسَلَنِي إِلَى بِئْرِ بَدْرٍ، فَلَقِيتُ الشَّيْطَانَ فِي صُورَةِ إِنْسِيٍّ، فَصَارَعَنِي فَصَرَعْتُهُ. الْحَدِيثَ. وَفِي سَنَدِهِ الْحَكَمُ بْنُ عَطِيَّةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَمَّارٍ.
39 - بَاب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
6279 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا نَقِيلُ وَنَتَغَدَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ) أَيْ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ النَّوْمُ فِي وَسَطِ النَّهَارِ عِنْدَ الزَّوَالِ، وَمَا قَارَبَهُ مِنْ قَبْلُ
أَوْ بَعْدُ قِيلَ لَهَا قَائِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا يَحْصُلُ فِيهَا ذَلِكَ وَهِيَ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٌ مِثْلُ: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: الْقَيْلُولَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: اسْتَعِينُوا عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ بِالسُّحُورِ وَعَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ بِالْقَيْلُولَةِ. وَفِي سَنَدِهِ زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ سَهْلٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَوُرُودَ الْأَمْرِ بِهَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ قَالَ: قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ. وَفِي سَنَدِهِ كَثِيرُ بْنُ مَرْوَانَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَأَخْرَجَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ رضي الله عنه مَوْقُوفًا، قَالَ: نَوْمُ أَوَّلِ النَّهَارِ حَرْقٌ، وَأَوْسَطِهِ خَلْقٌ، وَآخِرِهِ حُمْقٌ. وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.
40 - بَاب الْقَائِلَةِ فِي الْمَسْجِدِ
6280 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ بِهِ، إِذَا دُعِيَ بِهَا. جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ عليها السلام، فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ، فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِنْسَانٍ: انْظُرْ أَيْنَ هُوَ، فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، فَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَائِلَةِ فِي الْمَسْجِدِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيٍّ فِي سَبَبِ تَكْنِيَتِهِ أَبَا تُرَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَدَبِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُ فَاطِمَةَ عليها السلام فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْقَافِ.
قَوْلُهُ: هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ جَوَازُ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِلَى ذَلِكَ وَعَكَسَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ.
41 - بَاب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَقَالَ عِنْدَهُمْ
6281 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ، قَالَ: فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ وهو نائم، قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَيَّ أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ. قَالَ: فَجُعِلَ فِي حَنُوطِهِ.
6282 -
6283 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ
مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ يَوْمًا، فَأَطْعَمَتْهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ قَالَ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ يشَكَّ إِسْحَاقُ قُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ، فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ.
قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ زَارَ قَوْمًا فَقَالَ عِنْدَهُمْ: أَيْ رَقَدَ وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ، وَالْفِعْلُ الْمَاضِي مِنْهُ وَمِنَ الْقَوْلِ مُشْتَرَكٌ بِخِلَافِ الْمُضَارِعِ، فَقَالَ يَقِيلُ مِنَ الْقَائِلَةِ، وَقَالَ يَقُولُ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ تَلَطَّفَ النَّضِيرُ الْمُنَاوِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي لُغْزٍ:
قَالَ قَالَ النَّبِيُّ قَوْلًا صَحِيحًا
…
قُلْتُ قَالَ النَّبِيُّ قَوْلًا صَحِيحًا
فَسَّرَهُ السَّرَّاجُ الْوَرَّاقُ فِي جَوَابِهِ حَيْثُ قَالَ فَابْنِ مِنْهُ مُضَارِعًا يَظْهَرُ الْخَا
فِي وَيَبْدُو الَّذِي كَنَّيْتَ صَرِيحًا
ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا قِصَّةُ أُمِّ سُلَيْمٍ فِي الْعَرَقِ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالَّذِي هُنَا، وَثُمَامَةُ هُوَ عَمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الرَّاوِي عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (إنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ) هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِسْنَادَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ ثُمَامَةَ لَمْ يَلْحَقْ جَدَّةَ أَبِيهِ أُمَّ سُلَيْمٍ وَالِدَةَ أَنَسٍ، لَكِنْ دَلَّ قَوْلُهُ فِي أَوَاخِرِهِ فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَيَّ عَلَى أَنَّ ثُمَامَةَ حَمَلَهُ عَنْ أَنَسٍ، فَلَيْسَ هُوَ مُرْسَلًا، وَلَا مِنْ مُسْنَدِ أُمِّ سُلَيْمٍ، بَلْ هُوَ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مَعْنَى الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ وَمَنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ أَنَسٍ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ أَنَسًا إِنَّمَا حَمَلَهُ عَنْ أُمِّهِ.
قَوْلُهُ: فَيَقِيلُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْقَافِ عِنْدَهَا فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا، وَلَيْسَتْ فِيهِ، فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقِيلَ لَهَا فَجَاءَتْ وَقَدْ عَرَقَ فَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ الْمَذْكُورَةِ: كَانَ يَأْتِيهَا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا، فَتَبْسُطُ لَهُ نِطْعًا فَيَقِيلُ عَلَيْهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعَرَقِ
قَوْلُهُ (أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعْرِهِ فَجَعَلَتْهُ فِي قَارُورَةٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي قَوَارِيرَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّعْرَ وَفِي ذِكْرِ الشَّعْرِ غَرَابَةٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا يَنْتَثِرُ مِنْ شَعْرِهِ عِنْدَ التَّرَجُّلِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ مَا يُزِيلُ اللَّبْسَ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَلَقَ شَعْرَهُ بِمِنًى، أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ شَعْرَهُ، فَأَتَى بِهِ أُمَّ سُلَيْمٍ فَجَعَلَتْهُ فِي سُكِّهَا قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: وَكَانَ يَجِيءُ فَيَقِيلُ عِنْدِي عَلَى نِطْعٍ، فَجَعَلْتُ أَسْلِتُ الْعَرَقَ الْحَدِيثَ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّهَا لَمَّا
أَخَذَتِ الْعَرَقَ وَقْتَ قَيْلُولَتِهِ أَضَافَتْهُ إِلَى الشَّعْرِ الَّذِي عِنْدَهَا لَا أَنَّهَا أَخَذَتْ مِنْ شَعْرِهِ لَمَّا نَامَ وَيُسْتَفَادُ مِنْهَا أَيْضًا أَنَّ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا حَلَقَ رَأْسَهُ بِمِنًى فِيهَا.
قَوْلُهُ: (فِي سُكٍّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، هُوَ طِيبٌ مُرَكَّبٌ وَفِي النِّهَايَةِ طِيبٌ مَعْرُوفٌ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الطِّيبِ، وَيُسْتَعْمَلُ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ الْمَذْكُورَةِ: ثُمَّ تَجْعَلُهُ فِي سُكِّهَا. وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عِنْدَنَا فَعَرِقَ وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ فَجَعَلَتْ تَسْلُتُ الْعَرَقَ فِيهَا فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟ قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْمَذْكُورَةِ: عَرِقَ فَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ عَلَى قِطْعَةِ أَدِيمٍ فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا، فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ ذَلِكَ الْعَرَقَ فَتَعْصِرُهُ فِي قَوَارِيرِهَا فَأَفَاقَ فَقَالَ: مَا تَصْنَعِينَ؟ قَالَتْ: نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا، فَقَالَ: أَصَبْتِ وَالْعَتِيدَةُ بِمُهْمَلَةٍ، ثُمَّ مُثَنَّاةٍ وَزْنَ عَظِيمَةٍ السَّلَّةُ أَوِ الْحُقُّ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَتَادِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُعَدُّ لِلْأَمْرِ الْمُهِمِّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ الْمَذْكُورَةِ: فَكَانَتْ تَجْمَعُ عَرَقَهُ فَتَجْعَلُهُ فِي الطِّيبِ وَالْقَوَارِيرِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: عَرَقُكَ أَذُوفُ بِهِ طِيبِي وَأَذُوفُ بِمُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ، ثُمَّ فَاءٍ أَيْ أَخْلِطُ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِ أُمِّ سُلَيْمٍ وَتَصْوِيبُهُ. وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ قَوْلِهَا إِنَّهَا كَانَتْ تَجْمَعُهُ لِأَجْلِ طِيبِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهَا لِلْبَرَكَةِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِلْأَمْرَيْنِ مَعًا.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقَائِلَةِ لِلْكَبِيرِ فِي بُيُوتِ مَعَارِفِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ثُبُوتِ الْمَوَدَّةِ وَتَأَكُّدِ الْمَحَبَّةِ قَالَ وَفِيهِ طَهَارَةُ شَعْرِ الْآدَمِيِّ وَعَرَقِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَلِيلُ ذَلِكَ مُتَمَكِّنٌ فِي الْقُوَّةِ وَلَا سِيَّمَا أنْ ثَبَتَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ طَهَارَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا
الْحَدِيثُ الثَّانِي قِصَّةُ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ أُخْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ. قَوْلُهُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ: إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ. لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، إِلَّا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: قَالَ وَتَابَعَ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهَا عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: أُمِّ حَرَامٍ. بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهِيَ خَالَةُ أَنَسٍ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا الرُّمَيْصَاءُ وَلِأُمِّ سُلَيْمٍ الْغُمَيْصَاءُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، قَالَ عِيَاضٌ: وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:، الْغُمَيْصَاءُ، وَالرُّمَيْصَاءُ هِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ، وَيَرُدُّهُ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الرُّمَيْصَاءِ أُخْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ.
وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ رَأْسَهُ فِي بَيْتِ بِنْتِ مِلْحَانَ إِحْدَى خَالَاتِ أَنَسٍ، وَمَعْنَى الرَّمَصِ وَالْغَمَصِ مُتَقَارِبٌ، وَهُوَ اجْتِمَاعُ الْقَذَى فِي مُؤَخَّرِ الْعَيْنِ وَفِي هُدْبِهَا وَقِيلَ اسْتِرْخَاؤُهَا وَانْكِسَارُ الْجَفْنِ، وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ الْبَابِ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهُ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَنَسٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهِ وَمِنْهُمْ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ من أُمِّ حَرَامٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَوَّلَهُ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ وَقِصَّةُ الْمَنَامِ مِنْ مُسْنَدِ أُمِّ حَرَامٍ، فَإِنَّ أَنَسًا إِنَّمَا حَمَلَ قِصَّةَ الْمَنَامِ عَنْهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَنْ قَالَ فِيهِ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ حَرَامٍ فِي بَابِ الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ، لَكِنَّهُ حَذَفَ مَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ وَابْتَدَأَهُ بِقَوْلِهِ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَوْمِهِ إِلَى آخِرِهِ وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ عَنْ أَنَسٍ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ أُخْتُ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا فِي بَيْتِهَا فَاسْتَيْقَظَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ زَوْجَ عُبَادَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ غَزْوِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ فَتَزَوَّجَتْ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَتَقَدَّمَ
أَيْضًا فِي بَابِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ أَنَسٍ فَتَزَوَّجَ بِهَا عُبَادَةُ فَخَرَجَ بِهَا إِلَى الْغَزْوِ.
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَتَزَوَّجَ بِهَا عُبَادَةُ بَعْدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْجَمْعِ فِي بَابِ غَزْوِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هُنَا وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ الْإخْبَارُ عَمَّا آلَ إِلَيْهِ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ تَبَعًا لِعِيَاضٍ، لَكِنْ وَقَعَ فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ حَرَامٍ مِنْ طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا عَمْرُو بْنُ قَيْسِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، فَوَلَدَتْ لَهُ قَيْسًا، وَعَبْدَ اللَّهِ، وَعَمْرَو بْنَ قَيْسٍ هَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَغَازِي أَنَّهُ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ، وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ ابْنَهُ قَيْسَ بْنَ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ لَكَانَ مُحَمَّدٌ صَحَابِيًّا لِكَوْنِهِ وُلِدَ لِعُبَادَةَ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ أُمَّ حَرَامٍ، ثُمَّ اتَّصَلَتْ بِمَنْ وَلَدَتْ لَهُ قَيْسًا فَاسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ فَيَكُونُ مُحَمَّدٌ أَكْبَرَ مِنْ قَيْسِ، بْنِ عَمْرٍو إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ عُبَادَةَ سَمَّى ابْنَهُ مُحَمَّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا سَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَمَاتَ مُحَمَّدٌ قَبْلَ إِسْلَامِ الْأَنْصَارِ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي الصَّحَابَةِ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوا مُحَمَّدَ بْنَ عُبَادَةَ فِيمَنْ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ وعَلَى هَذَا فَيَكُونُ عُبَادَةُ تَزَوَّجَهَا أَوَّلًا، ثُمَّ فَارَقَهَا فَتَزَوَّجَتْ عَمْرَو بْنَ قَيْسٍ ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، فَرَجَعَتْ إِلَى عُبَادَةَ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْأَمْرَ بِعَكْسِ مَا وَقَعَ فِي الطَّبَقَاتِ، وَأَنَّ عَمْرَو بْنَ قَيْسٍ تَزَوَّجَهَا أَوَّلًا، فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ اسْتُشْهِدَ هُوَ وَوَلَدُهُ قَيْسٌ مِنْهَا وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِعُبَادَةَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَا قِيلَ فِي قِتَالِ الرُّومِ بَيَانُ الْمَكَانِ الَّذِي نَزَلَتْ بِهِ أُمُّ حَرَامٍ مَعَ عُبَادَةَ فِي الْغَزْوِ، وَلَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ أَتَى عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَهُوَ نَازِلٌ بِسَاحِلِ حِمْصَ وَمَعَهُ أُمُّ حَرَامٍ قَالَ عُمَيْرٌ: فَحَدَّثَتْنَا أُمُّ حَرَامٍ فَذَكَرَ الْمَنَامَ
قَوْلُهُ: فَدَخَلَ يَوْمًا زَادَ الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ عَلَيْهَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
قَوْلُهُ: فَأَطْعَمَتْهُ. لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ مَا أَطْعَمَتْهُ يَوْمئِذٍ زَادَ فِي بَابِ الدُّعَاءِ إِلَى الْجِهَادِ وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ وَتَفْلِي بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ تُفَتِّشُ مَا فِيهِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْأَدَبِ.
قَوْلُهُ: فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَادَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فِي الْجِهَادِ فَنَامَ قَرِيبًا مِنِّي وَفِي رِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ فِي الْجِهَادِ فَاتَّكَأَ وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَتِهِ وَلَا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ بَيَانُ وَقْتِ النَّوْمِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ زَادَ غَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَ وَقْتَ الْقَائِلَةِ، فَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فِي الْجِهَادِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا فِي بَيْتِهَا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عِنْدَنَا.
وَلِأَحْمَدَ، وَابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِلًا فِي بَيْتِي وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى: فَنَامَ عِنْدَهَا أَوْ قَالَ بِالشَّكِّ، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ. تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ وَهُوَ يَضْحَكُ وَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا.
قَوْلُهُ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ؟ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَفِي رِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ لِمَ تَضْحَكُ وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِهِ مِمَّ تَضْحَكُ؟ وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الرُّمَيْصَاءِ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ وَكَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَضْحَكُ مِنْ رَأْسِي؟ قَالَ لَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَمْ يَسُقِ الْمَتْنَ بَلْ أَحَالَ بِهِ عَلَى رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَالَ يَزِيدُ: وَيَنْقُصُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ أَبُو دَاوُدَ فَقَالَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ امْرَأَةً حَدَّثَتْهُ وَسَاقَ الْمَتْنَ، وَلَفْظُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ قِصَّةِ أُمِّ حَرَامٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: فَقَالَ: عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أُرِيتُ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِي وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ضَحِكَهُ كَانَ إِعْجَابًا بِهِمْ وَفَرَحًا لِمَا رَأَى لَهُمْ مِنَ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ.
قَوْلُهُ: يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا
الْبَحْرِ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ الْأَخْضَرَ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الْأَخْضَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالثَّبَجُ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ جِيمٌ، ظَهْرُ الشَّيْءِ هَكَذَا فَسَّرَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَتْنُ الْبَحْرِ وَظَهْرُهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَبَجُ كُلِّ شَيْءٍ وَسَطُهُ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي أَمَالِيهِ: قِيلَ ظَهْرُهُ، وَقِيلَ مُعْظَمُهُ، وَقِيلَ هَوْلُهُ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي نَوَادِرِهِ: ضَرَبَ ثَبَجَ الرَّجُلِ بِالسَّيْفِ أَيْ وَسَطَهُ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَالرَّاجِحُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا ظَهْرُهُ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ السُّفُنَ الَّتِي تَجْرِي عَلَى ظَهْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ جَرْيُ السُّفُنِ غَالِبًا إِنَّمَا يَكُونُ فِي وَسَطِهِ، قِيلَ الْمُرَادُ وَسَطُهُ، وَإِلَّا فَلَا اخْتِصَاصَ لِوَسَطِهِ بِالرُّكُوبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ الْأَخْضَرَ فَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلْبَحْرِ لَا مُخَصِّصَةٌ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُخَصِّصَةً؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ، فَجَاءَ لَفْظُ الْأَخْضَرِ لِتَخْصِيصِ الْمِلْحِ بِالْمُرَادِ، قَالَ وَالْمَاءُ فِي الْأَصْلِ لَا لَوْنَ لَهُ وَإِنَّمَا تَنْعَكِسُ الْخُضْرَةُ مِنِ انْعِكَاسِ الْهَوَاءِ وَسَائِرِ مُقَابَلَاتِهِ إِلَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الَّذِي يُقَابِلُهُ السَّمَاءُ، وَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَيْهَا الْخَضْرَاءَ لِحَدِيثِ مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْأَخْضَرَ عَلَى كُلِّ لَوْنٍ لَيْسَ بِأَبْيَضَ وَلَا أَحْمَرَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَنَا الْأَخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي
…
أَخْضَرُ الْجِلْدَةِ مَنْ نَسْلِ الْعَرَبْ
يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ بِأَحْمَرَ كَالْعَجَمِ وَالْأَحْمَرُ يُطْلِقُونَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ. وَمِنْهُ بُعِثْتُ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ.
قَوْلُهُ: مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ. كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِأَبِي ذَرٍّ مُلُوكٌ بِالرَّفْعِ.
قَوْلُهُ: أَوْ قَالَ مِثْلُ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ يَشُكُّ إِسْحَاقُ. يَعْنِي رَاوِيَهُ عَنْ أَنَسٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، وَحَمَّادٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا قَبْلُ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ مِنْ غَيْرِ شك وَفِي رِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ: مِثْلُ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ بِغَيْرِ شَكٍّ أَيْضًا، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِهِ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ وَهَذَا الشَّكُّ مِنْ إِسْحَاقَ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ يُحَافَظُ عَلَى تَأْدِيَةِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ، وَلَا يَتَوَسَّعُ فِي تَأْدِيَتِهِ بِالْمَعْنَى كَمَا تَوَسَّعَ غَيْرُهُ كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ تَظْهَرُ مِمَّا سُقْتُهُ وَأَسُوقُهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ رَأَى الْغُزَاةَ فِي الْبَحْرِ مِنْ أُمَّتِهِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَرُؤْيَاهُ وَحْيٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ:{عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وَقَالَ: {عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} ؛ وَالْأَرَائِكُ السُّرَرُ فِي الْحِجَالِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ حَالِهِمْ فِي الْغَزْوِ مِنْ سَعَةِ أَحْوَالِهِمْ وَقِوَامِ أَمْرِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَجَوْدَةِ عَدَدِهِمْ، فَكَأَنَّهُمُ الْمُلُوكُ عَلَى الْأَسِرَّةِ، قُلْتُ: وَفِي هَذَا الِاحْتِمَالِ بُعْدٌ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لَكِنَّ الْإِتْيَانَ بِالتَّمْثِيلِ فِي مُعْظَمِ طُرُقِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى مَا يَؤولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ لَا أَنَّهُمْ نَالُوا ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ مَوْقِعُ التَّشْبِيهِ أَنَّهُمْ فِيمَا هُمْ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي أُثِيبُوا بِهِ عَلَى جِهَادِهِمْ مِثْلُ مُلُوكِ الدُّنْيَا عَلَى أَسِرَّتِهِمْ، وَالتَّشْبِيهُ بِالْمَحْسُوسَاتِ أَبْلَغُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ.
قَوْلُهُ: فَقُلْتُ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا. تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ بِلَفْظِ فَدَعَا لَهَا وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مِنْهُمْ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: أَنْتِ مِنْهُمْ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَإِنَّكِ مِنْهُمْ وَفِي رِوَايَةِ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَنْتِ مِنْهُمْ وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ دَعَا لَهَا، فَأُجِيبَ فَأَخْبَرَهَا جَازِمًا بِذَلِكَ
قَوْلُهُ: ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ ثُمَّ قَامَ ثَانِيَةً فَفَعَلَ مِثْلَهَا فَقَالَتْ مِثْلَ قَوْلِهَا، فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَكَذَا فِي رِوَايَةِ
أَبِي طُوَالَةَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْهُ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْهُ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَكُلُّ ذَلِكَ شَاذٌّ، وَالْمَحْفُوظُ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ رِوَايَاتُ الْجُمْهُورِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا فِي الْأُولَى أَنْتِ مِنْهُمْ وَفِي الثَّانِيَةِ لَسْتِ مِنْهُمْ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ حَيْثُ قَالَ فِي الْأُولَى يَغْزُونَ هَذَا الْبَحْرَ وَفِي الثَّانِيَةِ يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ
قَوْلُهُ: أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ أَبِي طُوَالَةَ وَلَسْتِ مِنَ الْآخَرِينَ وَفِي رِوَايَةِ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ فِي الثَّانِيَةِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا قُلْتُ: وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فَقَالَ مِثْلَهَا أَنَّ الْفِرْقَةَ الثَّانِيَةَ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ أَيْضًا وَلَكِنْ رِوَايَةُ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ إِنَّمَا غَزَتْ فِي الْبَرِّ لِقولِهِ: يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ وَقَدْ حَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ الثَّانِيَةَ، وَرَدَتْ فِي غَزَاةِ الْبَرِّ، وَأَقَرَّهُ وَعَلَى هَذَا يُحْتَاجُ إِلَى حَمْلة الْمِثْلِيَّة فِي الْخَبَرِ عَلَى مُعْظَمِ مَا اشْتَرَكَتْ فِيهِ الطَّائِفَتَانِ لَا خُصُوصِ رُكُوبِ الْبَحْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْعَسْكَرِ الَّذِينَ غَزَوْا مَدِينَةَ قَيْصَرَ رَكِبُوا الْبَحْرَ إِلَيْهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا حَكَى ابْنُ التِّينِ فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ مَعَ كَوْنِهَا فِي الْبَرِّ مُقَيَّدَةً بِقَصْدِ مَدِينَةِ قَيْصَرَ، وَإِلَّا فَقَدْ غَزَوْا قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْبَرِّ مِرَارًا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأُولَى فِي أَوَّلِ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالثَّانِيَةُ: فِي أَوَّلِ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ مِنَ التَّابِعِينَ.
قُلْتُ: بَلْ كَانَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، لَكِنْ مُعْظَمُ الْأُولَى مِنَ الصَّحَابَةِ. وَالثَّانِيَةُ بِالْعَكْسِ، وَقَالَ عِيَاضٌ، وَالْقُرْطُبِيُّ: فِي السِّيَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَاهُ الثَّانِيَةَ غَيْرُ رُؤْيَاهُ الْأُولَى، وَأَنَّ فِي كُلِّ نَوْمَةٍ عَرَضَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْغُزَاةِ، وَأَمَّا قَوْلُ أُمِّ حَرَامٍ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فِي الثَّانِيَةِ، فَلِظَنِّهَا أَنَّ الثَّانِيَةَ تُسَاوِي الْأُولَى فِي الْمَرْتَبَةِ، فَسَأَلَتْ ثَانِيًا لِيَتَضَاعَفَ لَهَا الْأَجْرُ لَا أَنَّهَا شَكَّتْ فِي إِجَابَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَفِي جَزْمِهِ بِذَلِكَ.
قُلْتُ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَ إِجَابَةِ دُعَائِهِ وَجَزْمِهِ بِأَنَّهَا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَبَيْنَ سُؤَالِهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْآخِرِينَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ لَهَا أَنَّهَا تَمُوتُ قَبْلَ زَمَانِ الْغَزْوَةِ الثَّانِيَةِ، فَجَوَّزَتْ أَنَّهَا تُدْرِكُهَا فَتَغْزُو مَعَهُمْ وَيَحْصُلُ لَهَا أَجْرُ الْفَرِيقَيْنِ، فَأَعْلَمَهَا أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ زَمَانَ الْغَزْوَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَانَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ. فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ فَتَزَوَّجَ بِهَا عُبَادَةُ فَخَرَجَ بِهَا إِلَى الْغَزْوِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ فَتَزَوَّجَتْ عُبَادَةَ فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ مَعَ بِنْتِ قَرَظَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْمُهَا فِي بَابِ غَزْوَةِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ يُسْرِعُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي رَكِبَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ لِلْغَزْوِ أَوَّلًا، وَأَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَمُعَاوِيَةُ يَوْمئِذٍ أَمِيرُ الشَّامِ.
وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْخَبَرِ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خِلَافَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدِ اغْتَرَّ بِظَاهِرِهِ بَعْضُ النَّاسِ فَوَهَمَ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي حَقِّ أَوَّلِ مَنْ يَغْزُو فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ عُمَرُ يَنْهَى عَنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ اسْتَأْذَنَهُ مُعَاوِيَةُ فِي الْغَزْوِ فِي الْبَحْرِ فَأَذِنَ لَهُ، وَنَقَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَسْلَمَ، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ مَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْبَحْرِ، وَنُقِلَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ مُعَاوِيَةُ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، وَكَانَ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِعُثْمَانَ حَتَّى أَذِنَ لَهُ، وَقَالَ: لَا تَنْتَخِبْ أَحَدًا بَلْ مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ فِيهِ طَائِعًا فَأَعِنْهُ فَفَعَلَ وَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ فِي تَارِيخِهِ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ الْبَحْرَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ فَاخِتَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ، وَمَعَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَرَامٍ، وَأَرَّخَهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَرَّخَهَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ كَانَتْ فِيهِ غَزَاةُ قُبْرُسَ الْأُولَى.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ غَزَا الرُّومَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ فَصَالَحَ أَهْلَ قُبْرُسَ، وَسَمَّى امْرَأَتَهُ كَبْرَةَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقِيلَ فَاخِتَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ وَهُمَا أُخْتَانِ كَانَ مُعَاوِيَةُ تَزَوَّجَهُمَا وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ غَزَا بِامْرَأَتِهِ إِلَى قُبْرُسَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ فَصَالَحَهُمْ. وَمَنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ فَتَحَصَّلْنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَكُلُّهَا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ فِي آخِرِ سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ.
قَوْلُهُ: فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ. فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ: فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزَوِهِمْ قَافِلِينَ إِلَى الشَّامِ قُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصُرِعَتْ فَمَاتَتْ وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَوَقَصَتْهَا بَغْلَةٌ لَهَا شَهْبَاءُ فَوَقَعَتْ فَمَاتَتْ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَضَتْ فِي بَابِ رُكُوبِ الْبَحْرِ فَوَقَعَتْ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبَغْلَةَ الشَّهْبَاءَ قُرِّبَتْ إِلَيْهَا لِتَرْكَبَهَا فَشَرَعَتْ لِتَرْكَبَ فَسَقَطَتْ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا فَمَاتَتْ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ اللَّيْثِ أَنَّ وَقَعَتَهَا كَانَتْ بِسَاحِلِ الشَّامِ لَمَّا خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ غَزَاةِ قُبْرُسَ، لَكِنْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ بِالسَّنَدِ الْمَاضِي لِقِصَّةِ أُمِّ حَرَامٍ فِي بَابِ مَا قِيلَ فِي قِتَالِ الرُّومِ وَفِيهِ: وَعُبَادَةُ نَازِلٌ بِسَاحِلِ حِمْصَ قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: رَأَيْتُ قَبْرَهَا بِسَاحِلِ حِمْصَ، وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ قَبْرَهَا بِجَزِيرَةِ قُبْرُسَ، فَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِسَنَدِهِ قَبْرُ أُمِّ حَرَامٍ بِجَزِيرَةٍ فِي بَحْرِ الرُّومِ يُقَالُ لَهَا قُبْرُسُ بَيْنَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.
وَجَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى جَزِيرَةِ قُبْرُسَ، قُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابُّتُهَا فَصَرَعَتْهَا، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَالَحَهُمْ بَعْدَ فَتْحِهَا عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَلَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا قُرِّبَتْ لِأُمِّ حَرَامٍ دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَسَقَطَتْ، فَمَاتَتْ فَقَبْرُهَا هُنَاكَ يَسْتَسْقُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ قَبْرُ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ، فَعَلَى هَذَا، فَلَعَلَّ مُرَادَ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ بِقَوْلِهِ رَأَيْتُ قَبْرَهَا بِالسَّاحِلِ أَيْ سَاحِلِ جَزِيرَةِ قُبْرُسَ فَكَأَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى قُبْرُسَ لَمَّا غَزَاهَا الرَّشِيدُ فِي خِلَافَتِهِ.
وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْجَزِيرَةِ بَادَرَتِ الْمُقَاتِلَةُ، وَتَأَخَّرَتِ الضُّعَفَاءُ كَالنِّسَاءِ، فَلَمَّا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ وَصَالَحُوهُمْ طَلَعَتْ أُمُّ حَرَامٍ مِنَ السَّفِينَةِ قَاصِدَةً الْبَلَدَ لِتَرَاهَا، وَتَعُودَ رَاجِعَةً لِلشَّامِ، فَوَقَعَتْ حِينَئِذٍ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فِي رِوَايَتِهِ فَلَمَّا رَجَعَتْ وَقَوْلُ أَبِي طُوَالَةَ فَلَمَّا قَفَلَتْ أَيْ أَرَادَتِ الرُّجُوعَ وَكَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ فِي رِوَايَتِهِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ أَيْ أَرَادُوا الِانْصِرَافَ.
ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى شَيْءٍ يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ امْرَأَةً حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ: تَضْحَكُ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي يَخْرُجُونَ غُزَاةً فِي الْبَحْرِ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، ثُمَّ نَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَاءً لَكِنْ قَالَ: فَيَرْجِعُونَ قَلِيلَةً غَنَائِمُهُمْ مَغْفُورًا لَهُمْ، قَالَتْ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا.
قَالَ عَطَاءٌ: فَرَأَيْتُهَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، فَمَاتَتْ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الرُّمَيْصَاءِ أُخْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ وَكَذَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ في حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ هَذَا عَنْ أُمِّ حَرَامٍ وَهْمٌ وَإِنَّمَا هِيَ الرُّمَيْصَاءُ، وَلَيْسَتْ أُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنْ كَانَتْ يُقَالُ لَهَا أَيْضًا الرُّمَيْصَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ ; لِأَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ لَمْ تَمُتْ بِأَرْضِ
الرُّومِ، وَلَعَلَّهَا أُخْتُهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِلْحَانَ، فَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ فِي الصَّحَابِيَّاتِ وَقَالَ: إِنَّهَا أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ.
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَبَرِهَا، إِلَّا مَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ صَاحِبَةَ الْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَتَكُونَ تَأَخَّرَتْ حَتَّى أَدْرَكَهَا عَطَاءٌ وَقِصَّتُهَا مُغَايِرَةٌ لِقِصَّةِ أُمِّ حَرَامٍ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَامَ كَانَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، وَفِي حَدِيثِ الْأُخْرَى أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَهَا كَمَا قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ. الثَّانِي ظَاهِرُ رِوَايَةِ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّ الْفِرْقَةَ الثَّانِيَةَ تَغْزُو فِي الْبَرِّ وَظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهَا تَغْزُو فِي الْبَحْرِ الثَّالِثُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْفِرْقَةِ الْأُولَى، وَفِي رِوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ. الرَّابِعُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّ أَمِيرَ الْغَزْوَةِ كَانَ مُعَاوِيَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ أَمِيرَهَا كَانَ الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ. الْخَامِسُ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ ذَكَرَ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ وَهُوَ يَصْغُرُ عَنْ إِدْرَاكِ أُمِّ حَرَامٍ وَعَنْ أَنْ يَغْزُوَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ بَلْ وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ ; لِأَنَّ مَوْلِدَهُ عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ.
وَعَلَى هَذَا، فَقَدْ تَعَدَّدَتِ الْقِصَّةُ لِأُمِّ حَرَامٍ وَلِأُخْتِهَا أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَعَلَّ إِحْدَاهُمَا دُفِنَتْ بِسَاحِلِ قُبْرُسَ، وَالْأُخْرَى بِسَاحِلِ حِمْصَ وَلَمْ أَرَ مَنْ حَرَّرَ ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى جَزِيلِ نِعَمِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ التَّرْغِيبُ فِي الْجِهَادِ وَالْحَضُّ عَلَيْهِ، وَبَيَانُ فَضِيلَةِ الْمُجَاهِدِ. وَفِيهِ جَوَازُ رُكُوبِ الْبَحْرِ الْمِلْحِ لِلْغَزْوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ يَمْنَعُ مِنْهُ ثُمَّ أَذِنَ فِيهِ عُثْمَانُ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: ثُمَّ مَنَعَ مِنْهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ أَذِنَ فِيهِ مَنْ بَعْدَهُ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا مَنَعَ رُكُوبَهُ لِغَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ يَحْرُمُ رُكُوبُهُ عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ اتِّفَاقًا، وَكَرِهَ مَالِكٌ رُكُوبَ النِّسَاءِ مُطْلَقًا الْبَحْرَ لِمَا يُخْشَى مِنِ اطِّلَاعِهِنَّ عَلَى عَوْرَاتِ الرِّجَالِ فِيهِ إِذْ يَتَعَسَّرُ الِاحْتِرَازُ مِنْ ذَلِكَ وَخَصَّ أَصْحَابُهُ ذَلِكَ بِالسُّفُنِ الصِّغَارِ، وَأَمَّا الْكِبَارُ الَّتِي يُمْكِنُهُنَّ فِيهِنَّ الِاسْتِتَارُ بِأَمَاكِنَ تَخُصُّهُنَّ فَلَا حَرَجَ فِيهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ مَنْ يَمُوتُ غَازِيًا يَلْحَقُ بِمَنْ يُقْتَلُ فِي الْغَزْوِ، كَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقِصَّةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ الِاسْتِوَاءُ فِي الدَّرَجَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي بَابِ الشُّهَدَاءِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ كَثِيرًا مِمَّنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ شَهِيدٌ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ.
وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقَائِلَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعَانَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَجَوَازُ إِخْرَاجِ مَا يُؤْذِي الْبَدَنَ مِنْ قَمْلٍ وَنَحْوِهِ عَنْهُ وَمَشْرُوعِيَّةُ الْجِهَادِ مَعَ كُلِّ إِمَامٍ لِتَضَمُّنِهِ الثَّنَاءَ عَلَى مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قَيْصَرَ، وَكَانَ أَمِيرُ تِلْكَ الْغَزْوَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ ويزيد يزيد، وَثُبُوتُ فَضْلِ الْغَازِي إِذَا صَلُحَتْ نِيَّتُهُ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فِي فَضْلِ الْمُجَاهِدِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِقولِهِ فِيهِ وَلَسْتِ مِنَ الْآخِرِينَ وَلَا نِهَايَةَ لِلْآخِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآخِرِينَ فِي الْحَدِيثِ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْهُ فَضْلُ الْمُجَاهِدِينَ فِي الْجُمْلَةِ لَا خُصُوصُ الْفَضْلِ الْوَارِدِ فِي حَقِّ الْمَذْكُورِينَ، وَفِيهِ ضُرُوبٌ مِنْ أَخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا سَيَقَعُ فَوَقَعَ كَمَا قَالَ وَذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ: مِنْهَا إِعْلَامُهُ بِبَقَاءِ أُمَّتِهِ بَعْدَهُ، وَأَنَّ فِيهِمْ أَصْحَابَ قُوَّةٍ وَشَوْكَةٍ وَنِكَايَةً فِي الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْبِلَادِ حَتَّى يَغْزُوا الْبَحْرَ، وَأَنَّ أُمَّ حَرَامٍ تَعِيشُ إِلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَأَنَّهَا تَكُونُ مَعَ مَنْ يَغْزُو الْبَحْرَ وَأَنَّهَا لَا تُدْرِكُ زَمَانَ الْغَزْوَةِ الثَّانِيَةِ.
وَفِيهِ جَوَازُ الْفَرَحِ بِمَا يَحْدُثُ مِنَ النِّعَمِ، وَالضَّحِكُ عِنْدَ حُصُولِ السُّرُورِ لِضَحِكِهِ صلى الله عليه وسلم إِعْجَابًا بِمَا رَأَى مِنِ امْتِثَالِ أُمَّتِهِ أَمْرَهُ لَهُمْ بِجِهَادِ الْعَدُوِّ وَمَا أَثَابَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِلَفْظِ التَّعَجُّبِ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيهِ جَوَازُ قَائِلَةِ الضَّيْفِ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ بِشَرْطِهِ كَالْإِذْنِ، وَأَمْنِ الْفِتْنَةِ وَجَوَازُ خِدْمَةِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ لِلضَّيْفِ بِإِطْعَامِهِ وَالتَّمْهِيدِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِبَاحَةُ مَا قَدَّمَتْهُ الْمَرْأَةُ لِلضَّيْفِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الَّذِي فِي
بَيْتِ الْمَرْأَةِ هُوَ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ، كَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ الْوَكِيلَ وَالْمُؤْتَمَنَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَسُرُّ صَاحِبَهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ فِعْلُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُبَادَةَ كَانَ يَسُرُّهُ أَكْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا قَدَّمَتْهُ لَهُ امْرَأَتُهُ وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنٍ خَاصٍّ مِنْهُ، وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ عُبَادَةَ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ زَوْجَهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
قُلْتُ: لَكِنْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَنْفِي أَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ ذَاتَ زَوْجٍ إِلَّا أَنَّ فِي كَلَامِ ابْنِ سَعْدٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ عَزَبًا، وَفِيهِ خِدْمَةُ الْمَرْأَةِ الضَّيْفَ بِتَفْلِيَةِ رَأْسِهِ، وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى جَمَاعَةٍ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَظُنُّ أَنَّ أُمَّ حَرَامٍ أَرْضَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أُخْتَهَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَصَارَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا أُمَّهُ أَوْ خَالَتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَنَامُ عِنْدَهَا وَتَنَالُ مِنْهُ مَا يَجُوزُ لِلْمَحْرَمِ أَنْ يَنَالَهُ مِنْ مَحَارِمِهِ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُزَيِّنٍ، قَالَ: إِنَّمَا اسْتَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَفْلِيَ أُمُّ حَرَامٍ رَأْسَهُ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْهُ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْ قِبَلِ خَالَاتِهِ ; لِأَنَّ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَدِّهِ كَانَتْ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: قَالَ لَنَا ابْنُ وَهْبٍ:، أُمُّ حَرَامٍ إِحْدَى خَالَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ يُقِيلُ عِنْدَهَا وَيَنَامُ فِي حِجْرِهَا وَتَفْلِي رَأْسَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهِيَ مَحْرَمٌ لَهُ، وَجَزَمَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْجَوْهَرِيِّ، والدَاوُدِيُّ، وَالْمُهَلَّبُ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْهُ بِمَا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا كَانَتْ خَالَةً لِأَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْحُفَّاظِ يَقُولُ: كَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ أُخْتَ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أُمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومًا يَمْلِكُ أَرَبَهُ عَنْ زَوْجَتِهِ، فَكَيْفَ عَنْ غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ الْمُبَرَّأُ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ قَبِيحٍ وَقَوْلٍ رَفَثٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحِجَابِ، وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْحِجَابِ جَزْمًا، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى شَرْحِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَرَدَّ عِيَاضٌ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْخَصَائِصَ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَثُبُوتُ الْعِصْمَةِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ وَجَوَازُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ حَتَّى يَقُومَ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ دَلِيلٌ.
وَبَالَغَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنِ ادَّعَى الْمَحْرَمِيَّةَ فَقَالَ: ذَهِلَ كُلُّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أُمَّ حَرَامٍ إِحْدَى خَالَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللّ هُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرَّضَاعَةِ أَوْ مِنَ النَّسَبِ وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ لَهَا خُؤُولَةً تَقْتَضِي مَحْرَمِيَّةً ; لِأَنَّ أُمَّهَاتِهِ مِنَ النَّسَبِ وَاللَّاتِي أَرْضَعْنَهُ مَعْلُومَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ألْبَتَّةَ سِوَى أُمِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهِيَ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيدِ بْنِ خِرَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ وَأُمُّ حَرَامٍ هِيَ بِنْتُ مِلْحَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ جُنْدَبِ بْنِ عَامِرٍ الْمَذْكُورِ، فَلَا تَجْتَمِعُ أُمُّ حَرَامٍ وَسَلْمَى إِلَّا فِي عَامِرِ بْنِ غَنْمٍ جَدِّهِمَا الْأَعْلَى وَهَذِهِ خُؤُولَةٌ لَا تَثْبُتُ بِهَا مَحْرَمِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا خُؤُولُةٌ مَجَازِيَّةٌ وَهِيَ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: هَذَا خَالِي لِكَوْنِهِ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَهُمْ أَقَارِبُ أُمِّهِ آمِنَةَ وَلَيْسَ سَعْدٌ أَخًا لِآمِنَةَ لَا مِنَ النَّسَبِ وَلَا مِنَ الرَّضَاعَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدْخُلُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِ إِلَّا عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ أَرْحَمُهَا قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي يَعْنِي حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ، وَكَانَ قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي الْجِهَادِ فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا وَأَوْضَحْتُ هُنَاكَ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا أَفْهَمَهُ هَذَا الْحَصْرَ وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ فِي أُمِّ حَرَامٍ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُمَا أُخْتَانِ كَانَتَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ وَحَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ أَخُوهُمَا مَعًا، فَالْعِلَّةُ مُشْتَرِكَةٌ فِيهِمَا.
وَإِنْ ثَبَتَ قِصَّةُ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ مِلْحَانَ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا قَرِيبًا، فَالْقَوْلُ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي أُمِّ حَرَامٍ، وَقَدِ انْضَافَ إِلَى الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ كَوْنُ أَنَسٍ خَادِمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِمُخَالَطَةِ الْمَخْدُومِ خَادِمَهُ وَأَهْلَ خَادِمِهِ وَرَفْعِ الْحِشْمَةِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ عَنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَلْوَةِ بِأُمِّ حَرَامٍ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ مَعَ وَلَدٍ أَوْ خَادِمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ تَابِعٍ، قُلْتُ: وَهُوَ احْتِمَالٌ قَوِيٌّ، لَكِنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ مِنْ أَصْلِهِ لِبَقَاءِ الْمُلَامَسَةِ فِي تَفْلِيَةِ الرَّأْسِ، وَكَذَا النَّوْمُ فِي الْحِجْرِ وَأَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ دَعْوَى الْخُصُوصِيَّةِ، وَلَا يَرُدُّهَا كَوْنُهَا لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ وَاضِحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
42 - بَاب الْجُلُوسِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ
6284 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لِبْسَتَيْنِ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ؛ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَالِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِ الْإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْص وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (بَاب الْجُلُوسِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ) سَقَطَ لَفْظُ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، فِيهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي النَّهْيِ عَنْ لُبْسَتَيْنِ وَبَيْعَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَفِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ قَائِمَةٌ مِنْ دَلِيلِ الْحَدِيثِ وَذَلِكَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ حَالَتَيْنِ، فَفُهِمَ مِنْهُ إِبَاحَةُ غَيْرِهِمَا مِمَّا تَيَسَّرَ مِنَ الْهَيْئَاتِ وَالْمَلَابِسِ إِذَا سَتَرَ الْعَوْرَةَ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ تُؤْخَذُ مِنْ جِهَةِ الْعُدُولِ عَنِ النَّهْيِ عَنْ هَيْئَةِ الْجُلُوسِ إِلَى النَّهْيِ عَنْ لُبْسَتَيْنِ يَسْتَلْزِمُ كُلٌّ مِنْهُمَا انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ فَلَوْ كَانَتِ الْجِلْسَةُ مَكْرُوهَةً لِذَاتِهَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ اللُّبْسِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ جِلْسَةٍ تُفْضِي إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَمَا لَا يُفْضِي إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ يُبَاحُ فِي كُلِّ صُورَةٍ، ثُمَّ ادَّعَى الْمُهَلَّبُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ هَاتَيْنِ اللُّبْسَتَيْنِ خَاصٌّ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ لِكَوْنِهِمَا لَا يَسْتُرَانِ الْعَوْرَةَ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَأَمَّا الْجَالِسُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَصْنَعُ شَيْئًا وَلَا يَتَصَرَّفُ بِيَدَيْهِ فَلَا تَنْكَشِفُ عَوْرَتُهُ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الِاحْتِبَاءِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم احْتَبَى.
قُلْتُ: وَغَفَلَ رحمه الله عَمَّا وَقَعَ مِنَ التَّقْيِيدِ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ، فَإِنَّ فِيهِ وَالِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ مِنْ كِتَابِ اللِّبَاسِ وَفِيهِ وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ حَالَةٍ وَإِنْ تَأَكَّدَ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ لِكَوْنِهَا قَدْ تَبْطُلُ بِتَرْكِهِ.
وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّرَبُّعَ وَيَقُولُ: هِيَ جِلْسَةُ مَمْلَكَةٍ، وَتُعُقِّبَ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالثَّلَاثَةُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ.
قَوْلُهُ: تَابَعَهُ مَعْمَرٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) أَمَّا مُتَابَعَةُ مَعْمَرٍ، فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْبُيُوعِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصٍ فَهِيَ عِنْدَ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ عَدِيٍّ فِي نُسْخَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصٍ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلٍ فَأَظُنُّهَا فِي الزُّهْرِيَّاتِ جَمْعُ الذُّهْلِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
43 - بَاب مَنْ نَاجَى بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ وَمَنْ لَمْ يُخْبِرْ بِسِرِّ صَاحِبِهِ، فَإِذَا مَاتَ أَخْبَرَ بِهِ.
6285، 6286 - حَدَّثَنَا مُوسَى، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا فِرَاسٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِيِنَ قَالَتْ: إِنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهُ جَمِيعًا لَمْ تُغَادَرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ، فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام
تَمْشِي، لَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِابْنَتِي، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ سَارَّهَا فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ فَإِذَا هِيَ تَضْحَكُ، فَقُلْتُ لَهَا: أَنَا مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالسِّرِّ مِنْ بَيْنِنَا، ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهَا عَمَّا سَارَّكِ، قَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، قُلْتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنْ الْحَقِّ لَمَّا أَخْبَرْتِنِي، قَالَتْ: أَمَّا الْآنَ فَنَعَمْ، فَأَخْبَرَتْنِي قَالَتْ: أَمَّا حِينَ سَارَّنِي فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أَرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدْ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي، فَإِنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ، قَالَتْ: فَبَكَيْتُ بُكَائِي الَّذِي رَأَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِي سَارَّنِي الثَّانِيَةَ، قَالَ: يَا فَاطِمَةُ، أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ نَاجَى بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ وَلَمْ يُخْبِرْ بِسِرِّ صَاحِبِهِ، فَإِذَا مَاتَ أَخْبَرَ بِهِ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ رضي الله عنهما إِذْ بَكَتْ لَمَّا سَارَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ضَحِكَتْ لَمَّا سَارَّهَا ثَانِيًا، فَسَأَلَتْهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ، وَفِيهِ: أَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَفِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُسَارَرَةُ الْوَاحِدِ مَعَ الْوَاحِدِ بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَةِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُخَافُ مِنْ تَرْكِ الْوَاحِدِ لَا يُخَافُ مِنْ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، قُلْتُ: وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ هَذَا بَعْدَ بَابٍ، قَالَ وَفِيهِ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِفْشَاءُ السِّرِّ إِذَا كَانَتْ فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَى المسر ; لِأَنَّ فَاطِمَةَ لَوْ أَخْبَرَتْهُنَّ لَحَزِنَّ لِذَلِكَ حُزْنًا شَدِيدًا، وَكَذَا لَوْ أَخْبَرَتْهُنَّ أَنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ، وَاشْتَدَّ حُزْنُهُنَّ، فَلَمَّا أَمِنَتْ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِنَّ أَخْبَرَتْ بِهِ.
قُلْتُ: أَمَّا الشِّقُّ الْأَوَّلُ فَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ فِيهِ جَوَازُ إِفْشَاءِ السِّرِّ إِذَا زَالَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِفْشَائِهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي السِّرِّ الْكِتْمَانُ وَإِلَّا فَمَا فَائِدَتُهُ؟ وَأَمَّا الشِّقُّ الثَّانِي، فَالْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مَرْدُودَةٌ لِأَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَاتَتْ قَبْلَهُنَّ كُلِّهِنَّ، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا؟ ثُمَّ جَوَّزْتُ أَنْ يَكُونَ فِي النُّسْخَةِ سَقَمٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ فَلَمَّا أَمِنَتْ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي عُلِّلَ بِهِ لَمْ يَنْزِلْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ لَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ لَاسْتَمَرَّ حُزْنُهُنَّ عَلَى مَا فَاتَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ جَوَازُ الْعَزْمِ بِغَيْرِ اللَّهِ قَالَ: وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ إِذَا قَالَ أَعْزِمُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَحْنَثْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ، وَإِنْ قَالَ: أَعْزِمُ بِاللَّهِ أَنْ تَفْعَلَ فَلَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ هَذَا يَمِينٌ. انْتَهَى. وَالَّذِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ فِي الصُّورَتَيْنِ يَرْجِعُ إِلَى قَصْدِ الْحَالِفِ، فَإِنْ قَصَدَ يَمِينَ نَفْسِهِ فَيَمِينٌ، وَإِنْ قَصَدَ يَمِينَ الْمُخَاطَبِ أَوِ الشَّفَاعَةَ أَوْ أَطْلَقَ فَلَا.
44 - بَاب الِاسْتِلْقَاءِ
6287 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ مُسْتَلْقِيًا وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى.
قَوْلُهُ: بَابُ الِاسْتِلْقَاءِ. هُوَ الِاضْطِجَاعُ عَلَى الْقَفَا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ نَوْمٌ أَمْ لَا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَحَدِيثُهَا فِي آخِرِ كِتَابِ اللِّبَاسِ قُبَيْلِ كِتَابِ الْأَدَبِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَذَكَرْتُ هُنَاكَ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ الْجَمْعَ أَوْلَى وَأَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ حَيْثُ تَبْدُو الْعَوْرَةُ وَالْجَوَازُ حَيْثُ لَا تَبْدُو وَهُوَ جَوَابُ الْخَطَّابِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَنَقَلْتُ قَوْلَ مَنْ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ وَأَوْرَدْتُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَفَلَ عَمَّا فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ مِنَ الصَّحِيحِ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ صَحِيحُ مُسْلِمٍ وَسَبَقَ الْقَلَمُ هُنَاكَ فَكَتَبْتُ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ أَصْلَحْتُهُ فِي أَصْلِي وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي الْبَابِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
45 - بَاب لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ،
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} إِلَى قَوْلِهِ {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إِلَى قَوْلِهِ {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
6288 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، ح وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ.
قَوْلُهُ: بَابُ لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ. أَيْ لَا يَتَحَدَّثَانِ سِرًّا وَسَقَطَ لَفْظُ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ وَقَالَ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا} - إِلَى قَوْلِهِ {الْمُؤْمِنُونَ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ الْآيَتَيْنِ بِتَمَامِهِمَا، وَأَشَارَ بِإِيرَادِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إِلَى أَنَّ التَّنَاجِيَ الْجَائِزَ الْمَأْخُوذَ مِنْ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ مُقَيَّدٌ، بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
قَوْلُهُ: (وَقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} إِلَى قَوْلِهِ {بِمَا تَعْمَلُونَ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ الْآيَتَيْنِ أَيْضًا، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ وَإِذَا تَنَاجَيْتُمْ قَالَ: وَالتِّلَاوَةُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ} . قُلْتُ: وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الصَّحِيحِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ التِّينِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَأَخْرَجَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ كَانَ لَا يُنَاجِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ إِلَّا تَصَدَّقَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ نَاجَاهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ وَنَزَلَتِ الرُّخْصَةُ {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الْآيَةَ، وَهَذَا مُرْسَلٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَجَاءَ مَرْفُوعًا عَلَى غَيْرِ هَذَا السِّيَاقِ عَنْ عَلِيٍّ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَقُولُ دِينَارٌ، قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ فِي نِصْفِ دِينَارٍ، قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ: فَكَمْ قُلْتُ شَعِيرَةٌ، قَالَ إِنَّكَ لَزَهِيدٌ قَالَ: فَنَزَلَتْ {أَأَشْفَقْتُمْ} الْآيَةَ قَالَ عَلِيٌّ: فَبِي خُفِّفَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَهُ شَاهِدًا.
قَوْلُهُ: عَنْ نَافِعٍ. كَذَا أَوْرَدَهُ هُنَا عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَلِمَالِكٍ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِيهِ قِصَّةٌ سَأَذْكُرُهَا بَعْدَ بَابٍ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِنَصْبِ ثَلَاثَةٍ عَلَى
أَنَّهُ الْخَبَرُ وَوَقعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ.
قَوْلُهُ (فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِأَلِفٍ مَقْصُورَةٍ ثَابِتَةٌ فِي الْخَطِّ صُورَةَ يَاءٍ، وَتَسْقُطُ فِي اللَّفْظِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهُوَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِجِيمٍ فَقَطْ بِلَفْظِ النَّهْيِ وَبِمَعْنَاهُ، زَادَ أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلْآيَةِ الْأُولَى مِنْ قَوْلِهِ:{لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ.
46 - بَاب حِفْظِ السِّرِّ
6289 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِرًّا، فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي أُمُّ سُلَيْمٍ، فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ.
قَوْلُهُ بَابُ حِفْظِ السِّرِّ) أَيْ تَرْكُ إِفْشَائِهِ
قَوْلُهُ: مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ هُوَ التَّيْمِيُّ.
قَوْلُهُ: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِرًّا. فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ وَلِأَحْمَدَ، وَابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ عَنْ، أَنَسٍ فَأَرْسَلَنِي فِي رِسَالَةٍ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مَا حَبَسَكَ.
قَوْلُهُ: فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ، وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي أُمُّ سُلَيْمٍ. فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ فَقَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ قَالَتْ: لَا تُخْبِرْ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ: فَقَالَتِ احْفَظْ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ: وَاللَّهِ لَوْ حَدَّثْتَ بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَأَنَّ هَذَا السِّرَّ كان يَخْتَصُّ بِنِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مِنَ الْعِلْمِ مَا وَسِعَ أَنَسًا كِتْمَانُهُ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ السِّرَّ لَا يُبَاحُ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ مَضَرَّةٌ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ إِنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يَلْزَمُ مِنْ كِتْمَانِهِ مَا كَانَ يَلْزَمُ فِي حَيَاتِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فِيهِ غَضَاضَةٌ.
قُلْتُ: الَّذِي يَظْهَرُ انْقِسَامُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى مَا يُبَاحُ، وَقَدْ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُهُ وَلَوْ كَرِهَهُ صَاحِبُ السِّرِّ، كَأَنْ يَكُونَ فِيهِ تَزْكِيَةٌ لَهُ مِنْ كَرَامَةٍ أَوْ مَنْقَبَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَإِلَى مَا يُكْرَهُ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَحْرُمُ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ بَطَّالٍ، وَقَدْ يَجِبُ كَأَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يَجِبُ ذِكْرُهُ كَحَقٍّ عَلَيْهِ كَانَ يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْقِيَامِ بِهِ فَيُرْجَى بَعْدَهُ إِذَا ذُكِرَ لِمَنْ يَقُومُ بِهِ عَنْهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي حِفْظِ السِّرِّ حَدِيثُ أَنَسٍ: احْفَظْ سِرِّي تَكُنْ مُؤْمِنًا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَالْخَرَائِطِيُّ، وَفِيهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ صَدُوقٌ كَثِيرُ الْأَوْهَامِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْلَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَسُقْ هَذَا الْمَتْنَ بَلْ ذَكَرَ بَعْضَ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ طُولٌ. وَحَدِيثُ: إِنَّمَا يَتَجَالَسُ الْمُتَجَالِسَانِ بِالْأَمَانَةِ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْشِيَ عَلَى صَاحِبِهِ مَا يَكْرَهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وَأَخْرَجَ الْقُضَاعِيُّ فِي مُسْنَدِ الشِّهَابِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مِثْلُهُ، وَزَادَ: إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ مَا سُفِكَ فِيهِ دَمٌ حَرَامٌ أَوْ فَرْجٌ حُرِّمَ أَوِ اقْتُطِعَ فِيهِ مَالٌ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ رَفَعَهُ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى.
47 - بَاب إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَا بَأْسَ بِالْمُسَارَّةِ وَالْمُنَاجَاةِ
6290 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قال النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم: إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى رَجُلَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، أَجْلَ أَنْ ذلك يُحْزِنَهُ.
6291 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، قُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي مَلَأ فَسَارَرْتُهُ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: رَحْمَتُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ.
قَوْلُهُ (بَاب إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَا بَأْسَ بِالْمُسَارَّةِ وَالْمُنَاجَاةِ) أَيْ مَعَ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَسَقَطَ بَابٌ لِأَبِي ذَرٍّ، وَعَطْفُ الْمُنَاجَاةِ عَلَى الْمُسَارَّةِ مِنْ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، إِذَا كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمُسَارَّةَ وَإِنِ اقْتَضَتِ الْمُفَاعَلَةَ لَكِنَّهَا بِاعْتِبَارِ مَنْ يُلْقِي السِّرَّ، وَمَنْ يُلْقَى إِلَيْهِ، وَالْمُنَاجَاةُ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْكَلَامِ سِرًّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَالْمُنَاجَاةُ أَخَصُّ مِنَ الْمُسَارَّةِ فَتَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
قَوْلُهُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: فَلَا يَتَنَاجَ. فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِجِيمٍ لَيْسَ بَعْدَهَا يَاءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ أَيْ يَخْتَلِطَ الثَّلَاثَةُ بِغَيْرِهِمْ، وَالْغَيْرُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ فَطَابَقَتِ التَّرْجَمَةُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا أَرْبَعَةً لَمْ يَمْتَنِعْ تَنَاجِي اثْنَيْنِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتَنَاجَى الِاثْنَانِ الْآخَرَانِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِيمَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ قُلْتُ: فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً؟ قَالَ: لَا يَضُرُّهُ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَارِرَ رَجُلًا وَكَانُوا ثَلَاثَةً دَعَا رَابِعًا، ثُمَّ قَالَ لِلِاثْنَيْنِ: اسْتَرِيحَا شَيْئًا، فَإِنِّي سَمِعْتُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ نَحْوَهُ وَلَفْظُهُ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُنَاجِيَ رَجُلًا دَعَا آخَرَ، ثُمَّ نَاجَى الَّذِي أَرَادَ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُنَاجِيَ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ دَعَا رَابِعًا وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثَّلَاثَةِ يَعْنِي سَوَاءً جَاءَ اتِّفَاقًا أَمْ عَنْ طَلَبٍ كَمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: أَجْلَ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ أَيْ مِنْ أَجْلِ، وَكَذَا هُوَ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ بِزِيَادَةِ: مِنْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ نَطَقُوا بِهَذَا اللَّفْظِ بِإِسْقَاطِ مِنْ وَذَكَرَ لِذَلِكَ شَاهِدًا، وَيَجُوزُ كَسْرُ هَمْزَةِ إِنَّ ذَلِكَ وَالْمَشْهُورُ فَتْحُهَا قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ يُحْزِنُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ نَجَوَاهُمَا إِنَّمَا هِيَ لِسُوءِ رَأْيِهِمَا فِيهِ أَوْ لِدَسِيسَةٍ غَائِلَةٍ لَهُ.
قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ مِنَ التَّعْلِيلِ اسْتِثْنَاءُ صُورَةٍ مِمَّا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ إِطْلَاقِ الْجَوَازِ إِذَا كَانُوا أَرْبَعَةً، وَهِيَ مِمَّا لَوْ كَانَ بَيْنَ الْوَاحِدِ الْبَاقِي وَبَيْنَ الِاثْنَيْنِ مُقَاطَعَةٌ بِسَبَبٍ يُعْذَرَانِ بِهِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْمُنْفَرِدِ، وَأَرْشَدَ هَذَا التَّعْلِيلُ إِلَى أَنَّ الْمُنَاجِيَ إِذَا كَانَ مِمَّنْ إِذَا خَصَّ أَحَدًا بِمُنَاجَاتِهِ أَحْزَنَ الْبَاقِينَ امْتَنَاعَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ لَا يَقْدَحُ فِي الدِّينِ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنْ أَشْهَبَ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَا يَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ وَاحِدٍ وَلَا عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نُهِيَ أَنْ يَتْرُكَ وَاحِدًا قَالَ: وَهَذَا مُسْتَنْبَطٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ لِلْوَاحِدِ كَتَرْكِ الِاثْنَيْنِ لِلْوَاحِدِ، قَالَ: وَهَذَا مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ لِئَلَّا يَتَبَاغَضُوا وَيَتَقَاطَعُوا.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْوَاحِدِ زَادَ الْقُرْطُبِيُّ: بَلْ وُجُودُهُ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ أَمْكَنُ وَأَشَدُّ فَلْيَكُنِ الْمَنْعُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ عَدَدٍ
يُتَصَوَّرُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَمَهْمَا وُجِدَ الْمَعْنَى فِيهِ أُلْحِقَ بِهِ فِي الْحُكْمِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَكُلَّمَا كَثُرَ الْجَمَاعَةُ مَعَ الَّذِي لَا يُنَاجَى كَانَ أَبْعَدَ لِحُصُولِ الْحُزْنِ وَوُجُودِ التُّهْمَةِ فَيَكُونُ أَوْلَى، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا انْفَرَدَ جَمَاعَةٌ بِالتَّنَاجِي دُونَ جَمَاعَةٍ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ دَالٌّ عَلَى الْجَوَازِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الَّذِي قَالَ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي مَلَأ فَسَارَرْتُهُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ يَرْتَفِعُ إِذَا بَقِيَ جَمَاعَةٌ لَا يَتَأَذَّوْنَ بِالسِّرَارِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ أَصْلِ الْحُكْمِ مَا إِذَا أَذِنَ مَنْ يَبْقَى سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَمْ أَكْثَرَ لِلِاثْنَيْنِ فِي التَّنَاجِي دُونَهُ أَوْ دُونَهُمْ، فَإِنَّ الْمَنْعَ يَرْتَفِعُ لِكَوْنِهِ حَقَّ مَنْ يَبْقَى وَأَمَّا إِذَا انْتَجَى اثْنَانِ ابْتِدَاءً، وَثَمَّ ثَالِثٌ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُمَا لَوْ تَكَلَّمَا جَهْرًا، فَأَتَى لِيَسْتَمِعَ عَلَيْهِمَا فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا مَعَهُمَا أَصْلًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ مَرَرْتُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَمَعَهُ رَجُلٌ يَتَحَدَّثُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِمَا فَلَطَمَ صَدْرِي وَقَالَ: إِذَا وَجَدْتَ اثْنَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ فَلَا تَقُمْ مَعَهُمَا حَتَّى تَسْتَأْذِنَهُمَا زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدٍ: وَقَالَ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا تَنَاجَى اثْنَانِ فَلَا يَدْخُلُ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُمَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُتَنَاجِيَيْنِ فِي حَالِ تَنَاجِيهِمَا.
قُلْتُ: وَلَا يَنْبَغِي لِدَاخِلٍ الْقُعُودُ عِنْدَهُمَا، وَلَوْ تَبَاعَدَ عَنْهُمَا إِلَّا بِإِذْنِهِمَا لَمَّا افْتَتَحَا حَدِيثَهُمَا سِرًّا وَلَيْسَ عِنْدَهُمَا أَحَدٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمَا أَلَّا يَطَّلِعَ أَحَدٌ عَلَى كَلَامِهِمَا، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ صَوْتُ أَحَدِهِمَا جَهُورِيًّا لَا يَتَأَتَّى لَهُ إِخْفَاءُ كَلَامِهِ مِمَّنْ حَضَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ النَّاسِ قُوَّةُ فَهْمٍ بِحَيْثُ إِذَا سَمِعَ بَعْضَ الْكَلَامِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بَاقِيهِ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى تَرْكِ مَا يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ مَطْلُوبَةٌ وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الْمَرَاتِبُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ: أَلَا تَرَوْنَ الْقَتْلَ شَيْئًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: فَذَكَرَ حَدِيثَ الْبَابِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ وَأَظُنُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ، اسْتَنْبَطَهَا مِنَ الْحَدِيثِ فَأُدْرِجَتْ فِي الْخَبَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ لِلتَّحْرِيمِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَيْ صَرِيحًا كَانَ أَوْ غَيْرَ صَرِيحٍ وَالْإِذْنُ أَخَصُّ مِنَ الرِّضَا؛ لِأَنَّ الرِّضَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْقَرِينَةِ فَيُكْتَفَى بِهَا عَنِ التَّصْرِيحِ وَالرِّضَا أَخَصُّ مِنَ الْإِذْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ قَدْ يَقَعُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَنَحْوِهِ، وَالرِّضَا لَا يُطَّلَعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَكِنِ الْحُكْمُ لَا يُنَاطُ إِلَّا بِالْإِذْنِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا، وَظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِالسَّفَرِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ فِيهِ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَمَّا فِي الْحَضَرِ وَفِي الْعِمَارَةِ فَلَا بَأْسَ.
وَحَكَى عِيَاضٌ نَحْوَهُ وَلَفْظُهُ: قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ السَّفَرُ وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي لَا يَأْمَنُ فِيهَا الرَّجُلُ رَفِيقَهُ أَوْ لَا يَعْرِفُهُ أَوْ لَا يَثِقُ بِهِ وَيَخْشَى مِنْهُ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَلَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا الْحَدِيثَ وَفِي سَنَدِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَتَقْيِيدُهُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ يَتَعَلَّقُ بِإِحْدَى عِلَّتَيِ النَّهْيِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا قَالَ يُحْزِنُهُ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ نَجَوَاهُمَا إِنَّمَا هِيَ لِسُوءِ رَأْيِهِمَا فِيهِ أَوْ أَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ عَلَى غَائِلَةٍ تَحْصُلُ لَهُ مِنْهُمَا قُلْتُ: فَحَدِيثُ الْبَابِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى عَوَّلَ ابْنُ حَرْبَوَيْهِ، وَكَأَنَّهُ مَا اسْتَحْضَرَ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ.
قَالَ عِيَاضٌ: قِيلَ: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَامُ وَأَمِنَ النَّاسُ سَقَطَ هَذَا الْحُكْمُ وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ
بِأَنَّ هَذَا تَحَكُّمٌ وَتَخْصِيصٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْخَبَرُ عَامُّ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَالْعِلَّةُ الْحُزْنُ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَوَجَبَ أَنْ يَعُمَّهُمَا النَّهْيُ جَمِيعًا.
48 - بَاب طُولِ النَّجْوَى وَقَوْلُهُ {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ
6292 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَرَجُلٌ يُنَاجِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى.
قَوْلُهُ (بَاب طُولِ النَّجْوَى {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتَ فَوَصَفَهُمْ بِهَا، وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ هَذَا التَّفْسِيرُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ، وَتَقَدَّمَ مِنْهُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {خَلَصُوا نَجِيًّا} .
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَرَجُلٌ يُنَاجِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. الْحَدِيثَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ رَاوِيهِ عَنْ أَنَسٍ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْإِمَامِ تَعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ وَهُوَ قُبَيْلَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
قَوْلُهُ: حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ تَقَدَّمَ هُنَاكَ بِلَفْظِ حَتَّى نَامَ بَعْضُ الْقَوْمِ فَيُحْمَلُ الْإِطْلَاقُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى ذَلِكَ.
49 - بَاب لَا تُتْرَكُ النَّارُ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ النَّوْمِ
6293 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ.
6294 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ"
6295 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ كَثِيرٍ هُوَ ابْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ "عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَمِّرُوا الْآنِيَةَ وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ"
قَوْلُهُ: بَابُ لَا تُتْرَكُ النَّارُ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ النَّوْمِ. بِضَمِّ أَوَّلِ تُتْرَكُ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَبِفَتْحَةٍ وَمُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ بِصِيغَةِ النَّهْيِ الْمُفْرَدِ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَفِيهِ بَيَانُ حِكْمَةِ النَّهْيِ، وَهِيَ خَشْيَةُ الِاحْتِرَاقِ. الثَّالِثُ: حَدِيثُ جَابِرٍ وَفِيهِ بَيَانُ عِلَّةِ الْخَشْيَةِ الْمَذْكُورَةِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ
وَقَوْلُهُ: حِينَ يَنَامُونَ قَيَّدَهُ بِالنَّوْمِ لِحُصُولِ الْغَفْلَةِ بِهِ غَالِبًا، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَتِ الْغَفْلَةُ حَصَلَ النَّهْيُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فَقَوْلُهُ احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى سَبَبُ الْأَمْرِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بِإِطْفَاءِ الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ فَنٌّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَلَوْ تُتُبِّعَ لَحَصَلَ مِنْهُ فَوَائِدُ.
قُلْتُ: قَدْ أَفْرَدَهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ مِنْ شُيُوخِ أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ بِالتَّصْنِيفِ، وَهُوَ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ، وَوَقَفْتُ عَلَى مُخْتَصَرٍ مِنْهُ، وَكَأَنَّ الشَّيْخَ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ تَمَنَّى أَنْ لَوْ تُتُبِّعَ وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، هَكَذَا أَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ مُبَالَغَةً فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَعْنَى كَوْنِ النَّارِ عَدُوًّا لَنَا أَنَّهَا تُنَافِي أَبْدَانَنَا وَأَمْوَالَنَا مُنَافَاةَ الْعَدُوِّ، وَإِنْ كَانَتْ لَنَا بِهَا مَنْفَعَةٌ، لَكِنْ لَا يَحْصُلُ لَنَا مِنْهَا إِلَّا بِوَاسِطَةٍ فَأَطْلَقَ أَنَّهَا عَدُوٌّ لَنَا لِوُجُودِ مَعْنَى الْعَدَاوَةِ فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ كَثِيرٌ كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، زَادَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ هُوَ ابْنُ شِنْظِيرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ وَشِنْظِيرٌ بِكَسْرِ الشِّينِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ، تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ ذِكْرِ الْجِنِّ مِنْ كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ وَشَرْحُ حَدِيثِهِ هَذَا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَقَعَ فِي رِجَالِ الصَّحِيحِ لِلْكَلَابَاذِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ لَهُ أَيْضًا فِي بَابِ اسْتِعَانَةِ الْيَدِ فِي الصَّلَاةِ، فَرَاجَعْتُ الْبَابَ الْمَذْكُورَ مِنَ الصَّحِيحِ، وَهُوَ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، فَمَا وَجَدْتُ لَهُ هُنَاكَ ذِكْرًا، ثُمَّ وَجَدْتُ لَهُ بَعْدَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ بِأَحَدَ عَشَرَ بَابًا حَدِيثًا آخَرَ بِسَنَدِهِ هَذَا، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي بَابِ ذِكْرِ الْجِنِّ وَالشِّنْظِيرُ فِي اللُّغَةِ السَّيِّئُ الْخُلُقِ وَكَثِيرٌ الْمَذْكُورُ يُكَنَى أَبَا قُرَّةَ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلْإِرْشَادِ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ لِلنَّدْبِ وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ لِلْإِرْشَادِ لِكَوْنِهِ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ، وَهِيَ حِفْظُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمِ قَتْلُهَا وَالْمَالِ الْمُحَرَّمِ تَبْذِيرُهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا بَاتَ بِبَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ، وَفِيهِ نَارٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْفِئَهَا قَبْلَ نَوْمِهِ أَوْ يَفْعَلَ بِهَا مَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِاحْتِرَاقُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ جَمَاعَةٌ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى بَعْضِهِمْ وَأَحَقُّهُمْ بِذَلِكَ آخِرُهُمْ نَوْمًا فَمَنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ كَانَ لِلسُّنَّةِ مُخَالِفًا وَلِأَدَائِهَا تَارِكًا.
ثُمَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَجَرَّتِ الْفَتِيلَةَ فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا، فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا مِثْلَ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سِرَاجَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَيُحْرِقُكُمْ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ سَبَبِ الْأَمْرِ أَيْضًا، وَبَيَانُ الْحَامِلِ لِلْفُوَيْسِقَةِ - وَهِيَ الْفَأْرَةُ - عَلَى جَرِّ الْفَتِيلَةِ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَعِينُ وَهُوَ - عَدُوُّ الْإِنْسَانِ عَلَيْهِ - بَعْدُوٍّ آخَرَ وَهِيَ النَّارُ - أَعَاذَنَا اللَّهُ بِكَرَمِهِ مِنْ كَيَدِ الْأَعْدَاءِ إِنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي إِطْفَاءِ السِّرَاجِ الْحَذَرَ مِنْ جَرِّ الْفُوَيْسِقَةِ الْفَتِيلَةَ، فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ السِّرَاجَ إِذَا كَانَ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا الْفَأْرَةُ لَا يُمْنَعُ إِيقَادُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى مَنَارَةٍ مِنْ نُحَاسٍ أَمْلَسَ لَا يُمَكِّنُ الْفَأْرَةَ الصُّعُودَ إِلَيْهِ أَوْ يَكُونُ مَكَانَهُ بَعِيدًا عَنْ مَوْضِعٍ يُمْكِنُهَا أَنْ تَثِبَ مِنْهُ إِلَى السِّرَاجِ. قَالَ: وَأَمَّا وُرُودُ الْأَمْرِ بِإِطْفَاءِ النَّارِ مُطْلَقًا كَمَا فِي حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي مُوسَى - وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ نَارِ السِّرَاجِ - فَقَدْ يَتَطَرَّقُ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى غَيْرُ جَرِّ الْفَتِيلَةِ كَسُقُوطِ شَيْءٍ مِنَ السِّرَاجِ عَلَى بَعْضِ مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَكَسُقُوطِ الْمَنَارَةِ فَيُنْثَرُ السِّرَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَتَاعِ فَيُحْرِقُهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِيثَاقِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا اسْتَوْثَقَ بِحَيْثُ يُؤْمَنُ مَعَهُ الْإِحْرَاقُ فَيَزُولُ الْحُكْمُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ.
قُلْتُ: وَقَدْ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِذَلِكَ فِي الْقِنْدِيلِ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ مَعَهُ الضَّرَرُ الَّذِي لَا يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي السِّرَاجِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا:
هَذِهِ الْأَوَامِرُ لَمْ يَحْمِلْهَا الْأَكْثَرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَيَلْزَمُ أَهْلَ الظَّاهِرِ حَمْلُهَا عَلَيْهِ، قَالَ: وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالظَّاهِرِيِّ بَلِ الْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ إِلَّا لِمُعَارِضٍ ظَاهِرٍ يَقُولُ بِهِ أَهْلُ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الظَّاهِرِ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ بِهِ لِكَوْنِهِمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الْمَفْهُومَاتِ وَالْمُنَاسَبَاتِ، وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ تَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ مَقَاصِدِهَا فَمِنْهَا مَا يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ وَهُوَ التَّسْمِيَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَمِنْهَا مَا يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ مَعًا كَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ مِنْ أَجْلِ التَّعْلِيلِ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ مُخَالَطَةِ الشَّيْطَانِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ مَصَالِحُ دُنْيَوِيَّةٌ كَالْحِرَاسَةِ، وَكَذَا إِيكَاءُ السِّقَاءِ وَتَخْمِيرُ الْإِنَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
50 - بَاب غلق الْأَبْوَابِ بِاللَّيْلِ
6296 -
حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عن عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَأغلقُوا الْأَبْوَابَ، وَأَوْكُئوا الْأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ، وَالشَّرَابَ، قَالَ هَمَّامٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرُصهُ.
قَوْلُهُ (بَاب غَلْقِ الْأَبْوَابِ بِاللَّيْلِ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَالجُّرْجَانِيِّ وَكَذَا لِكَرِيمَةَ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِغْلَاقُ وَهُوَ الْفَصِيحُ وَقَالَ عِيَاضٌ: هُوَ الصَّوَابُ قُلْتُ لَكِنِ الْأَوَّلُ ثَبَتَ فِي لُغَةٍ نَادِرَةٍ.
قَوْلُهُ: هَمَّامٌ هُوَ ابْنُ يَحْيَى، وَعَطَاءٌ هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ.
قَوْلُهُ: أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ. تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ. فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ وَغَلِّقُوا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ بِلَفْظِ أَجِيفُوا بِالْجِيمِ وَالْفَاءِ وَهِيَ بِمَعْنَى أَغْلِقُوا وَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي بَابِ ذِكْرِ الْجِنِّ وَكَذَا بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي الْأَمْرِ بِإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ حِرَاسَةُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ أَهْلِ الْعَبَثِ وَالْفَسَادِ وَلَا سِيَّمَا الشَّيَاطِينُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا. فَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِغْلَاقِ لِمَصْلَحَةِ إِبْعَادِ الشَّيْطَانِ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِالْإِنْسَانِ، وَخَصَّهُ بِالتَّعْلِيلِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا يَخْفَى مِمَّا لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ جَانِبِ النُّبُوَّةِ.
قَالَ: وَاللَّامُ فِي الشَّيْطَانِ لِلْجِنْسِ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ فَرْدًا بِعَيْنِهِ وَقَوْلُهُ: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، قَالَ هَمَّامٌ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرُضُهُ وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ بَعْدَهَا ضَادٌ مُعْجَمَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَزْمُ بِذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ، وَلَفْظُهُ: وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرُضُهُ عَلَيْهِ، وَزَادَ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَوَامِرِ الْمَذْكُورَةِ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ شُرْبِ اللَّبَنِ مِنْ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ حَمَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَأَشَارَ إِلَى اسْتِشْكَالِهِ فَقَالَ أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يُعْطَ قُوَّةً عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أُعْطِيَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَهُوَ وُلُوجُهُ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْآدَمِيُّ أَنْ يَلِجَ فِيهَا.
قُلْتُ: وَالزِّيَادَةُ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا قَبْلُ تَرْفَعُ الْإِشْكَالَ، وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمْ.
وَقَدْ تَرَدَّدَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ فِي شَرْحِ الْإِمَامِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْخَذَ قَوْلُهُ: فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا عَلَى عُمُومِهِ،
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُخَصَّ بِمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِجِسْمِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَانِعٍ مِنَ اللَّهِ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ جِسْمِهِ، قَالَ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ دُخُولِ الشَّيْطَانِ الْخَارِجِ، فَأَمَّا الشَّيْطَانُ الَّذِي كَانَ دَاخِلًا فَلَا يَدُلُّ الْخَبَرُ عَلَى خُرُوجِهِ، قَالَ: فَيَكُونُ ذَلِكَ لِتَخْفِيفِ الْمَفْسَدَةِ لَا رَفْعِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِغْلَاقِ تَقْتَضِي طَرْدَ مَنْ فِي الْبَيْتِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْإِغْلَاقِ إِلَى تَمَامِهِ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ مَشْرُوعِيَّةَ غَلْقِ الْفَمِ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْأَبْوَابِ مَجَازًا.
51 - بَاب الْخِتَانِ بَعْدَ الْكِبَرِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ
6297 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ.
6298 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ مُخَفَّفَةً، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَقَالَ: بِالْقَدُّومِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مُشَدَّدٌ.
6299 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ "سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ قَالَ وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ "
[الحديث 6299 - طرفه في: 6300]
6300 -
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا خَتِينٌ"
قَوْلُهُ: بَابُ الْخِتَانِ بَعْدَ الْكِبَرِ. بِكَسْرِ الْكَافِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِكِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ: أَنَّ الْخِتَانَ يَسْتَدْعِي الِاجْتِمَاعَ فِي الْمَنَازِلِ غَالِبًا.
قَوْلُهُ (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ اللِّبَاسِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْخِتَانِ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ بِأَنَّ سَلْمَانَ لَمَّا أَسْلَمَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالِاخْتِتَانِ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تُرِكَ لِعُذْرٍ، أَوْ لِأَنَّ قِصَّتَهُ كَانَتْ قَبْلَ إِيجَابِ الْخِتَانِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مُخْتَتِنًا، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ النَّقْلِ عَدَمُ الْوُقُوعِ وَقَدْ ثَبَتَ الْأَمْرُ لِغَيْرِهِ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ في الحديث الثاني: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ، وَالِاخْتِلَافُ فِي سِنِّهِ حِينَ اخْتَتَنَ وَبَيَانُ قَدْرِ عُمْرِهِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ: أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ، وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً. وَرُوِّينَاهُ
فِي فَوَائِدِ ابْنِ السِّمَاكِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهَذَا السَّنَدِ مَرْفُوعًا، وَأَبُو أُوَيْسٍ فِيهِ لِينٌ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ عليه السلام اخْتَتَنَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَقَدْ حَاوَلَ الْكَمَالُ بْنُ طَلْحَةَ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي الْخِتَانِ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَقَالَ: نُقِلَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ اخْتَتَنَ لِثَمَانِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ أَنَّهُ اخْتَتَنَ لِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَاشَ مِائَتَيْ سَنَةٍ مِنْهَا ثَمَانُونَ سَنَةً غَيْرَ مَخْتُونٍ وَمِنْهَا مِائَةٌ وَعِشْرُينَ، وَهُوَ مَخْتُونٌ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: اخْتَتَنَ لِثَمَانِينَ مَضَتْ مِنْ عُمُرِهِ. وَالثَّانِي: لِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ بَقِيَتْ مِنْ عُمُرِهِ، وَتَعَقَّبَهُ الْكَمَالُ بْنُ الْعَدِيمِ فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ الْمُلْحَةُ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ طَلْحَةَ بِأَنَّ فِي كَلَامِهِ وَهَمًا مِنْ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: تَصْحِيحُهُ لِرِوَايَةِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ، ثُمَّ أَوْرَدَهَا مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعَةً، وَتَعَقَّبَهُ بِتَدْلِيسِ الْوَلِيدِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ فَوَائِدِ ابْنِ الْمُقْرِي مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ مَوْقُوفًا، وَمَنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ وَعِكْرِمَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ كِلَاهُمَا، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ كَذَلِكَ.
ثَانِيهَا: قَوْلُهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لِثَمَانِينَ لِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي طَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ بِاللَّامِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ اخْتَتَنَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ، وَفِي الْأُخْرَى وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَوَرَدَ الْأَوَّلُ أَيْضًا بِلَفْظِ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ صَرَّحَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً، فَلَا يُوَافِقُ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ أَنَّ الْمِائَةَ وَعِشْرِينَ هِيَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ عُمُرِهِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَزَالُ تَقُولُ خَلَوْنَ إِلَى النِّصْفِ فَإِذَا تَجَاوَزَتِ النِّصْفَ قَالُوا: بَقِينَ وَالَّذِي جَمَعَ بِهِ ابْنُ طَلْحَةَ يَقَعُ بِالْعَكْسِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَقُولَ فِيمَا إِذَا مَضَى مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ لِعِشْرِينَ بَقِينَ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي سِنِّ إِبْرَاهِيمَ، وَجَزَمَ بِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْهَا قَوْلُ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَعَا إِبْرَاهِيمُ النَّاسَ إِلَى الْحَجِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الشَّامِ، فَمَاتَ بِهِ وَهُوَ ابْنُ مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَذَكَرَ أَبُو حُذَيْفَةَ الْبُخَارِيُّ أَحَدَ الضُّعَفَاءِ فِي الْمُبْتَدَأِ بِسَنَدٍ لَهُ ضَعِيفٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَاشَ مِائَةً وَخَمْسًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ وَقِصَّتِهِ مَعَ مَلَكِ الْمَوْتِ وَدُخُولِهِ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ شَيْخٍ فَأَضَافَهُ، فَجَعَلَ يَضَعُ اللُّقْمَةَ فِي فِيهِ فَتَتَنَاثَرُ، وَلَا تَثْبُتُ فِي فِيهِ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ أَتَى عَلَيْكَ؟ قَالَ: مِائَةٌ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ سِتِّينَ وَمِائَةٍ: مَا بَقِيَ أَنْ أَصِيرَ هَكَذَا إِلَّا سَنَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَرِهَ الْحَيَاةَ، فَقَبَضَ مَلَكُ الْمَوْتِ حِينَئِذٍ رُوحَهُ بِرِضَاهُ.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ يَتَعَسَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، لَكِنْ أَرْجَحُهَا الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ، وَخَطَرَ لِي بَعْدُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ أَنَّهُ مِنْ وَقْتِ فَارَقَ قَوْمَهُ وَهَاجَرَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَيْ مِنْ مَوْلِدِهِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ رَأَى مِائَةً وَعِشْرِينَ فَظَنَّهَا إِلَّا عِشْرِينَ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَيْسَ اخْتِتَانُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بَعْدَ ثَمَانِينَ مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْنَا مِثْلَ فِعْلِهِ، إِذْ عَامَّةُ مَنْ يَمُوتُ مِنَ النَّاسِ لَا يَبْلُغُ الثَّمَانِينَ، وَإِنَّمَا اخْتَتَنَ وَقْتَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِهِ، قَالَ: وَالنَّظَرُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الِاخْتِتَانُ إِلَّا قُرْبَ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِاسْتِعْمَالِ الْعُضْوِ فِي الْجِمَاعِ، كَمَا وَقَعَ لِابْنِ عَبَّاسٍ حَيْثُ قَالَ كَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ ثُمَّ قَالَ: وَالِاخْتِتَانُ فِي الصِّغَرِ لِتَسْهِيلِ الْأَمْرِ عَلَى الصَّغِيرِ لِضَعْفِ عُضْوِهِ وَقِلَّةِ فَهْمِهِ.
قُلْتُ: يُسْتَدَلُّ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لِمَشْرُوعِيَّةِ الْخِتَانِ، حَتَّى لَوْ أُخِّرَ لِمَانِعٍ حَتَّى بَلَغَ السِّنَّ الْمَذْكُورَ لَمْ يَسْقُطْ طَلَبُهُ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِالتَّرْجَمَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْخِتَانَ يُشْرَعُ تَأْخِيرُهُ إِلَى الْكِبَرِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى الِاعْتِذَارِ عَنْهُ، وَأَمَّا التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ حِكْمَةَ الْخِتَانِ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي تَكْمِيلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ بَلْ،
وَلِمَا يُخْشَى مِنِ انْحِبَاسِ بَقِيَّةِ الْبَوْلِ فِي الْغُرْلَةِ وَلَا سِيَّمَا لِلْمُسْتَجْمِرِ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسِيلَ فَيُنَجِّسَ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ، فَكَانَتِ الْمُبَادَرَةُ لِقَطْعِهَا عِنْدَ بُلُوغِ السِّنِّ الَّذِي يُؤْمَرُ بِهِ الصَّبِيُّ بِالصَّلَاةِ أَلْيَقَ الْأَوْقَاتِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ الِاخْتِلَافَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُشْرَعُ فِيهِ فِيمَا مَضَى.
قَوْلُهُ: وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ مُخَفَّفَةً ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مُشَدَّدَةً، وَزَادَ وَهُوَ مَوْضِعٌ وَقَدْ قَدَّمْتُ بَيَانَهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَشَرْتُ إِلَيْهِ أَيْضًا فِي أَثْنَاءِ اللِّبَاسِ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: الْقَدُومُ بِالتَّخْفِيفِ الْآلَةُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ
عَلَى خُطُوبٍ مِثْلِ نَحْتِ الْقَدُومِ
وَبِالتَّشْدِيدِ الْمَوْضِعُ، قَالَ: وَقَدْ يَتَّفِقُ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام الْأَمْرَانِ يَعْنِي أَنَّهُ اخْتَتَنَ بِالْآلَةِ وَفِي الْمَوْضِعِ.
قُلْتُ: وَقَدْ قَدَّمْتُ الرَّاجِحَ مِنْ ذَلِكَ هُنَاكَ وَفِي الْمُتَّفَقِ لِلجَّوْزَقِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: الْقَدُّومُ الْقَرْيَةُ، وَأَخْرَجَ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ فَقُلْتُ لِيَحْيَى: مَا الْقَدُومُ؟ قَالَ الْفَأْسُ.
قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْعَدِيمِ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْقَدُومَ الَّذِي اخْتَتَنَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ هُوَ الْآلَةُ، يُقَالُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالْأَفْصَحُ التَّخْفِيفُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَتَيِ الْبُخَارِيِّ بِالْوَجْهَيْنِ، وَجَزَمَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَنَّهُ اخْتَتَنَ بِالْآلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَقِيلَ لَهُ يَقُولُونَ قَدُومٌ قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَثَبَتَ عَلَى الْأَوَّلِ وَفِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ الْقَدُومُ الْآلَةُ، وَالْمَوْضِعُ بِالتَّخْفِيفِ مَعًا، وَأَنْكَرَ ابْنُ السِّكِّيتِ التَّشْدِيدَ مُطْلَقًا، وَوَقَعَ فِي مُتَّفِقِ الْبُلْدَانِ لِلْحَازِمِيِّ قَدُومٌ قَرْيَةٌ كَانَتْ عِنْدَ حَلَبَ وَكَانَتْ مَجْلِسَ إِبْرَاهِيمَ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ. هُوَ الْبَغْدَادِيُّ الْمَعْرُوفُ بِصَاعِقَةَ، وَشَيْخُهُ عَبَّادُ بْنُ مُوسَى، هُوَ الْخُتَّلِيُّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَفَتْحِهَا بَعْدَهَا لَامٌ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ دَرَجَةً بِالنِّسْبَةِ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ الْكَثِيرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ كَقُتَيْبَةَ وَعَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ وَنَزَلَ فِيهِ دَرَجَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِإِسْرَائِيلَ؛ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ.
قَوْلُهُ: أَنَا يومئذ مَخْتُونٌ، أَيْ وَقَعَ لَهُ الْخِتَانُ يُقَالُ: صَبِيٌّ مَخْتُونٌ وَمُخْتَتَنٌ وَخَتِينٌ بِمَعْنًى.
قَوْلُهُ: وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ، أَيْ حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَا أَدْرِي مَنِ الْقَائِلُ وَكَانُوا يَخْتِنُونَ أَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ أَوْ إِسْرَائِيلُ أَوْ مَنْ دُونَهُ، وَقَدْ قَالَ أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ابْنُ عَشْرٍ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى وَأَنَا قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ قَالَ: وَالْأَحَادِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا مُضْطَرِبَةٌ.
قُلْتُ: وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الْحَدِيثِ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى مَنْ نَقَلَ عَنْهُ الْكَلَامَ السَّابِقَ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ، وَلَا يَثْبُتُ الْإِدْرَاجُ بِالِاحْتِمَالِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَدَعْوَى الِاضْطِرَابِ مَرْدُودَةٌ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ أَوِ التَّرْجِيحِ، فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ الصَّحِيحَ أَنَّهُ وُلِدَ بِالشِّعْبِ وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِذَلِكَ قَطَعَ أَهْلُ السِّيَرِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَوْرَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وُلِدْتُ وَبَنُو هَاشِمٍ فِي الشِّعْبِ وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ أَيْ قَارَبْتُهُ، وَلَا قَوْلَهُ: وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَ، فَخُتِنَ قَبْلَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ وَبَعْدِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَنَا ابْنُ عَشْرٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى إِلْغَاءِ الْكَسْرِ وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَيُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى رِوَايَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ بِأَنْ يَكُونَ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَشَيْءٍ وَوُلِدَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ، فَجَبْرُ الْكَسْرَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ وُلِدَ مَثَلًا فِي شَوَّالٍ فَلَهُ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى ثَلَاثَةُ
أَشْهُرٍ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا سَنَةً وَقُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَبِيعٍ فَلَهُ مِنَ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ ثَلَاثَةٌ أُخْرَى، وَأَكْمَلَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَمَنْ قَالَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَلْغَى الْكَسْرَيْنِ، وَمَنْ قَالَ: خَمْسَ عَشْرَةَ جَبَرَهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6300 -
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا خَتِينٌ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ. هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُوهُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَوْدِيُّ، وَشَيْخُهُ أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ.
قَوْلُهُ: قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا خَتِينٌ أَيْ مَخْتُونٌ، كَقَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ، وَهَذَا الطَّرِيقُ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ.
52 - بَاب كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
6301 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ.
قَوْلُهُ (بَاب كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ) أَيْ شَغَلَ اللَّاهِيَ بِهِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، أَيْ كَمَنِ الْتَهَى بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا فِي فِعْلِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَمَنِ اشْتَغَلَ بِصَلَاةِ نَافِلَةٍ أَوْ بِتِلَاوَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ تَفَكُّرٍ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ مَثَلًا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَمْدًا، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الضَّابِطِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْأَشْيَاءِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا الْمَطْلُوبِ فِعْلُهَا، فَكَيْفَ حَالُ مَا دُونَهَا وَأَوَّلُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَفَعَهُ: كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتُهَ أَهْلَهُ. الْحَدِيثَ. وَكَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِ الْمُصَنِّفِ، اسْتَعْمَلَه لَفْظَ تَرْجَمَةٍ وَاسْتَنْبَطَ مِنَ الْمَعْنَى مَا قَيَّدَ بِهِ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ.
وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَى الرَّمْيِ أَنَّهُ لَهْوٌ؛ لِإِمَالَةِ الرَّغَبَاتِ إِلَى تَعْلِيمِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ اللَّهْوِ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَعَلُّمِهِ الْإِعَانَةُ عَلَى الْجِهَادِ وَتَأْدِيبُ الْفَرَسِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُسَابَقَةِ عَلَيْهَا وَمُلَاعَبَةُ الْأَهْلِ لِلتَّأْنِيسِ، وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَى مَا عَدَاهَا الْبُطْلَانَ مِنْ طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ لَا أَنَّ جَمِيعَهَا مِنَ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمِ.
قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، أَيْ مَا يَكُونُ حُكْمُهُ.
قَوْلُهُ: وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الْآيَةَ كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَكْثَرُ وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ:{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ الْبُخَارِيَّ اسْتَنْبَطَ تَقْيِيدَ اللَّهْوِ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَاهُ لَا لِيُضِلَّ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا، وَكَذَا مَفْهُومُ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَشْغَلْهُ اللَّهْوُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ لَا يَكُونُ بَاطِلًا. لَكِنْ عُمُومُ هَذَا الْمَفْهُومِ يُخَصُّ بِالْمَنْطُوقِ، فَكُلُّ شَيْءٍ نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِمَّا يُلْهِي يَكُونُ بَاطِلًا، سَوَاءٌ شَغَلَ أَوْ لَمْ يَشْغَلْ، وَكَأَنَّهُ رَمَزَ إِلَى ضَعْفِ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ اللَّهْوِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْغِنَاءِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ: لَا يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَفِيهِنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الْآيَةَ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا أَنَّهُ فَسَّرَ اللَّهْوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْغِنَاءِ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ أَيْضًا.
ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ الْحَدِيثَ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْقِمَارَ مِنْ جُمْلَةِ اللَّهْوِ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ دَعَا إِلَى الْمَعْصِيَةِ فَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ لِيُكَفِّرَ عَنْهُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ؛ لِأَنَّ مَنْ دَعَا إِلَى مَعْصِيَةٍ وَقَعَ بِدُعَائِهِ إِلَيْهَا فِي
مَعْصِيَةٍ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا الْحَدِيثِ بِالتَّرْجَمَةِ وَالتَّرْجَمَةِ بِالِاسْتِئْذَانِ أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْقِمَارِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي دُخُولِ الْمَنْزِلِ، ثُمَّ لِكَوْنِهِ يَتَضَمَّنُ اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَمُنَاسَبَةُ بَقِيَّةِ حَدِيثِ الْبَابِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْحَلِفَ بِاللَّاتِ لَهْوٌ يَشْغَلُ عَنِ الْحَقِّ بِالْخَلْقِ، فَهُوَ بَاطِلٌ. انْتَهَى.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا قَدَّمَ تَرْجَمَةَ تَرْكِ السَّلَامِ عَلَى مَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا أَشَارَ إِلَى تَرْكِ الْإِذْنِ لِمَنْ يَشْتَغِلُ بِاللَّهْوِ عَنِ الطَّاعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ الْبَابِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ وَالنَّجْمِ قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ: هَذَا الْحَرْفُ تَعَالَ أُقَامِرْكَ لَا يَرْوِيهِ أَحَدٌ إِلَّا الزُّهْرِيُّ، وَلِلزُّهْرِيِّ نَحْوُ تِسْعِينَ حَرْفًا لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا قَيَّدَ التَّفَرُّدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ لِأَنَّ لِبَقِيَّةِ الْحَدِيثِ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، يُسْتَفَادُ مِنْهُ سَبَبُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، قَالَ: كُنَّا حَدِيثِي عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ فَحَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَانْفُثْ عَنْ شِمَالِكِ، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ، ثُمَّ لَا تَعُدْ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى آخِرِ الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ إِلَى قَوْلِهِ: قَدِيرٌ وَيَحْتَمِلُ الِاكْتِفَاءُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ لِأَنَّهَا كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَالزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ تَأْكِيدٌ.
53 - بَاب مَا جَاءَ فِي الْبِنَاءِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِذَا تَطَاوَلَ رِعَاة الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَان
6302 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَنَيْتُ بِيَدِي بَيْتًا يُكِنُّنِي مِنْ الْمَطَرِ، وَيُظِلُّنِي مِنْ الشَّمْسِ مَا أَعَانَنِي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ.
6303 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلَا غَرَسْتُ نَخْلَةً مُنْذُ قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ سُفْيَانُ: فَذَكَرْتُهُ لِبَعْضِ أَهْلِهِ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ بَنَى بيتا، قَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ: فَلَعَلَّهُ قَالَ: قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ.
قَوْلُهُ: بَابُ مَا جَاءَ فِي الْبِنَاءِ أَيْ مِنْ مَنْعٍ وَإِبَاحَةٍ، وَالْبِنَاءُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِطِينٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ بِخَشَبٍ أَوْ مِنْ قَصَبٍ أَوْ مِنْ شَعْرٍ.
قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الرَّاءُ وَبِهَاءِ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ رِعَاءُ بِكَسْرِ الرَّاءُ وَبِالْهَمْزِ مَعَ الْمَدِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْصُولًا مُطَوَّلًا مَعَ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَأَشَارَ بِإِيرَادِ هَذِهِ الْقِطْعَةِ إِلَى ذَمِّ التَّطَاوُلِ فِي الْبُنْيَانِ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّ تَطْوِيلِ الْبِنَاءِ صَرِيحًا مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ عَامِرٍ: إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ بِنَاءً فَوْقَ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ نُودِيَ يَا فَاسِقُ إِلَى أَيْنَ؟ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ مَعَ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا.
وَفِي ذَمِّ الْبِنَاءِ مُطْلَقًا حَدِيثُ خَبَّابٍ رَفَعَهُ قَالَ: يُؤْجَرُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَتِهِ كُلِّهَا إِلَّا التُّرَابَ أَوْ قَالَ الْبِنَاءَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَأَخْرَجَ لَهُ شَاهِدًا عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ إِلَّا الْبِنَاءَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِعَبْدٍ شَرًّا خَضَّرَ لَهُ فِي اللَّبِنِ وَالطِّينِ حَتَّى يَبْنِيَ وَمَعْنَى خَضَّرَ بِمُعْجَمَتَيْنِ حَسَّنَ وَزْنًا وَمَعْنًى.
وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بِشْرٍ الْأَنْصَارِيِّ بِلَفْظِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ سُوءًا أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْبُنْيَانِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: مَرَّ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُطَيِّنُ حَائِطًا، فَقَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلتَّوَطُّنِ، وَمَا يَقِي الْبَرْدَ وَالْحَرَّ وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: أَمَا أنَّ كُلَّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِلَّا مَا لَا إِلَّا مَا لَا أَيْ إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ إِلَّا الرَّاوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَهُوَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَسَدِيُّ، فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ وَاثِلَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ.
قَوْلُهُ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ. كَذَا فِي الْأَصْلِ وَسَعِيدٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيُّ، وَنُسِبَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْأَشْدَقِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ يُقَالُ لَهُ السَّعِيدِيُّ، سَكَنَ مَكَّةَ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ وَالِدِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: عَنْ سَعِيدٍ
قَوْلُهُ (رَأَيْتُنِي) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ كَأَنَّهُ اسْتَحْضَرَ الْحَالَةَ الْمَذْكُورَةَ فَصَارَ لِشِدَّةِ عِلْمِهِ بِهَا كَأَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ يَفْعَلُ مَا ذَكَرَ.
قَوْلُهُ: مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَوْلُهُ (يُكِنُّنِي) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ مِنْ أَكَنَّ إِذَا وَقَى وَجَاءَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ كَنَّ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ: كَنَنْتُهُ وَأَكْنَنْتُهُ بِمَعْنًى أَيْ سَتَرْتُهُ وَأَسْرَرْتُهُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: كَنَنْتُهُ صُنْتُهُ، وَأَكْنَنْتُهُ أَسْرَرْتُهُ.
قَوْلُهُ: مَا أَعَانَنِي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ هُوَ تَأْكِيدٌ لِقولِهِ بَنَيْتُ بِيَدِي وَإِشَارَةٌ إِلَى خِفَّةِ مُؤْنَتِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيِّ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدٍ السَّعِيدِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجَيْنِ بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ، وَاعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَقَالَ: أَدْخَلَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْبِنَاءِ بِالطِّينِ وَالْمَدَرِ، وَالْخَبَرُ إِنَّمَا هُوَ فِي بَيْتِ الشَّعْرِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ رَاوِيَ الزِّيَادَةِ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا فَلَيْسَ فِي التَّرْجَمَةِ تَقْيِيدٌ بِالطِّينِ وَالْمَدَرِ.
قَوْلُهُ: قَالَ عَمْرٌو، هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: لَبِنَةً بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مِثْلِ كَلِمَةٍ وَيَجُوزُ كَسْرُ أَوَّلِهِ وَسُكُونُ الْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: وَلَا غَرَسْتُ نَخْلَةً، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَيْسَ الْغَرْسُ كَالْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ غَرَسَ وَنِيَّتُهُ طَلَبُ الْكَفَافِ، أَوْ لِفَضْلِ مَا يَنَالُ مِنْهُ فَفِي ذَلِكَ الْفَضْلُ لَا الْإِثْمُ قُلْتُ: لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْإِثْمِ فِي الْخَبَرِ ذِكْرٌ حَتَّى يُعْتَرَضَ بِهِ، وَكَلَامُهُ يُوهِمُ أَنَّ فِي الْبِنَاءِ كُلِّهِ الْإِثْمَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِ التَّفْصِيلُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا زَادَ مِنْهُ عَلَى الْحَاجَةِ يَسْتَلْزِمُ الْإِثْمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْغَرْسِ مِنَ الْأَجْرِ مِنْ أَجْلِ مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ مَا لَيْسَ فِي الْبِنَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْبِنَاءِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْأَجْرُ مِثْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ لِغَيْرِ الْبَانِي، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِلْبَانِي بِهِ الثَّوَابُ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: فَذَكَرْتُهُ لِبَعْضِ أَهْلِهِ، لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، وَالْقَائِلُ هُوَ سُفْيَانُ.
قَوْلُهُ: قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ بَنَى، زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ فِي رِوَايَتِهِ بَيْتًا
قَوْلُهُ: قَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ فَلَعَلَّهُ قَالَ قَبْلَ أَيْ، قَالَ: مَا وَضَعْتُ لَبِنَةً إِلَخْ. قَيلَ أَنْ يُبْنَى الَّذِي ذَكَرْتُ، وَهَذَا اعْتِذَارٌ حَسَنٌ مِنْ سُفْيَانَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ نَفَى أَنْ يَكُونَ بَنَى بِيَدِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم فِعْلُ ذَلِكَ، وَالَّذِي أَثْبَتَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ كَانَ بَنَى بِأَمْرِهِ فَنَسَبَهُ إِلَى فِعْلِهِ مَجَازًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِنَاؤُهُ بَيْتًا مِنْ قَصَبٍ أَوْ شَعْرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي نَفَاهُ ابْنُ عُمَرَ مَا زَادَ عَلَى حَاجَتِهِ، وَالَّذِي أَثْبَتَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِنَاءُ بَيْتٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، أَوْ إِصْلَاحُ مَا وَهَى مِنْ بَيْتِهِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنْ جَوَابِ سُفْيَانَ أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا جَاءَ عَنْهُ قَوْلَانِ مُخْتَلِفَانِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِسَامِعِهِمَا أَنْ يَتَأَوَّلَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَنْفِي عَنْهُمَا التَّنَاقُضَ تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ الْكَذِبِ انْتَهَى، وَلَعَلَّ سُفْيَانَ فَهِمَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ ابْنِ
عُمَرَ الْإِنْكَارَ عَلَى مَا رَوَاهُ لَهُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَبَادَرَ سُفْيَانُ إِلَى الِانْتِصَارِ لِشَيْخِهِ وَلِنَفْسِهِ وَسَلَكَ الْأَدَبَ مَعَ الَّذِي خَاطَبَهُ بِالْجَمْعِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(خَاتِمَة):
اشْتَمَلَ كِتَابُ الِاسْتِئْذَانِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَمَانِينَ حَدِيثًا الْمُعَلَّقُ مِنْهَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ اثْنَا عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهُ فِيهِ وَفِيمَا مَضَى خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا وَالْخَالِصُ عِشْرُونَ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: رَسُولُ الرَّجُلِ إِذْنُهُ وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْمُصَافَحَةِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الِاحْتِبَاءِ، وَحَدِيثِهِ فِي الْبِنَاءِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي خِتَانِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ سَبْعَةُ آثَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
80 - كِتَاب الدَّعَوَاتِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}
قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، كِتَابُ الدَّعَوَاتِ، بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ دَعْوَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْوَاحِدَةُ وَالدُّعَاءُ الطَّلَبُ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الشَّيْءِ الْحَثُّ عَلَى فِعْلِهِ، وَدَعَوْتُ فُلَانًا سَأَلْتُهُ وَدَعَوْتُهُ اسْتَغَثْتُهُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى رِفْعَةِ الْقَدْرِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَيُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى الَّذِي قَبْلَهُ وَيُطْلَقُ الدُّعَاءُ أَيْضًا عَلَى الْعِبَادَةِ.
وَالدَّعْوَى بِالْقَصْرِ الدُّعَاءُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} وَالِادِّعَاءُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} وَقَالَ الرَّاغِبُ: الدُّعَاءُ عَلَى التَّسْمِيَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} وَقَالَ الرَّاغِبُ: الدُّعَاءُ وَالنِّدَاءُ وَاحِدٌ، لَكِنْ قَدْ يَتَجَرَّدُ النِّدَاءُ عَنْ الِاسْمِ، وَالدُّعَاءُ لَا يَكَادُ يَتَجَرَّدُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى مَا مُلَخَّصُهُ: جَاءَ الدُّعَاءُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا الْعِبَادَةُ، {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} وَمِنْهَا الِاسْتِغَاثَةُ {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} وَمِنْهَا السُّؤَالُ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وَمِنْهَا الْقَوْلُ {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} وَالنِّدَاءُ {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} وَالثَّنَاءُ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}
قَوْلُهُ: وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الْآيَةَ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:{دَاخِرِينَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي تَرْجِيحِ الدُّعَاءِ عَلَى التَّفْوِيضِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْأَفْضَلُ تَرْكُ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِسْلَامُ لِلْقَضَاءِ وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ آخِرَهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ الْعِبَادَةُ لِقَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الْآيَةَ أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ. وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ فِي الْآيَةِ تَرْكُ الذُّنُوبِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ أَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَةِ فَهُوَ كَالْحَدِيثِ الْآخَرِ الْحَجُّ عَرَفَةُ أَيْ مُعْظَمُ الْحَجِّ وَرُكْنُهُ الْأَكْبَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَقَدْ تَوَارَدَتِ الْآثَارُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ.
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ،
وَالْحَاكِمُ وَحَدِيثُهُ رَفَعَهُ: مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ، كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ الْخُوزِيِّ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، ثُمَّ زَايٍ عَنْهُ، وَهَذَا الْخُوزِيُّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَوَّاهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَظَنَّ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ، فَجَزَمَ بِأَنَّ أَحْمَدَ تَفَرَّدَ بِتَخْرِيجِهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ جَزَمَ شَيْخُهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ بِمَا قُلْتُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ، وَالْحَاكِمِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْخُوزِيِّ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يُبْغِضْهُ، وَالْمَبْغُوضُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ انْتَهَى، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ. وَفِي سَنَدِهِ لِينٌ، وَقَدْ صَحَّحَهُ مَعَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ عَنْعَنَةَ بَقِيَّةٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيّ: الْأَوْلَى حَمْلُ الدُّعَاءِ فِي الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ {عَنْ عِبَادَتِي} فَوَجْهُ الرَّبْطِ أَنَّ الدُّعَاءَ أَخَصُّ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنِ الْعِبَادَةِ اسْتَكْبَرَ عَنِ الدُّعَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَالْوَعِيدُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ تَرَكَ الدُّعَاءَ اسْتِكْبَارًا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَفَرَ، وَأَمَّا مَنْ تَرَكَهُ لِمَقْصَدٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ كُنَّا نَرَى أَنَّ مُلَازَمَةَ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْهُ أَرْجَحُ مِنَ التَّرْكِ لِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَثِّ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْآتِيَةُ قَرِيبًا فِي السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الْإِجَابَةَ مُشْتَرَطَةٌ بِالْإِخْلَاصِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى حَدِيثِ النُّعْمَانِ: أَنْ تُحْمَلَ الْعِبَادَةُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِذِ الدُّعَاءُ هُوَ إِظْهَارُ غَايَةِ التَّذَلُّلِ وَالِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ وَالِاسْتِكَانَةُ لَهُ وَمَا شُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ إِلَّا لِلْخُضُوعِ لِلْبَارِي وَإِظْهَارِ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ وَلِهَذَا خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} حَيْثُ عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ بِالِاسْتِكْبَارِ، وَوَضَعَ عِبَادَتِي مَوْضِعَ دُعَائِي وَجَعَلَ جَزَاءَ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارِ الصَّغَارُ وَالْهَوَانُ.
وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ فِي الرِّسَالَةِ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ اخْتُلِفَ أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى: الدُّعَاءُ أَوِ السُّكُوتُ وَالرِّضَا؟ فَقِيلَ: الدُّعَاءُ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي تَرْجِيحُهُ لِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالِافْتِقَارِ، وَقِيلَ السُّكُوتُ وَالرِّضَا أَوْلَى لِمَا فِي التَّسْلِيمِ مِنَ الْفَضْلِ.
قُلْتُ: وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الدَّاعِيَ لَا يَعْرِفُ مَا قُدِّرَ لَهُ، فَدُعَاؤُهُ إِنْ كَانَ عَلَى وَفْقِ الْمَقْدُورِ، فَهُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِهِ، فَهُوَ مُعَانَدَةٌ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَالِافْتِقَارِ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ إِذْعَانًا لَا مُعَانَدَةً وَفَائِدَةُ الدُّعَاءِ تَحْصِيلُ الثَّوَابِ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَدْعُوُّ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا، قَالَ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا بِلِسَانِهِ رَاضِيًا بِقَلْبِهِ، قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِذَا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ إِشَارَةَ الدُّعَاءِ، فَالدُّعَاءُ أَفْضَلُ وَبِالْعَكْسِ.
قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ أَنْ يَدْعُوَ بِلِسَانِهِ وَيَرْضَى بِقَلْبِهِ، وَالثَّانِي لَا يَتَأَتَّى مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ الْكُمَّلُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ نَصِيبٌ فَالدُّعَاءُ أَفْضَلُ وَمَا كَانَ لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ فَالسُّكُوتُ أَفْضَلُ، وَعَبَّرَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ لِمَا حَكَاهُ بِقَوْلِهِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِغَيْرِهِ وَيَتْرُكَ لِنَفْسِهِ، وَعُمْدَةُ مَنْ أَوَّلَ الدُّعَاءَ فِي الْآيَةِ بِالْعِبَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَدْعُو فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُ، فَلَوْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا لَمْ يَتَخَلَّفْ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ لَكِنْ تَتَنَوَّعُ
الْإِجَابَةُ فَتَارَةً تَقَعُ بِعَيْنِ مَا دَعَا بِهِ وَتَارَةً بِعِوَضِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَفَعَهُ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَهَا لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ وَلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ؛ إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعَوْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وَهَذَا شَرْطٌ ثَانٍ لِلْإِجَابَةِ، وَلَهَا شُرُوطٌ أُخْرَى مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ طَيِّبُ الْمَطْعَمِ، وَالْمَلْبَسِ، لِحَدِيثِ: فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ وَسَيَأْتِي بَعْدَ عِشْرِينَ بَابًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْهَا أَلَّا يَكُونَ يَسْتَعْجِلُ لِحَدِيثِ: يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَقُلْ دَعَوْتُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي. أَخْرَجَهُ مَالِكٌ.
1 - بَاب لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ
6304 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ.
[الحديث 6304 - طرفه في: 7474]
6305 -
وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: قَالَ مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لكُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤْلًا، أَوْ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فَاسْتُجِيبَ، فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ (بَاب لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَ لَفْظُ بَابُ لِغَيْرِهِ، فَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ التَّرْجَمَةِ الْأُولَى، وَمُنَاسَبَتُهَا لِلْآيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الدُّعَاءِ لَا يُسْتَجَابُ عَيْنًا.
قَوْلُهُ: إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ (مُسْتَجَابَة) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلَمْ أَرَهَا عِنْدَ الْبَاقِينَ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْمُوَطَّأِ
قَوْلُهُ يَدْعُو بِهَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيُعَجِّلُ كُلُّ نَبِيٍّ دَعَوْتَهُ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ
قَوْلُهُ وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِيَةِ فِي التَّوْحِيدِ فَأُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَخْتَبِئَ وَزِيَادَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذَا لِلتَّبَرُّكِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي وَزَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزَادَ أَبُو صَالِحٍ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا.
وَقَوْلُهُ: مَنْ مَاتَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ ولَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ شَفَاعَتِي نَائِلَةٌ مَنْ مَاتَ غَيْرَ مُشْرِكٍ وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا ثُمَّ عَزَمَ فَفَعَلَ وَرَجَا وُقُوعَ ذَلِكَ فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ فَجَزَمَ بِهِ وَسَيَأْتِي تَتِمَّةُ الْكَلَامِ عَلَى الشَّفَاعَةِ وَأَنْوَاعِهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الرِّقَاقِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ بِمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمُجَابَةِ، وَلَا سِيَّمَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَظَاهِرُهُ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً فَقَطْ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِجَابَةِ فِي الدَّعْوَةِ الْمَذْكُورَةِ الْقَطْعُ بِهَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ دَعَوَاتِهِمْ، فَهُوَ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَابَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ أَيْ أَفْضَلُ دَعَوَاتِهِ وَلَهُمْ دَعَوَاتٌ أُخْرَى وَقِيلَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ مُسْتَجَابَةٌ فِي أُمَّتِهِ إِمَّا بِإِهْلَاكِهِمْ، وَإِمَّا بِنَجَاتِهِمْ وَأَمَّا الدَّعَوَاتُ الْخَاصَّةُ، فَمِنْهَا
مَا يُسْتَجَابُ وَمِنْهَا مَا لَا يُسْتَجَابُ، وَقِيلَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ تَخُصُّهُ لِدُنْيَاهُ أَوْ لِنَفْسِهِ كَقَوْلِ نُوحٍ {لا تَذَرْ عَلَى} الْأَرْضِ، وَقَوْلِ زَكَرِيَّا {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي} وَقَوْلِ سُلَيْمَانَ {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ.
وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ مَا لَفْظُهُ اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ دَعَوَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مُسْتَجَابَةٌ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ دَعَا عَلَى أُمَّتِهِ بِالْإِهْلَاكِ إِلَّا أَنَا فَلَمْ أَدْعُ فَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ لِلصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ لَا أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ
(1)
بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَى أَحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَدَعَا عَلَى أُنَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ بِأَسْمَائِهِمْ وَدَعَا عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَدَعَا عَلَى مُضَرَ، قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً تُسْتَجَابُ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ، فَنَالَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا نَبِيُّنَا، فَإِنَّهُ لَمَّا دَعَا عَلَى بَعْضِ أُمَّتِهِ نَزَلَ عَلَيْهِ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فَبَقِيَ تِلْكَ الدَّعْوَةُ الْمُسْتَجَابَةُ مُدَّخَرَةً لِلْآخِرَةِ وَغَالِبُ مَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ لَمْ يُرِدْ إِهْلَاكَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ رَدْعَهُمْ لِيَتُوبُوا.
وَأَمَّا جَزْمُهُ أَوَّلًا بِأَنَّ جَمِيعَ أَدْعِيَتِهِمْ مُسْتَجَابَةٌ فَفِيهِ غَفْلَةٌ عَنِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ سَأَلْتُ اللَّهَ ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. الْحَدِيثَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ فَضْلِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ حَيْثُ آثَرَ أُمَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ بِدَعْوَتِهِ الْمُجَابَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا أَيْضًا دُعَاءً عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا مِنْ حُسْنِ تَصَرُّفِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ جَعَلَ الدَّعْوَةَ فِيمَا يَنْبَغِي، وَمِنْ كَثْرَةِ كَرَمِهِ لِأَنَّهُ آثَرَ أُمَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْ صِحَّةِ نَظَرِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلْمُذْنِبِينَ مِنْ أُمَّتِهِ لِكَوْنِهِمْ أَحْوَجَ إِلَيْهَا مِنَ الطَّائِعِينَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ كَمَالُ شَفَقَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ وَرَأْفَتُهُ بِهِمْ وَاعْتِنَاؤُهُ بِالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ، فَجَعَلَ دَعَوْتَهُ فِي أَهَمِّ أَوْقَاتِ حَاجَتِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَهِيَ نَائِلَةٌ فَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ غَيْرَ مُشْرِكٍ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ، وَلَوْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكَبَائِرِ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ مُعْتَمِرٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَبِهِ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْحُمَيْدِيُّ، لَكِنْ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ فِي أَوَّلِهِ قَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ فَعَلَى هَذَا هُوَ مُتَّصِلٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مُعْتَمِرٍ.
قَوْلُهُ: لِكُلِّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤَلًا، أَوْ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، هَكَذَا وَقَعَ بِالشَّكِّ، وَلَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ، بَلْ أَحَالَ بِهِ عَلَى طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى بِهِ وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَمُسَدَّدٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ مُعْتَمِرٍ بِالشَّكِّ. وَلَفْظُهُ كُلُّ نَبِيٍّ قَدْ سَأَلَ سُؤَلًا أَوْ قَالَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا الْحَدِيثَ وَلَفْظُ قَتَادَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ لِأُمَّتِهِ فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَشُكَّ.
2 - بَاب أَفْضَلِ الِاسْتِغْفَارِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى و {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا
* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ * وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
6306 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: حَدَّثَنِي بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يقُولَ: اللَّهُمَّ
(1)
في نسخة القرطبي.
أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
[الحديث 6306 - طرفه في 6323]
قَوْلُهُ: بَابُ أَفْضَلِ الِاسْتِغْفَارِ. سَقَطَ لَفْظُ بَابُ لِأَبِي ذَرٍّ. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ بِلَفْظِ فَضْلُ الِاسْتِغْفَارِ وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْآيَتَيْنِ فِي أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ وَهُمَا دَالَّتَانِ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، ظَنَّ أَنَّ التَّرْجَمَةَ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَكِنَّ حَدِيثَ الْبَابِ يُؤَيِّدُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ إِثْبَاتَ مَشْرُوعِيَّةِ الْحَثِّ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ بِذِكْرِ الْآيَتَيْنِ، ثُمَّ بَيَّنَ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَتَرْجَمَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ.
وَوَقَعَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ السِّيَادَةِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّيَادَةِ الْأَفْضَلِيَّةُ وَمَعْنَاهَا الْأَكْثَرُ نَفْعًا لِمُسْتَعْمِلِهِ، وَمِنْ أَوْضَحِ مَا وَقَعَ فِي فَضْلِ الِاسْتِغْفَارِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ يَسَارٍ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا: مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ، وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبِهَانِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْكَبَائِرِ تُغْفَرُ بِبَعْضِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَضَابِطُهُ الذُّنُوبُ الَّتِي لَا تُوجِبُ عَلَى مُرْتَكِبِهَا حُكْمًا فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ مَثَّلَ بِالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ يُغْفَرُ إِذَا كَانَ مِثْلَ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ عَلَى مُرْتَكِبِهِ حُكْمًا فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ.
قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَ {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} الْآيَةَ كَذَا رَأَيْتُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَتِ الْوَاوُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ التِّلَاوَةَ {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} وَسَاقَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَنْهَارًا، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّحَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَثَرِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا شَكَى إِلَيْهِ الْجَدْبَ فَقَالَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَشَكَى إِلَيْهِ آخَرُ فَقَالَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَشَكَى إِلَيْهِ آخَرُ جَفَافَ بُسْتَانِهِ فَقَالَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَشَكَى إِلَيْهِ آخَرُ عَدَمَ الْوَلَدِ فَقَالَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَفِي الْآيَةِ حَثٌّ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَإِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ لِمَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ
لَوْ لَمْ تُرِدْ نَيْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ
…
مِنْ جُودِ كَفَّيْكَ مَا عَلَّمْتَنِي الطَّلَبَا.
قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الْآيَةَ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ذَكَرُوا اللَّهَ فَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ فَاسْتَغْفَرُوا تَفْسِيرٌ لِلْمُرَادِ بِالذِّكْرِ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ تَقْدِيرِهِ، ذَكَرُوا عِقَابَ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى تَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أَيْ لِأَجْلِ ذُنُوبِهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ صِفَةُ الِاسْتِغْفَارِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنهما وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَقُومُ، فَيَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عز وجل إِلَّا غَفَرَ لَهُ، ثُمَّ تَلَا {وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً} الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ قَبُولِ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يُقْلِعَ الْمُسْتَغْفِرُ عَنِ الذَّنْبِ، وَإِلَّا فَالِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ مَعَ التَّلَبُّسِ بِالذَّنْبِ كَالتَّلَاعُبِ.
وَوَرَدَ فِي فَضْلِ الِاسْتِغْفَارِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ قَالَ إِبْلِيسُ: يَا رَبِّ لَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ فَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: وَعِزَّتِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَفَعَهُ: مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَذَكَرَ السَّبْعِينَ لِلْمُبَالَغَةِ وَإِلَّا فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي التَّوْحِيدِ مَرْفُوعًا: أَنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ. الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ هُوَ ابْنُ ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ، وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ الْمُعَلِّمُ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ أَيِ ابْنُ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا بُشَيْرٌ، بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ، وَقَدْ تَابَعَ حُسَيْنًا عَلَى ذَلِكَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وَأَبُو الْعَوَّامِ، عَنْ بُرَيْدَةَ، وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا بُشَيْرَ بْنَ كَعْبٍ بَلْ قَالَا عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ شَدَّادٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَخَالَفَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، لَكِنْ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ أَوَّلُ الْحَدِيثِ، قَالَ النَّسَائِيُّ: حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ أَثْبَتُ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَأَعْلَمُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، وَحَدِيثُهُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ.
قُلْتُ: كَأَنَّ الْوَلِيدَ سَلَكَ الْجَادَّةَ؛ لِأَنَّ جُلَّ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَكَأَنَّ مَنْ صَحَّحَهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، أَيِ ابْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ الْأَنْصَارِيُّ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الشَّاعِرِ، وَشَدَّادٌ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ نَزَلَ الشَّامَ وَكُنْيَتُهُ أَبُو يَعْلَى. وَاخْتُلِفَ فِي صُحْبَةِ أَبِيهِ، وَلَيْسَ لِشَدَّادٍ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ.
قَوْلُهُ: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ جَامِعًا لِمَعَانِي التَّوْبَةِ كُلِّهَا اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ السَّيِّدِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الرَّئِيسُ الَّذِي يُقْصَدُ فِي الْحَوَائِجِ، وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْأُمُورِ.
قَوْلُهُ: أَنْ يَقُولَ أَيِ الْعَبْدُ وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ إِنَّ سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ شَدَّادٍ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: تَعَلَّمُوا سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ.
قَوْلُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أنت خَلَقْتَنِي، كَذَا فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ بِتَكْرِيرِ أَنْتَ وَسَقَطَتِ الثَّانِيَةُ مِنْ مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَالْبَاقِي نَحْوُ حَدِيثِ شَدَّادٍ وَزَادَ فِيهِ: آمَنْتُ لَكَ مُخْلِصًا لَكَ دِينِي.
قَوْلُهُ وَأَنَا عَبْدُكَ قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَكَّدَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً أَيْ أَنَا عَابِدٌ لَكَ، وَيُؤَيِّدُهُ عَطْفُ قَوْلِهِ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ.
قَوْلُهُ: وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ سَقَطَتِ الْوَاوُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَنَا عَلَى مَا عَهِدْتُكَ عَلَيْهِ وَوَاعَدْتُكَ مِنَ الْإِيمَانِ بِكَ وَإِخْلَاصِ الطَّاعَةِ لَكَ مَا اسْتَطَعْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى مَا عَهِدْتَ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِكَ وَمُتَمَسِّكٌ بِهِ وَمُنْتَجِزٌ وَعْدَكَ فِي الْمَثُوبَةِ وَالْأَجْرِ، وَاشْتِرَاطُ الِاسْتِطَاعَةِ فِي ذَلِكَ مَعْنَاهُ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ وَالْقُصُورِ عَنْ كُنْهِ الْوَاجِبِ مِنْ حَقِّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ يُرِيدُ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حَيْثُ أَخْرَجَهُمْ أَمْثَالَ الذَّرِّ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فَأَقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَبِالْوَعْدِ مَا قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ:
أنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَأَدَّى مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.
قُلْتُ: وَقَوْلُهُ وَأَدَّى مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُرَادَ بِالْعَهْدِ الْمِيثَاقَ الْمَأْخُوذَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ خَاصَّةً، فَالْوَعْدُ هُوَ إِدْخَالُ مَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ مَا اسْتَطَعْتُ إِعْلَامٌ لِأُمَّتِهِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلَّهِ وَلَا الْوَفَاءِ بِكَمَالِ الطَّاعَاتِ وَالشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ فَرَفَقَ اللَّهُ بِعِبَادِهِ، فَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا وُسْعَهُمْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَهْدِ وَالْوَعْدِ مَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ كَذَا قَالَ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْوَعْدِ أَوْضَحُ.
قَوْلُهُ: أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ سَقَطَ، لَفْظُ لَكَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَأَبُوءُ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْهَمْزِ مَمْدُودٌ مَعْنَاهُ أَعْتَرِفُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ شَدَّادٍ: وَأَعْتَرِفُ بِذُنُوبِي وَأَصْلُهُ الْبَوَاءُ وَمَعْنَاهُ اللُّزُومُ وَمِنْهُ بَوَّأَهُ اللَّهُ مَنْزِلًا إِذَا أَسْكَنَهُ فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُ بِهِ.
قَوْلُهُ: وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي أَيْ أَعْتَرِفُ أَيْضًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَحْمِلُهُ بِرَغْمِي لَا أَسْتَطِيعُ صَرْفَهُ عَنِّي. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اعْتَرَفَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْإِنْعَامِ ثُمَّ اعْتَرَفَ بِالتَّقْصِيرِ وَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِأَدَاءِ شُكْرِهَا ثُمَّ بَالَغَ فَعَدَّهُ ذَنْبًا مُبَالَغَةً فِي التَّقْصِيرِ وَهَضْمِ النَّفْسِ قُلْتُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي أَعْتَرِفُ بِوُقُوعِ الذَّنْبِ مُطْلَقًا لِيَصِحَّ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ لَا أَنَّهُ عَدَّ مَا قَصَّرَ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ شُكْرِ النِّعَمِ ذَنْبًا.
قَوْلُهُ: فَاغْفِرْ لِي لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ غُفِرَ لَهُ وَقَدْ وَقَعَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ الطَّوِيلِ، وَفِيهِ الْعَبْدُ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ وَتَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: مَنْ قَالَهَا مُوقِنًا بِهَا أَيْ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ مُصَدِّقًا بِثَوَابِهَا. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وَمِثْلَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ بُشِّرَ بِالثَّوَابِ ثُمَّ بُشِّرَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ، فَثَبَتَ الْأَوَّلُ وَمَا زِيدَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يُبَشِّرُ بِالشَّيْءِ ثُمَّ يُبَشِّرُ بِأَقَلَّ مِنْهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَوَّلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَاسِخًا، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا فِيمَنْ قَالَهَا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَغْفِرُ لَهُ بِهِ ذُنُوبَهُ أَوْ يَكُونَ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْهُ بِوَجْهٍ مَا وَاللَّهُ سبحانه وتعالى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، كَذَا حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ عَنْهُ وَبَعْضُهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ.
قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَإِنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ لَا يَقُولُهَا أَحَدُكُمْ حِينَ يُمْسِي فَيَأْتِي عَلَيْهِ قَدَرٌ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ أَوْ حِينَ يُصْبِحُ فَيَأْتِي عَلَيْهِ قَدَرٌ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ.
قَوْلُهُ: فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: جَمَعَ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَدِيعِ الْمَعَانِي وَحُسْنِ الْأَلْفَاظِ مَا يَحِقُّ لَهُ أَنَّهُ يُسَمَّى سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ فَفِيهِ الْإِقْرَارُ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِ، وَالرَّجَاءُ بِمَا وَعَدَهُ بِهِ وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ مَا جَنَى الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِضَافَةُ النَّعْمَاءِ إِلَى مُوجِدِهَا وَإِضَافَةُ الذَّنْبِ إِلَى نَفْسِهِ، وَرَغْبَتُهُ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَاعْتِرَافُهُ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا هُوَ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ تَكَالِيفَ الشَّرِيعَةِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ عَوْنٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى وَهَذَا الْقَدَرُ الَّذِي يُكَنَّى عَنْهُ بِالْحَقِيقَةِ فَلَوِ اتَّفَقَ أَنَّ الْعَبْدَ خَالَفَ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَيْهِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ بِبَيَانِ الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا الْعُقُوبَةُ بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ أَوِ الْعَفْوُ بِمُقْتَضَى الْفَضْلِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. أَيْضًا مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِغْفَارِ: صِحَّةُ النِّيَّةِ وَالتَّوَجُّهُ وَالْأَدَبُ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا حَصَّلَ الشُّرُوطَ وَاسْتَغْفَرَ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ الْوَارِدِ وَاسْتَغْفَرَ آخَرُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَارِدِ لَكِنْ أَخَلَّ بِالشُّرُوطِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا يَكُونُ سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ إِذَا جَمَعَ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3 - بَاب اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
6307 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً.
قَوْلُهُ: بَابُ اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ وُقُوعُ الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ، أَوِ التَّقْدِيرُ مِقْدَارُ اسْتِغْفَارِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ لِتَقَدُّمِ بَيَانِ الْأَفْضَلِ، وَهُوَ لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ.
قَوْلُهُ: قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.
قَوْلُهُ: وَاللَّهِ إِنِّي لِأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، فِيهِ الْقَسَمُ عَلَى الشَّيْءِ تَأْكِيدًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ السَّامِعِ فِيهِ شَكٌّ.
قَوْلُهُ: لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ وَيَعْزِمُ عَلَى التَّوْبَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَقُولُ هَذَا اللَّفْظَ بِعَيْنِهِ، وَيُرَجِّحُ الثَّانِيَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إ لَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: إِنَّا كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ.
قَوْلُهُ (أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْمُبَالَغَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ. وَقَوْلُهُ: أَكْثَرَ مُبْهَمٌ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُ يَبْلُغُ الْمِائَةَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَكِنْ خَالَفَ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ فِي ذَلِكَ، نَعَمْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِلَفْظِ: إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. وَلَهُ فِي حَدِيثِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رَفَعَهُ مِثْلَهُ، وَهُوَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: إِنَّهُ لَيُغَانُّ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ. قَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِالْغَيْنِ فَتَرَاتٌ عَنِ الذِّكْرِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهِ فَإِذَا فَتَرَ عَنْهُ لِأَمْرٍ مَا عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا فَاسْتَغْفَرَ عَنْهُ، وَقِيلَ هُوَ شَيْءٌ يَعْتَرِي الْقَلْبَ مِمَّا يَقَعُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَقِيلَ: هُوَ السَّكِينَةُ الَّتِي تَغْشَى قَلْبَهُ وَالِاسْتِغْفَارُ لِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالشُّكْرِ لِمَا أَوْلَاهُ، وَقِيلَ: هِيَ حَالَةُ خَشْيَةٍ وَإِعْظَامٍ وَالِاسْتِغْفَارُ شُكْرُهَا. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: خَوْفُ الْمُتَقَرِّبِينَ خَوْفُ إِجْلَالٍ وَإِعْظَامٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيُّ: لَا يُعْتَقَدُ أَنَّ الْغَيْنَ فِي حَالَةِ نَقْصٍ بَلْ هُوَ كَمَالٌ أَوْ تَتِمَّةُ كَمَالٍ، ثُمَّ مَثَّلَ ذَلِكَ بِجَفْنِ الْعَيْنِ حِينَ يُسْبَلُ لِيَدْفَعَ الْقَذَى عَنِ الْعَيْنِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْعَيْنَ مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ نَقْصٌ وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ كَمَالُ هَذَا مُحَصَّلُ كَلَامِهِ بِعِبَارَةٍ طَوِيلَةٍ، قَالَ: فَهَكَذَا بَصِيرَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَعَرِّضَةٌ لِلْأَغْيِرَةِ الثَّائِرَةِ مِنْ أَنْفَاسِ الْأَغْيَارِ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى السَّتْرِ عَلَى حَدَقَةِ بَصِيرَتِهِ صِيَانَةً لَهَا وَوِقَايَةً عَنْ ذَلِكَ، انْتَهَى.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ وُقُوعُ الِاسْتِغْفَارِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَعْصُومٌ وَالِاسْتِغْفَارُ يَسْتَدْعِي وُقُوعَ مَعْصِيَةٍ، وَأُجِيبَ بِعِدَّةِ أَجْوِبَةٍ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْغَيْنِ، وَمِنْهَا قَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: هَفَوَاتُ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ وَالْأَنْبِيَاءُ وَإِنْ عُصِمُوا مِنَ الْكَبَائِرِ، فَلَمْ يُعْصَمُوا مِنَ الصَّغَائِرِ. كَذَا قَالَ وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى خِلَافِ الْمُخْتَارِ، وَالرَّاجِحُ عِصْمَتُهُمْ مِنَ الصَّغَائِرِ أَيْضًا وَمِنْهَا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: الْأَنْبِيَاءُ أَشَدُّ النَّاسِ اجْتِهَادًا فِي الْعِبَادَةِ لِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنَ الْمَعْرِفَةِ
فَهُمْ دَائِبُونَ فِي شُكْرِهِ مُعْتَرِفُونَ لَهُ بِالتَّقْصِيرِ، انْتَهَى وَمُحَصَّلُ جَوَابِهِ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي أَدَاءِ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِاشْتِغَالِهِ بِالْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ رَاحَةٍ أَوْ لِمُخَاطَبَةِ النَّاسِ وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمُحَارَبَةِ عَدُوِّهِمْ تَارَةً وَمُدَارَاتِهِ أُخْرَى وَتَأْلِيفِ الْمُؤَلَّفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْجُبُهُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَمُشَاهَدَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ، فَيَرَى ذَلِكَ ذَنْبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَقَامِ الْعَلِيِّ وَهُوَ الْحُضُورُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ.
وَمِنْهَا أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَشْرِيعٌ لِأُمَّتِهِ أَوْ مِنْ ذُنُوبِ الْأُمَّةِ فَهُوَ كَالشَّفَاعَةِ لَهُمْ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ كَانَ صلى الله عليه وسلم دَائِمَ التَّرَقِّي، فَإِذَا ارْتَقَى إِلَى حَالٍ رَأَى مَا قَبْلَهَا دُونَهَا فَاسْتَغْفَرَ مِنَ الْحَالَةِ السَّابِقَةِ، وَهَذَا مُفَرَّعٌ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ فِي اسْتِغْفَارِهِ كَانَ مُفَرَّقًا بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْأَحْوَالِ وَظَاهِرُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّيْخُ السُّهْرَوَرْدِيُّ: لَمَّا كَانَ رُوحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ فِي التَّرَقِّي إِلَى مَقَامَاتِ الْقُرْبِ يَسْتَتْبِعُ الْقَلْبَ، وَالْقَلْبُ يَسْتَتْبِعُ النَّفْسَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَرَكَةَ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ أَسْرَعُ مِنْ نَهْضَةِ النَّفْسِ، فَكَانَتْ خُطَا النَّفْسِ تَقْصُرُ عَنْ مَدَاهُمَا فِي الْعُرُوجِ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِبْطَاءَ حَرَكَةِ الْقَلْبِ لِئَلَّا تَنْقَطِعَ عَلَاقَةُ النَّفْسِ عَنْهُ فَيَبْقَى الْعِبَادُ مَحْرُومِينَ فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْزَعُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لِقُصُورِ النَّفْسِ عَنْ شَأْوِ تَرَقِّي الْقَلْبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4 - بَاب التَّوْبَةِ قَالَ قَتَادَةُ {تَوْبَةً نَصُوحًا} الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ
6308 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ العبد مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ. تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَجَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ، وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ، سَمِعْتُ الْحَارِثَ بن سويد، وَقَالَ شُعْبَةُ وَأَبُو مُسْلِمٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
6309 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح و حَدَّثَنَا هُدْبَةُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ"
قَوْلُهُ: بَابُ التَّوْبَةِ، أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِإِيرَادِ هَذَيْنَ الْبَابَيْنِ - وَهُمَا الِاسْتِغْفَارُ ثُمَّ التَّوْبَةُ - فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الدُّعَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِجَابَةَ تُسْرِعُ إِلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَلَبِّسًا بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا قَدَّمَ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ قَبْلَ الدُّعَاءِ، كَانَ أَمْكَنَ لِإِجَابَتِهِ،
وَمَا أَلْطَفِ قَوْلِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِذْ سُئِلَ أَأُسَبِّحُ أَوْ أَسْتَغْفِرُ، فَقَالَ: الثَّوْبُ الْوَسِخُ أَحْوَجُ إِلَى الصَّابُونِ مِنَ الْبَخُورِ، وَالِاسْتِغْفَارُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْغُفْرَانِ، وَأَصْلُهُ الْغَفْرُ وَهُوَ إِلْبَاسُ الشَّيْءِ مَا يَصُونُهُ عَمَّا يُدَنِّسُهُ، وَتَدْنِيسُ كُلِّ شَيْءٍ يحَسَبِهِ، وَالْغُفْرَانُ مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَنْ يَصُونَهُ عَنِ الْعَذَابِ وَالتَّوْبَةُ تَرْكُ الذَّنْبِ عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ.
وَفِي الشَّرْعِ: تَرْكُ الذَّنْبِ لِقُبْحِهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ وَرَدُّ الْمَظْلِمَةِ إِنْ كَانَتْ أَوْ طَلَبُ الْبَرَاءَةِ مِنْ صَاحِبِهَا، وَهِيَ أَبْلَغُ ضُرُوبِ الِاعْتِذَارِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَذِرَ إِمَّا أَنْ يَقُولَ لَا أَفْعَلُ فَلَا يَقَعُ الْمَوْقِعُ عِنْدَ مَنِ اعْتَذَرَ لَهُ لِقِيَامِ احْتِمَالِ أَنَّهُ فَعَلَ لَا سِيَّمَا إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ عَنْهُ، أَوْ يَقُولَ فَعَلْتُ لِأَجْلِ كَذَا وَيَذْكُرُ شَيْئًا يُقِيمُ عُذْرَهُ، وَهُوَ فَوْقَ الْأَوَّلِ أَوْ يَقُولَ فَعَلْتُ، وَلَكِنْ أَسَأْتُ وَقَدْ أَقْلَعْتُ، وَهَذَا أَعْلَاهُ. انْتَهَى مِنْ كَلَامِ الرَّاغِبِ مُلَخَّصًا.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِيهَا فَقَائِلٌ يَقُولُ: إِنَّهَا النَّدَمُ، وَآخَرُ يَقُولُ: إِنَّهَا الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ، وَآخَرُ يَقُولُ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ أَكْمَلُهَا غَيْرَ أَنَّهُ مَعَ مَا فِيهِ غَيْرُ مَانِعٍ وَلَا جَامِعٍ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ يَجْمَعُ الثَّلَاثَةَ وَلَا يَكُونُ تَائِبًا شَرْعًا إِذْ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ شُحًّا عَلَى مَالِهِ أَوْ لِئَلَّا يُعَيِّرَهُ النَّاسُ بِهِ، وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ، وَمَنْ تَرَكَ الذَّنْبَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ تَائِبًا اتِّفَاقًا، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَنْ زَنَى مَثَلًا ثُمَّ جُبَّ ذَكَرُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ غَيْرُ النَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى، وَأَمَّا الْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ، قَالَ: وَبِهَذَا اغْتَرَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّدَمَ يَكْفِي فِي حَدِّ التَّوْبَةِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَدِمَ وَلَمْ يُقْلِعْ، وَعَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ لَمْ يَكُنْ تَائِبًا اتِّفَاقًا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هِيَ اخْتِيَارُ تَرْكِ ذَنْبٍ سَبَقَ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا لِأَجْلِ اللَّهِ، قَالَ: وَهَذَا أَسَدُّ الْعِبَارَاتِ وَأَجْمَعُهَا ; لِأَنَّ التَّائِبَ لَا يَكُونُ تَارِكًا لِلذَّنْبِ الَّذِي فَرَغَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ عَيْنِهِ لَا تَرْكًا وَلَا فِعْلًا وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ مِثْلِهِ حَقِيقَةً، وَكَذَا مَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَنْبٌ إِنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ اتِّقَاءُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ لَا تَرْكُ مِثْلِ مَا وَقَعَ فَيَكُونُ مُتَّقِيًا لَا تَائِبًا.
قَالَ: وَالْبَاعِثُ عَلَى هَذَا تَنْبِيهٌ إِلَهِيٌّ لِمَنْ أَرَادَ سَعَادَتَهُ لِقُبْحِ الذَّنْبِ وَضَرَرِهِ ; لِأَنَّهُ سُمٌّ مُهْلِكٌ يُفَوِّتُ عَلَى الْإِنْسَانِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَحْجُبُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا وَعَنْ تَقْرِيبِهِ فِي الْآخِرَةِ قَالَ: وَمَنْ تَفَقَّدَ نَفْسَهُ وَجَدَهَا مَشْحُونَةً بِهَذَا السُّمِّ فَإِذَا وُفِّقَ انْبَعَثَ مِنْهُ خَوْفُ هُجُومِ الْهَلَاكِ عَلَيْهِ فَيُبَادِرُ بِطَلَبِ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْبَعِثُ مِنْهُ النَّدَمُ عَلَى مَا سَبَقَ وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ عَلَيْهِ.
قَالَ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ، إِمَّا مِنَ الْكُفْرِ، وَإِمَّا مِنَ الذَّنْبِ، فَتَوْبَةُ الْكَافِرِ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا، وَتَوْبَةُ الْعَاصِي مَقْبُولَةٌ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ، وَمَعْنَى الْقَبُولِ الْخَلَاصُ مِنْ ضَرَرِ الذُّنُوبِ حَتَّى يَرْجِعَ كَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ ثُمَّ تَوْبَةُ الْعَاصِي إِمَّا مِنْ حَقِّ اللَّهِ، وَإِمَّا مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ، فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ مِنْهُ التَّرْكُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ غَيْرَ أَنَّ مِنْهُ مَا لَمْ يَكْتَفِ الشَّرْعُ فِيهِ بِالتَّرْكِ فَقَطْ، بَلْ أَضَافَ إِلَيْهِ الْقَضَاءَ أَوِ الْكَفَّارَةَ وَحَقُّ غَيْرِ اللَّهِ يَحْتَاجُ إِلَى إِيصَالِهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلِ الْخَلَاصُ مِنْ ضَرَرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ لَكِنْ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِيصَالِ بَعْدَ بَذْلِهِ الْوُسْعَ فِي ذَلِكَ فَعَفْوُ اللَّهِ مَأْمُولٌ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ التَّبِعَاتِ وَيُبَدِّلُ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: حَكَى غَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ فِي شُرُوطِ التَّوْبَةِ زِيَادَةٌ، فَقَالَ: النَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ وَرَدُّ الْمَظْلِمَةِ وَأَدَاءُ مَا ضَيَّعَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَأَنْ يَعْمِدَ إِلَى الْبَدَنِ الَّذِي رَبَّاهُ بِالسُّحْتِ فَيُذِيبُهُ بِالْهَمِّ وَالْحَزَنِ حَتَّى يَنْشَأَ لَهُ لَحْمٌ طَيِّبٌ وَأَنْ يُذِيقَ نَفْسَهُ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَاقَهَا لَذَّةَ الْمَعْصِيَةِ. قُلْتُ: وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُكَمِّلَاتٌ.
وَقَدْ تَمَسَّكَ مَنْ فَسَّرَ التَّوْبَةَ بِالنَّدَمِ بِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ النَّدَمُ تَوْبَةٌ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْحَضُّ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ فِي التَّوْبَةِ لَا أَنَّهُ التَّوْبَةُ نَفْسُهَا وَمَا يُؤَيِّدُ
اشْتِرَاطَ كَوْنِهَا لِلَّهِ - تَعَالَى - وُجُودُ النَّدَمِ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْإِقْلَاعَ عَنْ أَصْلِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ كَمَنْ قَتَلَ وَلَدَهُ مَثَلًا وَنَدِمَ لِكَوْنِهِ وَلَدَهُ، وَكَمَنَ بَذَلَ مَالًا فِي مَعْصِيَةٍ ثُمَّ نَدِمَ عَلَى نَقْصِ ذَلِكَ الْمَالِ مِمَّا عِنْدَهُ، وَاحْتَجَّ مَنْ شَرَطَ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَنْ يَرُدَّ تِلْكَ الْمَظْلِمَةَ بِأَنَّ مَنْ غَصَبَ أَمَةً فَزَنَى بِهَا لَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ إِلَّا بِرَدِّهَا لِمَالِكِهَا، وَأَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا عَمْدًا لَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ إِلَّا بِتَمْكِينِ نَفْسِهِ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ لِيَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ.
قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ جِهَةِ التَّوْبَةِ مِنَ الْغَصْبِ وَمِنْ حَقِّ الْمَقْتُولِ وَاضِحٌ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ تَصِحَّ التَّوْبَةُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الزِّنَا، وَإِنِ اسْتَمَرَّتِ الْأَمَةُ فِي يَدِهِ وَمِنَ الْعَوْدِ إِلَى الْقَتْلِ، وَإِنْ لَمْ يُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهِ، وَزَادَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَاهُ فِي شُرُوطِ التَّوْبَةِ أُمُورًا أُخْرَى مِنْهَا أَنْ يُفَارِقَ مَوْضِعَ الْمَعْصِيَةِ، وَأَنْ لَا يَصِلَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إِلَى الْغَرْغَرَةِ، وَأَنْ لَا تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا وَأَنْ لَا يَعُودَ إِلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ بَان أَنَّ تَوْبَتَهُ بَاطِلَةٌ.
قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ مُسْتَحَبٌّ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ دَاخِلَانِ فِي حَدِّ التَّكْلِيفِ، وَالرَّابِعُ الْأَخِيرُ عُزِيَ لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ. وَيَرُدُّهُ الْحَدِيثُ الْآتِي بَعْدَ عِشْرِينَ بَابًا وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي بَابِ فَضْلِ الِاسْتِغْفَارِ وَقَدْ قَالَ الْحَلِيمِيُّ فِي تَفْسِيرِ التَّوَّابِ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى أَنَّهُ الْعَائِدُ عَلَى عَبْدِهِ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ كُلَّمَا رَجَعَ لِطَاعَتِهِ وَنَدِمَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ فَلَا يُحْبِطُ عَنْهُ مَا قَدَّمَهُ مِنْ خَيْرٍ وَلَا يَحْرِمُهُ مَا وَعَدَ بِهِ الطَّائِعَ مِنَ الْإِحْسَانِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: التَّوَّابُ الَّذِي يَعُودُ إِلَى الْقَبُولِ كُلَّمَا عَادَ الْعَبْدُ إِلَى الذَّنْبِ وَتَابَ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ قَتَادَةُ تَوْبَةً نَصُوحًا الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ، وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ وَقِيلَ: سُمِّيَتْ نَاصِحَةً؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَنْصَحُ نَفْسَهُ فِيهَا فَذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْمُبَالَغَةِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ نُصُوحًا بِضَمِّ النُّونِ أَيْ ذَاتَ نُصْحٍ وَقَالَ الرَّاغِبُ: النُّصْحُ تَحَرِّي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فِيهِ صَلَاحٌ، تَقُولُ: نَصَحْتُ لَكَ الْوُدَّ أَيْ أَخْلَصْتُهُ وَنَصَحْتُ الْجِلْدَ أَيْ خِطْتُهُ، وَالنَّاصِحُ الْخَيَّاطُ وَالنِّصَاحُ الْخَيْطُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَوْبَةً نَصُوحًا مَأْخُوذًا مِنَ الْإِخْلَاصِ أَوْ مِنَ الْإِحْكَامِ وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ قَوْلُ عُمَرَ أَنْ يُذْنِبَ الذَّنْبَ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ وَفِي لَفْظٍ ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَنْ يَنْدَمَ إِذَا أَذْنَبَ، فَيَسْتَغْفِرَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا.
الثَّانِي: أَنْ يُبْغِضَ الذَّنْبَ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْهُ كُلَّمَا ذَكَرَهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، الثَّالِثُ: قَوْلُ قَتَادَةَ الْمَذْكُورُ قَبْلُ، الرَّابِعُ: أَنْ يُخْلِصَ فِيهَا، الْخَامِسُ: أَنْ يَصِيرَ مِنْ عَدَمِ قَبُولِهَا عَلَى وَجَلٍ، السَّادِسُ: أَنْ لَا يَحْتَاجَ مَعَهَا إِلَى تَوْبَةٍ أُخْرَى، السَّابِعُ: أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى خَوْفٍ وَرَجَاءٍ وَيُدْمِنَ الطَّاعَةَ.
الثَّامِنُ مِثْلُهُ، وَزَادَ وَأَنْ يُهَاجِرَ مَنْ أَعَانَهُ عَلَيْهِ، التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ ذَنْبُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ وَجْهًا بِلَا قَفًا كَمَا كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ قَفًا بِلَا وَجْهٍ، ثُمَّ سَرَدَ بَقِيَّةَ الْأَقْوَالِ مِنْ كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعَانٍ مُجْتَمِعَةٍ تَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَاشْتُهِرَ بِذَلِكَ وَأَبُو شِهَابٍ شَيْخُهُ اسْمُهُ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ نَافِعٍ الْحَنَّاطُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَهُوَ أَبُو شِهَابٍ الْحَنَّاطُ الصَّغِيرُ، وَأَمَّا أَبُو شِهَابٍ الْحَنَّاطُ الْكَبِيرُ، فَهُوَ فِي طَبَقَةِ شُيُوخِ هَذَا، وَاسْمُهُ مُوسَى بْنُ نَافِعٍ، وَلَيْسَا أَخَوَيْنِ، وَهُمَا كُوفِيَّانِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ رِجَالِ هَذَا السَّنَدِ.
قَوْلُهُ: عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، فَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ تَصْرِيحَ الْأَعْمَشِ بِالتَّحْدِيثِ وَتَصْرِيحَ شَيْخِهِ عُمَارَةَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ الْمُعَلَّقَةِ بَعْدَ هَذَا وَعُمَارَةُ تَيْمِيٌّ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّاتِ ابْنِ ثَعْلَبَةَ، كُوفِيٌّ مِنْ طَبَقَةِ الْأَعْمَشِ، وَشَيْخُهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ تَيْمِيٌّ أَيْضًا، وَفِي السَّنَدِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ،
أَوَّلُهُمُ الْأَعْمَشُ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَعُمَارَةُ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ، وَالْحَارِثُ مِنْ كِبَارِهِمْ.
قَوْلُهُ: حَدِيثَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ فَذَكَرَهُ إِلَى قَوْلِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ ثُمَّ قَالَ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ هَكَذَا، وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِرَفْعِ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالُوا الْمَرْفُوعُ لَلَّهُ أَفْرَحُ إِلَخْ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَوْقُوفُ، وَالثَّانِيَ هُوَ الْمَرْفُوعُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَقِفِ ابْنُ التِّينِ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ فَقَالَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْآخَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَزِدْ فِي الشَّرْحِ عَلَى الْأَصْلِ شَيْئًا.
وَأَغْرَبَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي مُخْتَصَرِهِ فَأَفْرَدَ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَعَبَّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ وَلَا التَّصْرِيحُ بِرَفْعِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ كُتُبِ الْحَدِيثِ إِلَّا مَا قَرَأْتُ فِي شَرْحِ مُغْلَطَايْ أَنَّهُ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ وَهَّاهَا أَبُو أَحْمَدَ الجُّرْجَانِيُّ يَعْنِي ابْنَ عَدِيٍّ.
وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ، وَكَذَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَسُقْ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَوْقُوفَ، وَلَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَارِثِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَعُودُهُ، وَهُوَ مَرِيضٌ، فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثَيْنِ، حَدِيثًا عَنْ نَفْسِهِ، وَحَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ مُنَوَّرٌ، فَإِذَا رَأَى مِنْ نَفْسِهِ مَا يُخَالِفُ مَا يُنَوِّرُ بِهِ قَلْبَهُ عَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّمْثِيلِ بِالْجَبَلِ أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ قَدْ يَحْصُلُ التَّسَبُّبُ إِلَى النَّجَاةِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْجَبَلِ إِذَا سَقَطَ عَلَى الشَّخْصِ لَا يَنْجُو مِنْهُ عَادَةً، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ لِقُوَّةِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْإِيمَانِ، فَلَا يَأْمَنُ الْعُقُوبَةَ بِسَبَبِهَا، وَهَذَا شَأْنُ الْمُسْلِمِ: أَنَّهُ دَائِمُ الْخَوْفِ وَالْمُرَاقَبَةِ يَسْتَصْغِرُ عَمَلَهُ الصَّالِحَ، وَيَخْشَى مِنْ صَغِيرِ عَمَلِهِ السَّيِّئِ.
قَوْلُهُ (وَأنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهَا ذُبَابٌ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ أَيْ ذَنْبُهُ سَهْلٌ عِنْدَهُ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِهِ كَبِيرُ ضَرَرٍ، كَمَا أَنَّ ضَرَرَ الذُّبَابِ عِنْدَهُ سَهْلٌ وَكَذَا دَفْعُهُ عَنْهُ، وَالذُّبَابُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ؛ الْأُولَى خَفِيفَةٌ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ جَمْعُ ذُبَابَةٍ، وَهِيَ الطَّيْرُ الْمَعْرُوفُ.
قَوْلُهُ: فَقَالَ بِهِ هَكَذَا أَيْ نَحَّاهُ بِيَدِهِ أَوْ دَفَعَهُ هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ قَالُوا وَهُوَ أَبْلَغُ.
قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو شِهَابٍ، هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ هُوَ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِقَوْلِهِ فَقَالَ بِهِ قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةَ الْمُؤْمِنِ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ عُقُوبَتِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٌ مِنَ الذَّنْبِ وَلَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْفَاجِرُ قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، فَلِذَلِكَ قَلَّ خَوْفُهُ وَاسْتَهَانَ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ قَلْبَ الْفَاجِرِ مُظْلِمٌ فَوُقُوعُ الذَّنْبُ خَفِيفٌ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ يَقَعُ فِي الْمَعْصِيَةِ إِذَا وُعِظَ يَقُولُ هَذَا سَهْلٌ، قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ قِلَّةَ خَوْفِ الْمُؤْمِنِ ذُنُوبَهُ وَخِفَّتَهُ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى فُجُورِهِ، قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي تَشْبِيهِ ذُنُوبِ الْفَاجِرِ بِالذُّبَابِ كَوْنُ الذُّبَابِ أَخَفَّ الطَّيْرِ وَأَحْقَرَهُ، وَهُوَ مِمَّا يُعَايَنُ وَيُدْفَعُ بِأَقَلِّ الْأَشْيَاءِ، قَالَ وَفِي ذِكْرِ الْأَنْفِ مُبَالَغَةٌ فِي اعْتِقَادِهِ خِفَّةَ الذَّنْبِ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ الذُّبَابَ قَلَّمَا يَنْزِلُ عَلَى الْأَنْفِ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ غَالِبًا الْعَيْنَ، قَالَ: وَفِي إِشَارَتِهِ بِيَدِهِ تَأْكِيدٌ لِلْخِفَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْقَدْرِ الْيَسِيرِ يُدْفَعُ ضَرَرَهُ، قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ ضَرْبُ الْمِثْلِ بِمَا يُمْكِنُ وَإِرْشَادٌ إِلَى الْحَضِّ عَلَى مُحَاسِبَةِ النَّفْسِ وَاعْتِبَارِ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى بَقَاءِ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ أَنَّ الْفُجُورَ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ كَالْإِيمَانِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ، وَرَدٌّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالذُّنُوبِ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ عَظِيمَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُعَذِّبُ عَلَى الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ سبحانه وتعالى.
قَوْلُهُ: ثُمَّ قَالَ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا، فِي رِوَايَةِ أَبِي الرَّبِيعِ الْمَذْكُورَةِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ وَكَذَا عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِطْلَاقُ الْفَرَحِ فِي حَقِّ اللَّهِ مَجَازٌ عَنْ رِضَاهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ أَرْضَى بِالتَّوْبَةِ، وَأَقْبَلُ لَهَا، وَالْفَرَحُ الَّذِي يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أَيْ رَاضُونَ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: الْفَرَحُ فِي اللُّغَةِ السُّرُورُ وَيُطْلَقُ عَلَى الْبَطَرِ، وَمِنْهُ {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وَعَلَى الرِّضَا، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يُسَرُّ بِشَيْءٍ وَيَرْضَى بِهِ يُقَالُ فِي حَقِّهِ فَرِحَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كُلُّ صِفَةٍ تَقْتَضِي التَّغَيُّرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِحَقِيقَتِهَا فَإِنْ وَرَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حُمِلَ عَلَى مَعْنًى يَلِيقُ بِهِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الشَّيْءِ بِسَبَبِهِ أَوْ ثَمَرَتِهِ الْحَاصِلَةِ عَنْهُ، فَإِنَّ مَنْ فَرِحَ بِشَيْءٍ جَادَ لِفَاعِلِهِ بِمَا سَأَلَ وَبَذَلَ لَهُ مَا طَلَبَ فَعَبَّرَ عَنْ عَطَاءِ الْبَارِي وَوَاسِعِ كَرَمِهِ بِالْفَرَحِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: كَنَّى عَنْ إِحْسَانِ اللَّهِ لِلتَّائِبِ، وَتَجَاوُزِهِ عَنْهُ بِالْفَرَحِ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الْمَلِكِ إِذَا فَرِحَ بِفِعْلِ أَحَدٍ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ هَذَا مَثَلٌ قُصِدَ بِهِ بَيَانُ سُرْعَةِ قَبُولِ اللَّهِ تَوْبَةَ عَبْدِهِ التَّائِبِ، وَأَنَّهُ يُقْبِلُ عَلَيْهِ بِمَغْفِرَتِهِ وَيُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ مَنْ يَفْرَحُ بِعَمَلِهِ، وَوَجْهُ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّ الْعَاصِيَ حَصَلَ بِسَبَبِ مَعْصِيَتِهِ فِي قَبْضَةِ الشَّيْطَانِ وَأَسْرِهِ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، فَإِذَا لَطَفَ اللَّهُ بِهِ وَوَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ خَرَجَ مِنْ شُؤْمِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَتَخَلَّصَ مِنْ أَسْرِ الشَّيْطَانِ وَمَنَ الْمَهْلَكَةِ الَّتِي أَشْرَفَ عَلَيْهَا، فَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَغْفِرَتِهِ وَبِرَحْمَتِهِ، وَإِلَّا فَالْفَرَحُ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ اهْتِزَازٌ وَطَرَبٌ يَجِدُهُ الشَّخْصُ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ ظَفَرِهِ بِغَرَضٍ يَسْتَكْمِلُ بِهِ نُقْصَانَهُ، وَيَسُدُّ بِهِ خُلَّتَهُ أَوْ يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرًا أَوْ نَقْصًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى -؛ فَإِنَّهُ الْكَامِلُ بِذَاتِهِ الْغَنِيُّ بِوُجُودِهِ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ وَلَا قُصُورٌ، لَكِنَّ هَذَا الْفَرَحَ لَهُ عِنْدَنَا ثَمَرَةٌ وَفَائِدَةٌ، وَهُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى الشَّيْءِ الْمَفْرُوحِ بِهِ، وَإِحْلَالُهُ الْمَحَلَّ الْأَعْلَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصِحُّ فِي حَقِّهِ - تَعَالَى -، فَعَبَّرَ عَنْ ثَمَرَةِ الْفَرَحِ بِالْفَرَحِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ، أَوْ كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ، وَهَذَا الْقَانُونُ جَارٍ فِي جَمِيعِ مَا أَطْلَقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِهِ، وَكَذَا مَا ثَبَتَ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، كَذَا فِي الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ خَفِيفَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ هَاءِ ضَمِيرٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ بِسَنَدِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِدَوِّيَةٍ بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَدَالٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ وَاوٍ ثَقِيلَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَاءِ تَأْنِيثٍ، وَكَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ خَارِجَ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهِمْ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلَكَةٍ وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَةٍ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَبِيئَةٍ وَزْنَ فَعِيلَةٍ مِنَ الْوَبَاءِ، وَلَمْ أَقِفْ أَنَا عَلَى ذَلِكَ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الْمُذَكَّرِ، وَهُوَ الْمَنْزِلُ بِصِفَةِ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: وَبِيئَةٍ مَهْلَكَةٍ وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى إِرَادَةِ الْبُقْعَةِ وَالدَّوِّيَّةُ هِيَ الْقَفْرُ وَالْمَفَازَةُ، وَهِيَ الدَّاوِيَّةُ بِإِشْبَاعِ الدَّالِ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَجَمْعُهَا دَاوِيٌّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَرْوَعُ خَرَاجٍ مِنَ الدَّاوِيِّ.
قَوْلُهُ: مَهْلَكَةٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ بَيْنَهُمَا هَاءٌ سَاكِنَةٌ يَهْلِكُ مَنْ حَصَلَ بِهَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ أَيْ تُهْلِكُ، هِيَ مَنْ يَحْصُلُ بِهَا.
قَوْلُهُ: عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، زَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَمَا يُصْلِحُهُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: وَقَدْ ذَهَبَتْ
رَاحِلَتُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَأَضَلَّهَا فَخَرَجَ فِي طَلَبِهَا وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَطَلَبَهَا.
قَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، شَكٌّ مِنْ أَبِي شِهَابٍ. وَاقْتَصَرَ جَرِيرٌ عَلَى ذِكْرِ الْعَطَشِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ.
قَوْلُهُ: قَالَ: أَرْجِعُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ.
قَوْلُهُ: إِلَى مَكَانِي فَرَجَعَ، فَنَامَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِي أَضْلَلْنهَا فِيهِ فَأَمُوتُ فِيهِ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ.
قَوْلُهُ: فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ. فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا زَادُهُ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ وَزَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ فِي رِوَايَتِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ
قَوْلُهُ: تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ، هُوَ الْوَضَّاحُ وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ) فَأَمَّا مُتَابَعَةُ أَبِي عَوَانَةَ، فَوَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ عَنْهُ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ جَرِيرٍ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَقَدْ ذَكَرْتُ اخْتِلَافَ لَفْظِهَا.
قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ يَعْنِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالْحَدِيثَيْنِ وَمُرَادُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ وَافَقُوا أَبَا شِهَابٍ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ عَنْعَنَاهُ، وَصَرَّحَ فِيهِ أَبُو أُسَامَةَ، وَرِوَايَةُ أَبِي أُسَامَةَ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ أَيْضًا وَقَالَ مِثْلَ حَدِيثِ جَرِيرٍ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ شُعْبَةُ، وَأَبُو مُسْلِمٍ: زَادَ الْمُسْتَمْلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنَ الْفَرَبْرِيِّ: اسْمُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ أَيْ بِالتَّصْغِيرِ كُوفِيٌّ قَائِدٌ الْأَعْمَشُ. قُلْتُ وَاسْمُ أَبِيهِ سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ كُوفِيٌّ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، لَكِنْ لَمَّا وَافَقَهُ شُعْبَةُ تَرَخَّصَ الْبُخَارِيُّ فِي ذِكْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي تَارِيخِهِ، وَقَالَ: فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَيُنْظَرُ فِيهِ وَمُرَادُهُ أَنَّ شُعْبَةَ، وَأَبَا مُسْلِمٍ خَالَفَا أَبَا شِهَابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَسْمِيَةِ شَيْخِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ الْأَوَّلُونَ عُمَارَةُ، وَقَالَ هَذَانِ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَقَدْ ذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ، وَشُجَاعَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَقُطْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَافَقُوا أَبَا شِهَابٍ عَلَى قَوْلِهِ عُمَارَةُ، عَنِ الْحَارِثِ، ثُمَّ سَاقَ رِوَايَاتِهِمْ وَطَرِيقُ قُطْبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، يَعْنِي أَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ خَالَفَ الْجَمِيعَ، فَجَعَلَ الْحَدِيثَ عِنْدَ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ جَمِيعًا، لَكِنَّهُ عِنْدَ عُمَارَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، وَعِنْدَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ ابْنِ سُوَيْدٍ، وَأَبُو شِهَابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ جَعَلُوهُ عِنْدَ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، وَرِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ مِنَ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هَمَّامٍ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي كُرَيْبٍ وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ طَرِيفٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، كَمَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَسْوَدِ، وَالْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي كُرَيْبٍ، وَلَمْ أَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَإِنَّمَا وَجَدْتُهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَذَلِكَ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عُمَارَةَ فِي شَيْخِهِ هَلْ هُوَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ أَوِ الْأَسْوَدُ، وَتَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْتُهُ أَنَّهُ عِنْدَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا.
وَاخْتُلِفَ عَلَى الْأَعْمَشِ فِي شَيْخِهِ هَلْ هُوَ عُمَارَةُ أَوْ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، وَتَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ عِنْدَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَالرَّاجِحُ مِنَ الِاخْتِلَافِ كُلِّهِ مَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ، وَصَدَّرَ بِهِ الْبُخَارِيُّ كَلَامَهُ فَأَخْرَجَهُ مَوْصُولًا، وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ مُعَلَّقًا كَعَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخِلَافِ لَيْسَ بِقَادِحٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيه):
ذَكَرَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ لِهَذَا الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ سَبَبًا، وَأَوَّلُهُ كَيْفَ تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ انْفَلَتَتْ مِنْهُ رَاحِلَتُهُ بِأَرْضٍ
قَفْرٍ لَيْسَ بِهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، وَعَلَيْهَا لَهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ، فَطَلَبَهَا حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُخْتَصَرًا ذَكَرُوا الْفَرَحَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالرَّجُلُ يَجِدُ ضَالَّتَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ مَنْصُورٍ، فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ حَبَّانَ بْنِ هِلَالٍ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا.
قُلْتُ: وَتَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ فِي بَابِ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبُّوَيْهِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ: فَذَكَرَ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي ظَنَّ أَبِي عَلِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَحَبَّانُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ، وَهَمَّامٌ هُوَ ابْنُ يَحْيَى وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِهِ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ عَلَّاهُ بِدَرَجَةٍ فِي السَّنَدِ الثَّانِي، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي السَّنَدِ النَّازِلِ تَصْرِيحُ قَتَادَةَ بِتَحْدِيثِ أَنَسٍ لَهُ، وَوَقَعَ فِي السَّنَدِ الْعَالِي بِالْعَنْعَنَةِ.
قَوْلُهُ: سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ أَيْ صَادَفَهُ وَعَثَرَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَظَفِرَ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سَقَطَ إِلَى بَعِيرِهِ أَيِ انْتَهَى إِلَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: وَقَدْ أَضَلَّهُ، أَيْ ذَهَبَ مِنْهُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: أَضْلَلْتُ بَعِيرِي أَيْ ذَهَبَ مِنِّي وَضَلَلْتُ بَعِيرِي أَيْ لَمْ أَعْرِفْ مَوْضِعَهُ.
قَوْلُهُ: بِفَلَاةٍ أَيْ مَفَازَةٍ إِلَى هُنَا انْتَهَتْ رِوَايَةُ قَتَادَةَ: وَزَادَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَانْفَلَتَت مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ قَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ أَنَّ مَا قَالَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي حَالِ دَهْشَتِهِ وَذُهُولِهِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَكَذَا حِكَايَتُهُ عَنْهُ عَلَى طَرِيقٍ عِلْمِيٍّ وَفَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَا عَلَى الْهَزْلِ وَالْمُحَاكَاةِ وَالْعَبَثِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حِكَايَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مُنْكَرًا مَا حَكَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي جمرة: وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ سَفَرِ الْمَرْءِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضْرِبُ الشَّارِعُ الْمَثَلَ إِلَّا بِمَا يَجُوزُ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ جَمْعًا، وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ حِكْمَةُ النَّهْيِ، قُلْتُ: وَالْحَصْرُ الْأَوَّلُ مَرْدُودٌ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تُؤَكِّدُ النَّهْيَ. قَالَ: وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَفَازَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يُؤْكَلُ، وَلَا يُشْرَبُ مَهْلَكَةً، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ رَكَنَ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ يُقْطَعُ بِهِ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ مَا نَامَ فِي الْفَلَاةِ وَحْدَهُ إِلَّا رُكُونًا إِلَى مَا مَعَهُ مِنَ الزَّادِ، فَلَمَّا اعْتَمَدَ عَلَى ذَلِكَ خَانَهُ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ لَطَفَ بِهِ وَأَعَادَ عَلَيْهِ ضَالَّتَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ:
مَنْ سَرَّهُ أَنْ لَا يَرَى مَا يَسُوؤهُ
…
فَلَا يَتَّخِذْ شَيْئًا يَخَافُ لَهُ فَقْدًا.
قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ فَرَحَ الْبَشَرِ وَغَمَّهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا جَرَى بِهِ أَثَرُ الْحِكْمَةِ مِنَ الْعَوَائِدِ يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ حُزْنَ الْمَذْكُورِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى ذَهَابِ رَاحِلَتِهِ لِخَوْفِ الْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ فَقْدِ زَادِهِ وَفَرَحَهُ بِهَا، إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ وِجْدَانِهِ مَا فَقَدَ مِمَّا تُنْسَبُ الْحَيَاةُ إِلَيْهِ فِي الْعَادَةِ، وَفِيهِ بَرَكَةُ الِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْمَذْكُورَ لَمَّا أَيِسَ مِنْ وِجْدَانِ رَاحِلَتِهِ اسْتَسْلَمَ لِلْمَوْتِ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِرَدِّ ضَالَّتِهِ، وَفِيهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِمَا يَصِلُ إِلَى الْأَفْهَامِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ وَالْإِرْشَادُ إِلَى الْحَضِّ عَلَى مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، وَاعْتِبَارُ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى بَقَاءِ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ.
5 - بَاب الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ
6310 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَجِيءَ الْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنَهُ.
قَوْلُهُ: بَابُ الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ الضَّجْعُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْجِيمِ مَصْدَرٌ يُقَالُ: ضَجَعَ الرَّجُلُ يَضْجَعُ ضَجْعًا وَضُجُوعًا، فَهُوَ ضَاجِعٌ. وَالْمَعْنَى: وَضَعَ جَنْبَهُ بِالْأَرْضِ وَفِي رِوَايَةِ بَابِ الضِّجْعَةِ، وَهُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْهَيْئَةُ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ أَيِ الْمَرَّةُ.
وذكر فيه حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي اضْطِجَاعِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَتَرْجَمَ لَهُ بَابُ الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَصْلُ اضْطَجَعَ اضْتَجَعَ بِمُثَنَّاةٍ فَأَبْدَلُوهَا طَاءً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْقَاهَا وَلَمْ يُدْغِمُوا الضَّادَ فِيهَا، وَحَكَى الْمَازِنِيُّ الضَّجْعَ بِلَامٍ سَاكِنَةٍ قَبْلَ الضَّادِ؛ كَرَاهَةً لِلْجَمْعِ بَيْنَ الضَّادِ وَالطَّاءِ فِي النُّطْقِ لِثِقَلِهِ، فَجَعَلَ بَدَلَهَا اللَّامَ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْبَابَ وَالَّذِي بَعْدَهُ تَوْطِئَةً لِمَا يَذْكُرُ بَعْدَهُمَا مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَ النَّوْمِ.
6 - بَاب إِذَا بَاتَ طَاهِرًا
6311 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، وَقُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وجهي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رغبة ورهبة إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ، فَقُلْتُ: أَسْتَذْكِرُهُنَّ وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، قَالَ: لَا وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ.
قَوْلُهُ: بَابُ إِذَا بَاتَ طَاهِرًا، زَادَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ وَفَضْلُهُ وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى عِدَّةُ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِهِ مِنْهَا حَدِيثُ مُعَاذٍ، رَفَعَهُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَبِيتُ عَلَى ذِكْرٍ وَطَهَارَةٍ فَيَتَعَارُّ مِنَ اللَّيْلِ فَيَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرا مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: مَنْ بَاتَ طَاهِرًا بَاتَ فِي شِعَارِهِ مَلَكٌ فَلَا يَسْتَيْقِظُ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِكَ فُلَانٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.
قَوْلُهُ: مُعْتَمَرٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمَرِ.
قَوْلُهُ: عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، كَذَا قَالَ الْأَكْثَرُ، وَخَالَفَهُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ فَقَالَ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ زَادَ فِي الْإِسْنَادِ الْحَكَمُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَدْ سَأَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَبَاهُ فَقَالَ هَذَا خَطَأٌ لَيْسَ فِيهِ الْحَكَمُ. قُلْتُ: فَهُوَ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ.
قَوْلُهُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَسَقَطَ لَفْظُ لِي مِنْ رِوَايَةِ الْبَاقِينَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ كما فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَمَرَ رَجُلًا، وَفِي أُخْرَى لَهُ: أَوْصَى رَجُلًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْآتِيَةِ، كِتَابُ التَّوْحِيدِ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا فُلَانُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ الْحَدِيثَ.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ.
قَوْلُهُ: إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ أَيْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَضْطَجِعَ، وَوَقَعَ صَرِيحًا كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ وَأَنْتَ طَاهِرٌ فَتَوَسَّدْ يَمِينَكَ الْحَدِيثُ نَحْوُ حَدِيثِ الْبَابِ، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَلَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ آخَرَ سَأُشِيرُ إِلَيْهِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الْآتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ الْبَرَاءُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يَأْخُذُ جَنْبَهُ مِنْ مَضْجَعِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ الْأَمْرُ فِيهِ لِلنَّدَبِ، وَلَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنْ يَبِيتَ عَلَى طَهَارَةٍ لِئَلَّا يَبْغَتَهُ الْمَوْتُ فَيَكُونُ عَلَى هَيْئَةٍ كَامِلَةٍ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ النَّدْبُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ بِطَهَارَةِ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَبِيتَنَّ إِلَّا عَلَى وُضُوءٍ فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ تُبْعَثُ عَلَى مَا قُبِضَتْ عَلَيْهِ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَبَا يَحْيَى الْقَتَّاتَ هُوَ صَدُوقٌ فِيهِ كَلَامٌ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مِرَايَةَ الْعِجْلِيِّ، قَالَ: مَنْ أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ طَاهِرًا وَنَامَ ذَاكِرًا كَانَ فِرَاشُهُ مَسْجِدًا وَكَانَ فِي صَلَاةٍ، وَذِكْرٍ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ نَحْوَهُ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُحْدِثِ وَلَا سِيَّمَا الْجُنُبُ وَهُوَ أَنْشَطُ لِلْعَوْدِ، وَقَدْ يَكُونُ مُنَشِّطًا لِلْغُسْلِ فَيَبِيتُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَصْدَقَ لِرُؤْيَاهُ، وَأَبْعَدَ مِنْ تَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ ذِكْرُ الْوُضُوءِ عِنْدَ النَّوْمِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيِ الْجَانِبِ، وَخَصَّ الْأَيْمَنَ لِفَوَائِدَ مِنْهَا أَنَّهُ أَسْرَعُ إِلَى الِانْتِبَاهِ وَمِنْهَا أَنَّ الْقَلْبَ مُتَعَلِّقٌ إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ فَلَا يَثْقُلُ بِالنَّوْمِ وَمِنْهَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذِهِ الْهَيْئَةُ نَصَّ الْأَطِبَّاءُ عَلَى أَنَّهَا أَصْلَحُ لِلْبَدَنِ، قَالُوا: يَبْدَأُ بِالِاضْطِجَاعِ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ سَاعَةً ثُمَّ يَنْقَلِبُ إِلَى الْأَيْسَرِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبٌ لِانْحِدَارِ الطَّعَامِ وَالنَّوْمُ عَلَى الْيَسَارِ يَهْضِمُ لِاشْتِمَالِ الْكَبِدِ عَلَى الْمَعِدَةِ.
(تَنْبِيه):
هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، وَأَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْبَرَاءِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظُهُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ. ثُمَّ قَالَ الْحَدِيثَ، فَيُسْتَفَادُ مَشْرُوعِيَّةُ هَذَا الذِّكْرِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ فِعْلِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ: ثُمَّ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَوَقَعَ عِنْدَ الْخَرَائِطِيِّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْبَرَاءِ بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَمَلِيكِي وَإِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ إِلَيْكَ، وَجَّهْتُ وَجْهِي. الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: وَقُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي زَيْدٍ وَلِغَيْرِهِمَا أَسْلَمْتُ نَفْسِي قِيلَ الْوَجْهُ وَالنَّفْسُ هُنَا بِمَعْنَى الذَّاتِ وَالشَّخْصِ، أَيْ أَسْلَمْتُ ذَاتِي وَشَخْصِي لَكَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ، وَلَفْظُهُ: أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَزَادَ خَصْلَةً رَابِعَةً وَلَفْظُهُ: أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ. فَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ هُنَا الذَّاتُ وَبِالْوَجْهِ الْقَصْدُ، وَأَبْدَى الْقُرْطُبِيُّ هَذَا احْتِمَالًا بَعْدَ جَزْمِهِ بِالْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ (أَسْلَمْت) أَيِ اسْتَسْلَمْتُ، وَانْقَدْتُ، وَالْمَعْنَى جَعَلْتُ نَفْسِي مُنْقَادَةً لَكَ تَابِعَةً لِحُكْمِكَ، إِذْ لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى تَدْبِيرِهَا وَلَا عَلَى جَلْبِ مَا يَنْفَعُهَا إِلَيْهَا وَلَا دَفْعِ مَا يَضُرُّهَا عَنْهَا. وَقَوْلُهُ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ أَيْ تَوَكَّلْتُ عَلَيْكَ فِي أَمْرِي كُلِّهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَلْجَأْتُ أَيِ اعْتَمَدْتُ فِي أُمُورِي عَلَيْكَ لِتُعِينَنِي عَلَى مَا يَنْفَعُنِي؛ لِأَنَّ مَنِ
اسْتَنَدَ إِلَى شَيْءٍ تَقَوَّى بِهِ، وَاسْتَعَانَ بِهِ وَخَصَّهُ بِالظَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْتَمِدُ بِظَهْرِهِ إِلَى مَا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ أَيْ رَغْبَةً فِي رَفْدِكَ وَثَوَابِكَ وَرَهْبَةً أَيْ خَوْفًا مِنْ غَضَبِكَ وَمِنْ عِقَابِكَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَسْقَطَ مِنْ مَعَ ذِكْرِ الرَّهْبَةِ وَأَعْمَلَ إِلَى مَعَ ذِكْرِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ
وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعَيُونَا
وَالْعُيُونُ لَا تُزَجَّجُ لَكِنْ لَمَّا جَمَعَهُمَا فِي نَظْمٍ حَمَلَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي اللَّفْظِ وَكَذَا قَالَ الطِّيبِيُّ وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
قُلْتُ وَلَكِنْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِإِثْبَاتِ مِنْ وَلَفْظُهُ رَهْبَةً مِنْكَ وَرَغْبَةً إِلَيْكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَأ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ. أَصْلُ مَلْجَأٍ بِالْهَمْزِ وَمَنْجَا بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَلَكِنْ لَمَّا جُمِعَا جَازَ أَنْ يُهْمَزَا لِلِازْدِوَاجِ، وَأَنْ يُتْرَكَ الْهَمْزُ فِيهِمَا وَأَنْ يُهْمَزَ الْمَهْمُوزُ وَيُتْرَكَ الْآخَرُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَيَجُوزُ التَّنْوِينُ مَعَ الْقَصْرِ فَتَصِيرُ خَمْسَةً. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَانِ اللَّفْظَانِ إِنْ كَانَا مَصْدَرَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِي مِنْكَ وَإِنْ كَانَا ظَرْفَيْنِ فَلَا، إِذِ اسْمُ الْمَكَانِ لَا يَعْمَلُ، وَتَقْدِيرُهُ: لَا مَلْجَأَ مِنْكَ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا إِلَيْكَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِي نَظْمِ هَذَا الذِّكْرِ عَجَائِبُ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْمُتْقِنُ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَى أَنَّ جَوَارِحَهُ مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَبِقَوْلِهِ وَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى أَنَّ ذَاتَهُ مُخْلِصَةٌ لَهُ بَرِيئَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، وَبِقَوْلِهِ فَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَى أَنَّ أُمُورَهُ الْخَارِجَةَ وَالدَّاخِلَةَ مُفَوَّضَةٌ إِلَيْهِ لَا مُدَبِّرَ لَهَا غَيْرُهُ، وَبِقَوْلِهِ أَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَى أَنَّهُ بَعْدَ التَّفْوِيضِ يَلْتَجِئُ إِلَيْهِ مِمَّا يَضُرُّهُ، وَيُؤْذِيهِ مِنَ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا قَالَ: وَقَوْلُهُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً مَنْصُوبَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ أَيْ فَوَّضْتُ أُمُورِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَهْبَةً.
قَوْلُهُ: آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقُرْآنَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ اسْمَ الْجِنْسِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ كِتَابٍ أُنْزِلَ.
قَوْلُهُ: وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَرْسَلْتَهُ وَأَنْزَلْتَهُ فِي الْأَوَّلِ بِزِيَادَةِ الضَّمِيرِ فِيهِمَا.
قَوْلُهُ: فَإِنْ مَتَّ مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْآتِيَةِ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ لَيْلَتِكَ وَفِي رِوَايَةِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ مَنْ قَالَهُنَّ، ثُمَّ مَاتَ تَحْتَ لَيْلَتِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْسَلِخَ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ تَحْتَهُ أَوِ الْمَعْنَى بِالتَّحْتِ أَيْ مُتَّ تَحْتَ نَازِلٍ يَنْزِلُ عَلَيْكَ فِي لَيْلَتِكَ وَكَذَا مَعْنَى مِنْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَيْ مِنْ أَجْلِ مَا يَحْدُثُ فِي لَيْلَتِكَ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْفِطْرَةِ أَيْ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ عليه السلام أَسْلَمَ وَاسْتَسْلَمَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ {جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وَقَالَ عَنْهُ {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ:{فَلَمَّا أَسْلَمَا} وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَجَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ هُنَا دِينُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: كَذَا قَالَ الشُّيُوخُ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمَعَانِي الَّتِي ذُكِرَتْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَا إِلَى أَنْ يَمُوتَ كَمَنْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَخْطُرْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَأَيْنَ فَائِدَةُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْعَظِيمَةِ وَتِلْكَ الْمَقَامَاتِ الشَّرِيفَةِ؟
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَإِنْ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَبَيْنَ الْفِطْرَتَيْنِ مَا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فَفِطْرَةُ الْأَوَّلِ فِطْرَةُ الْمُقَرَّبِينَ، وَفِطْرَةُ الثَّانِي فِطْرَةُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. قُلْتُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ فِي آخِرِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ بَدَلَ قَوْلِهِ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَوَقَعَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ: وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيْرًا وَكَذَا لِمُسْلِمٍ،
وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: فَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ، وَقَدْ أَصَبْتَ خَيْرًا وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ وَلَفْظُهُ: وَإِنْ أَصْبَحَ أَصَابَ خَيْرًا أَيْ صَلَاحًا فِي الْمَالِ وَزِيَادَةً فِي الْأَعْمَالِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْت) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَلِغَيْرِهِمَا، فَجَعَلْتُ أَسْتَذْكِرُهُنَّ أَيْ أَتَحَفَّظهُنَّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ الْمَاضِيَةِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْوُضُوءِ فَرَدَّدْتُهَا أَيْ رَدَّدْتُ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ لِأَحْفَظَهُنَّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ فَرَدَّدْتُهُنَّ لِأَسْتَذْكِرَهُنَّ.
قَوْلُهُ: وَبِرَسُولِكِ الَّذِي أَرْسَلْتَ قَالَ: لَا وَبِنَبِيِّكِ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ فَقَالَ: قُلْ وَبِنَبِيِّكَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَبَعًا لِغَيْرِهِ هَذَا حُجَّةٌ لِمَنْ لَمْ يُجِزْ، نَقْلَ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَإِنَّ لَفْظَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مُخْتَلِفَانِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ مِنَ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ فَالنَّبِيُّ فِي الْعُرْفِ هُوَ الْمُنَبَّأُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ بِأَمْرٍ يَقْتَضِي تَكْلِيفًا، وَإِنْ أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ رَسُولٌ، وَإِلَّا فَهُوَ نَبِيٌّ غَيْرُ رَسُولٍ، وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ بِلَا عَكْسٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ وَالرَّسُولَ اشْتَرَكَا فِي أَمْرٍ عَامٍّ وَهُوَ النَّبَأُ، وَافْتَرَقَا فِي الرِّسَالَةِ، فَإِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ رَسُولٌ تَضَمَّنَ أَنَّهُ نَبِيٌّ رَسُولٌ. وَإِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ نَبِيٌّ لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنَّهُ رَسُولٌ، فَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِيهِ حَتَّى يُفْهَمَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ النُّطْقُ مَا وُضِعَ لَهُ وَلِيَخْرُجَ عَمَّا يَكُونُ شِبْهَ التَّكْرَارِ فِي اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ وَرَسُولِكَ فَقَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ فَإِذَا قَالَ الَّذِي أَرْسَلْتَ صَارَ كَالْحَشْوِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَلَا تَكْرَارَ فِيهِ لَا مُتَحَقِّقًا وَلَا مُتَوَهَّمًا انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَوْلُهُ: صَارَ كَالْحَشْوِ مُتَعَقَّبٌ لِثُبُوتِهِ فِي أَفْصَحِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} - {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} - {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} وَمِنْ غَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْأَوْلَى حَذْفُ هَذَا الْكَلَامِ الْأَخِيرِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَفْيَدُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، لِمَا ذُكِرَ وَالَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ مُقَيَّدٌ بِالرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ، وَإِلَّا فَإِطْلَاقُ الرَّسُولِ كَمَا فِي اللَّفْظِ هُنَا يَتَنَاوَلُ الْمَلَكَ كَجِبْرِيلَ مَثَلًا، فَيَظْهَرُ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ تَعَيُّنُ الْبَشَرِيِّ دُونَ الْمَلَكِ، فَيَخْلُصُ الْكَلَامُ مِنَ اللَّبْسِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى مَنْعِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى أَنْ يَتَّفِقَ اللَّفْظَانِ فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ النَّبِيَّ وَالرَّسُولَ مُتَغَايِرَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَلَا يَتِمُّ الِاحْتِجَاجُ بِذَلِكَ.
قِيلَ: وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْعِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى مُطْلَقًا نَظَرٌ، وَخُصُوصًا إِبْدَالَ الرَّسُولِ بِالنَّبِيِّ، وَعَكْسَهُ إِذَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الذَّاتَ الْمُحَدِّثَ عَنْهَا وَاحِدَةٌ، فَالْمُرَادُ يُفْهَمُ بِأَيِّ صِفَةٍ وُصِفَ بِهَا الْمَوْصُوفُ إِذَا ثَبَتَتِ الصِّفَةُ لَهُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ فِي مَنْعِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَسْتَجِيزُ ذَلِكَ قَدْ يُظَنُّ يُوفِي بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا عُهِدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، فَالِاحْتِيَاطُ: الْإِتْيَانُ بِاللَّفْظِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا تَحَقَّقَ بِالْقَطْعِ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا مُتَّحِدٌ لَمْ يَضُرَّ بِخِلَافِ مَا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى الظَّنِّ، وَلَوْ كَانَ غَالِبًا، وَأَوْلَى مَا قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ فِي رَدِّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ قَالَ الرَّسُولَ بَدَلَ النَّبِيِّ أَنَّ أَلْفَاظَ الْأَذْكَارِ تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَهَا خَصَائِصُ وَأَسْرَارٌ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ، فَتَجِبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمَازِرِيِّ، قَالَ: فَيُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى اللَّفْظِ الْوَارِدِ بِحُرُوفِهِ وَقَدْ يَتَعَلَّقُ الْجَزَاءُ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ، وَلَعَلَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَيَتَعَيَّنُ أَدَاؤُهَا بِحُرُوفِهَا.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ ثَلَاثُ سُنَنٍ إِحْدَاهَا الْوُضُوءُ عِنْدَ النَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا كَفَاهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النَّوْمُ عَلَى طَهَارَةٍ. ثَانِيهَا: النَّوْمُ عَلَى الْيَمِينِ. ثَالِثُهَا: الْخَتْمُ بِذِكْرِ اللَّهِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِيمَانِ
بِكُلِّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ إِجْمَالًا مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ وَالنَّبَوِيَّاتِ وَعَلَى إِسْنَادِ الْكُلِّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَال لِذِكْرِ الْوَجْهِ وَالنَّفْسِ وَالْأَمْرِ وَإِسْنَادِ الظَّهْرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِحَسَبِ الْمَعَاشِ وَعَلَى الِاعْتِرَافِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ خَيْرًا وَشَرًّا، وَهَذَا بِحَسَبِ الْمَعَادِ.
(تَنْبِيه):
وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ الزِّيَادَةَ الَّتِي فِي آخِرِهِ، فَرَوَى بِالْمَعْنَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ نَظِيرُ مَا فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَفِي آخِرِهِ قَالَ الْبَرَاءُ: فَقُلْتُ وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَطَعَنَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي ثُمَّ قَالَ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. وَكَذَا أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَلَفْظُهُ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صَدْرِي نَعَمْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا اضْطَجَعَ أَحَدُكُمْ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ فَذَكَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ وَفِي آخِرِهِ أُؤْمِنُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِرُسُلِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ هَكَذَا فِيهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَالسِّرُّ فِيهِ حُصُولُ التَّعْمِيمِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ صَرِيحًا، فَدَخَلَ فِيهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ، فَأُمِنَ اللَّبْسُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
7 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا نَامَ
6312 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا، وَإِذَا قَامَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. تنشرها: تخرجها.
6313 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "سَمِعت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا ح" و حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ "عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى رَجُلًا فَقَالَ إِذَا أَرَدْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَا وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ"
قَوْلُهُ: بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا نَامَ سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِبَعْضِهِمْ وَثَبَتَتْ لِلْأَكْثَرِ
قَوْلُهُ: سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ.
قَوْلُهُ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ أَيْ دَخَلَ فِيهِ وَفِي الطَّرِيقِ الْآتِيَةِ قَرِيبًا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ وَأَوَى بِالْقَصْرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي آوَانَا فَهُوَ بِالْمَدِّ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ، وَالضَّابِطُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَنَّهَا مَعَ اللُّزُومِ تُمَدُّ فِي الْأَفْصَحِ، وَيَجُوزُ الْقَصْرُ وَفِي التَّعَدِّي بِالْعَكْسِ.
قَوْلُهُ: بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا أَيْ بِذِكْرِ اسْمِكَ أَحْيَا مَا حَيِيتُ وَعَلَيْهِ أَمُوتُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
قَوْلُهُ بِاسْمِكَ أَمُوتُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى وَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أَيْ سَبِّحْ رَبَّكَ هَكَذَا قَالَ جُلُّ الشَّارِحِينَ، قَالَ وَاسْتَفَدْتُ مِنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّى نَفْسَهُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَمَعَانِيَهَا ثَابِتَةٌ لَهُ فَكُلُّ مَا صَدَرَ فِي الْوُجُودِ، فَهُوَ صَادِرٌ عَنْ تِلْكَ الْمُقْتَضَيَاتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِاسْمِكَ الْمُحْيِي أَحْيَا وَبِاسْمِكَ الْمُمِيتِ أَمُوتُ انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَالْمَعْنَى الَّذِي صَدَّرْتُ بِهِ أَلْيَقُ، وَعَلَيْهِ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى وَلَا عَيْنُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الِاسْمِ هُنَا زَائِدًا كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمِ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا
قَوْلُهُ: وَإِذَا قَامَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: النَّفْسُ الَّتِي تُفَارِقُ الْإِنْسَانَ عِنْدَ النَّوْمِ هِيَ الَّتِي لِلتَّمْيِيزِ وَالَّتِي تُفَارِقُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ هِيَ الَّتِي لِلْحَيَاةِ، وَهِيَ الَّتِي يَزُولُ مَعَهَا التَّنَفُّسُ، وَسُمِّيَ النَّوْمُ مَوْتًا؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ مَعَهُ الْعَقْلُ وَالْحَرَكَةُ تَمْثِيلًا وَتَشْبِيهًا، قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَوْتِ هُنَا السُّكُونَ كَمَا قَالُوا: مَاتَتِ الرِّيحُ أَيْ سَكَنَتْ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ الْمَوْتَ عَلَى النَّائِمِ بِمَعْنَى إِرَادَةِ سُكُونِ حَرَكَتِهِ، لِقولِهِ - تَعَالَى - {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} قَالَهُ الطِّيبِيُّ: قَالَ وَقَدْ يُسْتَعَارُ الْمَوْتُ لِلْأَحْوَالِ الشَّاقَّةِ كَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَالسُّؤَالِ وَالْهَرَمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْجَهْلِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ النَّوْمُ وَالْمَوْتُ يَجْمَعُهُمَا انْقِطَاعُ تَعَلُّقِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا، وَهُوَ النَّوْمُ، وَلِذَا قِيلَ النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ وَبَاطِنًا وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإِطْلَاقُ الْمَوْتِ عَلَى النَّوْمِ يَكُونُ مَجَازًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي انْقِطَاعِ تَعَلُّقِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي إِطْلَاقِ الْمَوْتِ عَلَى النَّوْمِ أَنَّ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِالْحَيَاةِ، إِنَّمَا هُوَ لِتَحَرِّي رِضَا اللَّهِ عَنْهُ وَقَصْدِ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ سَخَطِهِ وَعِقَابِهِ فَمَنْ نَامَ زَالَ عَنْهُ هَذَا الِانْتِفَاعُ، فَكَانَ كَالْمَيِّتِ فَحَمِدَ اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَزَوَالِ ذَلِكَ الْمَانِعِ.
قَالَ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِيهِ، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ وَيَنْتَظِمُ مَعَهُ قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَيْ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ فِي نَيْلِ الثَّوَابِ بِمَا يَكْتَسِبُ فِي الْحَيَاةِ، قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ سَيَأْتِي مَعَ شَرْحِهِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَيِ الْبَعْثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ، يُقَالُ: نَشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى فَنُشِرُوا أَيْ أَحْيَاهُمْ فَحَيُوا.
قَوْلُهُ: (تُنْشِرُهَا تُخْرِجُهَا، كَذَا ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ، وَذَكَرَهَا بِالزَّايِ مِنْ أَنْشَزَهُ إِذَا رَفَعَهُ بِتَدْرِيجٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: نَنْشُرُهَا أَيْ نُحْيِيهَا، وَذَكَرَهَا بِالرَّاءِ مِنْ أَنْشَرَهَا أَيْ أَحْيَاهَا، وَمِنْهُ:{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَبِي عَمْرٍو قَالَ: وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ فِي الْمَعْنَى، وَقُرِئَ فِي الشَّاذِّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ بِالرَّاءِ وَبِالزَّايِ أَيْضًا، وَبِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ مَعَهُمَا أَيْضًا.
قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، هُوَ السَّبِيعِيُّ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا. ح وَحَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ وَإِلَّا لَكَانَ مُوَافِقًا لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَلِأَحْمَدَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ شُعْبَةَ أَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ قَبْلَهُ
(تَنْبِيهَانِ):
الْأَوَّلُ لِشُعْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ، النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ عَنْهُ عَنْ مُهَاجِرٍ أَبِي الْحَسَنِ، عَنِ الْبَرَاءِ، وَغُنْدَرٌ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ فِي شُعْبَةَ، وَلَكِنْ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ عَنْ شُعْبَةَ؛ فَكَأَنَّ لِشُعْبَةَ فِيهِ شَيْخَيْنِ الثَّانِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الْبَرَاءِ: لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْحَدِيثِ مُدْرَجٌ لَمْ يَسْمَعْهُ
أَبُو إِسْحَاقَ مِنَ الْبَرَاءِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ إِسْرَائِيلُ عَنْ جَدِّهِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَهُوَ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ فِيهِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يَقُولُ: لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ لَمْ أَسْمَعْ هَذَا مِنَ الْبَرَاءِ سَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَهُ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنِ الْبَرَاءِ.
8 - بَاب وَضْعِ الْيَدِ تَحْتَ الْخَدِّ الْأَيْمَنِ
6314 -
حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
قَوْلُهُ: بَابُ وَضْعِ الْيَدِ تَحْتَ الْخَدِّ الْيُمْنَى، كَذَا فِيهِ بِتَأْنِيثِ الْخَدِّ، وَهُوَ لُغَةٌ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَفِيهِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْيُمْنَى وَإِنَّمَا ذَلِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ. قُلْتُ جَرَى الْبُخَارِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَطَرِيقُ شَرِيكٍ هَذِهِ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَفِي الْبَابِ عَنِ الْبَرَاءِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ. وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حَفْصَةَ وَزَادَ: يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا.
9 - بَاب النَّوْمِ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ
6315 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَالَهُنَّ ثُمَّ مَاتَ تَحْتَ لَيْلَتِهِ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ.
قَوْلُهُ: بَابُ النَّوْمِ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ. تَقَدَّمَتْ فَوَائِدُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ قَرِيبًا، وَبَيْنَ النَّوْمِ وَالضَّجْعِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ
قَوْلُهُ (الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ) هُوَ ابْنُ رَافِعٍ الْكَاهِلِيُّ، وَيُقَالُ الثَّعْلَبِيُّ بِمُثَلَّثَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ يُكَنَى أَبَا الْعَلَاءِ، وَكَانَ مِنْ ثِقَاتِ الْكُوفِيِّينَ، وَمَا لِوَلَدِهِ الْعَلَاءِ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ وَآخَرُ، تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ ثِقَةٌ قَالَ الْحَاكِمُ: لَهُ أَوْهَامٌ.
(تَنْبِيه):
وَقَعَ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا نَصُّهُ لتسْتَرْهِبُوهُمْ مِنَ الرَّهْبَةِ مَلَكُوتُ مَلَكٍ مِثْلُ رَهَبُوتٍ وَرَحَمُوتٍ، تَقُولُ تُرْهِبُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرْحَمَ انْتَهَى وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ هُنَا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: اسْتَرْهِبُوهُمْ مِنَ الرَّهْبَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَبَاقِيهِ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْأَنْعَامِ، وَتَكَلَّمْتُ عَلَيْهِ هُنَاكَ
وَبَيَّنْتُ مَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ أَبِي ذَرٍّ فِيهِ مِنْ تَغْيِيرٍ، وَأَنَّ الصَّوَابَ كَالَّذِي وَقَعَ هُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
10 - بَاب الدُّعَاءِ إِذَا انْتَبَهَ من اللَّيْلِ
6316 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى حَاجَتَهُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْقِرْبَةَ، فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ، لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ فَصَلَّى، فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَتَّقِيهِ، فَتَوَضَّأْتُ فَقَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلَاتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ فَآذَنَهُ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا.
قَالَ كُرَيْبٌ: وَسَبْعٌ فِي التَّابُوتِ فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ فَذَكَرَ عَصَبِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعَرِي وَبَشَرِي، وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ.
6317 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ"
قَوْلُهُ: بَابُ الدُّعَاءِ إِذَا انْتَبَهَ مِنَ اللَّيْلِ، رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِاللَّيْلِ وَوَقَعَ عِنْدَهُمْ فِي أَوَّلِ التَّهَجُّدِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ بِالْعَكْسِ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الأول:
قَوْلُهُ عَنْ سُفْيَانَ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَسَلَمَةُ هُوَ ابْنُ كُهَيْلٍ.
قَوْلُهُ: بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مَضْمُومًا إِلَى مَا فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ الْوِتْرِ دُونَ مَا فِي آخِرِهِ مِنَ الدُّعَاءِ، فَأَحَلْتُ بِهِ عَلَى مَا هُنَا وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَغَسَلَ وَجْهَهُ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ غَسَلَ بِغَيْرِ فَاءٍ، وَقَوْلُهُ: شِنَاقَهَا بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ ثُمَّ قَافٍ هُوَ رِبَاطُ الْقِرْبَةِ يَشُدُّ عُنُقُهَا فَشُبِّهَ بِمَا يُشْنَقُ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا تُعَلَّقَ بِهِ وَرَجَّحَ أَبُو عُبَيْدٍ الْأَوَّلَ.
قَوْلُهُ: وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ قَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَلَّلَ مِنَ الْمَاءِ مَعَ التَّثْلِيثِ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى دُونِ الثَّلَاثِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وُضُوءًا حَسَنًا وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ مُعْتَمِرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَإِلَى جَانِبِهِ مِخْضَبٌ مِنْ بِرَامٍ مُطْبَقٌ عَلَيْهِ سِوَاكٌ فَاسْتَنَّ بِهِ ثُمَّ تَوَضَّأَ.
قَوْلُهُ: (أَتَّقِيه) بِمُثَنَّاةٍ ثَقِيلَةٍ وَقَافٍ
مَكْسُورَةٍ، كَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَطَائِفَةٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ أَرْتَقِبُهُ وَفِي رِوَايَةٍ بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مِنَ التَّنْقِيبِ وَهُوَ التَّفْتِيشُ وَفِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ أَبْغِيهِ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ أَيْ أَطْلُبُهُ وَلِلْأَكْثَرِ أَرْقُبُهُ وَهِيَ أَوْجَهٌ.
قَوْلُهُ: فَتَتَامَّتْ بِمُثَنَّاتَيْنِ أَيْ تَكَامَلَتْ، وَهِيَ رِوَايَةُ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكُنَّا نَعْرِفهُ إِذَا نَامَ بِنَفْخِهِ.
قَوْلُهُ: وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ دُعَاءَهُ حِينَئِذٍ كَانَ كَثِيرًا وَكَانَ هَذَا مِنْ جُمْلَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ قَوْلَهُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. إِلَخْ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ فَكَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ وَسُجُودِهِ وَسَأَذْكُرُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ زِيَادَةً فِي هَذَا الدُّعَاءِ طَوِيلَةً، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ الذِّكْرُ الْآتِي فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي أَوَّلُ مَا قَامَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: هَذَا الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَأَفَادَ أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّ تَفْرِيقَهُمَا صَنِيعُ الرُّوَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ الَّتِي سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي فَقَضَى صَلَاتَهُ يُثْنِي عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَكُونُ آخِرُ كَلَامِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا الْحَدِيثَ وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنْ فَرَاغِهِ.
قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، إِلَخْ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: التَّنْوِينُ فِيهَا لِلتَّعْظِيمِ أَيْ نُورًا عَظِيمًا، كَذَا قَالَ، وَقَدِ اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْجِهَاتِ السِّتِّ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَاجْعَلْ لِي نُورًا. وَلِمُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ وَعَظِّمْ لِي نُورًا بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَلَأَبِي يَعْلَى، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَعْظِمْ لِي نُورًا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ بُنْدَارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَكَذَا لِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ وَاجْعَلْ لِي نُورًا أَوْ قَالَ وَاجْعَلْنِي نُورًا هَذِهِ رِوَايَةُ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَفِي رِوَايَةِ النَّضْرِ، عَنْ شُعْبَةَ وَاجْعَلْنِي وَلَمْ يَشُكَّ وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الدُّعَاءِ مِنْ طَرِيقِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ فِي آخِرِهِ: وَاجْعَلْ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا
قَوْلُهُ قَالَ كُرَيْبٌ: وَسَبْعٌ فِي التَّابُوتِ قُلْتُ حَاصِلُ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَشَرَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً حَدَّثَنِيهَا كُرَيْبٌ، فَحَفِظْتُ مِنْهَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَنَسِيتُ مَا بَقِيَ فَذَكَرَ مَا فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ هَذِهِ وَزَادَ وَفِي لِسَانِي نُورًا بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي قَلْبِي وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَاجْعَلْ لِي فِي نَفْسِي نُورًا وَأَعْظِمْ لِي نُورًا وَهَاتَانِ ثِنْتَانِ مِنَ السَّبْعِ الَّتِي ذَكَرَ كُرَيْبٌ أَنَّهَا فِي التَّابُوتِ مِمَّا حَدَّثَهُ بَعْضُ وَلَدِ الْعَبَّاسِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ التَّابُوتُ، فَجَزَمَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّدْرُ الَّذِي هُوَ وِعَاءُ الْقَلْبِ، وَسَبَقَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَالدَّاوُدِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّابُوتِ الصَّدْرُ، وَزَادَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يَحْفَظُ الْعِلْمَ عِلْمُهُ فِي التَّابُوتِ مُسْتَوْدَعٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: الْمُرَادُ بِالتَّابُوتِ الْأَضْلَاعُ، وَمَا تَحْوِيهِ مِنَ الْقَلْبِ وَغَيْرِهِ تَشْبِيهًا بِالتَّابُوتِ الَّذِي يُحْرَزُ فِيهِ الْمَتَاعُ يَعْنِي سَبْعَ كَلِمَاتٍ فِي قَلْبِي، وَلَكِنْ نَسِيتُهَا، قَالَ: وَقِيلَ الْمُرَادُ سَبْعَةُ أَنْوَارٍ كَانَتْ مَكْتُوبَةً فِي التَّابُوتِ الَّذِي كَانَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِيهِ السَّكِينَةُ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يُرِيدُ بِالتَّابُوتِ الصُّنْدُوقَ أَيْ سَبْعٌ مَكْتُوبَةٌ فِي صُنْدُوقٍ عِنْدَهُ لَمْ يَحْفَظْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حُذَيْفَةَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ كُرَيْبٌ: وَسِتَّةٌ
عِنْدِي مَكْتُوبَاتٌ فِي التَّابُوتِ وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّابُوتِ الْجَسَدُ أَيْ أَنَّ السَّبْعَ الْمَذْكُورَةَ تَتَعَلَّقُ بِجَسَدِ الْإِنْسَانِ بِخِلَافِ أَكْثَرِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي كَالْجِهَاتِ السِّتِّ، وَإِنْ كَانَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مِنَ الْجَسَدِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي التَّابُوتِ أَيْ فِي صَحِيفَةٍ فِي تَابُوتٍ عِنْدَ بَعْضِ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: وَالْخَصْلَتَانِ الْعَظْمُ وَالْمُخُّ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّهُمَا الشَّحْمُ وَالْعَظْمُ، كَذَا قَالَا وَفِيهِ نَظَرٌ سَأُوَضِّحُهُ.
قَوْلُهُ: فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ كُرَيْبٌ هُوَ الْقَائِلَ فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ وَإِنَّمَا قَالَهُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ الرَّاوِي عَنْ كُرَيْبٍ. قُلْتُ: هُوَ مُحْتَمَلٌ وَظَاهِرُ رِوَايَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ كُرَيْبٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَقَدْ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا، وَظَهَرَتْ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الْخَصْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ نَسِيَهُمَا، فَإِنَّ فِيهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي عِظَامِي نُورًا وَفِي قَبْرِي نُورًا. قُلْتُ: بَلِ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا اللِّسَانُ، وَالنَّفْسُ، وَهُمَا اللَّذَانِ زَادَهُمَا عُقَيْلٌ فِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْجَسَدِ وَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ التَّأْوِيلُ الْأَخِيرُ لِلتَّابُوتِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ وَلَا يُنَافِيهِ مَا عَدَاهُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ. فَسَاقَ الدُّعَاءَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي نُورًا فِي قَبْرِي ثُمَّ ذَكَرَ الْقَلْبَ ثُمَّ الْجِهَاتِ السِّتَّ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ ثُمَّ الشَّعْرَ وَالْبَشَرَ ثُمَّ اللَّحْمَ وَالدَّمَ وَالْعِظَامَ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: اللَّهُمَّ عَظِّمْ لِي نُورًا وَأَعْطِنِي نُورًا وَاجْعَلْنِي نُورًا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ. وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ، وَسُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ بِطُولِهِ انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ فِي آخِرِهِ وَزِدْنِي نُورًا، قَالَهَا ثَلَاثًا وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كُرَيْبٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَهَبْ لِي نُورًا عَلَى نُورٍ وَيَجْتَمِعُ مِنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ خَصْلَةً.
قَوْلُهُ: فَذَكَرَ عَصَبِي بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبَعْدَهُمَا مُوَحَّدَةٌ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هِيَ أَطْنَابُ الْمَفَاصِلِ. وَقَوْلُهُ: وَبَشَرِي بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ ظَاهِرُ الْجَسَدِ.
قَوْلُهُ: وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ أَيْ تَكْمِلَةَ السَّبْعَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْأَنْوَارُ الَّتِي دَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا فَيَكُونُ سَأَلَ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ نُورًا يَسْتَضِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي تِلْكَ الظُّلَمِ هُوَ وَمَنْ تَبِعَهُ أَوْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِلْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} وَقَوْلُهُ: - تَعَالَى - {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} ثُمَّ قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّ النُّورَ مُظْهِرٌ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِهِ فَنُورُ السَّمْعِ مُظْهِرٌ لِلْمَسْمُوعَاتِ وَنُورُ الْبَصَرِ كَاشِفٌ لِلْمُبْصَرَاتِ وَنُورُ الْقَلْبِ كَاشِفٌ عَنِ الْمَعْلُومَاتِ، وَنُورُ الْجَوَارِحِ مَا يَبْدُو عَلَيْهَا مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى طَلَبِ النُّورِ لِلْأَعْضَاءِ عُضْوًا عُضْوًا أَنْ يَتَحَلَّى بِأَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ وَالطَّاعَاتِ وَيَتَعَرَّى عَمَّا عَدَاهُمَا، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تُحِيطُ بِالْجِهَاتِ السِّتِّ بِالْوَسَاوِسِ فَكَانَ التَّخَلُّصُ مِنْهَا بِالْأَنْوَارِ السَّادَّةِ لِتِلْكَ الْجِهَاتِ، قَالَ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْهِدَايَةِ وَالْبَيَانِ وَضِيَاءِ الْحَقِّ وَإِلَى ذَلِكَ يُرْشِدُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} - إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَكَانَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ مَا لَا يَلِيقُ بِالْمَقَامِ فَحَذَفْتُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْضًا: خَصَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْقَلْبَ بِلَفْظِ لِي لِأَنَّ الْقَلْبَ مَقَرُّ الْفِكْرَةِ فِي آلَاءِ اللَّهِ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ مَسَارِحُ آيَاتِ اللَّهِ الْمَصُونَةِ. قَالَ: وَخَصَّ الْيَمِينَ وَالشِّمَالَ بِعَنْ إِيذَانًا بِتَجَاوُزِ الْأَنْوَارِ عَنْ قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ إِلَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ
وَشِمَالِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَعَبَّرَ عَنْ بَقِيَّةِ الْجِهَاتِ بِمَنْ يَشْمَلُ اسْتِنَارَتَهُ وَإِنَارَتَهُ مِنَ اللَّهِ وَالْخَلْقِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: وَاجْعَلْ لِي نُورًا هِيَ فَذْلَكَةٌ لِذَلِكَ، وَتَأْكِيدٌ لَهُ.
قَوْلُهُ: سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ التَّهَجُّدِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي آخِرِهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
11 - بَاب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ الْمَنَامِ
6318 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام شَكَتْ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تَجِدْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ أَقُومُ فَقَالَ: مَكَانَكِ، فَجَلَسَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ، إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا أربعا وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ. وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: التَّسْبِيحُ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ.
قَوْلُهُ: بَابُ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ الْمَنَامِ أَيْ وَالتَّحْمِيدِ.
قَوْلُهُ: عَنِ الْحَكَمِ هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِمُثَنَّاةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ فَقِيهُ الْكُوفَةِ وَقَوْلُهُ: عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَقَوْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ قَدْ وَقَعَ فِي النَّفَقَاتِ عَنْ بَدَلِ بْنِ الْمُحَبَّرِ، عَنْ شُعْبَةَ، أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَنْبَأَنَا عَلِيٌّ.
قَوْلُهُ: إِنَّ فَاطِمَةَ شَكَتْ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى زَادَ بَدَلٌ فِي رِوَايَتِهِ مِمَّا تَطْحَنُ وَفِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ مَوْلَى مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَأَرَتْهُ أَثَرًا فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى وَفِي زَوَائِدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَلِيٍّ اشْتَكَتْ فَاطِمَةُ مَجْلَ يَدِهَا وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا لَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْطِيعُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ غِلَظُ الْيَدِ وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا بِكَفِّهِ فَغَلُظَ جِلْدُهَا قِيلَ مَجَلَتْ كَفُّهُ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ، عَنْ عَلِيٍّ: قُلْتُ لِفَاطِمَةَ: لَوْ أَتَيْتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتِيهِ خَادِمًا فَقَدْ أَجْهَدَكِ الطَّحْنُ وَالْعَمَلُ وَعِنْدَهُ وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا زَوَّجَهُ فَاطِمَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ عَلِيٌّ لِفَاطِمَةَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى اشْتَكَيْتُ صَدْرِي، فَقَالَتْ وَأَنَا وَاللَّهِ لَقَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ وَقَوْلُهُ سَنَوْتُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ أَيِ اسْتَقَيْتُ مِنَ الْبِئْرِ فَكُنْتُ مَكَانَ السَّانِيَةِ، وَهِيَ النَّاقَةُ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْوَرْدِ بْنِ ثُمَامَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَعْبَدَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَتْ عِنْدِي فَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَرَّتْ بِالرَّحَى حَتَّى أَثَّرَتْ بِيَدِهَا وَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَتْ فِي عُنُقِهَا، وَقَمَّتِ الْبَيْتِ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَخَبَزَتْ حَتَّى
تَغَيَّرَ وَجْهُهَا.
قَوْلُهُ: فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا أَيْ جَارِيَةً تَخْدُمُهَا، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الذَّكَرِ، وَفِي رِوَايَةِ السَّائِبِ: وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ أَبَاكِ بِسَبْيٍ فَاذْهَبِي إِلَيْهِ فَاسْتَخْدِمِيهِ أَيِ اسْأَلِيهِ خَادِمًا، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النَّفَقَاتِ وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ وَفِي رِوَايَةِ بَدَلٍ وَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى بِسَبْيٍ.
قَوْلُهُ: فَلَمْ
تَجِدْهُ، فِي رِوَايَةِ الْقَطَّانِ فَلَمْ تُصَادِفْهُ وَفِي رِوَايَةِ بَدَلٍ فَلَمْ تُوَافِقْهُ وَهِيَ بِمَعْنَى تُصَادِفُهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَرْدِ فَأَتَتْهُ فَوَجَدَتْ عِنْدَهُ حُدَّاثًا بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُثَلَّثَةٌ أَيْ جَمَاعَةً يَتَحَدَّثُونَ فَاسْتَحْيَتْ فَرَجَعَتْ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا لَمْ تَجِدْهُ فِي الْمَنْزِلِ بَلْ فِي مَكَانٍ آخَرَ كَالْمَسْجِدِ، وَعِنْدَهُ مَنْ يَتَحَدَّثُ مَعَهُ.
قَوْلُهُ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ. فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ فِي رِوَايَةِ الْقَطَّانِ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ زَادَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ فِي الْمَنَاقِبِ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ وَفِي رِوَايَةِ بَدَلٍ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عِنْدَ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ فِي الذِّكْرِ وَالدَّارَقُطْنِيَّ فِي الْعِلَلَ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ حَتَّى أَتَتْ مَنْزِلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ تُوَافِقْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَتْ فَاطِمَةُ وَيُجْمَعُ بِأَنَّ فَاطِمَةَ الْتَمَسَتْهُ فِي بَيْتَيْ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْقِصَّةُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ نَفْسِهَا أَخْرَجَهَا الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَشْكُو إِلَيْهِ الْخِدْمَةَ فَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا.
وَفِي رِوَايَةِ السَّائِبِ فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا جَاءَ بِكَ يَا بُنَيَّةُ؟ قَالَتْ: جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ، وَاسْتَحْيَتْ أَنْ تَسْأَلَهُ وَرَجَعَتْ فَقُلْتُ مَا فَعَلْتِ؟ قَالَتْ اسْتَحْيَيْتُ. قُلْتُ: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا فِي الصَّحِيحِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ لَمْ تَذْكُرْ حَاجَتَهَا أَوَّلًا عَلَى مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ثُمَّ ذَكَرَتْهَا ثَانِيًا لِعَائِشَةَ لَمَّا لَمْ تَجِدْهُ، ثُمَّ جَاءَتْ هِيَ وَعَلِيٌّ عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ السَّائِبِ، فَذَكَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَذْكُرْ بَعْضٌ.
وَقَدِ اخْتَصَرَهُ بَعْضُهُمْ، فَفِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ الْمَاضِيَةِ فِي النَّفَقَاتِ أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةِ هُبَيْرَةَ فَقَالَتِ انْطَلِقْ مَعِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهَا فَسَأَلْنَاهُ، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا الْحَدِيثَ وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا، وَشَكَتِ الْعَمَلَ فَقَالَ: مَا أَلْفَيْتُهُ عِنْدَنَا وَهُوَ بِالْفَاءِ، أَيْ مَا وَجَدْتُهُ وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا وَجَدْتُهُ عِنْدَنَا فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِنَا إِلَيْهِ لِمَا ذَكَرَ مِنْ إِنْفَاقِ أَثْمَانِ السَّبْيِ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ.
قَوْلُهُ (فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ السَّائِبِ فَأَتَيْنَاهُ جَمِيعًا فَقُلْتُ: بِأَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى اشْتَكَيْتُ صَدْرِي، وَقَالَتْ فَاطِمَةُ: لَقَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ، وَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ بِسَبْيٍ وَسَعَةٍ، فَأَخْدِمْنَا فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمَا وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تُطْوَى بُطُونُهُمْ لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ. وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَتَكَلَّمْتُ عَلَى شَرْحِهَا هُنَاكَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنَ الزِّيَادَةِ فَأَتَانَا وَعَلَيْنَا قَطِيفَةٌ إِذَا لَبِسْنَاهَا طُولًا خَرَجَتْ مِنْهَا جُنُوبُنَا، وَإِذَا لَبِسْنَاهَا عَرْضًا خَرَجَتْ مِنْهَا رُءُوسُنَا وَأَقْدَامُنَا وَفِي رِوَايَةِ السَّائِبِ فَرَجَعَا فَأَتَاهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ دَخَلَا فِي قَطِيفَةٍ لَهُمَا إِذَا غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، تَكَشَّفَتْ أَقْدَامُهُمَا، وَإِذَا غَطَّيَا أَقْدَامَهُمَا تَكَشَّفَتْ رُءُوسُهُمَا.
قَوْلُهُ: فَذَهَبْتُ أَقُومُ وَافَقَهُ غُنْدَرٌ وَفِي رِوَايَةِ الْقَطَّانِ فَذَهَبْنَا نَقُومُ وَفِي رِوَايَةِ بَدَلٍ لِنَقُومَ وَفِي رِوَايَةِ السَّائِبِ فَقَامَا.
قَوْلُهُ فَقَالَ مَكَانَكِ) وَفِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ مَكَانَكُمَا وَهُوَ بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمَا مَكَانَكُمَا وَفِي رِوَايَةِ الْقَطَّانِ وَبَدَلٍ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا أَيِ اسْتَمِرَّا عَلَى مَا أَنْتُمَا عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: فَجَلَسَ بَيْنَنَا فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ فَقَعَدَ بَدَلَ جَلَسَ وَفِي رِوَايَةِ الْقَطَّانِ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى وَضَعَ قَدَمَهُ بَيْنِي وَبَيْنَ فَاطِمَةَ.
قَوْلُهُ: حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ، هَكَذَا هُنَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا وَفِي رِوَايَةِ الْقَطَّانِ بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَةِ بَدَلٍ كَذَلِكَ بِالْإِفْرَادِ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ فَسَخَّنْتُهُمَا وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنْ مُجَاهِدِ عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عِنْدَ جَعْفَرٍ فِي الذِّكْرِ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ مِنَ الزِّيَادَةِ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَ فَاطِمَةَ، وَقَدْ دَخَلَتْ هِيَ وَعَلِيٌّ فِي اللِّحَافِ،
فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ هَمَّا أَنْ يَلْبَسَا، فَقَالَ: كَمَا أَنْتُمَا، إِنِّي أُخْبِرَتُ أَنَّكِ جِئْتِ تَطْلُبِينَ فَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْكَ خَدَمٌ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ تُعْطِيَنِي خَادِمًا يَكْفِينِي الْخُبْزَ وَالْعَجْنَ، فَإِنَّهُ قَدْ شَقَّ عَلَيَّ، قَالَ: فَمَا جِئْتِ تَطْلُبِينَ أَحَبُّ إِلَيْكِ أَوْ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؟ قَالَ عَلِيٌّ: فَغَمَزْتُهَا، فَقُلْتُ: قُولِي مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: فَإِذَا كُنْتُمَا عَلَى مِثْلِ حَالِكُمَا الَّذِي أَنْتُمَا عَلَيْهِ، فَذَكَرَ التَّسْبِيحَ. وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَعْبَدَ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهَا، فَأَدْخَلَتْ رَأْسَهَا فِي اللِّفَاعِ حَيَاءً مِنْ أَبِيهَا وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ أَوَّلًا، فَلَمَّا تَآنَسَتْ بِهِ دَخَلَ مَعَهُمَا فِي الْفِرَاشِ مُبَالَغَةً مِنْهُ فِي التَّأْنِيسِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَعْبَدَ فَقَالَ مَا كَانَ حَاجَتُكِ أَمْسِ؟ فَسَكَتَتْ مَرَّتَيْنِ، فَقُلْتُ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرْتُهُ لَهُ وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهَا أَوَّلًا اسْتَحْيَتْ، فَتَكَلَّمَ عَلِيٌّ عَنْهَا فَأُنْشِطَتْ لِلْكَلَامِ فَأَكْمَلَتِ الْقِصَّةُ.
وَاتَّفَقَ غَالِبُ الرُّوَاةِ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَيْهِمَا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شَبَثٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ ابْنِ رِبْعِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَجَعْفَرٍ فِي الذِّكْرِ وَالسِّيَاقِ لَهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ فَانْطَلَقَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا أَتَى بِكَمَا قَالَ عَلِيٌّ: شَقَّ عَلَيْنَا الْعَمَلُ. فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا وَفِي لَفْظِ جَعْفَرٍ فَقَالَ عَلِيٌّ لِفَاطِمَةَ: ائْتِ أَبَاكِ فَاسْأَلِيهِ أَنْ يُخْدِمَكُ، فَأَتَتْ أَبَاهَا حِينَ أَمْسَتْ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكِ يَا بُنَيَّةُ؟ قَالَتْ جِئْتُ أُسَلِّمُ عَلَيْكَ.
وَاسْتَحْيَتْ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الْقَابِلَةُ قَالَ: ائْتِ أَبَاكِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ لَهَا عَلِيٌّ: امْشِي فَخَرَجَا مَعًا الْحَدِيثَ وَفِيهِ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ لَكُمَا مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَفِي مُرْسَلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عِنْدَ جَعْفَرٍ أَيْضًا إِنَّ فَاطِمَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا وَبِيَدِهَا أَثَرُ الطَّحْنِ مِنْ قُطْبِ الرَّحَى فَقَالَ إِذَا أَوَيْتِ إِلَى فِرَاشِكَ الْحَدِيثَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةً أُخْرَى، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ الْحَكَمِ أَوْ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ أَيِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَتْ: أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْيًا، فَذَهَبْتُ أَنَا وَأُخْتِي فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَشْكُو إِلَيْهِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَسَأَلْنَاهُ أَنْ يَأْمُرَ لَنَا بِشَيْءٍ مِنَ السَّبْيِ فَقَالَ: سَبَقَكُنَّ يَتَامَى بَدْرٍ فَذَكَرَ قِصَّةَ التَّسْبِيحِ إِثْرَ كُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ التَّسْبِيحِ عِنْدَ النَّوْمِ فَلَعَلَّهُ عَلَّمَ فَاطِمَةَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَحَدَ الذِّكْرَيْنِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي تَهْذِيبِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ فَقَالَ اصْبِرِي يَا فَاطِمَةُ إِنَّ خَيْرَ النِّسَاءِ الَّتِي نَفَعَتْ أَهْلَهَا.
قَوْلُهُ (فَقَالَ أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ) فِي رِوَايَةِ بَدَلٍ خَيْرٌ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ وَفِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَانِي وَلِلْقَطَّانِ نَحْوُهُ وَفِي رِوَايَةِ السَّائِبِ أَلَا أُخْبِركُمَا بِخَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟ فَقَالَا بَلَى. فَقَالَ كَلِمَاتٌ عَلَّمَنِيهُنَّ جِبْرِيلُ.
قَوْلُهُ: إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، هَذَا شَكٌّ مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْقَطَّانِ وَجَزَمَ بَدَلٌ، وَغُنْدَرٌ بِقَوْلِهِ: إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا مِنَ اللَّيْلِ وَجَزَمَ فِي رِوَايَةِ السَّائِبِ بِقَوْلِهِ: إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: تُسَبِّحَانِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا وَتَحْمَدَانِ عَشْرًا وَتُكَبِّرَانِ عَشْرًا وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ فِي حَدِيثٍ أَوَّلُهُ: خَصْلَتَانِ لَا يُحْصِيهِمَا عَبْدٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَفِيهِ ذِكْرُ مَا يُقَالُ عِنْدَ النَّوْمِ أَيْضًا، وَيُحْتَمَلُ إِنْ كَانَ حَدِيثُ السَّائِبِ، عَنْ عَلِيٍّ مَحْفُوظًا أَنْ يَكُونَ عَلَى ذِكْرِ الْقِصَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَشَرْتُ إِلَيْهِمَا قَرِيبًا مَعًا، ثُمَّ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ لِلطَّبَرِيِّ فَسَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، كَمَا ذَكَرْتُ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ إِذَا أَخَذَا مَضَاجِعَهُمَا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ، فَسَاقَ الْحَدِيثَ فَظَهَرَ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُمَا مِنَ الرُّوَاةِ،
اخْتَصَرَ الْحَدِيثَ، وَأَنَّ رِوَايَةَ السَّائِبِ إِنَّمَا هِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ يُرِدِ الرِّوَايَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عَنْ قِصَّةِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ.
قَوْلُهُ (فَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ. كَذَا هُنَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْجَزْمِ بِأَرْبَعٍ فِي التَّكْبِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ بَدَلٍ مِثْلُهُ وَلَفْظُهُ فَكَبِّرَا اللَّهَ وَمِثْلُهُ لِلْقَطَّانِ لَكِنْ قَدَّمَ التَّسْبِيحَ وَأَخَّرَ التَّكْبِيرَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَلَالَةَ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَفِي رِوَايَةِ السَّائِبِ كِلَاهُمَا مِثْلُهُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: فَتِلْكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ وَأَلْفٌ فِي الْمِيزَانِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَبَتَتْ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ هُبَيْرَةَ، وَعُمَارَةَ بْنِ عَبْدٍ مَعًا عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ.
وَفِي رِوَايَةِ السَّائِبِ كَمَا مَضَى وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ قَالَ تُسَبِّحِينَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرٍو فَأَمَرَنَا عِنْدَ مَنَامِنَا بِثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَكْبِيرٍ وَفِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، لِلْكُشْمِيهَنِيِّ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَعَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تُكَبِّرَانِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَثُبُوتِ النُّونِ وَحُذِفَتْ فِي نُسْخَةٍ وَهِيَ إِمَّا عَلَى أَنَّ إِذَا تَعْمَلُ عَمَلَ الشَّرْطِ وَإِمَّا حُذِفَتْ تَخْفِيفًا.
وَفِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِي النَّفَقَاتِ بِلَفْظِ تُسَبِّحِينَ اللَّهَ عِنْدَ مَنَامِكِ وَقَالَ فِي الْجَمِيعِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ سُفْيَانُ رِوَايَةُ: إِحْدَاهُنَّ أَرْبَعٌ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ لَا أَدْرِي أَيُّهَا أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ فِي الْجَمِيعِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَاخْتِمَاهَا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيٍّ وَكَبِّرَاهُ وَهَلِّلَاهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَلِيٍّ احْمَدَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَكَذَا لَهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ هُبَيْرَةَ أَنَّ التَّهْلِيلَ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ، وَلَمْ يَذْكُرِ التَّحْمِيدَ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ هُبَيْرَةَ كَالْجَمَاعَةِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ شَاذٌّ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عِنْدَ جَعْفَرٍ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَشُكُّ أَيُّهَا أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ غَيْرَ أَنِّي أَظُنُّهُ التَّكْبِيرَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَالَ عَلِيٌّ فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ فَقَالُوا لَهُ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ فَقَالَ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ وَفِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ مَوْلَى مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَلِيٍّ فَقِيلَ لِي وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ هُبَيْرَةَ، وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قُلْتُ ولَا لَيْلَةَ صِفِّينَ.
وَفِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ فِي الذِّكْرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قُلْتُ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُطَيَّنٌ فِي مُسْنَدِ عَلِيٍّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي هُبَيْرَةُ، وَهَانِئُ بْنُ هَانِئٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ عَبْدٍ أَنَّهُمْ سَمِعُوا عَلِيًّا يَقُولُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: قَالَ زُهَيْرٌ أَرَاهُ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ وَفِي رِوَايَةِ السَّائِبِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ فَقَالَ: قَاتَلَكُمُ اللَّهُ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ نَعَمْ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ، وَلِلْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْكَوَّاءِ وَالْكَوَّاءُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ مَعَ الْمَدِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ لَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ التَّعَنُّتِ فِي السُّؤَالِ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ فَقَالَ وَيْحَكَ مَا أَكْثَرَ مَا تُعَنِّتُنِي لَقَدْ أَدْرَكْتُهَا مِنَ السَّحَرِ.
وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَعْبَدَ مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ إِلَّا لَيْلَةَ صِفِّينَ فَإِنِّي ذَكَرْتُهَا مِنْ آخِرَ اللَّيْلِ فَقُلْتُهَا وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، وَهِيَ عِنْدَ جَعْفَرٍ أَيْضًا فِي الذِّكْرِ: إِلَّا لَيْلَةَ صِفِّينَ فَإِنِّي أُنْسِيتُهَا حَتَّى ذَكَرْتُهَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَفِي رِوَايَةِ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ مِثْلُهُ وَزَادَ فَقُلْتُهَا وَلَا اخْتِلَافَ، فَإِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَالَهَا أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَثْبَتَ أَنَّهُ قَالَهَا فِي آخِرِهِ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي تَسْمِيَةِ السَّائِلِ فَلَا يُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَدُّدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَالُوا وَفِي هَذِهِ تَعَقُّبٌ عَلَى الْكِرْمَانِيِّ حَيْثُ فَهِمَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ أَنَّهُ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ مُرَادُهُ: أَنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ بِالْحَرْبِ عَنْ قَوْلِ الذِّكْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ فَأُنْسِيتُهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ نَسِيَهَا أَوَّلَ اللَّيْلِ وَقَالَهَا فِي آخِرِهِ.
وَالْمُرَادُ بِلَيْلَةِ صِفِّينَ الْحَرْبُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةَ بِصِفِّينَ، وَهِيَ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَأَقَامَ الْفَرِيقَانِ بِهَا عِدَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَقَعَاتٌ كَثِيرَةٌ لَكِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فِي اللَّيْلِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ لَيْلَةُ الْهَرِيرِ بِوَزْنِ عَظِيمٍ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا كَانَ الْفُرْسَانُ يَهِرُّونَ فِيهَا، وَقُتِلَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عِدَّةُ آلَافٍ، وَأَصْبَحُوا، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّصْرِ فَرَفَعَ مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ الْمَصَاحِفَ فَكَانَ مَا كَانَ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى التَّحْكِيمِ وَانْصِرَافِ كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى بِلَادِهِ وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ تَحْدِيثَ عَلِيٍّ بِذَلِكَ كَانَ بَعْدَ وَقْعَةِ صِفِّينَ بِمُدَّةٍ وَكَانَتْ صِفِّينُ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَخَرَجَ الْخَوَارِجُ عَلَى عَلِيٍّ عَقِبَ التَّحْكِيمِ فِي أَوَّلِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَقَتَلَهُمْ بِالنَّهْرَوَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَشْهُورٌ مَبْسُوطٌ فِي تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ.
فَائِدَةٌ:
زَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَعَ الذِّكْرِ الْمَأْثُورِ دُعَاءً آخَرَ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فِي تَهْذِيبِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ خَادِمٍ تُسَبِّحِينَ. فَذَكَرَهُ، وَزَادَ: وَتَقُولِينَ اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ لَكِنْ فَرَّقَهُ حَدِيثَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، لَكِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الذِّكْرِ الثَّانِي وَلَمْ يَذْكُرِ التَّسْبِيحَ وَمَا مَعَهُ.
قَوْلُهُ: وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ هُوَ الْحَذَّاءُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ هُوَ مُحَمَّدٌ قَالَ التَّسْبِيحُ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ، هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ وَهُوَ مَوْصُولٌ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ بِسَنَدِهِ إِلَى عَلِيٍّ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ وَذَلِكَ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ، وَالنَّسَائِيَّ، وَابْنَ حِبَّانَ أَخْرَجُوا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَلِيٍّ، لَكِنِ الَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُصَنِّفُ لِطَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عُبَيْدَةَ تَعْيِينُ عَدَدِ التَّسْبِيحِ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْقَاضِي يُوسُفُ فِي كِتَابِ الذِّكْرِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِسَنَدِهِ هَذَا إِلَى ابْنِ سِيرِينَ مِنْ قَوْلِهِ: فَثَبَتَ مَا قُلْتُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عُرْوَةَ عِنْدَ جَعْفَرٍ أَنَّ التَّحْمِيدَ أَرْبَعٌ، وَاتِّفَاقُ الرُّوَاةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعَ لِلتَّكْبِيرِ أَرْجَحُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَ النَّوْمِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ جَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَ النَّوْمِ وَأَشَارَ لِأُمَّتِهِ بِالِاكْتِفَاءِ بِبَعْضِهَا إِعْلَامًا مِنْهُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْحَضُّ وَالنَّدْبُ لَا الْوُجُوبُ. وَقَالَ عِيَاضٌ: جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَذْكَارٌ عِنْدَ النَّوْمِ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ وَفِي كُلٍّ فَضْلٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى لِقولِهِ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ فَعَلَّمَهُمَا الذِّكْرَ، فَلَوْ كَانَ الْغِنَى أَفْضَلَ مِنَ الْفَقْرِ لَأَعْطَاهُمَا الْخَادِمَ وَعَلَّمَهُمَا الذِّكْرَ فَلَمَّا مَنَعَهُمَا الْخَادِمَ، وَقَصَرَهُمَا عَلَى الذِّكْرِ عُلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا اخْتَارَ لَهُمَا الْأَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ.
قُلْتُ: وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخُدَّامِ فَضْلَةٌ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى بَيْعِ ذَلِكَ الرَّقِيقِ لِنَفَقَتِهِ عَلَى أَهْلِ الصِّفَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عِيَاضٌ: لَا وَجْهَ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ فِي الْخَبَرِ فَقَالَ
عِيَاضٌ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُمَا أَنَّ عَمَلَ الْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُ إِعْطَاءُ الْخَادِمِ، ثُمَّ عَلَّمَهُمَا إِذْ فَاتَهُمَا مَا طَلَبَاهُ ذِكْرًا يُحَصِّلُ لَهُمَا أَجْرًا أَفْضَلَ مِمَّا سَأَلَاهُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا أَحَالَهُمَا عَلَى الذِّكْرِ لِيَكُونَ عِوَضًا عَنِ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ أَوْ لِكَوْنِهِ أَحَبَّ لِابْنَتِهِ مَا أَحَبَّ لِنَفْسِهِ مِنْ إِيثَارِ الْفَقْرِ، وَتَحَمُّلِ شِدَّتِهِ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ تَعْظِيمًا لِأَجْرِهَا. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: عَلَّمَ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ مِنَ الذِّكْرِ مَا هُوَ أَكْثَرُ نَفْعًا لَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَآثَرَ أَهْلَ الصُّفَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا وَقَفُوا أَنْفُسَهُمْ لِسَمَاعِ الْعِلْمِ وَضَبْطِ السُّنَّةِ عَلَى شِبَعِ بُطُونِهِمْ لَا يَرْغَبُونَ فِي كَسْبِ مَالٍ وَلَا فِي عِيَالٍ، وَلَكِنَّهُمُ اشْتَرَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِالْقُوتِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَقْدِيمُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الْخُمُسِ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ وَقِلَّةِ الشَّيْءِ وَشِدَّةِ الْحَالِ، وَأَنَّ اللَّهَ حَمَاهُمُ الدُّنْيَا مَعَ إِمْكَانِ ذَلِكَ صِيَانَةً لَهُمْ مِنْ تَبِعَاتِهَا وَتِلْكَ سُنَّةُ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَسِّمَ الْخُمُسَ حَيْثُ رَأَى؛ لِأَنَّ السَّبْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ فَهُوَ حَقُّ الْغَانِمِينَ انْتَهَى، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ لِآلِ الْبَيْتِ سَهْمًا مِنَ الْخُمُسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ ثُمَّ وَجَدْتُ فِي تَهْذِيبِ الطَّبَرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَا لَعَلَّهُ يُعَكِّرُ عَلَيَّ ذَلِكَ فَسَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَقِيقٌ أَهْدَاهُمْ لَهُ بَعْضُ مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ فَقُلْتُ لِفَاطِمَةَ: ائْتِ أَبَاكِ فَاسْتَخْدِمِيهِ فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَأَزَالَ الْإِشْكَالَ مِنْ أَصْلِهِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلْغَانِمِينَ فِيهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ يَصْرِفُهُ الْإِمَامُ حَيْثُ يَرَاهُ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ حَمْلُ الْإِنْسَانِ أَهْلَهُ عَلَى مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ مِنْ إِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا إِذَا كَانَتْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى ابْنَتِهِ وَزَوْجِهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَجُلُوسُهُ بَيْنَهُمَا فِي فِرَاشِهِمَا وَمُبَاشَرَةُ قَدَمَيْهِ بَعْضَ جَسَدِهِمَا.
قُلْتُ: وَفِي قَوْلِهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ كَمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الذِّكْرِ لِجَعْفَرٍ وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَهُوَ فِي الْعِلَلِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ أَيْضًا بِطُولِهِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَرْيَمَ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ تَدُقُّ الدَّرْمَكَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَاهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَأَتَانَا وَقَدْ دَخَلْنَا فِرَاشَنَا فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْنَا تَخَشَّشْنَا لِنَلْبَسَ عَلَيْنَا ثِيَابنَا، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ قَالَ: كَمَا أَنْتُمَا فِي لِحَافِكُمَا. وَدَفَعَ بَعْضُهُمُ الِاسْتِدْلَالَ الْمَذْكُورَ لِعِصْمَتِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ. وَفِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ عليهما السلام.
وَفِيهِ بَيَانُ إِظْهَارِ غَايَةِ التَّعَطُّفِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْبِنْتِ وَالصِّهْرِ وَنِهَايَةُ الِاتِّحَادِ بِرَفْعِ الْحِشْمَةِ وَالْحِجَابِ، حَيْثُ لَمْ يُزْعِجْهُمَا عَنْ مَكَانِهِمَا فَتَرَكَهُمَا عَلَى حَالَةِ اضْطِجَاعِهِمَا وَبَالَغَ حَتَّى أَدْخَلَ رِجْلَهُ بَيْنَهُمَا، وَمَكَثَ بَيْنَهُمَا حَتَّى عَلَّمَهُمَا مَا هُوَ الْأَوْلَى بِحَالِهِمَا مِنَ الذِّكْرِ عِوَضًا عَمَّا طَلَبَاهُ مِنَ الْخَادِمِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ تَلَقِّي الْمُخَاطَبِ بِغَيْرِ مَا يَطْلُبُ إِيذَانًا بِأَنَّ الْأَهَمَّ مِنَ الْمَطْلُوبِ هُوَ التَّزَوُّدُ لِلْمَعَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَشَاقِّ الدُّنْيَا وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَكَانَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ خَصَّتْهَا فَاطِمَةُ بِالسِّفَارَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَبِيهَا دُونَ سَائِرِ الْأَزْوَاجِ، قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ التَّخْصِيصَ بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا قَصَدَتْ أَبَاهَا فِي يَوْمِ عَائِشَةَ فِي بَيْتِهَا، فَلَمَّا لَمْ تَجِدْهُ ذَكَرَتْ حَاجَتَهَا لِعَائِشَةَ، وَلَوِ اتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمُ غَيْرِهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ لَذَكَرَتْ لَهَا ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أَيْضًا، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ فَاطِمَةَ لَمَّا لَمْ تَجِدْهُ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ مَرَّتْ عَلَى بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَتْ لَهَا ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ هَاتَيْنِ مِنَ الْأَزْوَاجِ لِكَوْنِ بَاقِيهِنَّ كُنَّ حِزْبَيْنِ، كُلُّ حِزْبٍ يَتْبَعُ وَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ صَرِيحًا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ وَاظَبَ
عَلَى هَذَا الذِّكْرِ عِنْدَ النَّوْمِ لَمْ يُصِبْهُ إِعْيَاءٌ؛ لِأَنَّ فَاطِمَةَ شَكَتِ التَّعَبَ مِنَ الْعَمَلِ فَأَحَالَهَا صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، كَذَا أَفَادَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَلَا يَتَعَيَّنُ رَفْعُ التَّعَبِ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ وَاظَبَ عَلَيْهِ لَا يَتَضَرَّرُ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ التَّعَبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
12 - بَاب التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَنَامِ
6319 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ فِي يَدَيْهِ، وَقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ النَّوْمِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَبَيَّنْتُ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ دَائِمًا أَوْ بِقَيْدِ الشَّكْوَى، وَأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا؛ لِمَا فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَبَيَّنْتُ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعَوِّذَاتِ: الْإِخْلَاصُ وَالْفَلَقُ وَالنَّاسُ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ الْمَذْكُورَةِ وَأَنَّهَا تُعَيِّنُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَاضِي ذِكْرُهَا ثَمَّةَ، وَفِيهَا كَيْفِيَّةُ مَسْحِ جَسَدِهِ بِيَدَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ النَّوْمِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ وَغَيْرِهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَحَدِيثُ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِنَوْفَلٍ: اقْرَأْ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَنَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا؛ فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَحَدِيثُ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ، وَيَقُولُ: فِيهِنَّ آيَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ رَفَعَهُ: كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ، وَتَبَارَكَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَحَدِيثُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَفَعَهُ: مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَأْخُذُ
مَضْجَعَهُ فَيَقْرَأُ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْفَظُهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيهِ حَتَّى يَهُبَّ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَوَرَدَ فِي التَّعَوُّذِ أَيْضًا عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ رَفَعَهُ: لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّكَ شَيْءٌ، وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا أَخَذَ أَحَدُنَا مَضْجَعَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ الْحَدِيثَ، وَفِي لَفْظٍ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَشِرْكِهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: كَانَ يَقُولُ عِنْدَ مَضْجَعِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَدٌّ عَلَى مَنْ مَنَعَ اسْتِعْمَالَ الْعَوْذِ وَالرُّقَى إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْمَرَضِ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ وَالْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ.
13 - باب
6320 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي
سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ.
تَابَعَهُ أَبُو ضَمْرَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد وَبِشْرٌ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَابْنُ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 6320 - طرفه في: 7393]
قَوْلُهُ: (بَاب) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ لِبَعْضِهِمْ، وَعَلَيْهِ شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَالرَّاجِحُ إِثْبَاتُهُ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ عُمُومُ الذِّكْرِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَعَلَى إِسْقَاطِهِ فَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ مَعْنَى التَّعْوِيذِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِهِ.
قَوْلُهُ: (زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْجُعْفِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ هُوَ الْعُمَرِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَشَيْخُهُ تَابِعِيٌّ وَسَطٌ، وَأَبُوهُ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، فَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (إِذَا أَوَى) بِالْقَصْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ: بِدَاخِلِ بِلَا هَاءٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْآتِيَةِ فِي التَّوْحِيدِ: بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ، وَكَذَا لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهِيَ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا فَاءٌ، هِيَ الْحَاشِيَةُ الَّتِي تَلِي الْجِلْدَ، وَالْمُرَادُ بِالدَّاخِلَةِ طَرَفُ الْإِزَارِ الَّذِي يَلِي الْجَسَدَ، قَالَ مَالِكٌ: دَاخِلَةُ الْإِزَارِ: مَا يَلِي دَاخِلَ الْجَسَدِ مِنْهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَلْيَحُلَّ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ كَمَا سَيَأْتِي: فَلْيَنْزِعْ وَقَالَ عِيَاضٌ: دَاخِلَةُ الْإِزَارِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: طَرَفُهُ، وَدَاخِلَةُ الْإِزَارِ فِي حَدِيثِ الَّذِي أُصِيبَ بِالْعَيْنِ: مَا يَلِيهَا مِنَ الْجَسَدِ. وَقِيلَ: كَنَّى بِهَا عَنِ الذَّكَرِ، وَقِيلَ: عَنِ الْوَرِكِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِغَسْلِ طَرَفِ ثَوْبِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: حِكْمَةُ هَذَا النَّفْضِ قَدْ ذُكِرَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَأَمَّا اخْتِصَاصُ النَّفْضِ بِدَاخِلَةِ الْإِزَارِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا، وَيَقَعُ لِي أَنَّ فِي ذَلِكَ خَاصِّيَّةً طِبِّيَّةً تَمْنَعُ مِنْ قُرْبِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ، كَمَا أُمِرَ بِذَلِكَ الْعَائِنُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: فَلْيَنْفُضْ بِهَا ثَلَاثًا فَحَذَا بِهَا حَذْوَ الرُّقَى فِي التَّكْرِيرِ. انْتَهَى. وَقَدْ أَبْدَى غَيْرُهُ حِكْمَةَ ذَلِكَ، وَأَشَارَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ إِلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِزَارَ يُسْتَرُ بِالثِّيَابِ، فَيَتَوَارَى بِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْوَسَخِ، فَلَوْ نَالَ ذَلِكَ بِكُمِّهِ صَارَ غَيْرَ لَدِنِ الثَّوْبِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلًا أَنْ يُحْسِنَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إِنَّمَا أَمَرَ بِدَاخِلَتِهِ دُونَ خَارِجَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْتَزِرَ يَأْخُذُ طَرَفَيْ إِزَارِهِ بِيَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَيُلْصِقُ مَا بِشِمَالِهِ، وَهُوَ الطَّرَفُ الدَّاخِلِيُّ عَلَى جَسَدِهِ، وَيَضَعُ مَا بِيَمِينِهِ فَوْقَ الْأُخْرَى، فَمَتَى عَاجَلَهُ أَمْرٌ أَوْ خَشِيَ سُقُوطَ إِزَارِهِ أَمْسَكَهُ بِشِمَالِهِ، وَدَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَمِينِهِ، فَإِذَا صَارَ إِلَى فِرَاشِهِ فَحَلَّ إِزَارَهُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ بِيَمِينِهِ خَارِجَ الْإِزَارِ، وَتَبْقَى الدَّاخِلَةُ مُعَلَّقَةً وَبِهَا يَقَعُ النَّفْضُ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَ بِالنَّفْضِ بِهَا؛ لِأَنَّ الَّذِي يُرِيدُ النَّوْمَ يَحِلُّ بِيَمِينِهِ خَارِجَ الْإِزَارِ، وَتَبْقَى الدَّاخِلَةُ مُعَلَّقَةً فَيَنْفُضُ بِهَا، وَأَشَارَ الْكِرْمَانِيُّ إِلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ حِينَ النَّفْضِ مَسْتُورَةً؛ لِئَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ شَيْءٌ، فَيَحْصُلُ فِي يَدِهِ مَا يَكْرَهُ. انْتَهَى. وَهِيَ حِكْمَةُ النَّفْضِ بِطَرَفِ الثَّوْبِ دُونَ الْيَدِ لَا خُصُوصَ الدَّاخِلَةِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ
لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ) بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، أَيْ: حَدَثَ بَعْدَهُ فِيهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عَجْلَانَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ: فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَنْ خَلَفَهُ فِي فِرَاشِهِ، وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ: ثُمَّ لِيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ: ثُمَّ لْيَتَوَسَّدْ بِيَمِينِهِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ: وَلْيُسَمِّ اللَّهَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ أَيْ: مَا صَارَ بَعْدَهُ خَلَفًا وَبَدَلًا عَنْهُ إِذَا غَابَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يَدْرِي مَا وَقَعَ فِي فِرَاشِهِ بَعْدَمَا خَرَجَ مِنْهُ مِنْ تُرَابٍ أَوْ قَذَاةٍ أَوْ هَوَامَّ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ فِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ: ثُمَّ لْيَقُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ: اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ: ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي.
قَوْلُهُ: (إِنْ أَمْسَكْتَ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ: اللَّهُمَّ إِنْ أَمْسَكْتَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ: اللَّهُمَّ فَإِنْ أَمْسَكْتَ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ: فَإِنِ احْتَبَسْتَ
قَوْلُهُ: (فَارْحَمْهَا) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: فَاغْفِرْ لَهَا، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْإِمْسَاكُ كِنَايَةٌ عَنَ الْمَوْتِ فَالرَّحْمَةُ أَوِ الْمَغْفِرَةُ تُنَاسِبُهُ، وَالْإِرْسَالُ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِمْرَارِ الْبَقَاءِ، وَالْحِفْظُ يُنَاسِبُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الْآيَةَ، قُلْتُ: وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْتَ نَفْسِي، وَأَنْتَ تَتَوَفَّاهَا، لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا، إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا، وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
قَوْلُهُ: (بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ الْبَاءُ هِيَ مِثْلُ الْبَاءِ فِي قَوْلِكِ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَمَا مُبْهَمَةٌ وَبَيَانُهَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِلَتُهَا، وَزَادَ ابْنُ عَجْلَانَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي آخِرِهِ شَيْئًا لَمْ أَرَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الذِّي عَافَانِي فِي جَسَدِي، وَرَدَّ إِلَيَّ رُوحِي وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ. وَقَدْ نَقَلْتُ قَوْلَ الزَّجَّاجِ فِي ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِيمَا مَضَى قَرِيبًا، وَكَذَلِكَ كَلَامُ الطِّيبِيِّ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَدَبٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ حِكْمَتَهُ فِي الْخَبَرِ وَهُوَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْوِيَ إِلَى فِرَاشِهِ بَعْضُ الْهَوَامِّ الضَّارَّةِ فَتُؤْذِيَهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ الْمَنَامَ أَنْ يَمْسَحَ فِرَاشَهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ يَخْفَى مِنْ رُطُوبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا مِنَ الْحَذَرِ، وَمِنَ النَّظَرِ فِي أَسْبَابِ دَفْعِ سُوءِ الْقَدَرِ، أَوْ هُوَ مِنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ.
قُلْتُ وَمِمَّا وَرَدَ مَا يُقَالُ عِنْدَ النَّوْمِ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالثَّلَاثَةُ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ وَزَادَ وَالَّذِي مَنَّ عَلَيَّ فَأَفْضَلَ وَالَّذِي أَعْطَانِي فَأَجْزَلَ وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ مَضْجَعِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ تَكْشِفُ الْمَأْثَمَ وَالْمَغْرَمَ، اللَّهُمَّ لَا يُهْزَمُ جُنْدُكَ، وَلَا يُخْلَفُ وَعْدُكَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَزْهَرِ الْأَنْمَارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ: بِسْمِ اللَّهِ وَضَعْتُ جَنْبِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَأَخْسِئْ شَيْطَانِي، وَفُكَّ رِهَانِي، وَاجْعَلْنِي فِي النِّدَاءِ الْأَعْلَى، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ
يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ ثَلَاثًا، وَأَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَحَسَّنَهُ، وَمِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَصَحَّحَهُ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَبُو ضَمْرَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ، وَأَبُو ضَمْرَةَ هُوَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُمَا تَابَعَا زُهَيْرَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فِي إِدْخَالِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَمَّا مُتَابَعَةُ أَبِي ضَمْرَةَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا، فَوَصَلَهَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ، كَذَا رَأَيْتُهُ فِي شَرْحِ مُغْلَطَايْ وَكُنْتُ وَقَفْتُ عَلَيْهَا فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ وَأَوْرَدْتُهَا مِنْهُ فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ ثُمَّ خَفِيَ عَلَيَّ مَكَانُهَا الْآنَ.
وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ هُنَا وَعَبْدَةُ وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَلَمْ أَرَهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً فَإِنَّهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مَوْصُولَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ الْأَكْثَرَ لَمْ يَقُولُوا فِي السَّنَدِ: عَنْ أَبِيهِ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَجَاءٍ رَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ أَخِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ سَاقَهُ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الشَّكُّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ؛ لِاتِّفَاقِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَخِي سَعِيدٍ فِيهِ ذِكْرٌ، وَاسْمُ أَخِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ: عَبَّادٌ.
وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ أَبَا بَدْرٍ شُجَاعَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَالْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ، وَهُرَيْمًا - وَهُوَ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ - ابْنَ سُفْيَانَ، وَجَعْفَرَ بْنَ زِيَادٍ، وَخَالِدَ بْنَ حُمَيْدٍ تَابَعُوا زُهَيْرَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فِي قَوْلِهِ فِيهِ: عَنْ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْقَطَّانُ (وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَمَّا رِوَايَةُ يَحْيَى الْقَطَّانُ فَوَصَلَهَا النَّسَائِيُّ، وَأَمَّا رِوَايَةُ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ فَأَخْرَجَهَا مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ الْكَبِيرِ عَنْهُ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَسَّانَ، وَمُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَثِيرٍ رَوَوْهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَذَلِكَ، وَكَذَا ذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نُمَيْرٍ، وَالطَّبَرَانِيَّ أَنَّ مُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ، وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ، وَأَبَا أُسَامَةَ رَوَوْهُ كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَذَلِكَ، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا؛ مِنْهُمْ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، وَالْحَمَّادَانِ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، قُلْتُ: فَلَعَلَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى بِشْرٍ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ، وَكَذَا عَلَى هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ. وَرِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَصَلَهَا النَّسَائِيُّ مَوْقُوفَةً.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيِّ عَنْهُ، وَقَصَّرَ مُغَلْطَايْ فَعَزَاهَا لِتَخْرِيجِ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مَعَ وُجُودِهَا فِي الصَّحِيحِ الَّذِي شَرَحَهُ، وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْحِيدِ أَكْثَرَ هَذِهِ التَّعَالِيقِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا أَيْضًا عَقِبَ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ حَدِيثَ مَالِكٍ الْمَذْكُورَ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا أَعْلَمُ أَسْنَدَهُ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا الْأُوَيْسِيَّ، وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ عَنْهُ، وَوَصَلَهَا أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الزِّيَادَةَ الَّتِي عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِيهِ قَبْلُ. (تَنْبِيه):
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عَبَّرَ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: تَابَعَهُ ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ؛ لِأَنَّهُمَا لِلتَّحَمُّلِ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: رَوَاهُ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْمُذَاكَرَةِ، قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ؛ لِمَا بَيَّنْتُ أَنَّهُ وَصَلَ رِوَايَةَ مَالِكٍ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ بِصِيغَةِ التَّحَمُّلِ وَهِيَ: حَدَّثَنَا لَا بِصِيغَةِ الْمُذَاكَرَةِ، كَقَالَ وَرَوَى، إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لِلْمُذَاكَرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
14 - بَاب الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ
6321 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ، وَأَبِي سَلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ) أَيْ: بَيَانُ فَضْلِ الدُّعَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى غَيْرِهِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ وَقْتٌ شَرِيفٌ خَصَّهُ اللَّهُ بِالتَّنْزِيلِ فِيهِ، فَيَتَفَضَّلُ عَلَى عِبَادِهِ بِإِجَابَةِ دُعَائِهِمْ، وَإِعْطَاءِ سُؤْلِهِمْ، وَغُفْرَانِ ذُنُوبِهِمْ، وَهُوَ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَخَلْوَةٍ وَاسْتِغْرَاقٍ فِي النَّوْمِ وَاسْتِلْذَاذٍ لَهُ، وَمُفَارَقَةُ اللَّذَّةِ وَالدَّعَةِ صَعْبٌ، لَا سِيَّمَا أَهْلُ الرَّفَاهِيَةِ، وَفِي زَمَنِ الْبَرْدِ، وَكَذَا أَهْلُ التَّعَبِ، وَلَا سِيَّمَا فِي قِصَرِ اللَّيْلِ، فَمَنْ آثَرَ الْقِيَامَ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى خُلُوصِ نِيَّتِهِ وَصِحَّةِ رَغْبَتِهِ فِيمَا عِنْدَ رَبِّهِ، فَلِذَلِكَ نَبَّهَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي تَخْلُو فِيهِ النَّفْسُ مِنْ خَوَاطِرِ الدُّنْيَا وَعُلَقِهَا، لِيَسْتَشْعِرَ الْعَبْدُ الْجِدَّ وَالْإِخْلَاصَ لِرَبِّهِ.
قَوْلُهُ: (يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ هُنَا بِوَزْنِ يَتَفَعَّلُ مُشَدَّدًا، وَلِلنَّسَفِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ: يَنْزِلُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَكَسْرِ الزَّايِ.
قَوْلُهُ: (حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَرْجَمَ بِنِصْفِ اللَّيْلِ وَسَاقَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ التَّنَزُّلَ يَقَعُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ عَوَّلَ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} فَأَخَذَ التَّرْجَمَةَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرُ النِّصْفِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى وَقْتِ التَّنَزُّلِ قَبْلَ دُخُولِهِ؛ لِيَأْتِيَ وَقْتُ الْإِجَابَةِ وَالْعَبْدُ مُرْتَقِبٌ لَهُ مُسْتَعِدٌّ لِلِقَائِهِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَفْظُ الْخَبَرِ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ وَذَلِكَ يَقَعُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ، فَأَشَارَ إِلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَرَدَتْ بِلَفْظِ النِّصْفِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا نِصْفَ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ أَوْ ثُلُثَ اللَّيْلِ الْآخِرِ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الرُّؤْيَا مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: شَطْرِ اللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ تُرَدَّدٍ، وَسَأَسْتَوْعِبُ أَلْفَاظَهُ فِي التَّوْحِيدِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَيْضًا: النُّزُولُ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ الْحَرَكَةُ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْلِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَلْيُتَأَوَّلْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ نُزُولُ مَلَكِ الرَّحْمَةِ وَنَحْوُهُ، أَوْ يُفَوَّضُ مَعَ اعْتِقَادِ التَّنْزِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ فِي بَابِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ مِنْ أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ، وَيَأْتِي مَا بَقِيَ مِنْهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
15 - بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخَلَاءِ
6322 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخَلَاءِ) أَيْ: عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّخُولِ.
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَفِيهِ ذِكْرُ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ.
16 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ
6323 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، إِذَا قَالَ حِينَ يُمْسِي فَمَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ - أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ - وَإِذَا قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ مِثْلَهُ.
6324 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
6325 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
[6225 - طرفه في: 7395]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ) ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، أَحَدُهَا: حَدِيثُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا فِي بَابِ أَفْضَلِ الِاسْتِغْفَارِ.
ثَانِيهَا: حَدِيثُ حُذَيْفَةَ قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَابِ مَا يَقُولُ إِذَا نَامَ.
ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ بِلَفْظِ حُذَيْفَةَ سَوَاءً مِنْ مَخْرَجِهِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ - وَهُوَ السُّكَّرِيُّ -، عَنْ مَنْصُورٍ - وَهُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ -، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ خَرَشَةَ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ هَاءِ تَأْنِيثٍ - ابْنِ الْحُرِّ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ ضِدِّ الْعَبْدِ - عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ هُوَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْهُ، فَكَأَنَّهُ وَضَّحَ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ لِرِبْعِيٍّ فِيهِ طَرِيقَيْنِ، وَكَأَنَّ مُسْلِمًا أَعْرَضَ عَنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مِنْ أَجْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبَا حَمْزَةَ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ شَيْبَانُ النَّحْوِيُّ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجَيْنِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا كَانَ لِلدَّارَقُطْنِيِّ ذِكْرُهُ فِي التَّتَبُّعِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الصَّبَاحِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ رَفَعَهُ: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلَائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، أَعْتَقَ اللَّهُ رُبْعَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ مِنَ النَّارِ الْحَدِيثَ رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَحَدِيثُ أَبِي سَلَامٍ عَمَّنْ خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَفَعَهُ: مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ
بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ الْبَيَاضِيِّ رَفَعَهُ: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَمِنْكَ وَحْدَكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ: مَا مَنَعَكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ، أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ.
17 - بَاب الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ
6326 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6327 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} أُنْزِلَتْ فِي الدُّعَاءِ"
6328 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ الصَّالِحِينَ فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ صَالِحٍ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ) ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، وَهِيَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الدُّعَاءِ قُبَيْلَ السَّلَامِ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، (عَنْ يَزِيدَ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ، وَأَبُو الْخَيْرِ هُوَ مَرْثَدٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ مُهْمَلَةٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَصَلَهُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَلَفْظُهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي شَرْحِهِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ دَلَالَةٌ عَلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْإِيمَانِ إِلَّا مَنْ لَا خَطِيئَةَ لَهُ وَلَا ذَنْبَ؛ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ مِنْ أَكْبَرِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا الدُّعَاءُ مِنَ الْجَوَامِعِ؛ لِأَنَّ فِيهِ الِاعْتِرَافَ بِغَايَةِ التَّقْصِيرِ وَطَلَبِ غَايَةِ الْإِنْعَامِ، فَالْمَغْفِرَةُ سَتْرُ الذُّنُوبِ وَمَحْوُهَا، وَالرَّحْمَةُ إِيصَالُ
الْخَيْرَاتِ، فَفِي الْأَوَّلِ طَلَبُ الزَّحْزَحَةِ عَنِ النَّارِ، وَفِي الثَّانِي طَلَبُ إِدْخَالِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي جمرة مَا مُلَخَّصُهُ: فِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَفَضْلُ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ عَلَى غَيْرِهِ، وَطَلَبُ التَّعْلِيمِ مِنَ الْأَعْلَى، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ يَعْرِفُ ذَلِكَ النَّوْعَ، وَخَصَّ الدُّعَاءَ بِالصَّلَاةِ لِقولِهِ صلى الله عليه وسلم: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ يَنْظُرُ فِي عِبَادَتِهِ إِلَى الْأَرْفَعِ فَيَتَسَبَّبُ فِي تَحْصِيلِهِ، وَفِي تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا الدُّعَاءَ إِشَارَةٌ إِلَى إِيثَارِ أَمْرِ الْآخِرَةِ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَعَلَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ حَالِ أَبِي بَكْرٍ وَإِيثَارِهِ أَمْرَ الْآخِرَةِ، قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ: ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ أَيْ: لَيْسَ لِي حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ، فَهِيَ حَالَةُ افْتِقَارٍ، فَأَشْبَهَ حَالَ الْمُضْطَرِّ الْمَوْعُودِ بِالْإِجَابَةِ، وَفِيهِ هَضْمُ النَّفْسِ وَالِاعْتِرَافُ بِالتَّقْصِيرِ، وَتَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ فَوَائِدِهِ هُنَاكَ.
وحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي الدُّعَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُبْحَانَ، وَعَلِيٌّ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ.
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي التَّشَهُّدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَأَخَذَ التَّرْجَمَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ نَصٌّ فِي الْمَطْلُوبِ، وَالثَّانِيَ يُسْتَفَادُ مِنْهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الدَّاعِي، وَهِيَ عَدَمُ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فَيُسْمِعُ نَفْسَهُ وَلَا يُسْمِعُ غَيْرَهُ، وَقِيلَ لِلدُّعَاءِ: صَلَاةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بِدَعَاءٍ فَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ بَعْضِ الشَّيْءِ بِاسْمِ كُلِّهِ، وَالثَّالِثَ فِيهِ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّنَاءِ الدُّعَاءُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّشَهُّدِ بِلَفْظِ: فَلْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ.
وَوَرَدَ الْأَمْرُ أَيْضًا بِالدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا بَعْدَ التَّشَهُّدِ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لْيَدْعُ بِمَا شَاءَ، وَمُحَصَّلُ مَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ يَدْعُو فِيهَا دَاخِلَ الصَّلَاةِ سِتَّةُ مَوَاطِنَ: الْأَوَّلُ: عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ؛ فَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ الْحَدِيثُ، الثَّانِي: فِي الِاعْتِدَالِ؛ فَفِيهِ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ - بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ -: اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ. الثَّالِثُ: فِي الرُّكُوعِ؛ وَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ: كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَخْرَجَاهُ. الرَّابِعُ: فِي السُّجُودِ، وَهُوَ أَكْثَرُ مَا كَانَ يَدْعُو فِيهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِهِ فِيهِ. الْخَامِسُ: بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. السَّادِسُ: فِي التَّشَهُّدِ، وَسَيَأْتِي، وَكَانَ أَيْضًا يَدْعُو فِي الْقُنُوتِ، وَفِي حَالِ الْقِرَاءَةِ: إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ اسْتَعَاذَ.
18 - بَاب الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ
6329 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا، وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا، وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ، قَالَ: أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَأْتِي أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إِلَّا مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ؟ تُسَبِّحُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا،
وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا، وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا.
تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ سُمَيٍّ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ سُمَيٍّ وَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ. وَرَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6330 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَتَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ إِذَا سَلَّمَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُسَيَّبَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ) أَيِ: الْمَكْتُوبَةِ، وَفِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَا يُشْرَعُ، مُتَمَسِّكًا بِالْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا قَدْرَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ نَفْيُ اسْتِمْرَارِهِ جَالِسًا عَلَى هَيْئَتِهِ قَبْلَ السَّلَامِ إِلَّا بِقَدْرِ أَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرَ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ بَعْدَ أَنْ يُقْبِلَ بِوَجْهِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: وَأَمَّا الدُّعَاءُ بَعْدَ السَّلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ سَوَاءٌ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ وَالْمَأْمُومُ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْلًا، وَلَا رُوِيَ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ وَخَصَّ بَعْضَهُمْ ذَلِكَ بِصَلَاتَيِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَلَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ أُمَّتَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَانٌ رَآهُ مَنْ رَآهُ عِوَضًا مِنَ السُّنَّةِ بَعْدَهُمَا، قَالَ: وَعَامَّةُ الْأَدْعِيَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصَّلَاةِ إِنَّمَا فَعَلَهَا فِيهَا، وَأَمَرَ بِهَا فِيهَا، قَالَ: وَهَذَا اللَّائِقُ بِحَالِ الْمُصَلِّي؛ فَإِنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى رَبِّهِ مُنَاجِيهِ، فَإِذَا سَلَّمَ مِنْهَا انْقَطَعَتِ الْمُنَاجَاةُ، وَانْتَهَى مَوْقِفُهُ وَقُرْبُهُ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ سُؤَالَهُ فِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْأَلُ إِذَا انْصَرَفَ عَنْهُ؟ ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ الْأَذْكَارَ الْوَارِدَةَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَتَى بِهَا أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا، وَيَدْعُوَ بِمَا شَاءَ، وَيَكُونُ دُعَاؤُهُ عَقِبَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الذِّكْرُ، لَا لِكَوْنِهِ دُبُرَ الْمَكْتُوبَةِ.
قُلْتُ: وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ النَّفْيِ مُطْلَقًا مَرْدُودٌ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: يَا مُعَاذُ إِنِّي وَاللَّهِ لَأُحِبُّكَ، فَلَا تَدَعْ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فِي قَوْلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَحَدِيثُ سَعْدٍ الْآتِي فِي بَابِ التَّعَوُّذِ مِنَ الْبُخْلِ قَرِيبًا؛ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الْمَطْلُوبَ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَحَدِيثُ صُهَيْبٍ رَفَعَهُ: كَانَ يَقُولُ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي، الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِدُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ قُرْبَ آخِرِهَا وَهُوَ التَّشَهُّدُ، قُلْنَا: قَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ وَالْمُرَادُ بِهِ بَعْدَ السَّلَامِ إِجْمَاعًا، فَكَذَا هَذَا حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُخَالِفُهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفَ اللَّيْلِ الْأَخِيرَ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَقَالَ: حَسَنٌ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ قَالَ: الدُّعَاءُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ أَفْضَلُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ النَّافِلَةِ، كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ، وَفَهِمَ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَقِينَاهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ الْقَيِّمِ نَفْيُ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِ أَنَّهُ نَفَاهُ بِقَيْدِ اسْتِمْرَارِ اسْتِقْبَالِ الْمُصَلِّي الْقِبْلَةَ وَإِيرَادِهِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَأَمَّا إِذَا انْتَقَلَ بِوَجْهِهِ أَوْ قَدَّمَ الْأَذْكَارَ الْمَشْرُوعَةَ فَلَا يَمْتَنِعُ عِنْدَهُ الْإِتْيَانُ بِالدُّعَاءِ حِينَئِذٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّسْبِيحِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَحَدِيثَ الْمُغِيرَةِ فِي قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَدْ تَرْجَمَ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ بَابَ الذِّكْرِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَأَوْرَدَ فِيهِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَتَقَدَّمَ شَرْحَهُمَا هُنَاكَ مُسْتَوْفًى، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لَهُمَا أَنَّ الذَّاكِرَ يَحْصُلُ لَهُ مَا يَحْصُلُ لِلدَّاعِي إِذَا شَغَلَهُ الذِّكْرُ عَنِ الطَّلَبِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى -: مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي، أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي، الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ أَوِ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَيَزِيدُ هُوَ ابْنُ هَارُونَ، وَوَرْقَاءُ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْيَشْكُرِيُّ، وَسُمَيٌّ هُوَ مَوْلَى أَبِي صَالِحٍ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) هُوَ الْعُمَرِيُّ (عَنْ سُمَيٍّ) يَعْنِي فِي إِسْنَادِهِ، وَفِي أَصْلِ الْحَدِيثِ لَا فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ هُنَاكَ عِنْدَ شَرْحِهِ أَنَّ وَرْقَاءَ خَالَفَ غَيْرَهُ فِي قَوْلِهِ: عَشْرًا، وَأَنَّ الْكُلَّ قَالُوا: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمَجْمُوعُ هَذَا الْقَدْرُ، قُلْتُ: قَدْ وَرَدَ بِالذِّكْرِ الْعَشْرُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَجَمَاعَةٍ، وَحَدِيثُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا هُنَاكَ، وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: لَمَّا جَاءَ هُنَاكَ بِلَفْظِ الدَّرَجَاتِ فَقَيَّدَهَا بِالْعُلَا، وَقَيَّدَ أَيْضًا زِيَادَةً فِي الْأَعْمَالِ مِنَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ زَادَ فِي عِدَّةِ الْأَذْكَارِ - يَعْنِي: وَلَمَّا خَلَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ ذَلِكَ نَقَصَ الْعَدَدُ - ثُمَّ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، انْتَهَى.
وَكِلَا الْجَوَابَيْنِ مُتَعَقَّبٌ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَخْرَجُ الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْهُ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ وَإِلَّا فَيُؤْخَذُ بِالرَّاجِحِ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فَالَّذِي حَفِظَ الزِّيَادَةَ مُقَدَّمٌ، وَأَظُنُّ سَبَبَ الْوَهَمِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ: يُسَبِّحُونَ وَيُكَبِّرُونَ وَيَحْمَدُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ مَقْسُومٌ عَلَى الْأَذْكَارِ الثَّلَاثَةِ، فَرَوَى الْحَدِيثَ بِلَفْظِ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَأَلْغَى بَعْضُهُمُ الْكَسْرَ فَقَالَ: عَشَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَمُرَتَّبٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ لَائِقٌ بِمَا إِذَا اخْتَلَفَ مَخَارِجُ الْحَدِيثِ، أَمَّا إِذَا اتَّحَدَ الْمَخْرَجُ فَهُوَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، فَإِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ وَإِلَّا فَالتَّرْجِيحُ.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سُمَيٍّ، وَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ فَذَكَرَهُ مَقْرُونًا بِرِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كِلَاهُمَا عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِهِ وَفِي آخِرِهِ: قَالَ ابْنُ عَجْلَانَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ، فَحَدَّثَنِي بِمِثْلِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، وَسُمَيٍّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِهِ وَفِيهِ: تُسَبِّحُونَ اللَّهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُونَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُونَهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَقَالَ فِي الْأَوْسَطِ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ رَجَاءٍ إِلَّا ابْنُ عَجْلَانَ.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ جَرِيرٌ) يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ (عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) وَصَلَهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْهُ عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ بِهَذَا، وَفِيهِ مِثْلُ مَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ مِنْ تَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ،
وَفِي سَمَاعِ أَبِي صَالِحٍ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَظَرٌ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّسَائِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ عَنْ أَبِي عُمَرَ الضَّبِّيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَكَذَا رَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي عُمَرَ، لَكِنْ زَادَ أُمَّ الدَّرْدَاءِ بَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَبَيْنَ أَبِي عُمَرَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَلَمْ يُوَافِقْ شَرِيكٌ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي عُمَرَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَمِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْحَكَمِ لَكِنْ قَالَ: عَنْ عُمَرَ الضَّبِّيِّ، فَإِنْ كَانَ اسْمُ أَبِي عُمَرَ: عُمَرَ اتَّفَقَتِ الرِّوَايَتَانِ، لَكِنْ جَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ، فَكَأَنَّهُ تَحَرَّفَ عَلَى الرَّاوِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ سُهَيْلٍ، فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، لَكِنْ قَالَ فِيهِ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، قَالَ سُهَيْلٌ: إِحْدَى عَشْرَةَ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، فَذَلِكَ كُلُّهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سُهَيْلٍ بِهَذَا السَّنَدِ بِغَيْرِ قِصَّةٍ، وَلَفْظٌ آخَرُ قَالَ فِيهِ: مَنْ قَالَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً، وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَعْنِي تَمَامَ الْمِائَةِ غُفِرَتْ لَهُ خَطَايَاهُ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنَ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ عَلَى سُهَيْلٍ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرِوَايَةُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهَا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، لَكِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَأَوْرَدَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ: (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ.
قَوْلُهُ: (فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُسَيَّبَ) يَعْنِي ابْنَ رَافِعٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَصَلَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهِ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَلَّمَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْحَدِيثَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْحَضُّ عَلَى الذِّكْرِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُوَازِي إِنْفَاقَ الْمَالِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ؛ لِقولِهِ: تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ: هَلِ الذِّكْرُ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ أَمْ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ يَعْدِلُ الْقُرْآنَ، وَلَكِنْ كَانَ هَدْيُ السَّلَفِ الذِّكْرَ. وَفِيهَا أَنَّ الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ يَلِي الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَلَا يُؤَخَّرُ إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّاتِبَةَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
19 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} وَمَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ نَفْسِهِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ
6331 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَيَا عَامِرُ، لَوْ أَسْمَعْتَنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ، فَنَزَلَ يَحْدُو بِهِمْ يُذَكِّرُ: تَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَذَكَرَ شِعْرًا غَيْرَ هَذَا، وَلَكِنِّي لَمْ أَحْفَظْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ هَذَا السَّائِقُ؟ قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ، قَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْلَا مَتَّعْتَنَا
بِهِ، فَلَمَّا صَافَّ الْقَوْمَ قَاتَلُوهُمْ، فَأُصِيبَ عَامِرٌ بِقَائِمَةِ سَيْفِ نَفْسِهِ، فَمَاتَ، فَلَمَّا أَمْسَوْا أَوْقَدُوا نَارًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا هَذِهِ النَّارُ؟ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟ قَالُوا: عَلَى حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ، فَقَالَ: أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَكَسِّرُوهَا. قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: أَوْ ذَاكَ.
6333 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ "قَالَ سَمِعْتُ جَرِيرًا قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ وَهُوَ نُصُبٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ يُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَصَكَّ فِي صَدْرِي فَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا قَالَ فَخَرَجْتُ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَحْمَسَ مِنْ قَوْمِي وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ فَانْطَلَقْتُ فِي عُصْبَةٍ مِنْ قَوْمِي فَأَتَيْتُهَا فَأَحْرَقْتُهَا ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا مِثْلَ الْجَمَلِ الأَجْرَبِ فَدَعَا لِأَحْمَسَ وَخَيْلِهَا"
6334 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ "قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَسٌ خَادِمُكَ قَالَ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ"
6335 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ رحمه الله لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا فِي سُورَةِ كَذَا وَكَذَا"
6336 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} كَذَا لِلْجُمْهُورِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيَادَةٌ:{إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا الدُّعَاءُ، وَثَالِثُ أَحَادِيثِ الْبَابِ يُفَسِّرُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ
وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} وَفُسِّرَتُ الصَّلَوَاتُ هُنَا أَيْضًا بِالدَّعَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو لِمَنْ يَتَصَدَّقُ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ نَفْسِهِ) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى رَدِّ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: ذَكَرْتُ رَجُلًا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَتَرَحَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَهَزَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ لِي: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كَانَ يُقَالُ: إِذَا دَعَوْتَ فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي فِي أَيِّ دُعَاءٍ يُسْتَجَابُ لَكَ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: خَمْسُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ - وَذَكَرَ فِيهَا - وَدَعْوَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا، هَكَذَا اسْتَدَلَّ بِهِمَا ابْنُ بَطَّالٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ لِظَهْرِ الْغَيْبِ وَدُعَاءَ الْأَخِ لِأَخِيهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي خَصَّهُ أَوْ ذَكَرَ نَفْسَهُ مَعَهُ، وَأَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَدَأَ بِهِ أَوْ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَفَعَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي أَوَّلِ قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ وَلَفْظُهُ: وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَيْدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا لِغَيْرِ نَبِيٍّ فَلَمْ يَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ هَاجَرَ الْمَاضِيَةِ فِي الْمَنَاقِبِ: يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، يُرِيدُ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ لَمْ يَطَّرِدْ،
فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ دَعَا لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَمْ يَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، كَمَا مَرَّ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى الْأَوَّلِ بِسَادِسِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَإِلَى الثَّانِي بِالَّذِي بَعْدَهُ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ: الحديث الأول:
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي مُوسَى تَقَدَّمَ بِطُولِهِ مَوْصُولًا فِي غَزْوَةِ أَوَطَاسَ مِنَ الْمَغَازِي، وَفِيهِ قِصَّةُ قَتْلِ أَبِي عَامِرٍ، وَهُوَ عَمُّ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَفِيهِ قَوْلُ أَبِي مُوسَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ أَبَا عَامِرٍ قَالَ لَهُ: قُلْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ وَفِيهِ: فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِرْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا.
الحديث الثاني:
قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.
قَوْلُهُ: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَامِرٌ هُوَ ابْنُ الْأَكْوَعِ عَمُّ سَلَمَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَسَبَبُ قَوْلِ عُمَرَ: لَوْلَا مَتَّعْتَنَا بِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَأَوْرَدَهُ مَوْرِدَ الِاسْتِقْرَاءِ، فَقَالَ: كَانُوا عَرَفُوا أَنَّهُ مَا اسْتَرْحَمَ لِإِنْسَانٍ قَطُّ فِي غَزَاةٍ تَخُصُّهُ إِلَّا اسْتُشْهِدَ، فَلِذَا قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَمْتَعَتْنَا بِعَامِرٍ.
قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ شِعْرًا غَيْرَ هَذَا وَلَكِنِّي لَمْ أَحْفَظْهُ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَيُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ الْقَائِلَ: وَذَكَرَ شِعْرًا هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ رَاوِيهِ، وَأَنَّ الذَّاكِرَ هُوَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَوْلُهُ: مِنْ هَنَاتِكَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالنُّونِ جَمْعُ هَنَةٍ، وَيُرْوَى: هُنَيْهَاتِكَ، وَهُنَيَّاتِكَ وَالْمُرَادُ الْأَرَاجِيزُ الْقِصَارُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَمْسَوْا أَوْقَدُوا نَارًا كَثِيرَةً) الْحَدِيثُ فِي قِصَّةِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فِي رِوَايَةِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ: فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ يَعْنِي خَيْبَرَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَمْرٌو شَيْخُ شُعْبَةَ فِيهِ هُوَ ابْنُ مُرَّةَ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى هُوَ عَبْدُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى) أَيْ: عَلَيْهِ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَابًا.
الحديث الرابع:
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ: (وَهُوَ نُصُبٌ) بِضَمِّ النُّونِ وَبِصَادٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ هُوَ الصَّنَمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سَأَلَ، وَقَوْلُهُ: يُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: كَعْبَةُ الْيَمَانِيَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ، وَقَوْلُهُ: فَخَرَجْتُ فِي خَمْسِينَ مِنْ قَوْمِي، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَارِسًا وَالْقَائِلُ: (وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ) هُوَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.
الحديث الخامس:
فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَسٍ أَنْ يُكْثِرَ مَالُهُ وَوَلَدُهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ قَرِيبًا بَعْدَ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا، وَقَدْ بَيَّنَ مُسْلِمٌ - فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ - أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِرِ دُعَائِهِ لِأَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: فَقَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُوَيْدِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ، فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ فِي دُعَائِهِ أَنْ قَالَ فَذَكَرَهُ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحَدِيثِ الَّذِي وَرَدَ: اللَّهُمَّ مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَ مَا جِئْتُ بِهِ فَاقْلِلْ لَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، الْحَدِيثَ، قَالَ: وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم يَحُضُّ عَلَى النِّكَاحِ وَالْتِمَاسِ الْوَلَدِ؟ قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي حُصُولِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، فَيُقَالُ: كَيْفَ دَعَا لِأَنَسٍ وَهُوَ خَادِمُهُ بِمَا كَرِهَهُ لِغَيْرِهِ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ دُعَائِهِ لَهُ بِذَلِكَ قَرَنَهُ بِأَنْ لَا يَنَالَهُ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ ضَرَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي كَرَاهِيَةِ اجْتِمَاعِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ لِمَا يُخْشَى مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْفِتْنَةِ بِهِمَا، وَالْفِتْنَةُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهَا الْهَلَكَةُ.
الحديث السادس:
قَوْلُهُ: (عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ.
قَوْلُهُ: (رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ) هُوَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً قَالَ الْجُمْهُورُ: يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْسَى شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ، لَكِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، وَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِبْلَاغِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ}
الحديث السابع:
قَوْلُهُ: (سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ مِهْرَانَ الْأَعْمَشُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) هُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ: سَمِعْتُ شَقِيقًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ) هُوَ مُعَتَّبٌ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ ثَقِيلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، أَوْ حُرْقُوصٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ هُنَاكَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى فَخَصَّهُ بِالدُّعَاءِ، فَهُوَ مُطَابِقٌ لِأَحَدِ رُكْنَيِ التَّرْجَمَةِ، وَقَوْلُهُ: وَجْهُ اللَّهِ أَيِ: الْإِخْلَاصُ لَهُ.
20 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ
6337 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ أَبُو حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدِّثْ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثَ مِرَارٍ، وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلَا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلُّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، فَانْظُرْ السَّجْعَ مِنْ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ؛ فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ الِاجْتِنَابَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ) السَّجْعُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ، هُوَ مُوَالَاةُ الْكَلَامِ عَلَى رَوِيٍّ وَاحِدٍ، وَمِنْهُ سَجَعَتِ الْحَمَامَةُ إِذَا رَدَّدَتْ صَوْتَهَا قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ الْكَلَامُ الْمُقَفَّى مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ وَزْنٍ.
قَوْلُهُ: (هَارُونُ الْمُقْرِئُ) هُوَ ابْنُ مُوسَى النَّحْوِيُّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْخِرِّيتِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ.
قَوْلُهُ: (حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمْعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ) هَذَا إِرْشَادٌ، وَقَدْ بَيَّنَ حِكْمَتَهُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِ تُمِلَّ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَالْمَلَلُ وَالسَّآمَةُ بِمَعْنًى، وَهَذَا الْقُرْآنَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
قَوْلُهُ: (فَلَا أُلْفَيَنَّكَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِالْفَاءِ، أَيْ: لَا أَجِدَنَّكَ، وَالنُّونُ مُثَقَّلَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَهَذَا النَّهْيُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْمُخَاطَبِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، وَفِيهِ كَرَاهَةُ التَّحْدِيثِ عِنْدَ مَنْ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ قَطْعِ حَدِيثِ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي نَشْرُ الْعِلْمِ عِنْدَ مَنْ لَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ، وَيُحَدِّثُ مَنْ يَشْتَهِي سَمَاعَهُ؛ لِأَنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَتَمَلّهُمْ) يَجُوزُ فِي مَحَلِّهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ.
قَوْلُهُ: (وَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ) أَيْ: لَا تَقْصِدْ إِلَيْهِ، وَلَا تَشْغَلْ فِكْرَكَ بِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ الْمَانِعِ لِلْخُشُوعِ الْمَطْلُوبِ فِي الدُّعَاءِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ الْمُسْتَكْرَهُ مِنْهُ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ) أَيْ: تَرْكَ السَّجْعِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ، فِيهِ: لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِإِسْقَاطِ إِلَّا، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَحْيَى وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنِ الْبَزَّارِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَيْهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا يَجِيءُ فِي غَايَةِ الِانْسِجَامِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِهَادِ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، هَازِمَ الْأَحْزَابِ، وَكَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ وَعْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ الْحَدِيثَ، وَكَقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَيْنٍ لَا تَدْمَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمَكْرُوهُ مِنَ السَّجْعِ هُوَ الْمُتَكَلَّفُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ الضَّرَاعَةَ وَالذِّلَّةَ، وَإِلَّا فَفِي الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ كَلِمَاتٌ مُتَوَازِيَةٌ لَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَكَلَّفَةٍ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهَهُ صلى الله عليه وسلم لِمُشَاكَلَتِهِ كَلَامَ الْكَهَنَةِ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ مِنْ هُذَيْلٍ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: أَصْلُ السَّجْعِ الْقَصْدُ الْمُسْتَوِي، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْكَلَامِ أَمْ غَيْرِهِ.
21 - بَاب لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ
6338 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ، وَلَا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي؛ فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ.
[الحديث 6338 - طرفه في: 7464]
6339 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُستكْرِهَ لَهُ"
[الحديث 6339 - طرفه في: 7477]
قَوْلُهُ: (بَابُ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ) الْمُرَادُ بِالْمَسْأَلَةِ الدُّعَاءُ، وَالضَّمِيرَانِ لِلَّهِ - تَعَالَى -، أَوِ الْأَوَّلُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالثَّانِي لِلَّهِ - تَعَالَى - جَزْمًا، وَمُكْرِهَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ، وَنُسِبَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورِ الدُّعَاءَ وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِالْعَزْمِ الْجِدُّ فِيهِ، وَأَنْ يَجْزِمَ بِوُقُوعِ مَطْلُوبِهِ، وَلَا يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا فِي جَمِيعِ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقِيلَ: مَعْنَى الْعَزْمِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِاللَّهِ فِي الْإِجَابَةِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِيَةِ فِي التَّوْحِيدِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ، وَهَذِهِ كُلُّهَا أَمْثِلَةٌ، وَرِوَايَةُ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يُدْعَى بِهِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ: لِيَعْزِمْ وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لِيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ أَيْ: يُبَالِغْ فِي ذَلِكَ بِتَكْرَارِ الدُّعَاءِ وَالْإِلْحَاحِ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَمْرُ بِطَلَبِ الشَّيْءِ الْعَظِيمِ الْكَثِيرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي آخِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ وَهُمَا بِمَعْنًى، وَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ مَا إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ يَتَأَتَّى إِكْرَاهُهُ عَلَى الشَّيْءِ، فَيُخَفِّفُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، وَيَعْلَمُ بِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ إِلَّا بِرِضَاهُ، وَأَمَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لِلتَّعْلِيقِ فَائِدَةٌ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ فِيهِ صُورَةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمَطْلُوبِ وَالْمَطْلُوبِ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ: فَإِنَّ اللَّهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي إِنْ شِئْتَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَحِيلٌ لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا شَاءَهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَحَمَلَ النَّوَوِيُّ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَهُوَ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الدُّعَاءِ، وَيَكُونَ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَابَةِ، وَلَا يَقْنَطَ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ فَإِنَّهُ يَدْعُو كَرِيمًا، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا الدُّعَاءَ مَا يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ - يَعْنِي مِنَ التَّقْصِيرِ - فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَابَ دُعَاءَ شَرِّ خَلْقِهِ وَهُوَ إِبْلِيسُ حِينَ قَالَ: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيُلِحَّ، وَلَا يَقُلْ: إِنْ شِئْتَ كَالْمُسْت ثْنِي،
وَلَكِنْ دُعَاءُ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ.
قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: كَالْمُسْتَثْنِي إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ لَا يُكْرَهُ، وَهُوَ جَيِّدٌ.
22 - بَاب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَلْ
6340 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ؛ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ) أَيْ: إِذَا دَعَا (مَا لَمْ يَعْجَلْ) وَالتَّعْبِيرُ بِالْعَبْدِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِدْرِيسَ، كَمَا سَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ) اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ) أَيْ: يُجَابُ دُعَاؤُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ}
قَوْلُهُ: (يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي) فِي رِوَايَةٍ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: فَيَقُولُ بِزِيَادَةِ فَاءٍ وَاللَّامُ مَنْصُوبَةٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْأَمُ
فَيَتْرُكُ الدُّعَاءَ، فَيَكُونُ كَالْمَانِّ بِدُعَائِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَتَى مِنَ الدُّعَاءِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِجَابَةَ، فَيَصِيرُ كَالْمُبْخِلِ لِلرَّبِّ الْكَرِيمِ الَّذِي لَا تُعْجِزُهُ الْإِجَابَةُ، وَلَا يُنْقِصُهُ الْعَطَاءُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ: لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَمَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ. قِيلَ: وَمَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يُسْتَجَابُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يَسْتَحْسِرُ - وَهُوَ بِمُهْمَلَاتٍ -: يَنْقَطِعُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَدَبٌ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُلَازِمُ الطَّلَبَ، وَلَا يَيْأَسُ مِنَ الْإِجَابَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ وَإِظْهَارِ الِافْتِقَارِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَأَنَا أَشَدُّ خَشْيَةً أَنْ أُحْرَمَ الدُّعَاءَ مِنْ أَنْ أُحْرَمَ الْإِجَابَةَ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بَابُ الدُّعَاءِ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ الْحَدِيثُ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَوَهَمَ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُخْشَى عَلَى مَنْ خَالَفَ، وَقَالَ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي أَنْ يُحْرَمَ الْإِجَابَةَ، وَمَا قَامَ مَقَامَهَا مِنَ الِادِّخَارِ وَالتَّكْفِيرِ، انْتَهَى.
وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الدُّعَاءِ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الْمُؤْمِنِ لَا تُرَدُّ، وَأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ الْإِجَابَةُ، وَإِمَّا أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا سَأَلَ، فَأَشَارَ الدَّاوُدِيُّ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِقَوْلِهِ: اعْلَمْ أَنَّ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِ لَا يُرَدُّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْأَوْلَى لَهُ تَأْخِيرَ الْإِجَابَةِ، أَوْ يُعَوَّضُ بِمَا هُوَ أَوْلَى لَهُ، عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الطَّلَبَ مِنْ رَبِّهِ؛ فَإِنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِالدُّعَاءِ، كَمَا هُوَ مُتَعَبِّدٌ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ، وَمِنْ جُمْلَةِ آدَابِ الدُّعَاءِ تَحَرِّي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ؛ كَالسُّجُودِ، وَعِنْدَ الْأَذَانِ، وَمِنْهَا تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةُ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ، وَتَقْدِيمُ التَّوْبَةِ، وَالِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ، وَالْإِخْلَاصُ، وَافْتِتَاحُهُ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالسُّؤَالُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ ذُكِرَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: الَّذِي يُتَصَوَّرُ فِي الْإِجَابَةِ وَعَدَمِهَا، أَرْبَعُ صُوَرٍ: الْأُولَى: عَدَمُ الْعَجَلَةِ وَعَدَمُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ، الثَّانِيَةُ: وُجُودُهُمَا، الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ: عَدَمُ أَحَدِهِمَا وَوُجُودُ الْآخَرِ، فَدَلَّ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ الْإِجَابَةَ تَخْتَصُّ بِالصُّورَةِ الْأُولَى دُونَ ثَلَاثٍ، قَالَ: وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} مُقَيَّدٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ.
قُلْتُ: وَقَدْ أُوِّلَ الْحَدِيثُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ قَبْلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِجَابَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
23 - بَاب رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الدُّعَاءِ
قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ
6341 -
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ الْأُوَيْسِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَشَرِيكٍ، سَمِعَا أَنَسًا، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْه.
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الدُّعَاءِ) أَيْ: عَلَى صِفَةٍ خَاصَّةٍ وَسَقَطَ لَفْظُ بَابٍ لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُوسَى) هُوَ الْأَشْعَرِيُّ (دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ قَتْلِ عَمِّهِ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَأَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلُ بِثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ فِي: بَابِ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} .
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا
صَنَعَ خَالِدٌ) وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ غَزْوَةِ بَنِي جَذِيمَةَ - بِجِيمٍ وَمُعْجَمَةٍ وَزْنُ عَظِيمَةٍ - وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا مَعَ شَرْحِهِ فِي الْمَغَازِي بَعْدَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَخَالِدٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأُوَيْسِيُّ: هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَيِ: ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ. وَهَذَا طَرَفٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ بِهَذَا السَّنَدِ مُعَلَّقًا، وَوَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأُوَيْسِيُّ بِهِ، وَأَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ قِصَّةَ الِاسْتِسْقَاءِ مُطَوَّلَةً مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ وَحْدَهُ عَنْ أَنَسٍ مِنْ طُرُقٍ، فِي بَعْضِهَا: وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا: حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ إِلَّا هَذَا، وَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ رَدُّ مَنْ قَالَ: لَا يَرْفَعُ كَذَا إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ، بَلْ فِيهِ وَفِي الَّذِي بَعْدَهُ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ غَيْرَ الِاسْتِسْقَاءِ أَصْلًا، وَتَمَسَّكَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَادِيثِ الْبَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ صِفَةٌ خَاصَّةٌ لَا أَصْلُ الرَّفْعِ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الرَّفْعَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ يُخَالِفُ غَيْرَهُ، إِمَّا بِالْمُبَالَغَةِ إِلَى أَنْ تَصِيرَ الْيَدَانِ فِي حَذْوِ الْوَجْهِ مَثَلًا، وَفِي الدُّعَاءِ إِلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: حَتَّى يَرَى بَيَاضَ إِبْطَيْهِ بَلْ يُجْمَعُ بِأَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ الْبَيَاضِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ أَبْلَغَ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَإِمَّا أَنَّ الْكَفَّيْنِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ يَلِيَانِ الْأَرْضَ، وَفِي الدُّعَاءِ يَلِيَانِ السَّمَاءَ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَبِتَقْدِيرِ تَعَذُّرِ
الْجَمْعِ فَجَانِبُ الْإِثْبَاتِ أَرْجَحُ، قُلْتُ: وَلَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً أَفْرَدَهَا الْمُنْذِرِيُّ فِي جُزْءٍ سَرَدَ مِنْهَا النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ جُمْلَةً وَعَقَدَ لَهَا الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بَابًا ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ دُونَ قَوْلِهِ: وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ: أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو هَاجَرَ فَذَكَرَ قِصَّةَ الرَّجُلِ الَّذِي هَاجَرَ مَعَهُ وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهَا رَأَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو رَافِعًا يَدَيْهِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ الْحَدِيثَ وَهُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي جُزْءِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو لِعُثْمَانَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فِي قِصَّةِ الْكُسُوفِ: فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَدْعُو، وَعِنْدَهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْكُسُوفِ أَيْضًا: ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو، وَفِي حَدِيثِهَا عِنْدَهُ فِي دُعَائِهِ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الْحَدِيثَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الطَّوِيلِ فِي فَتْحِ مَكَّةَ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَدْعُو، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي قِصَّةِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ: ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ.
وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمًا، ثُمَّ سَرَّى عَنْهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا، الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو، فَمَالَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فَسَقَطَ خِطَامُهَا، فَتَنَاوَلَهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ رَافِعٌ الْيَدَ الْأُخْرَى أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَفِي حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْحَدِيثَ، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ
رُوَيْبَةَ - بِرَاءٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ - أَنَّهُ: رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا يُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ فَقَدْ حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ، وَقَالَ: السُّنَّةُ أَنَّ الدَّاعِيَ يُشِيرُ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ، وَرَدَّهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْخَطِيبِ حَالَ الْخُطْبَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّمَسُّكِ بِهِ فِي مَنْعِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ، مَعَ ثُبُوتِ الْأَخْبَارِ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ رَفَعَهُ: إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، أَيْ: خَالِيَةً، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَكَرِهَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ ابْنُ عُمَرَ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَرَأَى شُرَيْحٌ رَجُلًا يَرْفَعُ يَدَيْهِ دَاعِيًا، فَقَالَ: مَنْ تَتَنَاوَلُ بِهِمَا لَا أُمَّ لَكَ؟ وَسَاقَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ عَنْهُمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ غَانِمٍ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ: وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَيَخْتَصُّ الرَّفْعُ بِالِاسْتِسْقَاءِ، وَيَجْعَلُ بُطُونَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّمَا أَنْكَرَ رَفْعَهُمَا إِلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ، وَقَالَ: لِيَجْعَلْهُمَا حَذْوَ صَدْرِهِ، كَذَلِكَ أَسْنَدَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ أَيْضًا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ صِفَةُ الدُّعَاءِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ، وَالِاسْتِغْفَارُ أَنْ تُشِيرَ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ، وَالِابْتِهَالُ أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُجَاوِزَ بِهِمَا رَأْسَهُ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَدْعُو عِنْدَ الْقَاصِّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، بَاطِنُهُمَا مِمَّا يَلِيهِ، وَظَاهِرُهُمَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ.
24 - بَاب الدُّعَاءِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ
6342 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَتَغَيَّمَتْ السَّمَاءُ وَمُطِرْنَا حَتَّى مَا كَادَ الرَّجُلُ يَصِلُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمْ تَزَلْ تُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ - أَوْ غَيْرُهُ - فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا، فَقَدْ غَرِقْنَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَقَطَّعُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَلَا يُمْطِرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ - أَوْ غَيْرُهُ - فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَ عَنَّا، فَقَدْ غَرِقْنَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي الْأَوَّلِ: فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا وَوَجْهٌ أَخْذَهُ مِنَ التَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَطِيبَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَعَا فِي الْمَرَّتَيْنِ اسْتَدَارَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي آخِرِهِ: وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَلَا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.
25 - بَاب الدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
6343 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هَذَا الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، فَدَعَا وَاسْتَسْقَى، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، فَدَعَا وَاسْتَسْقَى، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا، يُرِيدُ أَنَّهُ قَدَّمَ الدُّعَاءَ قَبْلَ الِاسْتِسْقَاءِ، ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنَّهُ لَمَّا تَحَوَّلَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ دَعَا حِينَئِذٍ أَيْضًا، قُلْتُ: وَهُوَ كَذَلِكَ، فَأَشَارَ كَعَادَتِهِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ مَضَى فِي الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: وَأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَتَرْجَمَ لَهُ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الدُّعَاءِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ، أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَنَسٍ كَانَتْ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ بِالْمَسْجِدِ، وَالْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ كَانَتْ بِالْمُصَلَّى، وَقَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، فَصَارَ حَدِيثُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيَسْقُطُ بِذَلِكَ اعْتِرَاضُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الدُّعَاءِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا حَدِيثُ عُمَرَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَقَدْ قَدَّمْتُهُ فِي بَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ، وَلِمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَعْبَةَ، فَدَعَا عَلَى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَارِقٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا جَازَ مَكَانًا مِنْ دَارِ يَعْلَى اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَبْرِ عَبْدِ اللَّهِ ذِي البجَادَيْنِ، الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ رَافِعًا يَدَيْهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ.
26 - بَاب دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِخَادِمِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ وَبِكَثْرَةِ مَالِهِ
6344 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَادِمُكَ أَنَسٌ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِخَادِمِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ وَبِكَثْرَةِ مَالِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ: قَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَادِمُكَ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ)، الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى قَرِيبًا، وَذَكَرَهُ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ الْعُمُرِ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، أَنَّ الدُّعَاءَ بِكَثْرَةِ الْوَلَدِ يَسْتَلْزِمُ حُصُولَ طُولِ الْعُمُرِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِنَوْعٍ مِنَ الْمَجَازِ، بِأَنْ يُرَادَ أَنَّ كَثْرَةَ الْوَلَدِ فِي الْعَادَةِ تَسْتَدْعِي بَقَاءَ ذِكْرِ الْوَلَدِ مَا بَقِيَ أَوْلَادُهُ، فَكَأَنَّهُ حَيٌّ.
وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ أَشَارَ كَعَادَتِهِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَأَخْرَجَ فِي
الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ - وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ -: خُوَيْدِمُكَ أَلَا تَدْعُو لَهُ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَطِلْ حَيَاتَهُ وَاغْفِرْ لَهُ، فَأَمَّا كَثْرَةُ وَلَدِ أَنَسٍ وَمَالِهِ فَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ: قَالَ أَنَسٌ: فَوَاللَّهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ، وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ: الطَّاعُونِ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي كِتَابِ الطِّبِّ قَوْلُ أَنَسٍ: أَخْبَرَتْنِي ابْنَتِي أَمِينَةُ أَنَّهُ دُفِنَ مِنْ صُلْبِي إِلَى يَوْمِ مَقْدِمِ الْحَجَّاجِ الْبَصْرَةَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ: كَانَ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ أَوْلَادًا، وَقَدْ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ: كَانَ بِالْبَصْرَةِ ثَلَاثَةٌ مَا مَاتُوا حَتَّى رَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ وَلَدِهِ مِائَةَ ذَكَرٍ لِصُلْبِهِ، أَبُو بَكْرَةَ، وَأَنَسٌ، وَخَلِيفَةُ بْنُ بَدْرٍ، وَزَادَ غَيْرُهُ رَابِعًا، وَهُوَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي ذِكْرِ أَنَسٍ: وَكَانَ لَهُ بُسْتَانٌ يَأْتِي فِي كُلِّ سَنَةٍ الْفَاكِهَةَ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ فِيهِ رَيْحَانٌ يَجِيءُ مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَمَّا طُولُ عُمُرِ أَنَسٍ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّهُ كَانَ فِي الْهِجْرَةِ ابْنَ تِسْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ فِيمَا قِيلَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَلَهُ مِائَةٌ وَثَلَاثُ سِنِينَ، قَالَهُ خَلِيفَةُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي سِنِّهِ أَنَّهُ بَلَغَ مِائَةً وَسَبْعَ سِنِينَ، وَأَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ: تِسْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً.
27 - بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْكَرْبِ
6345 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
[الحديث 6345 - أطرافه في 6346، 7421، 7431]
6346 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَقَالَ وَهْبٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْكَرْبِ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، هُوَ مَا يُدْهِمُ الْمَرْءَ، مِمَّا يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ فَيَغُمُّهُ وَيُحْزِنُهُ.
قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) وَفِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ هُوَ الرِّيَاحِيُّ بِتَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ وَاسْمُهُ رُفَيْعٌ، وَقَدْ رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْهُ بِالْعَنْعَنَةِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ شُعْبَةُ: إِنَّمَا سَمِعَ قَتَادَةُ مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: حَدِيثَ يُونُسَ بْنِ مَتَّى، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثَ الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ. وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْمَرَاسِيلِ بِسَنَدِهِ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: لَمْ يَسْمَعْ قَتَادَةُ مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ فَذَكَرَهَا بِنَحْوِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَعْتَبِرْ
بِهَذَا الْحَصْرِ؛ لِأَنَّ شُعْبَةَ مَا كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُدَلِّسِينَ إِلَّا بِمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمُدَلِّسُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ، وَقَدْ حَدَّثَ شُعْبَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ قَتَادَةَ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِهِ لَهُ مُعَلَّقًا فِي آخِرِ التَّرْجَمَةِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ حَدَّثَهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي سَمَاعِهِ لَهُ مِنْهُ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ غَيْرَ هَذَا، وَهُوَ حَدِيثُ رُؤْيَةِ مُوسَى وَغَيْرِهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْمُعَلَّقِ: وَقَالَ وَهْبٌ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ: وُهَيْبٌ بِالتَّصْغِيرِ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: الصَّوَابُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ: وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ أَيِ ابْنِ حَازِمٍ، فَأَزَالَ الْإِشْكَالَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ ابْنُ خَالِدٍ، فَقَالَ: سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ. فَظَهَرَ أَنَّهُ عِنْدَ وُهَيْبٍ بِالتَّصْغِيرِ عَنْ سَعِيدٍ بِالْمُهْمَلَةِ وَالدَّالِ، وَعِنْدَ وَهْبٍ بِسُكُونِ الْهَاءِ عَنْ شُعْبَةَ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ) أَيْ: عِنْدَ حُلُولِ الْكَرْبِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ: كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ، وَيَقولُهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: هَجَمَ عَلَيْهِ أَوْ غَلَبَهُ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ: لَقَّنَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَأَمَرَنِي إِنْ نَزَلَ بِي كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ أَنْ أَقُولَهُا.
قَوْلُهُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِلَفْظِ: وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، وَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ بَدَلَ: الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ وَوَقَعَ جَمِيعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، لَكِنْ قَالَ: الْعَلِيمُ الْحَلِيمُ بِاللَّامِ بَدَلَ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَذَا هُوَ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، وَقَالَ: الْعَظِيمُ بَدَلَ الْعَلِيمُ.
وَقَالَ وَهْبٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ) نَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ رَوَاهُ بِرَفْعِ الْعَظِيمِ، وَكَذَا بِرَفْعِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِهِ: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ عَلَى أَنَّهُمَا نَعْتَانِ لِلرَّبِّ، وَالَّذِي ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْجُمْهُورِ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَرْشِ، وَكَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} - وَ: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالْجَرِّ فِيهِمَا وَجَاءَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ، وَأُعْرِبَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعَ الرَّفْعِ نَعْتًا لِلْعَرْشِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قُطِعَ عَمَّا قَبْلَهُ لِلْمَدْحِ، وَرُجِّحَ لِحُصُولِ تَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَرَجَّحَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الرَّبِّ بِالْعَظِيمِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِ الْعَرْشِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ وَصْفَ مَا يُضَافُ لِلْعَظِيمِ بِالْعَظِيمِ أَقْوَى فِي تَعْظِيمِ الْعَظِيمِ، فَقَدْ نَعَتَ الْهُدْهُدُ عَرْشَ بَلْقِيسَ بِأَنَّهُ عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحَلِيمُ: الَّذِي يُؤَخِّرُ الْعُقُوبَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالْعَظِيمُ: الَّذِي لَا شَيْءَ يَعْظُمُ عَلَيْهِ، وَالْكَرِيمُ: الْمُعْطِي فَضْلًا، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدٌ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى قَرِيبًا.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: صَدَّرَ هَذَا الثَّنَاءَ بِذِكْرِ الرَّبِّ؛ لِيُنَاسِبَ كَشْفَ الْكَرْبِ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى التَّرْبِيَةِ، وَفِيهِ التَّهْلِيلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ أَصْلُ التَّنْزِيهَاتِ الْجَلَالِيَّةِ وَالْعَظَمَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الْقُدْرَةِ، وَالْحِلْمُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ، إِذِ الْجَاهِلُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ حِلْمٌ وَلَا كَرَمٌ، وَهُمَا أَصْلُ الْأَوْصَافِ الْإِكْرَامِيَّةِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ، تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَفِي لَفْظٍ: الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ فِي الْأَوَّلِ، وَفِي لَفْظٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، وَفِي لَفْظٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَهُ تبارك وتعالى، رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَخْرَجَهَا كُلَّهَا النَّسَائِيُّ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَدْعُو وَإِنَّمَا هُوَ تَهْلِيلٌ وَتَعْظِيمٌ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيمُ ذَلِكَ قُبَيْلَ الدُّعَاءِ، كَمَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ يَدْعُو، قُلْتُ: وَكَذَا هُوَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ، فَذَكَرَ الذِّكْرَ الْمَأْثُورَ، وَزَادَ: ثُمَّ دَعَا، وَفِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: اللَّهُمَّ اصْرِفْ عَنِّي شَرَّهُ قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: إِذَا بَدَأَ الرَّجُلُ بِالثَّنَاءِ قَبْلَ الدُّعَاءِ اسْتُجِيبَ، وَإِذَا بَدَأَ بِالدُّعَاءِ قَبْلَ الثَّنَاءِ كَانَ عَلَى الرَّجَاءِ.
ثَانِيهِمَا مَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِيمَا حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: أَكْثَرُ مَا كَانَ يَدْعُو بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ سُفْيَانُ: هُوَ ذِكْرٌ، وَلَيْسَ فِيهِ دُعَاءٌ، وَلَكِنْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ عز وجل: مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي، أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ قَالَ: وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي مَدْحِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي
…
حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا
…
كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَاءُ
قَالَ سُفْيَانُ: فَهَذَا مَخْلُوقٌ حِينَ نُسِبَ إِلَى الْكَرَمِ اكْتَفَى بِالثَّنَاءِ عَنِ السُّؤَالِ، فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ؟ قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَفَعَهُ: دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَفِي لَفْظٍ لِلْحَاكِمِ: فَقَالَ رَجُلٌ: أَكَانَتْ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} ؟ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ قَالَ: كُنْتُ بِأَصْبَهَانَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، أَكْتُبُ الْحَدِيثَ، وَهُنَاكَ شَيْخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ مَدَارُ الْفُتْيَا، فَسُعِيَ بِهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ فَسُجِنَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ بِالتَّسْبِيحِ لَا يَفْتُرُ، فَقَالَ لِي صلى الله عليه وسلم قُلْ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَلِيٍّ يَدْعُو بِدُعَاءِ الْكَرْبِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: فَأَصْبَحْتُ، فَأَخْبَرْتُهُ فَدَعَا بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى أُخْرِجَ. انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَتَبَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حَيَّانَ: انْظُرِ الْحَسَنَ بْنَ الْحَسَنِ فَاجْلِدْهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَأَوْقِفْهُ لِلنَّاسِ، قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَجِيءَ بِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَمِّ، تَكَلَّمْ بِكَلِمَاتِ الْفَرَجِ يُفَرِّجِ اللَّهُ عَنْكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ بِاللَّفْظِ الثَّانِي، فَقَالَهَا: فَرَفَعَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: أَرَى وَجْهَ رَجُلٍ كُذِبَ عَلَيْهِ؛ خَلُّوا سَبِيلَهُ، فَسَأَكْتُبُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِعُذْرِهِ فَأُطْلِقَ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا زَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ابْنَتَهُ قَالَ لَهَا: إِنْ نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ فَاسْتَقْبِلِيهِ بِأَنْ تَقُولِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَالَ الْحَسَنُ: فَأَرْسَلَ إِلَيَّ الْحَجَّاجُ فَقُلْتُهُنَّ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَكَ فَلَأَنْتَ الْيَوْمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا وَزَادَ فِي لَفْظٍ فَسَلْ حَاجَتَكَ، وَمِمَّا وَرَدَ مِنْ
دَعَوَاتِ الْكَرْبِ مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِيهِنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ؟ اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَفَعَهُ: دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ، اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.
28 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ
6347 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي سُمَيٌّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ.
قَالَ سُفْيَانُ: الْحَدِيثُ ثَلَاثٌ، زِدْتُ أَنَا وَاحِدَةً، لَا أَدْرِي أَيَّتُهُنَّ هِيَ.
[الحديث 6347 - طرفه في 6616]
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ) الْجَهْدُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَبِضَمِّهَا الْمَشَقَّةُ، وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَالْبَلَاءُ بِالْفَتْحِ مَعَ الْمَدِّ وَيَجُوزُ الْكَسْرُ مَعَ الْقَصْرِ.
قَوْلُهُ: (سُمَيٌّ) بِالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ هُوَ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يَتَعَوَّذُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَرَوَاهُ مُسَدَّدٌ، عَنْ سُفْيَانَ بِسَنَدِهِ هَذَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ: تَعَوَّذُوا، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ.
قَوْلُهُ: (وَدَرَكِ الشَّقَاءِ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَيَجُوزُ سُكُونُ الرَّاءِ وَهُوَ الْإِدْرَاكُ وَاللِّحَاقُ وَالشَّقَاءُ، بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ قَافٍ هُوَ الْهَلَاكُ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّبَبِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (الْحَدِيثُ ثَلَاثٌ زِدْتُ أَنَا وَاحِدَةً لَا أَدْرِي أَيَّتُهُنَّ)، أَيِ ال حَدِيثُ الْمَرْفُوعُ الْمَرْوِيُّ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ جُمَلٍ مِنَ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ، وَالرَّابِعَةُ زَادَهَا سُفْيَانُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، ثُمَّ خَفِيَ عَلَيْهِ تَعْيِينُهَا، وَوَقَعَ عِنْدَ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ: الْحَدِيثُ ثَلَاثٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ، وَلَمْ يُفَصِّلْ ذَلِكَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ سُفْيَانَ، وَفِي ذَلِكَ تَعَقُّبٌ عَلَى الْكَرْمَانِيِّ حَيْثُ اعْتَذَرَ عَنْ سُفْيَانَ فِي جَوَابِ مَنِ اسْتَشْكَلَ جَوَازَ زِيَادَتِهِ الْجُمْلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِدْرَاجُ فِي الْحَدِيثِ، فَقَالَ يُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ كَانَ يُمَيِّزُهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَسَيَأْتِي فِي الْقَدَرِ عَنْ مُسَدَّدٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بِالْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا قَالَ عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ: قَالَ سُفْيَانُ: أَشُكُّ أَنِّي زِدْتُ وَاحِدَةً مِنْهَا، وَأَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، فَاقْتَصَرَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ.
وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَصْلَةَ الْمَزِيدَةَ هِيَ: شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُجَاعِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ سُفْيَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى الثَّلَاثَةِ دُونَهَا، وَعُرِفَ مِنْ ذَلِكَ تَعْيِينُ الْخَصْلَةِ الْمَزِيدَةِ، وَيُجَابُ عَنِ النَّظَرِ بِأَنَّ سُفْيَانَ كَانَ إِذَا حَدَّثَ مَيَّزَهَا، ثُمَّ طَالَ الْأَمْرُ فَطَرَقَهُ السَّهْوُ عَنْ تَعْيِينِهَا فَحَفِظَ بَعْضُ مَنْ سَمِعَ تَعْيِينَهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَطْرُقَهُ السَّهْوُ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ أَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ
تَعْيِينُهَا يَذْكُرُ كَوْنَهَا مَزِيدَةً مَعَ إِبْهَامِهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ الْحَالُ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ تَمْيِيزُهَا لَا تَعْيِينًا وَلَا إِبْهَامًا، أَنْ يَكُونَ ذَهِلَ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ عَيَّنَ، أَوْ مَيَّزَ، فَذَهِلَ عَنْهُ بَعْضُ مَنْ سَمِعَ، وَيَتَرَجَّحُ كَوْنُ الْخَصْلَةِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ الْمَزِيدَةَ بِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ مُسْتَقِلَّةٌ؛ فَإِنَّ كُلَّ أَمْرٍ يُكْرَهُ يُلَاحَظُ فِيهِ جِهَةُ الْمَبْدَأِ، وَهُوَ سُوءُ الْقَضَاءِ وَجِهَةُ الْمَعَادِ وَهُوَ دَرَكُ الشَّقَاءِ؛ لِأَنَّ شَقَاءَ الْآخِرَةِ هُوَ الشَّقَاءُ الْحَقِيقِيُّ، وَجِهَةُ الْمَعَاشِ وَهُوَ جَهْدُ الْبَلَاءِ، وَأَمَّا شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ فَتَقَعُ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ لَهُ كُلٌّ مِنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: جَهْدُ الْبَلَاءِ، كُلُّ مَا أَصَابَ الْمَرْءَ مِنْ شِدَّةِ مَشَقَّةٍ وَمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِحَمْلِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِجَهْدِ الْبَلَاءِ قِلَّةُ الْمَالِ وَكَثْرَةُ الْعِيَالِ، كَذَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ جَهْدِ الْبَلَاءِ.
وَقِيلَ: هُوَ مَا يَخْتَارُ الْمَوْتَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَدَرَكُ الشَّقَاءِ يَكُونُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَفِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ سُوءُ الْقَضَاءِ عَامٌّ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَالْخَاتِمَةِ وَالْمَعَادِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ هُنَا الْمَقْضِيُّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ كُلَّهُ حَسَنٌ لَا سُوءَ فِيهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْقَضَاءُ: الْحُكْمُ بِالْكُلِّيَّاتِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فِي الْأَزَلِ، وَالْقَدَرُ الْحُكْمُ بِوُقُوعِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي لِتِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَشَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ مَا يَنْكَأُ الْقَلْبَ، وَيَبْلُغُ مِنَ النَّفْسِ أَشَدَّ مَبْلَغٍ، وَإِنَّمَا تَعَوَّذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَانَ آمَنَهُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ عِيَاضٌ. قُلْتُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَعَاذَ بِرَبِّهِ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ بِأُمَّتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسَدَّدٍ الْمَذْكُورَةُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ فَرَحُهُمْ بِبَلِيَّةٍ تَنْزِلُ بِالْمُعَادِي، قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِاسْتِحْبَابِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ، وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنَ الزُّهَّادِ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَسْجُوعَ لَا يُكْرَهُ إِذَا صَدَرَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَيْهِ وَلَا تَكَلُّفٍ، قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، قَالَ: وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الِاسْتِعَاذَةِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ كَوْنُ مَا سَبَقَ فِي الْقَدَرِ لَا يُرَدُّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا قَضَى، فَقَدْ يُقْضَى عَلَى الْمَرْءِ مَثَلًا بِالْبَلَاءِ، وَيُقْضَى أَنَّهُ إِنْ دَعَا كُشِفَ، فَالْقَضَاءُ مُحْتَمِلٌ لِلدِّفَاعِ وَالْمَدْفُوعِ، وَفَائِدَةُ الِاسْتِعَاذَةِ وَالدُّعَاءِ إِظْهَارُ الْعَبْدِ فَاقَتَهُ لِرَبِّهِ وَتَضَرُّعَهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.
29 - بَاب دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى
6348 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: لَنْ يُقْبَضَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، قُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى.
قَوْلُهُ: (بَاب) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
الرَّفِيقَ الْأَعْلَى وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَتَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَقَضِيَّةُ سِيَاقِهَا هُنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَوَّذْ فِي مَرَضٍ مَوْتِهِ بِذَلِكَ، بَلْ تَقَدَّمَ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ: فَذَهَبْتُ أَعُودُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدٍ مِنْهُمْ صَرِيحًا، وَقَدْ رَوَى أَصْلَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنْ عَائِشَةَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الزُّهْرِيُّ عَنَاهُمْ، أَوْ بَعْضَهُمْ.
30 - بَاب الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ
6349 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعًا، قَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ.
6350 -
حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ: أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعًا فِي بَطْنِهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ.
6351 -
حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ: وَبِالْحَيَاةِ وَهُوَ أَوْضَحُ.
وَفِيهِ حَدِيثَانِ: الْأَوَّلُ: حَدِيثُ خَبَّابٍ، وَيَحْيَى فِي سَنَدِهِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَهُ عَنْ مُسَدَّدٍ، وَكِلَاهُمَا يَرْوِيهِ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ؛ لِمَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى مِنَ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فِي بَطْنِهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَبَاقِي سِيَاقِهِمَا سَوَاءٌ، وَوَقَعَتِ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ، وَهِيَ غَلَطٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ عِيَادَةِ الْمَرْضَى
الثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسٍ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَحَدٌ مِنْكُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا هُنَاكَ
31 - بَاب الدُّعَاءِ لِلصِّبْيَانِ بِالْبَرَكَةِ وَمَسْحِ رُءُوسِهِمْ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: وُلِدَ لِي غُلَامٌ وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَرَكَةِ
6352 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ الْجَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ.
6353 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عَقِيلٍ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ مِنْ السُّوقِ - أَوْ إِلَى السُّوقِ - فَيَشْتَرِي الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ عُمَرَ، فَيَقُولَانِ: أَشْرِكْنَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ، فَيُشْرِكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ، فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ.
6354 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهُوَ الَّذِي مَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَهُوَ غُلَامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ.
6355 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيَدْعُو لَهُمْ، فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
6356 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَسَحَ عَيْنَهُ - أَنَّهُ رَأَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ لِلصِّبْيَانِ بِالْبَرَكَةِ وَمَسْحُ رُءُوسِهِمْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ: وَمَسْحُ رَأْسِهِ بِالْإِفْرَادِ، وَوَرَدَ فِي فَضْلِ مَسْحِ رَأْسِ الْيَتِيمِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِلَفْظِ: مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ، لَا يَمْسَحُهُ إِلَّا لِلَّهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَمُرُّ يَدُهُ عَلَيْهَا حَسَنَةٌ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا شَكَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ: أَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَذَكَرَ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ. الحديث الأول:
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُوسَى: وُلِدَ لِي مَوْلُودٌ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْعَقِيقَةِ، وَاسْمُ الْوَلَدِ الْمَذْكُورِ إِبْرَاهِيمُ. الثاني:
قَوْلُهُ: (حَاتِمٌ) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَالْجَعْدُ يُقَالُ فِيهِ الْجُعَيْدُ بِالتَّصْغِيرِ، وَالسَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ يُعْرَفُ بِابْنِ أُخْتِ النَّمِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ فِي أَوَائِلِ التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ، وَفِي بَابِ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ.
الثالث: قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عَقِيلٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَاسْمُهُ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ هُوَ التَّيْمِيُّ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِهِ فِي الشَّرِكَةِ.
الرابع: قَوْلُهُ: (مَحْمُودُ بْنُ رَبِيعٍ وَهُوَ الَّذِي مَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَهُوَ غُلَامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَأَوْرَدَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي الطَّهَارَةِ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْخَبَرَ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ مَحْمُودٌ، وَهُوَ حَدِيثُهُ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي بَابِ إِذَا دَخَلَ بَيْتًا صَلَّى حَيْثُ شَاءَ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ الَّذِي أَوْرَدَهُ هُنَا إِلَى مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَزَادَ: عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِكَ الْحَدِيثَ، وَأَوْرَدَهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَهُ مُطَوَّلًا، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ مَحْمُودٍ فِي الْمَجَّةِ، وَذَكَرَ فِي الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَحْمُودٍ مُقْتَصِرًا عَلَى قِصَّةِ
الْمَجَّةِ أَتَمَّ مِمَّا هُنَا، قَالَ: عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً وَقَدْ شَرَحْتُهُ هُنَاكَ، وَأَوْرَدَهُ قَبْلَ بَابُ الذِّكْرِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مُطَوَّلًا بِقِصَّةِ الْمَجَّةِ وَبِحَدِيثِ عِتْبَانَ، وَأَوْرَدَهُ فِي الرِّقَاقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَذَلِكَ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ، وَقَدْ أَوْرَدَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ عِتْبَانَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْهَا لِلْأَوْزَاعِيِّ عَنْهُ قِصَّةُ مَحْمُودٍ فِي الْمَجَّةِ، وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ، فَتَرْجَمَ
لِمَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ فِي الصَّحَابَةِ الَّذِينَ انْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِتَخْرِيجِ حَدِيثِهِمْ وَسَاقَ لَهُ حَدِيثَ الْمَجَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْبُخَارِيَّ أَفْرَدَهُ وَلَمْ يُفْرِدْهُ مُسْلِمٌ ظَنَّ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ.
الْخَامِسُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْغُلَامِ الَّذِي بَالَ فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
السَّادِسُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ وَهُوَ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ، وَأَبُوهُ ثَعْلَبَةُ صَحَابِيٌّ أَيْضًا وَيُقَالُ فِيهِ: ابْنُ أَبِي صُعَيْرٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَيْنَهُ) كَذَا هُنَا بِاخْتِصَارٍ، وَتَقَدَّمَ مُعَلَّقًا فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: مَسَحَ وَجْهَهُ عَامَ الْفَتْحِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ وَوَقَعَ فِي الزُّهْرِيَّاتِ لِلذُّهْلِيِّ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: مَسَحَ وَجْهَهُ زَمَنَ الْفَتْحِ كَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّهُ رَأَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ) سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِ الْوِتْرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ: رَكْعَةً وَاحِدَةً بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ وَسَبَقَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الْوِتْرِ بِرَكْعَةٍ فَرْدَةٍ مُسْتَوْفًى.
32 - بَاب الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
6357 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً؟ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَقُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
6358 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْإِطْلَاقُ يَحْتَمِلُ حُكْمَهَا وَفَضْلَهَا وَصِفَتَهَا وَمَحَلَّهَا، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الثَّالِثِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الثَّانِي، أَمَّا حُكْمُهَا فَحَاصِلُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ عَشَرَةُ مَذَاهِبَ
أَوَّلُهَا: قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ: إِنَّهَا مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
ثَانِيهَا: مُقَابِلُهُ، وَهُوَ نَقْلُ ابْنِ الْقِصَارِ وَغَيْرِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ حَصْرٍ، لَكِنْ أَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِجْزَاءُ مَرَّةً.
ثَالِثُهَا: تَجِبُ فِي الْعُمْرِ فِي صَلَاةٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ مِثْلُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ: لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهَا فِي الْعُمْرِ مَرَّةً، وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ حِينٍ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَسَبَقَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
رَابِعُهَا: تَجِبُ فِي الْقُعُودِ آخِرَ الصَّلَاةِ بَيْنَ قَوْلِ التَّشَهُّدِ وَسَلَامِ التَّحَلُّلِ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ.
خَامِسُهَا: تَجِبُ فِي التَّشَهُّدِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ.
سَادِسُهَا: تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ.
سَابِعُهَا: يَجِبُ الْإِكْثَارُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِعَدَدٍ، قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ بُكَيْرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
ثَامِنُهَا. كُلَّمَا ذُكِرَ، قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَلِيمِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ الْأَحْوَطُ، وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ.
تَاسِعهَا: فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مَرَّةً، وَلَوْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ مِرَارًا، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
عَاشِرُهَا: فِي كُلِّ دُعَاءٍ، حَكَاهُ أَيْضًا.
وَأَمَّا مَحَلُّهَا فَيُؤْخَذُ مِمَّا أَوْرَدْتُهُ مِنْ بَيَانِ الْآرَاءِ فِي حُكْمِهَا، وَسَأَذْكُرُ مَا وَرَدَ فِيهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى فَضْلِهَا، وَأَمَّا صِفَتُهَا فَهِيَ أَصْلُ مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَكَمُ) لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ عَنْ شُعْبَةَ إِلَّا هَكَذَا غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَهُوَ فَقِيهُ الْكُوفَةِ فِي عَصْرِهِ، وَهُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِمُثَنَّاةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ، وَوَقَعَ عَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ وَغَيْرِهِ مَنْسُوبًا، قَالُوا: عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وَهُوَ وَالِدُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَقِيهِ الْكُوفَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ.
قَوْلُهُ: (لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ) فِي رِوَايَةِ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَنَقَلَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ أَنْصَارِيٌّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَتَعَقَّبَهُ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْهُ فِي نَسَبِ الْأَنْصَارِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بَلَوِيٌّ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُ بَلَوِيٌّ حَالَفَ الْأَنْصَارَ، وَعَيَّنَ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنِ الْحَكَمِ الْمَكَانَ الَّذِي الْتَقَيَا بِهِ، فَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: أَنَّ كَعْبًا قَالَ لَهُ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ.
قَوْلُهُ: (أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً) زَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ جَدِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ: سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْنَا) يَجُوزُ فِي أَنَّ الْفَتْحَ وَالْكَسْرَ، وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ: فِي هَذَا السِّيَاقِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: نَعَمْ، فَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: وَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ شَبَّابَةَ، وَعَفَّانَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ أَخْرَجَهُ الْخِلَعِيُّ فِي فَوَائِدِهِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْمَذْكُورَةِ، وَلَفْظُهُ: فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَهْدِهَا لِي، فَقَالَ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: قُلْنَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْبَابِ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي بُرَيْدَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَفِي حَدِيثِ طَلْحَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ: قُلْنَا - أَوْ قَالُوا -: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِالشَّكِّ، وَالْمُرَادُ الصَّحَابَةُ أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ، وَوَقَعَ عِنْدَ السَّرَّاجِ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْحَكَمِ بِهِ: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا، وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ السُّؤَالَ صَدَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ لَا مِنْ جَمِيعِهِمْ، فَفِيهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ، ثُمَّ قَالَ: وَيَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يَكُونَ كَعْبٌ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ السُّؤَالَ مُنْفَرِدًا، فَأَتَى بِالنُّونِ الَّتِي لِلتَّعْظِيمِ، بَلْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ بِقَوْلِهِ: قُولُوا، فَلَوْ كَانَ السَّائِلُ وَاحِدًا لَقَالَ لَهُ قُلْ، وَلَمْ يَقُلْ قُولُوا.
انْتَهَى، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ نَفْيِ الْجَوَازِ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَسْأَلَ الصَّحَابِيُّ الْوَاحِدُ عَنِ الْحُكْمِ، فَيُجِيبُ صلى الله عليه وسلم بِصِيغَةِ الْجَمْعِ إِشَارَةً إِلَى اشْتَرَاكِ الْكُلِّ فِي الْحُكْمِ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ فِي نَفْسِ السُّؤَالِ: قَدْ عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي؟ كُلُّهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، فَحَسُنَ الْجَوَابُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، لَكِنَّ الْإِتْيَانَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ فِي
خِطَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُظَنُّ بِالصَّحَابِيِّ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ السَّائِلَ كَانَ مُتَعَدِّدًا فَوَاضِحٌ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ وَاحِدًا فَالْحِكْمَةُ فِي الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ السُّؤَالَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ بَلْ يُرِيدُ نَفْسَهُ وَمَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَحَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْجَمْعِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَى أَنَّ الَّذِي نَفَاهُ الْفَاكِهَانِيُّ قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، فَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الْحَكَمِ بِلَفْظِ: قُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ الْحَدِيثَ، وَقَدْ وَقَفْتُ مِنْ تَعْيِينِ مَنْ بَاشَرَ السُّؤَالَ عَلَى جَمَاعَةٍ وَهُمْ: كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَبَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ وَالِدُ النُّعْمَانِ، وَزَيْدُ بْنُ خَارِجَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بَشِيرٍ، أَمَّا كَعْبٌ فَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ بِهَذَا السَّنَدِ بِلَفْظِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا وَأَمَّا بَشِيرٌ فَفِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ عِنْدَ مَالِكٍ،
وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ الْحَدِيثَ، وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ خَارِجَةَ فَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: أَنَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَلُّوا عَلَيَّ وَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، وَقُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ وَمَخْرَجُ حَدِيثِهِمَا وَاحِدٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَشِيرٍ فَأَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ فَضْلِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُلْتُ: - أَوْ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا عِنْدَهُ عَلَى الشَّكِّ، وَأَبْهَمَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَجْلَحِ، وَحَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنِ الْحَكَمِ السَّائِلَ وَلَفْظُهُ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا وَوَقَعَ لِهَذَا السُّؤَالِ سَبَبٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْخِلَعِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَاحِ الزَّعْفَرَانِيِّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَمِسْعَرٌ، وَمَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الْآيَةَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
زَكَرِيَّا، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ بَلْ أَحَالَ بِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَهُوَ عَلَى شَرْطِهِ، وَأَخْرَجَهُ السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ وَحْدَهُ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ، وَالسَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، وَزَائِدَةُ فَرَّقَهُمَا، وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ، وَحَمْزَةُ الزَّيَّاتُ كُلُّهُمْ عَنِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو عَوَانَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى مِثْلَهُ، وَفِي حَدِيثِ طَلْحَةَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} الْآيَةَ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟
قَوْلُهُ: (قَدْ عَلِمْنَا) الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ اللَّامِ مُخَفَّفًا، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ ضَمُّ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَبِالشَّكِّ، وَلَفْظُهُ: قُلْنَا: قَدْ عُلِّمْنَاهُ أَوْ عُلِّمْنَا رُوِّينَاهُ فِي الْخَلِيعَاتِ، وَكَذَا أَخْرَجَ السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنِ الْحَكَمِ بِلَفْظِ: عُلِّمْنَا أَوْ عُلِّمْنَاهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَةِ: أَمَرْتَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، وَأَنْ نُسَلِّمَ عَلَيْكَ، فَأَمَّا السَّلَامُ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ وَفِي ضَبْطِ عَرَفْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ فِي عُلِّمْنَاهُ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَمَرْتَنَا أَيْ: بَلَّغْتَنَا عَنِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْمَذْكُورَةِ: كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ، أَيْ: عَلَّمَنَا اللَّهُ كَيْفِيَّةَ السَّلَامِ عَلَيْكَ عَلَى لِسَانِكَ وَبِوَاسِطَةِ بَيَانِكَ، وَأَمَّا إِتْيَانُهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ فَقَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ: أَهْلَ
الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا لَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِهَا التَّعْظِيمَ، وَبِهَا تَحْصُلُ مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ حَيْثُ قَالَ: عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَبِهَذَا يُسْتَغْنَى عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: فِي الْجَوَابِ زِيَادَةٌ عَلَى السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَوَقَعَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى آلِهِ.
قَوْلُهُ: (كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى السَّلَامِ الَّذِي فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ قَوْلُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقولِهِمْ: فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ أَيْ: بَعْدَ التَّشَهُّدِ انْتَهَى. وَتَفْسِيرُ السَّلَامُ بِذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرُ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ احْتِمَالًا وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السَّلَامُ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: إِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ، وَكَذَا ذَكَرَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَرَدَّ بَعْضُهُمُ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ بِأَنَّ سَلَامَ التَّحَلُّلِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ اتِّفَاقًا كَذَا قِيلَ، وَفِي نَقْلِ الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ، فَقَدْ جَزَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ عِنْدَ سَلَامِ التَّحَلُّلِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، ذَكَرَهُ عِيَاضٌ وَقَبْلَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟) زَادَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي حَدِيثِهِ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ وَإِنَّمَا تَمَنَّوْا ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُعْجِبْهُ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ؛ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: - تَعَالَى -: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ بَيَانُ ذَلِكَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَسَكَتَ حَتَّى جَاءَهُ الْوَحْيُ فَقَالَ: تَقُولُونَ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقولِهِمْ: كَيْفَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ السُّؤَالُ عَنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا بِأَيِّ لَفْظٍ يُؤَدَّى، وَقِيلَ عَنْ صِفَتِهَا، قَالَ عِيَاضٌ: لَمَّا كَانَ لَفْظُ الصَّلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {صَلُّوا عَلَيْهِ} يَحْتَمِلُ الرَّحْمَةَ وَالدُّعَاءَ وَالتَّعْظِيمَ سَأَلُوا: بِأَيِّ لَفْظٍ تُؤَدَّى؟ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، وَرَجَّحَ الْبَاجِيُّ أَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ صِفَتِهَا لَا عَنْ جِنْسِهَا، وَهُوَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ: كَيْفَ ظَاهِرٌ فِي الصِّفَةِ، وَأَمَّا الْجِنْسُ فَيُسْأَلُ عَنْهُ بِلَفْظِ: مَا وَبِهِ جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، فَقَالَ: هَذَا سُؤَالُ مَنْ أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ كَيْفِيَّةُ مَا فُهِمَ أَصْلُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ، فَسَأَلُوا عَنِ الصِّفَةِ الَّتِي تَلِيقُ بِهَا لِيَسْتَعْمِلُوهَا. انْتَهَى.
وَالْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ السَّلَامَ لَمَّا تَقَدَّمَ بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّ الصَّلَاةَ أَيْضًا تَقَعُ بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ، وَعَدَلُوا عَنِ الْقِيَاسِ؛ لِإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى النَّصِّ وَلَا سِيَّمَا فِي أَلْفَاظِ الْأَذْكَارِ فَإِنَّهَا تَجِيءُ خَارِجَةً عَنِ الْقِيَاسِ غَالِبًا، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا فَهِمُوا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ قُولُوا: الصَّلَاةُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَلَا قُولُوا: الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ، إِلَخْ، بَلْ عَلَّمَهُمْ صِيغَةً أُخْرَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ) هَذِهِ كَلِمَةٌ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ بِمَعْنَى: يَا اللَّهُ، وَالْمِيمُ عِوَضٌ عَنْ حَرْفِ النِّدَاءِ، فَلَا يُقَالُ: اللَّهُمَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَثَلًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَلَا يَدْخُلُهَا حَرْفُ النِّدَاءِ إِلَّا فِي نَادِرٍ، كَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
إِنِّي إِذَا مَا حَادِثٌ أَلَمَّا
…
أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا
وَاخْتُصَّ هَذَا الِاسْمُ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَوُجُوبِ تَفْخِيمِ لَامِهِ، وَبِدُخُولِ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ مَعَ التَّعْرِيفِ، وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ: يَا اللَّهُ وَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ تَخْفِيفًا وَالْمِيمُ، مَأْخُوذٌ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ مِثْلُ أُمَّنَا بِخَيْرٍ، وَقِيلَ: بَلْ زَائِدَةٌ كَمَا فِي زُرْقُمٍ لِلشَّدِيدِ الزُّرْقَةِ، وَزِيدَتْ فِي الِاسْمِ الْعَظِيمِ تَفْخِيمًا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ كَالْوَاوِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَمْعِ، كَأَنَّ الدَّاعِيَ قَالَ: يَا مَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَلِذَلِكَ شُدِّدَتِ الْمِيمُ؛ لِتَكُونَ عِوَضًا عَنْ عَلَامَةِ الْجَمْعِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: اللَّهُمَّ: مُجْتَمَعُ الدُّعَاءِ، وَعَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ: مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ، فَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ.
قَوْلُهُ: (صَلِّ) تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ مَعْنَى صَلَاةِ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ، وَمَعْنَى صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ الدُّعَاءُ لَهُ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ قَالَ: صَلَاةُ
اللَّهِ مَغْفِرَتُهُ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى صَلَاةِ الرَّبِّ: الرَّحْمَةُ، وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ: الِاسْتِغْفَارُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: صَلَاةُ اللَّهِ: رَحْمَتُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: مَغْفِرَتُهُ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ: الدُّعَاءُ، أَخْرَجَهُمَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْهُ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ الدُّعَاءَ بِالْمَغْفِرَةِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ: الرَّحْمَةُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ: رِقَّةٌ تَبْعَثُ عَلَى اسْتِدْعَاءِ الرَّحْمَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ اللَّهَ غَايَرَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالرَّحْمَةِ فِي قَوْلِهِ:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} وَكَذَلِكَ فَهِمَ الصَّحَابَةُ الْمُغَايَرَةَ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} حَتَّى سَأَلُوا عَنْ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ فِي تَعْلِيمِ السَّلَامِ، حَيْثُ جَاءَ بِلَفْظِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ لَقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ فِي السَّلَامِ، وَجَوَّزَ الْحَلِيمِيُّ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى السَّلَامِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَحَدِيثُ الْبَابِ يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ مَعْنَى صَلَاةِ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمُهُ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ
عَلَيْهِ: طَلَبُ ذَلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَالْمُرَادُ طَلَبُ الزِّيَادَةِ لَا طَلَبُ أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: صَلَاةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ تَكُونُ خَاصَّةً، وَتَكُونُ عَامَّةً؛ فَصَلَاتُهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ هِيَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَصَلَاتُهُ عَلَى غَيْرِهِمُ الرَّحْمَةُ، فَهِيَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَكْرٍ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّهِ تَشْرِيفٌ وَزِيَادَةُ تَكْرِمَةٍ، وَعَلَى مَنْ دُونِ النَّبِيِّ رَحْمَةٌ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، حَيْثُ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَلِيقُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ أَرْفَعُ مِمَّا يَلِيقُ بِغَيْرِهِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَعْظِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّنْوِيهُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا، وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ فِي الشُّعَبِ: مَعْنَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعْظِيمُهُ، فَمَعْنَى قَوْلِنَا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ: عَظِّمْ مُحَمَّدًا.
وَالْمُرَادُ تَعْظِيمُهُ فِي الدُّنْيَا بِإِعْلَاءِ ذِكْرِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَإِبْقَاءِ شَرِيعَتِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِجْزَالِ مَثُوبَتِهِ وَتَشْفِيعِهِ فِي أُمَّتِهِ وَإِبْدَاءِ فَضِيلَتِهِ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{صَلُّوا عَلَيْهِ} ادْعُوا رَبَّكُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، انْتَهَى، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ عَطْفُ آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُدْعَى لَهُمْ بِالتَّعْظِيمِ إِذْ تَعْظِيمُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الصَّلَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مَلَائِكَتِهِ وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُورِينَ بِذَلِكَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّرَحُّمِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِنَا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ مُحَمَّدًا، أَوْ تَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ، لَجَازَ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْبَرَكَةِ، وَكَذَا الرَّحْمَةُ لَسَقَطَ الْوُجُوبُ فِي التَّشَهُّدِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ بِقَوْلِ الْمُصَلِّي فِي التَّشَهُّدِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَيُمْكِنُ الِانْفِصَالُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بِطَرِيقِ التَّعَبُّدِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ وَلَوْ سَبَقَ الْإِتْيَانُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ) كَذَا وَقَعَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي قَوْلِهِ: صَلِّ وَفِي قَوْلِهِ: وَبَارِكْ وَلَكِنْ وَقَعَ فِي الثَّانِي: وَبَارِكْ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَوَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ آدَمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَقُلْ: عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخَذَ الْبَيْضَاوِيُّ مِنْ هَذَا أَنَّ ذِكْرَ الْآلِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ مُقْحَمٌ، كَقَوْلِهِ: عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى. قُلْتُ: وَالْحَقُّ أَنَّ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَذِكْرَ آلِ مُحَمَّدٍ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ ثَابِتٌ فِي أَصْلِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا حَفِظَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَسَأُبَيِّنُ مَنْ سَاقَهُ تَامًّا بَعْدَ قَلِيلٍ، وَشَرَحَ الطِّيبِيُّ عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ هُنَا فَقَالَ: هَذَا اللَّفْظُ يُسَاعِدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: عَلِمْنَا كَيْفَ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيْ: فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ أَيْ عَلَى أَهْلِ بَيْتكَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ قَدْ عُرِفَتْ مَعَ السَّلَامِ مِنَ الْآيَةِ، قَالَ: فَكَانَ السُّؤَالُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، وَقَدْ ذُكِرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَوَابِ لِقولِهِ - تَعَالَى - {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَفَائِدَتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، قَالَ: وَإِنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ إِبْرَاهِيمَ؛ لِيُنَبِّهَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ، وَلَوْ ذُكِرَ لَمْ يُفْهَمْ أَنَّ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ عَلَى سَبِيلِ التَّمْهِيدِ، انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ مَا قَالَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ: عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْبَابِ: عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَذْكُرْ آلَ مُحَمَّدٍ وَلَا آلَ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى مَا قُلْتُهُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَالْأَظْهَرُ فَسَادُ مَا بَحَثَهُ الطِّيبِيُّ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ: عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْآلَ فِي الصَّحِيحِ، وَوَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذُرِّيَّتِهِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَكِنْ وَقَعَ فِي السَّنَدِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ شَيْخِ أَبِي دَاوُدَ فِيهِ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ شَيْخِ شَيْخِ النَّسَائِيِّ فِيهِ، فَرَوَيَاهُ مَعًا عَنْ حِبَّانَ بْنِ يَسَارٍ - وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، وَأَبُوهُ بِمُثَنَّاةٍ وَمُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ - فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى عَنْهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَرِوَايَةُ مُوسَى أَرْجَحُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِحِبَّانَ فِيهِ سَنَدَانِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ وَحْدَهُ فِي آخِرِهِ: فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ السَّرَّاجِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ مَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَأَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: فِي الْعَالَمِينَ وَقَالَ فِي الْأَذْكَارِ مِثْلَهُ، وَزَادَ: عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ
بَعْدَ قَوْلِهِ: مُحَمَّدٍ فِي مَحَلٍّ وَلَمْ يَزِدْهَا فِي بَارِكْ، وَقَالَ فِي التَّحْقِيقِ وَالْفَتَاوَى مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ أَسْقَطَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ فِي وَبَارِكْ، وَفَاتَهُ أَشْيَاءُ لَعَلَّهَا تُوَازِي قَدْرَ مَا زَادَهُ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ: أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَزْوَاجِهِ، وَمِنْهَا: وَأَهْلِ بَيْتِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَذُرِّيَّتِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَمِنْهَا: وَرَسُولِكَ فِي: وَبَارِكْ وَمِنْهَا: فِي الْعَالَمِينَ فِي الْأَوَّلِ، وَمِنْهَا: إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ قَبْلَ: وَبَارِكْ وَمِنْهَا: اللَّهُمَّ قَبْلَ: وَبَارِكْ فَإِنَّهُمَا ثَبَتَا مَعًا فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ، وَمِنْهَا: وَتَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ، إِلَخْ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهَا بَعْدُ، وَمِنْهَا فِي آخِرِ التَّشَهُّدِ: وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ، وَهِيَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ نَحْوُ حَدِيثِ الْبَابِ، قَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَنَحْنُ نَقُولُ: وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، وَتَعَقَّبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قَالَ: هَذَا شَيْءٌ انْفَرَدَ بِهِ زَائِدَةُ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآلِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُمْ أُمَّتُهُ، فَلَا يَبْقَى لِلتَّكْرَارِ فَائِدَةٌ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا نَرَى أَنْ نُشْرِكَ فِي هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ مَعَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَحَدًا، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ زَائِدَةَ مِنَ الْأَثْبَاتِ فَانْفِرَادُهُ لَوِ انْفَرَدَ لَا يَضُرُّ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَنْفَرِدْ، فَقَدْ أَخْرَجَهَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ فَضْلِ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ
يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَيَزِيدُ اسْتَشْهَدَ بِهِ مُسْلِمٌ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوُ حَدِيثِ الْبَابِ، وَفِي آخِرِهِ: وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ، وَأَمَّا الْإِيرَادُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَنْ يَرَى أَنَّ مَعْنَى الْآلِ كُلُّ الْأُمَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ
أَنْ يَعْطِفَ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ، وَلَا سِيَّمَا فِي الدُّعَاءِ، وَأَمَّا الْإِيرَادُ الثَّانِي فَلَا نَعْلَمُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ تَبَعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ اسْتِقْلَالًا، وَقَدْ شُرِعَ الدُّعَاءُ لِلْآحَادِ بِمَا دَعَاهُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِي حَدِيثِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَحَدِيثُ جَابِرٍ ضَعِيفٌ وَرِوَايَةُ يَزِيدَ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ يَزِيدُ: فَلَا أَدْرِي أَشَيْءٌ زَادَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، أَوْ رَوَاهُ عَنْ كَعْبٍ.
وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، وَوَرَدَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بِلَفْظِ: يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ - إِلَى قَوْلِهِ: - وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَصَلِّ عَلَيْنَا مَعَهُمْ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ - مِثْلَهُ، وَفِي آخِرِهِ: - وَبَارِكْ عَلَيْنَا مَعَهُمْ وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ، لَكِنَّهُ فِيمَا أَحْسَبُ مُدْرَجٌ؛ لِمَا بَيَّنَهُ زَائِدَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ.
ثَانِيهِمَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، لَكِنْ قَالَ: اللَّهُمَّ بَدَلَ الْوَاوِ فِي: وَصَلِّ وَفِي: وَبَارِكْ، وَفِيهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَدْ تَعَقَّبَ الْإِسْنَوِيُّ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: لَمْ يَسْتَوْعِبْ مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ مَعَ اخْتِلَافِ كَلَامِهِ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: لَمْ يَسْبِقْ إِلَى مَا قَالَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْأَفْضَلَ لِمَنْ تَشَهَّدَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَكْمَلِ الرِّوَايَاتِ وَيَقُولَ كُلَّ مَا ثَبَتَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، وَأَمَّا التَّلْفِيقُ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إِحْدَاثَ صِفَةٍ فِي التَّشَهُّدِ لَمْ تَرِدْ مَجْمُوعَةً فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ لَمْ تَرِدْ مَجْمُوعَةً فِي طَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَعْمَلَ كُلُّ لَفْظٍ ثَبَتَ عَلَى حِدَةٍ، فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِ مَا وَرَدَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ الْجَمِيعُ دَفْعَةً وَاحِدَةً؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْهُ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ أَيْضًا كَانَ يَلْزَمُ الشَّيْخَ أَنْ يَجْمَعَ الْأَلْفَاظَ الْوَارِدَةَ فِي التَّشَهُّدِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَلْتَزِمَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَيْضًا: قَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ وَنَحْوِهِ، كَالِاخْتِلَافِ فِي الْقِرَاءَاتِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِاسْتِحْبَابِ التِّلَاوَةِ بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ فِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَجَازَ ذَلِكَ عِنْدَ التَّعْلِيمِ لِلتَّمْرِينِ، انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّفْظَ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْآخَرِ سَوَاءٌ كَمَا فِي أَزْوَاجِهِ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَالْأَوْلَى الِاقْتِصَارُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يَسْتَقِلُّ بِزِيَادَةِ مَعْنًى لَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ الْبَتَّةَ، فَالْأَوْلَى الْإِتْيَانُ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ فِي الْمَعْنَى شَيْئًا مَا فَلَا بَأْسَ بِالْإِتْيَانِ بِهِ احْتِيَاطًا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الْمُبَاحُ، فَأَيُّ لَفْظٍ ذَكَرَهُ الْمَرْءُ أَجْزَأَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَكْمَلَهُ وَأَبْلَغَهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ النَّقْلِ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَذَكَرَ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْقُوفٌ طَوِيلٌ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالطَّبَرِيُّ، والطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ فَارِسٍ، وَأَوَّلُهُ. اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ إِلَى أَنْ قَالَ.
اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ وَنَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ، وَرَأْفَةَ تَحِيَّتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ الْحَدِيثَ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَبَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ إِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرِيُّ، وَادَّعَى ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ بَلْ كُلُّهَا مُصَرِّحَةٌ بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَبِذِكْرِ آلِ إِبْرَاهِيمَ فَقَطْ، أَوْ بِذَكَرِ إِبْرَاهِيمَ فَقَطْ، قَالَ: وَلَمْ يَجِئْ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ مَعًا، إِنَّمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ السَّبَّاقِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيَحْيَى مَجْهُولٌ وَشَيْخُهُ مُبْهَمٌ، فَهُوَ سَنَدٌ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَوِيٍّ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ
طَلْحَةَ.
قُلْتُ: وَغَفَلَ عَمَّا وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى بِلَفْظِ: كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ:: كَمَا بَارَكْتَ وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْهُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بَلْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَبِلَفْظِ: عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا سَأَذْكُرُهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَمِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا جَعَلْتَهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ
الْمُشَارِ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ أُخْرَى وَهِيَ: وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ وَتَرَحَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَاغْتَرَّ بِتَصْحِيحِهِ قَوْمٌ فَوَهِمُوا؛ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ السَّبَّاقِ وَهُوَ مَجْهُولٌ عَنْ رَجُلٍ مُبْهَمٍ، نَعَمْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ: قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ الْحَدِيثَ، وَبَالَغَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ، فَقَالَ: حَذَارِ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ مِنْ زِيَادَةِ: وَتَرَحَّمْ؛ فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُمْ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ، فَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ اسْتِدْرَاكٌ عَلَيْهِ، انْتَهَى.
وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي صِفَةِ التَّشَهُّدِ فِي الرِّسَالَةِ لَمَّا ذَكَرَ مَا يُسْتَحَبُّ فِي التَّشَهُّدِ، وَمِنْهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، فَزَادَ: وَتَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّدِ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ إِلَخْ، فَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَصِحَّ، فَمُسَلَّمٌ، وَإِلَّا فَدَعْوَى مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ: ارْحَمْ مُحَمَّدًا مَرْدُودَةٌ؛ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَصَحُّهَا فِي التَّشَهُّدِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ثُمَّ وَجَدْتُ لِابْنِ أَبِي زَيْدٍ مُسْتَنَدًا، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ مِنْ طَرِيقِ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَتَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا تَرَحَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، شَهِدْتُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَشَفَعْتُ لَهُ وَرِجَالُ سَنَدِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ إِلَّا سَعِيدَ بْنَ سُلَيْمَانَ مَوْلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الرَّاوِي لَهُ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ مَجْهُولٌ.
(تَنْبِيه): هَذَا كُلُّهُ فِيمَا يُقَالُ مَضْمُومًا إِلَى السَّلَامِ أَوِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَافَقَ ابْنَ الْعَرَبِيِّ، الصَّيْدَلَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَنْعِ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ شَارِحُ الْإِرْشَادِ: يَجُوزُ ذَلِكَ مُضَافًا إِلَى الصَّلَاةِ وَلَا يَجُوزُ مُفْرَدًا، وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنِ الْجُمْهُورِ الْجَوَازَ مُطْلَقًا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ؛ لِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ بِهِ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَفِي الذَّخِيرَةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ مُحَمَّدٍ يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِإِيهَامِهِ النَّقْصَ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ غَالِبًا إِنَّمَا تَكُونُ عَنْ فِعْلِ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ، وَجَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِمَنْعِهِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: رحمه الله؛ لِأَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ تَرَحَّمَ عَلَيَّ، وَلَا مَنْ دَعَا لِي، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الصَّلَاةِ الرَّحْمَةَ، وَلَكِنَّهُ خُصَّ هَذَا اللَّفْظُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} انْتَهَى. وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ، لَكِنْ فِي التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ نَظَرٌ، وَالْمُعْتَمَدُ الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ) قِيلَ: أَصْلُ آلِ أَهْلٌ قُلِبَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً، ثُمَّ سُهِّلَتْ، وَلِهَذَا إِذَا صُغِّرَ رُدَّ إِلَى الْأَصْلِ، فَقَالُوا: أُهَيْلٌ، وَقِيلَ: بَلْ أَصْلُهُ أَوَلَ مِنْ آلَ إِذَا رَجَعَ، سُمِّيَ بِذَلِكَ مَنْ يَئُولُ إِلَى الشَّخْصِ وَيُضَافُ إِلَيْهِ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّهُ لَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى مُعَظَّمٍ، فَيُقَالُ: آلُ الْقَاضِي، وَلَا يُقَالُ: آلُ الْحَجَّامِ، بِخِلَافِ أَهْلِ، وَلَا يُضَافُ آلُ أَيْضًا غَالِبًا إِلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ وَلَا إِلَى الْمُضْمَرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ بِقِلَّةٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي شِعْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ مِنْ أَبْيَاتٍ:
وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِ
…
يبِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكْ
وَقَدْ يُطْلَقُ آلُ فُلَانٍ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ جَمِيعًا، وَضَابِطُهُ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ فَعَلَ آلُ فُلَانٍ كَذَا دَخَلَ هُوَ فِيهِمْ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ وَإِنْ ذُكِرَا مَعًا فَلَا، وَهُوَ كَالْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، وَكَذَا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ، وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ فِي الْإِتْيَانِ بِهِمَا مَعًا، وَفِي إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا كَانَ أَوْلَى الْمَحَامِلِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ كُلَّهَ، وَيَكُونُ بَعْضُ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَأَمَّا التَّعَدُّدُ فَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الطُّرُقِ تُصَرِّحُ بِأَنَّهُ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ بِدُونِ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى دُخُولِ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: آلِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِآلِ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَالرَّاجِحُ أَنَّهُمْ مَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ الْجُمْهُورُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: الْمُرَادُ بِآلِ مُحَمَّدٍ فِي حَدِيثِ التَّشَهُّدِ أَهْلُ بَيْتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَهْلٌ، عِوَضَ آلٍ؟ رِوَايَتَانِ عِنْدَهُمْ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِآلِ مُحَمَّدٍ: أَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ جَاءَ بِلَفْظِ: وَآلِ مُحَمَّدٍ وَجَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ مَوْضِعُهُ: وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآلِ الْأَزْوَاجُ وَالذُّرِّيَّةُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْ غَيْرُهُ، فَالْمُرَادُ بِالْآلِ فِي التَّشَهُّدِ: الْأَزْوَاجُ، وَمِنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الذُّرِّيَّةُ، فَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ أَطْلَقَ عَلَى أَزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم آلَ مُحَمَّدٍ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزٍ مَأْدُومٍ ثَلَاثًا وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ، وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا.
وَكَأَنَّ الْأَزْوَاجَ أُفْرِدُوا بِالذِّكْرِ تَنْوِيهًا بِهِمْ وَكَذَا الذُّرِّيَّةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآلِ ذُرِّيَّةُ فَاطِمَةَ خَاصَّةً، حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ قُرَيْشٍ، حَكَاهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْكِفَايَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآلِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَالَ إِلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَاخْتَارَهُ الْأَزْهَرِيٌّ وَحَكَاهُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقَيَّدَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالرَّاغِبُ بِالْأَتْقِيَاءِ مِنْهُمْ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} وَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ وَفِي نَوَادِرِ أَبِي الْعَيْنَاءِ إِنَّهُ غَضَّ مِنْ بَعْضِ الْهَاشِمِيِّينَ فَقَالَ لَهُ: أَتَغُضُّ مِنِّي وَأَنْتَ تُصَلِّي عَلَيَّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ؟ فِي قَوْلِكَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَلَسْتَ مِنْهُمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الرَّحْمَةُ الْمُطْلَقَةُ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ، وَقَدِ
اسْتُدِلَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَلَكِنْ سَنَدَهُ وَاهٍ جِدًّا، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ مِنْ قَوْلِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
قَوْلُهُ: (كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ) اشْتَهَرَ السُّؤَالُ عَنْ مَوْقِعِ التَّشْبِيهِ مَعَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ أَنَّ الْمُشَبَّهَ دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَالْوَاقِعُ هُنَا عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَمِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا سِيَّمَا قَدْ أُضِيفَ إِلَيْهِ آلُ مُحَمَّدٍ، وَقَضِيَّةُ كَوْنِهِ أَفْضَلَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ الْمَطْلُوبَةُ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ حَصَلَتْ أَوْ تَحْصُلُ لِغَيْرِهِ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، قَالَ: ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَأَيَّدَهُ بِأَنَّهُ سَأَلَ لِنَفْسِهِ التَّسْوِيَةَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَرَ أُمَّتَهُ أَنْ يَسْأَلُوا لَهُ ذَلِكَ، فَزَادَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِغَيْرِ سُؤَالٍ أَنْ فَضَّلَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَغَيَّرَ صِفَةَ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا، وَشَرَعَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ؛ لِيَكْتَسِبُوا بِذَلِكَ الْفَضِيلَةَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ التَّشْبِيهَ إِنَّمَا هُوَ لِأَصْلِ الصَّلَاةِ بِأَصْلِ الصَّلَاةِ لَا لِلْقَدْرِ بِالْقَدْرِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} وَقَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَحْسِنْ إِلَى وَلَدِكَ كَمَا أَحْسَنْتَ إِلَى فُلَانٍ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ أَصْلَ الْإِحْسَانِ لَا قَدْرَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وَرَجَّحَ هَذَا الْجَوَابَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْكَافَ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ} وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَافُ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّشْبِيهِ، ثُمَّ عُدِلَ عَنْهُ لِلْإِعْلَامِ بِخُصُوصِيَّةِ الْمَطْلُوبِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ خَلِيلًا كَمَا جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ كَمَا جَعَلَ لِإِبْرَاهِيمَ، مُضَافًا إِلَى مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَقَرَّبَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مِثْلُ رَجُلَيْنِ يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا أَلْفًا وَيَمْلِكُ الْآخَرُ أَلْفَيْنِ، فَسَأَلَ صَاحِبُ الْأَلْفَيْنِ أَنْ يُعْطَى أَلْفًا أُخْرَى نَظِيرَ الَّذِي أُعْطِيَهَا الْأَوَّلُ فَيَصِيرُ الْمَجْمُوعُ لِلثَّانِي أَضْعَافَ مَا لِلْأَوَّلِ.
السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ مَقْطُوعٌ عَنِ التَّشْبِيهِ فَسَيَكُونُ التَّشْبِيهُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَاوُوا الْأَنْبِيَاءَ فَكَيْفَ تُطْلَبُ لَهُمْ صَلَاةٌ مِثْلُ الصَّلَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِإِبْرَاهِيمَ وَالْأَنْبِيَاءُ مِنْ آلِهِ؟ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ الثَّوَابُ الْحَاصِلُ لَهُمْ لَا جَمِيعُ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَقَدْ نَقَلَ الْعِمْرَانِيُّ فِي الْبَيَانِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ نَقَلَ هَذَا الْجَوَابَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَبْعَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ صِحَّةَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَعَ فَصَاحَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ لَا يَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ هَذَا التَّرْكِيبَ الرَّكِيكَ الْمَعِيبَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ التَّرْكِيبُ الْمَذْكُورُ بِرَكِيكٍ، بَلِ التَّقْدِيرُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَصَلِّ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ إِلَى آخِرِهِ، فَلَا يَمْتَنِعُ تَعَلُّقُ التَّشْبِيهِ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ.
السَّابِعُ: أَنَّ التَّشْبِيهَ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ؛ فَإِنَّ فِي الْأَنْبِيَاءِ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ كَثْرَةٌ، فَإِذَا قُوبِلَتْ تِلْكَ الذَّوَاتُ الْكَثِيرَةُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ بِالصِّفَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لِمُحَمَّدٍ أَمْكَنَ انْتِفَاءُ التَّفَاضُلِ. قُلْتُ: وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ مُقَابَلَةُ الِاسْمِ فَقَطْ بِالِاسْمِ فَقَطْ، وَلَفْظُهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
الثَّامِنُ: أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَحْصُلُ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ مِنْ صَلَاةِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ صَلَاةِ الْمُصَلِّينَ مِنْ أَوَّلِ التَّعْلِيمِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ أَضْعَافُ مَا كَانَ لِآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبَّرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ: الْمُرَادُ دَوَامُ ذَلِكَ وَاسْتِمْرَارُهُ.
التَّاسِعُ: أَنَّ التَّشْبِيهَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُصَلِّي فِيمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَحْصُلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي ثَوَابًا عَلَى صَلَاتِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِثْلُ ثَوَابِ الْمُصَلِّي عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ.
الْعَاشِرُ: دَفْعُ الْمُقَدِّمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا، وَهِيَ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ يَكُونُ أَرْفَعَ مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُطَّرِدًا، بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِالْمِثْلِ، بَلْ وَبِالدُّونِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وَأَيْنَ يَقَعُ نُورُ الْمِشْكَاةِ مِنْ نُورِهِ - تَعَالَى -؟ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا ظَاهِرًا وَاضِحًا لِلسَّامِعِ حَسُنَ تَشْبِيهُ النُّورِ بِالْمِشْكَاةِ، وَكَذَا هُنَا، لَمَّا كَانَ تَعْظِيمُ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مَشْهُورًا وَاضِحًا عِنْدَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، حَسُنَ أَنْ يُطْلَبَ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مِثْلَ مَا حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ خَتْمُ الطَّلَبِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ: فِي الْعَالَمِينَ أَيْ: كَمَا أَظْهَرْتَ الصَّلَاةَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ قَوْلُهُ: فِي الْعَالَمِينَ إِلَّا فِي ذِكْرِ آلِ إِبْرَاهِيمَ، دُونَ ذِكْرِ آلِ مُحَمَّدٍ، عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَعَبَّرَ الطِّيبِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ التَّشْبِيهُ الْمَذْكُورُ مِنْ بَابِ إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ، بَلْ مِنْ بَابِ إِلْحَاقِ مَا لَمْ يَشْتَهِرْ بِمَا اشْتَهَرَ.
وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: سَبَبُ هَذَا التَّشْبِيهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ فِي بَيْتٍ إِبْرَاهِيمَ: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَجِبْ دُعَاءَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ فِي مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا أَجَبْتَهَا عِنْدَمَا قَالُوهَا فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ بِمَا خُتِمَتْ بِهِ الْآيَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَقَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ: أَحْسَنُهَا مَا نُسِبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَالتَّشْبِيهُ لِأَصْلِ الصَّلَاةِ بِأَصْلِ الصَّلَاةِ، أَوْ لِلْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ أَنْ زَيَّفَ أَكْثَرَ الْأَجْوِبَةِ إِلَّا تَشْبِيهَ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ: وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ صلى الله عليه وسلم مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} قَالَ: مُحَمَّدٌ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، فَكَأَنَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ خُصُوصًا بِقَدْرِ مَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ عُمُومًا، فَيَحْصُلُ لِآلِهِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ وَيَبْقَى الْبَاقِي كُلُّهُ لَهُ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ أَزْيَدُ مِمَّا لِغَيْرِهِ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ قَطْعًا، وَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ فَائِدَةُ التَّشْبِيهِ، وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ لَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَطْلُوبِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَوَجَدْتُ فِي مُصَنَّفٍ لِشَيْخِنَا مَجْدِ الدِّينِ الشِّيرَازِيِّ اللُّغَوِيِّ جَوَابًا آخَرَ نَقَلَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكَشْفِ حَاصِلُهُ أَنَّ التَّشْبِيهَ لِغَيْرِ اللَّفْظِ الْمُشَبَّهِ بِهِ لَا لِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِنَا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ اجْعَلْ مِنْ أَتْبَاعِهِ مَنْ يَبْلُغُ النِّهَايَةَ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَالْعُلَمَاءِ بِشَرْعِهِ بِتَقْرِيرِهِمْ أَمْرَ الشَّرِيعَةِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ جَعَلْتَ فِي أَتْبَاعِهِ أَنْبِيَاءَ يُقَرِّرُونَ الشَّرِيعَةَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ اجْعَلْ مِنْ أَتْبَاعِهِ نَاسًا مُحَدَّثِينَ - بِالْفَتْحِ - يُخْبِرُونَ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ جَعَلْتَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ يُخْبِرُونَ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَالْمَطْلُوبُ حُصُولُ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَهُمْ أَتْبَاعُهُ فِي الدِّينِ، كَمَا كَانَتْ حَاصِلَةً بِسُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ،
وَهَذَا مُحَصَّلُ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ جَيِّدٌ إِنْ سُلِّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا مَا ادَّعَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي نَحْوِ هَذِهِ الدَّعْوَى جَوَابٌ آخَرُ الْمُرَادُ: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ دُعَاءَ مُحَمَّدٍ فِي أُمَّتِهِ، كَمَا اسْتَجَبْتَ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ فِي بَنِيهِ، وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا عَطْفُ الْآلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ) هُمْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، كَمَا جَزَمَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ مِنْ غَيْرِ سَارَةَ وَهَاجَرَ، فَهُمْ دَاخِلُونَ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْمُرَادَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ بَلِ الْمُتَّقُونَ، فَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي آلِ مُحَمَّدٍ.
قَوْلُهُ: (وَبَارِكْ) الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ هُنَا الزِّيَادَةُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّطْهِيرُ مِنَ الْعُيُوبِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِثْبَاتُ ذَلِكَ وَاسْتِمْرَارُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرَكَتِ الْإِبِلُ، أَيْ: ثَبَتَتْ عَلَى
الْأَرْضِ، وَبِهِ سُمِّيَتْ بِرْكَةُ الْمَاءِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ؛ لِإِقَامَةِ الْمَاءِ فِيهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَنْ يُعْطَوْا مِنَ الْخَيْرِ أَوْفَاهُ، وَأَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ وَيَسْتَمِرَّ دَائِمًا، وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو مَسْعُودٍ فِي حَدِيثِهِ أَصْنَافُ الْخَلْقِ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى، قِيلَ: مَا حَوَاهُ بَطْنُ الْفُلْكِ، وَقِيلَ: كُلُّ مُحْدَثٍ، وَقِيلَ: مَا فِيهِ رُوحٌ، وَقِيلَ بِقَيْدِ الْعُقَلَاءِ، وَقِيلَ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أَمَّا الْحَمِيدُ فَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ الْحَمْدِ بِمَعْنَى مَحْمُودٍ، وَأَبْلَغُ مِنْهُ، وَهُوَ مَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْحَمْدِ أَكْمَلُهَا، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْحَامِدِ، أَيْ: يَحْمَدُ أَفْعَالَ عِبَادِهِ، وَأَمَّا الْمَجِيدُ فَهُوَ مِنَ الْمَجْدِ، وَهُوَ صِفَةُ مَنْ كَمُلَ فِي الشَّرَفِ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، كَمَا أَنَّ الْحَمْدَ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ الْإِكْرَامِ، وَمُنَاسَبَةُ خَتْمِ هَذَا الدُّعَاءِ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، أَنَّ الْمَطْلُوبَ تَكْرِيمُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَالتَّنْوِيهُ بِهِ وَزِيَادَةُ تَقْرِيبِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ الْحَمْدِ وَالْمَجْدِ، فَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمَا كَالتَّعْلِيلِ لِلْمَطْلُوبِ أَوْ هُوَ كَالتَّذْيِيلِ لَهُ، وَالْمَعْنَى إِنَّكَ فَاعِلٌ مَا تَسْتَوْجِبُ بِهِ الْحَمْدَ مِنَ النِّعَمِ الْمُتَرَادِفَةِ، كَرِيمٌ بِكَثْرَةِ الْإِحْسَانِ إِلَى جَمِيعِ عِبَادِكَ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا؟ وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ مُتَّصِلٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التُّرْكُمَانِيِّ بِأَنَّهُ قَالَ فِي بَابِ تَحْرِيمِ قَتْلِ مَا لَهُ رُوحٌ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثٍ فِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْحُفَّاظُ يَتَوَقَّوْنَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ، قُلْتُ: وَهُوَ اعْتِرَاضٌ مُتَّجَهٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تَفَرَّدَ بِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، لَكِنْ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ فَهُوَ فِي دَرَجَةِ الْحَسَنِ إِذَا صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُصَحِّحُ لَهُ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ، وَيَجْعَلُ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ صَحِيحًا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ حِبَّانَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ كَابْنِ خُزَيْمَةَ، والْبَيْهَقِيِّ لِإِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ السَّلَامِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا يُفِيدُ إِيجَابَ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى إِيجَابِ أَصْلِ الصَّلَاةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحِلِّ الْمَخْصُوصِ، وَلَكِنْ قَرَّبَ الْبَيْهَقِيُّ ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَلَّمَهُمْ كَيْفِيَّةَ السَّلَامِ عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ، وَالتَّشَهُّدُ دَاخِلَ الصَّلَاةِ فَسَأَلُوا عَنْ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَعَلَّمَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ التَّشَهُّدِ الَّذِي تَقَدَّمَ تَعْلِيمُهُ لَهُمْ، وَأَمَّا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
خَارِجَ الصَّلَاةِ فَهُوَ بِعِيدٌ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ فِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ مَخْصُوصٌ بِالصَّلَاةِ، وَقَدْ كَثُرَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَقَرَّرَ بَعْضُهُمُ الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَجِبَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، إِنْ أَرَادَ بِهِ عَيْنًا فَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنْ تَجِبَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، وَزَعَمَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ هُوَ الْمُسْتَدِلُّ بِذَلِكَ، وَرَدَّهُ بِنَحْوِ مَا رَدَّ بِهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَلَمْ يُصِبْ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ، وَالَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فَلَمْ يَكُنْ فَرْضُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ أَوْلَى مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ، وَوَجَدْنَا الدَّلَالَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ - يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ -؟ قَالَ: تَقُولُونَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْحَدِيثَ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ
عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، الْحَدِيثَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ نَقُولَ التَّشَهُّدُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَقَدْ تَعَقَّبَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنْ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: ضَعْفُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَشْهُورٌ.
الثَّانِي: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، فَقَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْقَائِلِ يَعْنِي.
الثَّالِثَ: قَوْلُهُ فِي الثَّانِي: إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الصَّلَاةِ، أَيْ: فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ احْتِمَالٌ قَوِيٌّ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الطُّرُقِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ لَا عَنْ مَحَلِّهَا.
الرَّابِعُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ ذَلِكَ فِي التَّشَهُّدِ خُصُوصًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ أَطْنَبَ قَوْمٌ فِي نِسْبَةِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ إِلَى الشُّذُوذِ، مِنْهُمْ: أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطَّابِيُّ، وَأَوْرَدَ عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ مَقَالَاتِهِمْ، وَعَابَ عَلَيْهِ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ كِتَابِهِ يَقْتَضِي تَصْوِيبَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ تَعْظِيمِ الْمُصْطَفَى، وَقَدِ اسْتَحْسَنَ هُوَ الْقَوْلَ بِطَهَارَةِ فَضَلَاتِهِ، مَعَ أَنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى خِلَافِهِ، لَكِنَّهُ اسْتَجَادَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي تَعْظِيمِهِ، وَانْتَصَرَ جَمَاعَةٌ لِلشَّافِعِيِّ، فَذَكَرُوا أَدِلَّةً نَقْلِيَّةً وَنَظَرِيَّةً، وَدَفَعُوا دَعْوَى الشُّذُوذِ، فَنَقَلُوا الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَتَشَهَّدُ الرَّجُلُ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَهَذَا أَقْوَى شَيْءٍ يُحْتَجُّ بِهِ لِلشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُمُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ فَلَمَّا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّعَاءِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى زِيَادَةِ ذَلِكَ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالدُّعَاءِ، وَانْدَفَعَتْ حُجَّةُ مَنْ تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي دَفْعِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ مَا ذَكَرَ عِيَاضٌ، قَالَ: وَهَذَا تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي عَلَّمَهُ لَهُ النَّبِيُّ -
صلى الله عليه وسلم لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا قُلْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ لَكِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مُدْرَجَةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا فَتُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَرَدَتْ بَعْدَ تَعْلِيمِ التَّشَهُّدِ، وَيَتَقَوَّى ذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا الدُّعَاءُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، انْتَهَى.
وَوَرَدَ لَهُ شَاهِدٌ مَرْفُوعٌ فِي جُزْءِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَأَخْرَجَ الْعُمَرِيُّ فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، قَالَ: لَا تَكُونُ صَلَاةٌ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ وَتَشَهُّدٍ وَصَلَاةٍ عَلَيَّ، وَأَخَرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ قَالَ: مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ فَلْيُعِدْ صَلَاتَهُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، قَالَ: كُنَّا نَعْلَمُ التَّشَهُّدَ، فَإِذَا قَالَ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَحْمَدُ رَبِّهِ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَسْأَلُ حَاجَتَهُ وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، بَلْ جَاءَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَعَنْ إِسْحَاقَ الْجَزْمُ بِهِ فِي الْعَمْدِ، فَقَالَ: إِذَا تَرَكَهَا يُعِيدُ، وَالْخِلَافُ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، ذَكَرَهَا ابْنُ الْحَاجِبِ فِي سُنَنِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ: عَلَى الصَّحِيحِ، فَقَالَ شَارِحُهُ ابْنُ
عَبْدِ السَّلَامِ: يُرِيدُ أَنَّ فِي وُجُوبِهَا قَوْلَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْمَوَّازِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَأَلْزَمَ بَعْضُ شُيُوخِنَا مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَ كَالطَّحَاوِيِّ وَنَقَلَهُ السَّرُوجِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ عَنْ أَصْحَابِ الْمُحِيطِ وَالْعِقْدِ وَالتُّحْفَةِ وَالْمُغِيثِ مِنْ كُتُبِهِمْ أَنْ يَقُولُوا بِوُجُوبِهَا فِي التَّشَهُّدِ؛ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي آخِرِ التَّشَهُّدِ، لَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَجْعَلُونَهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ حَرْمَلَةَ انْفَرَدَ
عَنِ الشَّافِعِيِّ بِإِيجَابِ ذَلِكَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَقَبْلَ سَلَامِ التَّحَلُّلِ، قَالَ: لَكِنَّ أَصْحَابَهُ قَبِلُوا ذَلِكَ وَانْتَصَرُوا لَهُ وَنَاظَرُوا عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وَاسْتَدَلَّ لَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَكَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ، لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، فَقَالَ: عَجِلَ هَذَا، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَ قَرِيبًا مَرْفُوعٌ، فَإِنَّهُ بِلَفْظِهِ، وَقَدْ طَعَنَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ فَضَالَةَ لِلْوُجُوبِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِالْإِعَادَةِ، كَمَا أَمَرَ الْمُسِيءَ صَلَاتَهُ، وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ حَزْمٍ. وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ وَقَعَ عِنْدَ فَرَاغِهِ وَيَكْفِي التَّمَسُّكُ بِالْأَمْرِ فِي دَعْوَى الْوُجُوبِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْجُرْجَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَلَزِمَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّمَهُمُ التَّشَهُّدَ، وَقَالَ: فَيَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تَكُونَ فُرِضَتْ حِينَئِذٍ، وَقَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: قَدْ وَرَدَ هَذَا فِي الصَّحِيحِ بِلَفْظِ: ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ وَ: ثُمَّ لِلتَّرَاخِي، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالدُّعَاءِ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ: إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، الْحَدِيثَ، وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي إِيجَابِ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ فِي التَّشَهُّدِ، وَفِي كَوْنِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَحَبَّةً عَقِبَ التَّشَهُّدِ لَا وَاجِبَةً، وَفِيهِ مَا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ انْتَصَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ، لِلشَّافِعَيِّ فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَفِي تَمَسُّكِ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِعَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ كَانَ بِوِفَاقِهِ إِلَّا إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِالْعَمَلِ الِاعْتِقَادَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ عَنْهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّى يُوجَدُ ذَلِكَ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ عِيَاضٍ: إِنَّ النَّاسَ شَنَّعُوا عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَلَا مَعْنَى لَهُ، فَأَيُّ شَنَاعَةٍ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا مَصْلَحَةً رَاجِحَةً؟ بَلِ الْقَوْلُ بِذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ مَذْهَبِهِ.
وَأَمَّا نَقْلُهُ لِلْإِجْمَاعِ فَقَدْ تَقَدَّمَ رَدُّهُ، وَأَمَّا دَعْوَاهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَارَ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَةٍ بِاخْتِيَارَاتِ الشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا اخْتَارَ تَشَهُّدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ الصَّرِيحَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهَا ضَعِيفَةٌ كَحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي مَسْعُودٍ، وَبُرَيْدَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدِ اسْتَوْعَبَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِهَا لِلتَّقْوِيَةِ، لَا أَنَّهَا تَنْهَضُ بِالْحُجَّةِ.
قُلْتُ: وَلَمْ أَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ التَّصْرِيحَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَفْظُ الْمَنْقُولِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ يُشْعِرُ بِأَنَّ غَيْرَهُ كَانَ قَائِلًا بِالْوُجُوبِ؛ فَإِنَّهُ عَبَّرَ بِالْإِجْزَاءِ.
قَوْلُهُ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ: (ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ) اسْمُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ إِنَّمَا يُخَرِّجُ لَهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ أَوْ مَقْرُونًا بِآخَرَ، وَيَزِيدُ شَيْخُهُمَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى ثَقِيلَةٌ.
قَوْلُهُ: (هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ) أَيْ: عَرَفْنَاهُ، كَمَا وَقَعَ تَقْرِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَتَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ فَوَائِدِهِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَعَيُّنِ هَذَا اللَّفْظِ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
لِأَصْحَابِهِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ سَوَاءٌ قُلْنَا بِالْوُجُوبِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِالصَّلَاةِ، وَأَمَّا تَعَيُّنُهُ فِي الصَّلَاةِ فَعَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَتْبَاعِهِ: لَا تَجِبُ وَاخْتُلِفَ فِي الْأَفْضَلِ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَكْمَلُ مَا وَرَدَ وَعَنْهُ يَتَخَيَّرُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَكْفِي الْإِتْيَانُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، كَأَنْ يَقُولَهُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَيَقُولُ: صَلَّى اللَّهِ عَلَى مُحَمَّدٍ مَثَلًا، وَالْأَصَحُّ إِجْزَاؤُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ آكَدُ، فَيَكُونُ جَائِزًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَنْ مَنَعَ وَقَفَ عِنْدَ التَّعَبُّدِ وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ.
بَلْ كَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ الْوَارِدَ لِمَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْخَبَرِ، كَأَنْ يَقُولَ: الصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِسْنَادُ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعَيُّنِ لَفْظِ مُحَمَّدٍ، لَكِنْ جَوَّزُوا الِاكْتِفَاءَ بِالْوَصْفِ دُونَ الِاسْمِ كَالنَّبِيِّ وَرَسُولِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ مُحَمَّدٍ وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِهِ فَلَا يُجْزِئُ عَنْهُ إِلَّا مَا كَانَ أَعْلَى مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالُوا: لَا يُجْزِئُ الْإِتْيَانُ بِالضَّمِيرِ وَلَا بِأَحْمَدَ مَثَلًا فِي الْأَصَحِّ فِيهِمَا، مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي التَّشَهُّدِ بِقَوْلِهِ: النَّبِيِّ وَبِقَوْلِهِ: مُحَمَّدٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الِاجْتِزَاءِ بِكُلِّ لَفْظٍ أَدَّى الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَوْ قَالَ فِي أَثْنَاءِ التَّشَهُّدِ: الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ أَجْزَأَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَدَّمَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْبَنِيَ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ أَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ لَا يُشْتَرَطُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَلَكِنْ دَلِيلُ مُقَابِلِهِ قَوِيٌّ؛ لِقولِهِمْ: كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ وَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: عَدَّهُنَّ فِي يَدَيَّ وَرَأَيْتُ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ تَصْنِيفًا وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فَلَمَّا سَأَلَ الصَّحَابَةُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَعَلَّمَهَا لَهُمُ النَّبِيُّ -
صلى الله عليه وسلم وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ، وَتَرَكَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا فِي التَّشَهُّدِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْمَتْرُوكُ وَاجِبًا لَمَا سَكَتَ عَنْهُ، انْتَهَى.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ ابْنُ الْفِرْكَاحِ فِي الْإِقْلِيدِ فَقَالَ: جَعْلُهُمْ هَذَا هُوَ الْأَقَلَّ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِمُسَمَّى الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ لَيْسَ فِيهَا الِاقْتِصَارُ، وَالْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ لَيْسَ فِيهَا مَا يُشِيرُ إِلَى مَا يَجِبُ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَأَقَلُّ مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَاتِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ ثَمَّ حَكَى الْفُورَانِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْفُرُوعِ فِي إِيجَابِ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَجْهَيْنِ، وَاحْتَجَّ لِمَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِأَنَّهُ وَرَدَ بِدُونِ ذِكْرِهِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَارِجَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَلَفْظُهُ: صَلُّوا عَلَيَّ وَقُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مِنِ اخْتِصَارِ بَعْضِ الرُّوَاةِ؛ فَإِنَّ النَّسَائِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِتَمَامِهِ، وَكَذَا الطَّحَاوِيُّ، وَاخْتُلِفَ فِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ فَفِي تَعَيُّنِهَا أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ لَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَادَّعَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَأَكْثَرُ مَنْ أَثْبَتَ الْوُجُوبَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ نَسَبُوهُ إِلَى التُّرُنْجِيِّ، وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الشَّافِعِيَّةِ - قَالَ: أَنَا أَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ، قُلْتُ:
وَفِي كَلَامِ الطَّحَاوِيِّ فِي مُشْكِلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَرْمَلَةَ نَقَلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَالْمُصَحَّحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اسْتِحْبَابُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَبَنَاهُ الْأَصْحَابُ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ إِنْ قُلْنَا بِالْوُجُوبِ.
قُلْتُ: وَاسْتُدِلَّ بِتَعْلِيمِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ الْكَيْفِيَّةَ بَعْدَ سُؤَالِهِمْ عَنْهَا بِأَنَّهَا أَفْضَلُ كَيْفِيَّاتِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ إِلَّا الْأَشْرَفَ الْأَفْضَلَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: لَوْ حَلَفَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ؛ فَطَرِيقُ الْبِرِّ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ، هَكَذَا صَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ بَعْدَ
ذِكْرِ حِكَايَةِ الرَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّهُ قَالَ يَبَرُّ إِذَا قَالَ: كُلَّمَا ذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ، وَكُلَّمَا سَهَا عَنْ ذِكْرِهِ الْغَافِلُونَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ الشَّافِعِيِّ ذَكَرَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ، قُلْتُ: وَهِيَ فِي خُطْبَةِ الرِّسَالَةِ، لَكِنْ بِلَفْظِ: غَفَلَ بَدَلَ سَهَا وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إِبْرَاهِيمُ الْمَذْكُورُ كَثِيرُ النَّقْلِ مِنْ تَعْلِيقَةِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْقَاضِي قَالَ فِي طَرِيقِ الْبِرِّ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ وَمُسْتَحِقُّهُ وَكَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ.
قُلْتُ: وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهَا فَقَالَ مَا فِي الْحَدِيثِ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ أَثَرَ الشَّافِعِيِّ، وَمَا قَالَهُ الْقَاضِي لَكَانَ أَشْمَلَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: يَعْمِدُ إِلَى جَمِيعِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ الثَّابِتَةُ فَيَسْتَعْمِلُ مِنْهَا ذِكْرًا يَحْصُلُ بِهِ الْبِرُّ، وَذَكَرَ شَيْخُنَا مَجْدُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: أَفْضَلُ الْكَيْفِيَّاتِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَسَلِّمْ عَدَدَ خَلْقِكَ، وَرِضَا نَفْسِكَ، وَزِنَةَ عَرْشِكَ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِكَ، وَعَنْ آخَرَ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ: عَدَدَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ، وَعَدَدَ كَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ، وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهَا وَالَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الدَّلِيلُ أَنَّ الْبِرَّ يَحْصُلُ بِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِقولِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إِذَا صَلَّى عَلَيْنَا، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذُرِّيَّتِهِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، الْحَدِيثَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيه): إِنْ كَانَ مُسْتَنَدُ الْمَرْوَزِيِّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ - تَعَالَى -، فَإِنَّ لَفْظَهُ: وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ كُلَّمَا ذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ فَكَانَ حَقُّ مَنْ غَيَّرَ عِبَارَتَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، كُلَّمَا ذَكَرَكَ الذَّاكِرُونَ إِلَخْ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ وَرَدَتْ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ بِالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} وَقَدَّمَ تَعْلِيمَ السَّلَامِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَمَا قَالُوا: عُلِّمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى رَدِّ قَوْلِ النَّخَعِيِّ: يُجْزِئُ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ قَوْلُهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فِي التَّشَهُّدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمَا عَدَلَ إِلَى تَعْلِيمِهِمْ كَيْفِيَّةً أُخْرَى، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ إِفْرَادَ الصَّلَاةِ عَنِ التَّسْلِيمِ لَا يُكْرَهُ، وَكَذَا الْعَكْسُ؛ لِأَنَّ تَعْلِيمَ التَّسْلِيمِ تَقَدَّمَ قَبْلَ تَعْلِيمِ الصَّلَاةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَفْرَدَ التَّسْلِيمَ مُدَّةً فِي التَّشَهُّدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِالْكَرَاهَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِمَا مَعًا فِي الْآيَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، نَعَمْ يُكْرَهُ أَنْ يُفْرِدَ الصَّلَاةَ وَلَا يُسَلِّمَ أَصْلًا، أَمَّا لَوْ صَلَّى فِي وَقْتٍ، وَسَلَّمَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُمْتَثِلًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ -
صلى الله عليه وسلم مِنْ جِهَةِ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهَا وَاعْتِنَاءِ الصَّحَابَةِ بِالسُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّتِهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّصْرِيحِ بِفَضْلِهَا أَحَادِيثُ قَوِيَّةٌ، لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا شَيْئًا، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ وَأَبِي طَلْحَةَ كِلَاهُمَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَرُوَاتُهُمَا ثِقَاتٌ، وَلَفْظُ أَبِي بُرْدَةَ: مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مِنْ أُمَّتِي صَلَاةً، مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَرَفَعَهُ بِهَا عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَكَتَبَ لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَلَفْظُ أَبِي طَلْحَةَ عِنْدَهُ نَحْوُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِلَفْظِ: صَلَاةُ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمْعَةٍ، فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً، وَلَا بَأْسَ بِسَنَدِهِ، وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِإِكْثَارِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ: الْبَخِيلِ
مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَأَطْنَبَ فِي تَخْرِيجِ طُرُقِهِ وَبَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِهِ الْحُسَيْنِ، وَلَا
يَقْصُرُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ خَطِئَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهَذِهِ الطُّرُقُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَحَدِيثُ: رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَهُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الطَّبَرَانِيِّ، وَآخَرُ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَآخَرُ مُرْسَلٌ عَنِ الْحَسَنِ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ، وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ بِلَفْظِ: بَعُدَ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: شَقِيَ عَبْدٌ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ مُرْسَلِ قَتَادَةَ: مِنَ الْجَفَاءِ أَنْ أُذْكَرَ عِنْدَ رَجُلٍ فَلَا يُصَلِّي عَلَيَّ وَمِنْهَا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ، فَمَا أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ قَالَ: مَا شِئْتَ.
قَالَ: الثُّلُثَ؟ قَالَ: مَا شِئْتَ وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى أَنْ قَالَ: أَجْعَلُ لَكَ كُلَّ صَلَاتِي؟ قَالَ: إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ فَهَذَا الْجَيِّدُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ضَعِيفَةٌ وَوَاهِيَةٌ. وَأَمَّا مَا وَضَعَهُ الْقَصَّاصُ فِي ذَلِكَ فَلَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْقَوِيَّةِ غُنْيَةٌ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ الْحَلِيمِيُّ: الْمَقْصُودُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَقَضَاءِ حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَقَالَ: لَيْسَتْ صَلَاتُنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَفَاعَةً لَهُ، فَإِنَّ مِثْلَنَا لَا يَشْفَعُ لِمِثْلِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِمُكَافَأَةِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا، فَإِنْ عَجَزْنَا عَنْهَا كَافَأْنَاهُ بِالدُّعَاءِ، فَأَرْشَدَنَا اللَّهُ لِمَا عَلِمَ عَجْزَنَا عَنْ مُكَافَأَةِ نَبِيِّنَا إِلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَائِدَةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ؛ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى نُصُوعِ الْعَقِيدَةِ، وَخُلُوصِ النِّيَّةِ، وَإِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالِاحْتِرَامِ لِلْوَاسِطَةِ الْكَرِيمَةِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَمَسَّكَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ مَنْ أَوْجَبَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ كُلَّمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِالرَّغْمِ وَالْإِبْعَادِ وَالشَّقَاءِ وَالْوَصْفِ بِالْبُخْلِ وَالْجَفَاءِ يَقْتَضِي الْوَعِيدَ، وَالْوَعِيدُ عَلَى التَّرْكِ مِنْ عَلَامَاتِ الْوُجُوبِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ فَائِدَةَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مُكَافَأَتُهُ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَإِحْسَانُهُ مُسْتَمِرٌّ، فَيَتَأَكَّدُ إِذَا ذُكِرَ، وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ:{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فَلَوْ كَانَ إِذَا ذُكِرَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لَكَانَ كَآحَادِ النَّاسِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ:{دُعَاءَ الرَّسُولِ} الدُّعَاءَ الْمُتَعَلِّقَ بِالرَّسُولِ، وَأَجَابَ مَنْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا: أَنَّهُ قَوْلٌ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَهُوَ قَوْلٌ مُخْتَرَعٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ لَلَزِمَ الْمُؤَذِّنَ إِذَا أَذَّنَ، وَكَذَا سَامِعَهُ، وَلَلَزِمَ الْقَارِئَ إِذَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَلَزِمَ الدَّاخِلَ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا تَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَلَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ مَا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ السَّمْحَةُ بِخِلَافِهِ، وَلَكَانَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ كُلَّمَا ذُكِرَ أَحَقَّ بِالْوُجُوبِ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ.
وَقَدْ أَطْلَقَ الْقُدُورِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كُلَّمَا ذُكِرَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ قَبْلَ قَائِلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ خَاطَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَفَرَّغِ السَّامِعُ لِعِبَادَةٍ أُخْرَى، وَأَجَابُوا عَنِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّهَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ وَطَلَبِهِ، وَفِي حَقِّ
مَنِ اعْتَادَ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ دَيْدَنًا، وَفِي الْجُمْلَةِ لَا دَلَالَةَ عَلَى وُجُوبِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ بِتَكَرُّرِ ذِكْرِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَاحْتَجَّ الطَّبَرِيُّ؛ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ أَصْلًا مَعَ وُرُودِ صِيغَةِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ جَمِيعِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فَرْضًا حَتَّى يَكُونَ تَارِكُهُ عَاصِيًا، قَالَ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلنَّدَبِ، وَيَحْصُلُ الِامْتِثَالُ لِمَنْ قَالَهُ، وَلَوْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ مُعَارَضٌ بِدَعْوَى غَيْرِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، إِمَّا بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ النَّدْبِ، وَلَا يُعْرَفُ عَنِ السَّلَفِ لِذَلِكَ مُخَالِفٌ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَلِّي فِي التَّشَهُّدِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، يُجْزِئُ عَنِ الصَّلَاةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُخَالِفْ فِي أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَإِنَّمَا ادَّعَى إِجْزَاءَ السَّلَامِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِيهَا التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَخُطْبَةُ الْجُمُعَةِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْخُطَبِ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَمِمَّ يَتَأَكَّدُ وَوَرَدَتْ فِيهِ أَخْبَارٌ خَاصَّةٌ أَكْثَرُهَا بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ عَقِبَ إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ، وَأَوَّلَ الدُّعَاءِ، وَأَوْسَطَهُ وَآخِرَهُ، وَفِي أَوَّلِهِ آكَدُ، وَفِي آخِرِ الْقُنُوتِ، وَفِي أَثْنَاءِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ، وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّفَرُّقِ، وَعِنْدَ السَّفَرِ وَالْقُدُومِ، وَعِنْدَ الْقِيَامِ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَعِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ الْهَمِّ وَالْكَرْبِ، وَعِنْدَ التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ، وَعِنْدَ قِرَاءَةِ الْحَدِيثِ، وَتَبْلِيغِ الْعِلْمِ، وَالذِّكْرِ، وَعِنْدَ نِسْيَانِ الشَّيْءِ، وَوَرَدَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ، وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، وَعِنْدَ طَنِينِ الْأُذُنِ، وَعِنْدَ التَّلْبِيَةِ، وَعَقِبَ الْوُضُوءِ، وَعِنْدَ الذَّبْحِ وَالْعُطَاسِ، وَوَرَدَ الْمَنْعُ مِنْهَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا، وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِالْإِكْثَارِ مِنْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
33 - بَاب هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}
6359 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ إِذَا أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى.
6360 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟) أَيِ: اسْتِقْلَالًا، أَوْ تَبَعًا، وَيَدْخُلُ فِي الْغَيْرِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَوَرَدَ فِيهَا أَحَادِيثُ أَحَدُهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الدُّعَاءِ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، فَفِيهِ: وَصَلِّ عَلَيَّ وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ: لَا تَتْرُكَنَّ فِي التَّشَهُّدِ الصَّلَاةَ عَلَيَّ وَعَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْحَدِيثُ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ وَاهٍ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: صَلُّوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَيَّ فَصَلُّوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمْ كَمَا بَعَثَنِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ الْعِيسَوِيِّ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ قَالَ: مَا أَعْلَمُ الصَّلَاةَ
يَنْبَغِي عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ وَحُكِيَ الْقَوْلُ بِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ: مَا تَعَبَّدَنَا بِهِ، وَجَاءَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَنْ مَالِكٍ يُكْرَهُ، وَقَالَ عِيَاضٌ: عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْجَوَازِ، وَقَالَ سُفْيَانُ: يُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ، وَوَجَدْتُ بِخَطِّ بَعْضِ شُيُوخِي: مَذْهَبُ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى إِلَّا عَلَى مُحَمَّدٍ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ عَنْ مَالِكٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا
يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى مَا أُمِرْنَا بِهِ، وَخَالَفَهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ بِالرَّحْمَةِ، فَلَا يُمْنَعُ إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَالَّذِي أَمِيلُ إِلَيْهِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ قَالُوا: يُذْكَرُ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ بِالرِّضَا وَالْغُفْرَانِ وَالصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ يَعْنِي اسْتِقْلَالًا لَمْ تَكُنْ مِنَ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا أُحْدِثَتْ فِي دَوْلَةِ بَنِي هَاشِمٍ، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَلَا أَعْرِفُ فِيهِ حَدِيثًا نَصًّا، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ إِنْ ثَبَتَ ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُمْ رُسُلًا.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: لَا تَجُوزُ إِلَّا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَجُوزُ مُطْلَقًا اسْتِقْلَالًا، وَتَجُوزُ تَبَعًا فِيمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَوْ أُلْحِقَ بِهِ؛ لِقولِهِ - تَعَالَى -:{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} وَلِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّمَهُمُ السَّلَامَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَلَمَّا عَلَّمَهُمُ الصَّلَاةَ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ وَأَبُو الْمَعَالِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَةَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَجُوزُ تَبَعًا مُطْلَقًا وَلَا تَجُوزُ اسْتِقْلَالًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُكْرَهُ اسْتِقْلَالًا لَا تَبَعًا، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَجُوزُ مُطْلَقًا وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ؛ فَإِنَّهُ صَدَّرَ بِالْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ثُمَّ عَلَّقَ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَعَقَّبَهُ بِالْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى الْجَوَازِ تَبَعًا، فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى فَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَوَقَعَ مِثْلُهُ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: إِنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ -
صلى الله عليه وسلم صَلِّ عَلَيَّ وَعَلَى زَوْجِي فَفَعَلَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَهَذَا الْقَوْلُ جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَالطَّبَرِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى جَسَدِكِ، وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَهُمَا أَنْ يَخُصَّا مَنْ شَاءَا بِمَا شَاءَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمَا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْمَنْعِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لَا مَا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْمُخْتَارُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَآلِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَتُكْرَهُ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لِشَخْصٍ مُفْرَدٍ، بِحَيْثُ يَصِيرُ شِعَارًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تُرِكَ فِي حَقِّ مِثْلِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ، كَمَا يَفْعَلُهُ الرَّافِضَةُ، فَلَوِ اتَّفَقَ وُقُوعُ ذَلِكَ مُفْرَدًا فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَّخَذَ شِعَارًا لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ فِي حَقِّ غَيْرِ مَنْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَهُمْ مَنْ أَدَّى زَكَاتَهُ إِلَّا نَادِرًا، كَمَا فِي قِصَّةِ زَوْجَةِ جَابِرٍ وَآلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ.
(تَنْبِيهٌ): اخْتُلِفَ فِي السَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي تَحِيَّةِ الْحَيِّ، فَقِيلَ: يُشْرَعُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: بَلْ تَبَعًا، وَلَا يُفْرَدُ لِوَاحِدٍ؛ لِكَوْنِهِ صَارَ شِعَارًا لِلرَّافِضَةِ، وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ.
قَوْلُهُ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ:
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ) هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ، مُخْتَلَفٌ فِي اسْمِهِ، وَقِيلَ: كُنْيَتُهُ اسْمُهُ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ مِنَ الْأَقْرَانِ، وَوَلَدُهُ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، فَفِي السَّنَدِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (وَذُرِّيَّتُهُ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا هِيَ النَّسْلُ، وَقَدْ يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْأَصْلِ، وَهِيَ مِنْ ذَرَأَ بِالْهَمْزِ، أَيْ: خَلَقَ، إِلَّا أَنَّ الْهَمْزَةَ سُهِّلَتْ؛ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مِنَ الذَّرِّ، أَيْ: خُلِقُوا أَمْثَالَ الذَّرِّ، وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ مَهْمُوزَ الْأَصْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِآلِ مُحَمَّدٍ أَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْآلِ لَا تَجِبُ؛ لِسُقُوطِهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآلِ غَيْرَ أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ أَوْ أَزْوَاجَهُ وَذُرِّيَّتَهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَنْعُ مِنْهُ، بَلْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ بِلَفْظِ: صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَوَاضِحٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّ الْأَزْوَاجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَأَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}
34 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ آذَيْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً
6361 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ آذَيْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً) كَذَا تَرْجَمَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِثْلَهُ، وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَوَّلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ إِنِّي اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً، وَمِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، لَكِنْ قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ؛ شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً، تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ، يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ بِلَفْظِ أَوْ وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بَيَانَ سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ، فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، فَأَغْضَبَاهُ فَسَبَّهُمَا وَلَعَنَهُمَا، فَلَمَّا خَرَجَا قُلْتُ لَهُ،
فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا، وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِيهِ
تَقْيِيدُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ لَيْسَ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ، وَلَفْظُهُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً، يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ لَأُمِّ سُلَيْمٍ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ) الْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَدْعُو صلى الله عليه وسلم بِدَعْوَةٍ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ؟ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ عِنْدَكَ فِي بَاطِنِ أَمْرِهِ لَا عَلَى مَا يَظْهَرُ مِمَّا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ وَجِنَايَتُهُ حِينَ دُعَائِي عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ مَنْ كَانَ بَاطِنُ أَمْرِهِ عِنْدَكَ أَنَّهُ مِمَّنْ تَرْضَى عَنْهُ، فَاجْعَلْ دَعْوَتِي عَلَيْهِ الَّتِي اقْتَضَاهَا مَا ظَهَرَ لِي مِنْ مُقْتَضَى حَالِهِ حِينَئِذٍ طَهُورًا وَزَكَاةً، قَالَ: وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا إِحَالَةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالظَّوَاهِرِ، وَحِسَابُ النَّاسِ فِي الْبَوَاطِنِ عَلَى اللَّهِ، انْتَهَى. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْأَحْكَامِ وَيْحكُمْ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: كَانَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ فَلَا يَأْتِي مِنْهُ هَذَا الْجَوَابَ، ثُمَّ قَالَ الْمَازِرِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَإِنَّ هَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ وَقَعَتْ بِحُكْمِ سَوْرَةِ الْغَضَبِ، لَا أَنَّهَا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ، فَيَعُودُ السُّؤَالُ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ دَعَوْتَهُ عَلَيْهِ أَوْ سَبَّهُ أَوْ جَلْدَهُ كَانَ مِمَّا خُيِّرَ بَيْنَ فِعْلِهِ لَهُ عُقُوبَةً لِلْجَانِي أَوْ تَرْكِهِ وَالزَّجْرُ لَهُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْغَضَبُ لِلَّهِ - تَعَالَى - بَعَثَهُ عَلَى لَعْنِهِ أَوْ جَلْدِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ شَرْعِهِ.
قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِشْفَاقِ وَتَعْلِيمِ أُمَّتِهِ الْخَوْفَ مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِشْفَاقَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ يَحْمِلُهُ عَلَى زِيَادَةٍ فِي عُقُوبَةِ الْجَانِي، لَوْلَا الْغَضَبُ مَا وَقَعَتْ، أَوْ إِشْفَاقًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ يَحْمِلُهُ عَلَى زِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ فِي عُقُوبَةِ الْجَانِي، لَوْلَا الْغَضَبُ مَا زَادَتْ، وَيَكُونُ مِنَ الصَّغَائِرِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُهَا، أَوْ يَكُونُ الزَّجْرُ يَحْصُلُ بِدُونِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّعْنُ وَالسَّبُّ يَقَعُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ كَاللَّعْنَةِ الْوَاقِعَةِ رَغْبَةً إِلَى اللَّهِ وَطَلَبًا لِلِاسْتِجَابَةِ.
وَأَشَارَ عِيَاضٌ إِلَى تَرْجِيحِ هَذَا الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ فَقَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ سَبٍّ وَدُعَاءٍ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَلَا مَنَوِيٍّ، وَلَكِنْ جَرَى عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي دَعْمِ كَلَامِهَا، وَصِلَةِ خِطَابِهَا عِنْدَ الْحَرَجِ، وَالتَّأْكِيدِ لِلْعَتْبِ، لَا عَلَى نِيَّةِ وُقُوعِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ: عَقْرَى، حَلْقَى، وَتَرِبَتْ يَمِينُكَ، فَأَشْفَقَ مِنْ مُوَافَقَةِ أَمْثَالِهَا الْقَدَرَ، فَعَاهَدَ رَبَّهُ وَرَغِبَ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ الْقَوْلَ رَحْمَةً وَقُرْبَةً، انْتَهَى.
وَهَذَا الِاحْتِمَالُ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: جَلَدْتُهُ فَإِنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَتَمَشَّى فِيهِ إِذْ لَا يَقَعُ الْجَلْدُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَقَدْ سَاقَ الْجَمِيعُ مَسَاقًا وَاحِدًا إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى الْجَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ فَيُتَّجَهُ، ثُمَّ أَبْدَى الْقَاضِي احْتِمَالًا آخَرَ فَقَالَ: كَانَ لَا يَقُولُ وَلَا يَفْعَلُ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ غَضَبِهِ إِلَّا الْحَقَّ، لَكِنَّ غَضَبَهُ لِلَّهِ قَدْ يَحْمِلُهُ عَلَى تَعْجِيلِ مُعَاقَبَةِ مُخَالِفِهِ، وَتَرْكِ الْإِغْضَاءِ وَالصَّفْحِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ: مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَيْ: مِنْ جِهَةِ تَعَيُّنِ التَّعْجِيلِ.
وَفِي الْحَدِيثِ كَمَالُ شَفَقَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ، وَجَمِيلُ خَلْقِهِ، وَكَرَمُ ذَاتِهِ حَيْثُ قَصَدَ مُقَابَلَةَ مَا وَقَعَ مِنْهُ بِالْجَبْرِ وَالتَّكْرِيمِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقٍّ مُعَيَّنٍ، وَفِي زَمَنٍ وَاضِحٍ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّعْمِيمِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ حَتَّى يَتَنَاوَلَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَهُ صلى الله عليه وسلم فَمَا أَظُنُّهُ يَشْمَلُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
35 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ الْفِتَنِ
6362 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفَوْهُ الْمَسْأَلَةَ، فَغَضِبَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالَ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: حُذَافَةُ، ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ.
وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ) سَتَأْتِي هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَحَدِيثُهَا فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ شَرْحِهِ يَتَعَلَّقُ بِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَوْلُهُ: أَحْفَوْهُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ وَفَاءٍ مَفْتُوحَةٍ، أَيْ: أَلَحُّوا عَلَيْهِ، يُقَالُ: أَحْفَيْتُهُ إِذَا حَمَلْتُهُ عَلَى أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْخَبَرِ، وَقَوْلُهُ: لَافٌّ بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَقَوْلُهُ: إِذَا لَاحَى بِمُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ، أَيْ: خَاصَمَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ غَضَبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْنَعُ مِنْ حُكْمِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَفِيهِ فَهْمُ عُمَرَ وَفَضْلُ عِلْمِهِ.
36 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ
6363 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو - مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ - أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: الْتَمِسْ لَنَا غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، فَلَمْ أَزَلْ أَخْدُمُهُ حَتَّى أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ، وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَدْ حَازَهَا، فَكُنْتُ أَرَاهُ يُحَوِّي وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ أَوْ كِسَاءٍ، ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا فَأَكَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءَهُ بِهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَدَا لَهُ أُحُدٌ، قَالَ: هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَمَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ خَيْبَرَ، وَذَكَرَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي وَغَيْرِهَا، وَسَيَأْتِي مِنْهُ التَّعَوُّذُ مُفْرَدًا بَعْدَ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَلَا الْإِكْثَارِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِقولِهِ: يُكْثِرُ فَائِدَةٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ
الْمُرَادَ بِالدَّوَامِ أَعَمُّ مِنَ الْفِعْلِ وَالْقُوَّةِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْحَاصِلَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ لِذَلِكَ مُزِيلًا، وَيُفِيدُ قَوْلُهُ: يُكْثِرُ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ كَثِيرًا.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ - إِلَى قَوْلِهِ: - وَالْجُبْنِ) يَأْتِي شَرْحُهُ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (وَضَلَعِ الدَّيْنِ) أَصْلُ الضَّلَعِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ: الِاعْوِجَاجُ، يُقَالُ: ضَلَعَ بِفَتْحِ اللَّامِ يَضْلَعُ، أَيْ: مَالَ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا ثِقَلُ الدَّيْنِ وَشِدَّتُهُ، وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يَجِدُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَفَاءً، وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْمُطَالَبَةِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا دَخَلَ هَمُّ الدَّيْنِ قَلْبًا إِلَّا أَذْهَبَ مِنَ الْعَقْلِ مَا لَا يَعُودُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) أَيْ شِدَّةِ تَسَلُّطِهِمْ، كَاسْتِيلَاءِ الرِّعَاعِ هَرْجًا وَمَرْجًا، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هَذَا الدُّعَاءُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ ; لِأَنَّ أَنْوَاعَ الرَّذَائِلِ ثَلَاثَةٌ؛ نَفْسَانِيَّةٌ، وَبَدَنِيَّةٌ، وَخَارِجِيَّةٌ.
فَالْأُولَى بِحَسَبِ الْقُوَى الَّتِي لِلْإِنْسَانِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ؛ الْعَقْلِيَّةُ، وَالْغَضَبِيَّةُ وَالشَّهْوَانِيَّةُ، فَالْهَمُّ وَالْحَزَنُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْلِيَّةِ، وَالْجُبْنُ بِالْغَضَبِيَّةِ، وَالْبُخْلُ بِالشَّهْوَانِيَّةِ، وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ بِالْبَدَنِيَّةِ. وَالثَّانِي يَكُونُ عِنْدَ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ وَتَمَامِ الْآلَاتِ وَالْقُوَى، وَالْأَوَّلُ عِنْدَ نُقْصَانِ عُضْوٍ وَنَحْوِهِ، وَالضَّلَعُ وَالْغَلَبَةُ بِالْخَارِجِيَّةِ، فَالْأَوَّلُ مَالِيٌّ، وَالثَّانِي جَاهِيٌّ، وَالدُّعَاءُ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ.
37 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
6364 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ خَالِدٍ بِنْتَ خَالِدٍ - قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأُمُّ خَالِدٍ بِنْتُ خَالِدٍ اسْمُهَا: أَمَةُ - بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ - بِنْتُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي اللِّبَاسِ، وَأَنَّهَا وُلِدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ لَمَّا هَاجَرَ أَبَوَاهَا إِلَيْهَا، ثُمَّ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، وَكَانَتْ صَغِيرَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ حَفِظَتْ عَنْهُ.
6365 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: كَانَ سَعْدٌ يَأْمُرُ بِخَمْسٍ، وَيَذْكُرُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِنَّ اللَّهُمَّ: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا - يَعْنِي فِتْنَةَ الدَّجَّالِ - وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
6366 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَتَا لِي: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَكَذَّبْتُهُمَا وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا فَخَرَجَتَا، وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَجُوزَيْنِ
…
وَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا، فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلَاةٍ إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنَ الْبُخْلِ) كَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ هُنَا لِلْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَهِيَ غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ فِي الْبَابِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذِكْرُ الْبُخْلِ، لَكِنْ قَدْ تَرْجَمَ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ، وَذَكَرَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ بِعَيْنِهِ، ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِي مُخْتَصٌّ بِعَذَابِ الْقَبْرِ لَا ذِكْرَ لِلْبُخْلِ فِيهِ أَصْلًا، فَهُوَ بَقِيَّةٌ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ كَمَا سَيَأْتِي مَنْسُوبًا فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ
مُصْعَبٍ) هُوَ ابْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، وَلِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ سَعْدٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَحَدَّثْتُ بِهِ مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ وَأَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبٍ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَحَدَّثْتُ بِهِ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ، فَقَالَ: وَأَنَا حَدَّثَنِي بِهِنَّ سَعْدٌ وَقَدْ أَوْرَدَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ جَمِيعًا عَنْ سَعْدٍ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ مُصْعَبٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْهُمَا، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبٍ وَحْدَهُ، وَفِي سِيَاقِ عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ دُبُرَ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُصْعَبٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُصْعَبٍ ذِكْرُ الْبُخْلِ وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ عَمْرٍو، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذِهِ رِوَايَةُ زَكَرِيَّا عَنْهُ، وَقَالَ إِسْرَائِيلُ عَنْهُ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الدَّارِمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يَضْطَرِبُ فِيهِ.
قُلْتُ: لَعَلَّ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ سَمِعَهُ مِنْ جَمَاعَةٍ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سَمَّى مِنْهُمْ ثَلَاثَةً كَمَا تَرَى، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ سَعْدٌ يَأْمُرُ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَأْمُرُنَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
وَجَرِيرٌ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَأَبُو وَائِلٍ هُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، وَهُوَ وَمَسْرُوقٌ شَيْخُهُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ إِلَى عَائِشَةَ، وَرِوَايَةُ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ مِنَ الْأَقْرَانِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُسْتَمْلِي، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَمَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ بِوَاوٍ بَدَلَ عَنْ، قَالَ: وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَلَا يُحْفَظُ لِأَبِي وَائِلٍ عَنْ عَائِشَةَ رِوَايَةٌ.
قُلْتُ: أَمَّا كَوْنُهُ الصَّوَابَ، فَصَوَابٌ؛ لِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ فِي الْبُخَارِيِّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، وَأَمَّا النَّفْيُ فَمَرْدُودٌ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَائِشَةَ حَدِيثَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: مَا رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدَّ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَالثَّانِي: إِذَا تَصَدَّقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَهَذَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، وَالْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَهَذَا جَمِيعُ مَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ لِأَبِي وَائِلٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَائِشَةَ حَدِيثَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا دُونَهَا، إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً الْحَدِيثَ، وَفِي بَعْضِ هَذَا مَا يَرُدُّ إِطْلَاقَ أَبِي عَلِيٍّ.
قَوْلُهُ: (دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ) عُجُزِ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ بَعْدَهَا زَايٌ، جَمْعُ عَجُوزٍ، مِثْلُ عَمُودٍ وَعُمُدٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى عَجَائِزَ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَلَا يُقَالُ عَجُوزَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ أُنْعِمْ هُوَ رُبَاعِيٌّ مِنْ أَنْعَمَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا لَمْ تُصَدِّقْهُمَا أَوَّلًا.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَجُوزَيْنِ
…
وَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: صَدَقَتَا) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: حُذِفَ خَبَرُ إِنَّ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: دَخَلَتَا. قُلْتُ: ظَهَرَ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ هُوَ الَّذِي اخْتَصَرَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَسَاقَهُ، وَلَفْظُهُ: فَقُلْتُ
لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَجُوزَيْنِ مِنْ عَجَائِزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ دَخَلَتَا عَلَيَّ، فَزَعَمَتَا أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَقَالَ: صَدَقَتَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَرِيرٍ شَيْخِ عُثْمَانَ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا فَيُضْبَطُ: وَذَكَرْتُ لَهُ بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، أَيْ: ذَكَرْتُ لَهُ مَا قَالَتَا، وَقَوْلُهُ: تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى، وَبَيَّنْتُ طَرِيقَ الْجَمْعِ بَيْنَ جَزْمِهِ صلى الله عليه وسلم هُنَا بِتَصْدِيقِ الْيَهُودِيَّتَيْنِ فِي إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ: عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ، فَقَالَ: إِنَّمَا يُفْتَنُ يَهُودُ فَجَرَى عَلَى مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ لِغَيْرِ الْيَهُودِ اسْتَعَاذ مِنْهُ وَعَلَّمَهُ، وَأَمَرَ بِإِيقَاعِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِيَكُونَ أَنْجَحَ فِي الْإِجَابَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
38 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ
6367 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا) أَيْ: زَمَنِ الْحَيَاةِ، (وَالْمَمَاتِ) أَيْ: زَمَنِ الْمَوْتِ مِنْ أَوَّلِ النَّزْعِ، وَهَلُمَّ جَرًّا.
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْجِهَادِ وَالْبُخْلِ وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ وَالْهَرَمِ وَالْمُرَادُ بِهِ الزِّيَادَةُ فِي كِبَرِ السِّنِّ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَقَدْ مَضَى فِي الْجَنَائِزِ. وَأَمَّا فِتْنَةُ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لَمَعَانٍ كَثِيرَةٍ، وَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَرْغَبَ إِلَى رَبِّهِ فِي رَفْعِ مَا نَزَلَ، وَدَفْعِ مَا لَمْ يَنْزِلْ، وَيَسْتَشْعِرَ الِافْتِقَارَ إِلَى رَبِّهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرَ دَفْعًا عَنْ أُمَّتِهِ وَتَشْرِيعًا لَهُمْ؛ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ صِفَةَ الْمُهِمِّ مِنَ الْأَدْعِيَةِ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْمُرَادِ بِفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ فِي بَابِ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ: الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، وَاسْتُعْمِلَتْ فِي الشَّرْعِ فِي اخْتِبَارِ كَشْفِ مَا يُكْرَهُ، وَيُقَالُ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ إِذَا اخْتَبَرْتَهُ بِالنَّارِ لِتَنْظُرَ جَوْدَتَهُ، وَفِي الْغَفْلَةِ عَنِ الْمَطْلُوبِ كَقَوْلِهِ:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الدِّينِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} قُلْتُ: وَاسْتُعْمِلَتْ أَيْضًا فِي الضَّلَالِ وَالْإِثْمِ وَالْكُفْرِ وَالْعَذَابِ وَالْفَضِيحَةِ، وَيُعْرَفُ الْمُرَادُ حَيْثُمَا وَرَدَ بِالسِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ.
39 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ
6368 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ فِيهِمَا، وَكَذَا الرَّاءِ، وَالْمُثَلَّثَةِ، وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ. وَالْمَأْثَمُ: مَا يَقْتَضِي الْإِثْمَ، وَالْمَغْرَمُ: مَا يَقْتَضِي الْغُرْمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ) فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ) وَالْمُرَادُ الْإِثْمُ وَالْغَرَامَةُ، وَهِيَ مَا يَلْزَمُ الشَّخْصَ أَدَاؤُهُ كَالدَّيْنِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ - كَمَا مَضَى فِي بَابِ الدُّعَاءُ قَبْلَ السَّلَامِ -: فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ هَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ سُلَيْمٍ الْحِمْصِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا، وَفِيهِ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُكْثِرُ التَّعَوُّذَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ، وَقُلْتُ: إِنِّي لَمْ أَقِفْ حِينَئِذٍ عَلَى تَسْمِيَةِ الْقَائِلِ، ثُمَّ وَجَدْتُ تَفْسِيرَ الْمُبْهَمِ فِي الِاسْتِعَاذَةِ لِلنَّسَائِيِّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ: كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَكْثَرَ مَا تَتَعَوَّذُ مِنَ الْمَغْرَمِ، قَالَ: إِنَّهُ مَنْ غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ، فَعُرِفَ أَنَّ السَّائِلَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ عَائِشَةُ رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ) هِيَ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ، وَعَذَابُ الْقَبْرِ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ) هِيَ سُؤَالُ الْخَزَنَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي بَابِ الدُّعَاءُ قَبْلَ السَّلَامِ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: صَرَّحَ فِي فِتْنَةِ الْغِنَى بِذِكْرِ الشَّرِّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَضَرَّتَهُ أَكْثَرُ مِنْ مَضَرَّةِ غَيْرِهِ، أَوْ تَغْلِيظًا عَلَى أَصْحَابِهِ حَتَّى لَا يَغْتَرُّوا فَيَغْفُلُوا عَنْ مَفَاسِدِهِ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ صُورَتَهُ لَا يَكُونُ فِيهَا خَيْرٌ، بِخِلَافِ صُورَةِ الْفَقْرِ؛ فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ خَيْرًا، انْتَهَى. وَكُلُّ هَذَا غَفْلَةٌ عَنِ الْوَاقِعِ؛ فَإِنَّ الَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ لَفْظَ شَرِّ فِي الْأَصْلِ ثَابِتَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَرَهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ، فَسَيَأْتِي بَعْدَ قَلِيلٍ فِي بَابِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ مُفَرَّقًا عَنْ هِشَامٍ بِسَنَدِهِ هَذَا بِلَفْظِ: شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ بِإِسْقَاطِ شَرِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالتَّقْيِيدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ بِالشَّرِّ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ خَيْرٌ بِاعْتِبَارٍ، فَالتَّقْيِيدُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ بِالشَّرِّ يُخْرِجُ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، سَوَاءٌ قَلَّ أَمْ كَثُرَ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: فِتْنَةُ الْغِنَى: الْحِرْصُ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ، وَحُبُّهُ، حَتَّى يَكْسِبَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَيَمْنَعَهُ مِنْ وَاجِبَاتِ إِنْفَاقِهِ وَحُقُوقِهِ، وَفِتْنَةُ الْفَقْرِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ الْمُدْقِعُ الَّذِي لَا يَصْحَبُهُ خَيْرٌ وَلَا وَرَعٌ، حَتَّى يَتَوَرَّطَ صَاحِبُهُ بِسَبَبِهِ فِيمَا لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ، وَلَا يُبَالِي بِسَبَبِ فَاقَتِهِ عَلَى أَيِّ حَرَامٍ وَثَبَ، وَلَا فِي أَيِّ حَالَةٍ تَوَرَّطَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ فَقْرُ النَّفْسِ الَّذِي لَا يَرُدُّهُ مِلْكُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى وَلَا عَكْسِهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي بَابِ الدُّعَاءُ قَبْلَ السَّلَامِ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ إِلَخْ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَوَائِلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَحِكْمَةُ الْعُدُولِ عَنِ الْمَاءِ الْحَارِّ إِلَى الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، مَعَ أَنَّ الْحَارَّ فِي الْعَادَةِ أَبْلَغُ فِي إِزَالَةِ الْوَسَخِ، الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ مَاءَانِ طَاهِرَانِ، لَمْ تَمَسَّهُمَا الْأَيْدِي، وَلَمْ يَمْتَهِنْهُمَا الِاسْتِعْمَالُ، فَكَانَ ذِكْرُهُمَا آكَدَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، أَشَارَ إِلَى هَذَا الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَلَهُ تَوْجِيهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَطَايَا بِمَنْزِلَةِ النَّارِ؛ لِكَوْنِهَا تُؤَدِّي إِلَيْهَا فَعَبَّرَ عَنْ إِطْفَاءِ حَرَارَتِهَا بِالْغَسْلِ تَأْكِيدًا فِي إِطْفَائِهَا وَبَالَغَ فِيهِ بِاسْتِعْمَالِ الْمُبَرِّدَاتِ تَرَقِّيًا عَنِ الْمَاءِ إِلَى أَبْرَدَ مِنْهُ
وَهُوَ الثَّلْجُ، ثُمَّ إِلَى أَبْرَدَ مِنْهُ وَهُوَ الْبَرَدُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ يَجْمُدُ وَيَصِيرُ جَلِيدًا بِخِلَافِ الثَّلْجِ، فَإِنَّهُ يَذُوبُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ، وَقَيَّدَهُ بِالصَّلَاةِ وَلَفْظُهُ: كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ وَذَكَرْتُ هُنَاكَ تَوْجِيهَ إِدْخَالِهِ فِي الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ ذِكْرُ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يَقَعْ عِنْدَهُمَا مَعًا فِيهِ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ إِلَخْ وَهُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ ذَكَرَ فِيهِ كُلٌّ مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
40 - بَاب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْجُبْنِ وَالْكَسَلِ. كُسَالَى وَكَسَالَى وَاحِدٌ
6369 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْجُبْنِ وَالْكَسَلِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (كَسَالَى وَكُسَالَى وَاحِدٌ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا، قُلْتُ: وَهُمَا قِرَاءَتَانِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ بِالْفَتْحِ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ بِالْفَتْحِ أَيْضًا، لَكِنْ أَسْقَطَ الْأَلِفَ وَسَكَّنَ السِّينَ، وَوَصَفَهُمْ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ الْمُفْرَدُ؛ لِمُلَاحَظَةِ مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ كَمَا قُرِئَ: وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى، وَالْكَسَلُ: الْفُتُورُ، وَالْتَوَانِي وَهُوَ ضِدُّ النَّشَاطِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ.
قَوْلُهُ: (عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو) هُوَ مَوْلَى الْمُطَّلِبِ الْمَاضِي ذِكْرُهُ فِي بَابِ التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ.
قَوْلُهُ: (فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ - إِلَى قَوْلِهِ: - وَالْجُبْنِ) تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْأُمُورِ السِّتَّةِ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ الْهَمَّ لِمَا يَتَصَوَّرُهُ الْعَقْلُ مِنَ الْمَكْرُوهِ فِي الْحَالِ، وَالْحَزَنُ: لِمَا وَقَعَ فِي الْمَاضِي، وَالْعَجْزُ: ضِدُّ الِاقْتِدَارِ، وَالْكَسَلُ: ضِدُّ النَّشَاطِ، وَالْبُخْلُ: ضِدُّ الْكَرَمِ، وَالْجُبْنُ: ضِدُّ الشَّجَاعَةِ، وَقَوْلُهُ: وَضَلَعِ الدَّيْنِ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَتَفْسِيرُهُ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، وَقَوْلُهُ: وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ هِيَ إِضَافَةٌ لِلْفَاعِلِ، اسْتَعَاذَ مِنْ أَنْ يَغْلِبَهُ الرِّجَالُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَهَنِ فِي النَّفْسِ وَالْمَعَاشِ.
41 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ الْبُخْلِ. الْبُخْلُ وَالْبَخَلُ وَاحِدٌ مِثْلُ الْحُزْنِ وَالْحَزَنِ
6370 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ قال:، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، كَانَ يَأْمُرُ بِهَؤُلَاءِ الْخَمْسِ، وَيُحَدِّثُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنَ الْبُخْلِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (الْبُخْلُ وَالْبَخَلُ وَاحِدٌ) يَعْنِي بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَبِفَتْحِهِمَا.
قَوْلُهُ: (مِثْلُ الْحُزْنِ وَالْحَزَنِ) يَعْنِي فِي وَزْنِهِمَا.
قَوْلُهُ: (وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) فِي
رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ: وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ بِزِيَادَةِ مِنْ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ رَوْحٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ الْمَاضِيَةِ قَرِيبًا عَنْ شُعْبَةَ: يَعْنِي فِتْنَةَ الدَّجَّالِ، وَحَكَى الْكَرْمَانِيُّ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ شُعْبَةَ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ بَيَّنَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ رَاوِي الْخَبَرِ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظُهُ: قَالَ شُعْبَةُ: فَسَأَلْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَيْرٍ عَنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا فَقَالَ: الدَّجَّالُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِلَفْظِ: وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا فَلَعَلَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، وَفِي إِطْلَاقِ الدُّنْيَا عَلَى الدَّجَّالِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِتْنَتَهُ أَعْظَمُ الْفِتَنِ الْكَائِنَةِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
42 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ. {أَرَاذِلُنَا} أَسْقَاطُنَا
6371 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ. أَرَاذِلُنَا: سُقَّاطُنَا) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ جَمْعُ سَاقِطٍ، وَهُوَ اللَّئِيمُ فِي حَسَبِهِ وَنَسَبِهِ، وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ، وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظُ التَّرْجَمَةِ، لَكِنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَرْذَلِ الْعُمُرِ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الَّذِي قَبْلَهُ الْهَرَمُ الَّذِي فِي حَدِيثِ أَنَسٍ؛ لِمَجِيئِهَا مَوْضِعَ الْأُخْرَى مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.
43 - بَاب الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْوَجَعِ
6372 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا.
6373 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنْ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَبِشَطْرِهِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ
لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ، قُلْتُ: آأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِي لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ. قَالَ سَعْدٌ: رَثَى لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْوَجَعِ) أَيْ: بِرَفْعِ الْمَرَضِ عَمَّنْ نَزَلَ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْوَبَاءِ وَتَفْسِيرُهُ فِي بَابِ مَا يُذْكَرُ فِي الطَّاعُونِ مِنْ كِتَابِ الطِّبِّ، وَأَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الطَّاعُونِ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ مَرَضٌ عَامٌّ يَنْشَأُ عَنْ فَسَادِ الْهَوَاءِ، وَقَدْ يُسَمَّى طَاعُونًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَأَوْضَحْتُ هُنَاكَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّاعُونَ وَالْوَبَاءَ مُتَرَادِفَانِ بِمَا ثَبَتَ هُنَاكَ أَنَّ الطَّاعُونَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، وَأَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، وَكَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عُمَرَ فَوَقَعَ بِالْمَدِينَةِ بِالنَّاسِ مَوْتٌ ذَرِيعٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: انْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالرُّكْنِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ الْوَبَاءُ؛ لِأَنَّهُ الْمَرَضُ الْعَامُّ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ حَيْثُ قَالَتْ فِي أَوَّلِهِ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوَبَأُ أَرْضِ اللَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ.
ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: عَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى الْحَدِيثَ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالرُّكْنِ الثَّانِي مِنَ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ الْوَجَعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَالَ سَعْدٌ: رَثَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ إِدْرَاجًا، وَأَنَّ قَوْلَهُ يَرْثِي لَهُ إِلَخْ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، مُتَمَسِّكًا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَفِيهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ إِلَخْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، هَلْ وَصَلَ هَذَا الْقَدْرُ عَنْ سَعْدٍ أَوْ قَالَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَالْحُكْمُ لِلْوَصْلِ؛ لِأَنَّ مَعَ رُوَاتِهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَهُوَ حَافِظٌ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى الدُّعَاءِ لِسَعْدٍ بِالْعَافِيَةِ لِيَرْجِعَ إِلَى دَارِ هِجْرَتِهِ وَهِيَ الْمَدِينَةُ، وَلَا يَسْتَمِرَّ مُقِيمًا بِسَبَبِ الْوَجَعِ بِالْبَلَدِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَهِيَ مَكَّةُ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ إِلَخْ وَقَدْ أَوْضَحْتُ فِي أَوَائِلِ الْوَصَايَا مَا يَتَعَلَّقُ بِسَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْمُزَيِّنِ الْمَالِكِيُّ أَنَّ الرِّثَاءَ لِسَعْدِ ابْنِ خَوْلَةَ بِسَبَبِ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا مَتَى رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى مَرِضَ بِهَا فَمَاتَ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ سَكَنَ مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَقِيلَ: مَاتَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ لِلْمُهَاجِرِينَ أَنْ يُقِيمُوا بِمَكَّةَ إِلَّا ثَلَاثًا بَعْدَ الصَّدْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ سَعْدَ ابْنَ خَوْلَةَ تُوُفِّيَ قَبْلَ تِلْكَ الْحَجَّةِ، وَقِيلَ: مَاتَ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ أَطَالَ الْمَقَامَ بِمَكَّةَ بِغَيْرِ عُذْرٍ إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ لَمْ يَأْثَمْ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم حِينَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ -: أَحَابِسَتُنَا هِيَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْمُهَاجِرِ إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَنْ يُقِيمَ أَزْيَدَ مِنَ الثَّلَاثِ الْمَشْرُوعَةِ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَالَهَا صلى الله عليه وسلم قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ثُمَّ حَجَّ فَقَرَنَهَا الرَّاوِي بِالْحَدِيثِ؛ لِكَوْنِهَا مِنْ تَكْمِلَتِهِ، انْتَهَى. وَكَلَامُهُ مُتَعَقَّبٌ فِي مَوَاضِعَ؛ مِنْهَا: اسْتِشْهَادُهُ بِقِصَّةِ صَفِيَّةَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تُجَاوِزَ الثَّلَاثَ الْمَشْرُوعَةَ، وَالِاحْتِبَاسُ الِامْتِنَاعُ وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْيَوْمِ بَلْ بِدُونِهِ، وَمِنْهَا: جَزْمُهُ بِأَنَّ
سَعْدَ ابْنَ خَوْلَةَ أَطَالَ الْمَقَامَ بِمَكَّةَ وَرَمْزُهُ إِلَى أَنَّهُ أَقَامَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَإِنَّهُ أَثِمَ بِذَلِكَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَظْهَرُ فَسَادُهُ بِالتَّأَمُّلِ.
44 - بَاب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَفِتْنَةِ النَّارِ
6374 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تَعَوَّذُوا بِكَلِمَاتٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ.
6375 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ:، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَفِتْنَةِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ بَدَلَ فِتْنَةِ النَّارِ.
قَوْلُهُ: (أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ) هُوَ ابْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ الزَّاهِدُ الْمَشْهُورُ، وَإِسْحَاقُ الرَّاوِي عَنْهُ هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَشَيْخُهُ زَائِدَةُ هُوَ ابْنُ قُدَامَةَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى قَبْلَ قَلِيلٍ، وكذا حَدِيثُ عَائِشَةَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ.
45 - بَاب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى
6376 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَالَتِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَ مُخْتَصَرًا مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
46 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ
6377 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها
قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ قَلْبِي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ بِتَمَامِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا مُسْتَوْفًى.
47 - بَاب الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ الْبَرَكَةِ
6378، 6379 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَسٌ خَادِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ.
وَعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، مِثْلَهُ.
[الحديث 6379 - طرفه في: 6381]
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ مَعَ الْبَرَكَةِ) سَقَطَ هَذَا الْبَابُ وَالتَّرْجَمَةُ مِنْ رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ.
قَوْلُهُ: (شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسٌ خَادِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ) الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ: (وَعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مِثْلَهُ) قُلْتُ: هَكَذَا قَالَ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، جَعَلَ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَهُوَ غُنْدَرٌ هَذَا، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ رِوَايَةَ هِشَامِ بْنَ زَيْدٍ الَّتِي فِي آخِرِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ كَمَا قَالَ غُنْدَرٌ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، وَأَخْرَجَهُ فِي بَابِ مَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ، وَهُوَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا كَذَلِكَ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِخَادِمِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ مِنْ طَرِيقِ حَرَمِيِّ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَتْ أُمِّي، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ.
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ لَا يَضُرُّ؛ فَإِنَّ أَنَسًا حَضَرَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَتْ بِي أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: هَذَا ابْنِي أَنَسٌ يَخْدُمُكَ، فَادْعُ اللَّهَ لَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَمَّا رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ الْمَعْطُوفَةُ هُنَا فَإِنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى رِوَايَةِ قَتَادَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَهِشَامِ بْنِ زَيْدٍ جَمِيعًا عَنْ أَنَسٍ، وَكَذَا صَنِيعُ مُسْلِمٍ حَيْثُ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ.
(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَسٌ
خَادِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ) تَقَدَّمَ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَبْدَأٌ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ فِي بَابِ مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ وَقَدْ بَسَطْتُ شَرْحَهُ هُنَاكَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ، وَذَكَرْتُ طَرَفًا مِنْهُ قَرِيبًا فِي بَابِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِخَادِمِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ.
بَابُ الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الْوَلَدِ مَعَ الْبَرَكَةِ
6380، 6381 - حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: أَنَسٌ خَادِمُكَ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الْوَلَدِ مَعَ الْبَرَكَةِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ، وَمَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ.
48 - بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ الِاسْتِخَارَةِ
6382 -
حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَالسُّورَةِ مِنْ الْقُرْآنِ: إِذَا هَمَّ أحدكم بِالْأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ. وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ.
قَوْلُهُ: (بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ الِاسْتِخَارَةِ) هِيَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْخَيْرِ، أَوْ مِنَ الْخِيَرَةِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ بِوَزْنِ الْعِنَبَةِ، اسْمٌ مِنْ قَوْلِكَ: خَارَ اللَّهُ لَهُ، وَاسْتَخَارَ اللَّهَ: طَلَبَ مِنْهُ الْخِيَرَةَ، وَخَارَ اللَّهُ لَهُ: أَعْطَاهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ طَلَبُ خَيْرِ الْأَمْرَيْنِ لِمَنَ احْتَاجَ إِلَى أَحَدِهِمَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ جَمْعُ مَوْلًى وَاسْمُهُ زَيْدٌ، وَيُقَالُ: زَيْدٌ جَدُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُوهُ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ ثِقَاتِ الْمَدَنِيِّينَ وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى وَلَاءِ آلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَخَرَجَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ فِي زَمَنِ الْمَنْصُورِ فَلَمَّا قُتِلَ مُحَمَّدٌ حُبِسَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورُ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ الْمُعِينِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ فِي الضُّعَفَاءِ، وَأَسْنَدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ مَحْبُوسًا فِي الْمُطْبَقِ حِينَ هُزِمَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي بَنِي حَسَنٍ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ حَدِيثُ الِاسْتِخَارَةِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْوِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ مُنْكَرٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إِذَا كَانَ حَدِيثٌ غَلَطًا يَقُولُونَ: ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ: ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ يَحْمِلُونَ
عَلَيْهِمَا وَقَدِ اسْتَشْكَلَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ هَذَا الْكَلَامَ، وَقَالَ: مَا عَرَفْتُ الْمُرَادَ بِهِ؛ فَإِنَّ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ، وَثَابِتًا ثِقَتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، قُلْتُ: يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُرَادَهُمُ التَّهَكُّمُ، وَالنُّكْتَةُ فِي اخْتِصَاصِ التَّرْجَمَةِ لِلشُّهْرَةِ وَالْكَثْرَةِ، ثُمَّ سَاقَ ابْنُ عَدِيٍّ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحَادِيثَ، وَقَالَ: هُوَ مُسْتَقِيمُ الْحَدِيثِ، وَالَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِ حَدِيثَ الِاسْتِخَارَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الْمَوَالِ.
قُلْتُ: يُرِيدُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ شَوَاهِدَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ مَعَ مُشَاحَحَةٍ فِي إِطْلَاقِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي الْمَوَالِ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ، رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي أَيُّوبَ.
قُلْتُ: وَجَاءَ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، فَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُمَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ الصَّلَاةِ سِوَى حَدِيثِ جَابِرٍ، إِلَّا أَنَّ لَفْظَ أَبِي أَيُّوبَ: اكْتُمِ الْخُطْبَةَ وَتَوَضَّأْ فَأَحْسِنِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ صَلِّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكَ الْحَدِيثَ فَالتَّقْيِيدُ بِرَكْعَتَيْنِ خَاصٌّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَجَاءَ ذِكْرُ الِاسْتِخَارَةِ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ رَفَعَهُ: مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ لَكِنْ بِذِكْرِ الرِّضَا وَالسُّخْطِ لَا بِلَفْظِ الِاسْتِخَارَةِ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا قَالَ: اللَّهُمَّ خِرْ لِي وَاخْتَرْ لِي، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ بِسَنَدٍ وَاهٍ جِدًّا.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ) وَقَعَ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ - أَيِ ابْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرٌ السَّلَمِيُّ وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ نِسْبَةً إِلَى بَنِي سَلِمَةَ بِكَسْرِ اللَّامِ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَيْرٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ، حَدَّثَنِي جَابِرٌ.
قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ) فِي رِوَايَةِ مَعْنٍ: يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ وَكَذَا فِي طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: هُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ وَالْمُسْتَحَبَّ لَا يُسْتَخَارُ فِي فِعْلِهِمَا، وَالْحَرَامُ وَالْمَكْرُوهُ لَا يُسْتَخَارُ فِي تَرْكِهِمَا، فَانْحَصَرَ الْأَمْرُ فِي الْمُبَاحِ وَفِي الْمُسْتَحَبِّ، إِذَا تَعَارَضَ مِنْهُ أَمْرَانِ أَيُّهُمَا يَبْدَأُ بِهِ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، قُلْتُ: وَتَدْخُلُ الِاسْتِخَارَةُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ الْمُخَيَّرِ، وَفِيمَا كَانَ زَمَنُهُ مُوَسَّعًا، وَيَتَنَاوَلُ الْعُمُومَ الْعَظِيمَ مِنَ الْأُمُورِ، وَالْحَقِيرَ فَرُبَّ حَقِيرٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ.
قَوْلُهُ: (كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ) فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَاضِيَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ: كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، قِيلَ: وَجْهُ التَّشْبِيهِ عُمُومُ الْحَاجَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى الِاسْتِخَارَةِ كَعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَى الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يَقَعُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّشَهُّدِ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَخَذْتُ التَّشَهُّدَ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ كَلِمَةً كَلِمَةً أَخْرَجَهَا الطَّحَاوِيُّ، وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ نَحْوَهُ، وَقَالَ: حَرْفًا حَرْفًا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: التَّشْبِيهُ فِي تَحَفُّظِ حُرُوفِهِ وَتَرَتُّبِ كَلِمَاتِهِ وَمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ وَالدَّرْسِ لَهُ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ وَالتَّحَقُّقِ لِبَرَكَتِهِ وَالِاحْتِرَامِ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلِمَ بِالْوَحْيِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاعْتِنَاءِ التَّامِّ الْبَالِغِ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَهَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِجَعْلِهِمَا تِلْوَيْنِ لِلْفَرِيضَةِ وَالْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا هَمَّ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: يُعَلِّمُنَا قَائِلًا: إِذَا هَمَّ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ: يَقُولُ: إِذَا هَمَّ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ قُتَيْبَةَ: لَنَا قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: تَرْتِيبُ الْوَارِدِ عَلَى الْقَلْبِ عَلَى مَرَاتِبِ: الْهِمَّةُ ثُمَّ اللَّمَّةُ ثُمَّ الْخَطْرَةُ ثُمَّ النِّيَّةُ ثُمَّ الْإِرَادَةُ ثُمَّ الْعَزِيمَةُ، فَالثَّلَاثَةُ الْأُولَى لَا يُؤَاخَذُ بِهَا بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى، فَقَوْلُهُ: إِذَا هَمَّ يُشِيرُ إِلَى أَوَّلِ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ يَسْتَخِيرُ فَيَظْهَرُ لَهُ بِبَرَكَةِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ مَا هُوَ الْخَيْرُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَمَكَّنَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ وَقَوِيَتْ فِيهِ عَزِيمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ؛ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَيْهِ لَهُ مَيْلٌ وَحُبٌّ، فَيُخْشَى أَنْ يَخْفَى عَنْهُ وَجْهُ الْأَرْشَدِيَّةِ لِغَلَبَةِ مَيْلِهِ إِلَيْهِ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْهَمِّ الْعَزِيمَةَ؛ لِأَنَّ الْخَاطِرَ لَا يَثْبُتُ، فَلَا يَسْتَمِرُّ إِلَّا عَلَى مَا يَقْصِدُ التَّصْمِيمَ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِلَّا لَوِ اسْتَخَارَ فِي كُلِّ خَاطِرٍ لَاسْتَخَارَ فِيمَا لَا يَعْبَأُ بِهِ فَتَضِيعُ عَلَيْهِ أَوْقَاتُهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَمْرًا فَلْيَقُلْ.
قَوْلُهُ: (فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ) يُقَيِّدُ مُطْلَقَ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ حَيْثُ قَالَ: صَلِّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ، وَيَكُونُ ذِكْرُهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، فَلَوْ صَلَّى أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَجْزَأَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِيَحْصُلَ مُسَمَّى رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يُجْزِئُ لَوْ صَلَّى أَرْبَعًا مَثَلًا بِتَسْلِيمَةٍ، وَكَلَامُ النَّوَوِيِّ يُشْعِرُ بِالْإِجْزَاءِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ) فِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَثَلًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْفَرِيضَةِ عَيْنَهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَيَحْتَرِزُ عَنِ الرَّاتِبَةِ؛ كَرَكْعَتِيِ الْفَجْرِ مَثَلًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: لَوْ دَعَا بِدُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ عَقِبَ رَاتِبَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا أَوْ غَيْرِهَا مِنَ النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ وَالْمُطْلَقَةِ سَوَاءٌ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ أَجْزَأَ، كَذَا أَطْلَقَ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَيَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ نَوَى تِلْكَ الصَّلَاةَ بِعَيْنِهَا وَصَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ مَعًا أَجْزَأَ بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَنْوِ، وَيُفَارِقْ صَلَاةَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا شَغْلُ الْبُقْعَةِ بِالدُّعَاءِ، وَالْمُرَادُ بِصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ أَنْ يَقَعَ الدُّعَاءُ عَقِبَهَا أَوْ فِيهَا، وَيَبْعُدُ الْإِجْزَاءُ لِمَنْ عَرَضَ لَهُ الطَّلَبُ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْخَبَرِ أَنْ تَقَعَ الصَّلَاةُ وَالدُّعَاءُ بَعْدَ وُجُودِ إِرَادَةِ الْأَمْرِ، وَأَفَادَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصَ، قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: لَمْ أَقِفْ عَلَى دَلِيلِ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ أَلْحَقَهُمَا بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، قَالَ: وَلَهُمَا مُنَاسَبَةٌ بِالْحَالِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ، وَالْمُسْتَخِيرُ مُحْتَاجٌ لِذَلِكَ، قَالَ شَيْخُنَا: وَمِنَ الْمُنَاسِبِ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} قُلْتُ: وَالْأَكْمَلُ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا السُّورَةَ وَالْآيَةَ الْأُولَيَيْنِ فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَيَيْنِ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ
قَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ أَنَّ الْأَمْرَ بِصَلَاةِ رَكْعَتَيِ الِاسْتِخَارَةِ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: وَلَمْ أَرَ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الِاسْتِخَارَةِ؛ لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهَا، وَلِتَشْبِيهِهَا بِتَعْلِيمِ السُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا اسْتَدَلَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي وُجُوبِ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَقُلْ، وَلِتَشْبِيهِهِ بِتَعْلِيمِ السُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ قَوْلُهُ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ، قُلْنَا: وَكَذَلِكَ فِي التَّشَهُّدِ، إِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ صَلَّى، وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِيمَا ذُكِرَ، أَنَّ التَّشَهُّدَ جُزْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ، فَيُؤْخَذُ الْوُجُوبُ مِنْ قَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَدَلَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِخَارَةِ مَا دَلَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ صَلَاةٍ زَائِدَةٍ عَلَى الْخَمْسِ فِي حَدِيثِ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ انْتَهَى، وَهَذَا وَإِنْ صَلُحَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ رَكْعَتَيِ الِاسْتِخَارَةِ لَكِنْ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وُجُوبِ دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ، فَكَأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِرْشَادِ،
فَعَدَلُوا بِهِ عَنْ سُنَنِ الْوُجُوبِ، وَلَمَّا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ كَانَ مَنْدُوبًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ نَقُولُ: هُوَ ظَاهِرٌ فِي تَأْخِيرِ الدُّعَاءِ عَنِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ دَعَا بِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ احْتَمَلَ الْإِجْزَاءَ، وَيَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ عَلَى تَقْدِيمِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ مَوْطِنَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ السُّجُودُ أَوِ التَّشَهُّدُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الدُّعَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِخَارَةِ حُصُولُ الْجَمْعِ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى قَرْعِ بَابِ الْمَلِكِ، وَلَا شَيْءَ لِذَلِكَ أَنْجَعُ وَلَا أَنْجَحَ مِنَ الصَّلَاةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ مَآلًا وَحَالًا.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ) الْبَاءُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لِأَنَّكَ أَعْلَمُ وَكَذَا هِيَ فِي قَوْلِهِ: بِقُدْرَتِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعَانَةِ كَقَوْلِهِ:{بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعْطَافِ كَقَوْلِهِ: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَأَسْتَقْدِرُكَ أَيْ: أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَجْعَلَ لِي عَلَى ذَلِكَ قُدْرَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَقْدُرَهُ لِي، وَالْمُرَادُ بِالتَّقْدِيرِ: التَّيْسِيرُ.
قَوْلُهُ: (وَأَسَالُكَ مِنْ فَضْلِكَ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِعْطَاءَ الرَّبِّ فَضْلٌ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ فِي نِعَمِهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ يَا رَبِّ تَقْدِرُ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَ فِيِّ الْقُدْرَةِ، وَعِنْدَمَا تَخْلُقُهَا فِيَّ وَبَعْدَ مَا تَخْلُقُهَا.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ) فِي رِوَايَةِ مَعْنٍ وَغَيْرِهِ: فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الْأَمْرَ زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُقَاتِلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْمَوَالِ: الَّذِي يُرِيدُ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَعْنٍ: ثُمَّ يُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ، وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِاسْتِحْضَارِهِ بِقَلْبِهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ التَّسْمِيَةُ بَعْدَ الدُّعَاءِ، وَعَلَى الثَّانِي تَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً، وَالتَّقْدِيرُ: فَلْيَدْعُ مُسَمِّيًا حَاجَتَهُ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتَ اسْتَشْكَلَ الْكِرْمَانِيُّ الْإِتْيَانَ بِصِيغَةِ الشَّكِّ هُنَا، وَلَا يَجُوزُ الشَّكُّ فِي كَوْنِ اللَّهِ عَالِمًا، وَأَجَابَ بِأَنَّ الشَّكَّ فِي أَنَّ الْعِلْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ لَا فِي أَصْلِ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: (وَمَعَاشِي) زَادَ أَبُو دَاوُدَ وَمَعَادِي وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعَاشِ الْحَيَاةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمَعَاشِ مَا يُعَاشُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: فِي دُنْيَايَ وَآخِرَتِي زَادَ ابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَتِهِ: وَدِينِي وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فِي دِينِي وَمَعِيشَتِي.
قَوْلُهُ: (وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الطُّرُقُ فِي ذَلِكَ، وَاقْتَصَرَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى: عَاقِبَةِ أَمْرِي وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي أَنَّ الْعَاجِلَ وَالْآجِلَ مَذْكُورَانِ بَدَلَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، أَوْ بَدَلَ الْأَخِيرَيْنِ فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ الْكِرْمَانِيِّ: لَا يَكُونُ الدَّاعِي جَازِمًا بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا إِنْ دَعَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ مَرَّةً: فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي وَمَرَّةً: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ وَمَرَّةً: فِي دِينِي وَعَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ قُلْتُ: وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ أَيِ الشَّكُّ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، وَلَا أَبِي هُرَيْرَةَ أَصْلًا.
قَوْلُهُ: (فَاقْدُرْهُ لِي) قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: أَهْلُ بَلَدِنَا يَكْسِرُونَ الدَّالَ، وَأَهْلُ الشَّرْقِ يَضُمُّونَهَا، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: اجْعَلْهُ مَقْدُورًا لِي أَوْ قَدِّرْهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَسِّرْهُ لِي، زَادَ مَعْنٌ: وَيَسِّرْهُ لِي وَبَارِكْ لِي فِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ) أَيْ: حَتَّى لَا يَبْقَى قَلْبُهُ بَعْدَ صَرْفِ الْأَمْرِ عَنْهُ مُتَعَلِّقًا بِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الشَّرَّ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى اخْتِرَاعِهِ لَقَدَرَ عَلَى صَرْفِهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى طَلَبِ صَرْفِهِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - بَعْدَ قَوْلِهِ: وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ أَيْنَمَا كَانَ -: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَضِّنِي)
بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ: ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ أَيِ: اجْعَلْنِي بِهِ رَاضِيًا، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ: وَرَضَّنِي بِقَضَائِكَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: وَرَضِّنِي بِقَدَرِكَ وَالسِّرُّ فِيهِ أَنْ لَا يَبْقَى قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهِ، فَلَا يَطْمَئِنَّ خَاطِرُهُ، وَالرِّضَا سُكُونُ النَّفْسِ إِلَى الْقَضَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ شَفَقَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ، وَتَعْلِيمِهِمْ جَمِيعَ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ أَمْرًا، وَفِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ قَادِرًا إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ، وَاللَّهُ هُوَ خَالِقُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ لِلْعَبْدِ وَهَمِّهُ بِهِ وَاقْتِدَارِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ رَدُّ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ، وَالتَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ لِي عَنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي إِلَخْ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَيْرًا فَهُوَ شَرٌّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْوَاسِطَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي مَاذَا يَفْعَلُ الْمُسْتَخِيرُ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يَفْعَلُ مَا اتَّفَقَ، وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ يَعْزِمُ وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَمْرًا فَلْيَقُلْ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي
الْأَذْكَارِ: يَفْعَلُ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ مَا يَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُهُ، وَيَسْتَدِلُّ لَهُ بِحَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ السُّنِّيِّ: إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ سَبْعًا ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الَّذِي يَسْبِقُ فِي قَلْبِكَ؛ فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ هُوَ الْمُعْتَمَدَ، لَكِنَّ سَنَدَهُ وَاهٍ جِدًّا، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا يَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُهُ مِمَّا كَانَ لَهُ فِيهِ هَوًى قَوِيٌّ قَبْلَ الِاسْتِخَارَةِ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
49 - بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْوُضُوءِ
6383 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ - وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ - فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنْ النَّاسِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْوُضُوءِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ الْحَدِيثَ ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِطُولِهِ فِي الْمَغَازِي فِي بَابِ غَزْوَةِ أَوْطَاسٍ.
50 - بَاب الدُّعَاءِ إِذَا عَلَا عَقَبَةً
6384 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا، ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؛ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، أَوْ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ إِذَا عَلَا عَقَبَةً) كَذَا تَرْجَمَ بِالدُّعَاءِ وَأَوْرَدَ فِي الْحَدِيثِ التَّكْبِيرَ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا فَسَمَّى التَّكْبِيرَ دُعَاءً.
قَوْلُهُ: (أَيُّوبُ) هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِ.
قَوْلُهُ: (ارْبَعُوا) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ، أَيِ: ارْفُقُوا وَلَا تُجْهِدُوا أَنْفُسَكُمْ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ) يَأْتِي بَيَانُهُ فِي التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ: (كَنْز) سَمَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَنْزًا؛ لِأَنَّهَا كَالْكَنْزِ فِي نَفَاسَتِهِ وَصِيَانَتِهِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ.
قَوْلُهُ: (أَوْ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِيَ كَنْزٌ؟ إِلَخْ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، هَلْ قَالَ: قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؛ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ أَوْ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ إِلَخْ وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْقَدَرِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ بِلَفْظِ: ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً إِلَخْ وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ بِلَفْظِ: ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى - أَوْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ - أَلَا أَدُلُّكَ إِلَخْ وَلَمْ يَتَرَدَّدْ، وَوَقَعَ فِي هَذَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ بَيَانُ سَبَبِ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ: فَلَمَّا عَلَا عَلَيْهَا رَجُلٌ نَادَى فَرَفَعَ صَوْتَهُ وَفِي رِوَايَةِ خَالِدٍ: فَجَعَلْنَا لَا نَصْعَدُ شَرَفًا إِلَّا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: أَصَمًّا وَكَأَنَّهُ لِمُنَاسَبَةِ غَائِبًا وَقَوْلُهُ: بَصِيرًا وَوَقَعَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ: قَرِيبًا وَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْقَدَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَقَوْلُهُ: لَا حَوْلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى كَنْزٍ وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِتَقْدِيرِ هُوَ.
51 - بَاب الدُّعَاءِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا
فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا) فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ كَذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ مَا تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ، وَفِي بَابِ التَّسْبِيحِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا مِنْ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا. وَقَالَ بَعْدَهُ: بَابُ التَّكْبِيرِ إِذَا عَلَا شَرَفًا وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ أَيْضًا، لَكِنْ بِلَفْظِ: وَإِذَا تَصَوَّبْنَا بَدَلَ نَزَلْنَا وَالتَّصْوِيبُ: الِانْحِدَارُ، وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ: هَبَطْنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَأَشَرْتُ إِلَى شَرْحِهِ هُنَاكَ، وَمُنَاسَبَةُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الصُّعُودِ إِلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ أَنَّ الِاسْتِعْلَاءَ وَالِارْتِفَاعَ مَحْبُوبٌ لِلنُّفُوسِ؛ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِشْعَارِ الْكِبْرِيَاءِ فَشُرِعَ لِمَنْ تَلَبَّسَ بِهِ أَنْ يَذْكُرَ كِبْرِيَاءَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَيُكَبِّرُهُ؛ لِيَشْكُرَ لَهُ ذَلِكَ فَيَزِيدَهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَمُنَاسَبَةُ التَّسْبِيحِ عِنْدَ الْهُبُوطِ؛ لِكَوْنِ الْمَكَانِ الْمُنْخَفِضِ مَحَلَّ ضِيقٍ فَيُشْرَعُ فِيهِ التَّسْبِيحُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْفَرَجِ، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ يُونُسَ عليه السلام حِينَ سَبَّحَ فِي الظُّلُمَاتِ فَنُجِّيَ مِنَ الْغَمِّ.
52 - بَاب الدُّعَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ رَجَعَ. فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ
6385 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ رَجَعَ، فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْهُ، لَكِنْ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ بَدَلَ لَفْظِ بَابِ. وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ فِيمَا أَظُنُّ الْحَدِيثَ الَّذِي أَوَّلَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ مِنْ خَيْبَرَ، وَقَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَثَرَتِ النَّاقَةُ فَإِنَّ فِي آخِرِهِ: فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ، وَفِي الْأَدَبِ، وَفِي أَوَاخِرِ اللِّبَاسِ، وَشَرَحْتُهُ هُنَاكَ إِلَّا الْكَلَامَ الْأَخِيرَ هُنَا، فَوَعَدْتُ بِشَرْحِهِ هُنَا. وَإِسْمَاعِيلُ فِي الْحَدِيثِ الْمَوْصُولِ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ. قَوْلُهُ (كَانَ إِذَا قَفَلَ) بِقَافٍ ثُمَّ فَاءٍ أَيْ رَجَعَ وَزْنَهُ وَمَعْنَاهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي أَوَّلِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا .. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وَزَادَ: آيِبُونَ تَائِبُونَ الْحَدِيثَ، وَإِلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ بِقَوْلِهِ: إِذَا أَرَادَ سَفَرًا.
قَوْلُهُ (مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) ظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثِ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بَلْ يُشْرَعُ قَوْلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَفَرٍ إِذَا كَانَ سَفَرَ طَاعَةٍ كَصِلَةِ الرَّحِمِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ، لِمَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنِ اسْمِ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: يَتَعَدَّى أَيْضًا إِلَى الْمُبَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ فِيهِ لَا ثَوَابَ لَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ، وَقِيلَ: يُشْرَعُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُرْتَكِبَهَا أَحْوَجُ إِلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مُتَعَقَّبٌ ; لِأَنَّ الَّذِي يَخُصُّهُ بِسَفَرِ الطَّاعَةِ لَا يَمْنَعُ مَنْ سَافَرَ فِي مُبَاحٍ وَلَا فِي مَعْصِيَةٍ مِنَ الْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي خُصُوصِ هَذَا الذِّكْرِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الِاخْتِصَاصِ لِكَوْنِهَا عِبَادَاتٍ مَخْصُوصَةً شُرِعَ لَهَا ذِكْرٌ مَخْصُوصٌ فَتَخْتَصُّ بِهِ كَالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ عَقِبَ الْأَذَانِ وَعَقِبَ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الصَّحَابِيُّ عَلَى الثَّلَاثِ لِانْحِصَارِ سَفَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، وَلِهَذَا تَرْجَمَ بِالسَّفَرِ، عَلَى أَنَّهُ تَعَرَّضَ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ فَتَرْجَمَ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْغَزْوِ أَوِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ.
قَوْلُهُ (يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ هُوَ الْمَكَانُ الْعَالِي، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ إِذَا أَوْفَى أَيِ ارْتَفَعَ عَلَى ثَنِيَّةٍ بِمُثَلَّثَةٍ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ هِيَ الْعَقَبَةُ أَوْ فَدْفَدُ بِفَتْحِ الْفَاءِ بَعْدَهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ فَاءٌ ثُمَّ دَالٌ وَالْأَشْهَرُ تَفْسِيرُهُ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ، وَقِيلَ: الْفَلَاةُ الْخَالِيَةُ مِنْ شَجَرٍ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: غَلِيظُ الْأَوْدِيَةِ ذَاتِ الْحَصَى.
قَوْلُهُ (ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ .. إِلَخْ) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِهَذَا الذِّكْرِ عَقِبَ التَّكْبِيرِ وَهُوَ عَلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ التَّكْبِيرَ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ وَمَا بَعْدَهُ إِنْ كَانَ مُتَّسِعًا أَكْمَلَ الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ فِيهِ وَإِلَّا فَإِذَا هَبَطَ سَبَّحَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكْمِلَ الذِّكْرَ مُطْلَقًا عَقِبَ التَّكْبِيرِ ثُمَّ يَأْتِي بِالتَّسْبِيحِ إِذَا هَبَطَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي تَعْقِيبِ التَّكْبِيرِ بِالتَّهْلِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْمُتَفَرِّدَ بِإِيجَادِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ وَأَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ.
قَوْلُهُ: (آيِبُونَ) جَمْعُ آيِبٍ أَيْ رَاجِعٍ وَزْنَهُ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ نَحْنُ آيِبُونَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ بِمَحْضِ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ بَلِ الرُّجُوعُ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ تَلَبُّسُهُمْ بِالْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَالِاتِّصَافُ بِالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَوْلُهُ تَائِبُونَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَادَةِ وَقَالَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ أَوْ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ أَوِ الْمُرَادُ أُمَّتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ التَّوْبَةُ لِإِرَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الطَّاعَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادَ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ.
قَوْلُهُ (صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ) أَيْ فِيمَا وَعَدَ بِهِ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ فِي قَوْلِهِ {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} ،
وَقَوْلُهُ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} الْآيَةَ، وَهَذَا فِي سَفَرِ الْغَزْوِ وَمُنَاسَبَتُهُ لِسَفَرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} .
قَوْلُهُ (وَنَصَرَ عَبْدَهُ) يُرِيدُ نَفْسَهُ. قَوْلُهُ (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ) أَيْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْأَحْزَابِ هُنَا، فَقِيلَ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا أَيْ تَجَمَّعُوا فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَنَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ وَقَدْ مَضَى خَبَرُهُمْ مُفَصَّلًا فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ إِنَّمَا شُرِعَ مِنْ بَعْدِ الْخَنْدَقِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي خَرَجَ فِيهَا بِنَفْسِهِ مَحْصُورَةٌ، وَالْمُطَابِقُ مِنْهَا لِذَلِكَ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ؛ لِظَاهِرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ، وَفِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} الْآيَةَ. وَالْأَصْلُ فِي الْأَحْزَابِ أَنَّهُ جَمْعُ حِزْبٍ وَهُوَ الْقِطْعَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنَ النَّاسِ، فَاللَّامُ إِمَّا جِنْسِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ كُلُّ مَنْ تَحَزَّبَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِمَّا عَهْدِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ مَنْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، أَيِ اللَّهُمَّ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
53 - بَاب الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ
6386 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: مَهْيَمْ - أَوْ مَهْ - قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ.
6387 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ - أَوْ تِسْعَ - بَنَاتٍ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قُلْتُ: ثَيِّب، قَالَ: هَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ، أَوْ تُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ؟ قُلْتُ: هَلَكَ أَبِي فَتَرَكَ سَبْعَ - أَوْ تِسْعَ - بَنَاتٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ، قَالَ: فَبَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ. لَمْ يَقُلْ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ.
قَوْلُهُ (بَابُ الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ) فِيهِ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي تَزْوِيجِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَالْمُرَادُ هُنَا قَوْلُهُ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَقَوْلُهُ فَقَالَ مَهْيَمْ أَوْ مَهْ، شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ الْجَزْمُ بِالْأَوَّلِ، وَمَعْنَاهُ مَا حَالُكَ، وَمَهْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ انْقَلَبَتِ الْأَلِفُ هَاءً.
وحَدِيثُ جَابِرٍ فِي تَزْوِيجِهِ الثَّيِّبَ وَفِيهِ هَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أيضا فِي النِّكَاحِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَقَوْلُهُ فِيهِ تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ انْتَصَبَ عَلَى حَذْفِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ أَتَزَوَّجْتَ، وَقَوْلُهُ فِي الْجَوَابِ قُلْتُ ثَيِّبٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ مَثَلًا الَّتِي تَزَوَّجْتُهَا ثَيِّبٌ، قِيلَ: وَكَانَ الْأَحْسَنُ النَّصْبَ عَلَى نَسْقِ الْأَوَّلِ أَيْ تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا. قُلْتُ: وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا فَكُتِبَ بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ.
وَقَوْلُهُ فِيهِ أَوْ
تُضَاحِكُهَا شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَهُوَ يُعَيِّنُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي تُلَاعِبِهَا، هَلْ مِنَ اللَّعِبِ أَوْ مِنَ اللُّعَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ شَرْحِهِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَقُلِ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرٍو: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ) أَمَّا رِوَايَةُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ فَتَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي الْمَغَازِي وَفِي النَّفَقَاتِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَهُوَ الطَّائِفِيُّ فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْمَغَازِي، وَمُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَلِجَابِرٍ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ اخْتِصَاصُهُ بِالْبَرَكَةِ فِي زَوْجَتِهِ، وَبِالثَّانِي شُمُولُ الْبَرَكَةِ لَهُ فِي جَوْدَةِ عَقْلِهِ حَيْثُ قَدَّمَ مَصْلَحَةَ أَخَوَاتِهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ فَعَدَلَ لِأَجْلِهِنَّ عَنْ تَزَوُّجِ الْبِكْرِ مَعَ كَوْنِهَا أَرْفَعَ رُتْبَةً لِلْمُتَزَوِّجِ الشَّابِّ مِنَ الثَّيِّبِ غَالِبًا.
54 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
6388 -
حَدَّثَنَي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ يُشْرَعُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْجِمَاعِ، فَيَرْفَعُ احْتِمَالَ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُشْرَعُ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْجِمَاعِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَقَوْلُهُ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا أَيْ لَمْ يَضُرَّ الْوَلَدَ الْمَذْكُورَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِضْرَارِهِ فِي دِينِهِ أَوْ بَدَنِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ رَفْعَ الْوَسْوَسَةِ مِنْ أَصْلِهَا.
55 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
6389 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} كَذَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْآيَةِ. وَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ آتِنَا .. إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بِسَنَدِهِ هَذَا، وَلَكِنْ لَفْظُهُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، وَلِلْبَاقِي مِثْلُهُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: سَأَلَ قَتَادَةُ، أَنَسًا: أَيُّ دَعْوَةٍ كَانَ يَدْعُو بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً .. إِلَى آخِرِهِ. قَالَ: وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ سَمِعَهُ شُعْبَةُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ مُخْتَصَرًا، رَوَاهُ عَنْهُ يَحْيَى بْنِ أَبِي بُكَيْرٍ، قَالَ يحيى: فَلَقِيتُ إِسْمَاعِيلَ فَحَدَّثَنِي بِهِ، فَذَكَرَهُ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الْآيَةَ. وَهَذَا مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ أَبُو طَالُوتَ: كُنْتُ عِنْدَ أَنَسٍ فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: إِنَّ إِخْوَانَكَ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تَدْعُوَ لَهُمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَفِيهَا: إِذَا آتَاكُمُ اللَّهُ ذَلِكَ فَقَدْ آتَاكُمُ الْخَيْرَ كُلَّهُ.
قَالَ
عِيَاضٌ: إِنَّمَا كَانَ يُكْثِرُ الدُّعَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِجَمْعِهَا مَعَانِيَ الدُّعَاءِ كُلِّهِ، مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ: وَالْحَسَنَةُ عِنْدَهُمْ هَاهُنَا النِّعْمَةُ، فَسَأَلَ نَعِيمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْوِقَايَةَ مِنَ الْعَذَابِ، نَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ وَدَوَامِهِ. قُلْتُ: قَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنَةِ، فَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هِيَ الْعِلْمُ وَالْعِبَادَةُ فِي الدُّنْيَا. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَعَنْهُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: الرِّزْقُ الطَّيِّبُ وَالْعِلْمُ النَّافِعُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ.
وَتَفْسِيرُ الْحَسَنَةِ فِي الْآخِرَةِ بِالْجَنَّةِ نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: يَعْمَلُونَ فِي دُنْيَاهُمْ لِدُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ. وَعَنْ قَتَادَةَ: هِيَ الْعَافِيَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: الزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ مِنَ الْحَسَنَاتِ. وَنَحْوُهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا الرِّزْقُ الطَّيِّبُ وَالْعِلْمُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا الْمُنَى، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْمَالُ. وَنَقَلَ الثَّعْلَبِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، وَمُقَاتِلٍ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا الرِّزْقُ الْحَلَالُ الْوَاسِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَحَسَنَةُ الْآخِرَةِ الْمَغْفِرَةُ وَالثَّوَابُ. وَعَنْ عَطِيَّةَ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَحَسَنَةُ الْآخِرَةِ تَيْسِيرُ الْحِسَابِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ. وَبِسَنَدِهِ عَنْ عَوْفٍ قَالَ: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَالْقُرْآنَ وَالْأَهْلَ وَالْمَالَ وَالْوَلَدَ فَقَدْ آتَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً. وَنَقَلَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ سَلَفِ الصُّوفِيَّةِ أَقْوَالًا أُخْرَى مُتَغَايِرَةَ اللَّفْظِ مُتَوَافِقَةَ الْمَعْنَى، حَاصِلُهَا السَّلَامَةُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. وَاقْتَصَرَ الْكَشَّافُ عَلَى مَا نَقَلَهُ الثَّعْلَبِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهَا فِي الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْحَوْرَاءُ، وَعَذَابُ النَّارِ الْمَرْأَةُ السُّوءُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا تَشْمَلُ كُلَّ مَطْلُوبٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ عَافِيَةٍ وَدَارٍ رَحْبَةٍ وَزَوْجَةٍ حَسَنَةٍ وَوَلَدٍ بَارٍّ وَرِزْقٍ وَاسِعٍ وَعِلْمٍ نَافِعٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ وَمَرْكَبٍ هَنِيءٍ وَثَنَاءٍ جَمِيلٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَمِلَتْهُ عِبَارَاتُهُمْ، فَإِنَّهَا كُلَّهَا مُنْدَرِجَةٌ فِي الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْحَسَنَةُ فِي الْآخِرَةِ فَأَعْلَاهَا دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَتَوَابِعُهُ مِنَ الْأَمْنِ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ فِي الْعَرَصَاتِ وَتَيْسِيرِ الْحِسَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْوِقَايَةُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ فَهُوَ يَقْتَضِي تَيْسِيرَ أَسْبَابِهِ فِي الدُّنْيَا مِنِ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ وَتَرْكِ الشُّبُهَاتِ. قُلْتُ: أَوِ الْعَفْوِ مَحْضًا، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ وَتَوَابِعُهُ مَا يَلْتَحِقُ بِهِ فِي الذِّكْرِ، لَا مَا يَتْبَعُهُ حَقِيقَةً.
56 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا
6390 -
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ، هو ابْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ.
قَوْلُهُ (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا) تَقَدَّمَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ ضِمْنَ تَرْجَمَةٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ اثْنَيْ عَشَرَ بَابًا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ أَيْضًا.
57 - بَاب تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ
6391 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرٍ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طُبَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَنَعَ الشَّيْءَ وَمَا صَنَعَهُ، وَإِنَّهُ دَعَا رَبَّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ومَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، قَالَ: فبمَاذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي ذَرْوَانَ. وَذَرْوَانُ بِئْرٌ فِي بَنِي زُرَيْقٍ، قَالَتْ: فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، قَالَتْ: فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهَا عَنْ الْبِئْرِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلَّا أَخْرَجْتَهُ، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا.
زَادَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا وَدَعَا .. وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (بَابُ تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طُبَّ. بِضَمِّ الطَّاءِ أَيْ سُحِرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الطِّبِّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْعُوَ ثَلَاثًا وَيَسْتَغْفِرَ ثَلَاثًا. وَتَقَدَّمَ فِي الِاسْتِئْذَانِ حَدِيثُ أَنَسٍ: كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بَكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا.
قَوْلُهُ (زَادَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا وَدَعَا .. وَسَاقَ الْحَدِيثَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَ كُلُّ ذَلِكَ لِأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَرِوَايَةُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي الطِّبِّ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي الْبَابِ، فَلَيْسَ فِيهَا تَكْرِيرُ الدُّعَاءِ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَدَعَا ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقِ اللَّيْثِ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ.
58 - بَاب الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ. وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ، وقال: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}
6392 -
حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَحْزَابِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ.
6393 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، قَنَتَ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي
رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ"
6394 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ عَاصِمٍ "عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ فَأُصِيبُوا فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ عَلَى شَيْءٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ فَقَنَتَ شَهْرًا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَيَقُولُ إِنَّ عُصَيَّةَ عَصَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ"
6395 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ السَّامُ عَلَيْكَ فَفَطِنَتْ عَائِشَةُ إِلَى قَوْلِهِمْ فَقَالَتْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَهْلًا يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي أَنِّي أَرُدُّ ذَلِكِ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ وَعَلَيْكُمْ"
6396 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ "حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَالَ مَلَا اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ"
قَوْلُهُ (بَابُ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) كَذَا أَطْلَقَ هُنَا، وَقَيَّدَهُ فِي الْجِهَادِ بِالْهَزِيمَةِ وَالزَّلْزَلَةِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ) وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ (وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ) أَيْ بِإِهْلَاكِهِ، وَسَقَطَ هَذَا التَّعْلِيقُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا فِي قِصَّةِ سَلَى الْجَزُورِ الَّتِي أَلْقَاهَا أَشْقَى الْقَوْمِ عَلَى ظَهْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الطَّهَارَةِ، وَهُوَ رَابِعُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا آنِفًا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) هَذَا أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَفِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَتَسْمِيَةُ مَنْ أَبْهَمَ مِنَ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ.
الحديث الرابع: قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، اسْمُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى هُوَ عَبْدُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ (عَلَى الْأَحْزَابِ) تَقَدَّمَ الْمُرَادُ بِهِ قَرِيبًا، وَسَرِيعُ الْحِسَابِ أَيْ سَرِيعٌ فِيهِ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ مَجِيءَ الْحِسَابِ سَرِيعٌ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الدُّعَاءِ فِي الْقُنُوتِ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ أَيْ خُذْهُمْ بِشِدَّةٍ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْوَطْءِ بِالْقَدَمِ وَالْمُرَادُ الْإِهْلَاكُ لِأَنَّ مَنْ يَطَأُ عَلَى الشَّيْءِ بِرِجْلِهِ فَقَدِ اسْتَقْصَى فِي هَلَاكِهِ، وَالْمُرَادُ بِمُضَرَ الْقَبِيلَةُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي مِنْهَا جَمِيعُ بُطُونِ قَيْسٍ وَقُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ كُفَّارَ مُضَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ أَنَّهُ يُشْرَحُ فِي الْمَغَازِي فَلَمْ يَتَهَيَّأْ ذَلِكَ فَشُرِحَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَقَوْلُهُ فِيهِ اللَّهُمَّ أَنْجِ
سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ نَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ عَمُّ أَبِي جَهْلٍ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا فَاسْمُ أَبِي جَهْلٍ هِشَامٌ وَاسْمُ جَدِّهِ هِشَامٌ. قُلْتُ: وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ، فَإِنَّ اسْمَ أَبِي جَهْلٍ عَمْرٌو، وَاسْمُ أَبِيهِ هِشَامٌ، وَسَلَمَةُ أَخُوهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِ فَاسْمُ أَبِي أَبِي جَهْلٍ فَيَسْتَقِيمُ، لَكِنْ قَوْلُهُ وَسَلَمَةُ عَمُّ أَبِي جَهْلٍ خَطَأٌ فَيَرْجِعُ الْخَطَأُ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ أَنَسٍ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي. وَقَوْلُهُ وَجَدَ مِنَ الْوَجْدِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ أَيْ حَزِنَ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ كَانَتِ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ عَلِيٍّ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَشَرْتُ إِلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَبَلَّغْتُهُ إِلَى عِشْرِينَ قَوْلًا.
وَقَدْ تَعَسَّفَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ فِي تَأْوِيلِهِ فَقَالَ: إِنَّمَا تَسْمِيَةُ الْعَصْرِ وُسْطَى يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّهُمْ شُغِلُوا عَنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ، فَكَانَتِ الْعَصْرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّلَاثَةِ الَّتِي شُغِلُوا عَنْهَا وُسْطَى، لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُسْطَى تَفْسِيرُ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
قُلْتُ: وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ جَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ رُوَاتِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَفِي الْمَغَازِي مِنْ رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَمِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، وَلَمْ يَقَعْ عِنْدَهُ ذِكْرُ صَلَاةِ الْعَصْرِ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمَغَازِي إِلَى أَنْ غَابَتِ الشَّمْسُ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهَا الْعَصْرُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، وَمِنْ رِوَايَةِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَمِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ هِشَامٍ كَذَلِكَ وَلَكِنْ بِلَفْظِ شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ، عَنْ عَلِيٍّ، وَمِنْ طَرِيقِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ.
وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ يُرِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الْقَاضِي وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَلَكِنْ رُبَّمَا أَخْرَجَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَالَّذِي هُنَا.
وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ يُرَجِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي مَضَتْ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّهُ ابْنُ حَسَّانَ، وَقَدْ كُنْتُ ظَنَنْتُ أَنَّهُ الدَّسْتَوَائِيُّ وَرَدَدْتُ عَلَى الْأَصِيلِيِّ حَيْثُ جَزَمَ بِأَنَّهُ ابْنُ حَسَّانَ ثُمَّ نَقَلَ تَضْعِيفَ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، يَرُومُ رَدَّ الْحَدِيثِ فَتَعَقَّبْتُهُ هُنَاكَ، ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَرَجَعْتُ عَمَّا ظَنَنْتُهُ، لَكِنْ أُجِيبَ الْآنَ عَنْ تَضْعِيفِهِ لِهِشَامٍ بِأَنَّ هِشَامَ بْنَ حَسَّانَ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ لَكِنْ لَمْ يُضَعِّفْهُ بِذَلِكَ أَحَدٌ مُطْلَقًا بَلْ بِقَيْدِ بَعْضِ شُيُوخِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ ثَبْتٌ فِي الشَّيْخِ الَّذِي حَدَّثَ عَنْهُ بِحَدِيثِ الْبَابِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْفَظَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ مِنْ هِشَامٍ. وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ: هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ ثِقَةٌ فِي مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ فِي ابْنِ سِيرِينَ مِنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، وَخَالِدٍ الْحَذَّاءِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: كَانَ يَحْيَى الْقَطَّانُ يُضَعِّفُ حَدِيثَ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَكَانَ أَصْحَابُنَا يُثْبِتُونَهُ. قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَصَحِيحٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ يَنْفِي حَدِيثَهُ عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَعَنِ الْحَسَنِ.
قُلْتُ: قَدْ قَالَ أَحْمَدُ: مَا يَكَادُ يُنْكَرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِلَّا وَوَجَدْتُ غَيْرَهُ قَدْ حَدَّثَ بِهِ، إِمَّا أَيُّوبُ وَإِمَّا عَوْفٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَحَادِيثُهُ مُسْتَقِيمَةٌ وَلَمْ أَرَ فِيهَا شَيْئًا مُنْكَرًا. انْتَهَى. وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَطَاءٍ شَيْءٌ، وَلَهُ فِي
الْبُخَارِيِّ شَيْءٌ يَسِيرٌ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَتُوبِعَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
59 - بَاب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ
6397 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ.
قَوْلُهُ (بَابُ الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ) تَقَدَّمَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، لَكِنْ زَادَ بِالْهُدَى لِيَتَأَلَّفَهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ وَذَكَرْتُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّرْجَمَتَيْنِ وَالدُّعَاءُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالدُّعَاءُ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَنَّهُ بِاعْتِبَارَيْنِ وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْمُشْرِكِينَ نَاسِخٌ لِلدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}. قَالَ: وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنْ لَا نَسْخَ وَأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ جَائِزٌ وَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ يُرْجَى تَأَلُّفُهُمْ وَدُخُولُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَحْتَمِلُ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجَوَازَ حَيْثُ يَكُونُ فِي الدُّعَاءِ مَا يَقْتَضِي زَجْرَهُمْ عَنْ تَمَادِيهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمَنْعَ حَيْثُ يَقَعُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْهِدَايَةِ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَغْفِرَةِ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ - الْعَفْوُ عَمَّا جَنَوْهُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، لَا مَحْوُ ذُنُوبِهِمْ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ ذَنْبَ الْكُفْرِ لَا يُمْحَى، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: اغْفِرْ لَهُمْ اهْدِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، الَّذِي تَصِحُّ مَعَهُ الْمَغْفِرَةُ، أَوِ الْمَعْنَى: اغْفِرْ لَهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
60 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ.
6398 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي وَجَهْلِي وجدي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ: حَدَّثَنَا أَبِي. حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى. عَنْ أَبِيهِ. عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ.
[الحديث 6398 - طرفه في: 6399]
6399 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَأَبِي بُرْدَةَ، أَحْسِبُهُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وخطئي
وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ). كَذَا تَرْجَمَ بِبَعْضِ الْخَبَرِ وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْهُ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَ فِيهِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ) مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ أَوْرَدَ طَرِيقَ مُعَاذٍ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَقِبَهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ وَعَكَسَ مُسْلِمٌ فَصَدَّرَ بِطَرِيقِ مُعَاذٍ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِطَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ هَذَا.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ، صَالِحٌ. قُلْتُ: وَهِيَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّوْثِيقِ لَكِنَّهَا مِنَ الرُّتْبَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ: إِنَّ مَنْ قِيلَ فِيهِ ذَلِكَ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ لِلِاعْتِبَارِ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ مِنْ شَرْطِ الصَّحِيحِ، لَكِنَّ اتِّفَاقَ الشَّيْخَيْنِ عَلَى التَّخْرِيجِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنْ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَابَعَهُ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ وَهُوَ مِنَ الْأَثْبَاتِ، وَوَقَعَ فِي الْإِرْشَادِ لَلْخَلِيلِيِّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ مَالِكٍ: مُتَّهَمٌ بِسَرِقَةِ الْحَدِيثِ. حَكَاهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ، وَقَالَ: هُوَ الْمِسْمَعِيُّ مِصْرِيٌّ صَدُوقٌ، خَرَّجَ لَهُ صَاحِبُ الصَّحِيحِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ غَيْرُ الْمِسْمَعِيِّ فَإِنَّ الصَّنْعَانِيَّ إِمَّا مِنْ صَنْعَاءِ الْيَمَنِ أَوْ صَنْعَاءِ دِمَشْقَ. وَهَذَا بَصْرِيٌّ قَطْعًا، فَافْتَرَقَا.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ.
قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ أَبِي مُوسَى) هَكَذَا جَاءَ مُبْهَمًا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهَكَذَا أَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ الْقِسْمِ الْخَامِسِ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ الْمِسْمَعِيُّ فَذَكَرَهُ، وَسَمَّاهُ مُعَاذٌ، عَنْ شُعْبَةَ، فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ .. إِلَخْ) أَخْرَجُهُ مُسْلِمٌ بِصَرِيحِ التَّحْدِيثِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَكَذَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ بِهِ وَأَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى أَنَّ فِي السَّنَدِ عِلَّةً أُخْرَى فَقَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْحُفَّاظِ يَقُولُ: إِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي بُرْدَةَ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ. قُلْتُ: وَهَذَا تَعْلِيلٌ غَيْرُ قَادِحٍ، فَإِنَّ شُعْبَةَ كَانَ لَا يَرْوِي عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُدَلِّسِينَ إِلَّا مَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ: (إِسْرَائِيلُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَأَبِي بُرْدَةَ، أَحْسَبُهُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ) لَمْ أَجِدْ طَرِيقَ إِسْرَائِيلَ هَذِهِ فِي مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَضَاقَتْ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ فَأَوْرَدَهَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يَسْتَخْرِجْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَأَفَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ شُرَيْكًا، وَأَشْعَثَ، وَقَيْسَ بْنَ الرَّبِيعِ رَوَوْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بنْ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ وَقَدْ وَقَعَتْ لِي طَرِيقُ إِسْرَائِيلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَخْرَجَهَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ صَاعِدٍ فِي فَوَائِدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْهرَوِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي بُرْدَةَ، ابني أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِمَا وَلَمْ يَشُكَّ. وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى.
قُلْتُ: وَإِسْرَائِيلُ هُوَ ابن يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَهُوَ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ فِي حَدِيثِ جَدِّهِ.
(تَنْبِيهٌ) حَكَى الْكِرْمَانِيُّ أن فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ بِالتَّكْبِيرِ، قلت: وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ، وَكَذَا حَكَى أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ بِتَأْخِيرِ الْمِيمِ، وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا، وَهَذَا هُوَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ مَشْهُورٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ.
قَوْلُهُ (أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ) لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ مَحَلَّ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ وَقَدْ وَقَعَ مُعْظَمُ آخِرِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ
صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلُ، وَوَقَعَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ هَلْ كَانَ يَقُولُهُ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ، فَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ .. إِلَخْ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى إِرَادَةِ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَ الطَّرِيقَيْنِ وَاحِدٌ، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنْتُهُ عِنْدَ شَرْحِهِ.
قَوْلُهُ (رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي) الْخَطِيئَةُ الذَّنْبُ، يُقَالُ: خَطِئَ يُخْطِئُ، وَيَجُوزُ تَسْهِيلُ الْهَمْزَةِ، فَيُقَالُ خَطِيَّةٌ بِالتَّشْدِيدِ.
قَوْلُهُ (وَجَهْلِي) الْجَهْلُ ضِدُّ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ (وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ) الْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْإِسْرَافِ فَقَطْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ.
قَوْلُهُ (اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ خَطَئِي وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِالسَّنَدِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِذِكْرِ الْعَمْدِ، وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الرُّوَاةِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْخَطَايَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ وَعَطْفُ الْعَمْدِ عَلَيْهَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَنْ خَطَأٍ وَعَنْ عَمْدٍ أَوْ هُوَ مِنْ عَطْفِ أَحَدِ الْعَامَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ.
قَوْلُهُ (وَجَهْلِي وَجِدِّي) وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَهُوَ أَنْسَبُ وَالْجِدُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ ضِدُّ الْهَزْلِ.
قَوْلُهُ (وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي) أَيْ مَوْجُودٌ أَوْ مُمْكِنٌ.
قَوْلُهُ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ .. إِلَخْ) تَقَدَّمَ سِرُّ الْمُرَادِ بِهِ وَبَيَانُ تَأْوِيلِهِ. قَوْلُهُ (أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ .. إِلَخْ.
قَوْلُهُ (وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ بَدَلَ قَوْلِهِ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدِ أَنِ اسْتَشْكَلَ صُدُورَ هَذَا الدُّعَاءِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى - {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم امْتَثَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَسْبِيحِهِ وَسُؤَالِهِ الْمَغْفِرَةَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، قَالَ: وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ عَمَّا يَقَعُ بِطَرِيقِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ أَوْ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ مِمَّا لَا يُصَادِفُ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ مِنْهُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُؤَاخَذُونَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَيَكُونُونَ أَشَدَّ حَالًا مِنْ أُمَمِهِمْ، وَأُجِيبَ بِالْتِزَامِهِ. قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ أَشَدُّ لِلَّهِ خَوْفًا مِمَّنْ دُونَهُمْ، وَخَوْفُهُمْ خَوْفُ إِجْلَالٍ وَإِعْظَامٍ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ لَا مِنَ الذَّنْبِ الْمُحَقَّقِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَقَوْلُهُ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالْخُضُوعِ وَالشُّكْرِ لِرَبِّهِ، لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ.
وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْ غَفْلَةٍ أَوْ سَهْوٍ، وَقِيلَ: عَلَى مَا مَضَى قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: وُقُوعُ الصَّغِيرَةِ جَائِزٌ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ مِثْلُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي آيَةِ الْفَتْحِ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} أَيْ مِنْ ذَنْبِ أَبِيكَ آدَمَ {وَمَا تَأَخَّرَ} أَيْ مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِكَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: وُقُوعُ الْخَطِيئَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ جَائِزٌ لِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ فَيَخَافُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ وَيَتَعَوَّذُونَ مِنْهُ.
وَقِيلَ: قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ لِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ لِيُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ
(تَكْمِيل): نَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ تَبَعًا لِمُغْلَطَايْ عَنِ الْقَرَافِيِّ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، دُعَاءٌ بِالْمُحَالِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ قَدْ يَدْخُلُ النَّارَ، وَدُخُولُ النَّارِ يُنَافِي الْغُفْرَانَ. وَتُعُقِّبَ بِالْمَنْعِ وَأَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْغُفْرَانِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَأَمَّا الْإِخْرَاجُ بِالشَّفَاعَةِ أَوِ الْعَفْوُ فَهُوَ غُفْرَانٌ فِي الْجُمْلَةِ.
وَتُعُقِّبَ
أَيْضًا بِالْمُعَارَضَةِ بِقَوْلِ نُوحٍ عليه السلام {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، وَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} .
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ السُّؤَالَ بِلَفْظِ التَّعْمِيمِ لَا يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ ذَلِكَ لِكُلِّ فَرْدٍ بِطَرِيقِ التَّعْيِينِ، فَلَعَلَّ مُرَادَ الْقَرَافِيِّ مَنْعُ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ لَا مَنْعُ أَصْلِ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ، ثُمَّ إنِّي لَا يَظْهَرُ لِي مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
61 - بَاب الدُّعَاءِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
6400 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ، وَقَالَ بِيَدِهِ. قُلْنَا: يُقَلِّلُهَا: يُزَهِّدُهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ الدُّعَاءِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أَيِ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا إِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَقَدْ تَرْجَمَ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ بَابُ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْبَابَيْنِ شَيْئًا يُشْعِرُ بِتَعْيِينِهَا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا، وَاقْتَصَرَ الْخَطَّابِيُّ مِنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا سَاعَةُ الصَّلَاةِ، وَالْآخَرُ: أَنَّهَا سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ عِنْدَ دُنُوِّ الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ، وَتَقَدَّمَ سِيَاقُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، وَقَدْ ذَكَرْتُ شَرْحَهُ هُنَاكَ، وَاسْتَوْعَبْتُ الْخِلَافَ الْوَارِدَ فِي السَّاعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَزَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ قَوْلًا، وَاتَّفَقَ لِي نَظِيرُ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَقَدْ ظَفِرْتُ بِحَدِيثٍ يَظْهَرُ مِنْهُ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَنَا عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُعْلِمْتُهَا ثُمَّ أُنْسِيتُهَا كَمَا أُنْسِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ رِوَايَةٍ جَاءَ فِيهَا تَعْيِينُ وَقْتِ السَّاعَةِ الْمَذْكُورَةِ مَرْفُوعًا وَهَمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا) يُقَيِّدُ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ شَيْئًا وَأَنَّ الْفَضْلَ الْمَذْكُورَ لِمَنْ يَسْأَلُ الْخَيْرَ، فَيَخْرُجُ الشَّرُّ مِثْلُ الدُّعَاءِ بِالْإِثْمِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ وَقَالَ بِيَدِهِ فِيهِ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ.
قَوْلُهُ (قُلْنَا يُقَلِّلُهَا يُزَهِّدُهَا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ يُزَهِّدُهَا وَقَعَ تَأْكِيدًا لِقولِهِ: يُقَلِّلُهَا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْخَطَّابِيُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ فَجَمَعَهُمَا الرَّاوِي، ثُمَّ وَجَدْتُهُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ يُقَلِّلُهَا وَيُزَهِّدُهَا فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ عَطْفُ تَأْكِيدٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ شَيْخِ مُسَدِّدٍ فِيهِ، فَلَمْ يَقَعْ عِنْدَهُ قُلْنَا وَلَفْظُهُ وَقَالَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا يُزَهِّدُهَا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِلَفْظِ وَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَقُلْنَا يُزَهِّدُهَا أَوْ يُقَلِّلُهَا، وَهَذِهِ أَوْضَحُ الرِّوَايَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
62 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُسْتَجَابُ لَنَا فِي الْيَهُودِ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا
6401 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
رضي الله عنها: إنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: وَعَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ - أَوْ الْفُحْشَ - قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُسْتَجَابُ لَنَا فِي الْيَهُودِ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا) أَيْ لِأَنَّا نَدْعُو عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَدْعُونَ عَلَيْنَا بِالظُّلْمِ.
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قَوْلِ الْيَهُودِ السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَفِي قَوْلِهَا لَهُمْ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَاللَّعْنَةُ، وَفِي آخِرِهِ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَإِنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ عَنْ عَائِشَةَ فِي نَحْوِ حَدِيثِ الْبَابِ فَقَالَ: مَهْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ، قَالُوا قَوْلًا فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَضُرَّنَا شَيْءٌ وَلَزِمَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَفِيهِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الدَّاعِيَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا عَلَى مَنْ دَعَا عَلَيْهِ لَا يُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُ، وَيُؤَيِّدهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} وَقَوْلُهُ هُنَا وَإِيَّاكَ وَالْعُنْفَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَفَتْحُهَا، وَهُوَ ضِدُّ الرِّفْقِ.
63 - بَاب التَّأْمِينِ
6402 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ التَّأْمِينِ) يَعْنِي قَوْلَ آمِينَ عَقِبَ الدُّعَاءِ.
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَارِئِ هُنَا الْإِمَامُ إِذَا قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَارِئِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَوَرَدَ فِي التَّأْمِينِ مُطْلَقًا أَحَادِيثُ مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى آمِينَ فَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ آمِينَ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَجْتَمِعُ مَلَأٌ فَيَدْعُو بَعْضُهُمْ وَيُؤَمِّنُ بَعْضُهُمْ إِلَّا أَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَلَحَّ فِي الدُّعَاءِ، فَقَالَ: أَوْجَبَ إِنْ خَتَمَ، فَقَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: بِآمِينَ. فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا فُلَانُ، اخْتِمْ بِآمِينَ وَأَبْشِرْ. وَكَانَ أَبُو زُهَيْرٍ يَقُولُ: آمِينَ مِثْلُ الطَّابِعِ عَلَى الصَّحِيفَةِ.
وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي بَابِ جَهْرِ الْإِمَامِ بِالتَّأْمِينِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ - مَا فِي آمِينَ مِنَ اللُّغَاتِ وَاخْتِلَافٍ فِي مَعْنَاهَا، فَأَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ.
64 - باب فَضْلِ التَّهْلِيلِ
6403 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ - كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَت لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ، إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ.
6404 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ "مَنْ قَالَ عَشْرًا كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ مِثْلَهُ فَقُلْتُ لِلرَّبِيعِ مِمَّنْ سَمِعْتَهُ فَقَالَ مِنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ فَأَتَيْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ فَقُلْتُ مِمَّنْ سَمِعْتَهُ فَقَالَ مِن ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَأَتَيْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَقُلْتُ مِمَّنْ سَمِعْتَهُ فَقَالَ مِن أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ يُحَدِّثَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَوْلَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الرَّبِيعِ قَوْلَهُ وَقَالَ آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ هِلَالَ بْنَ يَسَافٍ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلَهُ وَقَالَ الأَعْمَشُ وَحُصَيْنٌ عَنْ هِلَالٍ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلَهُ وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو قال الحافظ أبو ذر الهروي صوابه عمر وهو ابن أبي زائدة قال اليونيني قلت وعلى الصواب ذكره أبو عبد الله البخاري في الأصل كما تراه لا عمرو"
قَوْلُهُ (بَابُ فَضْلِ التَّهْلِيلِ) أَيْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ شَيْءٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ (عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ) بِمُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ مَالِكٍ حَدَّثَنِي سُمَيٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) هُوَ السَّمَّانُ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ (مِنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَفِي أُخْرَى زِيَادَةُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَسَأَذْكُرُ مَنْ زَادَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (مِائَةَ مَرَّةٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ الْمَاضِيَةِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ إِذَا أَصْبَحَ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ فِي الدبر، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ تَقْيِيدُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، لَكِنْ قَالَ: عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَفِي سَنَدِهِمَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ،
وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَقَالٌ.
قَوْلُهُ (كَانَتْ لَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْمَاضِيَةِ كَانَ بِالتَّذْكِيرِ، أَيِ الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ.
قَوْلُهُ (عَدْلُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَدْلُ بِالْفَتْحِ مَا عَدَلَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَبِالْكَسْرِ الْمِثْلُ.
قَوْلُهُ (عَشْرُ رِقَابٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَدْلُ رَقَبَةٍ، وَيُوَافِقُهُ رِوَايَةُ مَالِكٍ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بِلَفْظِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي آخِرِهِ عَشْرُ مَرَّاتٍ كُنَّ لَهُ عَدْلُ رَقَبَةٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَنَظِيرُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الَّذِي فِي الْبَابِ كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي الذِّكْرِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّؤَلِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: مَنْ قَالَهَا فَلَهُ عَدْلُ رَقَبَةٍ وَلَا تَعْجِزُوا أَنْ تَسْتَكْثِرُوا مِنَ الرِّقَابِ. وَمِثْلُهُ رِوَايَةُ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ، لَكِنَّهُ خَالَفَ فِي صَحَابِيِّهِ فَقَالَ: عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.
قَوْلُهُ (وَكُتِبَتْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَكُتِبَ بِالتَّذْكِيرِ.
قَوْلُهُ (وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ وَحُفِظَ يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَزَادَ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي طُرُقٍ أُخْرَى يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا بَعْدُ.
قَوْلُهُ (وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ) كَذَا هُنَا وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ مِمَّا جَاءَ بِهِ.
قَوْلُهُ (إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ) فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَمْ يَجِئْ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِنْ عَمَلِهِ إِلَّا مَنْ قَالَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى عَمْرٍو، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا رَجُلٌ مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنْ رَجُلٌ قَالَ أَكْثَرُ مِمَّا قَالَهُ فَإِنَّهُ يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا.
قَالَ عُمَرُو: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ الرَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ .. مِثْلَهُ. فَقُلْتُ لِلرَّبِيعِ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: مِنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، فَأَتَيْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ، فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: مِن ابْنِ أَبِي لَيْلَى، فَأَتَيْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: مِن أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، يُحَدِّثَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَوْلَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ مُوسَى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ..
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ الرَّبِيعِ، قَوْلَهُ.
وَقَالَ آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، سَمِعْتُ هِلَالَ بْنَ يَسَافٍ، عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلَهُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ
وَحُصَيْنٌ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ الرَّبِيعِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَوْلَهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلِ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَالصَّحِيحُ قَوْلُ عَمْرٍو.
قال الحافظ أبو ذر الهروي: صوابه عمر، وهو ابن أبي زائدة. قال اليونيني: قلت: وعلى الصواب ذكره أبو عبد الله البخاري في الأصل كما تراه، لا عمرو.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْمُسْنَدِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو هُوَ أَبُو عَامِرٍ الْحقَدِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمِهِ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ اسْمُ أَبِيهِ خَالِدٌ، وَقِيلَ: مَيْسَرَةُ، وَهُوَ أَخُو زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَزَكَرِيَّا أَكْثَرُ حَدِيثًا مِنْهُ وَأَشْهَرُ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ هُوَ الْأَوْدِيُّ، تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مُخَضْرَمٌ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ.
قَوْلُهُ (مَنْ قَالَ عَشْرًا كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ) هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا، وَسَاقَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْغَيْلَانِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَلَفْظُهُ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ - كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ فَرَّقَهُمَا، قَالَا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً.
قَوْلُهُ (قَالَ عُمَرُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَلِغَيْرِهِ عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ وَهُوَ الرَّاوِي الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ السَّنَدِ.
قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ، وَسَكَّنَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ الْفَاءَ وَهُوَ خَطَأٌ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا الْمَذْكُورَةِ، فَأَعَادَ مُسْلِمٌ السَّنَدَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ فَذَكَرَهُ. وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَوْصُولِ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ الْمَذْكُورَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ بِمُعْجَمَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ، مُصَغَّرٌ.
قَوْلُهُ (مِثْله) أَيْ مِثْلَ رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْمَوْقُوفَةِ، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي زَائِدَةَ أَسْنَدَهُ عَنْ شَيْخَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ مَوْقُوفًا، وَالثَّانِي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا.
(تَنْبِيه): وَقَعَ قَوْلُهُ قَالَ عَمْرٌو، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ .. إِلَخْ مُؤَخَّرًا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ التَّعَالِيقِ عَنْ مُوسَى وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ وَعَنْ آدَمَ وَعَنِ الْأَعْمَشِ،
وَحُصَيْنٍ، وَقَدَّمَ هَذِهِ التَّعَالِيقَ كُلَّهَا عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، فَصَارَ ذَلِكَ مُشْكِلًا لَا يَظْهَرُ مِنْهُ وَجْهُ الصَّوَابِ، وَوَقَعَ قَوْلُهُ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ مُقَدَّمًا مُعَقَّبًا بِرِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ عَنْ الْفَرَبْرِيِّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَرِوَايَةُ أَبِي عَوَانَةَ الْمَذْكُورَتَانِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ (، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ جَدُّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ .. إِلَخْ) أَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ التَّصْرِيحَ بِتَحْدِيثِ عَمْرٍو، لِأَبِي إِسْحَاقَ، وَأَفَادَتْ زِيَادَةَ ذِكْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي أَيُّوبَ فِي الْسْنَدِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ .. إِلَخْ) مَرْفُوعًا، وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَرْجَمَةِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ مِنْ تَارِيخِهِ فَقَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ فَذَكَرَهُ وَلَفْظُهُ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ مَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ جَعْفَرٌ فِي الذِّكْرِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الطَّحَّانِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِسَنَدِهِ، لَكِنْ لَفْظُهُ كَانَ لَهُ عَدْلُ رَقَبَةٍ أَوْ عَشْرُ رِقَابٍ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ دَاوُدَ، قَالَ: مِثْلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، كِلَاهُمَا عَنْ دَاوُدَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ يَزِيدَ بِلَفْظِ كُنَّ لَهُ كَعَدْلِ عَشْرِ رِقَابٍ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَلَفِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً صَاحِبَ سُنَّةٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَالَ: قُلْتُ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: أَبُو أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ، وَرِوَايَةُ وُهَيْبٍ تُؤَيِّدُ رِوَايَةَ عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَإِنْ كَانَ اخْتَصَرَ الْقِصَّةَ فَإِنَّهُ وَافَقَهُ فِي رَفْعِهِ وَفِي كَوْنِ الشَّعْبِيِّ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ قَوْلُهُ) إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَاقْتِصَارُ الْبُخَارِيِّ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ يُوهِمُ أَنَّهُ خَالَفَ دَاوُدَ فِي وَصْلِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ جَاءَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ عَنِ الرَّبِيعِ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ عَنْهُ وَصَلَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ لَنَا ذَلِكَ وَاضِحًا فِي زِيَادَاتِ الزُّهْدِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَرِوَايَةُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ الْحُسَيْنُ:، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَامِرٍ، هُوَ الشَّعْبِيُّ، سَمِعْتُ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ يَقُولُ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ .. فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ فَهُوَ عَدْلُ أَرْبَعِ رِقَابٍ، فَقُلْتُ: عَمَّنْ تَرْوِيهِ؟ فَقَالَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، فَلَقِيتُ عَمْرًا فَقُلْتُ: عَمَّنْ تَرْوِيهِ؟ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فَلَقِيتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ: عَمَّنْ تَرْوِيهِ؟ فَقَالَ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا أَخْرَجَهُ جَعْفَرٌ فِي الذِّكْرِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الطَّحَّانِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ مَنْ قَالَ فَذَكَرَهُ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ أَرْبَعِ رِقَابٍ يُعْتِقُهَا. قُلْتُ: عَمَّنْ تَرْوِي هَذَا؟ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، سَمِعْتُ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ يَقُولُ: مَنْ قَالَ .. فَذَكَرَهُ دُونَ قَوْلِهِ يُعْتِقُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: عَمَّنْ تَرْوِي هَذَا؟ فَذَكَرَهُ.
وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ رِوَايَةِ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ مِثْلَهُ سَوَاءً. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ، وَيَزِيدَ بْنَ عَطَاءٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ، وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأُمَوِيَّ رَوَوْهُ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ كَمَا قَالَ يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ عَاصِمٍ رَفَعَهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، سَمِعْتُ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ يَقُولُ .. فَذَكَرَهُ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَنْ أَخْبَرَكَ؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: فَلَقِيتُ عَمْرًا فَقُلْتُ: إِنَّ الرَّبِيعَ رَوَى لِي عَنْكَ كَذَا وَكَذَا، أَفَأَنْتَ أَخْبَرْتُهُ؟
قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟ قَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَذَكَرَ ذَلِكَ .. إِلَخْ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ .. إِلَخْ) هَكَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ فِيهِ حَدَّثَنَا آدَمُ وَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي نُسْخَةِ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ شُعْبَةَ رِوَايَةَ الْقَلَانِسِيِّ عَنْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ وَسَاقَا الْمَتْنَ وَلَفْظُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: لَأَنْ أَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ .. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنِ الرَّبِيعِ وَحْدَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ مَنْ قَالَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، لَكِنْ زَادَ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: كَانَ لَهُ عَدْلُ أَرْبَعِ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الْأَعْمَشُ، وَحُصَيْنٌ، عَنْ هِلَالٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ) أَمَّا رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ فَوَصَلَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ فِيهِ: كَانَ لَهُ عَدْلُ أَرْبَعِ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ حُصَيْنٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَوَصَلَهَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ لَهُ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَهُ وَلَفْظُهُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ قَالَ أَوَّلَ النَّهَارِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ .. فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ كُنَّ لَهُ كَعَدْلِ أَرْبَعٍ مُحَرَّرِينَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ - يَعْنِي النَّخَعِيَّ - فَزَادَ فِيهِ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، وَرُوِّينَاهَا بِعُلُوٍّ فِي فَوَائِدِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، وَلَفْظُهُ عَنْ هِلَالٍ قَالَ مَا قَعَدَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ إِلَّا كَانَ آخِرَ قَوْلِهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَذَكَرَهُ، وَهَكَذَا رَوَاهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ هِلَالٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: كَانَ لَهُ عَدْلُ أَرْبَعِ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَزَادَ فِيهِ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَلَمْ يُفَصِّلْ كَمَا فَصَّلَ حُصَيْنٌ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَعْلَى، عَنْ مَنْصُورٍ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالٍ عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ امْرَأَةٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِثْلَ الْأَوَّلِ.
وَزَادَ: عَشْرَ مَرَّاتٍ كُنَّ عَدْلَ نَسَمَةٍ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ لَا تَقْدَحُ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ صَرَّحَ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي أَيُّوبَ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ، فَلَعَلَّهُ كَانَ سَمِعَهُ مِنَ الْمَرْأَةِ عَنْهُ ثُمَّ لَقِيَهُ فَحَدَّثَهُ بِهِ، أَوْ سَمِعَهُ مِنْهُ ثُمَّ ثَبَّتَتْهُ فِيهِ الْمَرْأَةُ.
قَوْلُهُ (وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَوَافَقَهُ النَّسَفِيُّ وَلِغَيْرِهِمَا وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ .. إِلَخْ وَأَبُو مُحَمَّدٍ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ كَمَا قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ وَكَانَ يَخْدُمُ أَبَا أَيُّوبَ وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ أَنَّهُ أَفْلَحُ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مَشْهُورٌ بِاسْمِهِ مُخْتَلَفٌ فِي كُنْيَتِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يُعْرَفُ أَبُو مُحَمَّدٍ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَيْسَ لِأَبِي مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيِّ فِي الصَّحِيحِ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْحَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي الْوَرْدِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَاسْمُهُ ثُمَامَةُ بْنُ حَزْنٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا نُونٌ الْقُشَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا أَيُّوبَ أَلَا أُعَلِّمُكَ، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَذَكَرَهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَإِلَّا كُنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ مُحَرَّرِينَ، وَإِلَّا كَانَ فِي جُنَّةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَا قَالَهَا حِينَ يُمْسِي إِلَّا كَانَ كَذَلِكَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي مُحَمَّدٍ: أَنْتَ سَمِعْتَهَا مِنْ أَبِي أَيُّوبَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُهَا مِنْ أَبِي أَيُّوبَ.
وَرَوَى أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعِيشَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَفَعَهُ مَنْ قَالَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: عَشْرَ مَرَّاتٍ كُنَّ كَعَدْلِ أَرْبَعِ رِقَابٍ
وَكُتِبَ لَهُ بِهِنَّ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَمُحِيَ عَنْهُ بِهِنَّ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَرُفِعَ لَهُ بِهِنَّ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكُنَّ لَهُ حَرَسًا مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِذَا قَالَهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَمِثْلُ ذَلِكَ. وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.
وَأَخْرَجَهُ جَعْفَرٌ فِي الذِّكْرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رُهْمٍ السَّمَعِيِّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، لَكِنْ زَادَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَقَالَ فِيهِ: كَعَدْلِ عَشْرِ رِقَابٍ وَكَانَ لَهُ مَسْلَحَةٌ مِنْ أَوَّلِ نَهَارِهِ إِلَى آخِرِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا يَوْمئِذٍ يَقْهَرُهُنَّ، وَإِنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِي فَمِثْلُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الِقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ بِلَفْظِ مَنْ قَالَ غُدْوَةً فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَأَجَارَهُ اللَّهُ يَوْمَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا عَشِيَّةً كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْبُخَارِيُّ (وَالصَّحِيحُ قَوْلُ عَمْرٍو) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ عَمْرٌو بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ عُمَرُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَهُوَ كَمَا قَالَ: وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي رِوَايَتِهِ، الصَّحِيحُ قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْحَدِيثُ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَهُوَ الَّذِي ضَبَطَ الْإِسْنَادَ، وَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ حَفِيدَهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ يُوسُفَ كَمَا بَيِّنَتُهُ، وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا حَفِيدُهُ الْآخَرُ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ، أَخْرَجَهُ جَعْفَرٌ فِي الذِّكْرِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، فَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ بَيْنَ عَمْرٍو، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ. وَوَقَفَهُ أَيْضًا وَلَفْظُهُ عِنْدَهُ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ مَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ.
وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، لَكِنْ قَالَ: كَانَ أَعْظَمَ أَجْرًا وَأَفْضَلَ، وَالْبَاقِي مِثْلُ إِسْرَائِيلَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بَيْنَ الرَّبِيعِ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَخْرَجَهُ جَعْفَرٌ فِي الذِّكْرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَقَالَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا مَنْ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ فَذَكَرَ مِثْلَ لَفْظِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
وَاخْتِلَافُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي عَدَدِ الرِّقَابِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَخْرَجِ يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ بَيْنَهَا فَالْأَكْثَرُ عَلَى ذِكْرِ أَرْبَعَةٍ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذِكْرِ عَشَرَةٍ لِقَوْلِهَا مِائَةٌ فَيَكُونُ مُقَابِلُ كُلِّ عَشْرِ مَرَّاتٍ رَقَبَةً مِنْ قَبْلِ الْمُضَاعَفَةِ فَيَكُونُ لِكُلِّ مَرَّةٍ بِالْمُضَاعَفَةِ رَقَبَةٌ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ لِمُطْلَقِ الرِّقَابِ وَمَعَ وَصْفِ كَوْنِ الرَّقَبَةِ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يَكُونُ مُقَابِلُ الْعَشَرَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ أَرْبَعَةً مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ فَضْلًا عَنِ الْعَجَمِ، وَأَمَّا ذِكْرُ رَقَبَةِ بِالْإِفْرَادِ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ فَشَاذٌّ وَالْمَحْفُوظُ أَرْبَعَةٌ كَمَا بَيَّنْتُهُ.
وَجَمَعَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ بَيْنَ الِاخْتِلَافِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الذَّاكِرِينَ فَقَالَ: إِنَّمَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْجَسِيمُ لِمَنْ قَامَ بِحَقِّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَاسْتَحْضَرَ مَعَانِيَهَا بِقَلْبِهِ وَتَأَمَّلَهَا بِفَهْمِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الذَّاكِرُونَ فِي إِدْرَاكَاتِهِمْ وَفُهُومِهِمْ مُخْتَلِفِينَ كَانَ ثَوَابُهُمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَنْزِلُ اخْتِلَافُ مَقَادِيرِ الثَّوَابِ فِي الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ فِي بَعْضِهَا ثَوَابًا مُعَيَّنًا، وَنَجِدُ ذَلِكَ الذِّكْرَ بِعَيْنِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ كَمَا اتَّفَقَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي أَيُّوبَ.
قُلْتُ: إِذَا تَعَدَّدَتْ مَخَارِجُ الْحَدِيثِ فَلَا بَأْسَ بِهَذَا الْجَمْعِ وَإِذَا اتَّحَدَتْ فَلَا وَقَدْ يَتَعَيَّنُ الْجَمْعُ الَّذِي قَدَّمْتُهُ وَيُحْتَمَلُ فِيمَا إِذَا تَعَدَّدَتْ أَيْضًا أَنْ يَخْتَلِفَ الْمِقْدَارُ بِالزَّمَانِ كَالتَّقْيِيدِ بِمَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَثَلًا وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ إِنْ لَمْ يُحْمَلِ الْمُطْلَقَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، قَالَ عِيَاضٌ: ذِكْرُ هَذَا الْعَدَدِ مِنَ الْمِائَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَايَةُ لِلثَّوَابِ الْمَذْكُورِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرَادَ الزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ فَيَكُونُ لِقَائِلِهِ مِنَ الْفَضْلِ بِحِسَابِهِ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهَا مِنَ الْحُدُودِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ اعْتِدَائِهَا وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي الزِّيَادَةِ
عَلَيْهَا كَمَا فِي رَكَعَاتِ السُّنَنِ الْمَحْدُودَةِ وَأَعْدَادِ الطَّهَارَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرَادَ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الذِّكْرِ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَزِيدَ أَحَدٌ عَمَلًا آخَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الزِّيَادَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ التَّهْلِيلِ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالذِّكْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ إِلَّا مَنْ قَالَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَجْرَ يَحْصُلُ لِمَنْ قَالَ هَذَا التَّهْلِيلَ فِي الْيَوْمِ مُتَوَالِيًا أَوْ مُتَفَرِّقًا فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَوْ آخِرِهِ، لَكِنِ الْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَوَّلَ النَّهَارِ مُتَوَالِيًا لِيَكُونَ لَهُ حِرْزًا فِي جَمِيعِ نَهَارِهِ وَكَذَا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ لِيَكُونَ لَهُ حِرْزًا فِي جَمِيعِ لَيْلِهِ.
(تَنْبِيه): أَكْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ أَلْفَاظِ هَذَا الذِّكْرِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ رَفَعَهُ: مَنْ قَالَ حِينَ يَدْخُلُ السُّوقَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٍّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا لَفْظُ جَعْفَرٍ فِي الذِّكْرِ وَفِي سَنَدِهِ لِينٌ، وَقَدْ وَرَدَ جَمِيعُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى مَا أَوْضَحْتُهُ مُفَرَّقًا إِلَّا قَوْلَهُ: وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ.
65 - بَاب فَضْلِ التَّسْبِيحِ
6405 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ.
6406 -
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ"
[الحديث 6406 - طرفاه في 6682، 7563]
قَوْلُهُ (بَابُ فَضْلِ التَّسْبِيحِ) يَعْنِي قَوْلَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَمَعْنَاهُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، فَيَلْزَمُ نَفْيُ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَجَمِيعِ الرَّذَائِلِ، وَيُطْلَقُ التَّسْبِيحُ وَيُرَادُ بِهِ جَمِيعَ أَلْفَاظِ الذِّكْرِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ صَلَاةَ النَّافِلَةِ. وَأَمَّا صَلَاةُ التَّسْبِيحِ فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ التَّسْبِيحِ فِيهَا. وَسُبْحَانَ: اسْمٌ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ سَبَّحْتُ اللَّهَ سُبْحَانًا كَسَبَّحْتُ اللَّهَ تَسْبِيحَةً، وَلَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إِلَّا مُضَافًا، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ سَبَّحْتُ اللَّهَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ جَاءَ غَيْرَ مُضَافٍ فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا أُنَزِّهُهُ.
قَوْلُهُ (مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ، وَيَأْتِي فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ مُتَوَالِيًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَفِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ.
قَالَ عِيَاضٌ: قَوْلُهُ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ مَعَ قَوْلِهِ فِي التَّهْلِيلِ مُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ - قَدْ يُشْعِرُ بِأَفْضَلِيَّةِ التَّسْبِيحِ عَلَى التَّهْلِيلِ، يَعْنِي لِأَنَّ عَدَدَ زَبَدِ الْبَحْرِ أَضْعَافُ
أَضْعَافِ الْمِائَةِ، لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي التَّهْلِيلِ: وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ التَّهْلِيلُ أَفْضَلَ وَأَنَّهُ بِمَا زِيدَ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَكَتْبِ الْحَسَنَاتِ، ثُمَّ مَا جُعِلَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ عِتْقِ الرِّقَابِ قَدْ يَزِيدُ عَلَى فَضْلِ التَّسْبِيحِ وَتَكْفِيرِهِ جَمِيعَ الْخَطَايَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْها عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ. فَحَصَلَ بِهَذَا الْعِتْقِ تَكْفِيرُ جَمِيعِ الْخَطَايَا عُمُومًا بَعْدَ حَصْرِ مَا عَدَّدَ مِنْهَا خُصُوصًا مَعَ زِيَادَةِ مِائَةِ دَرَجَةٍ وَمَا زَادَهُ عِتْقُ الرِّقَابِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاحِدَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ أَفْضَلُ الذِّكْرِ التَّهْلِيلُ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مَا قَالَهُ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ، وَهُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُ التَّسْبِيحِ وَأَنَّهُ التَّنْزِيهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ - تَعَالَى - وَجَمِيعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قُلْتُ: وَحَدِيثُ أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَيُعَارِضُهُ فِي الظَّاهِرِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ سُئِلَ: أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: فِيهِ تَلْمِيحٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مُخْتَصَرًا مِنَ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ وَهِيَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ; لِأَنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ تَنْزِيهٌ لَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَتَقْدِيسٌ لِصِفَاتِهِ مِنَ النَّقَائِصِ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَوْلُهُ وَبِحَمْدِهِ صَرِيحٌ فِي مَعْنَى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ بِمَعْنَى اللَّامِ فِي الْحَمْدِ وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ مَعْنَى اللَّهُ أَكْبَرُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلُّ الْفَضْلِ وَالْأَفْضَالِ لِلَّهِ وَمِنَ اللَّهِ وَلَيْسَ مِنْ غَيْرِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَكْبَرَ مِنْهُ وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ أَفْضَلَ مِنَ التَّهْلِيلِ لِأَنَّ التَّهْلِيلَ صَرِيحٌ فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّسْبِيحِ مُتَضَمِّنٌ لَهُ وَلِأَنَّ نَفْيَ الْآلِهَةِ فِي قَوْلِ لَا إِلَهَ نَفْيٌ لِمُضْمَنِهَا مِنْ فِعْلِ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِثَابَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَقَوْلُ إِلَّا اللَّهُ إِثْبَاتٌ لِذَلِكَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ مَا يَضَادُّهُ وَيُخَالِفُهُ مِنَ النَّقَائِصِ فَمَنْطُوقُ سُبْحَانَ اللَّهِ تَنْزِيهٌ وَمَفْهُومُهُ تَوْحِيدٌ وَمَنْطُوقُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَوْحِيدٌ وَمَفْهُومُهُ تَنْزِيهٌ، يَعْنِي فَيَكُونُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَفْضَلَ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ أَصْلٌ وَالتَّنْزِيهُ يَنْشَأُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ جَمَعَ الْقُرْطُبِيُّ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَذْكَارَ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى بَعْضِهَا أَنَّهُ أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَوْ أَحَبُّهُ إِلَى اللَّهِ فَالْمُرَادُ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَى أَخَوَاتِهَا بِدَلِيلِ حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكْتَفِيَ فِي ذَلِكَ بِالْمَعْنَى فَيَكُونُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا كَفَى؛ لِأَنَّ حَاصِلَهَا التَّعْظِيمُ وَالتَّنْزِيهُ، وَمَنْ نَزَّهَهُ فَقَدْ عَظَّمَهُ وَمَنْ عَظَّمَهُ فَقَدْ نَزَّهَهُ، انْتَهَى.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْإِطْلَاقُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى كَلَامِ الْآدَمِيِّ وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ أَفْضَلُ الذِّكْرِ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَلَامِ كَلَامُ الْبَشَرِ فَإِنَّ للثَّلَاثَ الْأُوَلَ وَإِنْ وُجِدَتْ فِي الْقُرْآنِ لَكِنَّ الرَّابِعَةَ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ وَلَا يَفْضُلُ مَا لَيْسَ فِيهِ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بِأَنْ تَكُونَ مِنْ مُضْمَرَةً فِي قَوْلِهِ أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِهِ أَحَبُّ الْكَلَامِ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ لَفْظَ أَفْضَلَ وَأَحَبَّ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَعْنَى، لَكِنْ يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ تَفْضِيلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا بِالْأَفْضَلِيَّةِ الصَّرِيحَةِ، وَذُكِرَتْ مَعَ أَخَوَاتِهَا بِالْأَحَبِّيَّةِ فَحَصَلَ لَهَا التَّفْضِيلُ تَنْصِيصًا وَانْضِمَامًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهِيَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ الَّتِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا حَتَّى يَقَولَهَا،
وَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهِيَ كَلِمَةُ الشُّكْرِ الَّتِي لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ عَبْدٌ حَتَّى يَقَولَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلْيَقُلْ عَلَى أَثَرِهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(تَكْمِيل): أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكُ بِهِ، قَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ .. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ جُعِلْنَ فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ لَمَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الذِّكْرَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَرْجَحُ مِنَ الذِّكْرِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَفَعَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ فَإِنَّ الْمِلْءَ يَدُلُّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَالرُّجْحَانُ صَرِيحٌ فِي الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ أَوْلَى، وَمَعْنَى مِلْءُ الْمِيزَانِ أَنَّ ذَاكِرَهَا يَمْتَلِئُ مِيزَانُهُ ثَوَابًا. وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْفَضْلَ الْوَارِدَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَمَا شَابَهَهُ إِنَّمَا هُوَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ فِي الدِّينِ وَالطَّهَارَةِ مِنَ الْجَرَائِمِ الْعِظَامِ، وَلَيْسَ مَنْ أَصَرَّ عَلَى شَهَوَاتِهِ وَانْتَهَكَ دِينَ اللَّهِ وَحُرُمَاتِهِ بِلَا حَقٍّ بِالْأَفَاضِلِ الْمُطَهَّرِينَ فِي ذَلِكَ. وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ) هُوَ مُحَمَّدٌ وَأَبُوهُ بِالْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ، وَعُمَارَةُ هُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو زُرْعَةَ هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ مَا بَيْنَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ كُوفِيُّونَ. قَوْلُهُ (خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ .. إِلَخْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلسُّهُولَةِ، شَبَّهَ سُهُولَةَ جَرَيَانِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى اللِّسَانِ بِمَا يَخِفُّ عَلَى الْحَامِلِ مِنْ بَعْضِ الْمَحْمُولَاتِ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ وَأَرَادَ الْمُشَبَّهَ بِهِ، وَأَمَّا الثِّقَلُ فَعَلَى حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَجَسَّمُ عِنْدَ الْمِيزَانِ، وَالْخِفَّةُ وَالسُّهُولَةُ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ وَتَحْرِيضٌ عَلَى مُلَازَمَتِهِ ; لِأَنَّ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ شَاقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، وَهَذَا سَهْلٌ وَمَعَ ذَلِكَ يَثْقُلُ فِي الْمِيزَانِ كَمَا تَثْقُلُ الْأَفْعَالُ الشَّاقَّةُ، فَلَا يَنْبَغِي التَّفْرِيطُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ تَثْنِيَةُ حَبِيبَةٍ وَهِيَ الْمَحْبُوبَةُ وَالْمُرَادُ أَنَّ قَائِلَهَا مَحْبُوبٌ لِلَّهِ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْخَيْرِ لَهُ وَالتَّكْرِيمُ، وَخَصَّ الرَّحْمَنَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ، حَيْثُ يُجَازِي عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَلِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّعْظِيمِ، وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ إِذَا وَقَعَ بِغَيْرِ كُلْفَةٍ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي آخِرِ الصَّحِيحِ، حَيْثُ خَتَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
66 - بَاب فَضْلِ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل
6407 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ.
6408 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ عز وجل وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَال: تقول: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ:
فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: فيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنْ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: فيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمْ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ.
قَوْلُهُ (بَابُ فَضْلِ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْ أَبِي مُوسَى، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُمَا ظَاهِرَانِ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْإِتْيَانُ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي قَوْلِهَا وَالْإِكْثَارُ مِنْهَا مِثْلِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهِيَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَمَا يَلْتَحِقُ بِهَا مِنَ الْحَوْقَلَةِ وَالْبَسْمَلَةِ وَالْحَسْبَلَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالدُّعَاءِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُطْلَقُ ذِكْرُ اللَّهِ أَيْضًا وَيُرَادُ بِهِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَوْجَبَهُ أَوْ نَدَبَ إِلَيْهِ كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ وَمُدَارَسَةِ الْعِلْمِ وَالتَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ الذِّكْرُ يَقَعُ تَارَةً بِاللِّسَانِ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ النَّاطِقُ وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُهُ لِمَعْنَاهُ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ وَإِنِ انْضَافَ إِلَى النُّطْقِ الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَهُوَ أَكْمَلُ فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ اسْتِحْضَارُ مَعْنَى الذِّكْرِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَنَفْيِ النَّقَائِصِ عَنْهُ، ازْدَادَ كَمَالًا فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ مَهْمَا فُرِضَ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ازْدَادَ كَمَالًا فَإِنْ صَحَّحَ التَّوَجُّهَ وَأَخْلَصَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ فَهُوَ أَبْلَغُ الْكَمَالِ.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ بِذِكْرِ اللِّسَانِ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ وَالذِّكْرُ بِالْقَلْبِ التَّفَكُّرُ فِي أَدِلَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَفِي أَدِلَّةِ التَّكَالِيفِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَى أَحْكَامِهَا وَفِي أَسْرَارِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَالذِّكْرُ بِالْجَوَارِحِ هُوَ أَنْ تَصِيرَ مُسْتَغْرِقَةً فِي الطَّاعَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ سَمَّى اللَّهُ الصَّلَاةَ ذِكْرًا فَقَالَ:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ قَالَ: الذِّكْرُ عَلَى سَبْعَةِ أَنْحَاءٍ: فَذِكْرُ الْعَيْنَيْنِ بِالْبُكَاءِ وَذِكْرُ الْأُذُنَيْنِ بِالْإِصْغَاءِ وَذِكْرُ اللِّسَانِ بِالثَّنَاءِ وَذِكْرُ الْيَدَيْنِ بِالْعَطَاءِ وَذِكْرُ الْبَدَنِ بِالْوَفَاءِ وَذِكْرُ الْقَلْبِ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَذِكْرُ الرُّوحِ بِالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَاءِ.
وَوَرَدَ فِي فَضْلِ الذِّكْرِ أَحَادِيثُ أُخْرَى، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى -: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي .. الْحَدِيثَ. وَمِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رَفَعَهُ يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ .. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَإِنْ قَامَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ.
وَمِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ - تَعَالَى - إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ .. الْحَدِيثَ.
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ: أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ مَا اصْطَفَى لِمَلَائِكَتِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي وَبِحَمْدِهِ .. الْحَدِيثَ.
وَمِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ رَفَعَهُ أَنَّهُ قَالَ لِجَمَاعَةٍ جَلَسُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ - تَعَالَى -: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي
أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ.
وَمِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ: أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ.
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ في حَدِيث طَوِيلٌ وَفِيهِ: فَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي إثْرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ أَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ نَحْوَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَفِيهِ: أَنَّهُ السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: أَلَا أُخْبِركُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ عز وجل. وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ مُسْتَشْكَلًا فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ مَعَ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْمُجَاهِدِ أَنَّهُ كَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَطَرِيقُ الْجَمْعِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الذِّكْرُ الْكَامِلُ وَهُوَ مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ ذِكْرُ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْمَعْنَى وَاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّنْ يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ مَثَلًا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْضَارٍ لِذَلِكَ، وَأَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْجِهَادِ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذِكْرِ اللِّسَانِ الْمُجَرَّدِ، فَمَنِ اتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ جَمَعَ ذَلِكَ كَمَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ حَالَ صَلَاتِهِ أَوْ فِي صِيَامِهِ أَوْ تَصَدُّقِهِ أَوْ قِتَالِهِ الْكُفَّارَ مَثَلًا فَهُوَ الَّذِي بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى وَالْعِلْمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: بِأَنَّهُ مَا مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ إِلَّا وَالذِّكْرُ مُشْتَرَطٌ فِي تَصْحِيحِهِ، فَمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ بِقَلْبِهِ عِنْدَ صَدَقَتِهِ أَوْ صِيَامِهِ مَثَلًا فَلَيْسَ عَمَلُهُ كَامِلًا، فَصَارَ الذِّكْرُ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ حَدِيثُ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ.
الحديث الأول: قَوْلُهُ (مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ) سَقَطَ لَفْظُ رَبَّهُ الثَّانِيَةُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ: مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ جَمِيعًا عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ.
وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَرَّادٍ وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيِّ، وَمُوسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيِّ، وَالْقَاسِمِ بْنِ دِينَارٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ فَتَوَارُدُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخُ أَبِي أُسَامَةَ، وَانْفِرَادُ الْبُخَارِيِّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ دُونَ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ أَبِي كُرَيْبٍ وَأَصْحَابِ أَبِي أُسَامَةَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حِفْظِهِ أَوْ تَجَوَّزَ فِي رِوَايَتِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ لَهُ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ حَقِيقَةً هُوَ السَّاكِنُ لَا السَّكَنُ وَأَنَّ إِطْلَاقَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فِي وَصْفِ الْبَيْتِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ سَاكِنُ الْبَيْتِ فَشَبَّهَ الذَّاكِرَ بِالْحَيِّ الَّذِي ظَاهِرُهُ مُتَزَيِّنٌ بِنُورِ الْحَيَاةِ وَبَاطِنُهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ
وَغَيْرَ الذَّاكِرِ بِالْبَيْتِ الَّذِي ظَاهِرُهُ عَاطِلٌ وَبَاطِنُهُ بَاطِلٌ، وَقِيلَ: مَوْقِعُ التَّشْبِيهِ بِالْحَيِّ وَالْمَيِّتِ لِمَا فِي الْحَيِّ مِنَ النَّفْعِ لِمَنْ يُوَالِيهِ وَالضُّرِّ لِمَنْ يُعَادِيهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ.
رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) لَمْ أَرَهُ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ إِلَّا بِالْعَنْعَنَةِ، لَكِنِ اعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ عَلَى وَصْلِهِ لِكَوْنِ شُعْبَةَ رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ، فَإِنَّ شُعْبَةَ كَانَ لَا يُحَدِّثُ عَنْ شُيُوخِهِ الْمَنْسُوبِينَ لِلتَّدْلِيسِ إِلَّا بِمَا تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَا قَالَ جَرِيرٌ، وَتَابَعَهُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ هَكَذَا بِالشَّكِّ لِلْأَكْثَرِ، وَفِي نُسْخَةٍ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِالشَّكِّ، وَقَالَ: شَكَّ الْأَعْمَشُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَالَ: شَكَّ سُلَيْمَانُ. يَعْنِي الْأَعْمَشَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ.
قَوْلُهُ بَعْدَ سِيَاقِ الْمَتْنِ (رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ) يَعْنِي بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ (وَلَمْ يَرْفَعْهُ) هَكَذَا وَصَلَهُ أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ بِنَحْوِهِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ مَوْقُوفًا.
قَوْلُهُ (وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَتِهِ مِنْ فَائِدَةٍ.
قَوْلُهُ (إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ فَضْلًا وَكَذَا لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلٍ، قَالَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ مَا نَصُّهُ: فِي رِوَايَتِنَا عَنْ أَكْثَرِهِمْ بِسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَرَوَاهُ الْعُذْرِيُّ، وَالْهَوْزَنِيُّ فُضْلُ بِالضَّمِّ وَبَعْضُهُمْ بِضَمِّ الضَّادِ، وَمَعْنَاهُ زِيَادَةٌ عَلَى كِتَابِ
النَّاسِ، هَكَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْبُخَارِيِّ قَالَ: وَكَانَ هَذَا الْحَرْفُ فِي كِتَابِ ابْنِ عِيسَى فُضَلَاءُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الضَّادِ وَالْمَدِّ وَهُوَ وَهْمٌ هُنَا وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُمْ عليهم السلام، وَقَالَ فِي الْإِكْمَالِ: الرِّوَايَةُ فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ شُيُوخِنَا فِي مُسْلِمٍ، وَالْبُخَارِيِّ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ. فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَزَادَ: هَكَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: فَضْلًا أَيْ زِيَادَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ الْمُرَتَّبِينَ مَعَ الْخَلَائِقِ، وَيُرْوَى بِسُكُونِ الضَّادِ وَبِضَمِّهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالسُّكُونُ أَكْثَرُ وَأَصْوَبُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوا فَضْلًا عَلَى أَوْجُهٍ أَرْجَحُهَا بِضَمِّ الْفَاءِ وَالضَّادِ، وَالثَّانِي بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ وَادَّعَى أَنَّهَا أَكْثَرُ وَأَصْوَبُ، وَالثَّالِثُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَكَذَا الرِّوَايَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ شُيُوخِنَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالرَّابِعُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالضَّادِ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِرَفْعِ اللَّامِ، يَعْنِي عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ، وَالْخَامِسُ فُضَلَاءُ بِالْمَدِّ جَمْعُ فَاضِلٍ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمَعْنَاهُ عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ زَائِدُونَ عَلَى الْحَفَظَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُرَتَّبِينَ مَعَ الْخَلَائِقِ لَا وَظِيفَةَ لَهُمْ إِلَّا حِلَقُ الذِّكْرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فُضْلًا بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ جَمْعُ فَاضِلٍ كَنُزْلِ وَنَازِلٍ. انْتَهَى.
وَنِسْبَةُ عِيَاضٍ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِلْبُخَارِيِّ وَهَمٌ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ هُنَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ خَارِجَ الصَّحِيحِ. وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ التِّرْمِذِيُّ وَزَادَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالطَّبَرَانِيُّ في رِوَايَةَ جَرِيرٍ فَضْلًا عَنْ كِتَابِ
النَّاسِ، وَمِثْلَهُ لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَزَادَ سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ كِتَابِ الْأَيْدِي، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ سَيَّارَةً فَضْلًا.
قَوْلُهُ (يَطُوفُونَ فِي الطَّرِيقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ) فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ يَتَّبِعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ أَبِي يَعْلَى: إِنَّ لِلَّهِ سَرَايَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَقِفُ وَتَحِلُّ بِمَجَالِسِ الذِّكْرِ فِي الْأَرْضِ.
قَوْلُهُ (فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا) فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فَإِذَا رَأَوْا قَوْمًا وَفِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ.
قَوْلُهُ (تَنَادَوْا) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ يَتَنَادَوْنَ.
قَوْلُهُ (هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ بُغْيَتِكُمْ وَقَوْلُهُ: هَلُمُّوا عَلَى لُغَةِ أَهْلِ نَجْدٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ فَيَقُولُونَ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ هَلُمَّ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ. وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقِيلَ: هَلْ لَكِ فِي الْأَكْلِ أَمَّ، أَيِ اقْصِدْ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ لُمَّ بِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَهَا لِلتَّنْبِيهِ حُذِفَتْ أَلِفُهَا تَخْفِيفًا.
قَوْلُهُ (فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ) أَيْ يَدْنُونَ بِأَجْنِحَتِهِمْ حَوْلَ الذَّاكِرِينَ، وَالْبَاءُ لِلتَّعَدِّيَةِ، وَقِيلَ: لِلِاسْتِعَانَةِ.
قَوْلُهُ (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَفِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ قَعَدُوا مَعَهُمْ وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَمَاءِ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ (قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ عز وجل وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِهِمْ كَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَرَدَتْ لِرَفْعِ التَّوَهُّمِ زَادَ فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فَيَقُولُ اللَّهُ: أَيَّ شَيْءٍ تَرَكْتُمْ عِبَادِي يَصْنَعُونَ؟.
قَوْلُهُ (مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ: تَقُولُ: يُسَبِّحُونَكَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِالْإِفْرَادِ فِيهِمَا وَلِغَيْرِهِ قَالُوا: يَقُولُونَ، وَلِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ: يَقُولُونَ، وَزَادَ سُهَيْلٌ فِي رِوَايَتِهِ فَإِذَا تَفَرَّقُوا أَيْ أَهْلُ الْمَجْلِسِ، عَرَجُوا أَيِ الْمَلَائِكَةُ، وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ.
قَوْلُهُ (يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ) زَادَ إِسْحَاقُ، وَعُثْمَانُ، عَنْ جَرِيرٍ وَيُمَجِّدُونَكَ وَكَذَا لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ يَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ وَيَذْكُرُونَكَ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالُوا: رَبَّنَا مَرَرْنَا بِهِمْ وَهُمْ يَذْكُرُونَكَ .. إِلَخْ، وَفِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَيُعَظِّمُونَ آلَاءَكَ وَيَتْلُونَ كِتَابَكَ وَيُصَلُّونَ عَلَى نَبِيِّكَ وَيَسْأَلُونَكَ لِآخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ الْمُرَادُ بِمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَأَنَّهَا الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الذِّكْرِ الْوَارِدَةِ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَكْبِيرٍ وَغَيْرِهِمَا وَعَلَى تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَعَلَى الدُّعَاءِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِي دُخُولِ قِرَاءَةِ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ وَمُدَارَسَةِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَمُذَاكَرَتِهِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَجَالِسِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِمَجَالِسِ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَنَحْوِهِمَا وَالتِّلَاوَةِ حَسْبُ، وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْحَدِيثِ وَمُدَارَسَةُ الْعِلْمِ وَالْمُنَاظَرَةُ فِيهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُسَمَّى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ (قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ) كَذَا ثَبَتَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الْمَوَاضِعِ، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ (كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا) زَادَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ وَتَحْمِيدًا، وَكَذَا لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَشَدَّ لَكَ ذِكْرًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا.
قَوْلُهُ (قَالَ: يَقُولُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَيَقُولُ.
قَوْلُهُ (فَمَا يَسْأَلُونِي) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَأَيَّ شَيْءٍ يَطْلُبُونَ.
قَوْلُهُ (يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ) فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ.
قَوْلُهُ (كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا) زَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَلَيْهَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا كَانُوا أَشَدَّ حِرْصًا
وَأَشَدَّ طِلْبَةً وَأَعْظَمَ لَهَا رَغْبَةً.
قَوْلُهُ (قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَمِنْ أَيٍّ شَيْءٍ يَتَعَوَّذُونَ؟ فَيَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، وَفِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ. وَقَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ.
قَوْلُهُ (كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا هَرَبَا وَأَشَدَّ مِنْهَا تَعَوُّذًا وَخَوْفًا، وَزَادَ سُهَيْلٌ فِي رِوَايَتِهِ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فَيَقُولُ: غَشُّوهُمْ رَحْمَتِي.
قَوْلُهُ (يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَيَقُولُونَ: إِنَّ فِيهِمْ فُلَانًا الْخَطَّاءَ لَمْ يُرِدْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ قَالَ: يَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ: وَلَهُ قَدْ غَفَرْتُ.
قَوْلُهُ (هُمُ الْجُلَسَاءُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ هُمُ الْقَوْمُ وَفِي اللَّامِ إِشْعَارٌ بِالْكَمَالِ أَيْ هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ.
قَوْلُهُ (لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ لَا يَشْقَى لَهُمْ جَلِيسٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ الْمُقْتَضِي لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ الْكَمَالِ، وَقَدْ أَخْرَجَ جَعْفَرٌ فِي الذِّكْرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِمْ، قَالَ: فَنَزَلَتِ الرَّحْمَةُ ثُمَّ ارْتَفَعَتْ، فَقَالُوا: رَبَّنَا فِيهِمْ عَبْدُكَ فُلَانٌ، قَالَ: غَشُّوهُمْ رَحْمَتِي، هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مُبَالَغَةٌ فِي نَفْيِ الشَّقَاءِ عَنْ جَلِيسِ الذَّاكِرِينَ، فَلَوْ قِيلَ لَسَعِدَ بِهِمْ جَلِيسُهُمْ لَكَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْفَضْلِ، لَكِنَّ التَّصْرِيحَ بِنَفْيِ الشَّقَاءِ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ.
(تَنْبِيه): اخْتَصَرَ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ مَتْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَسَاقَ مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، ثُمَّ قَالَ: فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالذَّاكِرِينَ وَفَضْلُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ جَلِيسَهُمْ يَنْدَرِجُ مَعَهُمْ فِي جَمِيعِ مَا يَتَفَضَّلُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ عَلَيْهِمْ إِكْرَامًا لَهُمْ وَلَوْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي أَصْلِ الذِّكْرِ.
وَفِيهِ مَحَبَّةُ الْمَلَائِكَةِ بَنِي آدَمَ وَاعْتِنَاؤُهُمْ بِهِمْ، وَفِيهِ أَنَّ السُّؤَالَ قَدْ يَصْدُرُ مِنَ السَّائِلِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ مِنَ الْمَسْئُولِ لِإِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ وَالتَّنْوِيَهِ بِقَدْرِهِ وَالْإِعْلَانِ بِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ فِي خُصُوصِ سُؤَالِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ عَنْ أَهْلِ الذِّكْرِ الْإِشَارَةَ إِلَى قَوْلِهِمْ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمُ: انْظُرُوا إِلَى مَا حَصَلَ مِنْهُمْ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ مَعَ مَا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَكَيْفَ عَالَجُوا ذَلِكَ وَضَاهَوْكُمْ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الذِّكْرَ الْحَاصِلَ مِنْ بَنِي آدَمَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِنَ الذِّكْرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِحُصُولِ ذِكْرِ الْآدَمِيِّينَ مَعَ كَثْرَةِ الشَّوَاغِلِ وَوُجُودِ الصَّوَارِفِ وَصُدُورِهِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَفِيهِ بَيَانُ كَذِبِ مَنِ ادَّعَى مِنَ الزَّنَادِقَةِ أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ - تَعَالَى - جَهْرًا فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَمْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا. وَفِيهِ جَوَازُ الْقَسَمِ فِي الْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ تَأْكِيدًا لَهُ وَتَنْوِيهًا بِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرَاتِ وَالنَّارُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَكْرُوهَاتِ فَوْقَ مَا وُصِفَتَا بِهِ، وَأَنَّ الرَّغْبَةَ وَالطَّلَبَ مِنَ اللَّهِ وَالْمُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْحُصُولِ.
67 - بَاب قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
6409 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ
أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي عَقَبَةٍ - أَوْ قَالَ: فِي ثَنِيَّةٍ - قَالَ: فَلَمَّا عَلَا عَلَيْهَا رَجُلٌ نَادَى فَرَفَعَ صَوْتَهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى - أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ - أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
قَوْلُهُ (بَاب قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ الدُّعَاءِ إِذَا عَلَا عَقَبَةَ، وَوَعَدْتُ بِشَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
68 - بَاب لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدة
6410 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رِوَايَةً قَالَ: لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدة، لَا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ.
قَوْلُهُ (بَابُ لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدَةٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ مِائَةٌ غَيْرَ وَاحِدٍ بِالتَّذْكِيرِ، وَكَذَا اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي هَذَا فِي لَفْظِ الْمَتْنِ.
قَوْلُهُ (حَفِظْنَاهُ مِنْ أَبِي الزِّنَادِ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ (رِوَايَةً) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِمُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ النَّاقِدِ، عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا السَّنَدِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِلْمُصَنِّفِ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِسَنَدِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: لِي تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا.
قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنِ الْأَعْرَجِ أَيْضًا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ وَسَرَدَ الْأَسْمَاءَ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَيْضًا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ كَمَا مَضَى فِي الشُّرُوطِ. وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ شُعَيْبٍ وَسَرَدَ الْأَسْمَاءَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَمَالِكٌ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالنَّسَائِيُّ، والدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَنْ مَالِكٍ وَلَيْسَ فِي الْمُوَطَّأِ قَدْرُ مَا عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي طُرُقِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْهُ.
وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، والطَّبَرَانِيِّ فِي الدُّعَاءِ، وَجَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي الذِّكْرِ، وَأَبُو رَافِعٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَسَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَخْرَجَهَا أَبُو نُعَيْمٍ بِأَسَانِيدَ عَنْهُمْ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَعِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ لَكِنْ شَكَّ فِيهِ، وَرُوِّينَاهَا فِي جُزْءِ الْمَعَالِي وَفِي أَمَالِي الْجُرْفِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَلِيٌّ وَكُلُّهَا عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ.
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ فِي طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ لِأَبِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ مَعًا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ أَمَالِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ بَشْرَانَ وَفِي فَوَائِدِ أَبِي عُمَرَ بْنِ حَيُّوَيْهِ انْتِقَاءُ الدَّارَقُطْنِيِّ، هَذَا جَمِيعُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ طُرُقِهِ، وَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ تَوَاتَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: فِي سَرْدِ الْأَسْمَاءِ نَظَرٌ، فَإِنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَمْ يَتَوَاتَرِ الْحَدِيثُ مِنْ أَصْلِهِ وَإِنْ خَرَجَ فِي الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ تَوَاتَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. كَذَا قَالَ. وَلَمْ يَتَوَاتَرْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، بَلْ غَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا، وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ سَرْدُ الْأَسْمَاءِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ.
وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَهَذَانِ الطَّرِيقَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، وَفِيهِمَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ فِي سَرْدِ الْأَسْمَاءِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ عَلَى مَا سَأُشِيرُ إِلَيْهِ.
وَوَقَعَ سَرْدُ الْأَسْمَاءِ أَيْضًا فِي طَرِيقٍ ثَالِثَةٍ أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَجَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي الذِّكْرِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَرْدِ الْأَسْمَاءِ هَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ أَوْ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فَمَشَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى الْأَوَّلِ وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِمَا لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ كَذَلِكَ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ التَّعْيِينَ مُدْرَجٌ لِخُلُوِّ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ النَّخْشَبِيُّ، عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ الْحَاكِمُ بَعْدَ تَخْرِيجِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِسِيَاقِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالْعِلَّةُ فِيهِ عِنْدَهُمَا تَفَرُّدُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَلِيدَ أَوْثَقُ وَأَحْفَظُ وَأَجَلُّ وَأَعْلَمُ مِنْ بِشْرِ بْنِ شُعَيْبٍ، وَعَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ شُعَيْبٍ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ بِشْرًا، وَعَلِيًّا، وَأَبَا الْيَمَانِ رَوَوْهُ عَنْ شُعَيْبٍ بِدُونِ سِيَاقِ الْأَسْمَاءِ، فَرِوَايَةُ أَبِي الْيَمَانِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَرِوَايَةُ عَلِيٍّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَرِوَايَةُ بِشْرٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَلَيْسَتِ الْعِلَّةُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ تَفَرُّدَ الْوَلِيدِ فَقَطْ، بَلْ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَالِاضْطِرَابُ وَتَدْلِيسُهُ وَاحْتِمَالُ الْإِدْرَاجِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّعْيِينُ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِي الطَّرِيقَيْنِ مَعًا، وَلِهَذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ الشَّدِيدُ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا الِاحْتِمَالُ تَرَكَ الشَّيْخَانِ تَخْرِيجَ التَّعْيِينِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَدَّثَنَا بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ صَفْوَانَ وَلَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا نَعْلَمُ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ ذِكْرَ الْأَسْمَاءِ إِلَّا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَسْمَاءِ وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. انْتَهَى.
وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ صَفْوَانُ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ أَيُّوبَ النَّصِيبِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ عَنِ الْوَلِيدِ أَيْضًا وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَنَدِهِ عَلَى الْوَلِيدِ فَأَخْرَجَهُ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ فِي النَّقْضِ عَلَى الْمَرِيسِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ: عَنْ خُلَيْدِ بْنِ دَعْلَجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .. فَذَكَرَهُ بِدُونِ التَّعْيِينِ.
قَالَ الْوَلِيدُ: وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، وَسَرَدَ الْأَسْمَاءَ.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ بْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَامِرٍ الْقُرَشِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ بِسَنَدٍ آخَرَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: فَبَلَغَنَا أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَهَا أَنَّ تُفْتَتَحَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسَرَدَ الْأَسْمَاءَ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَخْرَجَهَا ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، لَكِنْ سَرَدَ الْأَسْمَاءَ أَوَّلًا، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ: اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ .. إِلَخْ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنِ انْتَهَى الْعَدُّ: قَالَ زُهَيْرٌ: فَبَلَغَنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَوَّلَهَا يُفْتَتَحُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.
قُلْتُ: وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَوْثَقُ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّنْعَانِيِّ وَرِوَايَةُ الْوَلِيدِ تُشْعِرُ بِأَنَّ التَّعْيِينَ مُدْرَجٌ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ، عَنْ زُهَيْرٍ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ وَهِيَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الْهَادِي وَوَقَعَ بَدَّلَهَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُقْسِطُ الْقَادِرُ الْوَالِي وَعِنْدَ الْوَلِيدِ أَيْضًا الْوَالِي الرَّشِيدُ وَعِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَالِي الرَّاشِدُ وَعِنْدَ الْوَلِيدِ الْعَادِلُ الْمُنِيرُ وَعِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ الْفَاطِرُ الْقَاهِرُ وَاتَّفَقَا فِي الْبَقِيَّةِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْوَلِيدِ، عَنْ شُعَيْبٍ وَهِيَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إِلَى الصِّحَّةِ وَعَلَيْهَا عَوَّلَ غَالِبُ مَنْ شَرَحَ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى فَسِيَاقُهَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ الْوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْغَفُورُ الشَّكُورُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ الْحَفِيظُ الْمُقِيتُ الْحَسِيبُ الْجَلِيلُ الْكَرِيمُ الرَّقِيبُ الْمُجِيبُ الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ الْوَدُودُ الْمَجِيدُ الْبَاعِثُ الشَّهِيدُ الْحَقُّ الْوَكِيلُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ الْمُحْصِي الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْوَاجِدُ الْمَاجِدُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْوَالِي الْمُتَعَالِي الْبَرُّ التَّوَّابُ الْمُنْتَقِمُ الْعَفُوُّ الرَّءُوفُ مَالِكُ الْمُلْكِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الْمُقْسِطُ الْجَامِعُ الْغَنِيُّ الْمُغْنِي الْمَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الْهَادِي الْبَدِيعُ الْبَاقِي الْوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُورُ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ فَخَالَفَ فِي عِدَّةِ أَسْمَاءَ فَقَالَ الْقَائِمُ الدَّائِمُ بَدَلَ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ وَالشَّدِيدُ بَدَلَ الرَّشِيدُ وَالْأَعْلَى الْمُحِيطُ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ بَدَلَ الْوَدُودُ الْمَجِيدُ الْحَكِيمُ وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ صَفْوَانَ الرَّافِعُ بَدَلَ الْمَانِعُ.
وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِي رِوَايَةِ صَفْوَانَ أَيْضًا مُخَالَفَةٌ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ قَالَ الْحَاكِمُ بَدَلَ الْحَكِيمُ وَالْقَرِيبُ بَدَلَ الرَّقِيبُ وَالْمَوْلَى بَدَلَ الْوَالِي وَالْأَحَدُ بَدَلَ الْمُغْنِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ، وَابْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ الْوَلِيدِ الْمُغِيثُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ الْمُقِيتُ بِالْقَافِ وَالْمُثَنَّاةِ وَوَقَعَ بَيْنَ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، وَصَفْوَانَ الْمُخَالَفَةُ فِي ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ اسْمًا فَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ الْفَتَّاحُ الْقَهَّارُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الْحَسِيبُ الْجَلِيلُ الْمُحْصِي الْمُقْتَدِرُ الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الْبَرُّ الْمُنْتَقِمُ الْمُغْنِي النَّافِعُ الصَّبُورُ الْبَدِيعُ الْغَفَّارُ الْحَفِيظُ الْكَبِيرُ الْوَاسِعُ الْأَحَدُ مَالِكُ الْمُلْكِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
وَذَكَرَ بَدَلَهَا الرَّبُّ الْفَرْدُ الْكَافِي الْقَاهِرُ الْمُبِينُ - بِالْمُوَحَّدَةِ - الصَّادِقُ الْجَمِيلُ الْبَادِي - بِالدَّالِ - الْقَدِيمُ الْبَارُّ - بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ - الْوَفِيُّ الْبُرْهَانُ الشَّدِيدُ الْوَاقِي - بِالْقَافِ - الْقَدِيرُ الْحَافِظُ الْعَادِلُ الْمُعْطِي الْعَالِمُ الْأَحَدُ الْأَبَدُ الْوِتْرُ ذُو الْقُوَّةِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحُصِينِ اخْتِلَافٌ آخَرُ فَسَقَطَ فِيهَا مِمَّا فِي رِوَايَةِ صَفْوَانَ مِنَ الْقَهَّارُ إِلَى تَمَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ اسْمًا عَلَى الْوَلَاءِ وَسَقَطَ مِنْهَا أَيْضًا الْقَوِيُّ الْحَلِيمُ الْمَاجِدُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ الْمُقْسِطُ الْجَامِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْوَالِي الرَّبُّ.
فَوَقَعَ فِيهَا مِمَّا فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ اسْمًا عَلَى الْوَلَاءِ، وَفِيهَا أَيْضًا: الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ الْجَلِيلُ الْكَفِيلُ الْمُحِيطُ الْقَادِرُ الرَّفِيعُ الشَّاكِرُ الْأَكْرَمُ الْفَاطِرُ الْخَلَّاقُ الْفَاتِحُ الْمُثِيبُ - بِالْمُثَلَّثَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ - الْعَلَّامُ الْمَوْلَى النَّصِيرُ ذُو الطَّوْلِ ذُو الْمَعَارِجِ ذُو الْفَضْلِ الْإِلَهُ الْمُدَبِّرُ - بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ -.
قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّمَا أَخْرَجْتُ رِوَايَةَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحُصَيْنِ شَاهِدًا لِرِوَايَةِ الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي زَادَهَا عَلَى الْوَلِيدِ كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ، كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنَ الْقُرْآنِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّكَلُّفِ، لَا أَنَّ جَمِيعَهَا وَرَدَ فِيهِ بِصُورَةِ الْأَسْمَاءِ.
وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ لَهُ: لَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ عُنِيَ بِطَلَبِ أَسْمَاءٍ وَجَمْعِهَا سِوَى رَجُلٍ مِنْ حُفَّاظِ الْمَغْرِبِ يُقَالُ لَهُ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ فَإِنَّهُ قَالَ: صَحَّ عِنْدِي قَرِيبٌ مِنْ ثَمَانِينَ اسْمًا، يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا
كِتَابُ اللَّهِ وَالصِّحَاحُ مِنَ الْأَخْبَارِ، فَلْتُطْلَبِ الْبَقِيَّةُ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَظُنُّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثَ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَوْ بَلَغَهُ فَاسْتَضْعَفَ إِسْنَادَهُ.
قُلْتُ: الثَّانِي هُوَ مُرَادُهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الْمُحَلَّى، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي سَرْدِ الْأَسْمَاءِ ضَعِيفَةٌ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا أَصْلًا وَجَمِيعُ مَا تَتَبَّعْتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ ثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ اسْمًا، فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ بِصُورَةِ الِاسْمِ لَا مَا يُؤْخَذُ مِنَ الِاشْتِقَاقِ كَالْبَاقِي مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، وَلَا مَا وَرَدَ مُضَافًا كَالْبَدِيعِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} .
وَسَأُبَيِّنُ الْأَسْمَاءَ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا قَرِيبًا، وَقَدِ اسْتَضْعَفَ الْحَدِيثَ أَيْضًا جَمَاعَةٌ، فَقَالَ الدَاوُدِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيَّنَ الْأَسْمَاءَ الْمَذْكُورَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَسْمَاءُ تَكْمِلَةَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ جَمْعِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: أَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا الْقِيَاسُ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْكِتَابِ ذِكْرُ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ. وَثَبَتَ فِي السُّنَّةِ أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، فَأَخْرَجَ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْكِتَابِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَتْ أَسْمَاءً يَعْنِي صَرِيحَةً.
وَنَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْبَلْخِيِّ: أَنَّهُ طَعَنَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، فَقَالَ: أَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي لَمْ يُسْرَدْ فِيهَا الْأَسْمَاءُ، وَهِيَ الَّتِي اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا أَقْوَى مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي سُرِدَتْ فِيهَا الْأَسْمَاءُ فَضَعِيفَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّارِعَ ذَكَرَ هَذَا الْعَدَدَ الْخَاصَّ. وَيَقُولُ: إِنَّ مَنْ أَحْصَاهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ لَا يَسْأَلُهُ السَّامِعُونَ عَنْ تَفْصِيلِهَا، وَقَدْ عَلِمْتُ شِدَّةَ رَغْبَةِ الْخَلْقِ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ لَا يُطَالِبُوهُ بِذَلِكَ وَلَوْ طَالَبُوهُ لَبَيَّنَهَا لَهُمْ، وَلَوْ بَيَّنَهَا لَمَا أَغْفَلُوهُ وَلَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي سُرِدَتْ فِيهَا الْأَسْمَاءُ فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهَا عَدَمُ تَنَاسُبِهَا فِي السِّيَاقِ وَلَا فِي التَّوْقِيفِ وَلَا فِي الِاشْتِقَاقِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَسْمَاءَ فَقَطْ فَغَالِبُهَا صِفَاتٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الصِّفَاتِ فَالصِّفَاتُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَأَجَابَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عَنِ الْأَوَّلِ: بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ عَدَمِ تَفْسِيرِهَا أَنْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى الْمُوَاظَبَةِ بِالدُّعَاءِ بِجَمِيعِ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَسْمَاءِ؛ رَجَاءَ أَنْ يَقَعُوا عَلَى تِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمَخْصُوصَةِ، كَمَا أُبْهِمَتْ سَاعَةُ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ وَالصَّلَاةُ الْوُسْطَى. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ سَرْدَهَا إِنَّمَا وَقَعَ بِحَسَبِ التَّتَبُّعِ وَالِاسْتِقْرَاءِ عَلَى الرَّاجِحِ، فَلَمْ يَحْصُلْ الِاعْتِنَاءُ بِالتَّنَاسُبِ، وَبِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ أَحْصَى هَذِهِ الْأَسْمَاءَ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِحَسَبِ مَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ بِالْإِحْصَاءِ، فَلَمْ يَكُنِ الْقَصْدُ حَصْرَ الْأَسْمَاءِ. انْتَهَى.
وَإِذَا تَقَرَّرَ رُجْحَانُ أَنَّ سَرْدَ الْأَسْمَاءِ لَيْسَ مَرْفُوعًا، فَقَدِ اعْتَنَى جَمَاعَةٌ بِتَتَبُّعِهَا مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِعَدَدٍ، فَرُوِّينَا فِي كِتَابِ الْمِائَتَيْنِ لِأَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ: أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ الْأَسْمَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَذَا أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ، عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرٍو الْخَلَّالِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَمْرٍو حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ عَنِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَقَالَ: هِيَ فِي الْقُرْآنِ. وَرُوِّينَا فِي فَوَائِدِ تَمَّامٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ السَّرْحِ، عَنْ حِبَّانَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. الْحَدِيثَ. يَعْنِي حَدِيثَ إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا قَالَ: فَوَعَدَنَا سُفْيَانُ أَنْ يُخْرِجَهَا لَنَا مِنَ الْقُرْآنِ فَأَبْطَأَ، فَأَتَيْنَا أَبَا زَيْدٍ، فَأَخْرَجَهَا لَنَا، فَعَرَضْنَاهَا عَلَى سُفْيَانَ، فَنَظَرَ فِيهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ: نَعَمْ، هِيَ هَذِهِ.
وَهَذَا سِيَاقُ مَا ذَكَرَهُ جَعْفَرٌ، وَأَبُو زَيْدٍ، قَالَا: فَفِي الْفَاتِحَةِ خَمْسَةٌ اللَّهُ رَبٌّ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ مَالِكٌ وَفِي الْبَقَرَةِ مُحِيطٌ قَدِيرٌ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عَلِيٌّ عَظِيمٌ تَوَّابٌ بَصِيرٌ وَلِيٌّ وَاسِعٌ كَافٍ رَءُوفٌ بَدِيعٌ شَاكِرٌ وَاحِدٌ سَمِيعٌ قَابِضٌ بَاسِطٌ حَيٌّ قَيُّومٌ غَنِيٌّ حَمِيدٌ غَفُورٌ حَلِيمٌ - وَزَادَ جَعْفَرٌ إِلَهٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ عَزِيزٌ نَصِيرٌ قَوِيٌّ شَدِيدٌ سَرِيعٌ خَبِيرٌ - قَالَا: وَفِي آلِ عِمْرَانَ وَهَّابٌ قَائِمٌ - زَادَ
جَعْفَرٌ الصَّادِقُ بَاعِثٌ مُنْعِمٌ مُتَفَضِّلٌ - وَفِي النِّسَاءِ رَقِيبٌ حَسِيبٌ شَهِيدٌ مُقِيتٌ وَكِيلٌ زَادَ جَعْفَرٌ عَلِيٌّ كَبِيرٌ وَزَادَ سُفْيَانُ عَفُوٌّ وَفِي الْأَنْعَامِ فَاطِرٌ قَاهِرٌ وَزَادَ جَعْفَرٌ مُمِيتٌ غَفُورٌ بُرْهَانٌ وَزَادَ سُفْيَانُ لَطِيفٌ خَبِيرٌ قَادِرٌ وَفِي الْأَعْرَافِ مُحْيِي مُمِيتٌ وَفِي الْأَنْفَالِ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ وَفِي هُودٍ حَفِيظٌ مَجِيدٌ وَدُودٌ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ زَادَ سُفْيَانُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ وَفِي الرَّعْدِ كَبِيرٌ مُتَعَالٍ وَفِي إِبْرَاهِيمَ مَنَّانٌ زَادَ جَعْفَرٌ صَادِقٌ وَارِثٌ وَفِي الْحِجْرِ خَلَّاقٌ وَفِي مَرْيَمَ صَادِقٌ وَارِثٌ زَادَ جَعْفَرٌ فَرْدٌ وَفِي طه عِنْدَ جَعْفَرٍ وَحْدَهُ غَفَّارٌ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ كَرِيمٌ وَفِي النُّورِ حَقٌّ مُبِينٌ زَادَ سُفْيَانُ نُورٌ وَفِي الْفُرْقَانِ هَادٍ وَفِي سَبَأٍ فَتَّاحٌ وَفِي الزُّمَرِ عَالِمٌ عِنْدَ جَعْفَرٍ وَحْدَهُ وَفِي الْمُؤْمِنِ غَافِرٌ قَابِلٌ ذُو الطَّوْلِ زَادَ سُفْيَانُ شَدِيدٌ وَزَادَ جَعْفَرٌ رَفِيعٌ وَفِي الذَّارِيَاتِ رَزَّاقٌ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ بِالتَّاءِ وَفِي الطُّورِ بَرٌّ وَفِي اقْتَرَبَتْ مُقْتَدِرٌ زَادَ جَعْفَرٌ مَلِيكٌ وَفِي الرَّحْمَنِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ زَادَ جَعْفَرٌ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ بَاقي مُعِينٌ وَفِي الْحَدِيدِ أَوَّلٌ آخِرُ ظَاهِرٌ بَاطِنٌ وَفِي الْحَشْرِ قُدُّوسٌ سَلَامٌ مُؤْمِنٌ
مُهَيْمِنٌ عَزِيزٌ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ خَالِقٌ بَارِئٌ مُصَوِّرٌ زَادَ جَعْفَرٌ مَلِكٌ وَفِي الْبُرُوجِ مُبْدِئٌ مُعِيدٌ وَفِي الْفَجْرِ وَتْرٌ عِنْدَ جَعْفَرٍ وَحْدَهُ وَفِي الْإِخْلَاصِ أَحَدٌ صَمَدٌ هَذَا آخِرُ مَا رُوِّينَاهُ عَنْ جَعْفَرٍ، وَأَبِي زَيْدٍ. وَتَقْرِيرُ سُفْيَانَ مِنْ تَتَبُّعِ الْأَسْمَاءِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ وَتَكْرَارٌ وَعِدَّةُ أَسْمَاءٍ لَمْ تَرِدْ بِلَفْظِ الِاسْمِ، وَهِيَ صَادِقٌ مُنْعِمٌ مُتَفَضِّلٌ مَنَّانٌ مُبْدِئٌ مُعِيدٌ بَاعِثٌ قَابِضٌ بَاسِطٌ بُرْهَانٌ مُعِينٌ مُمِيتٌ بَاقِي وَوَقَفْتُ فِي كِتَابِ الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزَّاهِدِ أَنَّهُ تَتَبَّعَ الْأَسْمَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَتَأَمَّلْتُهُ، فَوَجَدْتُهُ كَرَّرَ أَسْمَاءً، وَذَكَرَ مِمَّا لَمْ أَرَهُ فِيهِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ الصَّادِقَ وَالْكَاشِفَ وَالْعَلَّامَ وَذَكَرَ مِنَ الْمُضَافِ الْفَالِقَ مِنْ قَوْلِهِ {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} وَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَ الْقَابِلَ مِنْ قَوْلِهِ {وَقَابِلِ التَّوْبِ}
وَقَدْ تَتَبَّعْتُ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَسْمَاءِ مِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَهِيَ الرَّبُّ الْإِلَهُ الْمُحِيطُ الْقَدِيرُ الْكَافِي الشَّاكِرُ الشَّدِيدُ الْقَائِمُ الْحَاكِمُ الْفَاطِرُ الْغَافِرُ الْقَاهِرُ الْمَوْلَى النَّصِيرُ الْغَالِبُ الْخَالِقُ الرَّفِيعُ الْمَلِيكُ الْكَفِيلُ الْخَلَّاقُ الْأَكْرَمُ الْأَعْلَى الْمُبِينُ - بِالْمُوَحَّدَةِ - الْحَفِيُّ - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ - الْقَرِيبُ الْأَحَدُ الْحَافِظُ فَهَذِهِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ اسْمًا إِذَا انْضَمَّتْ إِلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِمَّا وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ تَكْمُلُ بِهَا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ، وَكُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ، لَكِنَّ بَعْضَهَا بِإِضَافَةٍ، كَالشَّدِيدِ مِنْ {شَدِيدِ الْعِقَابِ} وَالرَّفِيعِ مِنْ {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} وَالْقَائِمِ مِنْ قَوْلِهِ {قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وَالْفَاطِرِ مِنْ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} وَالْقَاهِرِ مِنْ {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وَالْمَوْلَى وَالنَّصِيرِ مِنْ {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} وَالْعَالِمِ مِنْ {عَالِمُ الْغَيْبِ} وَالْخَالِقِ مِنْ قَوْلِهِ {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَالْغَافِرِ مِنْ {غَافِرِ الذَّنْبِ} وَالْغَالِبِ مِنْ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} وَالرَّفِيعِ مِنْ {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} وَالْحَافِظِ مِنْ قَوْلِهِ {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} وَمِنْ قَوْلِهِ {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
وَقَدْ وَقَعَ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَهِيَ الْمُحْيِي مِنْ قَوْلِهِ {لَمُحْيِي الْمَوْتَى} وَالْمَالِكُ مِنْ قَوْلِهِ {مَالِكَ الْمُلْكِ} وَالنُّورُ مِنْ قَوْلِهِ {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وَالْبَدِيعُ مِنْ قَوْلِهِ {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وَالْجَامِعُ مِنْ قَوْلِهِ {جَامِعُ النَّاسِ} وَالْحَكَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} وَالْوَارِثُ مِنْ قَوْلِهِ {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي تُقَابِلُ هَذِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِمَّا لَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ وَهِيَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ اسْمًا الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ الْعَدْلُ الْجَلِيلُ الْبَاعِثُ الْمُحْصِي الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْمُمِيتُ الْوَاجِدُ الْمَاجِدُ الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الْوَالِي ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الْمُقْسِطُ الْمُغْنِي
الْمَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْبَاقِي الرَّشِيدُ الصَّبُورُ فَإِذَا اقْتُصِرَ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى مَا عَدَا هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَأُبْدِلَتْ بِالسَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، وكُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ وَارِدَةٌ بِصِيغَةِ الِاسْمِ، وَمَوَاضِعُهَا كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا قَوْلُهُ الْحَفِيُّ فَإِنَّهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا النَّظَرُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ صِفَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِ الْقَدِيرِ وَالْمُقْتَدِرِ وَالْقَادِرِ وَالْغَفُورِ وَالْغَفَّارِ وَالْغَافِرِ وَالْعَلِيِّ وَالْأَعْلَى وَالْمُتَعَالِ وَالْمَلِكِ وَالْمَلِيكِ وَالْمَالِكِ وَالْكَرِيمِ وَالْأَكْرَمِ وَالْقَاهِرِ وَالْقَهَّارِ وَالْخَالِقِ وَالْخَلَّاقِ وَالشَّاكِرِ وَالشَّكُورِ وَالْعَالِمِ وَالْعَلِيمِ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ عَدِّهَا فَإِنَّ فِيهَا التَّغَايُرَ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ بَعْضَهَا يَزِيدُ بِخُصُوصِيَّةٍ عَلَى الْآخَرِ لَيْسَتْ فِيهِ. وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ اسْمَانِ مَعَ كَوْنهِمَا مُشْتَقَّيْنِ مِنْ صِفَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ مَنَعَ مِنْ عَدِّ ذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ لَا يُعَدَّ مَا يَشْتَرِكُ الِاسْمَانِ فِيهِ مَثَلًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، مِثْلُ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ، لَكِنَّهَا عُدَّتْ لِأَنَّهَا - وَلَوِ اشْتَرَكَتْ فِي مَعْنَى الْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ - فَهِيَ مُغَايِرَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْخَالِقَ يُفِيدُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِيجَادِ، وَالْبَارِئَ يُفِيدُ الْمُوجِدَ لِجَوْهَرِ الْمَخْلُوقِ، وَالْمُصَوِّرَ يُفِيدُ خَالِقَ الصُّورَةِ فِي تِلْكَ الذَّاتِ الْمَخْلُوقَةِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْمُغَايِرَةَ لَمْ يَمْتَنِعْ عَدُّهَا أَسْمَاءً مَعَ وُرُودِهَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
وَهَذَا سَرْدُهَا؛ لِتُحْفَظَ، وَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ إِعَادَةٌ، لَكِنَّهُ يُغْتَفَرُ لِهَذَا الْقَصْدِ: اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ التَّوَّابُ الْوَهَّابُ الْخَلَّاقُ الرَّزَّاقُ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ الْمُحِيطُ الْقَدِيرُ الْمَوْلَى النَّصِيرُ الْكَرِيمُ الرَّقِيبُ الْقَرِيبُ الْمُجِيبُ الْوَكِيلُ الْحَسِيبُ الْحَفِيظُ الْمُقِيتُ الْوَدُودُ الْمَجِيدُ الْوَارِثُ الشَّهِيدُ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ الْحَقُّ الْمُبِينُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ الْغَنِيُّ الْمَالِكُ الشَّدِيدُ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْقَاهِرُ الْكَافِي الشَّاكِرُ الْمُسْتَعَانُ الْفَاطِرُ الْبَدِيعُ الْغَافِرُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْكَفِيلُ الْغَالِبُ الْحَكَمُ الْعَالِمُ الرَّفِيعُ الْحَافِظُ الْمُنْتَقِمُ الْقَائِمُ الْمُحْيِي الْجَامِعُ الْمَلِيكُ الْمُتَعَالِي النُّورُ الْهَادِي الْغَفُورُ الشَّكُورُ الْعَفُوُّ الرَّءُوفُ الْأَكْرَمُ الْأَعْلَى الْبَرُّ الْحَفِيُّ الرَّبُّ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
قَوْلُهُ (لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ.
قَوْلُهُ (اسْمًا) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ بِالْجَرِّ، وَخَرَّجَهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِعْرَابَ فِي النُّونِ وَيُلْزِمُ الْجَمْعَ الْيَاءَ، فَيَقُولُ: كَمْ سِنِينُكَ بِرَفْعِ النُّونِ، وَعَدَدْتُ سِنِينَكَ بِالنَّصْبِ، وَكَمْ مَرَّ مِنْ سِنِينِكَ بِكَسْرِ النُّونِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الْأَرْبَعِينِ
بِكَسْرِ النُّونِ فَعَلَامَةُ النَّصْبِ فِي الرِّوَايَةِ فَتْحُ النُّونِ، وَحَذْفُ التَّنْوِينِ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ. وَقَوْلُهُ مِائَةٌ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ.
قَوْلُهُ (إِلَّا وَاحِدَةً) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فِي الِاعْتِصَامِ إِلَّا وَاحِدًا بِالتَّذْكِيرِ، وَهُوَ الصَّوَابُ. كَذَا قَالَ، وَلَيْسَتِ الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الِاعْتِصَامِ بَلْ فِي التَّوْحِيدِ، وَلَيْسَتِ الرِّوَايَةُ الَّتِي هُنَا خَطَأٌ، بَلْ وَجَّهُوهَا. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ هُنَا مِائَةٌ غَيْرَ وَاحِدٍ بِالتَّذْكِيرِ أَيْضًا، وَخَرَّجَ التَّأْنِيثَ عَلَى إِرَادَةِ التَّسْمِيَةِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: بَلْ أَنَّثَ الِاسْمَ لِأَنَّهُ كَلِمَةٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ: الْكَلِمَةُ اسْمٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ حَرْفٌ، فَسَمَّى الِاسْمَ كَلِمَةً. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: أَنَّثَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّسْمِيَةِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الْكَلِمَةِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْحِكْمَةُ فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ غَيْرَ وَاحِدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ أَنْ يَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ جَمْعًا بَيْنَ جِهَتَيِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ أَوْ دَفْعًا لِلتَّصْحِيفِ الْخَطِّيِّ وَالسَّمْعِيِّ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَبْعَدَ مَنِ اسْتَدَلَّ
بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقًا حَتَّى يَدْخُلَ اسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ التِّينِ، فَنَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَنَّ مَنْ أَقَرَّ ثُمَّ اسْتَثْنَى عَمِلَ بِاسْتِثْنَائِهِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا وَاحِدٌ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ، فَقَالَ: ذَهَبَ إِلَى هَذَا فِي الْإِقْرَارِ جَمَاعَةٌ. وَأَمَّا نَقْلُ الِاتِّفَاقِ فَمَرْدُودٌ، فَالْخِلَافُ ثَابِتٌ حَتَّى فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ مِنْهُمْ: لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثِنْتَيْنِ، وَقَعَ عَلَيْهِ ثَلَاثٌ. وَنَقَلَ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ مِنَ الْقَلِيلِ، وَمِنْ لَطِيفِ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّ مَنْ قَالَ: صُمْتُ الشَّهْرَ إِلَّا تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، يُسْتَهْجَنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ إِلَّا يَوْمًا وَالْيَوْمُ لَا يُسَمَّى شَهْرًا، وَكَذَا مَنْ قَالَ: لَقِيتُ الْقَوْمَ جَمِيعًا إِلَّا بَعْضَهَمْ، وَيَكُونُ مَا لَقِيَ إِلَّا وَاحِدًا.
قُلْتُ: وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْإِطَالَةِ فِيهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعَدَدِ: هَلِ الْمُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ أَوْ أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنِ اخْتَصَّتْ هَذِهِ بِأَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الثَّانِي، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حَصْرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ غَيْرُ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِإِحْصَائِهَا لَا الْإِخْبَارُ بِحَصْرِ الْأَسْمَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ وَعِنْدَ مَالِكٍ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي دُعَاءِ وَأَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَأَوْرَدَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا دَعَتْ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَذَا الْعَدَدِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعُ مَا عَدَاهَا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا لِلتَّخْصِيصِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ الْأَسْمَاءِ وَأَبْيَنَهَا مَعَانِيَ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ قَوْلُهُ: مَنْ أَحْصَاهَا لَا قَوْلُهُ لِلَّهِ وَهُوَ كَقَوْلِكَ: لِزَيْدٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَعَدَّهَا لِلصَّدَقَةِ، أَوْ لِعَمْرٍو مِائَةُ ثَوْبٍ مَنْ زَارَهُ أَلْبَسَهُ إِيَّاهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ نَحْوَ ذَلِكَ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ قَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ إِلَّا هَذِهِ الْعِدَّةُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ أَنَّ أَكْثَرَهَا صِفَاتٌ وَصِفَاتُ اللَّهِ لَا تَتَنَاهَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} فَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، فَيُدْعَى بِهَا وَلَا يُدْعَى بِغَيْرِهَا، حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ الْمُهَلَّبِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أَخْبَارٍ صَحِيحَةٍ الدُّعَاءُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: لَمَّا كَانَتِ الْأَسْمَاءُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَهِيَ إِمَّا ثُبُوتِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ كَالْحَيِّ، أَوْ إِضَافِيَّةٌ كَالْعَظِيمِ، وَإِمَّا سَلْبِيَّةٌ كَالْقُدُّوسِ، وَإِمَّا مِنْ حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ كَالْقَدِيرِ، أَوْ مِنْ سَلْبِيَّةٍ إِضَافِيَّةٍ كَالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، وَإِمَّا مِنْ حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ سَلْبِيَّةٍ، كَالْمَلِكِ. وَالسُّلُوبُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِلَا نِهَايَةٍ، قَادِرٌ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ اسْمٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا نِهَايَةَ لِأَسْمَائِهِ.
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ أَلْفَ اسْمٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا قَلِيلٌ فِيهَا. وَنَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ اسْمٍ، اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ أَلْفٍ مِنْهَا، وَأَعْلَمَ الْمَلَائِكَةَ بِالْبَقِيَّةِ، وَالْأَنْبِيَاءَ بِأَلْفَيْنِ مِنْهَا، وَسَائِرَ النَّاسِ بِأَلْفٍ. وَهَذِهِ دَعْوى تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي نَفْسِ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي سُرِدَتْ فِيهَا
الْأَسْمَاءُ لَمْ يُعَدَّ فِيهَا الْوَتْرُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ اسْمًا آخَرَ غَيْرَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ. وَتَعَقَّبَهُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْحَصْرِ فِي التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ كَابْنِ حَزْمٍ: بِأَنَّ الْخَبَرَ الْوَارِدَ لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُدْرَجٌ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ بِأَنَّهُ مَفْهُومُ عَدَدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَابْنُ حَزْمٍ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى الْحَصْرِ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ احْتَجَّ بِالتَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْمٌ زَائِدٌ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِائَةُ اسْمٍ، فَيَبْطُلُ قَوْلُهُ مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ الْحَصْرَ الْمَذْكُورَ عِنْدَهُمْ بِاعْتِبَارِ الْوَعْدِ الْحَاصِلِ لِمَنْ أَحْصَاهَا، فَمَنِ ادَّعَى عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ وَقَعَ لِمَنْ أَحْصَى زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ أَخْطَأَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ اسْمٌ زَائِدٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: مِنَ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ تَسْمِيَتُهُ بِمَا لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ مِنْهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ عِدَّةً، وَخَتَمَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. قَالَ: وَمَا يُتَخَيَّلُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْعِدَّةِ الْمَذْكُورِةِ لَعَلَّهُ مُكَرَّرٌ مَعْنًى، وَإِنْ تَغَايَرَ لَفْظًا، كَالْغَافِرِ وَالْغَفَّارِ وَالْغَفُورِ مَثَلًا، فَيَكُونُ الْمَعْدُودُ مِنْ ذَلِكَ وَاحِدًا فَقَطْ، فَإِذَا اعْتُبِرَ ذَلِكَ وَجُمِعَتِ الْأَسْمَاءُ الْوَارِدَةُ نَصًّا فِي الْقُرْآنِ وَفِي الصَّحِيحِ مِنَ الْحَدِيثِ لَمْ تَزِدْ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، فَإِنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ الْوَارِدُ فِي تَعْيِينِهَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلْيُتَتَبَّعْ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ؛ فَإِنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْأَسْمَاءِ لِلْعَهْدِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمَعْهُودِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ بِهَا وَنَهَى عَنِ الدُّعَاءِ بِغَيْرِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
قُلْتُ: وَالْحَوَالَةُ عَلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَقْرَبُ، وَقَدْ حَصَلَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَتَبُّعُهَا كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَبَقِيَ أَنْ يُعْمَدَ إِلَى مَا تَكَرَّرَ لَفْظًا وَمَعْنًى مِنَ الْقُرْآنِ فَيُقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَيُتَتَبَّعَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَكْمِلَةُ الْعِدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَهُوَ نَمَطٌ آخَرُ مِنَ التَّتَبُّعِ. عَسَى اللَّهُ أَنْ يُعِينَ عَلَيْهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، آمِينَ. (فَصْل) وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي الْقَصْرِ عَلَى الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ، فَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، كَمَا قِيلَ فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِهَا، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي خَلَفٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الطَّبَرِيِّ السُّلَمِيِّ قَالَ: إِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْعَدَدَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُؤْخَذُ قِيَاسًا. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ مَعَانِيَ الْأَسْمَاءِ - وَلَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً جِدًّا - مَوْجُودَةٌ فِي التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الْمَذْكُورَةِ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْعَدَدَ زَوْجٌ وَفَرْدٌ، وَالْفَرْدُ أَفْضَلُ مِنَ الزَّوْجِ، وَمُنْتَهَى الْأَفْرَادِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ؛ لِأَنَّ مِائَةً وَوَاحِدًا يَتَكَرَّرُ فِيهِ الْوَاحِدُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفَرْدُ أَفْضَلَ مِنَ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْوَتْرَ أَفْضَلُ مِنَ الشَّفْعِ؛ لِأَنَّ الْوَتْرَ مِنْ صِفَةِ الْخَالِقِ وَالشَّفْعَ مِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ، وَالشَّفْعُ يَحْتَاجُ لِلْوَتْرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَقِيلَ: الْكَمَالُ فِي الْعَدَدِ حَاصِلٌ فِي الْمِائَةِ لِأَنَّ الْأَعْدَادَ ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ: آحَادٌ وَعَشْرَاتٌ وَمِئَاتٌ، وَالْأَلْفُ مُبْتَدَأٌ لِآحَادٍ أُخَرَ، فَأَسْمَاءُ اللَّهِ مِائَةٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ مِنْهَا بِوَاحِدٍ، وَهُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، فَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مِائَةٌ، لَكِنْ وَاحِدٌ مِنْهَا عِنْدَ اللَّهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ الِاسْمُ الَّذِي يُكْمِلُ الْمِائَةَ مَخْفِيًّا، بَلْ هُوَ الْجَلَالَةُ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِذَلِكَ السُّهَيْليُّ فَقَالَ: الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى مِائَةٌ عَلَى عَدَدِ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، وَالَّذِي يُكْمِلُ الْمِائَةَ: اللَّهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} فَالتِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ لِلَّهِ فَهِيَ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ وَبِهِ تَكْمُلُ الْمِائَةُ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى فَقَالَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى؛ إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ كَانَتِ الْأَسْمَاءُ غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ثُمَّ قَالَ: وَالْمَخْلَصُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْمِ
هُنَا التَّسْمِيَةُ.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الِاسْمَ نَفْسُ الْمُسَمَّى وَغَيْرُ التَّسْمِيَةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: الِاسْمُ نَفْسُ التَّسْمِيَةِ وَغَيْرُ الْمُسَمَّى، وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الثَّلَاثَةَ أُمُورٌ مُتَبَايِنَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدِي ; لِأَنَّ الِاسْمَ إِنْ كَانَ عِبَارَةً عَنِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الشَّيْءِ بِالْوَضْعِ وَكَانَ الْمُسَمَّى عِبَارَةً عَنْ نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُسَمَّى، فَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى، وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ النِّزَاعِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: الِاسْمُ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ هُوَ الْكَلِمَةُ الدَّالَّةُ عَلَى شَيْءٍ مُفْرَدٍ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ؛ إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا بِاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ غَرَضِ الْمَبْحَثِ هُنَا. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا عُرِفَ غَلَطُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى حَقِيقَةً كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ، فَأَلْزَمَ أَنَّ مَنْ قَالَ: نَارٌ احْتَرَقَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا النُّحَاةُ فَمُرَادُهُمْ بِأَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يَقْصِدُ إِلَّا هُوَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الِاسْمُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ الْمُسَمَّى، دَلَّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ مَزِيدِ أَمْرٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ، دَلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الذَّاتِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى ذَلِكَ الزَّائِدِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ زَيْدٌ مَثَلًا فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ مُتَشَخِّصَةٍ فِي الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَإِنْ قُلْتَ: الْعَالِمُ دَلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الذَّاتِ مَنْسُوبَةٌ لِلْعِلْمِ، وَمِنْ هَذَا صَحَّ عَقْلًا أَنْ تَتَكَثَّرَ الْأَسْمَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا تُوجِبُ تَعَدُّدًا فِيهَا وَلَا تَكْثِيرًا. قَالَ: وَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَلَى بَعْضِهِمْ، فَفَرَّ مِنْهُ هَرَبًا مِنْ لُزُومِ تَعَدُّدٍ فِي ذَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْمِ التَّسْمِيَةُ، وَرَأَى أَنَّ هَذَا يُخَلِّصُهُ مِنَ التَّكَثُّرِ، وَهَذَا فِرَارٌ مِنْ غَيْرِ مَفَرٍّ إِلَى مَفَرٍّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ إِنَّمَا هِيَ وَضْعُ الِاسْمِ، وَذِكْرُ الِاسْمِ فَهِيَ نِسْبَةُ الِاسْمِ إِلَى مُسَمَّاهُ، فَإِذَا قُلْنَا: لِفُلَانٍ تَسْمِيَتَانِ، اقْتَضَى أَنَّ لَهُ اسْمَيْنِ نَنْسُبُهُمَا إِلَيْهِ، فَبَقِيَ الْإِلْزَامُ عَلَى حَالِهِ مِنِ ارْتِكَابِ التَّعَسُّفِ. ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ يُقَالُ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى عَلَى إِرَادَةِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الِاسْمُ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى، كَمَا قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أَيْ سَبِّحْ رَبَّكَ، فَأُرِيدَ بِالِاسْمِ الْمُسَمَّى. وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا سَمَّيْتَ شَيْئًا بِاسْمٍ فَالنَّظَرُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: ذَلِكَ الِاسْمُ وَهُوَ اللَّفْظُ، وَمَعْنَاهُ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ، وَمَعْنَاهُ بَعْدَهَا وَهُوَ الذَّاتُ الَّتِي أُطْلِقَ عَلَيْهَا اللَّفْظُ، وَالذَّاتُ وَاللَّفْظُ مُتَغَايِرَانِ قَطْعًا، وَالنُّحَاةُ إِنَّمَا يُطْلِقُونَهُ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَمًّى قَطْعًا وَالذَّاتُ هِيَ الْمُسَمَّى قَطْعًا، وَلَيْسَتْ هِيَ الِاسْمَ قَطْعًا.
وَالْخِلَافُ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ، وَهُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ قَبْلَ التَّلْقِيبِ، فَالْمُتَكَلِّمُونَ يُطْلِقُونَ الِاسْمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ الثَّالِثُ أَوْ لَا؟ فَالْخِلَافُ حِينَئِذٍ إِنَّمَا هُوَ فِي الِاسْمِ الْمَعْنَوِيِّ: هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ لَا، لَا فِي الِاسْمِ اللَّفْظِيِّ وَالنَّحْوِيُّ، لَا يُطْلِقُ الِاسْمَ عَلَى غَيْرِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ مَحَطُّ صِنَاعَتِهِ، وَالْمُتَكَلِّمُ لَا يُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَدْلُولِ عَلَى الدَّالِّ، وَإِنَّمَا يَزِيدُ عَلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ دَعَاهُ إِلَى تَحْقِيقِهِ ذِكْرُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِطْلَاقُهَا عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى -. قَالَ: وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَعْفَرٌ لَقَبُهُ أَنْفُ النَّاقَةِ، فَالنَّحْوِيُّ يُرِيدُ بِاللَّقَبِ لَفْظَ أَنْفِ النَّاقَةِ، وَالْمُتَكَلِّمُ يُرِيدُ مَعْنَاهُ وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ قَوْلَ النَّحْوِيِّ: اللَّقَبُ لَفْظٌ يُشْعِرُ بِضِعَةٍ أَوْ رِفْعَةٍ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ يُشْعِرُ بِذَلِكَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُقْتَضِي لِلضَّعَةِ وَالرِّفْعَةِ، وَذَاتُ جَعْفَرٍ هِيَ الْمُلَقَّبَةُ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُ الْمُسَمَّى خَاصٌّ بِأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ الْمُشْتَقَّةِ.
ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَأَسْمَاءُ اللَّهِ - وَإِنْ تَعَدَّدَتْ - فَلَا تَعَدُّدَ فِي ذَاتِهِ، وَلَا تَرْكِيبَ، لَا مَحْسُوسًا كَالْجِسْمِيَّاتِ، وَلَا عَقْلِيًّا كَالْمَحْدُودَاتِ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَتِ الْأَسْمَاءُ بِحَسَبِ الِاعْتِبَارَاتِ الزَّائِدَةِ عَلَى الذَّاتِ، ثُمَّ هِيَ مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ
أضرُبٍ:
الْأَوَّلُ: مَا يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ مُجَرَّدَةً كَالْجَلَالَةِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ وَبِهِ يُعْرَفُ جَمِيعُ أَسْمَائِهِ، فَيُقَالُ الرَّحْمَنُ مَثَلًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَلَا يُقَالُ اللَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّحْمَنِ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ غَيْرُ مُشْتَقٍّ، وَلَيْسَ بِصِفَةٍ.
الثَّانِي: مَا يَدُلُّ عَلَى الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ لِلذَّاتِ، كَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ.
الثَّالِثُ: مَا يَدُلُّ عَلَى إِضَافَةِ أَمْرٍ مَا إِلَيْهِ، كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ.
الرَّابِعُ: مَا يَدُلُّ عَلَى سَلْبِ شَيْءٍ عَنْهُ، كَالْعَلِيِّ وَالْقُدُّوسِ.
وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ مُنْحَصِرَةٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى هَلْ هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَقَّ مِنَ الْأَفْعَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ أَسْمَاءً إِلَّا إِذَا وَرَدَ نَصٌّ إِمَّا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ. فَقَالَ الْفَخْرُ: الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ: إِذَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى اللَّفْظِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ اللَّهِ، جَازَ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْغَزَالِيُّ: الْأَسْمَاءُ تَوْقِيفِيَّةٌ، دُونَ الصِّفَاتِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَاحْتَجَّ الْغَزَالِيُّ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُسَمِّيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاسْمٍ لَمْ يُسَمِّهِ بِهِ أَبُوهُ، وَلَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ، وَكَذَا كُلُّ كَبِيرٍ مِنَ الْخَلْقِ، قَالَ: فَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، فَامْتِنَاعُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ أَوْلَى. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمٌ وَلَا صِفَةٌ تُوهِمُ نَقْصًا وَلَوْ وَرَدَ ذَلِكَ نَصًّا، فَلَا يُقَالُ: مَاهِدٌ وَلَا زَارِعٌ وَلَا فَالِقٌ وَلَا نَحْوُ ذَلِكَ، وَإِنْ ثَبَتَ فِي قَوْلِهِ:{فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} ، {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ، {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} وَنَحْوُهَا. وَلَا يُقَالُ لَهُ: مَاكِرٌ وَلَا بَنَّاءٌ وَإِنْ وَرَدَ {وَمَكَرَ اللَّهُ} ، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: الْأَسْمَاءُ تُؤْخَذُ تَوْقِيفًا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَكُلُّ اسْمٍ وَرَدَ فِيهَا وَجَبَ إِطْلَاقُهُ فِي وَصْفِهِ، وَمَا لَمْ يَرِدْ لَا يَجُوزُ وَلَوْ صَحَّ مَعْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ.
وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا أَذِنَ الشَّرْعُ أَنْ يُدْعَى بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُشْتَقًّا أَوْ غَيْرَ مُشْتَقٍّ فَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَدْخُلُهُ التَّأْوِيلُ أَوْ لَا فَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمًا أَيْضًا، قَالَ الْحَلِيمِيُّ: الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى تَنْقَسِمُ إِلَى الْعَقَائِدِ الْخَمْسِ:
الْأُولَى: إِثْبَاتُ الْبَارِي؛ رَدًّا عَلَى الْمُعَطِّلِينَ، وَهِيَ: الْحَيُّ وَالْبَاقِي وَالْوَارِثُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا.
وَالثَّانِيَةُ: تَوْحِيدُهُ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهِيَ الْكَافِي وَالْعَلِيُّ وَالْقَادِرُ وَنَحْوُهَا.
وَالثَّالِثَةُ: تَنْزِيهُهُ رَدًّا عَلَى الْمُشَبِّهَةِ وَهِيَ الْقُدُّوسُ وَالْمَجِيدُ وَالْمُحِيطُ وَغَيْرُهَا.
وَالرَّابِعَةُ: اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنِ اخْتِرَاعِهِ رَدًّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَهِيَ الْخَالِقُ وَالْبَارِئُ وَالْمُصَوِّرُ وَالْقَوِيُّ وَمَا يَلْحَقُ بِهَا.
وَالْخَامِسَةُ: أَنَّهُ مُدَبِّرٌ لِمَا اخْتَرَعَ وَمُصَرِّفُهُ عَلَى مَا شَاءَ وَهُوَ الْقَيُّومُ وَالْعَلِيمُ وَالْحَكِيمُ وَشِبْهُهَا.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مَعْدٍ: مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ عَيْنًا وَهُوَ اللَّهُ، وَعَلَى الذَّاتِ مَعَ سَلْبٍ كَالْقُدُّوسِ وَالسَّلَامِ، وَمَعَ إِضَافَةٍ كَالْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَمَعَ سَلْبٍ وَإِضَافَةٍ كَالْمَلِكِ وَالْعَزِيزِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَةٍ كَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ، وَمَعَ إِضَافَةٍ كَالْحَلِيمِ وَالْخَبِيرِ، أَوْ إِلَى الْقُدْرَةِ مَعَ إِضَافَةٍ كَالْقَهَّارِ، وَإِلَى الْإِرَادَةِ مَعَ فِعْلٍ وَإِضَافَةٍ كَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ فِعْلٍ كَالْخَالِقِ وَالْبَارِئِ، وَمَعَ دَلَالَةٍ عَلَى الْفِعْلِ كَالْكَرِيمِ وَاللَّطِيفِ. قَالَ: فَالْأَسْمَاءُ كُلُّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْعَشَرَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مُتَرَادِفٌ؛ إِذْ لِكُلِّ اسْمٍ خُصُوصِيَّةٌ مَا، وَإِنِ اتَّفَقَ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى. انْتَهَى كَلَامُهُ.
ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَيْهِ مُنْتَزَعًا مِنْ كَلَامِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى.
وَقَالَ الْفَخْرُ أَيْضًا: الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الصِّفَاتِ ثَلَاثَةٌ: ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ قَطْعًا، وَمُمْتَنِعَةٌ قَطْعًا، وَثَابِتَةٌ لَكِنْ مَقْرُونَةٌ بِكَيْفِيَّةٍ.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ، مِنْهُ: مَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ مُفْرَدًا وَمُضَافًا، وهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا، كَالْقَادِرِ وَالْقَاهِرِ. وَمِنْهُ: مَا يَجُوزُ مُفْرَدًا وَلَا يَجُوزُ مُضَافًا إِلَّا بِشَرْطٍ، كَالْخَالِقِ فَيَجُوزُ خَالِقٌ وَيَجُوزُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مَثَلًا، وَلَا يَجُوزُ خَالِقُ الْقِرَدَةِ، وَمِنْهُ: عَكْسُهُ يَجُوزُ مُضَافًا، وَلَا يَجُوزُ مُفْرَدًا، كَالْمُنْشِئِ يَجُوزُ مُنْشِئُ الْخَلْقِ، وَلَا يَجُوزُ مُنْشِئٌ فَقَطْ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: إِنْ وَرَدَ السَّمْعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ أُطْلِقَ وَحُمِلَ عَلَى
مَا يَلِيقُ بِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِنْ وَرَدَ السَّمْعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ أُطْلِقَ مَا وَرَدَ مِنْهُ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِالِاشْتِقَاقِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَمَكَرَ اللَّهُ} - {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فَلَا يَجُوزُ مَاكِرٌ وَمُسْتَهْزِئٌ.
(تَكْمِيل): وَإِذْ قَدْ جَرَى ذِكْرُ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ فَلْيَقَعِ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ قَوْمٌ كَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَجَمَاعَةٌ بَعْدَهُمَا، كَأَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ بَعْضُ الْأَسْمَاءِ عَلَى بَعْضٍ، وَنَسَبَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِمَالِكٍ؛ لِكَرَاهِيَتِهِ أَنْ تُعَادَ سُورَةٌ أَوْ تُرَدَّدُ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ؛ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، فَيُؤْذِنُ ذَلِكَ بِاعْتِقَادِ نُقْصَانِ الْمَفْضُولِ عَنِ الْأَفْضَلِ. وَحَمَلُوا مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْظَمِ الْعَظِيمُ، وَأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ كُلَّهَا عَظِيمَةٌ، وَعِبَارَةُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ: اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ فِي تَعْيِينِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَالَّذِي عِنْدِي: أَنَّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ؛ إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي خَبَرٍ مِنْهَا أَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ - تَعَالَى - يَجُوزُ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى عَظِيمٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْأَعْظَمِيَّةُ الْوَارِدَةُ فِي الْأَخْبَارِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا مَزِيدُ ثَوَابٍ الدَّاعِي بِذَلِكَ، كَمَا أُطْلِقَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَزِيدُ ثَوَابِ الْقَارِئِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ كُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - دَعَا الْعَبْدُ بِهِ مُسْتَغْرِقًا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي فِكْرِهِ حَالَتَئِذٍ غَيْرُ اللَّهِ - تَعَالَى -، فَإِنَّ مَنْ تَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ اسْتُجِيبَ لَهُ. وَنُقِلَ مَعْنَى هَذَا عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ وَعَنِ الْجُنَيْدِ وَعَنْ غَيْرِهِمَا. وَقَالَ آخَرُونَ: اسْتَأْثَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِعِلْمِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، وَأَثْبَتَهُ آخَرُونَ مُعَيَّنًا، وَاضْطَرَبُوا فِي ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا:
الْأَوَّلُ: الِاسْمُ الْأَعْظَمُ هُوَ نَقَلَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكَشْفِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ كَلَامٍ مُعَظِّمٍ حَضْرَتَهُ، لَمْ يَقُلْ لَهُ أَنْتَ قُلْتَ كَذَا، وَإِنَّمَا يَقُولُ هُوَ يَقُولُ تَأَدُّبًا مَعَهُ.
الثَّانِي: اللَّهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَمِنْ ثَمَّ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ.
الثَّالِثُ: اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَلِّمَهَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَصَلَّتْ وَدَعَتْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْعُوكَ اللَّهَ، وَأَدْعُوكَ الرَّحْمَنَ، وَأَدْعُوكَ الرَّحِيمَ، وَأَدْعُوكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى كُلِّهَا، مَا عَلِمْتَ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا إِنَّهُ لَفِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي دَعَوْتَ بِهَا قُلْتُ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى.
الرَّابِعُ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لِمَا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وَفَاتِحَةُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ.
الْخَامِسُ: الْحَيُّ الْقَيُّومُ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: الِاسْمُ الْأَعْظَمُ فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطَه قَالَ الْقَاسِمُ الرَّاوِي، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: الْتَمَسْتُهُ مِنْهَا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَقَوَّاهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ مِنْ صِفَاتِ الْعَظَمَةِ بِالرُّبُوبِيَّةِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرِهِمَا كَدَلَالَتِهِمَا.
السَّادِسُ: الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَرَدَ ذَلِكَ مَجْمُوعًا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
السَّابِعُ: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ بْنِ يَحْيَى عَنْ رَجُلٍ مِنْ طَيِّئٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، قَالَ كُنْتُ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُرِيَنِي الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَأُرِيتُهُ مَكْتُوبًا فِي الْكَوَاكِبِ فِي السَّمَاءِ.
الثَّامِنُ: ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ سَمِعَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَقَالَ: قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ وَاحْتَجَّ لَهُ الْفَخْرُ بِأَنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ ; لِأَنَّ فِي الْجَلَالَ إِشَارَةً إِلَى جَمِيعِ السُّلُوبِ، وَفِي الْإِكْرَامِ إِشَارَةً إِلَى جَمِيعِ الْإِضَافَاتِ.
التَّاسِعُ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَهُوَ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ مِنْ جَمِيعِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ.
الْعَاشِرُ: رَبِّ رَبِّ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: اسْمُ اللَّهِ الْأَكْبَرُ: رَبِّ رَبِّ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَائِشَةَ: إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: لَبَّيْكَ عَبْدِي، سَلْ تُعْطَ رَوَاهُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا.
الْحَادِيَ عَشَرَ: دَعْوَةُ ذِي النُّونِ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَفَعَهُ دَعْوَةُ ذِي النُّونِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ:{لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ.
الثَّانِيَ عَشَرَ: نَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُعَلِّمَهُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَرَأَى فِي النَّوْمِ هُوَ اللَّهُ اللَّهُ اللَّهُ، الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: هُوَ مَخْفِيٌّ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ لَمَّا دَعَتْ بِبَعْضِ الْأَسْمَاءِ وَبِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَقَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَفِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي دَعَوْتِ بِهَا.
الرَّابِعَ عَشَرَ: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ نَقَلَهُ عِيَاضٌ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا.
وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِكُلِّ اسْمٍ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ، وَهُوَ وَجْهٌ غَرِيبٌ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ الْأَكْثَرُ لِقولِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الذَّاتُ لَا خُصُوصُ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَابْنُ حَزْمٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ أَيْضًا، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْأَسْمَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا مَا يَخْتَصُّ بِاللَّهِ كَالْجَلَالَةِ وَالرَّحْمَنِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَهَذَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ إِذَا أُطْلِقَ، وَلَوْ نَوَى بِهِ غَيْرَ اللَّهِ. ثَانِيهَا: مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ لَكِنَّ الْغَالِبَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُقَيَّدُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّقْيِيدِ، كَالْجَبَّارِ وَالْحَقِّ وَالرَّبِّ وَنَحْوِهَا، فَالْحَلِفُ بِهِ يَمِينٌ، فَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ.
ثَالِثُهَا: مَا يُطْلَقُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ كَالْحَيِّ وَالْمُؤْمِنِ، فَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ اللَّهِ أَوْ أَطْلَقَ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ نَوَى اللَّهَ - تَعَالَى - فَوَجْهَانِ: صَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَكَذَا فِي الْمُحَرَّرِ، وَخَالَفَ فِي الشَّرْحَيْنِ فَصَحَّحَ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ. وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَقَالَ الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَةَ: فِي الْمُحَرَّرِ إِنَّهَا يَمِينٌ.
قَوْلُهُ: مَنْ حَفِظَهَا هَكَذَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَوَافَقَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَكَذَا عَمْرٌو النَّاقِدُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ مَنْ أَحْصَاهَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا قَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشُّرُوطِ، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْإِحْصَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَعُدَّهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِهَا، لَكِنْ يَدْعُو اللَّهَ بِهَا كُلَّهَا وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِجَمِيعِهَا، فَيَسْتَوْجِبُ الْمَوْعُودَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ. ثَانِيهَا: الْمُرَادُ بِالْإِحْصَاءِ الْإِطَاقَةُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} وَمِنْهُ حَدِيثُ اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا أَيْ لَنْ تَبْلُغُوا كُنْهَ الِاسْتِقَامَةِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ أَطَاقَ الْقِيَامَ بِحَقِّ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ مَعَانِيَهَا فَيُلْزِمُ نَفْسَهُ بِوَاجِبِهَا، فَإِذَا قَالَ الرَّزَّاقُ وَثِقَ بِالرِّزْقِ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَسْمَاءِ.
ثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِالْإِحْصَاءِ الْإِحَاطَةُ بِمَعَانِيهَا، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: فُلَانٌ ذُو حَصَاةٍ، أَيْ ذُو عَقْلٍ وَمَعْرِفَةٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَرْجُوُّ مِنْ كَرَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ إِحْصَاءُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عَلَى إِحْدَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ مَعَ صِحَّةِ النِّيَّةِ أَنْ يُدْخِلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثَةُ لِلسَّابِقِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى أَحْصَاهَا عَرَفَهَا ; لِأَنَّ الْعَارِفَ بِهَا
لَا يَكُونُ إِلَّا مُؤْمِنًا وَالْمُؤْمِنُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَدَّهَا مُعْتَقِدًا ; لِأَنَّ الدَّهْرِيَّ لَا يَعْتَرِفُ بِالْخَالِقِ وَالْفَلْسَفِيُّ لَا يَعْتَرِفُ بِالْقَادِرِ.
وَقِيلَ: أَحْصَاهَا يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ وَإِعْظَامَهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَى أَحْصَاهَا عَمِلَ بِهَا فَإِذَا قَالَ الْحَكِيمُ مَثَلًا سَلَّمَ جَمِيعَ أَوَامِرِهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَإِذَا قَالَ الْقُدُّوسُ اسْتَحْضَرَ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْوَفَا بْنِ عُقَيْلٍ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: طَرِيقُ الْعَمَلِ بِهَا أَنَّ الَّذِي يُسَوَّغُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِيهَا كَالرَّحِيمِ وَالْكَرِيمِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى حِلَاهَا عَلَى عَبْدِهِ فَلْيُمَرِّنِ الْعَبْدُ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَصِحَّ لَهُ الِاتِّصَافُ بِهَا، وَمَا كَانَ يَخْتَصُّ بِاللَّهِ - تَعَالَى - كَالْجَبَّارِ وَالْعَظِيمِ فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْإِقْرَارُ بِهَا وَالْخُضُوعُ لَهَا وَعَدَمُ التَّحَلِّي بِصِفَةٍ مِنْهَا، وَمَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْوَعْدِ نَقِفُ مِنْهُ عِنْدَ الطَّمَعِ وَالرَّغْبَةِ، وَمَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْوَعِيدِ نَقِفُ مِنْهُ عِنْدَ الْخَشْيَةِ وَالرَّهْبَةِ، فَهَذَا مَعْنَى أَحْصَاهَا وَحَفِظَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مَنْ حَفِظَهَا عَدًّا وَأَحْصَاهَا سَرْدًا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا يَكُونُ كَمَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ الْخَبَرُ فِي الْخَوَارِجِ: أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ.
قُلْتُ: وَالَّذِي ذَكَرَهُ مَقَامَ الْكَمَالِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُرَدَّ الثَّوَابُ لِمَنْ حَفِظَهَا وَتَعَبَّدَ بِتِلَاوَتِهَا وَالدُّعَاءِ بِهَا وَإِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِالْمَعَاصِي كَمَا يَقَعُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَارِئِ الْقُرْآنِ سَوَاءً فَإِنَّ الْقَارِئَ وَلَوْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَعْصِيَةٍ غَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ يُثَابُ عَلَى تِلَاوَتِهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَيْسَ مَا بَحَثَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِدَافِعٍ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ حِفْظُهَا سَرْدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: مَعْنَاهُ حَفِظَهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِثُبُوتِهِ نَصًّا فِي الْخَبَرِ. وَقَالَ فِي الْأَذْكَارِ هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمَّا ثَبَتَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مَنْ حَفِظَهَا بَدَلَ أَحْصَاهَا اخْتَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْعَدُّ أَيْ مَنْ عَدَّهَا لِيَسْتَوْفِيَهَا حِفْظًا.
قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَجِيئِهِ بِلَفْظِ حَفِظَهَا تَعَيُّنُ السَّرْدِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ بَلْ يَحْتَمِلُ الْحِفْظَ الْمَعْنَوِيَّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحِفْظِ حِفْظُ الْقُرْآنِ لِكَوْنِهِ مُسْتَوْفِيًا لَهَا فَمَنْ تَلَاهُ وَدَعَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ حَصَّلَ الْمَقْصُودُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ وَقِيلَ الْمُرَادُ مَنْ تَتَبَّعَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى أَحْصَاهَا عَدَّهَا وَحَفِظَهَا وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْإِيمَانَ بِهَا وَالتَّعْظِيمَ لَهَا وَالرَّغْبَةَ فِيهَا وَالِاعْتِبَارَ بِمَعَانِيهَا، وَقَالَ الْأَصِيلِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِحْصَاءِ عَدَّهَا فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعُدُّهَا الْفَاجِرُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْعَمَلُ بِهَا، وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: الْإِحْصَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ هُوَ التَّعْدَادَ وَإِنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ وَالتَّعَقُّلُ بِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالْإِيمَانُ بِهَا، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيُّ: مِنْ تَمَامِ الْمَعْرِفَةِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَصِفَاتِهِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الدَّاعِي وَالْحَافِظُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَعْرِفَةُ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَا تَتَضَمَّنُ مِنَ الْفَوَائِدِ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقَائِقِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَلَا مُسْتَفِيدًا بِذِكْرِهَا مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مَعْدٍ: يَحْتَمِلُ الْإِحْصَاءُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ تَتَبُّعُهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يَحْصُلَ عَلَيْهَا، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَحْفَظَهَا بَعْدَ أَنْ يَجِدَهَا مُحْصَاةً.
قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مَنْ حَفِظَهَا قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم أَطْلَقَ أَوَّلًا قَوْلَهُ: مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَوَكَّلَ الْعُلَمَاءَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْهَا ثُمَّ يَسَّرَ عَلَى الْأُمَّةِ الْأَمْرَ فَأَلْقَاهَا إِلَيْهِمْ مُحْصَاةً، وَقَالَ: مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ.
قُلْتُ: وَهَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَرَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى وَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ ذَاكَ وَمَخْرَجُ اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ؟ وَهُوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالِاخْتِلَافُ عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ عَنْهُ فِي أَيِّ اللَّفْظَيْنِ قَالَهُ.
قَالَ: وَلِلْإِحْصَاءِ مَعَانٍ أُخْرَى مِنْهَا الْإِحْصَاءُ الْفِقْهِيُّ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَعَانِيهَا مِنَ اللُّغَةِ وَتَنْزِيهُهَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي تَحْمِلُهَا الشَّرِيعَةُ، وَمِنْهَا الْإِحْصَاءُ النَّظَرِيُّ وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَى كُلَّ اسْمٍ بِالنَّظَرِ فِي الصِّيغَةِ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَثَرِهِ السَّارِي
فِي الْوُجُودِ، فَلَا تَمُرُّ عَلَى مَوْجُودٍ إِلَّا وَيَظْهَرُ لَكَ فِيهِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَتَعْرِفُ خَوَاصَّ بَعْضِهَا وَمَوْقِعَ الْقَيْدِ وَمُقْتَضَى كُلِّ اسْمٍ قَالَ، وَهَذَا أَرْفَعُ مَرَاتِبِ الْإِحْصَاءِ، قَالَ: وَتَمَامُ ذَلِكَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنَ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بِمَا يَقْتَضِيهِ كُلُّ اسْمٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَيَعْبُدُ اللَّهَ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لِذَاتِهِ، قَالَ: فَمَنْ حَصَلَتْ لَهُ جَمِيعُ مَرَاتِبِ الْإِحْصَاءِ حَصَلَ عَلَى الْغَايَةِ وَمَنْ مُنِحَ مَنْحًى مِنْ مَنَاحِيهَا فَثَوَابُهُ بِقَدْرِ مَا نَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيه): وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَدَلَ قَوْلِهِ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ لْجَنَّةَ مَنْ دَعَا بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَفِي سَنَدِهِ حُصَيْنُ بْنُ مُخَارِقٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَزَادَ خُلَيْدُ بْنُ دَعْلَجٍ فِي رِوَايَتِهِ الَّتِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا وَكُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ مَعًا بِلَفْظِ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ. وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ شَرْحُ مَعَانِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي تَرَاجِمِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
وَقَوْلُهُ دَخَلَ الْجَنَّةُ عَبَّرَ بِالْمَاضِي تَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْوَاقِعِ لِأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.
قَوْلُهُ (وَهُوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَاللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ أَنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَيَجُوزُ فَتْحُ الْوَاوِ وَكَسْرُهَا، وَالْوِتْرُ الْفَرْدُ، وَمَعْنَاهُ فِي حَقِّ اللَّهِ أَنَّهُ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلَا انْقِسَامَ، وَقَوْلُهُ يُحِبُّ الْوِتْرَ قَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْوِتْرَ فِي الْعَدَدِ فَضْلًا عَلَى الشَّفْعِ فِي أَسْمَائِهِ لِكَوْنِهِ دَالًّا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فِي صِفَاتِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لَمَا تَعَدَّدَتِ الْأَسْمَاءُ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْوِتْرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ تَعَدَّدَ مَا فِيهِ الْوِتْرُ، وَقِيلَ: هُوَ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّفَرُّدِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْوِتْرِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَوِتْرِ اللَّيْلِ وَأَعْدَادِ الطَّهَارَةِ وَتَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْوِتْرَ هُنَا لِلْجِنْسِ إِذْ لَا مَعْهُودَ جَرَى ذِكْرُهُ حَتَّى يُحْمَلَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ كُلَّ وِتْرٍ شَرَعَهُ، وَمَعْنَى مَحَبَّتِهِ لَهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ وَأَثَابَ عَلَيْهِ، وَيُصْلِحُ ذَلِكَ الْعُمُومَ مَا خَلَقَهُ وِتْرًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ أَوْ مَعْنَى مَحَبَّتِهِ لَهُ أَنَّهُ خَصَّصَهُ بِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ وِتْرًا بِعَيْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الْوِتْرِ، وَقِيلَ: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَقِيلَ: آدَمُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَالَ: وَالْأَشْبَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ. قَالَ: وَيَظْهَرُ لِي وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْوِتْرَ يُرَادُ بِهِ التَّوْحِيدُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فِي ذَاتِهِ وَكَمَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَاحِدٌ وَيُحِبُّ التَّوْحِيدَ أَيْ أَنْ يُوَحَّدَ وَيُعْتَقَدَ انْفِرَادُهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ دُونَ خَلْقِهِ فَيَلْتَئِمُ أَوَّلُ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: لَعَلَّ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى صَلَاةِ الْوِتْرِ اسْتَنَدَ إِلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِحَتْمٍ كَالْمَكْتُوبَةِ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْتَرَ ثُمَّ قَالَ: أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ. أَخْرَجُوهُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَاللَّفْظُ لَهُ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ اللَّامُ فِي هَذَا الْخَبَرِ لِلْعَهْدِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الْوِتْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ عَلَى هَذَا بَلِ الْعُمُومُ فِيهِ أَظْهَرُ كَمَا أَنَّ الْعُمُومَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مُحْتَمَلُ أَيْضًا وَقَدْ طَعَنَ حِفْظِ أَلْفَاظٍ تُعَدُّ فِي أَيْسَرِ مُدَّةٍ؟ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ مُطَّرِدًا وَلَا حَصْرَ فِيهِ بَلْ قَدْ تَحْصُلُ الْجَنَّةُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ غَيْرِ الْجِهَادِ أَنَّ فَاعِلَهُ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّ حِفْظَهَا يَحْصُلُ فِي أَيْسَرِ مُدَّةٍ فَإِنَّمَا يُرَدُّ عَلَى مَنْ حَمَلَ الْحِفْظَ وَالْإِحْصَاءَ عَلَى مَعْنَى أَنْ يَسْرُدَهَا عَنْ ظَهْرِ
قَلْبٍ فَأَمَّا مَنْ أَوَّلَهُ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْفَضْلَ وَاسِعٌ.
69 - بَاب الْمَوْعِظَةِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ
6411 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، قَالَ: كُنَّا نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللَّهِ إِذْ جَاءَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قلت: أَلَا تَجْلِسُ، قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَدْخُلُ فَأُخْرِجُ إِلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ وَإِلَّا جِئْتُ أَنَا فَجَلَسْتُ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ، فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَمَا إِنِّي أُخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
قَوْلُهُ (بَابُ الْمَوْعِظَةِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ) مُنَاسَبَةُ هَذَا الْبَابِ لِكِتَابِ الدَّعَوَاتِ أَنَّ الْمَوْعِظَةَ يُخَالِطُهَا غَالِبًا التَّذْكِيرُ بِاللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الذِّكْرَ مِنْ جُمْلَةِ الدُّعَاءِ وَخَتَمَ بِهِ أَبْوَابَ الدَّعَوَاتِ الَّتِي عَقَّبَهَا بِكِتَابِ الرِّقَاقِ لِأَخْذِهِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا شَوْبًا.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي شَقِيقٌ) هُوَ أَبُو وَائِلٍ وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَقَدْ ذَكَرْتُ هُنَاكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِسَمَاعِ الْأَعْمَشِ لَهُ مِنْ أَبِي وَائِلٍ.
قَوْلُهُ (كُنَّا نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللَّهِ) يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ (إِذْ جَاءَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ بَابِ عَبْدِ اللَّهِ نَنْتَظِرُهُ فَمَرَّ بِنَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ. قُلْتُ: وَهُوَ كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ عَابِدٌ، ذَكَرَ الْعِجْلِيُّ أَنَّهُ مِنْ طَبَقَةِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ أَنَّهُ قُتِلَ غَازِيًا بِفَارِسَ كَأَنَّهُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا أَحْفَظُ لَهُ رِوَايَةً وَهُوَ نَخَعِيٌّ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى ابْنِ التِّينِ فِي حِكَايَتِهِ أَنَّهُ عَبْسِيٌّ بِالْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ (قُلْتُ: أَلَا تَجْلِسُ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَدْخُلُ فَأُخْرِجُ إِلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَقُلْنَا: أَعْلِمْهُ بِمَكَانِنَا فَدَخَلَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (أَمَا إِنِّي) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ (أُخْبَر) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ جَوَابُ قَوْلِهِمْ وَدِدْنَا أَنَّكَ لَوْ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ وَأَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُهُمْ كُلَّ خَمِيسٍ. وَزَادَ فِيهِ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَمَلَّكُمْ.
قَوْلُهُ (كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ وَقَوْلُ مَنْ حَدَّثَ بِهِ بِالنُّونِ بَدَلَ اللَّامِ مِنْ يَتَخَوَّلُنَا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُرَاعِي الْأَوْقَاتِ فِي تَعْلِيمِهِمْ وَوَعْظِهِمْ وَلَا يَفْعَلُهُ كُلَّ يَوْمٍ خَشْيَةَ الْمَلَلِ وَالتَّخَوُّلُ التَّعَهُّدُ، وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَسَّرَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ يَتَفَقَّدُ أَحْوَالَهُمُ الَّتِي يَحْصُلُ لَهُمْ فِيهَا النَّشَاطُ لِلْمَوْعِظَةِ فَيَعِظُهُمْ فِيهَا وَلَا يُكْثِرُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَمَلُّوا حَكَى ذَلِكَ الطِّيبِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ فِي الصِّحَاحِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ.
قَوْلُهُ (فِي الْأَيَّامِ) يَعْنِي فَيُذَكِّرُهُمْ أَيَّامًا وَيَتْرُكُهُمْ أَيَّامًا، فَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ بَابُ مَنْ جَعَلَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً. قَوْلُهُ (كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا) أَيْ أَنْ تَقَعَ مِنَّا السَّآمَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَأَنَّ السَّآمَةَ ضُمِّنَتْ مَعْنَى الْمَشَقَّةِ فَعُدِّيَتْ بِعَلَى، وَفِيهِ رِفْقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ وَحُسْنُ التَّوَصُّلِ إِلَى تَعْلِيمِهِمْ وَتَفْهِيمِهِمْ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ بِنَشَاطٍ لَا عَنْ ضَجَرٍ وَلَا مَلَلٍ وَيُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّعْلِيمَ بِالتَّدْرِيجِ أَخَفُّ مُؤْنَةً وَأَدْعَى إ لَى الثَّبَاتِ مِنْ أَخْذِهِ بِالْكَدِّ وَالْمُغَالَبَةِ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِابْنِ مَسْعُودٍ لِمُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَمُحَافَظَتِهِ عَلَى ذَلِكَ.
(خَاتِمَة): اشْتَمَلَ كِتَابُ الدَّعَوَاتِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا مِنْهَا أَحَدٌ وَأَرْبَعُونَ مُعَلَّقَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ خَالِصَةٌ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ شَدَّادٍ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي عَدَدِ الِاسْتِغْفَارِ كُلَّ يَوْمٍ وَحَدِيثِ حُذَيْفَةَ فِي الْقَوْلِ عِنْدَ النَّوْمِ وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي ذَلِكَ وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي اجْتِنَابِ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ وَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الِاسْتِخَارَةِ وَحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ فِي التَّهْلِيلِ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تِسْعَةُ آثَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
81 - كِتَاب الرِّقَاقِ
1 - بَاب ما جاء في الرقاق، وأن لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ
6412 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ.
وقَالَ عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .. مِثْلَهُ.
6413 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَة،
…
فَأَصْلِحْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة.
6414 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَحْفِرُ وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ وبصر بِنَا، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَة،
…
فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة.
تَابَعَهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم كِتَابُ الرِّقَاقِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ وَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ وَسَقَطَ عِنْدَهُ عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ وَمِثْلُهُ لِلنَّسَفِيِّ، وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ لَكِنْ قَالَ وَأَنْ لَا عَيْشَ وكَذَا لِأَبِي الْوَقْتِ لَكِنْ قَالَ بَابُ لَا عَيْشَ وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَا جَاءَ فِي الرِّقَاقِ وَأَنْ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ.
قَالَ مُغْلَطَايْ: عَبَّرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِهِمْ بِالرَّقَائِقِ.
قُلْتُ: مِنْهُمُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى وَرِوَايَتُهُ كَذَلِكَ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَالرِّقَاقُ وَالرَّقَائِقُ جَمْعُ رَقِيقَةٍ وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَا يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ رِقَّةً. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الرِّقَّةُ الرَّحْمَةُ وَضِدُّ الْغِلَظِ، وَيُقَالُ لِلْكَثِيرِ الْحَيَاءِ رَقَّ وَجْهُهُ اسْتِحْيَاءً. وَقَالَ الرَّاغِبُ: مَتَى كَانَتِ الرِّقَّةُ فِي جِسْمٍ فَضِدُّهَا
الصَّفَاقَةُ كَثَوْبٍ رَقِيقٍ وَثَوْبٍ صَفِيقٍ وَمَتَى كَانَتْ فِي نَفْسٍ فَضِدُّهَا الْقَسْوَةُ كَرَقِيقِ الْقَلْبِ وَقَاسِي الْقَلْبِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَتَرْقِيقُ الْكَلَامِ تَحْسِينُهُ. قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا الْمَكِّيُّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي أَوَّلِهِ وَهُوَ اسْمٌ بِلَفْظِ النَّسَبِ وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ.
قَوْلُهُ (هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ) الضَّمِيرُ لِسَعِيدٍ لَا لِعَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ مَكِّيٍّ، وَوَكِيعٍ جَمِيعًا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ لِأَنَّهُ لَقِيَ بَعْضَ صِغَارِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِيهِ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنِي أَبِي أخَرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) كَذَا لِسَائِرِ الرُّوَاةِ لَكِنْ عِنْدَ أَحْمَدَ الْفَرَاغُ وَالصِّحَّةُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَوَكِيعٍ كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ بِسَنَدِهِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لِمَنِ اللَّفْظُ.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ مَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ كَذَلِكَ بِزِيَادَةٍ وَلَفْظُهُ إِنَّ الصِّحَّةَ وَالْفَرَاغَ نِعْمَتَانِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَدِيٍّ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَقَوْلُهُ نِعْمَتَانِ تَثْنِيَةُ نِعْمَةٍ وَهِيَ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ وَقِيلَ هِيَ الْمَنْفَعَةُ الْمَفْعُولَةُ عَلَى جِهَةِ الْإِحْسَانِ لِلْغَيْرِ وَالْغَبَنُ بِالسُّكُونِ وَبِالتَّحْرِيكِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ فِي الْبَيْعِ بِالسُّكُونِ وَفِي الرَّأْيِ بِالتَّحْرِيكِ وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَسْتَعْمِلُهُمَا فِيمَا يَنْبَغِي فَقَدْ غَبَنَ لِكَوْنِهِ بَاعَهُمَا بِبَخْسٍ وَلَمْ يُحْمَدْ رَأْيُهُ فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ فَارِغًا حَتَّى يَكُونَ مَكْفِيًّا صَحِيحَ الْبَدَنِ فَمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ فَلْيَحْرِصْ عَلَى أَنْ لَا يَغْبِنَ بِأَنْ يَتْرُكَ شُكْرَ اللَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَمِنْ شُكْرِهِ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ فَمَنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْمَغْبُونُ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُوَفَّقُ لِذَلِكَ قَلِيلٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ صَحِيحًا وَلَا يَكُونُ مُتَفَرِّغًا لِشُغْلِهِ بِالْمَعَاشِ وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا فَإِذَا اجْتَمَعَا فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ عَنِ الطَّاعَةِ فَهُوَ الْمَغْبُونُ وَتَمَامُ ذَلِكَ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ وَفِيهَا التِّجَارَةُ الَّتِي يَظْهَرُ رِبْحُهَا فِي الْآخِرَةِ فَمَنِ اسْتَعْمَلَ فَرَاغَهُ وَصِحَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمَغْبُوطُ وَمَنِ اسْتَعْمَلَهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمَغْبُونُ لِأَنَّ الْفَرَاغَ يَعْقُبُهُ الشُّغْلُ وَالصِّحَّةُ يَعْقُبُهَا السَّقَمُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْهَرَمُ كَمَا قِيلَ:
يَسُرُّ الْفَتَى طُولُ السَّلَامَةِ وَالْبَقَا
…
فَكَيْفَ تَرَى طُولَ السَّلَامَةِ يَفْعَلُ
يَرُدُّ الْفَتَى بَعْدَ اعْتِدَالٍ وَصِحَّةٍ
…
يَنُوءُ إِذَا رَامَ الْقِيَامَ وَيُحْمَلُ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُكَلَّفِ مَثَلًا بِالتَّاجِرِ الَّذِي لَهُ رَأْسُ مَالٍ فَهُوَ يَبْتَغِي الرِّبْحَ مَعَ سَلَامَةِ رَأْسِ الْمَالِ فَطَرِيقُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَتَحَرَّى فِيمَنْ يُعَامِلُهُ وَيَلْزَمَ الصِّدْقَ وَالْحِذْقَ لِئَلَّا يُغْبَنَ فَالصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ رَأْسُ الْمَالِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَامِلَ اللَّهَ بِالْإِيمَانِ وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَعَدُوِّ الدِّينِ لِيَرْبَحَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الْآيَاتِ. وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مُطَاوَعَةَ النَّفْسِ وَمُعَامَلَةَ الشَّيْطَانِ؛ لِئَلَّا يُضَيِّعَ رَأْسَ مَالِهِ مَعَ الرِّبْحِ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فَالْكَثِيرُ فِي الْحَدِيثِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَلِيلِ فِي الْآيَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتُلِفَ
فِي أَوَّلِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فَقِيلَ الْإِيمَانُ وَقِيلَ الْحَيَاةُ وَقِيلَ الصِّحَّةُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ مُطْلَقَةٌ وَأَمَّا الْحَيَاةُ وَالصِّحَّةُ فَإِنَّهُمَا نِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَلَا تَكُونُ نِعْمَةً حَقِيقَةً إِلَّا إِذَا صَاحَبَتِ الْإِيمَانَ وَحِينَئِذٍ يُغْبَنُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَيْ يَذْهَبُ رِبْحُهُمْ أَوْ يَنْقُصُ فَمَنِ اسْتَرْسَلَ مَعَ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ الْخَالِدَةِ إِلَى الرَّاحَةِ فَتَرَكَ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْحُدُودِ وَالْمُوَاظَبَةَ عَلَى الطَّاعَةِ فَقَدْ غُبِنَ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فَارِغًا فَإِنَّ الْمَشْغُولَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَعْذِرَةٌ بِخِلَافِ الْفَارِغِ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ وَتَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ) هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ ابْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ أَحَدُ الْحُفَّاظِ بَصْرِيٌّ مِنْ أَوْسَاطِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنِ الْعَبَّاسِ الْمَذْكُورِ فَقَالَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنَ السُّنَنِ فِي بَابِ الْحِكْمَةِ مِنْهُ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ فَذَكَرَهُ سَوَاءً. قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا الْحَدِيثُ صَدَّرَ بِهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ كِتَابَهُ فَأَخْرَجَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. قُلْتُ: وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ فَرَفَعُوهُ وَوَقَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ انْتَهَى وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ ثُمَّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ ثُمَّ قَالَ: قَالَ بُنْدَارٌ: رُبَّمَا حَدَّثَ بِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
قَوْلُهُ (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) أَيِ ابْنِ إِيَاسٍ الْمُزَنِيِّ وِلِقُرَّةَ صُحْبَةٌ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو إِيَاسٍ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ وَإِيَاسٌ هُوَ الْقَاضِي الْمَشْهُورُ بِالذَّكَاءِ.
قَوْلُهُ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ.
قَوْلُهُ: (فَأَصْلِحِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة) تَقَدَّمَ فِي فَضْلِ الْأَنْصَارِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ عَلَى شُعْبَةَ فِي لَفْظِهِ وَأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ وَزِيَادَةَ مَنْ زَادَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَطَابَقَ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمَذْكُورَ فِي الَّذِي بَعْدَهُ وَزِيَادَةَ مَنْ زَادَ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا فَأَجَابَهُمْ بِذَلِكَ وَتَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ أَتَمَّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَفِيهِ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ) هُوَ بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ النُّمَيْرِيُّ، صَدُوقٌ فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ.
قَوْلُهُ (وَهُوَ يَحْفِرُ وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ) تَقَدَّمَ فِي فَضْلِ الْأَنْصَارِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ الْحَدِيثَ. وَيُجْمَعُ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْفِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْقُلُ التُّرَابَ.
قَوْلُهُ (وَبَصُرَ بِنَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمَّ الصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَيَمُرُّ بِنَا مِنَ الْمُرُورِ.
قَوْلُهُ (فَاغْفِرْ) تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ بِلَفْظِ فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَنْقُولَةَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهَا مَوْزُونٌ وأَكْثَرُهَا غَيْرُ مَوْزُونٍ وَيُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى الْوَزْنِ بِضَرْبٍ مِنَ الزِّحَافِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ بِالْوَزْنِ، فَلَا يَدْخُلُ هُوَ فِي الشِّعْرِ، وَفِي هَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْقِيرِ عَيْشِ الدُّنْيَا لِمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ التَّكْدِيرِ وَسُرْعَةِ الْفَنَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ إِيرَادِ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَسَهْلٍ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ التَّرْجَمَةُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ غُبِنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَرَاغِ لِإِيثَارِهِمْ لِعَيْشِ الدُّنْيَا عَلَى عَيْشِ الْآخِرَةِ، فَأَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ الْعَيْشَ الَّذِي اشْتُغِلُوا بِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ بَلِ الْعَيْشُ الَّذِي شُغِلُوا عَنْهُ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَمَنْ فَاتَهُ فَهُوَ الْمَغْبُونُ.
2 - بَاب مَثَلِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ}
6415 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ مَثَلِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ بَعْضُ لَفْظِ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ رَفَعَهُ وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ، وَسَنَدُهُ إِلَى التَّابِعِيِّ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْ لِلْمُسْتَوْرِدِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَإِنَّ قَدْرَ السَّوْطِ مِنَ الْجَنَّةِ إِذَا كَانَ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا فَيَكُونُ الَّذِي يُسَاوِيهَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ دُونَ قَدْرِ السَّوْطِ فَيُوَافِقُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْمُسْتَوْرِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ قَوْلِهِ غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِهَا، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ فَلَا قَدْرَ لَهَا وَلَا خَطَرَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّقْرِيبِ، وَإِلَّا فَلَا نِسْبَةَ بَيْنَ الْمُتَنَاهِي وَبَيْنَ مَا لَا يَتَنَاهَى، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْإِصْبَعِ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا خَطَرَ، وَكَذَلِكَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الدُّنْيَا كَالْمَاءِ الَّذِي يَعْلَقُ فِي الْإصْبُعِ مِنَ الْبَحْرِ، وَالْآخِرَةَ كَسَائِرِ الْبَحْرِ.
(تَنْبِيه): اخْتُلِفَ فِي يَاءِ يَرْجِعُ فَذَكَرَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ رَوَوْهُ بِالْمُثَنَّاةِ قَالَ فَجَعَلُوا الْفِعْلَ لِلْإِصْبَعِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَرَوَاهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ قَالَ فَجَعَلُوا الْفِعْلَ لِلْيَمِّ قُلْتُ أَوْ لِلْوَاضِعِ
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {مَتَاعُ الْغُرُورِ} كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ كُلَّهَا، وَعَلَى هَذَا فَتُفْتَحُ الْهَمْزَةُ فِي (أنَّمَا) مُحَافَظَةً عَلَى لَفْظِ التِّلَاوَةِ، فَإِنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} .. إِلَخْ، وَلَوْلَا مَا وَقَعَ مِنْ سِيَاقِ بَقِيَّةِ الْآيَةِ لَجَوَّزْتُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ أَرَادَ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْقِتَالِ وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} .. الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَخْتَصُّ بِدَارِ الدُّنْيَا مِنْ تَصَرُّفٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الطَّاعَةِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِمَّا يُقِيمُ الْأَوَدَ وَيُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ فَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا وَالزِّينَةُ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ ذَاتِ الشَّيْءِ مِمَّا يُحَسَّنُ بِهِ الشَّيْءُ وَالتَّفَاخُرُ يَقَعُ بِالنَّسَبِ غَالِبًا كَعَادَةِ الْعَرَبِ وَالتَّكَاثُرُ ذُكِرَ مُتَعَلَّقُهُ فِي الْآيَةِ وَصُورَةُ هَذَا الْمِثَالِ أَنَّ الْمَرْءَ يُولَدُ فَيَنْشَأُ فَيَقْوَى فَيَكْسِبُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ وَيَرْأَسُ ثُمَّ يَأْخُذُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الِانْحِطَاطِ فَيَشِيبُ وَيَضْعُفُ وَيَسْقَمُ وَتُصِيبُهُ النَّوَائِبُ مِنْ مَرَضٍ وَنَقْصٍ مَالٍ وَعِزٍّ ثُمَّ يَمُوتُ فَيَضْمَحِلُّ أَمْرُهُ وَيَصِيرُ مَالُهُ لِغَيْرِهِ وَتُغَيَّرُ رُسُومُهُ فَحَالُهُ كَحَالِ أَرْضٍ أَصَابَهَا مَطَرٌ فَنَبَتَ عَلَيْهَا الْعُشْبُ نَبَاتًا مُعْجِبًا أَنِيقًا ثُمَّ هَاجَ أَيْ يَبِسَ وَاصْفَرَّ ثُمَّ تَحَطَّمَ وَتَفَرَّقَ إِلَى أَنِ اضْمَحَلَّ.
قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْكُفَّارِ، فَقِيلَ: جَمْعُ كَافِرٍ بِاللَّهِ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لِلدُّنْيَا وَإِعْجَابًا بِمَحَاسِنِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الزُّرَّاعُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَفَرَ الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ أَيْ سَتَرَهُ بِهَا وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْبَصَرِ
بِالنَّبَاتِ فَلَا يُعْجِبُهُمْ إِلَّا الْمُعْجِبُ حَقِيقَةً انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يُوقَفُ عَلَى شَدِيدٍ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ أَنَّهَا إِمَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ وَإِمَّا مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ، وَاسْتَحْسَنَ غَيْرُهُ الْوَقْفَ عَلَى شَدِيدٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ مِنَ الدُّنْيَا وَالتَّقْدِيرُ لِلْكَافِرِينَ، وَيَبْتَدِئُ {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ {وَفِي الآخِرَةِ} قَسِيمٌ لِقولِهِ {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} ، وَالْأَوَّلُ صِفَةُ الدُّنْيَا وَهِيَ اللَّعِبُ وَسَائِرُ مَا ذَكَرَ، وَالثَّانِي صِفَةُ الْآخِرَةِ وَهِيَ عَذَابٌ شَدِيدٌ لِمَنْ عَصَى وَمَغْفِرَةٌ وَرِضْوَانٌ لِمَنْ أَطَاعَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} .. إِلَخْ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ أَيْ تَغُرُّ مَنْ ركَنَّ إِلَيْهَا وَأَمَّا التَّقِيُّ فَهِيَ لَهُ بَلَاغٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَلَمَّا أَوْرَدَ الْغَزَالِيُّ حَدِيثَ الْمُسْتَوْرِدِ فِي الْإِحْيَاءِ عَقَّبَهُ بِأَنْ قَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: اعْلَمْ أَنَّ مَثَلَ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي غَفْلَتِهِمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً فَانْتَهَوْا إِلَى جَزِيرَةٍ مُعْشِبَةٍ فَخَرَجُوا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فَحَذَّرَهُمُ الْمَلَّاحُ مِنَ التَّأَخُّرِ فِيهَا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ وَحَذَّرَهُمْ أَنْ يُقْلِعَ بِالسَّفِينَةِ وَيَتْرُكَهُمْ فَبَادَرَ بَعْضُهُمْ فَرَجَعَ سَرِيعًا فَصَادَفَ أَحْسَنَ الْأَمْكِنَةِ وَأَوْسَعَهَا فَاسْتَقَرَّ فِيهِ وَانْقَسَمَ الْبَاقُونَ فِرَقًا: الْأُولَى: اسْتَغْرَقَتْ فِي النَّظَرِ إِلَى أَزْهَارِهَا الْمُونِقَةِ وَأَنْهَارِهَا الْمُطَّرِدَةِ وَثِمَارِهَا الطَّيِّبَةِ وَجَوَاهِرِهَا وَمَعَادِنهَا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَبَادَرَ إِلَى السَّفِينَةِ فَلَقِيَ مَكَانًا دُونَ الْأَوَّلِ فَنَجَا فِي الْجُمْلَةِ، الثَّانِيَةُ: كَالْأُولَى لَكِنَّهَا أَكَبَّتْ عَلَى تِلْكَ الْجَوَاهِرِ وَالثِّمَارِ وَالْأَزْهَارِ وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ لِتَرْكِهَا فَحَمَلَ مِنْهَا مَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَتَشَاغَلَ بِجَمْعِهِ وَحَمْلِهِ فَوَصَلَ إِلَى السَّفِينَةِ فَوَجَدَ مَكَانًا أَضْيَقَ مِنَ الْأَوَّلِ وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِرَمْيِ مَا اسْتَصْحَبَهُ فَصَارَ مُثْقَلًا بِهِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ ذَبَلَتِ الْأَزْهَارُ وَيَبِسَتِ الثِّمَارُ وَهَاجَتِ الرِّيَاحُ فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ إِلْقَاءِ مَا اسْتَصْحَبَهُ حَتَّى نَجَا بِحُشَاشَةِ نَفْسِهِ، الثَّالِثَةُ: تَوَلَّجَتْ فِي الْغِيَاضِ وَغَفَلَتْ عَنْ وَصِيَّةِ الْمَلَّاحِ ثُمَّ سَمِعُوا نِدَاءَهُ بِالرَّحِيلِ فَمَرَّتْ فَوَجَدَتِ السَّفِينَةَ سَارَتْ فَبَقِيَتْ بِمَا اسْتَصْحَبَتْ فِي الْبَرِّ حَتَّى هَلَكَتْ، وَالرَّابِعَةُ: اشْتَدَّتْ
بِهَا الْغَفْلَةُ عَنْ سَمَاعِ النِّدَاءِ وَسَارَتِ السَّفِينَةُ فَتَقَسَّمُوا فِرَقًا، مِنْهُمْ مَنِ افْتَرَسَتْهُ السِّبَاعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَاهَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى هَلَكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ جُوعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَهَشَتْهُ الْحَيَّاتُ. قَالَ: فَهَذَا مِثْلُ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي اشْتِغَالِهِمْ بِحُظُوظِهِمُ الْعَاجِلَةِ وَغَفْلَتِهِمْ عَنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ خَتَمَ بِأَنْ قَالَ: وَمَا أَقْبَحَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ بَصِيرٌ عَاقِلٌ أَنْ يَغْتَرَّ بِالْأَحْجَارِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْهَشِيمِ مِنَ الْأَزْهَارِ وَالثِّمَارِ وَهُوَ لَا يَصْحَبُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
3 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ.
6416 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو المُنْذِرِ الطُّفَاوِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ) هَكَذَا تَرْجَمَ بِبَعْضِ الْخَبَرِ إِشَارَةً إِلَى ثُبُوتِ رَفْعِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ مَنْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا قَصَّرَ فِيهِ.
قَوْلُهُ (عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ) أَنْكَرَ الْعُقَيْلِيُّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَهِيَ حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ وَقَالَ: إِنَّمَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ بِصِيغَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ، كَذَلِكَ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْأَعْمَشِ عَنْهُ وَكَذَا
أَصْحَابُ الطُّفَاوِيِّ عَنْهُ، وَتَفَرَّدَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ بِالتَّصْرِيحِ قَالَ: وَلَمْ يَسْمَعْهُ الْأَعْمَشُ مِنْ مُجَاهِدٍ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْهُ فَدَلَّسَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِالْعَنْعَنَةِ وَقَالَ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ مَا سَأَلَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ إِلَّا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي رَوْضَةِ الْعُقَلَاءِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيِّ، عَنِ الطُّفَاوِيِّ بِالْعَنْعَنَةِ أَيْضًا وَقَالَ مَكَثْتُ مُدَّةً أَظُنُّ أَنَّ الْأَعْمَشَ دَلَّسَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ لَيْثٍ حَتَّى رَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ رَوَاهُ عَنِ الطُّفَاوِيِّ فَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ يُشِيرُ إِلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الَّتِي فِي الْبَابِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلَيْثٌ، وَأَبُو يَحْيَى ضَعِيفَانِ، وَالْعُمْدَةُ عَلَى طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ؛ لِأَنَّ رُوَاتَهُ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ عَبْدَةَ مِنِ ابْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ (أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي) فِيهِ تَعْيِينُ مَا أُبْهِمَ فِي رِوَايَةِ لَيْثٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَخَذَ بِبَعْضِ جَسَدِي وَالْمَنْكِبُ بِكَسْرِ الْكَافِ مَجْمَعُ الْعَضُدِ وَالْكَتِفِ وَضُبِطَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ بِالتَّثْنِيَةِ.
قَوْلُهُ (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَتْ أَوْ لِلشَّكِّ بَلْ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى بَلْ فَشَبَّهَ النَّاسِكَ السَّالِكَ بِالْغَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَسْكَنٌ يَأْوِيهِ وَلَا مَسْكَنٌ يَسْكُنُهُ ثُمَّ تَرَقَّى وَأَضْرَبَ عَنْهُ إِلَى عَابِرِ السَّبِيلِ لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَسْكُنُ فِي بَلَدِ الْغُرْبَةِ بِخِلَافِ عَابِرِ السَّبِيلِ الْقَاصِدِ لِبَلَدٍ شَاسِعٍ وَبَيْنَهُمَا أَوْدِيَةٌ مُرْدِيَةٌ وَمَفَاوِزُ مُهْلِكَةٌ وَقُطَّاعُ طَرِيقٍ فَإِنَّ مَنْ شَأْنَهُ أَنْ لَا يُقِيمَ لَحْظَةً وَلَا يَسْكُنَ لَمْحَةً وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرُ الصَّبَاحَ إِلَخْ، وَبِقَوْلِهِ وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ، وَالْمَعْنَى اسْتَمِرَّ سَائِرًا وَلَا تَفْتُرْ فَإِنَّكَ إِنْ قَصَّرْتَ انْقَطَعْتَ وَهَلَكْتَ فِي تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ وَهَذَا مَعْنَى الْمُشَبَّهِ بِهِ وَأَمَّا الْمُشَبَّهُ فَهُوَ قَوْلُهُ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ أَيْ أَنَّ الْعُمُرَ لَا يَخْلُو عَنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ، فَإِذَا كُنْتَ صَحِيحًا فَسِرْ سَيْرَ الْقَصْدِ وَزِدْ عَلَيْهِ بِقَدْرِ قُوَّتِكَ مَا دَامَتْ فِيكَ قُوَّةٌ بِحَيْثُ يكُونُ مَا بِكَ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ قَائِمًا مَقَامَ مَا لَعَلَّهُ يُفَوِّتُ حَالَةَ الْمَرَضِ وَالضَّعْفِ، زَادَ عَبْدَةُ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَكُنْ فِي الدُّنْيَا الْحَدِيثَ، وَزَادَ لَيْثٌ فِي رِوَايَتِهِ: وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَكَأَنَّكَ عَابِرُ سَبِيلٍ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمَّا كَانَ الْغَرِيبُ قَلِيلَ الِانْبِسَاطِ إِلَى النَّاسِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْحِشٌ مِنْهُمْ إِذْ لَا يَكَادُ يَمُرُّ بِمَنْ يَعْرِفُهُ مُسْتَأْنِسٌ بِهِ، فَهُوَ ذَلِيلٌ فِي نَفْسِهِ خَائِفٌ وَكَذَلِكَ عَابِرُ السَّبِيلِ لَا يَنْفُذُ فِي
سَفَرِهِ إِلَّا بِقُوَّتِهِ عَلَيْهِ وَتَخْفِيفِهِ مِنَ الْأَثْقَالِ غَيْرَ مُتَثَبِّتٍ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْ قَطْعِ سَفَرِهِ مَعَهُ زَادُهُ وَرَاحِلَتُهُ يُبَلِّغَانِهِ إِلَى بُغْيَتِهِ مِنْ قَصْدِهِ شَبَّهَهُ بِهِمَا وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِيثَارِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَأَخْذِ الْبُلْغَةِ مِنْهَا وَالْكَفَافِ فَكَمَا لَا يَحْتَاجُ الْمُسَافِرُ إِلَى أَكْثَرَ مِمَّا يُبَلِّغُهُ إِلَى غَايَةِ سَفَرِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَكْثَرَ مِمَّا يُبَلِّغُهُ الْمَحَلَّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْحَثِّ عَلَى الْفَرَاغِ عَنِ الدُّنْيَا وَالزُّهْدِ فِيهَا وَالِاحْتِقَارِ لَهَا وَالْقَنَاعَةِ فِيهَا بِالْبُلْغَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا تَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا تَتَّخِذْهَا وَطَنًا وَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْبَقَاءِ فِيهَا وَلَا تَتَعَلَّقْ مِنْهَا بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَابِرُ السَّبِيلِ هُوَ الْمَارُّ عَلَى الطَّرِيقِ طَالِبًا وَطَنَهُ، فَالْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا كَعَبْدٍ أَرْسَلَهُ سَيِّدُهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ فَشَأْنُهُ أَنْ يُبَادِرَ بِفِعْلِ مَا أُرْسِلَ فِيهِ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى وَطَنِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ غَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ أَنْ يُنَزِّلَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا مَنْزِلَةَ الْغَرِيبِ فَلَا يَعْلَقُ قَلْبَهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَلَدِ الْغُرْبَةِ بَلْ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِوَطَنِهِ الَّذِي يَرْجِعُ
إِلَيْهِ وَيَجْعَلُ إِقَامَتَهُ فِي الدُّنْيَا لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَجِهَازَهُ لِلرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ وَهَذَا شَأْنُ الْغَرِيبِ أَوْ يَكُونُ كَالْمُسَافِرِ لَا يَسْتَقِرُّ فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ بَلْ هُوَ دَائِمُ السَّيْرِ إِلَى بَلَدِ الْإِقَامَةِ.
وَاسْتَشْكَلَ عَطْفُ عَابِرِ السَّبِيلِ عَلَى الْغَرِيبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ الطِّيبِيِّ وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ التَّرَقِّي لِأَنَّ تَعَلُّقَاتِهِ أَقَلُّ مِنْ تَعَلُّقَاتِ الْغَرِيبِ الْمُقِيمِ.
قَوْلُهُ (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ) فِي رِوَايَةِ لَيْثٍ وَقَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَصْبَحْتَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ) أَيْ زَمَنِ صِحَّتِكَ (لِمَرَضِك) فِي رِوَايَةِ لَيْثٍ لِسَقَمِكَ وَالْمَعْنَى اشْتَغِلْ فِي الصِّحَّةِ بِالطَّاعَةِ بِحَيْثُ لَوْ حَصَلَ تَقْصِيرٌ فِي الْمَرَضِ لَا يُجْبَرُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ) فِي رِوَايَةِ لَيْثٍ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَزَادَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا أَيْ هَلْ يُقَالُ لَهُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ وَلَمْ يُرِدِ اسْمَهُ الْخَاصَّ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ هَلْ هُوَ حَيٌّ أَوْ مَيِّتٌ. وَهَذَا الْقَدْرُ الْمَوْقُوفُ مِنْ هَذَا تَقَدَّمَ مُحَصَّلُ مَعْنَاهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوَّلَ كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَجَاءَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغِكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ مُرْسَلِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَلَامُ ابْنِ عُمَرَ مُنْتَزَعٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِنِهَايَةِ قِصَرِ الْأَمَلِ، وَأَنَّ الْعَاقِلَ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا أَمْسَى لَا يَنْتَظِرُ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحَ لَا يَنْتَظِرُ الْمَسَاءِ، بَلْ يَظُنُّ أَنَّ أَجَلَهُ مُدْرِكُهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
قَالَ: وَقَوْلُهُ خُذْ مِنْ صِحَّتِكَ إِلَخْ أَيِ اعْمَلْ مَا تَلْقَى نَفْعَهُ بَعْدَ مَوْتِكَ وَبَادِرْ أَيَّامَ صِحَّتِكَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَطْرَأُ فَيَمْتَنِعُ مِنَ الْعَمَلِ فَيُخْشَى عَلَى مَنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَعَادِ بِغَيْرِ زَادِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ الْمَاضِيَ فِي الصَّحِيحِ إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي حَقِّ مَنْ يَعْمَلُ، وَالتَّحْذِيرُ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا، فَإِنَّهُ إِذَا مَرِضَ نَدِمَ عَلَى تَرْكِهِ الْعَمَلَ وَعَجَزَ لِمَرَضِهِ عَنِ الْعَمَلِ فَلَا يُفِيدُهُ النَّدَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ مَسُّ الْمُعَلِّمِ أَعْضَاءَ الْمُتَعَلِّمِ عِنْدَ التَّعْلِيمِ وَالْمَوْعُوظِ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ، وَذَلِكَ لِلتَّأْنِيسِ وَالتَّنْبِيهِ، وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ غَالِبًا إِلَّا بِمَنْ يَمِيلُ إِلَيْهِ. وَفِيهِ مُخَاطَبَةُ الْوَاحِدِ وَإِرَادَةُ الْجَمْعِ وَحِرْصُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ لِأُمَّتِهِ وَالْحَضُّ عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ.
4 - بَاب فِي الْأَمَلِ وَطُولِهِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ،
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ. {بِمُزَحْزِحِهِ} بِمُبَاعِدِهِ.
6417 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُنْذِرٍ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، وَقَالَ: هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ
بِهِ - أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ - وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا.
6418 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ بن مالك قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُطُوطًا فَقَالَ: هَذَا الْأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الْأَقْرَبُ.
قَوْلُهُ (بَابٌ فِي الْأَمَلِ وَطُولِهِ) الْأَمَلُ بِفَتْحَتَيْنِ رَجَاءُ مَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ مِنْ طُولِ عُمُرٍ وَزِيَادَةِ غِنًى وَهُوَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنَ التَّمَنِّي. وَقِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمَلَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ سَبَبٌ وَالتَّمَنِّي بِخِلَافِهِ. وَقِيلَ: لَا يَنْفَكُّ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمَلٍ فَإِنْ فَاتَهُ مَا أَمَلَهُ عَوَّلَ عَلَى التَّمَنِّي. وَيُقَالُ: الْأَمَلُ إِرَادَةُ الشَّخْصِ تَحْصِيلَ شَيْءٍ يُمْكِنُ حُصُولُهُ فَإِذَا فَاتَهُ تَمَنَّاهُ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} الْآيَةَ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَغَيْرِهَا إِلَى الْغُرُورِ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِلَى قَوْلِهِ:{فَقَدْ فَازَ} ، وَالْمَطْلُوبُ هُنَا مَا سَقَطَ مِنْ رِوَايَتِهِ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْأَمَلِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَتَاعُ الْغُرُورِ، شَبَّهَ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَامِ وَيَغُرُّهُ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ ثُمَّ يَتَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُهُ وَرَدَاءَتُهُ، وَالشَّيْطَانُ هُوَ الْمُدَلِّسُ وَهُوَ الْغَرُورُ بِالْفَتْحِ النَّاشِئُ عَنْهُ الْغُرُورُ بِالضَّمِّ، وَقَدْ قُرِئَ فِي الشَّاذِّ هُنَا بِفَتْحِ الْغَيْنِ أَيْ مَتَاعُ الشَّيْطَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمَخْدُوعُ، فَتَتَّفِقُ الْقِرَاءَتَانِ.
قَوْلُهُ (بِمُزَحْزِحِهِ بِمُبَاعِدِهِ) وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَكَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ. وَالْمُرَادُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ زُحْزِحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ بِوَعْدٍ وَأَصْلُ الزَّحْزَحَةِ الْإِزَالَةُ وَمَنْ أُزِيلَ عَنِ الشَّيْءِ فَقَدْ بُوعِدَ مِنْهُ وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، وَفِي آخِرِهَا {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَوْ أَنَّ قَوْلَهُ {فَمَنْ زُحْزِحَ} مُنَاسِبٌ لِقولِهِ {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} ، وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} .
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَغَيْرِهَا إِلَى يَعْلَمُونَ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ لِلنَّسَفِيِّ، قَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ عَامَّةٌ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هِيَ فِي الْكُفَّارِ خَاصَّةً، وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلتَّهْدِيدِ، وَفِيهِ زَجْرٌ عَنْ الِانْهِمَاكِ فِي مَلَاذِّ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً .. إِلَخْ) هَذِهِ قِطْعَةٌ مِنْ أَثَرٍ لِعَلِيٍّ جَاءَ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَفِي أَوَّلِهِ شَيْءٌ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ صَرِيحًا فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، وَزُبَيْدٍ الْأَيَامِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَسُمِّيَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، مُهَاجِرٌ الْعَامِرِيُّ وَكَذَا فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُهَاجِرِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً الْحَدِيثَ كَالَّذِي فِي الْأَصْلِ سَوَاءً، وَمُهَاجِرٌ الْمَذْكُورُ هُوَ الْعَامِرِيُّ الْمُبْهَمُ قَبْلَهُ وَمَا عَرِفَتْ حَالُهُ وَقَدْ جَاءَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ قِصَرِ الْأَمَلِ مِنْ رِوَايَةِ الْيَمَانِ بْنِ حُذَيْفَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ مَوْلَى عَلِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَشَدَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ خَصْلَتَيْنِ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ، وَالْيَمَانُ وَشَيْخُهُ لَا يُعْرَفَانِ، وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ الْمُنْكَدِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَالْمُنْكَدِرُ ضَعِيفٌ، وَتَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ اللِّهْبِيُّ، عَنِ
ابْنِ الْمُنْكَدِرِ بِتَمَامِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ فَاتِّبَاعُ الْهَوَى يَصْرِفُ بِقُلُوبِكُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَطُولُ الْأَمَلِ يَصْرِفُ
هِمَمَكُمْ إِلَى الدُّنْيَا. وَمِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ أَخَذَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ قَوْلَهُ الدُّنْيَا مُدْبِرَةٌ وَالْآخِرَةُ مُقْبِلَةٌ، فَعَجَبٌ لِمَنْ يُقْبِلُ عَلَى الْمُدْبِرَةِ وَيُدْبِرُ عَلَى الْمُقْبِلَةِ. وَوَرَدَ فِي ذَمِّ الِاسْتِرْسَالِ مَعَ الْأَمَلِ حَدِيثُ أَنَسٍ رَفَعَهُ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ: جُمُودُ الْعَيْنِ، وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ، وَطُولُ الْأَمَلِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ: صَلَاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزَّهَادَةِ وَالْيَقِينِ وَهَلَاكُ آخِرِهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ قِصَرَ الْأَمَلِ حَقِيقَةُ الزُّهْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ سَبَبٌ ; لِأَنَّ مَنْ قَصُرَ أَمَلُهُ زَهِدَ وَيَتَوَلَّدُ مِنْ طُولِ الْأَمَلِ الْكَسَلُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالتَّسْوِيفُ بِالتَّوْبَةِ وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالنِّسْيَانُ لِلْآخِرَةِ وَالْقَسْوَةُ فِي الْقَلْبِ ; لِأَنَّ رِقَّتَهُ وَصَفَاءَهُ إِنَّمَا يَقَعُ بِتَذْكِيرِ الْمَوْتِ وَالْقَبْرِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} ، وَقِيلَ: مَنْ قَصُرَ أَمَلُهُ قَلَّ هَمُّهُ وَتَنَوَّرَ قَلْبُهُ ; لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَحْضَرَ الْمَوْتَ اجْتَهَدَ فِي الطَّاعَةِ وَقَلَّ هَمُّهُ وَرَضِيَ بِالْقَلِيلِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْأَمَلُ مَذْمُومٌ لِلنَّاسِ إِلَّا لِلْعُلَمَاءِ فَلَوْلَا أَمَلُهُمْ لَمَا صَنَّفُوا وَلَا أَلَّفُوا. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأَمَلُ مَطْبُوعٌ فِي جَمِيعِ بَنِي آدَمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَمَلِ، وَفِي الْأَمَلِ سِرٌّ لَطِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا الْأَمَلُ مَا تَهَنَّى أَحَدٌ بِعَيْشٍ وَلَا طَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ يَشْرَعَ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ مِنْهُ الِاسْتِرْسَالُ فِيهِ وَعَدَمُ الِاسْتِعْدَادِ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ فَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُكَلَّفْ بِإِزَالَتِهِ. وقولَهُ فِي أَثَرِ عَلِيٍّ فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ جَعَلَ الْيَوْمَ نَفْسَ الْعَمَلِ، وَالْمُحَاسَبَةُ مُبَالَغَةٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَا حِسَابَ فِيهِ وَلَا عَمَلَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ وَلَا حِسَابَ بِالْفَتْحِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ مُنَوَّنًا، وَكَذَا قَوْلُهُ وَلَا عَمَلَ.
قَوْلُهُ (يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُوهُ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ، وَمُنْذِرٌ هُوَ ابْنُ يَعْلَى الثَّوْرِيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَبُو يَعْلَى فَقَطْ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ بِمُعْجَمَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ مُصَغَّرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَمِنَ الثَّوْرِيِّ فَصَاعِدًا كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ (خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا) الْخَطُّ الرَّسْمُ وَالشَّكْلُ وَالْمُرَبَّعُ الْمُسْتَوِي الزَّوَايَا.
قَوْلُهُ (وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطُطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ) قِيلَ: هَذِهِ صِفَةُ الْخَطِّ:
|
وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا الْإِنْسَانُ إِلَى النُّقْطَةِ الدَّاخِلَةِ، وَبِقَوْلِهِ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ إِلَى الْمُرَبَّعِ، وَبِقَوْلِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ إِلَى الْخَطِّ الْمُسْتَطِيلِ الْمُنْفَرِدِ، وَبِقَوْلِهِ: وَهَذِهِ إِلَى الْخُطُوطِ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ انْحِصَارُهَا فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ بَعْدَهُ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الْأَقْرَبُ فَإِنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى الْخَطِّ الْمُحِيطِ بِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَارِجِ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ خُطُطًا بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْأُولَى لِلْأَكْثَرِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الطَّاءِ، وَقَوْلُهُ هَذَا إِنْسَانٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ هَذَا الْخَطُّ هُوَ الْإِنْسَانُ عَلَى التَّمْثِيلِ.
قَوْلُهُ (وَهَذِهِ الْخُطُطُ) بِالضَّمِّ فِيهِمَا أَيْضًا وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ وَهَذِهِ الْخُطُوطُ.
قَوْلُهُ (الْأَعْرَاضُ) جَمْعُ عَرَضٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فِي الْخَيْرِ وَفِي الشَّرِّ، وَالْعَرْضُ بِالسُّكُونِ ضِدُّ الطَّوِيلِ وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُقَابِلُ النَّقْدَيْنِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ (نَهَشَهُ) بِالنُّونِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَصَابَهُ وَاسْتَشْكَلَتْ هَذِهِ الْإِشَارَاتُ الْأَرْبَعُ مَعَ أَنَّ الْخُطُوطَ ثَلَاثَةٌ فَقَطْ وَأَجَابَ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّ لِلْخَطِّ الدَّاخِلِ اعْتِبَارَيْنِ فَالْمِقْدَارُ الدَّاخِلُ مِنْهُ هُوَ الْإِنْسَانُ وَالْخَارِجُ أَمَلُهُ وَالْمُرَادُ بِالْأَعْرَاضِ الْآفَاتُ الْعَارِضَةُ لَهُ فَإِنْ سَلِمَ مِنْ هَذَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ هَذَا وَإِنْ سَلِمَ مِنَ الْجَمِيعِ وَلَمْ تُصِبْهُ آفَةٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْدِ مَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بَغَتَهُ الْأَجَلُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِالْأَجَلِ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَضِّ عَلَى قِصَرِ الْأَمَلِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِبَغْتَةِ الْأَجَلِ. وَعَبَّرَ بِالنَّهْشِ وَهُوَ لَدْغُ ذَاتِ السُّمِّ مُبَالَغَةً فِي الْإِصَابَةِ وَالْإِهْلَاكِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سَلَامٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ (هَمَّامٌ) هُوَ ابْنُ يَحْيَى، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.
قَوْلُهُ (عَنْ إِسْحَاقَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي أَنَسٍ لِأُمِّهِ.
قَوْلُهُ (خُطُوطًا) قَدْ فُسِّرَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ (فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ يَأْمُلُ وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الزُّهْدِ مِنْ وَجْهٍ عَنْ إِسْحَاقَ سِيَاقُ الْمَتْنِ أَتَمُّ مِنْهُ، وَلَفْظُهُ خَطَّ خُطُوطًا وَخَطَّ خَطًّا نَاحِيَةً ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ هَذَا مَثَلُ ابْنِ آدَمَ وَمَثَلُ التَّمَنِّي، وَذَلِكَ الْخَطُّ الْأَمَلُ، بَيْنَمَا يَأْمُلُ إِذْ جَاءَهُ الْمَوْتُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْخُطُوطَ ثُمَّ اقْتَصَرَ فِي التَّفْصِيلِ عَلَى اثْنَيْنِ اخْتِصَارًا، وَالثَّالِثُ الْإِنْسَانُ، وَالرَّابِعُ الْآفَاتُ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ هَذَا ابْنُ آدَمَ وَهَذَا أَجَلُهُ، وَوَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ قَفَاهُ ثُمَّ بَسَطَهَا فَقَالَ: وَثَمَّ أَمَلُهُ، وَثَمَّ أَجَلُهُ، إِنَّ أَجَلَهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ أَمَلِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَرَزَ عُودًا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ غَرَزَ إِلَى جَنْبِهِ آخَرَ ثُمَّ غَرْزَ الثَّالِثَ فَأَبْعَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ وَهَذَا أَمَلُهُ. وَالْأَحَادِيثُ مُتَوَافِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَجَلَ أَقْرَبُ مِنَ الْأَمَلِ.
5 - بَاب مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ؛ لِقَوْلِهِ تعالى {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} .
6419 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً.
تَابَعَهُ أَبُو حَازِمٍ وَابْنُ عَجْلَانَ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ.
6420 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الأَمَلِ قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ"
6421 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ" رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ لِقولِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَسَقَطَ قَوْلُهُ لِقولِهِ - تَعَالَى -، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ يَعْنِي الشَّيْبَ وَثَبَتَ قَوْلُهُ يَعْنِي الشَّيْبَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِيهِ فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّيْبُ لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ فَمَا بَعْدَهَا وَهُوَ عَلَامَةٌ لِمُفَارَقَةِ سِنِّ الصِّبَى الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ اللَّهْوِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْمُرَادِ بِالتَّعْمِيرِ فِي الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ مَسْرُوقٍ وَغَيْرِهِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ {بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} .
وَالثَّانِي: سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَلَا الْآيَةَ، وَرُوَاتُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إِلَّا ابْنَ خُثَيْمٍ فَهُوَ صَدُوقٌ وَفِيهِ ضَعْفٌ.
وَالثَّالِثُ: سَبْعُونَ سَنَةً أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} ، فَقَالَ: نَزَلَتْ تَعْيِيرًا لِأَبْنَاءِ السَّبْعِينَ. وَفِي إِسْنَادِهِ يَحْيَى بْنُ مَيْمُونٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
الرَّابِعُ: سِتُّونَ وَتَمَسَّكَ قَائِلُهُ بِحَدِيثِ الْبَابِ وَوَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ التَّصْرِيحُ بِالْمُرَادِ فَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ الْعُمُرُ الَّذِي أَعْذَرَ اللَّهُ فِيهِ لِابْنِ آدَمَ سِتُّونَ سَنَةً، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مِثْلَهُ.
الْخَامِسُ: التَّرَدُّدُ بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ مَنْ عُمِّرَ سِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ غِفَارٍ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ مَنْ بَلَغَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ، وَمُحَمَّدٌ الْغِفَارِيُّ هُوَ ابْنُ مَعْنٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي لَفْظِهِ كَمَا اخْتُلِفَ عَلَى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ فِي لَفْظِهِ.
وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا حَدِيثُ مُعْتَرَكِ الْمَنَايَا مَا بَيْنَ سِتِّينَ وَسَبْعِينَ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ ضَعِيفٌ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَشَيْخُهُ عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ الْمُقَدَّمِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ آخَرُ، وَذَكَرْتُ أَنَّ عُمَرَ مُدَلِّسٌ وَأَنَّهُ أَوْرَدَهُ بِالْعَنْعَنَةِ وَبَيَّنْتُ عُذْرَ الْبُخَارِيِّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُصَرَّحٍ فِيهِ بِالسَّمَاعِ وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ بِنَحْوِهِ وَهَذَا الرَّجُلُ الْمُبْهَمُ هُوَ مَعْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيُّ فَهِيَ مُتَابَعَةٌ قَوِيَّةٌ لِعُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ
أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَعْمَرٍ وَوَقَعَ لِشَيْخِهِ فِيهِ وَهَمٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَيَانِهِ.
قَوْلُهُ (أَعْذَرَ اللَّهُ) الْإِعْذَارُ إِزَالَةُ الْعُذْرِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ اعْتِذَارٌ كَأَنْ يَقُولَ لَوْ مُدَّ لِي فِي الْأَجَلِ لَفَعَلْتُ مَا أُمِرْتُ بِهِ يُقَالُ أَعْذَرَ إِلَيْهِ إِذَا بَلَّغَهُ أَقْصَى الْغَايَةِ فِي الْعُذْرِ وَمَكَّنَهُ مِنْهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا بِالْعُمُرِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ حِينَئِذٍ إِلَّا الِاسْتِغْفَارُ وَالطَّاعَةُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْآخِرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَنِسْبَةُ الْإِعْذَارِ إِلَى اللَّهِ مَجَازِيَّةٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتْرُكْ لِلْعَبْدِ سَبَبًا فِي الِاعْتِذَارِ يَتَمَسَّكُ بِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ إِلَّا بَعْدَ حُجَّةٍ.
قَوْلُهُ (أَخَّرَ أَجَلَهُ) يَعْنِي أَطَالَهُ (حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً) وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى عَبْدٍ أَحْيَاهُ حَتَّى يَبْلُغَ سِتِّينَ سَنَةً أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً، لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ، لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ (تَابَعَهُ أَبُو حَازِمٍ، وَابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ الْمَقْبُرِيِّ) أَمَّا مُتَابَعَةُ أَبِي حَازِمٍ وَهُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ فَأَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَذَا أَخْرَجَهُ الْحُفَّاظُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ وَخَالَفَهُمْ هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ فَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَإِدْخَالُهُ بَيْنَ سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ رَجُلًا مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَأَمَّا طَرِيقُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنْ أَتَتْ عَلَيْهِ سِتُّونَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا كَانَتِ السِّتُّونَ حَدًّا لِهَذَا؛ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُعْتَرَكِ وَهِيَ سِنُّ الْإِنَابَةِ وَالْخُشُوعِ وَتَرَقُّبِ الْمَنِيَّةِ. فَهَذَا إِعْذَارٌ بَعْدَ إِعْذَارٍ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ حَتَّى نَقَلَهُمْ مِنْ حَالَةِ الْجَهْلِ إِلَى حَالَةِ الْعِلْمِ ثُمَّ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يُعَاقِبْهُمْ إِلَّا بَعْدَ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ وَإِنْ كَانُوا فُطِرُوا عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَمَلِ لَكِنَّهُمْ أُمِرُوا بِمُجَاهِدَةِ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ لِيَمَتثَّلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَيَنْزَجِرُوا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اسْتِكْمَالَ السِّتِّينَ مَظِنَّةٌ لِانْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْأَسْنَانُ أَرْبَعَةٌ سِنُّ الطُّفُولِيَّةِ ثُمَّ الشَّبَابِ ثُمَّ الْكُهُولَةِ ثُمَّ الشَّيْخُوخَةِ وَهِيَ آخِرُ الْأَسْنَانِ، وَغَالِبُ مَا يَكُونُ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ ضَعْفُ الْقُوَّةِ بِالنَّقْصِ وَالِانْحِطَاطِ فَيَنْبَغِي لَهُ الْإِقْبَالُ عَلَى الْآخِرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى مِنَ النَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ. وَقَدِ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنِ اسْتَكْمَلَ سِتِّينَ فَلَمْ يَحُجَّ مَعَ الْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقَصِّرًا وَيَأْثَمُ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ، بِخِلَافِ مَا دُونَ ذَلِكَ.
قَالَ لَّيْثُ: عن يُونُسُ - وَابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ - عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ.
الحديث الثاني:
قَوْلُهُ (يُونُسُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ.
قَوْلُهُ (لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الْأَمَلِ) الْمُرَادُ بِالْأَمَلِ هُنَا مَحَبَّةُ طُولِ الْعُمُرِ فَسَّرَهُ حَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي بَعْدَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ وَسَمَّاهُ شَابًّا إِشَارَةً إِلَى قُوَّةِ اسْتِحْكَامِ حُبِّهِ لِلْمَالِ أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُطَابَقَةِ.
قَوْلُهُ (قَالَ لَيْثٌ، عَنْ يُونُسَ، وَابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ) هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ (وَأَبُو سَلَمَةَ) يَعْنِي كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَمَّا رِوَايَةُ لَيْثٍ وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ فَوَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ الْمَالِ بَدَلَ الدُّنْيَا. وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ طُولِ الْحَيَاةِ وَحُبِّ الْمَالِ. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ
مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ سَوَاءً. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةٍ فِي أَوَّلِهِ. قَالَ: إِنَّ ابْنَ آدَمَ يَضْعُفُ جِسْمُهُ وَيَنْحَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْكِبَرِ وَقَلْبُهُ شَابٌّ.
الحديث الثالث:
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَلِغَيْرِهِ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَهِشَامٌ هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ.
قَوْلُهُ (يَكْبَرُ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ يَطْعَنُ فِي السِّنِّ.
قَوْلُهُ (وَيَكْبُرَ مَعَهُ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ يَعْظُمُ وَيَجُوزُ الْفَتْحُ وَيَجُوزُ الضَّمُّ فِي الْأَوَّلِ تَعْبِيرًا عَنِ الْكَثْرَةِ وَهِيَ كَثْرَةُ عَدَدِ السِّنِينَ بِالْعِظَمِ.
قَوْلُهُ (اثْنَتَانِ حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ مَعَهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ. ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ. قَالَهُ بِمِثْلِهِ.
قَوْلُهُ (رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ بِنِحْوِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بِلَفْظِ: يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا التَّعْلِيقِ دَفْعُ تَوَهُّمِ الِانْقِطَاعِ فِيهِ لِكَوْنِ قَتَادَةَ مُدَلِّسًا وَقَدْ عَنْعَنَهُ، لَكِنَّ شُعْبَةَ لَا يُحَدِّثُ عَنِ الْمُدَلِّسِينَ إِلَّا بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي سَمَاعِهِمْ فَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ التَّصْرِيحُ وَالْعَنْعَنَةُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ قَلْبَ الشَّيْخِ كَامِلُ الْحُبِّ لِلْمَالِ مُتَحَكِّمٌ فِي ذَلِكَ كَاحْتِكَامِ قُوَّةِ الشَّابِّ فِي شَبَابِهِ. هَذَا صَوَابُهُ. وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ غَيْرُ هَذَا مِمَّا لَا يُرْتَضَى. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى قَوْلِ عِيَاضٍ: هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ مِنَ الْمُطَابَقَةِ وَبَدِيعِ الْكَلَامِ الْغَايَةُ. وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْخَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تَكُونَ آمَالُهُ وَحِرْصُهُ عَلَى الدُّنْيَا قَدْ بَلِيَتْ عَلَى بَلَاءِ جِسْمِهِ إِذَا انْقَضَى عُمُرُهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا انْتِظَارُ الْمَوْتِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِضِدِّهِ ذُمَّ.
قَالَ: وَالتَّعْبِيرُ بِالشَّابِّ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ الْحِرْصِ وَبُعْدِ الْأَمَلِ الَّذِي هُوَ فِي الشَّبَابِ أَكْثَرُ وَبِهِمْ أَلْيَقُ لِكَثْرَةِ الرَّجَاءِ عَادَةً عِنْدَهُمْ فِي طُولِ أَعْمَارِهِمْ وَدَوَامِ اسْتِمْتَاعِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَرَاهَةُ الْحِرْصِ عَلَى طُولِ الْعُمُرِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحِكْمَةُ فِي التَّخْصِيصِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى ابْنِ آدَمَ نَفْسُهُ فَهُوَ رَاغِبٌ فِي بَقَائِهَا فَأَحَبَّ لِذَلِكَ طُولَ الْعُمُرِ وَأَحَبَّ الْمَالَ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي دَوَامِ الصِّحَّةِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْهَا غَالِبًا طُولُ الْعُمُرِ فَكُلَّمَا أَحَسَّ بِقُرْبِ نَفَادِ ذَلِكَ اشْتَدَّ حُبُّهُ لَهُ وَرَغْبَتُهُ فِي دَوَامِهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْقَلْبِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّهَا فِي الرَّأْسِ. قَالَهُ الْمَازِرِيُّ.
(تَنْبِيه): قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْبَابِ السَّابِقِ يَعْنِي بَابٌ فِي الْأَمَلِ وَطُولِهِ.
قُلْتُ: وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْبَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ لَيْسَتْ بِبَعِيدَةٍ وَلَا خَفِيَّةٍ.
6 - بَاب الْعَمَلِ الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، فِيهِ سَعْدٌ.
6422 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ. وَزَعَمَ مَحْمُودٌ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ: وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ.
6423 -
قَالَ "سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ قَالَ غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ"
6423 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلاَّ الْجَنَّةُ"
قَوْلُهُ (بَابُ الْعَمَلِ الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ - تَعَالَى -) ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلْجَمِيعِ وَسَقَطَتْ مِنْ شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ فَأَضَافَ حَدِيثَهَا عَنْ عِتْبَانَ الَّذِي قَبْلَهُ ثُمَّ أَخَذَ فِي بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ لِتَرْجَمَةِ مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَالَ: خَشِيَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ مَنْ بَلَغَ السِّتِّينَ وَهُوَ مُوَاظِبٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ أَنْ يَنْفُذَ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ، فَأَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ تَنْفَعُ قَائِلَهَا، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا لَا تَخُصُّ أَهْلَ عُمُرٍ دُونَ عُمُرٍ وَلَا أَهْلَ عَمَلٍ دُونَ عَمَلٍ، قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي ثَبَتَ النَّقْلُ فِيهِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَعَهُ وَهُوَ الْوُصُولُ إِلَى الْغَرْغَرَةِ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْأَعْذَارَ لَا تَقْطَعُ التَّوْبَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تَقْطَعُ الْحُجَّةَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْعَبْدِ بِفَضْلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالرَّجَاءُ بَاقٍ بِدَلِيلِ حَدِيثِ عِتْبَانَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ. قُلْتُ: وَعَلَى مَا وَقَعَ فِي الْأُصُولِ فَهَذِهِ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ الْبَابِ الْمَاضِي بِهَذَا الْبَابِ.
قَوْلُهُ (فِيهِ سَعْدٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ وَسَقَطَ لِلنَّسَفِيِّ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَسَعْدٌ فِيمَا يَظْهَرُ لِي هُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَحَدِيثُهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي وَغَيْرِهَا مِنْ رِوَايَةِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ الْوَصِيَّةِ وَفِيهِ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، وَفِيهِ قَوْلُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كِتَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
ثم ذكر المصنف طرفا من حديث محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك.
قوله (حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ) هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ (غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَنْ يُوَافِيَ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مُعَقَّبًا بِالْغُدُوِّ بَلْ بَيْنَهُمَا أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ دُخُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلَهُ وَصَلَاتِهِ فِيهِ وَسُؤَالِهِمْ أَنْ يَتَأَخَّرَ عِنْدَهُمْ حَتَّى يُطْعِمُوهُ وَسُؤَالِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الدَّخْشَمِ وَكَلَامِ مَنْ وَقَعَ فِي حَقِّهِ وَالْمُرَاجَعَةِ فِي ذَلِكَ. وَفِي آخِرِهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ هُنَا. وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي بَابِ الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ. وَأَوْرَدَهُ أَيْضًا مُطَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ أَيْضًا فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ إِذَا زَارَ قَوْمًا فَصَلَّى عِنْدَهُمْ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَسَدٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْمَتْنِ طَرَفًا غَيْرَ الْمَذْكُورِ هُنَا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِوُجُودِ التَّلَازُمِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ هُوَ الْحَقِيقَةُ؛ لِأَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ مَا يُلْقَى فِيهَا، وَالتَّحْرِيمُ يُنَاسِبُ الْفَاعِلَ فَيَكُونُ اللَّفْظُ الثَّانِي مَجَازًا.
قَوْلُهُ (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ.
قَوْلُهُ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى -: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ) أَيْ ثَوَابٌ، وَلَمْ أَرَ لَفْظَ جَزَاءٍ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ السَّرَّاجِ، كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ.
قَوْلُهُ (إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ) بِفَتْحِ الصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهُوَ الْحَبِيبُ الْمُصَافِي كَالْوَلَدِ وَالْأَخِ وَكُلِّ مَنْ يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَبْضِ قَبْضُ رُوحِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: احْتَسَبَ وَلَدَهُ إِذَا مَاتَ كَبِيرًا فَإِنْ مَاتَ صَغِيرًا قِيلَ أَفْرَطَهُ وَلَيْسَ هَذَا التَّفْصِيلُ مُرَادًا هُنَا بَلِ الْمُرَادُ بِـ احْتَسَبَهُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِهِ رَاجِيًا الْأَجْرَ مِنَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ وَأَصْلُ الْحِسْبَةِ بِالْكَسْرِ الْأُجْرَةُ وَالِاحْتِسَابُ طَلَبُ الْأَجْرِ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى -
خَالِصًا وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ وَاحِدٌ يَلْتَحِقُ بِمَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَكَذَا اثْنَانِ وَأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ كَمَا مَضَى فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْفَضْلِ لِمَنْ مَاتَ لَهُ وَاحِدٌ، فَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْوَاحِدِ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ أَعْلَمَ بِأَنَّ حُكْمَ الْوَاحِدِ حُكْمُ مَا زَادَ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَ بِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ تَسْمِيَةُ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ وَالرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَقَعْ لِي إِذْ ذَاكَ وُقُوعُ السَّائِلِ عَنِ الْوَاحِدِ. وَقَدْ وَجَدْتُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مَحْمُودِ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ جَابِرٍ وَفِيهِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ، قَالَ مَحْمُودٌ: فَقُلْتُ لِجَابِرٍ: أَرَاكُمْ لَوْ قُلْتُمْ وَاحِدًا لَقَالَ وَاحِدٌ، قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ أَظُنُّ ذَاكَ وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ رَفَعَهُ: أَوْجَبَ ذُو الثَّلَاثَةِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: وَذُو الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: وَذُو الِاثْنَيْنِ. زَادَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ قَالَ: أَوْ وَاحِدٌ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.
وَلَهُ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ دُفِنَ لَهُ ثَلَاثَةٌ فَصَبَرَ .. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ فَقَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ: وَوَاحِدٌ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّ أَيْمَنَ مَنْ دَفَنَ وَاحِدًا فَصَبَرَ عَلَيْهِ وَاحْتَسَبَهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. وَفِي سَنَدِهِمَا نَاصِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الصَّفِيِّ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا أَمْ غَيْرَهُ وَقَدْ أَفْرَدَ وَرَتَّبَ الثَّوَابَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ مَاتَ لَهُ فَاحْتَسَبَهُ.
وَيُدْخِلُ في هَذَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ: أَتُحِبُّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفَقَدَهُ فَقَالَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ ابْنُهُ، فَقَالَ: أَلَا تُحِبُّ أَنْ لَا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ يَنْتَظِرُكَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِكُلِّنَا؟ قَالَ: بَلْ لِكُلِّكُمْ. وَسَنَدُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
7 - بَاب مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهَرَةِ الدُّنْيَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا
6425 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ، وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ كَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ فَوَافَقتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ، وَقَالَ: أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ، قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ.
6426 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ،
فَقَالَ: إِنِّي فَرَطُكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ، وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا.
6427 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ قِيلَ وَمَا بَرَكَاتُ الأَرْضِ قَالَ زَهْرَةُ الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَصَمَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ قَالَ أَنَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ لَقَدْ حَمِدْنَاهُ حِينَ طَلَعَ ذَلِكَ قَالَ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاَّ بِالْخَيْرِ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَإِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضِرَةِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ"
6428 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا محمد بن جعفر حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَمْرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ قَالَ "سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ فَمَا أَدْرِي قال النبي صلى الله عليه وسلم: بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ"
6429 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ"
6430 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ "قَالَ سَمِعْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى يَوْمَئِذٍ سَبْعًا فِي بَطْنِهِ وَقَالَ لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِالْمَوْتِ إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلاَّ التُّرَابَ"
6431 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ "قَالَ أَتَيْتُ خَبَّابًا وَهُوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ فَقَالَ إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ مَضَوْا لَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا شَيْئًا وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ شَيْئًا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلاَّ في التُّرَابَ"
6432 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ خَبَّابٍ رضي الله عنه قَالَ هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .. "
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا) الْمُرَادُ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا بَهْجَتُهَا وَنَضَارَتُهَا وَحُسْنُهَا وَالتَّنَافُسُ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْبَابِ.
ذكر فيه سبعة أحاديث: الحديث الأول:
قَوْلُهُ (إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ (عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ هُوَ عَمُّ إِسْمَاعِيلَ الرَّاوِي عَنْهُ).
قَوْلُهُ (قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هُوَ الزُّهْرِيُّ.
قَوْلُهُ (أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ) تَقَدَّمَ بَيَانُ نَسَبِهِ فِي الْجِزْيَةِ وَفِي السَّنَدِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ وَهُمْ مُوسَى، وَابْنُ شِهَابٍ، وَعُرْوَةُ وَصَحَابِيَّانِ وَهُمَا الْمِسْوَرُ، وَعَمْرٌو، وكُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ، وَكَذَا بَقِيَّةُ رِجَالِ الْإِسْنَادِ مِنْ إِسْمَاعِيلَ فَصَاعِدًا.
قَوْلُهُ (إِلَى الْبَحْرَيْنِ) سَقَطَ إِلَى مِنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ وَثَبَتَتْ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ.
قَوْلُهُ (فَوَاقَفَتْ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ فَوَافَقَتْ.
قَوْلُهُ (فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ) بِنَصْبِ الْفَقْرِ أَيْ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِتَقْدِيرِ ضَمِيرٍ أَيْ مَا الْفَقْرُ أَخْشَاهُ عَلَيْكُمْ وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ وَخَصَّ بَعْضُهُمْ جَوَازَ ذَلِكَ بِالشِّعْرِ وَهَذِهِ الْخَشْيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا عِلْمَهُ أَنَّ الدُّنْيَا سَتُفْتَحُ عَلَيْهِمْ وَيَحْصُلُ لَهُمُ الْغِنَى بِالْمَالِ وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ مِمَّا أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم بِوُقُوعِهِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فَوَقَعَ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَائِدَةُ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ هُنَا الِاهْتِمَامُ بِشَأْنِ الْفَقْرِ فَإِنَّ الْوَالِدَ الْمُشْفِقَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ كَانَ اهْتِمَامُهُ بِحَالِ وَلَدِهِ فِي الْمَالِ فَأَعْلَمَ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِي الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ كَالْأَبِ لَكِنَّ حَالَهُ فِي أَمْرِ الْمَالِ يُخَالِفُ حَالَ الْوَالِدِ وَأَنَّهُ لَا يَخْشَى عَلَيْهِمُ الْفَقْرَ كَمَا يَخْشَاهُ الْوَالِدُ وَلَكِنْ يَخْشَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْغِنَى الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَالْمُرَادُ بِالْفَقْرِ الْعَهْدِيُّ وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنْ قِلَّةِ الشَّيْءِ وَيَحْتَمِلُ الْجِنْسَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ مَضَرَّةَ الْفَقْرِ دُونَ مَضَرَّةِ الْغِنَى ; لِأَنَّ مَضَرَّةَ الْفَقْرِ دُنْيَوِيَّةٌ غَالِبًا وَمَضَرَّةَ الْغِنَى دِينِيَّةٌ غَالِبًا.
قَوْلُهُ (فَتَنَافَسُوهَا) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ فيهَا وَالْأَصْلُ فَتَتَنَافَسُوا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَالتَّنَافُسُ مِنَ الْمُنَافَسَةِ وَهِيَ الرَّغْبَةُ فِي الشَّيْءِ وَمَحَبَّةُ الِانْفِرَادِ بِهِ وَالْمُغَالَبَةُ عَلَيْهِ وَأَصْلُهَا مِنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ فِي نَوْعِهِ يُقَالُ نَافَسْتُ فِي الشَّيْءِ مُنَافَسَةً وَنَفَاسَةً وَنِفَاسًا وَنَفُسَ الشَّيْءُ بِالضَّمِّ نَفَاسَةً صَارَ مَرْغُوبًا فِيهِ وَنَفِسْتُ بِهِ بِالْكَسْرِ بَخِلْتُ وَنَفِسْتُ عَلَيْهِ لَمْ أَرَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ.
قَوْلُهُ (فَتُهْلِككُمْ) أَيْ لِأَنَّ الْمَالَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَتَرْتَاحُ النَّفْسُ لِطَلَبِهِ فَتُمْنَعُ مِنْهُ فَتَقَعُ الْعَدَاوَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْمُقَاتَلَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْهَلَاكِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ زَهْرَةَ الدُّنْيَا يَنْبَغِي لِمَنْ فُتِحَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهَا وَشَرِّ فِتْنَتِهَا فَلَا يَطْمَئِنُّ إِلَى زُخْرُفِهَا وَلَا يُنَافِسُ غَيْرَهُ فِيهَا وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغِنَى؛ لِأَنَّ فِتْنَةَ الدُّنْيَا مَقْرُونَةٌ بِالْغِنَى وَالْغِنَى مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي قَدْ تَجُرُّ إِلَى هَلَاكِ النَّفْسِ غَالِبًا وَالْفَقِيرُ آمِنٌ مِنْ ذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِي صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَعَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ. وَقَوْلُهُ أَنَا فَرَطُكُمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ أَيِ السَّابِقُ إِلَيْهِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ:
قَوْلُهُ (إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَقَدْ وَافَقَهُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مَالِكٍ بِتَمَامِهِ ابْنُ وَهْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو قُرَّةَ، وَرَوَاهُ مَعْنُ بْنُ عِيسَى، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مَالِكٍ مُخْتَصَرًا كُلٌّ مِنْهُمَا طَرَفًا وَلَيْسَ هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ) فِي رِوَايَةِ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
الْمَاضِيَةِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ. وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ: إِنِّي مِمَّا أَخَافُ، وَمَا فِي قَوْلِهِ مَا يُفْتَحُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ لِأَنَّهَا اسْمُ إِنَّ وَمِمَّا فِي قَوْلِهِ إِنَّ مِمَّا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ؛ لِأَنَّهَا الْخَبَرُ.
قَوْلُهُ (زَهْرَةُ الدُّنْيَا) زَادَ هِلَالٌ وَزِينَتُهَا وَهُوَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَزَهْرَةُ الدُّنْيَا بِفَتْحِ الزَّاي وَسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَدْ قُرِئَ فِي الشَّاذِّ عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ بِفَتْحِ الْهَاءِ فَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى مِثْلُ جَهْرَةٍ وَجَهَرَةٍ وَقِيلَ بِالتَّحْرِيكِ جَمْعُ زَاهِرٍ كَفَاجِرِ وَفَجَرَةٍ وَالْمُرَادُ بِالزَّهْرَةِ الزِّينَةُ وَالْبَهْجَةُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَالزَّهْرَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ زَهْرَةِ الشَّجَرِ وَهُوَ نَوْرُهَا بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُرَادُ مَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَتَاعِ وَالْعَيْنِ وَالثِّيَابِ وَالزُّرُوعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَفْتَخِرُ النَّاسُ بِحُسْنِهِ مَعَ قِلَّةِ الْبَقَاءِ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ (هَلْ يَأْتِي) فِي رِوَايَةِ هِلَالٍ أَوَ يَأْتِي وَهِيَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ أَتَصِيرُ النِّعْمَةُ عُقُوبَةً؛ لِأَنَّ زَهْرَةَ الدُّنْيَا نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَهَلْ تَعُودُ هَذِهِ النِّعْمَةُ نِقْمَةً؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِرْشَادٍ لَا إِنْكَارٍ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالشَّرِّ صِلَةٌ لِـ يَأْتِي أَيْ هَلْ يَسْتَجْلِبُ الْخَيْرُ الشَّرَّ؟
قَوْلُهُ (ظَنَنْتُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ظَنَنَّا وَفِي رِوَايَةِ هِلَالٍ فَرُئِينَا بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأُرِينَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ.
قَوْلُهُ (يَنْزِلُ عَلَيْهِ) أَيِ الْوَحْيُ، وَكَأَنَّهُمْ فَهِمُوا ذَلِكَ بِالْقَرِينَةِ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهُ بِهَا عِنْدَمَا يُوحَى إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ) فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ الْعَرَقَ وَفِي رِوَايَةِ هِلَالٍ فَيَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ هُوَ الْعَرَقُ، وَقِيلَ: الْكَثِيرُ، وَقِيلَ: عَرَقُ الْحُمَّى، وَأَصْلُ الرَّحْضِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ الْغَسِلُ، وَلِهَذَا فَسَّرَهُ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ عَرَقٌ يَرْحَضُ الْجِلْدَ لِكَثْرَتِهِ.
قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَقَدْ حَمِدْنَاهُ حِينَ طَلَعَ لِذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي حِينَ طَلَعَ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ هِلَالٍ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ لَامُوهُ أَوَّلًا حَيْثُ رَأَوْا سُكُوتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَظَنُّوا أَنَّهُ أَغْضَبَهُ ثُمَّ حَمِدُوهُ آخِرًا لَمَّا رَأَوْا مَسْأَلَتَهُ سَبَبًا لِاسْتِفَادَةِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا قَوْلُهُ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ فَأَخَذُوهُ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ.
قَوْلُهُ (لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ تَكْرَارُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي رِوَايَةِ هِلَالٍ إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الرِّزْقَ وَلَوْ كَثُرَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَيْرِ إِنَّمَا يَعْرِضُ لَهُ الشَّرُّ بِعَارِضِ الْبُخْلِ بِهِ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّهُ وَالْإِسْرَافُ فِي إِنْفَاقِهِ فِيمَا لَمْ يُشْرَعْ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَضَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا فَلَا يَكُونُ شَرًّا وَبِالْعَكْسِ وَلَكِنْ يُخْشَى عَلَى مَنْ رُزِقَ الْخَيْرَ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ فِي تَصَرُّفِهِ فِيهِ مَا يَجْلُبُ لَهُ الشَّرَّ وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَوَخَيْرٌ هُوَ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ خَيْرًا حَقِيقِيًّا وَإِنْ سُمِّيَ خَيْرًا لِأَنَّ الْخَيْرَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الْحَقِّ كَمَا أَنَّ الشَّرَّ الْحَقِيقِيَّ فِيهِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الْإِمْسَاكِ عَنِ الْحَقِّ وَالْإِخْرَاجِ فِي الْبَاطِلِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ كَضَرْبِ الْمَثَلِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ.
قَوْلُهُ (إِنَّ هَذَا الْمَالَ) فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَلَكِنَّ هَذَا الْمَالَ .. إِلَخْ وَمَعْنَاهُ أَنَّ صُورَةَ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ مُونِقَةٌ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ مُشْرِقٍ نَاضِرٍ أَخْضَرَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَوْلُهُ الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ لَيْسَ هُوَ صِفَةَ الْمَالِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّشْبِيهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: الْمَالُ كَالْبَقْلَةِ الْخَضْرَاءِ الْحُلْوَةِ، أَوِ التَّاءِ فِي قَوْلِهِ خَضِرَةٌ وَحُلْوَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْمَالُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، أَوْ عَلَى مَعْنَى فَائِدَةِ الْمَالِ، أَيْ أَنَّ الْحَيَاةَ بِهِ أَوِ الْعِيشَةَ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَالِ هُنَا الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ زِينَتِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا الْمُخَرَّجِ فِي السُّنَنِ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَيَتَوَافَقُ الْحَدِيثَانِ، وَيَحْتَمِلُ
أَنْ تَكُونَ التَّاءُ فِيهِمَا لِلْمُبَالَغَةِ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ) أَيِ الْجَدْوَلُ وَإِسْنَادُ الْإِثْبَاتِ إِلَيْهِ مَجَازِيٌّ وَالْمُنْبِتُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ - تَعَالَى -، وَفِي رِوَايَةِ هِلَالٍ وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ وَمِمَّا فِي قَوْلِهِ مِمَّا يُنْبِتُ لِلتَّكْثِيرِ، وَلَيْسَتْ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ؛ لِتُوَافِقَ رِوَايَةَ كُلَّ مَا أَنْبَتَ وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ وَقَعَ كَالْمَثَلِ لِلدُّنْيَا، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي مُرْسَلِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ.
قَوْلُهُ (يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ) أَمَّا حَبَطًا فَبِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالطَّاءُ مُهْمَلَةٌ أَيْضًا وَالْحَبَطُ انْتِفَاخُ الْبَطْنِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ يُقَالُ حَبِطَتِ الدَّابَّةُ تَحْبَطُ حَبَطًا إِذَا أَصَابَتْ مَرْعًى طَيِّبًا فَأَمْعَنَتْ فِي الْأَكْلِ حَتَّى تَنْتَفِخَ فَتَمُوتَ، وَرُوِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ التَّخَبُّطِ وَهُوَ الِاضْطِرَابُ، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ. وَقَوْلُهُ يُلِمُّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يُقَرِّبُ مِنَ الْهَلَاكِ.
قَوْلُهُ (إِلَّا) بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخفِيفِ اللَّامِ لِلِاسْتِفْتَاحِ.
قَوْلُهُ (آكِلَةُ) بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْكَافِ، الْخَضِرِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْكَلَأِ يُعْجِبُ الْمَاشِيَةَ وَوَاحِدُهُ خَضِرَةٌ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ وَزِيَادَةِ الْهَاءِ فِي آخِرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ الْخَضْرَاءِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَبِالْمَدِّ، وَلِغَيْرِهِمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ جَمْعُ خَضِرَةٍ.
قَوْلُهُ (امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا) تَثْنِيَةُ خَاصِرَةٍ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَصَادٍ مُهْمَلَةٍ، وَهُمَا جَانِبَا الْبَطْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ خَاصِرَتُهَا بِالْإِفْرَادِ.
قَوْلُهُ (أَتَتْ) بِمُثَنَّاةٍ أَيْ جَاءَتْ، وَفِي رِوَايَةِ هِلَالٍ اسْتَقْبَلَتْ. قَوْلُهُ (اِجْتَرَّتْ) بِالْجِيمِ أَيِ اسْتَرْفَعَتْ مَا أَدْخَلَتْهُ فِي كَرِشِهَا مِنَ الْعَلَفِ فَأَعَادَتْ مَضْغَهُ.
قَوْلُهُ (وَثَلَطَتْ) بِمُثَلَّثَةٍ وَلَامٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَضَبَطَهَا ابْنُ التِّينِ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا رَقِيقًا زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا إِذَا شَبِعَتْ فَثَقُلَ عَلَيْهَا مَا أَكَلَتْ تَحَيَّلَتْ فِي دَفْعِهِ بِأَنْ تَجْتَرَّ فَيَزْدَادُ نُعُومَةً ثُمَّ تَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ فَتَحْمَى بِهَا فَيَسْهُلُ خُرُوجُهُ فَإِذَا خَرَجَ زَالَ الِانْتِفَاخُ فَسَلِمَتْ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الِانْتِفَاخَ يَقْتُلُهَا سَرِيعًا.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ إِذَا فُرِّقَ لَمْ يَكَدْ يَظْهَرُ مَعْنَاهُ وَفِيهِ مَثَلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْمُفَرِّطِ فِي جَمِعِ الدُّنْيَا الْمَانِعِ مِنْ إِخْرَاجِهَا فِي وَجْهِهَا وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ أَيِ الَّذِي يَقْتُلُ حَبَطًا.
وَالثَّانِي: الْمُقْتَصِدُ فِي جَمْعِهَا وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهَا وَهُوَ آكِلَةُ الْخَضِرِ فَإِنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ مِنْ أَحْرَارِ الْبُقُولِ الَّتِي يُنْبِتُهَا الرَّبِيعُ وَلَكِنَّهَا الْحَبَّةُ وَالْحَبَّةُ مَا فَوْقَ الْبَقْلِ وَدُونَ الشَّجَرِ الَّتِي تَرْعَاهَا الْمَوَاشِي بَعْدَ هَيْجِ الْبُقُولِ فَضَرَبَ آكِلَةَ الْخَضِرِ مِنَ الْمَوَاشِي مَثَلًا لِمَنْ يَقْتَصِدُ فِي أَخْذِ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا وَلَا يَحْمِلُهُ الْحِرْصُ عَلَى أَخْذِهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا وَلَا مَنْعَهَا مِنْ مُسْتَحِقِّهَا فَهُوَ يَنْجُو مِنْ وَبَالِهَا كَمَا نَجَتْ آكِلَةُ الْخَضِرِ وَأَكْثَرُ مَا تَحْبَطُ الْمَاشِيَةُ إِذَا انْحَبَسَ رَجِيعُهَا فِي بَطْنِهَا.
وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: آكِلَةُ الْخَضِرِ هِيَ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي أَلِفَ الْمُخَاطَبُونَ أَحْوَالَهَا فِي سَوْمِهَا وَرَعْيِهَا وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الْبَشَمِ وَغَيْرِهِ وَالْخَضِرُ وَالنَّبَاتُ الْأَخْضَرُ وَقِيلَ حِرَارُ الْعُشْبِ الَّتِي تَسْتَلِذُّ الْمَاشِيَةُ أَكْلَهُ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهُ.
وَقِيلَ: هُوَ مَا يَنْبُتُ بَعْدَ إِدْرَاكِ الْعُشْبِ وَهِيَاجِهِ فَإِنَّ الْمَاشِيَةَ تَقْتَطِفُ مِنْهُ مَثَلًا شَيْئًا فَشَيْئًا وَلَا يُصِيبُهَا مِنْهُ أَلَمٌ وَهَذَا الْأَخِيرُ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْحَبَطِ لِلْجَمِيعِ إِلَّا لِمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ الْمُدَاوَمَةُ حَتَّى انْدَفَعَ عَنْهُ مَا يَضُرُّهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ آكِلَةَ الْخَضِرِ لَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ أَكْلِهِ ضَرَرٌ أَلْبَتَّةَ وَالْمُسْتَثْنَى آكِلَةُ الْخَضِرِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ لَا كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِأَنَّهُ آكِلَةُ الْخَضِرِ وَلَعَلَّ قَائِلَهُ وَقَعَتْ لَهُ رِوَايَةٌ فِيهَا يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةُ الْخَضِرِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ فَشَرَحَهُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الِاخْتِصَارِ.
قَوْلُهُ (فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ) هُوَ فِي رِوَايَةِ هِلَالٍ فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ) فِي رِوَايَةِ هِلَالٍ وَأَنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ.
قَوْلُهُ (كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ) زَادَ هِلَالٌ وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً بِأَنْ يُنْطِقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مَجَازًا وَالْمُرَادُ شَهَادَةُ الْمَلِكِ الْمُوَكَّلِ بِهِ وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ التَّمْثِيلُ لِثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ:
لِأَنَّ الْمَاشِيَةَ إِذَا رَعَتِ الْخَضِرَ لِلتَّغْذِيَةِ إِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى الْكِفَايَةِ وَإِمَّا أَنْ تَسْتَكْثِرَ الْأَوَّلُ الزُّهَّادُ.
وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ يَحْتَالَ عَلَى إِخْرَاجِ مَا لَوْ بَقِيَ لَضَرَّ فَإِذَا أَخْرَجَهُ زَالَ الضُّرُّ وَاسْتَمَرَّ النَّفْعُ وَإِمَّا أَنْ يُهْمِلَ ذَلِكَ الْأَوَّلُ الْعَامِلُونَ فِي جَمِيعِ الدُّنْيَا بِمَا يَجِبُ مِنْ إِمْسَاكٍ وَبَذْلٍ، وَالثَّانِي الْعَامِلُونَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: فَمَنْ أَكَلَ مِنْهُ أَكْلَ مُسْتَلِذٍّ مُفْرِطٍ مُنْهَمِكٍ حَتَّى تَنْتَفِخَ أَضْلَاعُهُ وَلَا يُقْلِعَ فَيُسْرِعُ إِلَيْهِ الْهَلَاكُ وَمَنْ أَكَلَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ أَخَذَ فِي الِاحْتِيَالِ لِدَفْعِ الدَّاءِ بَعْدَ أَنِ اسْتَحْكَمَ فَغَلَبَهُ فَأَهْلَكَهُ وَمَنْ أَكَلَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ بَادَرَ إِلَى إِزَالَةِ مَا يَضُرُّهُ وَتحِيلُ فِي دَفْعِهِ حَتَّى انْهَضَمَ فَيَسْلَمُ وَمَنْ أَكَلَ غَيْرَ مُفْرِطٍ وَلَا مُنْهَمِكٍ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ وَيُمْسِكُ رَمَقَهُ، فَالْأَوَّلُ مِثَالُ الْكَافِرِ، وَالثَّانِي مِثَالُ الْعَاصِي الْغَافِلِ عَنِ الْإِقْلَاعِ وَالتَّوْبَةِ إِلَّا عِنْدَ فَوْتِهَا، وَالثَّالِثُ مِثَالٌ لِلْمُخَلِّطِ الْمُبَادِرِ لِلتَّوْبَةِ حَيْثُ تَكُونُ مَقْبُولَةً، وَالرَّابِعُ مِثَالُ الزَّاهِدِ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِ فِي الْآخِرَةِ. وَبَعْضُهَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الْحَدِيثِ وَأَخْذُهُ مِنْهُ مُحْتَمَلٌ.
وَقَوْلُهُ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ كَالتَّذْيِيلِ لِلْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ إِنْ عَمِلَ فِيهِ بِالْحَقِّ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَكْسِهِ وَهُوَ بِئْسَ الرَّفِيقُ، هُوَ لِمَنْ عَمِلَ فِيهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ ذُكِرَ فِي مُقَابَلَةِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ وَقَوْلُهُ: وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ أَيْ حُجَّةً يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِحِرْصِهِ وَإِسْرَافِهِ وَإِنْفَاقِهِ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ.
وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ وُجُوهٌ مِنَ التَّشْبِيهَاتِ بَدِيعَةٌ أَوَّلُهَا تَشْبِيهُ الْمَالِ وَنُمُوِّهِ بِالنَّبَاتِ وَظُهُورِهِ، ثَانِيهَا تَشْبِيهُ الْمُنْهَمِكِ فِي الِاكْتِسَابِ وَالْأَسْبَابِ بِالْبَهَائِمِ الْمُنْهَمِكَةِ فِي الْأَعْشَابِ، وَثَالِثُهَا تَشْبِيهُ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ وَالِادِّخَارُ لَهُ بِالشَّرَهِ فِي الْأَكْلِ وَالِامْتِلَاءِ مِنْهُ، وَرَابِعُهَا تَشْبِيهُ الْخَارِجِ مِنَ الْمَالِ مَعَ عَظَمَتِهِ فِي النُّفُوسِ حَتَّى أَدَّى إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْبُخْلِ بِهِ بِمَا تَطْرَحُهُ الْبَهِيمَةُ مِنَ السَّلْحِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ بَدِيعَةٌ إِلَى اسْتِقْذَارِهِ شَرْعًا، وَخَامِسُهَا تَشْبِيهُ الْمُتَقَاعِدِ عَنْ جَمْعِهِ وَضَمِّهِ بِالشَّاةِ إِذَا اسْتَرَاحَتْ وَحَطَّتْ جَانِبَهَا مُسْتَقْبِلَةً عَيْنَ الشَّمْسِ فَإِنَّهَا مِنْ أَحْسَنِ حَالَاتِهَا سُكُونًا وَسَكِينَةً وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِدْرَاكِهَا لِمَصَالِحِهَا، وَسَادِسُهَا تَشْبِيهُ مَوْتِ الْجَامِعِ الْمَانِعِ بِمَوْتِ الْبَهِيمَةِ الْغَافِلَةِ عَنْ دَفْعِ مَا يَضُرُّهَا، وَسَابِعُهَا تَشْبِيهُ الْمَالِ بِالصَّاحِبِ الَّذِي لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْقَلِبَ عَدُوًّا فَإِنَّ الْمَالَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحْرَزَ وَيُشَدَّ وَثَاقُهُ حُبًّا لَهُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي مَنْعَهُ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِعِقَابِ مُقْتَنِيهِ، وَثَامِنُهَا تَشْبِيهُ آخِذِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ بِالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: مَثَلُ الْمَالِ مَثَلُ الْحَيَّةِ الَّتِي فِيهَا تِرْيَاقٌ نَافِعٌ وَسُمٌّ نَاقِعٌ فَإِنْ أَصَابَهَا الْعَارِفُ الَّذِي يَحْتَرِزُ عَنْ شَرِّهَا وَيَعْرِفُ اسْتِخْرَاجَ تِرْيَاقِهَا كَانَ نِعْمَةً وَإِنْ أَصَابَهَا الْغَبِيُّ فَقَدْ لَقِيَ الْبَلَاءَ الْمُهْلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ جُلُوسُ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ فِي غَيْرِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا، وَفِيهِ جُلُوسُ النَّاسِ حَوْلَهُ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْمُنَافَسَةِ فِي الدُّنْيَا. وَفِيهِ اسْتِفْهَامُ الْعَالِمِ عَمَّا يُشْكِلُ وَطَلَبُ الدَّلِيلِ لِدَفْعِ الْمُعَارَضَةِ. وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَالِ خَيْرًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} .
وَفِيهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِالْحِكْمَةِ وَإِنْ وَقَعَ فِي اللَّفْظِ ذِكْرُ مَا يُسْتَهْجَنُ كَالْبَوْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُغْتَفَرُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذِكْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي اللَّائِقَةِ بِالْمَقَامِ، وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْجَوَابِ عَمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ وَهَذَا عَلَى مَا ظَنَّهُ الصَّحَابَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ لِيَأْتِيَ بِالْعِبَارَةِ الْوَجِيزَةِ الْجَامِعَةِ الْمُفْهِمَةِ وَقَدْ عَدَّ ابْنُ دُرَيْدٍ هَذَا الْحَدِيثَ وَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ مِنَ الْكَلَامِ الْمُفْرَدِ الْوَجِيزِ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَعْنَاهُ، وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْهُ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَرْكُ الْعَجَلَةِ فِي الْجَوَابِ إِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّلِ، وَفِيهِ لَوْمُ مَنْ ظُنَّ بِهِ تَعَنُّتٌ فِي السُّؤَالِ وَحَمْدُ مَنْ أَجَادَ فِيهِ،
وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُ مِنَ الْوَحْيِ قَوْلُهُ يَمْسَحُ الْعَرَقَ فَإِنَّهَا كَانَتْ عَادَتَهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا، وَفِيهِ تَفْضِيلُ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ لِمَنْ لَمْ يُرَجِّحْ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ رَجَّحَ الْغَنِيَّ عَلَى الْفَقِيرِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ شَرَحَ قَوْلَهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْخَيْرَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ، لَكِنَّ هَذِهِ الزَّهْرَةَ لَيْسَتْ خَيْرًا حَقِيقِيًّا لِمَا فِيهَا مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْمُنَافَسَةِ وَالِاشْتِغَالِ عَنْ كَمَالِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُجَّةً لِمَنْ يُفَضِّلُ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى إِعْطَاءِ الْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُكْتَسِبَ لِلْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ لَا يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ لِتَشْبِيهِهِ بِالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَفِيهِ ذَمُّ الْإِسْرَافِ وَكَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالنَّهَمِ فِيهِ، وَأَنَّ اكْتِسَابَ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ وَكَذَا إِمْسَاكُهُ عَنْ إِخْرَاجِ الْحَقِّ مِنْهُ سَبَبٌ لِمَحْقِهِ فَيَصِيرُ غَيْرَ مُبَارَكٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} .
قَالَ عِمْرَانُ: فَمَا أَدْرِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا: ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلَا يَوفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ:
قَوْلُهُ (سَمِعْتُ أَبَا جَمْرَةَ) هُوَ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ وَهُوَ الضُّبَعِيُّ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ، وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ حَدِيثًا لَكِنَّهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ دُونَ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ لِشُعْبَةَ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ إِلَّا عَنْ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ. وَزَهْدَمٌ بِالزَّايِ وَزْنُ جَعْفَرٍ وَمُضَرِّبٌ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ وَالتَّشْدِيدِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الشَّهَادَاتِ وَفِي أَوَّلِ فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، وَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ:
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ السُّكَّرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَبِيدَةُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ خَبَّابٍ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، فِي الْأُولَى زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ حَدِيثٍ وَاحِدٍ ذَكَرَ فِيهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَذْكُرْ بَعْضٌ وَأَبْهَمَ شَيْئًا قَالَهُ شُعْبَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ لَهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْمَرْضَى قَبْلَ كِتَابِ الطِّبِّ وَشُرِحَ هُنَاكَ وَزَادَ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ بِهَذَا السَّنَدِ فِي هَذَا الْمَتْنِ فَقَالَ فِي أَوَّلِهِ دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ نَعُودُهُ وَهُوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ فَقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مَا يَجْعَلُهُ فِي هَذَا التُّرَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ هُنَاكَ. وَإِسْمَاعِيلُ فِي الطَّرِيقَيْنِ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ مِنْ وَكِيعٍ فَصَاعِدًا كُوفِيُّونَ، وَيَحْيَى فِي السَّنَدِ الثَّانِي هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَهُوَ بَصْرِيٌّ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ خَبَّابٍ أَيْضًا، وَرِجَالُهُ مِنْ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فَصَاعِدًا كُوفِيُّونَ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ (عَنْ شَقِيقٍ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ خَبَّابٍ) تَقَدَّمَ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ الْأَعْمَشِ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، حَدَّثَنَا خَبَّابٌ.
قَوْلُهُ (هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَصَّهُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا ضَمِيرٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الرَّاوِيَ قَصَّ الْحَدِيثَ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ بِتَمَامِهِ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا وَقَرَنَهُ بِرِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ، وَقَالَ بَعْدَ الْمَذْكُورِ هُنَا: فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْجَنَائِزِ وَأَحَلْتُ شَرْحَهُ عَلَى مَا هُنَا، وَذُكِرَ فِي الْهِجْرَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَفِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَحَلْتُ بِهِ فِي الْهِجْرَةِ عَلَى الْمَغَازِي وَلَمْ يَتَيَسَّرْ فِي الْمَغَازِي التَّعَرُّضُ لِشَرْحِهِ ذُهُولًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَسَيَأْتِي بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ فِي بَابِ فَضْلِ الْفَقْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
8 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، جَمْعُهُ سُعُرٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ:{الْغَرُورُ} الشَّيْطَانُ.
6433 -
حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ ابْنَ أَبَانَ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِطَهُورٍ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمَقَاعِدِ فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَغْتَرُّوا.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ {السَّعِيرِ}) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَتَيْنِ.
قَوْلُهُ (جَمْعُهُ سُعُرٌ) بِضَمَّتَيْنِ يَعْنِي السَّعِيرَ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ السَّعْرِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَهُوَ الشِّهَابُ مِنَ النَّارِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْغَرُورُ الشَّيْطَانُ) ثَبَتَ هَذَا الْأَثَرُ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، وَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ تَقُولُ غَرَرْتُ فُلَانًا أَصَبْتُ غُرَّتَهُ وَنِلْتُ مَا أَرَدْتُ مِنْهُ، وَالْغِرَّةُ بِالْكَسْرِ غَفْلَةٌ فِي الْيَقَظَةِ، وَالْغَرُورُ كُلُّ مَا يَغُرُّ الْإِنْسَانَ، وَإِنَّمَا فُسِّرَ بِالشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ رَأْسٌ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَ (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَ (مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ التَّيْمِيُّ، وَاسْمُ جَدِّهِ الْحَارِثُ بْنُ خَالِدٍ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ.
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنِي مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ ابْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، وَعُثْمَانُ جَدُّهُ هُوَ أَخُو طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَوَالِدُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَحَابِيٌّ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَكَانَ يُلَقَّبُ شَارِبَ الذَّهَبِ وَقُتِلَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ. هَذِهِ رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بَدَلَ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ. قَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ: رِوَايَةُ الْوَلِيدِ أَصْوَبُ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ شَيْبَانَ أَرْجَحُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَافَقَا مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ فِي رِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقَانِ مَحْفُوظَيْنِ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبُ حَدِيثٍ فَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُعَاذٍ وَمِنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ رَهْطِهِ وَمِنْ بَلَدِهِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَأَمَّا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ فَلَيْسَ مِنْ رَهْطِهِ وَلَا مِنْ بَلَدِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (أَنَّ ابْنَ أَبَانٍ أَخْبَرَهُ) قَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ وَالْكَافَّةِ أَنَّ ابْنَ أَبَانٍ أَخْبَرَهُ وَوَقَعَ لِابْنِ السَّكَنِ أَنَّ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ، وَوَقَعَ لِلجُّرْجَانِيِّ وَحْدَهُ أَنَّ أَبَان أَخْبَرَهُ وَهُوَ خَطَأٌ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ ابْنَ أَبَانٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ بِسَنَدِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ أَخْبَرَهُ.
قَوْلُهُ (فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ) فِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ حُمْرَانَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، وَتَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُمْرَانَ بَيَانُ صِفَةِ الْإِسْبَاغِ الْمَذْكُورِ وَالتَّثْلِيثِ فِيهِ وَقَوْلُ عُرْوَةَ إِنَّ هَذَا أَسْبَغَ الْوُضُوءَ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ قَالَ مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ) تَقَدَّمَ هُنَاكَ تَوْجِيهُهُ وَتُعُقِّبَ مَنْ نَفَى وُرُودَ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ مِثْلَ وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي وُرُودِهَا بِلَفْظِ نَحْوَ التَّعَذُّرُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ (ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ) هَكَذَا
أَطْلَقَ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ نَحْوُ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ الْمَاضِيَةِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَقَيَّدَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ حُمْرَانَ بِلَفْظِ ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَصَلَّاهَا مَعَ النَّاسِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حُمْرَانَ عِنْدَهُ فَيُصَلِّي صَلَاةً وَفِي أُخْرَى لَهُ عَنْهُ فَيُصَلِّي الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَزَادَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَلِيهَا أَيِ الَّتِي سَبَقَتْهَا، وَفِيهِ تَقْيِيدٌ لِمَا أَطْلَقَ فِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَإِنَّ التَّقَدُّمَ خَاصٌّ بِالزَّمَانِ الَّذِي بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَخْرَةَ، عَنْ حُمْرَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّرُ فَيُتِمُّ الطَّهُورَ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِ فَيُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُنَّ، وَتَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ، عَنْ حُمْرَانَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عُثْمَانَ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ تَقْيِيدُهُ بِمَنْ لَمْ يَغْشَ الْكَبِيرَةَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ تَوْجِيهَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَاضِحًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِحُمْرَانَ عَنْ عُثْمَانَ حَدِيثَيْنِ فِي هَذَا: أَحَدُهُمَا: مُقَيَّدٌ بِتَرْكِ حَدِيثِ النَّفْسِ وَذَلِكَ فِي صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْمَكْتُوبَةِ، وَالْآخَرُ: فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِتَرْكِ حَدِيثِ النَّفْسِ.
قَوْلُهُ (قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَغْتَرُّوا) قَدَّمْتُ شَرْحَهُ فِي الطَّهَارَةِ، وَحَاصِلُهُ: لَا تَحْمِلُوا الْغُفْرَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَتَسْتَرْسِلُوا فِي الذُّنُوبِ اتِّكَالًا عَلَى غُفْرَانِهَا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ هِيَ الْمَقْبُولَةُ، وَلَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وظَهَرَ لِي جَوَابٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُكَفَّرَ بِالصَّلَاةِ هِيَ الصَّغَائِرُ فَلَا تَغْتَرُّوا فَتَعْمَلُوا الْكَبِيرَةَ بِنَاءً عَلَى تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالصَّغَائِرِ، أَوْ لَا تَسْتَكْثِرُوا مِنَ الصَّغَائِرِ فَإِنَّهَا بِالْإِصْرَارِ تُعْطَى حُكْمَ الْكَبِيرَةِ فَلَا يُكَفِّرُهَا مَا يُكَفِّرُ الصَّغِيرَةَ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِأَهْلِ الطَّاعَةِ فَلَا يَنَالُهُ مَنْ هُوَ مُرْتَبِكٌ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
9 - بَاب ذَهَابِ الصَّالِحِينَ، وَيُقَالُ: الذِّهَابُ الْمَطَرُ.
6434 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوْ التَّمْرِ، لَا يُبَالِيهِمْ اللَّهُ بَالَةً.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: يُقَالُ حُفَالَةٌ وَحُثَالَةٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ ذَهَابِ الصَّالِحِينَ) أَيْ مَوْتُهُمْ.
قَوْلُهُ (وَيُقَالُ الذَّهَابُ الْمَطَرُ) ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ وَحْدَهُ، وَمُرَادُهُ أَنَّ لَفْظَ الذَّهَابِ مُشْتَرَكٌ عَلَى الْمُضِيِّ وَعَلَى الْمَطَرِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الذَّهَابُ الْأَمْطَارُ اللَّيِّنَةُ وَهُوَ جَمْعُ ذِهْبَةٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ) هُوَ مِنْ قُدَمَاءِ مَشَايِخِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ.
قَوْلُهُ (عَنْ بَيَانٍ) بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ خَفِيفَةٍ وَهُوَ ابْنُ بِشْرٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَمِرْدَاسٌ الْأَسْلَمِيُّ هُوَ ابْنُ مَالِكٍ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ عِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ بَيَانٍ، وَتَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَيِ الَّذِينَ بَايَعُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الْوُحْدَانِ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ صَنَّفَ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَوَقَعَ فِي التَّهْذِيبِ لِلْمِزِّيِّ فِي تَرْجَمَةِ مِرْدَاسٍ هَذَا أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ زِيَادُ بْنُ عَلَاقَةَ أَيْضًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مِرْدَاسٌ آخَرُ أَفْرَدَهُ أَبُو
عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ فِي الصَّحَابَةِ عَنْ مِرْدَاسِ بْنِ مَالِكٍ وَقَالَ: إِنَّهُ مِرْدَاسُ بْنُ غَرْوَةَ. وَمِمَّنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْبُخَارِيُّ، وَالرَّازِيُّ، وَالْبُسْتِيُّ وَرَجَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ.
قَوْلُهُ (يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ يُقْبَضُ بَدَلَ يَذْهَبُ، وَالْمُرَادُ قَبْضُ أَرْوَاحِهِمْ، وَعِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الطَّحَّانِ، عَنْ بَيَانٍ: يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ أَسْلَافًا وَيُقْبَضُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ. وَالثَّانِيَةُ تَفْسِيرٌ لِلْأُولَى.
قَوْلُهُ (وَيَبْقَى حُثَالَةٌ أَوْ حُفَالَةٌ) هُوَ شَكٌّ هَلْ هِيَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ أَوْ بِالْفَاءِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فِي الْحَالَيْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ حُثَالَةٌ بِالْمُثَلَّثَةِ جَزْمًا.
قَوْلُهُ (كَحُثَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ) يَحْتَمِلُ الشَّكَّ وَيَحْتَمِلُ التَّنْوِيعَ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ كَحُثَالَةِ الشَّعِيرِ فَقَطْ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا مِثْلُ حُثَالَةِ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ مِنْ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْبُخَارِيُّ حُثَالَةٌ وَحُفَالَةٌ؛ يَعْنِي أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحُثَالَةُ بِالْفَاءِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ الرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَقِيلَ: آخِرُ مَا يَبْقَى مِنَ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَأَرْدَؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْحُثَالَةُ سَقَطُ النَّاسِ، وَأَصْلُهَا مَا يَتَسَاقَطُ مِنْ قُشُورِ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَا يَسْقُطُ مِنَ الشَّعِيرِ عِنْدَ الْغَرْبَلَةِ، وَيَبْقَى مِنَ التَّمْرِ بَعْدَ الْأَكْلِ، وَوَجَدْتُ لِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدًا مِنْ رِوَايَةِ الْفَزَارِيَّةِ امْرَأَةِ عُمَرَ بِلَفْظِ: تَذْهَبُونَ الْخَيِّرُ فَالْخَيِّرُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ التَّمْرِ، يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ نَزْوَ الْمَعْزِ، أَخْرَجَهُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِ مِصْرَ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِرَفْعِهِ لَكِنْ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ.
قَوْلُهُ: (لَا يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ لَا يَرْفَعُ لَهُمْ قَدْرًا، وَلَا يُقِيمُ لَهُمْ وَزْنًا، يُقَالُ: بَالَيْتُ بِفُلَانٍ وَمَا بَالَيْتُ بِهِ مُبَالَاةً وَبَالِيَةً وَبَالَةً، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَصْلُ بَالَةٍ بَالِيَةٍ فَحُذِفَتِ الْيَاءُ تَخْفِيفًا، وَتُعُقِّبَ قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ بِأَنَّ بَالِيَةً لَيْسَ مَصْدَرًا لِبَالَيْتُ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْمُ مَصْدَرِهِ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: سَمِعْتُهُ فِي الْوَقْفِ بَالَةً، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ هُوَ فِي الدَّرْجِ، وَالْأَصْلُ بَالَيْتُهُ بَالَاةً فَكَأَنَّ الْأَلِفَ حُذِفَتْ فِي الْوَقْفِ كَذَا قَالَ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ فِي مَصْدَرِهِ بَالَاةً. قَالَ: وَلَوْ عَلِمَ الْقَابِسِيُّ مَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ بَالَةً مَصْدَرٌ مُصَارٌ لَمَا احْتَاجَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ.
قُلْتُ: تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ بَيَانٍ بِلَفْظِ: لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ شَيْئًا، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ: لَا يُبَالِي اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ خَالِدٍ الطَّحَّانِ، وَعَنْ هُنَا بِمَعْنَى الْبَاءِ، يُقَالُ: مَا بَالَيْتُ بِهِ وَمَا بَلَيْتُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: يَعْبَأُ بِالْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مَهْمُوزٌ، أَيْ لَا يُبَالِي، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعِبْءِ بِالْكَسْرِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ مَهْمُوزٌ، وَهُوَ الثِّقَلُ، فَكَأَنَّ مَعْنَى لَا يَعْبَأُ بِهِ أَنَّهُ لَا وَزْنَ لَهُ عِنْدَهُ، وَوَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْفَزَارِيَّةِ الْمَذْكُورِ آنِفًا: عَلَى أُولَئِكَ تَقُومُ السَّاعَةُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَوْتَ الصَّالِحِينَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَفِيهِ النَّدْبُ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَصِيرَ مَنْ خَالَفَهُمْ مِمَّنْ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ.
وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ انْقِرَاضُ أَهْلِ الْخَيْرِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا أَهْلُ الشَّرِّ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ خُلُوِّ الْأَرْضِ مِنْ عَالِمٍ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا أَهْلُ الْجَهْلِ صِرْفًا، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي فِي الْفِتَنِ: حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(تَنْبِيه): وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُنَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حُفَالَةٌ وَحُثَالَةٌ، أَيْ أَنَّهَا رُوِيَتْ بِالْفَاءِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
10 - بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}
6435 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ"
6436 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَا جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"
[الحديث 6436 - طرفه في: 6437]
6437 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وَادٍ مَالًا لَاحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ وَلَا يَمْلَا عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَا أَدْرِي مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ أَمْ لَا قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ"
6438 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَكَّةَ فِي خُطْبَتِهِ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا ملآن مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"
6439 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ "قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلَنْ يَمْلَا فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ
6440 -
وَقَالَ لَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ كُنَّا نَرَى هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ}
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُتَّقَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِالْمُثَنَّاةِ وَالْقَافِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ)، أَيْ الِالْتِهَاءِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -: {إِنَّم اأَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} ، أَيْ تَشْغَلُ الْبَالَ عَنِ الْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحُوهُ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ مِثْلُهُ، وَزَادَ: وَلَوْ سِيلَ لِابْنِ آدَمَ
وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَتَمَنَّى إِلَيْهِ ثَالِثًا. . الْحَدِيثَ، وَبِهَا تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ جِدًّا، وَقَوْلُهُ: سِيلَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ لَامٌ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، يُقَالُ: سَالَ الْوَادِي إِذَا جَرَى مَاؤُهُ.
وَأَمَّا الْفِتْنَةُ بِالْوَلَدِ فَوَرَدَ فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَجَاءَ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوَّلَاكُمْ فِتْنَةٌ الْحَدِيثَ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ قَطْعَ الْخُطْبَةِ وَالنُّزُولَ لَهُمَا فِتْنَةٌ دَعَا إِلَيْهَا مَحَبَّةُ الْوَلَدِ فَيَكُونُ مَرْجُوحًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَأَمَّا فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَهُوَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ؛ فَيَكُونُ فِي حَقِّهِ رَاجِحًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِ الشَّيْءِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَوْلَى تَرْكُ فِعْلِهِ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْفِتْنَةَ بِالْوَلَدِ مَرَاتِبُ، وَإِنَّ هَذَا مِنْ أَدْنَاهَا، وَقَدْ يَجُرُّ إِلَى مَا فَوْقَهُ فَيُحْذَرُ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الزِّمِّيُّ بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، فَقِيلَ: هِيَ كُنْيَةُ أَبِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ جَدُّهُ وَاسْمُهُ كُنْيَتُهُ، أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي الصَّحِيحِ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ خَارِجَ الصَّحِيحِ بِوَاسِطَةٍ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَصِينٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا حَدَّثَنَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَافَقَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى رَفْعِهِ شَرِيكٌ الْقَاضِي، وَقَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، وَخَالَفَهُمْ إِسْرَائِيلُ فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ مَوْقُوفًا. قُلْتُ: إِسْرَائِيلُ أَثْبَتُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّ اجْتِمَاعَ الْجَمَاعَةِ يُقَاوِمُ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ تَتِمُّ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ لِلرَّفْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي بَابِ الْحِرَاسَةِ فِي الْغَزْوِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ، وَهُوَ مِنْ نَوَادِرِ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْجَامِعِ الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ: (تَعِسَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ، أَيْ سَقَطَ وَالْمُرَادُ هُنَا هَلَكَ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّعْسُ الشَّرُّ قَالَ - تَعَالَى -: {فَتَعْسًا لَهُمْ} أَرَادَ أَلْزَمَهُمُ الشَّرَّ، وَقِيلَ: التَّعْسُ الْبُعْدُ أَيْ بُعْدًا لَهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَوْلُهُمْ تَعْسًا لِفُلَانٍ نَقِيضُ قَوْلِهِمْ: لَعًا لَهُ، فَتَعْسًا دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْعَثْرَةِ، وَلَعًا دُعَاءٌ لَهُ بِالِانْتِقَاشِ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ الدِّينَارِ) أَيْ طَالِبُهُ الْحَرِيصُ عَلَى جَمْعِهِ الْقَائِمُ عَلَى حِفْظِهِ، فَكَأَنَّهُ لِذَلِكَ خَادِمُهُ وَعَبْدُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ خُصَّ الْعَبْدُ بِالذِّكْرِ؛ لِيُؤْذَنَ بِانْغِمَاسِهِ فِي مَحَبَّةِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا كَالْأَسِيرِ الَّذِي لَا يَجِدُ خَلَاصًا، وَلَمْ يَقُلْ: مَالِكُ الدِّينَارِ، وَلَا جَامِعُ الدِّينَارِ؛ لِأَنَّ الْمَذْمُومَ مِنَ الْمِلْكِ وَالْجَمْعِ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنْ أُعْطِيَ إِلَخْ يُؤْذِنُ بِشِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: جَعَلَهُ عَبْدًا لَهُمَا لِشَغَفِهِ وَحِرْصِهِ، فَمَنْ كَانَ عَبْدًا لِهَوَاهُ لَمْ يَصْدُقْ فِي حَقِّهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فَلَا يَكُونُ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ صِدِّيقًا.
قَوْلُهُ: (وَالْقَطِيفَة) هِيَ الثَّوْبُ الَّذِي لَهُ خَمْلٌ وَالْخَمِيصَةُ الْكِسَاءُ الْمُرَبَّعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ، فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ، وَقَوْلُهُ: وَانْتَكَسَ، أَيْ عَاوَدَهُ الْمَرَضُ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ التَّعْسِ بِالسُّقُوطِ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا قَامَ مِنْ سَقْطَتِهِ عَاوَدَهُ السُّقُوطُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِانْتَكَسَ بَعْدَ تَعِسَ انْقَلَبَ عَلَى رَأْسِهِ بَعْدَ أَنْ سَقَطَ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ، قَالَ فِي قَوْلِهِ: تَعِسَ وَانْتَكَسَ فِيهِ التَّرَقِّي فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَعِسَ انْكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا انْتَكَسَ انْقَلَبَ عَلَى رَأْسِهِ، وَقِيلَ: التَّعْسُ الْخَرُّ عَلَى الْوَجْهِ، وَالنَّكْسُ الْخَرُّ عَلَى الرَّأْسِ، وَقَوْلُهُ: فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: وَإِذَا شِيكَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدِهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ كَافٌ، أَيْ إِذَا
دَخَلَتْ فِيهِ شَوْكَةٌ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُخْرِجُهَا بِالْمِنْقَاشِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَا انْتَقَشَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَمْ يَقْدِرِ الطَّبِيبُ أَنْ يُخْرِجَهَا.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِ بِمَا يُثَبِّطُهُ عَنِ السَّعْيِ وَالْحَرَكَةِ، وَسَوَّغَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ قَصَرَ عَمَلُهُ عَلَى جَمْعِ الدُّنْيَا، وَاشْتَغَلَ بِهَا عَنِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّشَاغُلِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا خُصَّ انْتِقَاشُ الشَّوْكَةِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مَا يُتَصَوَّرُ مِنَ الْمُعَاوَنَةِ، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ الْأَسْهَلُ انْتَفَى مَا فَوْقَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
قَوْلُهُ: (إِنْ أُعْطِيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ) وَقَعَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ الْوَفَاءِ عِوَضَ الرِّضَا وَأَحَدُهُمَا مَلْزُومٌ لِلْآخَرِ غَالِبًا.
الحديث الثاني.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَطَاءٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَصَرَّحَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِسَمَاعِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَهُ مِنْ عَطَاءٍ، وَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي إِيرَادِ الْإِسْنَادِ النَّازِلِ عَقِبَ الْعَالِي؛ إِذْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ جَرِيجٍ فِي الْأَوَّلِ راو وَاحِدٌ، وَفِي الثَّانِي اثْنَانِ، وَفِي السَّنَدِ الثَّانِي أَيْضًا فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي آخِرِهِ، وَمُحَمَّدٌ فِي الثَّانِي هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَقَدْ نُسِبَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ كَذَلِكَ، وَمَخْلَدٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ بَيْنَهُمَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي صَرَّحَ فِيهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِسَمَاعِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَرْوِيِّهِ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْمُكْثِرِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَتَحَمُّلُهُ كَانَ أَكْثَرُهُ عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا) فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مَالًا لَأَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ، وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْبَابِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْبَابِ أَيْضًا، وَمِثْلُهُ فِي مُرْسَلِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الَّذِي قَدَّمْتُهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الَّذِي سَأَذْكُرُهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ مَالٍ فَسَّرَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِقَوْلِهِ: مِنْ ذَهَبٍ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْبَابِ، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَزَادَ: وَفِضَّةٍ، وَأَوَّلُهُ مِثْلُ لَفْظِ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأُولَى، وَلَفْظُهُ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ: كُنَّا نَقْرَأُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ لَابْتَغَى الثَّالِثَ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِي نَخْلٍ، وَقَوْلُهُ: لَابْتَغَى بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ افْتَعَلَ بِمَعْنَى الطَّلَبِ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: أَحَبَّ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: لَتَمَنَّى مِثْلَهُ ثُمَّ تَمَنَّى مِثْلَهُ حَتَّى يَتَمَنَّى أَوْدِيَةً.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ نَفْسَ بَدَلَ جَوْفَ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ كَالْأَوَّلِ، وَفِي مُرْسَلِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَلَا يُشْبِعُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَوْفَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْبَابِ: وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِيهِ وَلَا يَمْلَأُ فَاهُ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَلَهُ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَلَا يَمْلَأُ بَطْنَ.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ الْحَقِيقَةَ فِي عُضْوٍ بِعَيْنِهِ بِقَرِينَةِ عَدَمِ الِانْحِصَارِ فِي التُّرَابِ إِذْ غَيْرُهُ يَمْلَؤُهُ أَيْضًا، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلِامْتِلَاءِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَشْبَعُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُوتَ، فَالْغَرَضُ مِنَ الْعِبَارَاتِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَهِيَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ.
قُلْتُ: وَهَذَا يَحْسُنُ فِيمَا إِذَا اخْتَلَفَتْ مَخَارِجُ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا إِذَا اتَّحَدَتْ فَهُوَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، ثُمَّ نِسْبَةُ الِامْتِلَاءِ لِلْجَوْفِ وَاضِحَةٌ، وَالْبَطْنُ بِمَعْنَاهُ، وَأَمَّا النَّفْسُ فَعَبَّرَ بِهَا عَنِ الذَّاتِ، وَأَطْلَقَ الذَّاتَ وَأَرَادَ الْبَطْنَ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَمِ فَلِكَوْنِهِ الطَّرِيقَ إِلَى الْوُصُولِ لِلْجَوْفِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْعَيْنَ وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلِأَنَّهَا الْأَصْلُ فِي الطَّلَبِ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا يُعْجِبُهُ فَيَطْلُبُهُ لِيَحُوزَهُ إِلَيْهِ، وَخَصَّ الْبَطْنَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُطْلَبُ الْمَالُ لِتَحْصِيلِ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَأَكْثَرُهَا يَكُونُ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَعَ قَوْلُهُ: وَلَا يَمْلَأُ إِلَخْ مَوْقِعَ التَّذْيِيلِ وَالتَّقْرِيرِ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا يَشْبَعُ مَنْ خُلِقَ مِنَ
التُّرَابِ إِلَّا بِالتُّرَابِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ التُّرَابِ دُونَ غَيْرِهِ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَنْقَضِي طَمَعُهُ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِذَا مَاتَ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُدْفَنَ، فَإِذَا دُفِنَ صُبَّ عَلَيْهِ التُّرَابُ فَمَلَأَ جَوْفَهُ وَفَاهُ وَعَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تُرَابٍ غَيْرُهُ، وَأَمَّا النِّسْبَةُ إِلَى الْفَمِ فَلِكَوْنِهِ الطَّرِيقَ إِلَى الْوُصُولِ لِلْجَوْفِ.
قَوْلُهُ في الطريق الثانية لابن عباس: (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ)، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنَ الْحَرِيصِ، كَمَا يَقْبَلُهَا مِنْ غَيْرِهِ، قِيلَ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَمِّ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ، وَتَمَنِّي ذَلِكَ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ ذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَابَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مُطْلَقُ الرُّجُوعِ، أَيْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالتَّمَنِّي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْمَالِ، وَأَنَّهُ لَا يَشْبَعُ مِنْ جَمْعِهِ إِلَّا مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَوَفَّقَهُ لِإِزَالَةِ هَذِهِ الْجِبِلَّةِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، فَوَضَعَ وَيَتُوبُ مَوْضِعَهُ إِشْعَارًا بِأَنَّ هَذِهِ الْجِبِلَّةَ مَذْمُومَةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى الذَّنْبِ، وَأَنَّ إِزَالَتَهَا مُمْكِنَةٌ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَتَسْدِيدِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَفِي إِضَافَةِ الشُّحِّ إِلَى النَّفْسِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَرِيزَةٌ فِيهَا، وَفِي قَوْلِهِ:{وَمَنْ يُوقَ} إِشَارَةٌ إِلَى إِمْكَانِ إِزَالَةِ ذَلِكَ، ثُمَّ رَتَّبَ الْفَلَاحَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: وَتُؤْخَذُ الْمُنَاسَبَةُ أَيْضًا مِنْ ذِكْرِ التُّرَابِ، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ وَمِنْ طَبْعِهِ الْقَبْضُ وَالْيُبْسُ، وَأَنَّ إِزَالَتَهُ مُمْكِنَةٌ بِأَنْ يُمْطِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَا يُصْلِحُهُ حَتَّى يُثْمِرَ الْخِلَالَ الزَّكِيَّةَ وَالْخِصَالَ الْمُرْضِيَةَ، قَالَ - تَعَالَى -:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} فَوَقَعَ قَوْلُهُ: وَيَتُوبُ اللَّهُ إِلَخْ مَوْقِعَ الِاسْتِدْرَاكِ؛ أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الْعُسْرَ الصَّعْبَ
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَا أَدْرِي مِنَ الْقُرْآنِ هُوَ أَمْ لَا)، يَعْنِي الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أُبَيٍّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَسَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ) الْقَائِلُ هُوَ عَطَاءٌ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: عَلَى الْمِنْبَرِ بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَنَّهُ مِنْبَرُ مَكَّةَ، وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَدِيثِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ بِدُونِ زِيَادَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ)؛ أَيْ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْأَوْسِيُّ، وَهُوَ جَدُّ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ صُحْبَةٌ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَكَانَ الْأَمِيرَ عَلَى طَائِفَةِ الْأَنْصَارِ يَوْمئِذٍ، وَأَبُوهُ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَأَبُوهُ أَبُو عَامِرٍ يُعْرَفُ بِالرَّاهِبِ، وَهُوَ الَّذِي بُنِيَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ بِسَبَبِهِ وَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مَعْدُودٌ فِي صِغَارِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّهُ لَقِيَ بَعْضَ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنْ أَعْلَى مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الثُّلَاثِيَّاتِ وَإِنْ كَانَ رُبَاعِيًّا، وَعَبَّاسُ بْنُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ هُوَ وَلَدُ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْعَزِيزِ) هُوَ الْأُوَيْسِيُّ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَابْنُ شِهَابٍ هُوَ الزُّهْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ) كَذَا وَقَعَ بِغَيْرِ لَامٍ وَهُوَ جَائِزٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: لَأَحَبَّ الْحَدِيثُ الْخَامِسُ
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَشَيْخُهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ لَمْ يَعُدُّوهُ فِيمَنْ خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ مَوْصُولًا، بَلْ عَلَّمَ الْمِزِّيُّ عَلَى هَذَا السَّنَدِ فِي الْأَطْرَافِ عَلَامَةَ التَّعْلِيقِ، وَكَذَا رَقَّمَ لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فِي التَّهْذِيبِ عَلَامَةُ التَّعْلِيقِ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى اسْتِوَاءٍ، قَالَ فُلَانٌ وَقَالَ لَنَا فُلَانٌ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَالَ لَنَا ظَاهِرٌ فِي الْوَصْلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَالَ: إِنَّهَا لِلْإِجَازَةِ أَوْ لِلْمُنَاوَلَةِ أَوْ لِلْمُذَاكَرَةِ فَكُلُّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَوْصُولِ، وَإِنْ كَانَ التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ أَشَدَّ اتِّصَالًا، وَالَّذِي ظَهَرَ لِي بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَذِهِ الصِّيغَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَتْنُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ فِي أَصْلِ مَوْضُوعِ كِتَابِهِ، كَأَنْ يَكُونُ
ظَاهِرُهُ الْوَقْفَ، أَوْ فِي السَّنَدِ مَنْ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ.
فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي بَابِ مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ وَمَا يَحْرُمُ: قَالَ لَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ:، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْقَطَّانُ، فَذَكَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ، وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ الْحَدِيثَ، فَهَذَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مَوْقُوفٌ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُتَلَمَّحَ لَهُ مَا يُلْحِقُهُ بِالْمَرْفُوعِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الثَّانِي قَوْلُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ: قَالَ لَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ:، حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، فَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ: لَا يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا الْحَدِيثَ، فَأَبَانٌ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ كَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَبَّرَ فِي التَّخْرِيجِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِهَذِهِ الصِّيغَةِ لِذَلِكَ، وَقَدْ عَلَّقَ عَنْهُمَا أَشْيَاءَ بِخِلَافِ الْوَاسِطَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَذَلِكَ تَعْلِيقٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَسُقْهُ مَسَاقَ الِاحْتِجَاجِ مِنْ هَذِهِ الصِّيغَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، لَكِنَّ السِّرَّ فِيهِ مَا ذَكَرْتُ وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ كَثِيرَةٌ تَظْهَرُ لِمَنْ تَتَبَّعَهَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ ثَابِتٍ) هُوَ الْبُنَانِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ كَانَ أَثْبَتَ النَّاسِ فِي ثَابِتٍ، وَقَدْ أَكْثَرَ مُسْلِمٌ مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِهِ، وَلَمْ يُكْثِرْ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، كَإِكْثَارِهِ فِي احْتِجَاجِهِ بِهَذِهِ النُّسْخَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أُبَيٍّ) هُوَ ابْنُ كَعْبٍ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ صَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ، وَإِنْ كَانَ أُبَيٌّ أَكْبَرَ مِنْ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ أَوَّلِهِ؛ أَيْ نَظُنُّ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا مِنَ الرَّأْيِ أَيْ نَعْتَقِدُ.
قَوْلُهُ: (هَذَا) لَمْ يُبَيِّنْ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَلَفْظُهُ: كُنَّا نُرَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْقُرْآنِ: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَتَمَنَّى وَادِيًا ثَالِثًا الْحَدِيثُ دُونَ قَوْلِهِ: وَيَتُوبُ اللَّهُ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى نَزَلَتْ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، زَادَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ: إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَأَوَّلُهُ: كُنَّا نُرَى أَنَّ هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَخْ.
(تَنْبِيه): هَكَذَا وَقَعَ حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عَنْهُ مُقَدَّمًا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَعَكَسَ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَهُوَ الْأَنْسَبُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: قَوْلُهُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} خَرَجَ عَلَى لَفْظِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَطَرَ النَّاسَ عَلَى حُبِّ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، فَلَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ الْغَفْلَةُ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ حَتَّى يَفْجَأَهُمُ الْمَوْتُ.
وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ ذَمُّ الْحِرْصِ وَالشَّرَهِ، وَمِنْ ثَمَّ آثَرَ أَكْثَرَ السَّلَفِ التَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْقَنَاعَةَ بِالْيَسِيرِ، وَالرِّضَا بِالْكَفَافِ، وَوَجْهُ ظَنِّهِمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ ذَمِّ الْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ، وَالتَّقْرِيعِ بِالْمَوْتِ الَّذِي يَقْطَعُ ذَلِكَ، وَلَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى ذَلِكَ مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ عَلِمُوا أَنَّ الْأَوَّلَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ شَرَحَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قُرْآنًا، وَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ لَمَّا نَزَلَتْ:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فَاسْتَمَرَّتْ تِلَاوَتُهَا فَكَانَتْ نَاسِخَةً لِتِلَاوَةِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ فِيهِ وَالْمَعْنَى فَلَمْ يُنْسَخْ؛ إِذْ نَسْخُ التِّلَاوَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، كَنَسْخِ الْحُكْمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ. قُلْتُ: يُؤَيِّدُ مَا رَدَّهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قَالَ: وَقَرَأَ فِيهَا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ أُبَيٍّ الْمَذْكُورِ آنِفًا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُبَيٌّ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ، وَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي آخِرِ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم احْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ بَقِيَّةَ السُّورَةِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ أَنْ يَسْتَفْصِلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ حَتَّى
نَزَلَتْ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فَلَمْ يَنْتَفِ الِاحْتِمَالُ، وَمِنْهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ فَيُحَدِّثُنَا، فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: إِنَّمَا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ
وَادٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَانٍ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ مِمَّا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ جَزْمًا وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ مُسْتَمِرًّا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَا أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَرَأْتُ سُورَةً نَحْوَ بَرَاءَةٌ فَغِبْتُ وَحَفِظْتُ مِنْهَا: وَلَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَتَمَنَّى وَادِيًا ثَالِثًا الْحَدِيثَ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: كُنَّا نَقْرَأُ لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِلْءَ وَادٍ مَالًا لَأَحَبَّ إِلَيْهِ مِثْلَهُ الْحَدِيثَ.
11 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَقَوله تَعَالَى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَهُ لَنَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِي حَقِّهِ.
6441 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: إن هَذَا الْمَالُ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ لِي يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ - خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا فِي بَابِ مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} الْآيَةَ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الْآيَةَ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِثْلُ أَبِي ذَرٍّ، وَزَادَ: إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، وَسَاقَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ. وَقَوْلُهُ زُيِّنَ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ الْإِفْصَاحِ بِالَّذِي زُيِّنَ أَنْ يَتَنَاوَلَ اللَّفْظُ جَمِيعَ مَنْ تَصِحُّ نِسْبَةُ التَّزْيِينِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ أَحَاطَ بِأَنَّهُ سبحانه وتعالى هُوَ الْفَاعِلُ بِالْحَقِيقَةِ، فَهُوَ الَّذِي أَوْجَدَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَهَيَّأَهَا لِلِانْتِفَاعِ، وَجَعَلَ الْقُلُوبَ مَائِلَةً إِلَيْهَا، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِالتَّزْيِينِ لِيَدْخُلَ فِيهِ حَدِيثُ النَّفْسِ وَوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِاعْتِبَارِ الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّهْيِئَةِ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ بِاعْتِبَارِ مَا أَقْدَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى الْآدَمِيِّ بِالْوَسْوَسَةِ النَّاشِئِ عَنْهَا حَدِيثُ النَّفْسِ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ بَدَأَ فِي الْآيَةِ بِالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُنَّ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ فِتْنَةً لِلرِّجَالِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ قَالَ: وَمَعْنَى تَزْيِينِهَا إِعْجَابُ الرَّجُلِ بِهَا وَطَوَاعِيَتُهُ لَهَا، وَالْقَنَاطِيرُ جَمْعُ قِنْطَارٍ، وَاخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ فَقِيلَ: سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ وَقِيلَ: سَبْعَةُ آلَافِ دِينَارٍ وَقِيلَ: مِائَةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا، وَقِيلَ: مِائَةُ رِطْلٍ وَقِيلَ: أَلْفُ مِثْقَالٍ وَقِيلَ: أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ مَأْخُوذٌ مِنْ عَقْدِ الشَّيْءِ وَإِحْكَامِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقَوْلُ الْأَخِيرُ قِيلَ هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، لَكِنْ يَخْتَلِفُ الْقِنْطَارُ فِي الْبِلَادِ بِاخْتِلَافِهَا فِي قَدْرِ الْوُقِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَهُ لَنَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِي حَقِّهِ) سَقَطَ هَذَا التَّعْلِيقُ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَفِي هَذَا الْأَثَرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فَاعِلَ التَّزْيِينِ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ اللَّهُ، وَأَنَّ تَزْيِينَ ذَلِكَ بِمَعْنَى تَحْسِينِهِ فِي قُلُوبِ بَنِي آدَمَ وَأَنَّهُمْ جُبِلُوا عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا طُبِعَ عَلَيْهِ مَنْ ذَلِكَ وَانْهَمَكَ فِيهِ وَهُوَ الْمَذْمُومُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَاعَى فِيهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَوَقَفَ عِنْدَ مَا حُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُ فَهَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الذَّمُّ، وَمِنْهُمْ مَنِ ارْتَقَى عَنْ ذَلِكَ فَزَهِدَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ مَعَ إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ عُمَرَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِي حَقِّهِ.
وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى بِمَالٍ مِنَ الْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهُ: نَفْلُ كِسْرَى، فَأَمَرَ بِهِ فَصُبَّ وَغُطِّيَ، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ فَاجْتَمَعُوا، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَكُشِفَ عَنْهُ فَإِذَا حُلِيٌّ كَثِيرٌ وَجَوْهَرٌ وَمَتَاعٌ، فَبَكَى عُمَرُ وَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل فَقَالُوا لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ هَذِهِ غَنَائِمُ غَنِمَهَا اللَّهُ لَنَا وَنَزَعَهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَقَالَ: مَا فُتِحَ مِنْ هَذَا عَلَى قَوْمٍ إِلَّا سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا حُرْمَتَهُمْ.
قَالَ: فَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّهُ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ مَنَاطِقُ وَخَوَاتِمُ فَرُفِعَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَمَ: حَتَّى مَتَى تَحْبِسُهُ لَا تُقَسِّمُهُ؟ قَالَ: بَلَى إِذَا رَأَيْتَنِي فَارِغًا فَآذِنِّي بِهِ، فَلَمَّا رَآهُ فَارِغًا بَسَطَ شَيْئًا فِي حُشِّ نَخْلَةٍ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ فِي مِكْتَلٍ فَصَبَّهُ، فَكَأَنَّهُ اسْتَكْثَرَهُ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ قُلْتَ {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} فَتَلَا الْآيَةَ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: لَا نَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ نُحِبَّ مَا زَيَّنْتَ لَنَا، فَقِنِي شَرَّهُ وَارْزُقْنِي أَنْ أُنْفِقَهُ فِي حَقِّكَ، فَمَا قَامَ حَتَّى مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ يَحْيَى الْمَدَنِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ، وَهَذَا مَوْصُولٌ لَكِنْ فِي سَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ ضَعْفٌ، وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَاسْتَحَلُّوا حُرْمَتَهُمْ وَقَطَعُوا أَرْحَامَهُمْ: فَمَا رَامَ حَتَّى قَسَمَهُ، وَبَقِيَتْ مِنْهُ قِطَعٌ، وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ لَا نَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ يَتَزَيَّنَ لَنَا مَا زَيَّنْت لَنَا، وَالْبَاقِي نَحْوُهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ قِصَّةً أُخْرَى.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ - رُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ لِي يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ) فَاعِلُ قَالَ أَوَّلًا هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْقَائِلُ رُبَّمَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدَايِنِيِّ رَاوِيهِ عَنْ سُفْيَانَ، وَالْقَائِلُ قَالَ لِي هُوَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ صَحَابِيُّ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَحَكِيمٌ بِالرَّفْعِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ مُنَادًى مُفْرَدٌ، حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ حَكِيمًا قَالَ لِسُفْيَانَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ، لِأَنَّ بَيْنَ وَفَاةِ حَكِيمٍ وَمَوْلِدِ سُفْيَانَ نَحْوَ الْخَمْسِينَ سَنَةً، وَلِهَذَا لَا يُقْرَأُ حَكِيمٌ بِالتَّنْوِينِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ سُفْيَانَ رَوَاهُ مَرَّةً بِلَفْظِ: ثُمَّ قَالَ؛ أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذَا الْمَالَ، وَمَرَّةً بِلَفْظِ: ثُمَّ قَالَ لِي: يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ إِلَخْ، وَقَدْ وَقَعَ بِإِثْبَاتِ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قَوْلِهِ: فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ إِلَخْ فِي بَابِ: الِاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى فِي بَابِ لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: بُورِكَ لَهُ فِيهِ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ وَفِيهِ مَقَالٌ.
12 - بَاب مَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ لَهُ
6442 -
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قال عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ قَالَ: فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ لَهُ) الضَّمِيرُ لِلْإِنْسَانِ الْمُكَلَّفِ، وَحَذَفَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ.
قَوْلُهُ: (عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ) أَيِ ابْنُ غِيَاثٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَرِجَالُ السَّنَدِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ)؛ أَيْ أَنَّ الَّذِي يَخْلُفهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْحَالِ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ انْتِقَالِهِ إِلَى وَارِثِهِ يَكُونُ مَنْسُوبًا لِلْوَارِثِ، فَنِسْبَتُهُ لِلْمَالِكِ فِي حَيَاتِهِ حَقِيقِيَّةٌ، وَنِسْبَتُهُ لِلْوَارِثِ فِي حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ مَجَازِيَّةٌ، وَمِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ حَقِيقِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ)؛ أَيْ هُوَ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الْمَالِ الَّذِي يَخْلُفُهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: مَا تَعُدُّونَ الصُّرْعَةَ فِيكُمُ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا: مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمُ الْحَدِيثَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: فِيهِ التَّحْرِيضُ عَلَى تَقْدِيمِ مَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ مِنَ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْقُرْبَةِ وَالْبِرِّ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَخْلُفُهُ الْمُوَرِّثُ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ فَإِنْ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ اخْتَصَّ بِثَوَابِ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ الَّذِي تَعِبَ فِي جَمْعِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِنْ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَذَاكَ أَبْعَدُ لِمَالِكِهِ الْأَوَّلِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ إِنْ سَلِمَ مِنْ تَبِعَتِهِ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ: إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً؛ لِأَنَّ حَدِيثَ سَعْدٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَوْ مُعْظَمِهِ فِي مَرَضِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي حَقِّ مَنْ يَتَصَدَّقُ فِي صِحَّتِهِ وَشُحِّهِ.
13 - بَاب الْمُكْثِرُونَ هُمْ الْمُقِلُّونَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ
* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
6443 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ،، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي وَحْدَهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ، قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ، فَالْتَفَتَ فَرَآنِي فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ: تَعَالَ، قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ: إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمْ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً فَقَالَ لِي: اجْلِسْ هاهُنَا قَالَ: فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ فَقَالَ لِي: اجْلِسْ هَاهُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ، قَالَ: فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لَا أَرَاهُ فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللُّبْثَ، ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ
سَرَقَ وَإِنْ زَنَى، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ؟ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا، قَالَ: ذَلِكَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ قَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ النَّضْرُ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، وحَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ بِهَذَا، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُرْسَلٌ لَا يَصِحُّ، إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَ: مُرْسَلٌ أَيْضًا لَا يَصِحُّ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ، وَقَالَ: اضْرِبُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا: إِذَا مَاتَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُكْثِرُونَ هُمُ الْمُقِلُّونَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ الْأَقَلُّونَ وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِاللَّفْظَيْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَعْرُورِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: الْأَخْسَرُونَ بَدَلَ الْمُقِلُّونَ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِلَّةِ فِي الْحَدِيثِ قِلَّةُ الثَّوَابِ، وَكُلُّ مَنْ قَلَّ ثَوَابُهُ فَهُوَ خَاسِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ كَثُرَ ثَوَابُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الْآيَتَيْنِ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَزِينَتَهَا {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الْآيَةَ، وَمِثْلُهُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ لَكِنْ قَالَ: إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَلَمْ يَقُلِ الْآيَةَ، وَسَاقَ الْآيَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْآيَةِ فَقِيلَ هِيَ عَلَى عُمُومِهَا فِي الْكُفَّارِ، وَفِيمَنْ يُرَائِي بِعَمَلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهَا مُعَاوِيَةُ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فِي الْمُجَاهِدِ وَالْقَارِئِ وَالْمُتَصَدِّقِ؛ لِقولِهِ - تَعَالَى - لِكُلٍّ مِنْهُمْ: إِنَّمَا عَمِلْتَ لِيُقَالَ فَقَدْ قِيلَ، فَبَكَى مُعَاوِيَةُ لَمَّا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُطَوَّلًا وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ خَاصَّةً بِدَلِيلِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ} وَالْمُؤْمِنُ فِي الْجُمْلَةِ مَآلُهُ إِلَى الْجَنَّةِ بِالشَّفَاعَةِ، أَوْ مُطْلَقِ الْعَفْوِ، وَالْوَعِيدُ فِي الْآيَةِ بِالنَّارِ، وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ وَبُطْلَانِهِ إِنَّمَا هُوَ لِلْكَافِرِ.
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَعِيدَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي وَقَعَ الرِّيَاءُ فِيهِ فَقَطْ فَيُجَازَى فَاعِلُهُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِحْبَاطَ جَمِيعِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ الَّتِي لَمْ يَقَعْ فِيهَا رِيَاءٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِعَمَلِهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا عُجِّلَ لَهُ، وَجُوزِيَ فِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ لِتَجْرِيدِهِ قَصْدَهُ إِلَى الدُّنْيَا وَإِعْرَاضِهِ عَنِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُجَاهِدِينَ خَاصَّةً وَهُوَ ضَعِيفٌ وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَعُمُومُهَا شَامِلٌ لِكُلِّ مُرَاءٍ وَعُمُومُ قَوْلِهِ: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} ؛ أَيْ فِي الدُّنْيَا مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهَ لَهُ ذَلِكَ لِقولِهِ - تَعَالَى -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} فَعَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ يُحْمَلُ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ، وَكَذَا يُقَيَّدُ مُطْلَقُ قَوْلِهِ:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ إِشْكَالُ مَنْ قَالَ: قَدْ يُوجَدُ بَعْضُ الْكُفَّارِ مُقَتَّرًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا غَيْرَ مُوَسَّعٍ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، أَوْ مِنَ الصِّحَّةِ، أَوْ مِنْ طُولِ الْعُمْرِ؛ بَلْ قَدْ يُوجَدُ مَنْ هُوَ مَنْحُوسُ الْحَظِّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، كَمَنْ قِيلَ فِي حَقِّهِ:{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ
الْآيَةِ فِي الْبَابِ لِحَدِيثِهِ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَعِيدَ الَّذِي فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّأْقِيتِ فِي حَقِّ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا عَلَى التَّأْبيدِ؛ لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ ج نْسِ الْكَبِيرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي أَنَّهُ قَدْ يُعَذَّبُ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَنْفِي أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ التَّعْذِيبِ عَلَى مَعْصِيَةِ الرِّيَاءِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ هَذَا الْحَدِيثَ لَكِنْ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ لَكِنْ قُتَيْبَةُ لَمْ يُدْرِكْهُ ابْنُ حَازِمٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ بِفَاءٍ وَمُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ مَكِّيٌّ سَكَنَ الْكُوفَةَ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ لَقِيَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَأَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ الْمَاضِيَةِ فِي الِاسْتِئْذَانِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنَا وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ: مَكَانٌ مَعْرُوفٌ مِنْ عَمَلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَبَيْنَهُمَا ثَلَاثُ مَرَاحِلَ مِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ سَكَنَهُ أَبُو ذَرٍّ بِأَمْرِ عُثْمَانَ، وَمَاتَ بِهِ فِي خِلَافَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ سَبَبِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.
قَوْلُهُ: (خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي وَحْدَهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ) هُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَحْدَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِرَفْعِ تَوَهُّمٍ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَلَكٍ أَوْ جِنِّيٍّ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْهُ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً، فَأَفَادَتْ تَعْيِينَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَالْحَرَّةُ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ مِنْهَا، وَكَانَتْ بِهِ الْوَقْعَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي زَمَنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَقِيلَ: الْحَرَّةُ الْأَرْضُ الَّتِي حِجَارَتَهَا سُودٌ، وَهُوَ يَشْمَلُ جَمِيعَ جِهَاتِ الْمَدِينَةِ الَّتِي لَا عِمَارَةَ فِيهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ: هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْمُكْثِرونَ وَهِيَ قِصَّةٌ أُخْرَى مُخْتَلِفَةُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالسِّيَاقِ.
قَوْلُهُ: (فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ)؛ أَيْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي لَيْسَ لِلْقَمَرِ فِيهِ ضَوْءٌ لِيُخْفِيَ شَخْصَهُ، وَإِنَّمَا اسْتَمَرَّ يَمْشِي لِاحْتِمَالِ أَنْ يَطْرَأَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاجَةٌ فَيَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَالْتَفَتَ فَرَآنِي فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟) كَأَنَّهُ رَأَى شَخْصَهُ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ لَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ أَبُو ذَرٍّ)؛ أَيْ أَنَا أَبُو ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَكَذَا لِأَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ حَفْصٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَمَا مَضَى فِي الِاسْتِئْذَانِ: فَقُلْتُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَبَا ذَرٍّ، تَعَالَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تَعَالَهْ بِهَاءِ السَّكْتِ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: فَائِدَةُ الْوُقُوفِ عَلَى هَاءِ السَّكْتِ أَنْ لَا يَقِفَ عَلَى سَاكِنَيْنِ، نَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَقَدِ اخْتَصَرَ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي رِوَايَتِهِ سِيَاقَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَكَذَا عِنْدَهُ، وَسَاقَ الْبَاقُونَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّضْرُ) بْنُ شُمَيْلٍ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ بِهَذَا، الْغَرَضُ بِهَذَا التَّعْلِيقِ تَصْرِيحُ الشُّيُوخِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ بِأَنَّ زَيْدَ بْنِ وَهْبٍ حَدَّثَهُمْ، وَالْأَوَّلَانِ نُسِبَا إِلَى التَّدْلِيسِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ
شُعْبَةَ بِغَيْرِ تَصْرِيحٍ لَأُمِنَ فِيهِ التَّدْلِيسُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُحَدِّثُ عَنْ شُيُوخِهِ إِلَّا بِمَا لَا تَدْلِيسَ فِيهِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَإِنَّهُ زَادَ فِيهِ بَيْنَ الْأَعْمَشِ، وَزَيْدِ بْنِ وَهْبٍ رَجُلًا مُبْهَمًا، ذَكَرَ ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُصَرِّحَةُ أَنَّهُ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ.
وَقَدِ اعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا السَّنَدِ بِهَذَا، فَأَشَارَ إِلَى رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ رِوَايَةَ شُعْبَةَ هَذِهِ نَظِيرُ رِوَايَتِهِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ قِصَّةُ الْمُقِلِّينَ وَالْمُكْثِرِينَ، إِنَّمَا فِيهِ قِصَّةُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا قَالَ: وَالْعَجَبُ مِنَ الْبُخَارِيِّ كَيْفَ أَطْلَقَ ذَلِكَ ثُمَّ سَاقَهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ: أَنَّ جِبْرِيلَ بَشَّرَنِي أَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ. قِيلَ لِسُلَيْمَانَ؛ يَعْنِي الْأَعْمَشَ إِنَّمَا رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ: إِنَّمَا سَمِعْتُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ.
ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَبِلَالٍ وَالْأَعْمَشِ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ سَمِعُوا زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، زَادَ فِيهِ رَاوِيًا وَهُوَ بِلَالٌ، وَهُوَ ابْنُ مِرْدَاسٍ الْفَزَارِيُّ، شَيْخٌ كُوفِيٌّ، أَخْرَجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ صَدُوقٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ كَرِوَايَةِ النَّضْرِ لَيْسَ فِيهِ بِلَالٌ، وَقَدْ تَبِعَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى اعْتِرَاضِهِ الْمَذْكُورِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ مُغْلَطَايْ وَمَنْ بَعْدَهُ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْبُخَارِيِّ وَاضِحٌ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ أَصْلُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، فَيَجُوزُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِذَا أُرِيدَ بِقَوْلِ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا؛ أَيْ بِأَصْلِ الْحَدِيثِ لَا خُصُوصِ اللَّفْظِ الْمُسَاقِ، فَالْأَوَّلُ مِنَ الثَّلَاثَةِ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا بِنَحْوِهِ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ، وَالنُّعْمَانُ الْغِفَارِيُّ، وَسَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، وَسُوَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَرِوَايَاتُهُمْ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ التَّمَنِّي مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَمَا سَأُبَيِّنُهُ. الثَّانِي: حَدِيثُ الْمُكْثِرِينَ وَالْمُقِلِّينَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا الْمَعْرُورُ بْنُ سُوَيْدٍ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَالنُّعْمَانُ الْغِفَارِيُّ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا.
الثَّالِثُ حَدِيثُ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي اللِّبَاسِ، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا أَبُو هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَفِيهِ أَيْضًا فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ قَالَ: عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَلِذَلِكَ قَالَ الْأَعْمَشُ، لِزَيْدٍ: مَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْهُ، قُلْتُ لِزَيْدٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَأَفَادَتْ رِوَايَةُ شُعْبَةَ أَنَّ حَبِيبًا، وَعَبْدَ الْعَزِيزِ وَافَقَا الْأَعْمَشَ عَلَى أَنَّهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ لَا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ: عَنْ عِيسَى بْنِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طريقِهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِلَفْظِ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ فَكَرَّرَهَا ثَلَاثًا، وَفِي الثَّالِثَةِ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَسَأَذْكُرُ بَقِيَّةَ طُرُقِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ فَقَالَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلَانِ صَحِيحَيْنِ قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ مَا لَيْسَ
فِي الْآخَرِ.
14 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا يسرني أَنَّ عندي مِثْلَ أُحُدٍ هذا ذَهَبًا
6444 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو
ذَرٍّ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ - ثُمَّ مَشَى، ثم قَالَ: إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْمقلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، ثُمَّ قَالَ لِي: مَكَانَكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ، ثُمَّ انْطَلَقَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى، فَسَمِعْتُ صَوْتًا قَدْ ارْتَفَعَ، فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ أحد عَرَضَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ، فَتذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِي: لَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ، فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى أَتَانِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتًا تَخَوَّفْتُ، فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: وَهَلْ سَمِعْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ.
6445 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَسَرَّنِي أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ"
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا) لَمْ أَرَ لَفْظَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ، لَكِنَّهُ ثَابِتٌ فِي لَفْظِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وذكر فيه حديثين: الأول.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ) هُوَ أَبُو عَلِيٍّ الْبُورَانِيُّ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ نُونٌ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ هُوَ سَلَّامٌ بِالتَّشْدِيدِ ابْنُ سُلَيْمٍ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ: فَالْتَفَتَ فَرَآنِي كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَقَدَّمَ قِصَّةُ الْمُكْثِرِينَ وَالْمُقِلِّينَ وَقَوْلُهُ: فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ هُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَأُحُدٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثِ: فَاسْتَقْبَلْنَا أُحُدًا بِسُكُونِ اللَّامِ، وَأُحُدًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ)، زَادَ فِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، وَمَنْصُورٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَيُّ جَبَلٍ هَذَا؟ قُلْتُ: أُحُدٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَحْنَفِ الْمَاضِيَةِ فِي الزَّكَاةِ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ وَأَنَا أَرَى أَنْ يُرْسِلَنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ فَقُلْتُ: نَعَمْ.
قَوْلُهُ: (مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ)، فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ:(مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا يَأْتِي عَلَيَّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ)، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَحْمَدَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَاكَ ذَهَبًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي شِهَابٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي الِاسْتِئْذَانِ: فَلَمَّا أَبْصَرَ أُحُدًا قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ تَحَوَّلَ لِي ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلَاثٍ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثَ اسْتِعْمَالُ حَوَّلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ وَإعْمَالهَا عَمَلَهَا، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ صَحِيحٌ، خَفِيَ عَلَى أَكْثَرِ النُّحَاةِ، وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُبَيِّنَةً لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَرَفَعَتْ أَوَّلَ الْمَفْعُولَيْنِ وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى أُحُدٍ، وَنُصِبَ ثَانِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُهُ:
ذَهَبًا فَصَارَتْ بِبِنَائِهَا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ جَارِيَةً مَجْرَى صَارَ فِي رَفْعِ الْمُبْتَدَأِ وَنَصْبِ الْخَبَرِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُتَّحِدُ الْمَخْرَجِ فَهُوَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: مِثْلُ أُحُدٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: تَحَوَّلَ لِي أُحُدٌ يحَمْلِ الْمِثْلِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ وَزْنُهُ مِنَ الذَّهَبِ وَزْنَ أُحُدٍ، وَالتَّحْوِيلُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَلَبَ ذَهَبًا كَانَ قَدْرَ وَزْنِهِ أَيْضًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ رُوَاتِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا: فَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ، وَمَنْصُورٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْتُ أُحُدٌ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّهُ ذَهَبَ قَطْعًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَدَعُ مِنْهُ قِيرَاطًا، وَفِي رِوَايَةِ سُوَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ. وَاخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٍ) أَيْ لَيْلَةٌ ثَالِثَةٌ، قِيلَ: وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالثَّلَاث؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ تَفْرِيقُ قَدْرِ أُحُدٍ مِنَ الذَّهَبِ فِي أَقَلَّ مِنْهَا غَالِبًا، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الثَّلَاثَةُ أَقْصَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَفْرِقَةِ مِثْلِ ذَلِكَ، وَالْوَاحِدَةُ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ)؛ أَيْ أَعُدُّهُ أَوْ أَحْفَظُهُ، وَهَذَا الْإِرْصَادُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ دَيْنٍ غَائِبٍ حَتَّى يَحْضُرَ فَيَأْخُذَهُ، أَوْ لِأَجْلِ وَفَاءِ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ حَتَّى يَحِلَّ فَيُوَفَّى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ، وَأَبِي شِهَابٍ جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ: إِلَّا دِينَارٌ بِالرَّفْعِ، وَالنَّصْبُ وَالرَّفْعُ جَائِزَانِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُطْلَقٌ عَامٌّ، وَالْمُسْتَثْنَى مُقَيَّدٌ خَاصٌّ فَاتَّجَهَ النَّصْبُ، وَتَوْجِيهُ الرَّفْعِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَجَوَابُ لَوْ هُنَا فِي تَقْدِيرِ النَّفْيِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ النَّفْيُ الصَّرِيحُ فِي أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَى حَمْلِ إِلَّا عَلَى الصِّفَةِ، وَقَدْ فُسِّرَ الشَّيْءُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالدِّينَارِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُوَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ، وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ، وَمَنْصُورٍ: أَدَعُ مِنْهُ قِيرَاطًا.
قَالَ قُلْتُ: قِنْطَارًا؟ قَالَ: قِيرَاطًا، وَفِيهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّمَا أَقُولُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَحْنَفِ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ فَظَاهِرُهُ نَفْيُ مَحَبَّةِ حُصُولِ الْمَالِ وَلَوْ مَعَ الْإِنْفَاقِ وَلَيْسَ مُرَادًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى نَفْيُ إِنْفَاقِ الْبَعْضِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، فَهُوَ يُحِبُّ إِنْفَاقَ الْكُلِّ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى، وَسَائِرُ الطُّرُقِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدَكُمْ هَذَا ذَهَبًا أُنْفِقُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَمُرُّ بِي ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا شَيْءٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ الْإِنْفَاقُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ لَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ مَحْبُوبٌ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ) هُوَ اسْتِثْنَاءٌ بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ فَيُفِيدُ الْإِثْبَاتَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ نَفْيَ مَحَبَّةِ الْمَالِ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الْإِنْفَاقِ فَيَلْزَمُ مَحَبَّةُ وُجُودِهِ مَعَ الْإِنْفَاقِ، فَمَا دَامَ الْإِنْفَاقُ مُسْتَمِرًّا لَا يُكْرَهُ وُجُودُ الْمَالِ، وَإِذَا انْتَفَى الْإِنْفَاقُ ثَبَتَتْ كَرَاهِيَةُ وُجُودِ الْمَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَرَاهِيَةِ حُصُولِ شَيْءٍ آخَرَ وَلَوْ كَانَ قَدْرَ أُحُدٍ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْإِنْفَاقِ.
قَوْلُهُ: (هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَى ثَلَاثٍ، وَحُمِلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ هِيَ الْأَصْلُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الرُّوَاةِ، وَأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ الْبُشْرَانِيَّاتِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ مُلَاعِبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَرَانَا بِيَدِهِ، كَذَا فِيهِ بِإِثْبَاتِ الْأَرْبَعِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ مِثْلَهُ، لَكِنِ اقْتَصَرَ مِنَ الْأَرْبَعِ عَلَى ثَلَاثٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ بَحْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، فَاقْتَصَرَ عَلَى ثِنْتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَشَى ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي شِهَابٍ فِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَرِوَايَةِ حَفْصٍ فِي الِاسْتِئْذَانِ هُمُ الْأَقَلُّونَ بِالْهَمْزِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ الْمَاضِيَةِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ: إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ بِالْمِيمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ النُّعْمَانِ الْغِفَارِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: إِنَّ الْمُكْثِرِينَ الْأَقَلُّونَ، وَالْمُرَادُ الْإِكْثَارُ مِنَ الْمَالِ وَالْإِقْلَالُ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُكْثِرًا وَلَمْ يَتَّصِفْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَهُ مِنَ الْإِنْفَاقِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا مَنْ قَالَ: هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)، فِي رِوَايَةِ أَبِي شِهَابٍ: إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَأَشَارَ أَبُو شِهَابٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ أَحْمَدَ: إِلَّا مَنْ قَالَ: هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَحَثَا عَنْ يَمِينِهِ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَعَنْ يَسَارِهِ. فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهَا اقْتَصَرَ عَلَى ثَلَاثٍ، وَقَدْ جَمَعَهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ فِي رِوَايَتِهِ وَلَفْظُهُ: إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا - أَيْ مَالًا - فَنَفَحَ بِنُونٍ وَفَاءٍ وَمُهْمَلَةٍ؛ أَيْ أَعْطَى كَثِيرًا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ يَمِينًا وَشِمَالًا وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَبَقِيَ مِنَ الْجِهَاتِ فَوْقُ وَأَسْفَلُ، وَالْإِعْطَاءُ مِنْ قِبَلِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُمْكِنٌ، لَكِنْ حُذِفَ لِنُدُورِهِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْإِنْفَاقَ مِنْ وَرَاءُ بِالْوَصِيَّةِ، وَلَيْسَ قَيْدًا فِيهِ؛ بَلْ قَدْ يُقْصَدُ الصَّحِيحُ الْإِخْفَاءُ فَيَدْفَعُ لِمَنْ وَرَاءَهُ مَالًا يُعْطِي بِهِ مَنْ هُوَ أَمَامَهُ، وَقَوْلُهُ هَكَذَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَشَارَ إِشَارَةً مِثْلَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ خَلْفِهِ بَيَانٌ لِلْإِشَارَةِ، وَخَصَّ عَنِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْإِعْطَاءِ صُدُورُهُ بِالْيَدَيْنِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ: وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا؛ أَيْ حَسَنَةً، وَفِي سِيَاقِهِ جِنَاسٌ تَامٌّ فِي قَوْلِهِ: أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَفِي قَوْلِهِ: وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا فَمَعْنَى الْخَيْرِ الْأَوَّلِ الْمَالُ، وَالثَّانِي الْحَسَنَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) مَا زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْقِلَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً، وَلَفْظُ قَلِيلٍ هُوَ الْخَبَرُ وَهُمْ هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وَالتَّقْدِيرُ وَهُمْ قَلِيلٌ، وَقَدَّمَ الْخَبَرَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاخْتِصَاصِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ لِي: مَكَانَكَ) بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمْ مَكَانَكَ، وَقَوْلُهُ: لَا تَبْرَحْ تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ، وَرُفِعَ لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْأَمْرَ بِلُزُومِ الْمَكَانِ لَيْسَ عَامًّا فِي الْأَزْمِنَةِ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى آتِيَكَ غَايَةٌ لِلُزُومِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، وَفِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: لَا تَبْرَحْ يَا أَبَا ذَرٍّ حَتَّى أَرْجِعَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ لِي: اجْلِسْ ههُنَا، فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ؛ أَيْ أَرْضٍ سَهْلَةٍ مُطَمْئِنَةٍ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ انْطَلَقَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْقَمَرَ كَانَ قَدْ غَابَ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَوَارَى)؛ أَيْ غَابَ شَخْصُهُ، زَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: عَنِّي، وَفِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: حَتَّى غَابَ عَنِّي، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فَانطلَقَ فِي الْحَرَّةِ - أَيْ دَخَلَ فِيهَا - حَتَّى لَا أَرَاهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي شِهَابٍ: فَتَقَدَّمَ غَيْرَ بَعِيدٍ، زَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَأَطَالَ اللُّبْثَ.
قَوْلُهُ: (فَسَمِعْتُ صَوْتًا قَدِ ارْتَفَعَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: فَسَمِعْتُ لَغَطًا وَصَوْتًا.
قَوْلُهُ: (فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ عَرَضَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أَيْ تَعَرَّضَ لَهُ بِسُوءٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ عُرِضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِ عُرِضَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ: (فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ)؛ أَيْ أَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ؛ أَيْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى حَالِ سَبِيلِهِ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ فِي الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ: لَا تَبْرَحْ، فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى أَتَانِي) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى جَاءَ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتًا تَخَوَّفْتُ فَذَكَرْتُ لَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: فَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي سَمِعْتُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي شِهَابٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الَّذِي سَمِعْتُ أَوْ قَالَ الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعْتُ، كَذَا فِيهِ بِالشَّكِّ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ تَكَلَّمَ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يُرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: وَهَلْ سَمِعْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ذَلِكَ
جِبْرِيلُ)؛ أَيِ الَّذِي كُنْتُ أُخَاطِبُهُ أَوْ ذَلِكَ صَوْتُ جِبْرِيلَ.
قَوْلُهُ: (أَتَانِي) زَادَ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: فَأَخْبَرَنِي. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عَرَضَ لِي - أَيْ ظَهَرَ - فَقَالَ بَشِّرْ أُمَّتَكَ، وَلَمْ أَرَ لَفْظَ التَّبْشِيرِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ.
قَوْلُهُ: (مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا) زَادَ الْأَعْمَشُ مِنْ أُمَّتِكَ.
قَوْلُهُ: (دَخَلَ الْجَنَّةَ) هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، رَتَّبَ دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى الْمَوْتِ بِغَيْرِ إِشْرَاكِ بِاللَّهِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْوَعِيدُ بِدُخُولِ النَّارِ لِمَنْ عَمِلَ بَعْضَ الْكَبَائِرِ، وَبِعَدَمِ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِمَنْ عَمِلَهَا فَلِذَلِكَ وَقَعَ الِاسْتِفْهَامُ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكَلَامِ مُقَدَّرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّقْدِيرُ أَوَ إِنْ زَنَى أَوَ إِنْ سَرَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، وَالشَّرْطُ حَالٌ، وَلَا يَذْكُرُ الْجَوَابَ مُبَالَغَةً، وَتَتْمِيمًا لِمَعْنَى الْإِنْكَارِ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ: قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ. وَكَرَّرَهَا مَرَّتَيْنِ لِلْأَكْثَرِ وَثَلَاثًا لِلْمُسْتَمْلِي، وَزَادَ فِي آخِرِ الثَّالِثَةِ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَكَذَا وَقَعَ التَّكْرَارُ ثَلَاثًا فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي اللِّبَاسِ، لَكِنْ بِتَقْدِيمِ الزِّنَا عَلَى السَّرِقَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَلَا وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَزَادَ أَبُو الْأَسْوَدِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ، وَزَادَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ: قَالَ الْأَعْمَشُ: قُلْتُ لِزَيْدِ بْنِ وَهْبٍ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ: أَشْهَدُ لَحَدَّثَنِيهِ أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ.
قَالَ الْأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِلَفْظِ: إِنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَقِبَ رِوَايَةِ حَفْصٍ: حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُرْسَلٌ لَا يَصِحُّ، إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ؛ أَيْ إِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَهُ لِلْمَعْرِفَةِ بِحَالِهِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قِيلَ لَهُ: فَحَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ فَقَالَ: مُرْسَلٌ أَيْضًا لَا يَصِحُّ، ثُمَّ قَالَ: اضْرِبُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
قُلْتُ: فَلِهَذَا هُوَ سَاقِطٌ مِنْ مُعْظَمِ النُّسَخِ، وَثَبَتَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَأَوَّلَهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُرْسَلٌ، فَسَاقَهُ إِلَخْ.
وَرِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ يَقُصُّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، فَأَعَدْتُ فَأَعَادَ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ لَهُ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْمُعْجَمِ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ، هَذَا غَيْرُ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ مَعْنَاهُ.
قُلْتُ: وَهُمَا قِصَّتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ، وَإِنِ اشْتَرَكَتَا فِي الْمَعْنَى الْأَخِيرِ وَهُوَ سُؤَالُ الصَّحَابِيِّ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، وَاشْتَرَكَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ رَغِمَ، وَمِنَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا وُقُوعُ الْمُرَاجَعَةِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجِبْرِيلَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ دُونَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَلَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ طُرُقٌ أُخْرَى، مِنْهَا لِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوُ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ.
وَمِنْهَا لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ بِلَفْظِ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ كَعْبِ بْنِ ذُهْلٍ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ، أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي،
فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ ثَلَّثْتُ فَقَالَ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ عُوَيْمِرٍ فَرَدَّدَهَا، قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَضْرِبُ أَنْفَهُ بِإِصْبَعِهِ.
وَمِنْهَا لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ وَاهِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعَافِرِيِّ: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي الدَّرْدَاءِ. قَالَ: فَخَرَجْتُ لِأُنَادِيَ بِهَا فِي النَّاسِ، فَلَقِيَنِي عُمَرُ فَقَالَ: ارْجِعْ، فَإِنَّ النَّاسَ إِنْ يَعْلَمُوا بِهَذَا اتَّكَلُوا عَلَيْهَا، فَرَجَعْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَدَقَ عُمَرُ قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الْأَخِيرَةُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي بَابِ مَنْ جَاهَدَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - قَرِيبًا
الْحَدِيثُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ مِثْلُ حَبِيبٍ، وَهُوَ الْحَبَطِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، ثُمَّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةً إِلَى الْحَبَطَاتِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ صَدُوقٌ، ضَعَّفَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ تَبَعًا لِأَبِي الْفَتْحِ الْأَزْدِيِّ، وَالْأَزْدِيُّ غَيْرُ مَرْضِيٍّ فَلَا يُتْبَعُ فِي ذَلِكَ، وَأَبُوهُ يُكَنَّى أَبَا سَعِيدٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي يُونُسُ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنَ اللَّيْثِ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِهِ تَقْوِيَةَ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (لَوْ كَانَ لِي) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْوَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي أَوَّلِهِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ.
قَوْلُهُ: (مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا) فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ لَوْ أَنَّ أُحُدَكُمْ عِنْدِي ذَهَبًا.
قَوْلُهُ: (مَا يَسُرُّنِي أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ أَرْصُدُهُ فِي دَيْنٍ عَلَيَّ، وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ: وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ أَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ لَيْسَ شَيْئًا أَرْصُدُهُ فِي دَيْنٍ عَلَيَّ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ وُقُوعُ التَّمَنِّي بَعْدَ مَثَلٍ، وَجَوَابُ لَوْ مُضَارِعًا مَنْفِيًّا بِمَا، وَحَقُّ جَوَابِهَا أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا مُثْبَتًا نَحْوَ لَوْ قَامَ لَقُمْتُ، أَوْ بِلَمْ نَحْوَ لَوْ قَامَ لَمْ أَقُمْ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ وَضَعَ الْمُضَارِعَ مَوْضِعَ الْمَاضِي الْوَاقِعُ جَوَابًا، كَمَا وَقَعَ مَوْضِعُهُ وَهُوَ شَرْطٌ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}
ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مَا كَانَ يَسُرُّنِي فَحَذَفَ كَانَ وَهُوَ جَوَابٌ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ وَهُوَ الِاسْمُ، وَيَسُرُّنِي خَبَرٌ، وَحَذْفُ كَانَ مَعَ اسْمِهَا وَبَقَاءُ خَبَرِهَا كَثِيرٌ نَظْمًا وَنَثْرًا، وَمِنْهُ: الْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ قَالَ: وَأَشْبَهُ شَيْءٍ بِحَذْفِ كَانَ قَبْلَ يَسُرُّنِي حَذْفُ جَعَلَ قَبْلَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} ؛ أَيْ جَعَلَ يُجَادِلُنَا، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَفِيهِ أَيْضًا وُقُوعُ لَا بَيْنَ أَنْ وَتَمُرُّ وَهِيَ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى مَا يَسُرُّنِي أَنْ تَمُرَّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ مَا يَسُرُّنِي هُوَ جَوَابُ لَوْ الِامْتِنَاعِيَّةِ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَسُرَّهُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، وَفِيهِ نَوْعُ مُبَالَغَةٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسُرَّهُ كَثْرَةُ مَا يُنْفِقُهُ فَكَيْفَ مَا لَا يُنْفِقُهُ قَالَ: وَفِي التَّقْيِيدِ بِالثَّلَاثَةِ تَتْمِيمٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي سُرْعَةِ الْإِنْفَاقِ، فَلَا تَكُونُ لَا زَائِدَةً كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ؛ بَلِ النَّفْيُ فِيهَا عَلَى حَالِهِ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ مَالِكٍ الرِّوَايَةُ الْمَاضِيَةُ قَبْلُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ.
وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَدَبُ أَبِي ذَرٍّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَرَقُّبُهُ أَحْوَالَهُ، وَشَفَقَتَهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ. وَفِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ مَعَ الْأَكَابِرِ وَأَنَّ الصَّغِيرَ إِذَا رَأَى الْكَبِيرَ مُنْفَرِدًا لَا يَتَسَوَّرُ عَلَيْهِ وَلَا يَجْلِسُ مَعَهُ وَلَا يُلَازِمُهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِي مَجْمَعٍ كَالْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ، فَيَكُونُ جُلُوسُهُ مَعَهُ
بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَكْنِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، كَأَنْ يَكُونُ أَشْهَرَ مِنِ اسْمِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ اسْمُهُ مُشْتَرِكًا بِغَيْرِهِ وَكُنْيَتُهُ فَرْدَةٌ. وَفِيهِ جَوَازُ تَفْدِيَةِ الْكَبِيرِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهَا وَالْجَوَابُ بِمِثْلِ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ زِيَادَةٌ فِي الْأَدَبِ. وَفِيهِ الِانْفِرَادُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ.
وَفِيهِ أَنَّ امْتِثَالَ أَمْرِ الْكَبِيرِ وَالْوُقُوفَ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنِ ارْتِكَابِ مَا يُخَالِفُهُ بِالرَّأْيِ وَلَوْ كَانَ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الرَّأْيُ تَوَهُّمُ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ؛ حَتَّى يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ أَوْلَى. وَفِيهِ اسْتِفْهَامُ التَّابِعِ مِنْ مَتْبُوعِهِ عَلَى مَا يَحْصُلُ لَهُ فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ أَوْ عِلْمِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَفِيهِ الْأَخْذُ بِالْقَرَائِنِ؛ لِأَنَّ أَبَا ذَرٍّ لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتُبْصِرُ أُحُدًا فَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُرْسِلَهُ فِي حَاجَةٍ فَنَظَرَ إِلَى مَا عَلى أُحُدٍ مِنَ الشَّمْسِ؛ لِيَعْلَمَ هَلْ يَبْقَى مِنَ النَّهَارِ قَدْرٌ يَسْعُهَا.
وَفِيهِ أَنَّ مَحَلَّ الْأَخْذِ بِالْقَرِينَةِ إِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يُخَصِّصُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ مَا فَهِمَهُ أَبُو ذَرٍّ مِنَ الْقَرِينَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ بَعْضَ الْقَرَائِنِ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى الْمُرَادِ وَذَلِكَ لِضَعْفِهِ.
وَفِيهِ الْمُرَاجَعَةُ فِي الْعِلْمِ بِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ الطَّالِبِ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَسْمَعُهُ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ مِنَ الْآيَاتِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي وَعِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالنَّارِ وَبِالْعَذَابِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ دَخَلَ الْجَنَّةَ اسْتَفْهَمَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ وَاقْتَصَرَ عَلَى هَاتَيْنِ الْكَبِيرَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا كَالْمِثَالَيْنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعِبَادِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَلِلْإِشَارَةُ إِلَى فُحْشِ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى خَلَلِ الْعَقْلِ الَّذِي شَرُفَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى الْبَهَائِمِ، وَبِوُقُوعِ الْخَلَلِ فِيهِ قَدْ يَزُولُ التَّوَقِّي الَّذِي يَحْجِزُ عَنِ ارْتِكَابِ بَقِيَّةِ الْكَبَائِرِ.
وَفِيهِ أَنَّ الطَّالِبَ إِذَا أَلَحَّ فِي الْمُرَاجَعَةِ يُزْجَرُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ؛ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ حَمَلَهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا مَضَى فِي اللِّبَاسِ عَلَى مَنْ تَابَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً، أَوْ بَعْدَ الْمُجَازَاةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالْأَوَّلُ: هُوَ وَفْقُ مَا فَهِمَهُ أَبُو ذَرٍّ، وَالثَّانِي: أَوْلَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، فَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَرَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا مَاتَ عَنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِمَا مَرَّ مِنْ سِيَاقِ كَعْبِ بْنِ ذُهْلٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ عَمِلَ سُوءًا أَوْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ.
وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَخَصَّ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ لِقولِهِ فِيهِ: بَشِّرْ أُمَّتَكُ وَإِنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي، وَتُعُقِّبَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُعَذَّبُونَ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي الْحَدِيثَ. وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَفِي بَعْضِهَا: حُرِّمَ عَلَى النَّارِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَوَجْهُ التَّعَقُّبِ ذِكْرُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ فِيهِ فَذُكِرَ عَلَى خِلَافِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَحَمَلَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ الْكَلِمَةَ وَأَدَّى حَقَّهَا بِأَدَاءِ مَا وَجَبَ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى، وَرَجَّحَهُ الطِّيبِيُّ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَخْدِشُ فِيهِ.
وَأَشْكَلُ الْأَحَادِيثِ وَأَصْعَبُهَا قَوْلُهُ: لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَفِي آخِرِهِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ وَقِيلَ: أَشْكَلُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: مَا مِنْ عَبْدِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى فِيهِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، وَمِنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّةَ، وَصَرَّحَ بِتَحْرِيمِ النَّارِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: دَخَلَ الْجَنَّةَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي دُخُولَ النَّارِ أَوَّلًا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: لَكِنَّ الْأَوَّلَ يَتَرَجَّحُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا مُبَالَغَةً، وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ تَتْمِيمًا لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْحَدِيثِ الْآخَرُ مُطْلَقٌ يَقْبَلُ التَّقْيِيدَ فَلَا يُقَاوِمُ قَوْلَهُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ
سَرَقَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمُتُونَ فِي ذَلِكَ وَالِاخْتِلَافَ فِي هَذَا الْحُكْمِ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَجْمَعِهِمْ أَنَّ أَهْلَ الذُّنُوبِ فِي الْمَشِيئَةِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مُوقِنًا بِالشَّهَادَتَيْنِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَإِنْ كَانَ دَيِّنًا أَوْ سَلِيمًا مِنَ الْمَعَاصِي دَخَلَ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَحَرُمَ عَلَى النَّارِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُخَلِّطِينَ بِتَضْيِيعِ الْأَوَامِرِ أَوْ بَعْضِهَا وَارْتِكَابِ النَّوَاهِي أَوْ بَعْضِهَا وَمَاتَ عَنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَهُوَ فِي خَطَرِ الْمَشِيئَةِ، وَهُوَ بِصَدَدِ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُعَذِّبَهُ فَمَصِيرُهُ إِلَى الْجَنَّةِ بِالشَّفَاعَةِ، انْتَهَى.
وَعَلَى هَذَا فَتَقْيِيدُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، لَكِنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ إِنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَتَقْدِيرُ الثَّانِي: حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَهُ عَلَى نَارِ الْخُلُودِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ قَدْ يُتَّخَذُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُبْطَلَةِ ذَرِيعَةٌ إِلَى طَرْحِ التَّكَالِيفِ وَإِبْطَالِ الْعَمَلِ؛ ظَنًّا أَنَّ تَرْكَ الشِّرْكِ كَافٍ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ طَيَّ بِسَاطِ الشَّرِيعَةِ وَإِبْطَالَ الْحُدُودِ، وَأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّحْذِيرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ؛ بَلْ يَقْتَضِي الِانْخِلَاعَ عَنِ الدِّينِ وَالِانْحِلَالَ عَنْ قَيْدِ الشَّرِيعَةِ وَالْخُرُوجَ عَنِ الضَّبْطِ، وَالْوُلُوجَ فِي الْخَبْطِ، وَتَرْكِ النَّاسِ سُدًى مُهْمَلِينَ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى خَرَابِ الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى خَرَابِ الْأُخْرَى، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا يَشْمَلُ مُسَمَّى الشِّرْكِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، فَلَا رَاحَةَ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ إِذَا ثَبَتَتْ وَجَبَ ضَمُّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فَإِنَّهَا فِي حُكْمِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُهَا عَلَى مُقَيَّدِهَا لِيَحْصُلَ الْعَمَلُ بِجَمِيعِ مَا فِي مَضْمُونِهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَفِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ بِغَيْرِ تَحْلِيفٍ، وَيُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ كَتَأْكِيدِ أَمْرٍ مُهِمٍّ وَتَحْقِيقِهِ وَنَفْيِ الْمَجَازِ عَنْهُ، وَفِي قَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ تَعْبِيرُ الْإِنْسَانِ عَنْ نَفْسِهِ بِاسْمِهِ دُونَ ضَمِيرِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالضَّمِيرِ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَفِي الْأَوَّلِ نَوْعُ تَجْرِيدٍ، وَفِي الْحَلِفِ بِذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي التَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَحْضَرَ أَنَّ نَفْسَهُ وَهِيَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ بِيَدِ اللَّهِ - تَعَالَى - يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ اسْتَشْعَرَ الْخَوْفَ مِنْهُ فَارْتَدَعَ عَنِ الْحَلِفِ عَلَى مَا لَا يَتَحَقَّقُهُ، وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَ تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ بِذِكْرِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا صِفَاتِ الْجَلَالِ.
وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يَبْقَى بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا لِإِنْفَاقِهِ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَإِمَّا لِإِرْصَادِهِ لِمَنْ لَهُ حَقٌّ، وَإِمَّا لِتَعَذُّرِ مَنْ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ لِتَقْيِيدِهِ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِيَةِ فِي كِتَابِ التَّمَنِّي بِقَوْلِهِ: أَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ جَوَازُ تَأْخِيرِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ عَنِ الْإِعْطَاءِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَخْذَهَا، وَيَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَعْزِلَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ مِنْ مَالِهِ، وَيَجْتَهِدَ فِي حُصُولِ مَنْ يَأْخُذُهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا يُنْسَبُ إِلَى تَقْصِيرٍ فِي حَبْسِهِ.
وَفِيهِ تَقْدِيمُ وَفَاءِ الدَّيْنِ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِقْرَاضِ، وَقَيَّدَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِالْيَسِيرِ؛ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا دِينَارًا قَالَ: وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَرْصُدْ لِأَدَائِهِ دِينَارًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ قَضَاءً، قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الِاسْتِغْرَاقُ فِي الدَّيْنِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ لَهُ وَفَاءً فَيَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ لَفْظِ الدِّينَارِ مِنَ الْوَحْدَةِ لَيْسَ كَمَا فَهِمَ؛ بَلْ إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ فَلَيْسَتِ الثَّلَاثَةُ فِيهِ لِلتَّقْلِيلِ؛ بَلْ لِلْمِثَالِ أَوْ لِضَرُورَةِ الْوَاقِعِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثَةِ أَنَّهَا كَانَتْ كِفَايَتَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَى إِخْرَاجِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ دِينَارُ الدَّيْنِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَدِينَارٌ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَهْلِ وَدِينَارٌ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الضَّيْفِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِدِينَارِ الدَّيْنِ الْجِنْسُ، وَيُؤَيِّدُهُ تَعْبِيرُهُ فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ بِالشَّيْءِ عَلَى الْإِبْهَامِ فَيَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ
وَالْكَثِيرَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْحَثُّ عَلَى وَفَاءِ الدُّيُونِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَجَوَازُ اسْتِعْمَالِ لَوْ عِنْدَ تَمَنِّي الْخَيْرِ، وَتَخْصِيصُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنِ اسْتِعْمَالِ لَوْ عَلَى مَا يَكُونُ فِي أَمْرٍ غَيْرِ مَحْمُودٍ شَرْعًا، وَادَّعَى الْمُهَلَّبُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الْأَحْنَفِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّمْسِ .. الْحَدِيثَ أَنَّهُ ذُكِرَ لِلتَّمْثِيلِ فِي تَعْجِيلِ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مَا أُحِبُّ أَنْ أَحْبِسَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيَّ إِخْرَاجَهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ فَقَالَ: هُوَ بِعِيدٌ فِي التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا السِّيَاقُ بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَه عَلَى عِظَمِ أُحُدٍ؛ لِيَضْرِبَ بِهِ الْمَثَلَ فِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْرُهُ ذَهَبًا مَا أَحَبَّ أَنْ يُؤَخَّرَ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَا ذَكَرَ مِنَ الْإِنْفَاقِ وَالْإِرْصَادِ، فَظَنَّ أَبُو ذَرٍّ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَهُ فِي حَاجَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ مُرَادًا إِذْ ذَاكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا اسْتَفْهَمَهُ عَنْ رُؤْيَتِهِ لِيَسْتَحْضِرَ قَدْرَهُ حَتَّى يُشَبِّهَ لَهُ مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ لِي مِثْلَهُ ذَهَبًا. وَقَالَ عِيَاضٌ: قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُفَضِّلُ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى، وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُفَضِّلُ الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ، وَمَأْخَذُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاضِحٌ مِنْ سِيَاقِ الْخَبَرِ، وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي الْحَيَاةِ وَفِي الصِّحَّةِ، وَتَرْجِيحُهُ عَلَى إِنْفَاقِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ مَضَى فِيهِ حَدِيثُ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَغْنِيَاءِ يَشِحُّ بِإِخْرَاجِ مَا عِنْدَهُ مَا دَامَ فِي عَافِيَةٍ، فَيَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَيَخْشَى الْفَقْرَ، فَمَنْ خَالَفَ شَيْطَانَهُ وَقَهَرَ نَفْسَهُ؛ إِيثَارًا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ فَازَ، وَمَنْ بَخِلَ بِذَلِكَ لَمْ يَأْمَنِ الْجَوْرَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ سَلِمَ لَمْ يَأْمَنْ تَأْخِيرَ تَنْجِيزِ مَا أَوْصَى بِهِ، أَوْ تَرْكَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآفَاتِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ خَلَّفَ وَارِثًا غَيْرَ مُوَفَّقٍ فَيُبَذِّرُهُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، وَيَبْقَى وَبَالُهُ عَلَى الَّذِي جَمَعَهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
15 - بَاب الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَقَال اللَّهِ تَعَالَى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} - إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى - {مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَمْ يَعْمَلُوهَا، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا.
6446 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ،، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ.
قَوْلُهُ: (بَاب) بِالتَّنْوِينِ (الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ)؛ أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ قَلِيلَ الْمَالِ أَوْ كَثِيرَهُ، وَالْغِنَى بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَقْصُورٌ، وَقَدْ مُدَّ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَعَ الْمَدِّ هُوَ الْكِفَايَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: إِلَى عَامِلُونَ وَهَذِهِ رَأْسُ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْآيَةِ الْمُبْدَأِ بِهَا هُنَا، وَالْآيَاتُ الَّتِي بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَبَيْنَ الْأَخِيرَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا اعْتَرَضَتْ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} لَلْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: نَمُدُّهُمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ ذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} وَالْمَعْنَى: أَيَظُنُّونَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي نَرْزُقُهُمْ إِيَّاهُ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْنَا؟ إِنْ ظَنُّوا ذَلِكَ أَخْطَئُوا؛ بَلْ هُوَ اسْتِدْرَاجٌ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} ؛ أَيْ مِنَ الِاسْتِدْرَاجِ الْمَذْكُورِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الْأَعْمَالَ مِنْ كُفْرٍ أَوْ إِيمَانٍ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ بِقَوْلِهِ: لَمْ يَعْمَلُوهَا لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمُوهَا، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ فَقَالُوا: الْمَعْنَى كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ، لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا قَبْلَ مَوْتِهِمْ لِتَحِقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ.
ثُمَّ مُنَاسَبَةُ الْآيَةِ
لِلْحَدِيثِ أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْمَالِ لَيْسَتْ لِذَاتِهِ؛ بَلْ بِحَسَبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى خَيْرًا فِي الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمَالِ الْكَثِيرِ لَيْسَ غَنِيًّا لِذَاتِهِ؛ بَلْ بِحَسَبِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ غَنِيًّا لَمْ يَتَوَقَّفْ فِي صَرْفِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ فَقِيرًا أَمْسَكَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ خَشْيَةً مِنْ نَفَادِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فَقِيرٌ صُورَةً وَمَعْنًى، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ تَحْتَ يَدِهِ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْأُخْرَى؛ بَلْ رُبَّمَا كَانَ وَبَالًا عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ) هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، وَهُوَ الْقَارِئُ الْمَشْهُورُ، وَأَبُو حَصِينٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ اسْمُهُ عُثْمَانُ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ ثُمَّ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ، أَمَّا عَنْ فَهِيَ سَبَبِيَّةٌ، وَأَمَّا الْعَرَضُ فَهُوَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَيُطْلَقُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْجَوْهَرَ، وَعَلَى كُلُّ مَا يَعْرِضُ لِلشَّخْصِ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْبُونِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ عَنْهُ قَالَ: اتَّصَلَ بِي عَنْ شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِ الْقَيْرَوَانِ أَنَّهُ قَالَ: الْعَرَضُ بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ: الْوَاحِدُ مِنَ الْعُرُوضُ الَّتِي يُتَّجَرُ فِيهَا، قَالَ: وَهُوَ خَطَأٌ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي أَنَّهُ مَا يَعْرِضُ فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ أَحَدَ الْعُرُوضِ الَّتِي يُتَّجَرُ فِيهَا؛ بَلْ وَاحِدُهَا عَرْضٌ بِالْإِسْكَانِ، وَهُوَ مَا سِوَى النَّقْدَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعُرُوضُ الْأَمْتِعَةُ، وَهِيَ مَا سِوَى الْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، وَمَا لَا يَدْخُلُهُ كَيْلٌ وَلَا وَزْنٌ، وَهَكَذَا حَكَاهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْعَرْضُ بِالسُّكُونِ كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَالِ غَيْرَ نَقْدٍ وَجَمْعُهُ عُرُوضٌ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فَمَا يُصِيبُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ حَظِّهِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ - تَعَالَى -:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} وَقَالَ: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِهِمَا: إِنَّمَا الْغِنَى فِي النَّفْسِ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَتَرَى قِلَّةَ الْمَالِ هُوَ الْفَقْرَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ، وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى الْحَدِيثِ لَيْسَ حَقِيقَةُ الْغِنَى كَثْرَةَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ لَا يَقْنَعُ بِمَا أُوتِيَ فَهُوَ يَجْتَهِدُ فِي الِازْدِيَادِ، وَلَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ، فَكَأَنَّهُ فَقِيرٌ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَهُوَ مَنِ اسْتَغْنَى بِمَا أُوتِيَ وَقَنِعَ بِهِ وَرَضِيَ وَلَمْ يَحْرِصْ عَلَى الِازْدِيَادِ، وَلَا أَلَحَّ فِي الطَّلَبِ، فَكَأَنَّهُ غَنِيٌّ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْغِنَى النَّافِعَ أَوِ الْعَظِيمَ أَوِ الْمَمْدُوحَ هُوَ غِنَى النَّفْسِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا اسْتَغْنَتْ نَفْسُهُ كَفَّتْ عَنِ الْمَطَامِعِ فَعَزَّتْ وَعَظُمَتْ، وَحَصَلَ لَهَا مِنَ الْحُظْوَةِ وَالنَّزَاهَةِ وَالشَّرَفِ وَالْمَدْحِ أَكْثَرُ مِنَ الْغِنَى الَّذِي يَنَالُهُ مَنْ يَكُونُ فَقِيرَ النَّفْسِ؛ لِحِرْصِهِ فَإِنَّهُ يُوَرِّطُهُ فِي رَذَائِلِ الْأُمُورِ وَخَسَائِسِ الْأَفْعَالِ؛ لِدَنَاءَةِ هِمَّتِهِ وَبُخْلِهِ، وَيَكْثُرُ مَنْ يَذُمُّهُ مِنَ النَّاسِ، وَيَصْغُرُ قَدْرُهُ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ أَحْقَرَ مِنْ كُلِّ حَقِيرٍ وَأَذَلَّ مِنْ كُلِّ ذَلِيلٍ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِغِنَى النَّفْسِ يَكُونُ قَانِعًا بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ، لَا يَحْرِصُ عَلَى الِازْدِيَادِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَا يُلِحُّ فِي الطَّلَبِ وَلَا يُلْحِفُ فِي السُّؤَالِ؛ بَلْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، فَكَأَنَّهُ وَاجِدٌ أَبَدًا، وَالْمُتَّصِفُ بِفَقْرِ النَّفْسِ عَلَى الضِّدِّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ لَا يَقْنَعُ بِمَا أُعْطِيَ؛ بَلْ هُوَ أَبَدًا فِي طَلَبِ الِازْدِيَادِ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ، ثُمَّ إِذَا فَاتَهُ الْمَطْلُوبُ حَزِنَ وَأَسِفَ فَكَأَنَّهُ فَقِيرٌ مِنَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْنِ بِمَا أُعْطِيَ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ، ثُمَّ غِنَى النَّفْسِ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ عِلْمًا بِأَنَّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى، فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنِ الْحِرْض وَالطَّلَبِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ:
غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ حَاجَةٍ
…
فَإِنْ زَادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى فَقْرًا
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِغِنَى النَّفْسِ حُصُولُ الْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْقَائِلُ:
وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ
…
مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ
أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْفِقَ أَوْقَاتَهُ فِي الْغِنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْكَمَالَاتِ، لَا فِي جَمْعِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَزْدَادُ بِذَلِكَ إِلَّا فَقْرًا انْتَهَى. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ لَكِنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ أَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ غِنَى النَّفْسِ بِغِنَى الْقَلْبِ بِأَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى رَبِّهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ فَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، فَيَرْضَى بِقَضَائِهِ وَيَشْكُرُهُ عَلَى نَعْمَائِهِ، وَيَفْزَعُ إِلَيْهِ فِي كَشْفِ ضَرَّائِهِ، فَيَنْشَأُ عَنِ افْتِقَارِ الْقَلْبِ لِرَبِّهِ غِنَى نَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَبِهِ - تَعَالَى - وَالْغِنَى الْوَارِدُ فِي قَوْلِهِ:{وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} يَتَنَزَّلُ عَلَى غِنَى النَّفْسِ، فَإِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَا يَخْفَى مَا كَانَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ تُفْتَحَ عَلَيْهِ خَيْبَرُ وَغَيْرُهَا مِنْ قِلَّةِ الْمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
16 - بَاب فَضْلِ الْفَقْرِ
6447 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا.
6448 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ "عُدْنَا خَبَّابًا فَقَالَ هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الإِذْخِرِ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا"
6449 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ "عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" تَابَعَهُ أَيُّوبُ وَعَوْفٌ وَقَالَ صَخْرٌ وَحَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
6450 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ لَمْ يَأْكُلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ"
6451 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ لَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْفَقْرِ) قِيلَ: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا إِلَى تَحْقِيقِ مَحَلِّ الْخِلَافِ فِي تَفْضِيلِ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى أَوْ عَكْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ: الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ الْحَصْرُ فِي ذَلِكَ، فَيُحْمَلُ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْغِنَى عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ غَنِيَّ النَّفْسِ لَمْ يَكُنْ مَمْدُوحًا؛ بَلْ يَكُونُ مَذْمُومًا فَكَيْفَ يَفْضُلُ، وَكَذَا مَا وَرَدَ مِنْ فَضْلِ الْفَقْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ غَنِيَّ النَّفْسِ فَهُوَ فَقِيرُ النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي تَعَوَّذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ، وَالْفَقْرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ عَدَمُ الْمَالِ وَالتَّقَلُّلُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْفَقْرُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فَالْمُرَادُ بِهِ احْتِيَاجُ الْمَخْلُوقِ إِلَى الْخَالِقِ، فَالْفَقْرُ لِلْمَخْلُوقِينَ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ لِأَحَدٍ.
وَيُطْلَقُ الْفَقْرُ أَيْضًا عَلَى شَيْءٍ اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الصُّوفِيَّةُ وَتَفَاوَتَتْ فِيهِ عِبَارَاتُهُمْ، وَحَاصِلُهُ كَمَا قَالَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ نَفْضُ الْيَدِ مِنَ الدُّنْيَا ضَبْطًا وَطَلَبًا، مَدْحًا وَذَمًّا، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ سَوَاءٌ حَصَلَ فِي يَدِهِ أَمْ لَا، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الْمَاضِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْفَقْرِ هُنَا الْفَقْرُ مِنَ الْمَالِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ بَطَّالٍ هُنَا عَلَى مَسْأَلَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَقَالَ: طَالَ نِزَاعُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْفَقْرَ، وَاحْتَجَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّحِيحِ وَالْوَاهِي، وَاحْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ الْغِنَى بِمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا بِبَابٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْأَقَلُّونَ إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا، وَحَدِيثِ سَعْدٍ الْمَاضِي فِي الْوَصَايَا: إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً، وَحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ حَيْثُ اسْتَشَارَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَالِهِ كُلِّهِ فَقَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، وَحَدِيثِ: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، وَفِي آخِرِهِ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ: وَأَحْسَنُ مَا رَأَيْتُ فِي هَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الدَاوُدِيِّ: الْفَقْرُ وَالْغِنَى مِحْنَتَانِ مِنَ اللَّهِ يَخْتَبِرُ بِهِمَا عِبَادَهُ فِي الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وَثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا حَاصِلُهُ: أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ مُتَقَابِلَانِ لِمَا يَعْرِضُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي فَقْرِهِ وَغِنَاهُ مِنَ الْعَوَارِضِ فَيُمْدَحُ أَوْ يُذَمُ، وَالْفَضْلُ كُلُّهُ فِي الْكَفَافِ؛ لِقولِهِ - تَعَالَى -:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: أَسْأَلُكَ غِنَايَ وَغِنَى هَؤُلَاءِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا
…
الْحَدِيثَ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بِهِ الْكَفَافَ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَمِمَّنْ جَنَحَ إِلَى تَفْضِيلِ الْكَفَافِ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فَقَالَ: جَمَعَ اللَّهُ سبحانه وتعالى لِنَبِيِّهِ الْحَالَاتِ الثَّلَاثَ: الْفَقْرَ، وَالْغِنَى، وَالْكَفَافَ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوَّلَ حَالَاتِهِ فَقَامَ بِوَاجِبِ ذَلِكَ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، ثُمَّ فُتِحَتْ عَلَيْهِ الْفُتُوحُ فَصَارَ بِذَلِكَ فِي حَدِّ الْأَغْنِيَاءِ فَقَامَ بِوَاجِبِ ذَلِكَ مِنْ بَذْلِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ وَالْمُوَاسَاةِ بِهِ، وَالْإِيثَارِ مَعَ اقْتِصَارِهِ مِنْهُ عَلَى مَا يَسُدُّ ضَرُورَةَ عِيَالِهِ، وَهِيَ صُورَةُ الْكَفَافِ الَّتِي
مَاتَ عَلَيْهَا قَالَ: وَهِيَ حَالَةٌ سَلِيمَةٌ مِنَ الْغِنَى الْمُطْغِي وَالْفَقْرِ الْمُؤْلِمِ، وَأَيْضًا فَصَاحِبُهَا مَعْدُودٌ فِي الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَرَّفَهُ فِي طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا، بَلْ يُجَاهِدُ نَفْسَهُ فِي الصَّبْرِ عَنِ الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى الْكَفَافِ، فَلَمْ يَفُتْهُ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ إِلَّا السَّلَامَةُ مِنْ قَهْرِ الْحَاجَةِ وَذُلِّ الْمَسْأَلَةِ، انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي غِنَى النَّفْسِ، وَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَرُزِقَ الْكَفَافَ، وَقَنِعَ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ نَحْوَهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضِيلَةُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَالْكَفَافُ الْكِفَايَةُ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ مَا يَكُفُّ عَنِ الْحَاجَاتِ وَيَدْفَعُ الضَّرُورَاتِ وَلَا يُلْحِقُ بِأَهْلِ التَّرَفُّهَاتِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ حَصَلَ عَلَى مَطْلُوبِهِ، وَظَفِرَ بِمَرْغُوبِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا؛ أَيِ اكْفِهِمْ مِنَ الْقُوتِ بِمَا لَا يُرْهِقُهُمْ إِلَى ذُلِّ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ فُضُولٌ تَبْعَثُ عَلَى التَّرَفُّهِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الدُّنْيَا، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْكَفَافَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَآلِهِ بِأَفْضَلِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ قَالَ خَيْرُ: الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَلِيلِ الْعَمَلِ قَلِيلِ الذُّنُوبِ أَفْضَلُ، أَوْ رَجُلٌ كَثِيرُ الْعَمَلِ كَثِيرُ الذُّنُوبِ؟ فَقَالَ: لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا، فَمَنْ حَصَلَ لَهُ مَا يَكْفِيهِ، وَاقْتَنَعَ بِهِ أَمِنَ مِنْ آفَاتِ الْغِنَى وَآفَاتِ الْفَقْرِ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ لَوْ صَحَّ لَكَانَ نَصًّا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ نُفَيْعٍ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: مَا مِنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ إِلَّا وَدَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا قُوتًا.
قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا يَدْفَعُ أَصْلَ السُّؤَالِ عَنْ أَيِّهِمَا أَفْضَلُ: الْغِنَى أَوِ الْفَقْرُ؟ لِأَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَقِّ مَنِ اتَّصَفَ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ أَيُّهُمَا فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ؟ وَلِهَذَا قَالَ الدَاوُدِيُّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا: إِنَّ السُّؤَالَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا لَيْسَ لِلْآخَرِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ السُّؤَالُ عَنْهُمَا إِذَا اسْتَوَيَا بِحَيْثُ يَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْعَمَلِ مَا يُقَاوِمُ بِهِ عَمَلَ الْآخَرِ، قَالَ: فَعِلْمُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ انْتَهَى، وَكَذَا قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ، لَكِنْ قَالَ إِذَا اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى فَهُمَا فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَهْلِ الدُّثُورِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَمُحَصَّلُ كَلَامِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ؛ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ بِالْقُرَبِ الْمَالِيَّةِ، إِلَّا إِنْ فَسَّرَ الْأَفْضَلَ بِمَعْنَى الْأَشْرَفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَاتِ النَّفْسِ فَالَّذِي حَصَلَ لِلنَّفْسِ مِنَ التَّطْهِيرِ لِلْأَخْلَاقِ وَالرِّيَاضَةِ لِسُوءِ الطِّبَاعِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ أَشْرَفُ فَيَتَرَجَّحُ الْفَقْرُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ جُمْهُورُ الصُّوفِيَّةِ إِلَى تَرْجِيحِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ؛ لِأَنَّ مَدَارَ الطَّرِيقِ عَلَى تَهْذِيبِ النَّفْسِ وَرِيَاضَتِهَا، وَذَلِكَ مَعَ الْفَقْرِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْغِنَى انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: صُورَةُ الِاخْتِلَافِ فِي فَقِيرٍ لَيْسَ بِحَرِيصٍ وَغَنِيٍّ لَيْسَ بِمُمْسِكٍ؛ إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْفَقِيرَ الْقَانِعَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الْبَخِيلِ، وَأَنَّ الْغَنِيَّ الْمُنْفِقَ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقِيرِ الْحَرِيصِ، قَالَ: وَكُلُّ مَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ وَلَا يُرَادُ لِعَيْنِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إِلَى مَقْصُودِهِ، فَبِهِ يَظْهَرُ فَضْلُهُ.
فَالْمَالُ لَيْسَ مَحْذُورًا لِعَيْنِهِ؛ بَلْ لِكَوْنِهِ قَدْ يَعُوقُ عَنِ اللَّهِ، وَكَذَا الْعَكْسُ، فَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ لَمْ يَشْغَلْهُ غِنَاهُ عَنِ اللَّهِ، وَكَمْ مِنْ فَقِيرٍ شَغَلَهُ فَقْرُهُ عَنِ اللَّهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ أَخَذْتَ بِالْأَكْثَرِ فَالْفَقِيرُ عَنِ الْخَطَرِ أَبْعَدُ؛ لِأَنَّ فِتْنَةَ الْغِنَى أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَمِنَ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ، انْتَهَى، وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَفْضَلُ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ شَيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ: الْغَنِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ الْغِنَى صِفَةُ الْخَالِقِ وَالْفَقْرُ صِفَةُ
الْمَخْلُوقِ، وَصِفَةُ الْحَقِّ أَفْضَلُ مِنْ صِفَةِ الْخَلْقِ فَقَدِ اسْتَحْسَنَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكِبَارِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا قَدَّمْتُهُ أَوَّلَ الْبَابِ، وَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي أَصْلِ النِّزَاعِ؛ إِذْ لَيْسَ هُوَ فِي ذَاتِ الصِّفَتَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي عَوَارِضِهِمَا، وَبَيَّنَ بَعْضُ مَنْ فَضَّلَ الْغَنِيَّ عَلَى الْفَقِيرِ كَالطَّبَرِيِّ جِهَتَهُ بِطَرِيقٍ أُخْرَى فَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ مِحْنَةَ الصَّابِرِ أَشَدُّ مِنْ مِحْنَةِ الشَّاكِرِ غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ، قُلْتُ: وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِيهِ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ طَبْعُ الْآدَمِيِّ مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ، وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ بِحَقِّ الصَّبْرِ أَقَلَّ مِمَّنْ يَقُومُ بِحَقِّ الشُّكْرِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيمَا وُجِدَ بِخَطِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْزُوقٍ: كَلَامُ النَّاسِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلِفٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْفَقْرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْغِنَى، وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْكَفَافَ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ وَهُوَ أَيُّ الْحَالَيْنِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ حَتَّى يَتَكَسَّبَ ذَلِكَ وَيَتَخَلَّقَ بِهِ؟ هَلِ التَّقَلُّلُ مِنَ الْمَالِ أَفْضَلُ لِيَتَفَرَّغَ قَلْبُهُ مِنَ الشَّوَاغِلِ، وَيَنَالَ لَذَّةَ الْمُنَاجَاةِ، وَلَا يَنْهَمِكَ فِي الِاكْتِسَابِ لِيَسْتَرِيحَ مِنْ طُولِ الْحِسَابِ، أَوِ التَّشَاغُلُ بِاكْتِسَابِ الْمَالِ أَفْضَلُ لِيَسْتَكْثِرَ بِهِ مِنَ التَّقَرُّبِ بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي؟ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ مَا اخْتَارَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ مِنَ التَّقَلُّلِ فِي الدُّنْيَا وَالْبُعْدِ عَنْ زَهَرَاتِهَا، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِيمَنْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ تَكَسُّبٍ مِنْهُ، كَالْمِيرَاثِ، وَسَهْمِ الْغَنِيمَةِ هَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى إِخْرَاجِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ يَتَشَاغَلَ بِتَثْمِيرِهِ لِيَسْتَكْثِرَ مِنْ نَفْعِهِ الْمُتَعَدِّي؟ قَالَ: وَهُوَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ.
قُلْتُ: وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَبْذُلَ إِلَى أَنْ يَبْقَى فِي حَالِ الْكَفَافِ، وَلَا يَضُرُّهُ مَا يَتَجَدَّدُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَدَعْوَى أَنَّ جُمْهُورَ الصَّحَابَةِ كَانُوا عَلَى التَّقَلُّلِ وَالزُّهْدِ مَمْنُوعَةٌ بِالْمَشْهُورِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى قِسْمَيْنِ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمُ الْفُتُوحُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَبْقَى مَا بِيَدِهِ مَعَ التَّقَرُّبِ إِلَى رَبِّهِ بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْمُوَاسَاةِ، مَعَ الِاتِّصَافِ بِغِنَى النَّفْسِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانَ لَا يُبْقِي شَيْئًا مِمَّا فُتِحَ عَلَيْهِ بِهِ وَهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، وَمَنْ تَبَحَّرَ فِي سِيَرِ السَّلَفِ عَلِمَ صِحَّةَ ذَلِكَ، فَأَخْبَارُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً، وَحَدِيثُ خَبَّابٍ فِي الْبَابِ شَاهِدٌ لِذَلِكَ.
وَالْأَدِلَّةُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَثِيرَةٌ: فَمِنَ الشِّقِّ الْأَوَّلِ بَعْضُ أَحَادِيثِ الْبَابِ وَغَيْرِهَا، وَمِنَ الشِّقِّ الثَّانِي: حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْغَنِيَّ التَّقِيَّ الْخَفِيَّ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ دَالٌّ لِمَا قُلْتُهُ سَوَاءٌ حَمَلْنَا الْغِنَى فِيهِ عَلَى الْمَالِ أَوْ عَلَى غِنَى النَّفْسِ، فَإِنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ، وَعَلَى الثَّانِي يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَيْنِ فَيَحَصُلُ الْمَطْلُوبُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّقِيِّ وَهُوَ بِالْمُثَنَّاةِ: مَنْ يَتْرُكُ الْمَعَاصِيَ امْتِثَالًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَاجْتِنَابًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْخَفِيُّ ذُكِرَ لِلتَّتْمِيمِ؛ إِشَارَةً إِلَى تَرْكِ الرِّيَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَمِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا التَّرَدُّدُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ فَالْأَوْلَى فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَكَسَّبَ لِلصَّوْنِ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ، أَوْ يَتْرُكَ وَيَنْتَظِرَ مَا يُفْتَحُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ، فَصَحَّ عَنْ أَحْمَدَ مَعَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ: الْزَمِ السُّوقَ، وَقَالَ لِآخَرَ: اسْتَغْنِ عَنِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْغِنَى عَنْهُمْ. وَقَالَ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَأَنْ يُعَوِّدُوا أَنْفُسَهُمُ التَّكَسُّبَ، وَمَنْ قَالَ بِتَرْكِ التَّكَسُّبِ فَهُوَ أَحْمَقُ يُرِيدُ تَعْطِيلَ الدُّنْيَا، نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ. وَقَالَ أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْجُلُوسِ لِانْتِظَارِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ جَلَسَ وَلَمْ يَحْتَرِفْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ.
وَأَسْنَدَ عَنْ عُمَرَ: كَسْبٌ فِيهِ بَعْضُ الشَّيْءِ خ يْرٌ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى النَّاسِ، وَأَسْنَدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَتَرَكَ مَالًا: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجْمَعْهُ إِلَّا لِأَصُونَ بِهِ دِينِي، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنَ السَّلَفِ نَحْوَهُ، بَلْ نَقَلَهُ الْبَرْبَهَارِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَنَّهُ
لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ تَرَكَ تَعَاطِيَ الرِّزْقِ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يُفْتَحُ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ الْغِنَى بِآيَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الْآيَةَ قَالَ: وَذَلِكَ لَا يَتِمٌّ إِلَّا بِالْمَالِ، وَأَجَابَ مَنْ فَضَّلَ الْفَقْرَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الْغِنَى فِي جَانِبٍ أَفْضَلَ مِنَ الْفَقْرِ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مُطْلَقًا، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا)؟ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ مِنْ أَوَائِلِ النِّكَاحِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ: فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا وَهُوَ خِطَابٌ لِجَمَاعَةٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى، وَابْنِ حِبَّانَ بِلَفْظِ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم انْظُرْ إِلَى أَرْفَعِ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي عَيْنَيْكَ، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ فِي حُلَّةٍ الْحَدِيثَ، فَعُرِفَ مِنْهُ أَنَّ الْمَسْئُولَ هُوَ أَبُو ذَرٍّ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ سَهْلٍ أَنَّ الْخِطَابَ وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ، وَوُجِّهَ إِلَيْهِ فَأَجَابَ وَلِذَلِكَ نَسَبَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَارُّ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِابْنِ حِبَّانَ: سَأَلَنِي رَسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ فُلَانًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ .. الْحَدِيثَ، وَوَقَعَ فِي الْمَغَازِي لِابْنِ إِسْحَاقَ مَا قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، أَوِ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ)؛ أَيِ الْمَسْئُولُ.
قَوْلُهُ: (رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ)؛ أَيْ هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ.
قَوْلُهُ: (هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ؛ أَيْ جَدِيرٌ وَحَقِيقٌ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمْزَةَ قَالُوا حَرِيٌّ.
قَوْلُهُ: (إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ؛ أَيْ تُجَابَ خِطْبَتُهُ (وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ؛ أَيْ تُقْبَلَ شَفَاعَتُهُ، وَزَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ فِي رِوَايَتِهِ: وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: إِذَا سَأَلَ أُعْطِيَ وَإِذَا حَضَرَ أُدْخِلَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ) زَادَ إِبْرَاهِيمُ: مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: مِسْكِينٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ.
قَوْلُهُ: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ مَهْمُوزٌ.
قَوْلُهُ: (مِثْلِ) بِكَسْرِ اللَّامِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَعَ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ مُمَيِّزِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ وَالْمُبِينَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، زَادَ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ: عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ الْأُخْرَى: خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ مِنَ الْآخِرِ، وَطِلَاعُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَآخِرَهُ مُهْمَلَةٌ؛ أَيْ مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ كَذَا قَالَ عِيَاضٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ مَا فَوْقَ الْأَرْضِ، وَزَادَ فِي آخِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا يُعْطَى هَذَا كَمَا يُعْطَى الْآخَرُ؟ قَالَ: إِذَا أُعْطِيَ خَيْرًا فَهُوَ أَهْلُهُ، وَإِذَا صُرِفَ عَنْهُ فَقَدْ أُعْطِيَ حَسَنَةً، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي فُتُوحِ مِصْرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْجِيزِيُّ فِي مُسْنَدِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلُوا مِصْرَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الْمَارِّ الثَّانِي وَلَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: كَيْفَ تَرَى جُعَيْلًا؟ قُلْتُ: مِسْكِينًا كَشَكْلِهِ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَكَيْفَ تَرَى فُلَانًا؟ قُلْتُ: سَيِّدًا مِنَ السَّادَاتِ، قَالَ: فَجُعَيْلٌ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفُلَانٌ هَكَذَا وَتَصْنَعُ بِهِ مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: إِنَّهُ رَأْسُ قَوْمِهِ فَأَتَأَلَّفُهُمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ مُرْسَلًا أَوْ مُعْضَلًا قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتُ عُيَيْنَةَ، وَالْأَقْرَعَ مِائَةَ مِائَةٍ وَتَرَكْتُ جُعَيْلًا. قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ مِثْلَ عُيَيْنَةَ، وَالْأَقْرَعِ، وَلَكِنِّي أَتَأَلَّفُهُمَا وَأَكِلُ جُعَيْلًا إِلَى إِيمَانِهِ. وَلِجُعَيْلٍ الْمَذْكُورِ ذِكْرٌ فِي حَدِيثِ أَخِيهِ عَوْفِ
بْنِ سُرَاقَةَ فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقِيلَ: فِيهِ جِعَالٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَتَخْفِيفِ ثَانِيهِ، وَلَعَلَّهُ صُغِّرَ وَقِيلَ: بَلْ هُمَا أَخَوَانِ.
وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ فَضْلِ جُعَيْلٍ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّ السِّيَادَةَ بِمُجَرَّدِ الدُّنْيَا لَا أَثَرَ لَهَا، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِالْآخِرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَظُّ مِنَ الدُّنْيَا يُعَاضُ عَنْهُ بِحَسَنَةِ الْآخِرَةِ فَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِلْفَقْرِ كَمَا تَرْجَمَ بِهِ، لَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِتَفْضِيلِ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فُضِّلَ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَهُ لَا فَقِيرَ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِفَضْلِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ.
قُلْتُ: يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْأَوَّلَ وَالْحَيْثِيَّةُ مَرْعِيَّةٌ لَكِنْ تَبَيَّنَ مِنْ سِيَاقِ طُرُقِ الْقِصَّةِ أَنَّ جِهَةَ تَفْضِيلِهِ إِنَّمَا هِيَ لِفَضْلِهِ بِالتَّقْوَى، وَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةً فِي فَقِيرٍ مُتَّقٍ وَغَنِيٍّ غَيْرِ مُتَّقٍ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِوَائِهِمَا أَوَّلًا فِي التَّقْوَى، وَأَيْضًا فَمَا فِي التَّرْجَمَةِ تَصْرِيحٌ بِتَفْضِيلِ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ فَضِيلَةِ الْفَقْرِ أَفْضَلِيَّتُهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ أَفْضَلِيَّةِ فَقِيرٍ عَلَى غَنِيٍّ أَفَضَلِيَّةُ كُلِّ فَقِيرٍ عَلَى كُلِّ غَنِيٍّ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ شَرْحِهِ فِي الْجَنَائِزِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَذُكِرَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَحَلْتُ بِشَرْحِهِ عَلَى الْمَغَازِي فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ ذُهُولًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ (عَنِ الْأَعْمَشِ) وَقَعَ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ بِهَذَا السَّنَدِ سَوَاءً حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ.
قَوْلُهُ: (عُدْنَا) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْعِيَادَةِ.
قَوْلُهُ: (هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ)؛ أَيْ بِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ الِاشْتِرَاكُ فِي حُكْمِ الْهِجْرَةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حِسًّا إِلَّا الصِّدِّيقُ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ)؛ أَيْ جِهَةَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ لَا جِهَةَ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: (فَوَقَعَ) فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ كَمَا مَضَى فِي الْهِجْرَةِ عَنِ الْأَعْمَشِ فَوَجَبَ، وَإِطْلَاقُ الْوُجُوبِ عَلَى اللَّهِ بِمَعْنَى إِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: (أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ)؛ أَيْ إِثَابَتُنَا وَجَزَاؤُنَا.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا)؛ أَيْ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَهَذَا مُشْكِلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْأَجْرِ عَلَى الْمَالِ فِي الدُّنْيَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بِالنِّسْبَةِ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَصْدَ الْأَوَّلَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْفُتُوحِ كَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَاشَ إِلَى أَنْ فُتِحَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْقَسَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَوَاسَى بِهِ الْمَحَاوِيجَ أَوَّلًا فَأَوَّلًا بِحَيْثُ بَقِيَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَهُمْ قَلِيلٌ مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ، وَهَؤُلَاءِ مُلْتَحِقُونَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَبَسَّطَ فِي بَعْضِ الْمُبَاحِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِكَثْرَةِ النِّسَاءِ وَالسَّرَارِيِّ أَوِ الْخَدَمِ وَالْمَلَابِسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَكْثِرْ وَهُمْ كَثِيرٌ وَمِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ فَاسْتَكْثَرَ بِالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مَعَ الْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَهُمْ كَثِيرٌ أَيْضًا، مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَإِلَى هَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ أَشَارَ خَبَّابٌ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَمَا الْتَحَقَ بِهِ تَوَفَّرَ لَهُ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي مُقْتَضَى الْخَبَرِ أَنَّهُ يُحْسَبُ عَلَيْهِمْ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَالِ الدُّنْيَا مِنْ ثَوَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رَفَعَهُ: مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرَهُمْ .. الْحَدِيثَ، وَمِنْ ثَمَّ آثَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقَنِعُوا بِهِ إِمَّا لِيَتَوَفَّرَ لَهُمْ ثَوَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا لِيَكُونَ أَقَلَّ لِحِسَابِهِمْ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ) بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ. يَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قُصَيٍّ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى هِجْرَةِ الْمَدِينَةِ. قَالَ الْبَرَاءُ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَا يُقْرِئَانِ الْقُرْآنَ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَهُ مَعَ أَهْلِ الْعَقَبَةِ الْأُولَى يُقْرِئُهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ، وَكَانَ مُصْعَبٌ وَهُوَ
بِمَكَّةَ فِي ثَرْوَةٍ وَنِعْمَةٍ، فَلَمَّا هَاجَرَ صَارَ فِي قِلَّةِ، فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَلِيًّا يَقُولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمَا عَلَيْهِ إِلَّا بُرْدَةٌ لَهُ مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوَةٍ، فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَآهُ لِلَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ، وَالَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ.
قَوْلُهُ: (قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ)؛ أَيْ شَهِيدًا، وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (وَتَرَكَ نَمِرَةً) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، ثُمَّ رَاءٍ هِيَ إِزَارٌ مِنْ صُوفٍ مُخَطَّطٍ أَوْ بُرْدَةٌ.
قَوْلُهُ: (أَيْنَعَتْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ النُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ؛ أَيِ انْتَهَتْ وَاسْتَحَقَّتِ الْقَطْفَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ يَنَعَتْ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَهِيَ لُغَةٌ، قَالَ الْقَزَّازُ: وَأَيْنَعَتْ أَكْثَرُ.
قَوْلُهُ: (فَهُوَ يَهْدِبُهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ؛ أَيْ يَقْطِفُهَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ الصِّدْقِ فِي وَصْفِ أَحْوَالِهِمْ. وَفِيهِ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى مُكَابَدَةِ الْفَقْرِ وَصُعُوبَتِهِ مِنْ مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ. وَفِيهِ أَنَّ الْكَفَنَ يَكُونُ سَاتِرًا لِجَمِيعِ الْبَدَنِ، وَأَنَّ الْمَيِّتَ يَصِيرُ كُلُّهُ عَوْرَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَائِرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ خَبَّابٍ تَفْضِيلُ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ هِجْرَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ لِدُنْيَا يُصِيبُونَهَا، وَلَا نِعْمَةٍ يَتَعَجَّلُونَهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ لِلَّهِ خَالِصَةً؛ لِيُثِيبَهُمْ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ فَتْحِ الْبِلَادِ تَوَفَّرَ لَهُ ثَوَابُهُ، وَمَنْ بَقِيَ حَتَّى نَالَ مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا خَشِيَ أَنْ يَكُونَ عَجَّلَ لَهُمْ أَجْرَ طَاعَتِهِمْ، وَكَانُوا عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ أَحْرَصَ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (سَلْمُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ (ابْنُ زَرِيرٍ) بِزَايٍّ ثُمَّ رَاءٍ وَزْنُ عَظِيمٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ هُوَ الْعُطَارِدِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا السَّنَدِ وَالْمَتْنِ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ هَذَا.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَيُّوبُ، وَعَوْفٌ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ، وَصَخْرٌ:، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) أَمَّا مُتَابَعَةُ أَيُّوبَ فَوَصَلَهَا النَّسَائِيُّ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ عَوْفٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ حَمَّادِ بْنِ نَجِيحٍ - وَهُوَ الْإِسْكَافُ - الْبَصْرِيُّ فَوَصَلَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ عَنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْكِتَابَيْنِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ وَكِيعٌ، وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ صَخْرٍ - وَهُوَ ابْنُ جُوَيْرِيَةَ - فَوَصَلَهَا النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ عَنْهُ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، وَقَدْ وَقَعَتْ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ صَخْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِهِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ: وَقَالَ أَيُّوبُ:، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكِلَا الْإِسْنَادَيْنِ لَيْسَ فِيهِ مَقَالٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَقَالَ الْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ، وَجَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَسَلْمِ بْنِ زَرِيرٍ، وَحَمَّادِ بْنِ نَجِيحٍ، وَصَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا جَمَعَ بَيْنَ: هَؤُلَاءِ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَوَوْهُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَلْمٌ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ، وَلَعَلَّ جَرِيرًا كَذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ بِالْوَجْهَيْنِ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ فِطْرٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ، فَالْحَدِيثُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ قَوْلُهُ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ يُوجِبُ فَضْلَ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْفُقَرَاءَ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ فَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: أَكْثَرُ أَهْلِ الدُّنْيَا الْفُقَرَاءُ إِخْبَارًا عَنِ الْحَالِ، وَلَيْسَ
الْفَقْرُ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا دَخَلُوا بِصَلَاحِهِمْ مَعَ الْفَقْرِ، فَإِنَّ الْفَقِيرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَالِحًا لَا يَفْضُلُ.
قُلْتُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ التَّحْرِيضُ عَلَى تَرْكِ التَّوَسُّعِ مِنَ الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ فِيهِ تَحْرِيضَ النِّسَاءِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ؛ لِئَلَّا يَدْخُلْنَ النَّارَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ: تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ: بِمَ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ، قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرُونَ بِالْإِحْسَانِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَجَّاجِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (عَلَى خِوَانٍ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ.
قَوْلُهُ: (وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَرْكُهُ عليه الصلاة والسلام الْأَكْلَ عَلَى الْخِوَانِ وَأَكْلَ الْمُرَقَّقِ إِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا اخْتِيَارًا لِطَيِّبَاتِ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ، وَالْمَالُ إِنَّمَا يُرْغَبُ فِيهِ لِيُسْتَعَانَ بِهِ عَلَى الْآخِرَةِ، فَلَمْ يَحْتَجِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى، بَلْ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْقَنَاعَةِ وَالْكَفَافِ وَعَدَمِ التَّبَسُّطِ فِي مَلَاذِّ الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ: لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ كَرِيمًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو شَيْبَةَ جَدُّهُ لِأَبِيهِ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمَ، أَصْلُهُ مِنْ وَاسِطَ، وَسَكَنَ الْكُوفَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ، وَقَدْ أَكْبرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ، وَكَذَا مُسْلِمٌ لَكِنْ مُسْلِمٌ يُكَنِّيهِ دَائِمًا، وَالْبُخَارِيُّ يُسَمِّيهِ وَقَلَّ أَنْ كَنَّاهُ.
قَوْلُهُ: (وَمَا فِي بَيْتِي شَيْءٌ إِلَخْ) لَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَصَايَا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيِّ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالشَّيْءِ الْمَنْفِيِّ مَا تَخَلَّفَ عَنْهُ مِمَّا كَانَ يَخْتَصُّ بِهِ، وَأَمَّا الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ، فَكَانَ بَقِيَّةَ نَفَقَتِهَا الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا فَلَمْ يَتَّحِدِ الْمَوْرِدَانِ.
قَوْلُهُ: (يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ) شَمِلَ جَمِيعَ الْحَيَوَانِ وَانْتَفَى جَمِيعُ الْمَأْكُولَاتِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ) الْمُرَادُ بِالشَّطْرِ هُنَا الْبَعْضُ، وَالشَّطْرُ يُطْلَقُ عَلَى النِّصْفِ وَعَلَى مَا قَارَبَهُ وَعَلَى الْجِهَةِ وَلَيْسَتْ مُرَادَةً هُنَا، وَيُقَالُ: أَرَادَتْ نِصْفَ وَسْقٍ.
قَوْلُهُ: (فِي رَفٍّ لِي) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّفُّ شِبْهُ الطَّاقِ فِي الْحَائِطِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: الرَّفُّ خَشَبٌ يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ فِي الْبَيْتِ يُوضَعُ فِيهِ مَا يُرَادُ حِفْظُهُ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِلْمُرَادِ.
قَوْلُهُ: (فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ) بِكَسْرِ الْكَافِ (فَفَنِيَ)؛ أَيْ فَرَغَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْأَخْذِ مِنَ الْعَيْشِ بِالِاقْتِصَادِ وَمَا ي سُدُّ الْجَوْعَةَ. قُلْتُ: إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْثِرُ بِمَا عِنْدَهُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا مِنْ تَمْرٍ وَغَيْرِهِ يَدَّخِرُ قُوتَ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى -، ثُمَّ كَانَ مَعَ ذَلِكَ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ طَارِئٌ، أَوْ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ يُشِيرُ عَلَى أَهْلِهِ بِإِيثَارِهِمْ، فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى نَفَادِ مَا عِنْدَهُمْ أَوْ مُعْظَمِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَلَوْ شِئْنَا لَشَبِعْنَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهَا: فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ الطَّعَامَ الْمَكِيلَ يَكُونُ فَنَاؤُهُ مَعْلُومًا لِلْعِلْمِ بِكَيْلِهِ، وَأَنَّ الطَّعَامَ غَيْرَ الْمَكِيلِ فِيهِ الْبَرَكَةُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِقْدَارُهُ قُلْتُ: فِي تَعْمِيمِ كُلِّ الطَّعَامِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ لِعَائِشَةَ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي أَذْكُرُهُ آخِرَ الْبَابِ، وَوَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مِزْوَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَمَرَاتٍ فَقُلْتُ: ادْعُ لِي فِيهِنَّ
بِالْبَرَكَةِ، قَالَ فَقَبَضَ ثُمَّ دَعَا ثُمَّ قَالَ: خُذْهُنَّ فَاجْعَلْهُنَّ فِي مِزْوَدٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُنَّ، فَأَدْخِلْ يَدَكَ فَخُذْ وَلَا تَنْثُرْ بِهِنَّ نَثْرًا، فَحَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ كَذَا وَكَذَا وَسْقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُنَّا نَأْكُلُ وَنُطْعِمُ، وَكَانَ الْمِزْوَدُ مُعَلَّقًا بِحَقْوِي لَا يُفَارِقُهُ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ انْقَطَعَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُطَوَّلًا وَفِيهِ: فَأَدْخِلْ يَدَكَ فَخُذْ، وَلَا تُكْفِئْ فَيُكْفَأَ عَلَيْكَ، وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَنَحْوَهُ مَا وَقَعَ فِي عُكَّةِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمْنًا، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدْمَ، فَتَعْمَدُ إِلَى الْعُكَّةِ، فَتَجِدُ فِيهَا سَمْنًا، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَوْ تَرَكْتِهَا مَا زَالَ قَائِمًا، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا النَّهْيُ مَعَ الْأَمْرِ بِكَيْلِ الطَّعَامِ، وَتَرْتِيبِ الْبَرَكَةِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ بِلَفْظِ: كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَيْلَ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ مَطْلُوبٌ مِنْ أَجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَلِهَذَا الْقَصْدِ يُنْدَبُ، وَأَمَّا الْكَيْلُ عِنْدَ الْإِنْفَاقِ فَقَدْ يَبْعَثُ عَلَيْهِ الشُّحُّ فَلِذَلِكَ كُرِهَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ وَلَقَامَ لَكُمْ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سَبَبُ رَفْعِ النَّمَاءِ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَصْرِ وَالْكَيْلِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الِالْتِفَاتُ بِعَيْنِ الْحِرْصِ مَعَ مُعَايَنَةِ إِدْرَارِ نِعَمِ اللَّهِ، وَمَوَاهِبِ كَرَامَاتِهِ وَكَثْرَةِ بَرَكَاتِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا وَالثِّقَةُ بِالَّذِي وَهَبَهَا، وَالْمَيْلُ إِلَى الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ رُزِقَ شَيْئًا، أَوْ أُكْرِمَ بِكَرَامَةٍ، أَوْ لُطِفَ بِهِ فِي أَمْرٍ مَا فَالْمُتَعَيِّنُ عَلَيْهِ مُوَالَاةُ الشُّكْرِ، وَرُؤْيَةُ الْمِنَّةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلَا يُحْدِثُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَغْيِيرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
17 - بَاب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَتَخَلِّيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا
6452 -
حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: أَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْحَقْ، وَمَضَى، فَتَبِعْتُهُ، فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ - أَوْ فُلَانَةُ - قَالَ: أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ، لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ؟ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً
أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءوا أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ، قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: خُذْ فَأَعْطِهِمْ، فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اقْعُدْ فَاشْرَبْ فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: اشْرَبْ، فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ: اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، قَالَ: فَأَرِنِي فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ.
6453 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ "سَمِعْتُ سَعْدًا يَقُولُ إِنِّي لَاوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلَامِ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِي"
6454 -
حَدَّثَنِي عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ"
6455 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ الأَزْرَقُ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ هِلَالٍ الْوَزَّانِ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلاَّ إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ"
6456 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ"
6457 -
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ "كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ وَقَالَ كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ"
6458 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلاَّ أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ"
6459 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ فَقُلْتُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنْ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ"
6460 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا"
قَوْلُهُ: (بَاب) بِالتَّنْوِينِ (كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ)؟ أَيْ فِي حَيَاتِهِ (وَتَخَلِّيهِمْ عَنِ الدُّنْيَا)؛ أَيْ عَنْ مَلَاذِّهَا وَالتَّبَسُّطِ فِيهَا، ذكر فيه ثمانية أحاديث، الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ يَعْنِي غَيْرَ مَوْصُولٍ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْمَذْكُورَ مُبْهَمٌ لَا يُدْرَى أَهُوَ الْأَوَّلُ أَوِ الثَّانِي قُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَدْرُ النِّصْفِ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ مُلَفَّقًا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالَّذِي يَتَبَادَرُ مِنَ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ النِّصْفُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ جَزَمَ مُغْلَطَايْ وَبَعْضُ شُيُوخِنَا، أَنَّ الْقَدْرَ الْمَسْمُوعَ لَهُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي بَابِ إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ مِنْ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ ح. وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، أَنْبَأَنَا مُجَاهِدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ، فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ، الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا. قَالَ مُغْلَطَايْ: فَهَذَا هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي سَمِعَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَاعْتَرَضَهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ لَيْسَ هَذَا ثُلُثَ الْحَدِيثِ وَلَا رُبْعَهُ فَضْلًا عَنْ نِصْفِهِ، قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السِّيَاقُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ لَفْظَ أَبِي نُعَيْمٍ، ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مُنْتَزَعٌ مِنْ أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْقِصَّةُ الْأُولَى الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا مَا فِي آخِرِهِ مِنْ حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِي اللَّبَنِ إِلَخْ.
نَعَمْ، الْمُحَرَّرُ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي النُّكَتِ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ مَا نَصُّهُ: الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي الِاسْتِئْذَانِ بَعْضُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الرِّقَاقِ، قُلْتُ: فَهُوَ مِمَّا حَدَّثَهُ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِهِ أَمْ بِمَعْنَاهُ، وَأَمَّا بَاقِيهِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، فَقَالَ
الْكِرْمَانِيُّ: إِنَّهُ يَصِيرُ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ فَيَعُودُ الْمَحْذُورُ، كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَّصِلًا؛ لِعَدَمِ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ حَدَّثَهُ بِهِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَحْذُورٌ؛ بَلْ يَحْتَمِلُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَ بِهِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِطَرِيقِ الْوِجَادَةِ، أَوِ الْإِجَازَةِ، أَوْ حَمَلَهُ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ غَيْرِ أَبِي نُعَيْمٍ، قُلْتُ: أَوْ سَمِعَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ مِنْ شَيْخٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَلِهَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَوْرَدْتُهُ فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ، فَأَخْرَجْتُهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ تَامًّا، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الصُّوفِيِّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِتَمَامِهِ، وَاجْتَمَعَ لِي مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ شَيْخِ أَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا جَمَاعَةٌ: مِنْهُمْ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَيُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ.
ثُمَّ قَالَ
الْكِرْمَانِيُّ مُجِيبًا عَنِ الْمَحْذُورِ الَّذِي ادَّعَاهُ مَا نَصُّهُ: اعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَطْعِمَةِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عِيسَى فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالنِّصْفِ هُنَا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ ثَمَّةَ فَيَصِيرُ الْكُلُّ مُسْنَدًا بَعْضُهُ عَنْ يُوسُفَ، وَبَعْضُهُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ قُلْتُ: سَنَدُ طَرِيقِ يُوسُفَ مُغَايِرٌ لِطَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَيَعُودُ الْمَحْذُورُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُصُوصِ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَصَابَنِي جَهْدٌ، فَذَكَرَ سُؤَالَهُ عمر عَنِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ مُرُورَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِ وَفِيهِ: فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَحْلِهِ، فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ عُدْ، فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، وَلَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَرَكَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي اللَّبَنِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ مَا دَارَ بَيْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُمَرَ، وَنَدَمَ عُمَرَ عَلَى كَوْنِهِ مَا اسْتَتْبَعَهُ، فَظَهَرَ بِذَلِكَ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي السَّنَدَيْنِ، وَأَمَّا الْمَتْنُ فَفِي أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ لَكِنْ لَيْسَ فِي طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ مِنَ الزِّيَادَةِ كَبِيرُ أَمْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ) فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ، وَيُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (اللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مِنَ الْقَسَمِ، وَهُوَ فِي رِوَايَتِنَا بِالْخَفْضِ وَحَكَى بَعْضُهُمْ جَوَازَ النَّصْبِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ رُوِّينَاهُ بِالنَّصْبِ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: إِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْقَسَمِ نُصِبَ الِاسْمُ بَعْدَهُ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجُرُّ اسْمَ اللَّهِ وَحْدَهُ مَعَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ فَيَقُولُ: اللَّهِ لَأَقُومَنَّ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يَسْتَعْمِلُونَهُ. قُلْتُ: وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ، وَيُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا بِالْوَاوِ فِي أَوَّلِهِ فَتَعَيَّنَ الْجَرُّ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (إِنْ كُنْتُ) بِسُكُونِ النُّونِ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَقَوْلُهُ: لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ؛ أَيْ أُلْصِقُ بَطْنِي بِالْأَرْضِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ مَا يَسْتَفِيدُهُ مِنْ شَدِّ الْحَجَرِ عَلَى بَطْنِهِ، أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ سُقُوطِهِ إِلَى الْأَرْضِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ فِي أَوَّلِ الْأَطْعِمَةِ فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً فَذَكَرَهُ قَالَ فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَخَرَرْتُ عَلَى وَجْهِي مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِي الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي، وَإِنِّي لَأَخِرُّ مَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْحُجْرَةِ مِنَ الْجُوعِ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الْجَائِي فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي يَرَى أَنَّ بِي الْجُنُونَ وَمَا بِي إِلَّا الْجُوعُ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُنْتُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَيُغْشَى عَلَيَّ فِيمَا بَيْنَ بَيْتِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ مِنَ الْجُوعِ، وَمَضَى أَيْضًا فِي مَنَاقِبِ جَعْفَرٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَإِنِّي كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِشِبَعِ بَطْنِي، وَفِيهِ: كُنْتُ أُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصَى مِنَ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ، وَهِيَ مَعِي كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي، وَزَادَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: وَكُنْتُ إِذَا سَأَلْتُ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمْ يُجِبْنِي حَتَّى يَذْهَبَ بِي إِلَى مَنْزِلهِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ) عِنْدَ أَحْمَدَ فِي طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ: أَقَمْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ سَنَةً فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَنَا وَإِنَّهُ لَيَأْتِي عَلَى أَحَدِنَا الْأَيَّامُ مَا يَجِدُ طَعَامًا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَأْخُذُ الْحَجَرَ، فَيَشُدُّ بِهِ عَلَى أَخْمَصِ بَطْنِهِ، ثُمَّ يَشُدُّهُ بِثَوْبِهِ لِيُقِيمَ بِهِ صُلْبَهُ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَائِدَةُ شَدِّ الْحَجَرِ الْمُسَاعَدَةُ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَالِانْتِصَابِ، أَوِ الْمَنْعُ مِنْ كَثْرَةِ التَّحَلُّلِ مِنَ الْغِذَاءِ الَّذِي فِي الْبَطْنِ؛ لِكَوْنِ الْحَجَرِ بِقَدْرِ الْبَطْنِ فَيَكُونُ الضَّعْفُ أَقَلُّ، أَوْ لِتَقْلِيلِ حَرَارَةِ الْجُوعِ بِبَرْدِ الْحَجَرِ، أَوْ لِأَنَّ فِيهِ الْإِشَارَةَ إِلَى كَسْرِ النَّفْسِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَشْكَلَ الْأَمْرُ فِي شَدِّ الْحَجَرِ عَلَى الْبَطْنِ مِنَ الْجُوعِ عَلَى قَوْمٍ فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ الْحُجَزُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْجِيمِ بَعْدَهَا زَايٌ جَمْعُ الْحُجْزَةِ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا الْوَسَطُ قَالَ: وَمَنْ أَقَامَ بِالْحِجَازِ، وَعَرَفَ
عَادَتَهُمْ عَرَفَ أَنَّ الْحَجَرَ وَاحِدُ الْحِجَارَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَجَاعَةَ تَعْتَرِيهِمْ كَثِيرًا فَإِذَا خَوَى بَطْنُهُ لَمْ يُمْكِنْ مَعَهُ الِانْتِصَابُ، فَيَعْمِدُ حِينَئِذٍ إِلَى صَفَائِحَ رِقَاقٍ فِي طُولِ الْكَفِّ، أَوْ أَكْبَرَ فَيَرْبِطُهَا عَلَى بَطْنه وَتُشَدُّ بِعِصَابَةٍ فَوْقَهَا، فَتَعْتَدِلُ قَامَتُهُ بَعْضَ الِاعْتِدَالِ، وَالِاعْتِمَادُ بِالْكَبِدِ عَلَى الْأَرْضِ مِمَّا يُقَارِبُ ذَلِكَ. قُلْتُ: سَبَقَهُ إِلَى الْإِنْكَارِ الْمَذْكُورِ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، فَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ كَلَامَهُ وَتَعَقُّبَهُ فِي بَابِ التَّنْكِيلِ لِمَنْ أَرَادَ الْوِصَالَ مِنْ كِتَابِ الصِّيَامِ.
قَوْلُهُ: (وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ) الضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ كَانَ طَرِيقُ مَنَازِلِهِمْ إِلَى الْمَسْجِدِ مُتَّحِدَةً.
قَوْلُهُ: (فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مِنَ الشِّبَعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِيَسْتَتْبِعَنِي بِمُهْمَلَةٍ وَمُثَنَّاتَيْنِ وَمُوَحَّدَةٍ؛ أَيْ يَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أَتْبَعَهُ لِيُطْعِمَنِي، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ وَأَكْثَرِ الرُّوَاةِ.
قَوْلُهُ: (فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ)؛ أَيِ الْإِشْبَاعَ أَوْ الِاسْتِتْبَاعَ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى مَرَّ بِي عُمَرُ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ اسْتَمَرَّ فِي مَكَانِهِ بَعْدَ ذَهَابِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَنْ مَرَّ عُمَرُ، وَوَقَعَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ: لِيُشْبِعَنِي نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ: فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَلَيَّ؛ أَيْ قَرَأَ الَّذِي اسْتَفْهَمْتُهُ عَنْهُ، وَلَعَلَّ الْعُذْرَ لِكُلٍّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ حَمْلُ سُؤَالِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَاهِرِهِ، أَوْ فَهِمَا مَا أَرَادَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا إِذْ ذَاكَ مَا يُطْعِمَانِهِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنَّ عُمَرَ تَأَسَّفَ عَلَى عَدَمِ إِدْخَالِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ دَارَهُ وَلَفْظُهُ: فَلَقِيتُ عُمَرَ، فَذَكَرْتُ لَهُ وَقُلْتُ لَهُ: وَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْكَ يَا عُمَرُ، وَفِيهِ: قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَأَنْ أَكُونَ أَدْخَلْتُكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي حُمُرُ النَّعَمِ، فَإِنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُطْعِمُهُ إِذْ ذَاكَ فَيُرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى مَا رَمَزَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ كِنَايَتِهِ بِذَلِكَ عَنْ طَلَبِ مَا يُؤْكَلُ، وَقَدِ اسْتَنْكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا ثُبُوتَ هَذَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لِاسْتِبْعَادِ مُوَاجَهَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِعُمَرَ بِذَلِكَ، وَهُوَ اسْتِبْعَادٌ مُسْتَبْعَدٌ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي)، اسْتَدَلَّ أَبُو هُرَيْرَةَ بِتَبَسُّمِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ مَا بِهِ؛ لِأَنَّ التَّبَسُّمَ تَارَةً يَكُونُ لِمَا يُعْجِبُ، وَتَارَةً يَكُونُ لِإِينَاسِ مَنْ تَبَسَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْحَالُ مُعْجِبَةً، فَقَوِيَ الْحَمْلُ عَلَى الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (وَمَا فِي وَجْهِي) كَأَنَّهُ عَرَفَ مِنْ حَالِ وَجْهِهِ مَا فِي نَفْسِهِ مِنِ احْتِيَاجِهِ إِلَى مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَرَوْحٍ: وَعَرَفَ مَا فِي وَجْهِي أَوْ نَفْسِي بِالشَّكِّ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ فَقَالَ أَبُو هِرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ رَوْحٍ فَقَالَ أَبَا هِرٍّ، فَأَمَّا النَّصْبُ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَهُوَ عَلَى لُغَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ لَفْظَ الْكُنْيَةِ، أَوْ هُوَ لِلِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ أَنْتَ أَبُو هِرٍّ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ: هِرٍّ فَهُوَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَهُوَ مِنْ رَدِّ الِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ إِلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُصَغَّرِ إِلَى الْمُكَبَّرِ، فَإِنَّ كُنْيَتَهُ فِي الْأَصْلِ أَبُو هُرَيْرَةَ تَصْغِيرُ هِرَّةٍ مُؤَنَّثًا، وَأَبُو هِرٍّ مُذَكَّرٌ مُكَبَّرٌ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ تَخْفِيفُ الرَّاءِ مُطْلَقًا فَعَلَى هَذَا يُسَكَّنُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَيْ أَنْتَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ تَوْجِيهَهُ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ) كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ.
قَوْلُهُ: (اِلْحَقْ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيِ اتْبَعْ.
قَوْلُهُ: (وَمَضَى فَاتَّبَعْتُهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ فَلَحِقْتُهُ.
قَوْلُهُ: (فَدَخَلَ) زَادَ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ إِلَى أَهْلِهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَسْتَأْذِن) بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ وَالنُّونُ مَضْمُومَةٌ فِعْلُ مُتَكَلِّمٍ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي التَّحَقُّقِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَيُونُسَ وَغَيْرِهِمَا فَاسْتَأْذَنْتُ.
قَوْلُهُ: (فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ) كَذَا فِيهِ وَهُوَ إِمَّا تَكْرَارٌ لِهَذِهِ اللَّفْظَةِ؛ لِوُجُودِ الْفَصْلِ أَوِ الْتِفَاتٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ فَدَخَلْتُ وَهِيَ وَاضِحَةٌ.
قَوْلُهُ:
(فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ: فإذا هو بلبن في قدح، وفي رواية يونس: فوجد قدحا من اللبن.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟) زَادَ رَوْحٌ لَكُمْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مُسْهِرٍ فَقَالَ لِأَهْلِهِ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا.
قَوْلُهُ: (قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ) كَذَا بِالشَّكِّ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ مَنْ أَهْدَاهُ، وَفِي رِوَايَةِ رَوْحٍ: أَهْدَاهُ لَنَا فُلَانٌ أَوْ آلُ فُلَانٍ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ: أَهْدَاهُ لَنَا فُلَانٌ.
قَوْلُهُ: (الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ) كَذَا عَدَّى الْحَقْ بِإِلَى وَكَأَنَّهُ ضَمَّنَهَا مَعْنَى انْطَلِقْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ بِلَفْظِ انْطَلِقْ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ مِنْ أَضْيَافِ الْإِسْلَامِ) سَقَطَ لَفْظُ: قَالَ مِنْ رِوَايَةِ رَوْحٍ وَلَا بُدَّ مِنْهَا، فَإِنَّهُ كَلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَهُ شَارِحًا لِحَالِ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَلِلسَّبَبِ فِي اسْتِدْعَائِهِمْ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخُصُّهُمْ بِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَيُشْرِكُهُمْ فِيمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْهَدِيَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ هَذَا الْقَدْرُ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ، وَلَفْظُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافَ الْإِسْلَامِ، لَا يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَخْ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (لَا يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ) فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ وَالْأَكْثَرُ إِلَى بَدَلَ عَلَى.
قَوْلُهُ: (وَلَا عَلَى أَحَدٍ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، فَشَمِلَ الْأَقَارِبَ وَالْأَصْدِقَاءَ وَغَيْرَهُمْ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لَهُ بِالْمَدِينَةِ عَرِيفٌ نَزَلَ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَرِيفٌ نَزَلَ مَعَ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، وَفِي مُرْسَلِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ نَاسًا فُقَرَاءَ لَا مَنَازِلَ لَهُمْ، فَكَانُوا يَنَامُونَ فِي الْمَسْجِدِ لَا مَأْوَى لَهُمْ غَيْرُهُ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كُنْتُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَكُنَّا إِذَا أَمْسَيْنَا حَضَرَنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَأْمُرُ كُلَّ رَجُلٍ فَيَنْصَرِفُ بِرَجُلٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَيَبْقَى مَنْ بَقِيَ عَشَرَةٌ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ فَيَأْتِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَشَائِهِ فَنَتَعَشَّى مَعَهُ، فَإِذَا فَرَغْنَا قَالَ: نَامُوا فِي الْمَسْجِدِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ الْحَدِيثَ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى قَسَمَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ بَيْنَ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَيَذْهَبُ الرَّجُلُ بِالرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ بِالرَّجُلَيْنِ حَتَّى ذَكَرَ عَشَرَةً الْحَدِيثَ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ: بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
الصُّفَّةِ، فَجَعَلَ يُوَجِّهُ الرَّجُلَ مَعَ الرَّجُلِ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ حَتَّى بَقِيتُ فِي أَرْبَعَةٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَامِسُنَا، فَقَالَ: انْطَلِقُوا بِنَا، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ عَشِّينَا الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا)؛ أَيْ لِنَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَةِ رَوْحٍ: وَلَمْ يُصِبْ مِنْهَا شَيْئًا، وَزَادَ وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ وَشَرَّكَهُمْ بِالتَّشْدِيدِ وَقَالَ: فِيهَا أَوْ مِنْهَا بِالشَّكِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ يُونُسَ الصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ بِالتَّعْرِيفِ فِيهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا بَيَانُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُخْتَصَرًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ فَأَكَلَ مَعَهُمْ، وَلِأَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تُبْنَى الصُّفَّةُ، فَكَانَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَيَأْكُلُ مِنَ الْهَدِيَّةِ مَعَ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ قَالَ: بُنِيَتُ صُفَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ لِضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ: فَيُحْمَلُ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَحْضُرْهُ أَحَدٌ فَإِنَّهُ
يُرْسِلُ بِبَعْضِ الْهَدِيَّةِ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ أَوْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ كَمَا فِي قِصَّةِ الْبَابِ، وَإِنْ حَضَرَهُ أَحَدٌ يُشْرِكُهُ فِي الْهَدِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ فَضْلٌ أَرْسَلَهُ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ أَوْ دَعَاهُمْ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي ذَكَرْتُهُ آنِفًا: وَكُنْتُ فِيمَنْ نَزَلَ الصُّفَّةَ، فَوَافَقْتُ رَجُلًا فَكَانَ يَجْرِي عَلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ كُلِّ رَجُلَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: فَنَزَلْتُ فِي الصُّفَّةِ مَعَ رَجُلٍ فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كُلَّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ تَمْرٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ أَيْضًا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ: فَكَانَ أَوَّلًا يُرْسِلُ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ بِمَا حَضَرَهُ، أَوْ يَدْعُوهُمْ، أَوْ يُفَرِّقُهُمْ عَلَى مَنْ حَضَرَ إِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ مَا يَكْفِيهِمْ، فَلَمَّا فُتِحَتْ فَدَكُ وَغَيْرُهَا صَارَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ التَّمْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا ذَكَرَ: وَقَدِ اعْتَنَى بِجَمْعِ أَسْمَاءِ أَهْلِ الصُّفَّةِ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَتَبِعَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمَيُّ، فَزَادَ أَسْمَاءً، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي أَوَائِلِ الْحِلْيَةِ فَسَرَدَ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِي فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَهُمْ فِي هَذَا الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا هِيَ عِدَّةُ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِلَّا فَمَجْمُوعُهُمْ أَضْعَافُ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَسَاءَنِي ذَلِكَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ وَاللَّهِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: ادْعُهُمْ لِي وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَقُلْتُ)؛ أَيْ فِي نَفْسِي (وَمَا هَذَا اللَّبَنُ)؟ أَيْ مَا قَدْرُهُ (فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ)؟ وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بِحَذْفِ الْوَاوِ، زَادَ فِي رِوَايَتِهِ وَأَنَا رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَأَيْنَ يَقَعُ هَذَا اللَّبَنُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَأَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ؟ وَهُوَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ مَعَهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا)، زَادَ فِي رِوَايَةِ رَوْحَ يَوْمِي وَلَيْلَتِي.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا جَاءَ) كَذَا فِيهِ بِالْإِفْرَادِ؛ أَيْ مَنْ أَمَرَنِي بِطَلَبِهِ وَلِلْأَكْثَرِ فَإِذَا جَاءُوا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: (أَمَرَنِي)؛ أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَكَأَنَّهُ عَرَفَ بِالْعَادَةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُلَازِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَخْدُمُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ جَعْفَرٍ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِسْكِينًا لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا مَالَ، وَكَانَ يَدُورُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُمَا دَارَ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِشِبَعِ بَطْنِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ: فَسَيَأْمُرُنِي أَنْ أُدِيرَهُ عَلَيْهِمْ فَمَا عَسَى أَنْ يُصِيبَنِي مِنْهُ، وَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أُصِيبَ مِنْهُ مَا يُغْنِينِي؛ أَيْ عَنْ جُوعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
قَوْلُهُ: (وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا)؛ أَيْ يَصِلُ إِلَيَّ بَعْدَ أَنْ يَكْتَفُوا مِنْهُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ لَفْظُ: عَسَى زَائِدٌ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ بُدٌّ) يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}
قَوْلُهُ: (فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِتْيَانَ وَالدَّعْوَةَ وَقَعَ بَعْدَ الْإِعْطَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ فَإِذَا جَاءُوا فَهُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ قُلْتُ: وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ.
قَوْلُهُ: (فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ)؛ أَيْ فَقَعَدَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى عَدَدِهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمَيَّ، وَأَبَا سَعِيدِ بْنَ الْأَعْرَابِيِّ، وَالْحَاكِمَ اعْتَنَوْا بِجَمْعِ أَسْمَائِهِمْ، فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرِ الْآخَرُ، وَجَمَعَ الْجَمِيعَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَعِدَّتُهُمْ تَقْرُبُ مِنَ الْمِائَةِ لَكِنَّ الْكَثِيرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ، وَقَدْ بَيَّنَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَقَدْ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: كَانَ عَدَدُ أَهْلِ الصُّفَّةِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحَالِ، فَرُبَّمَا اجْتَمَعُوا فَكَثُرُوا، وَرُبَّمَا
تَفَرَّقُوا إِمَّا لِغَزْوٍ أَوْ سَفَرٍ أَوِ اسْتِفْتَاءٍ فَقَلُّوا، وَوَقَعَ فِي عَوَارِفِ السُّهْرَوَرْدِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ يَا أَبَا هِرٍّ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (خُذْ فَأَعْطِهِمْ)؛ أَيِ الْقَدَحَ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ.
قَوْلُهُ: (أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ)؛ أَيِ الَّذِي إِلَى جَنْبِهِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا فِيهِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً لَا تَكُونُ عَيْنَ الْأَوَّلِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّرِدُ؛ بَلِ الْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ عَيْنَهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ مِثْلُ مَا وَقَعَ هُنَا مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرَهمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
قُلْتُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: ثُمَّ يَرُدُّهُ فَأُنَاوِلُهُ الْآخَرَ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ: قَالَ خُذْ فَنَاوِلْهُمْ قَالَ: فَجَعَلْتُ أُنَاوِلُ الْإِنَاءَ رَجُلًا رَجُلًا فَيَشْرَبُ، فَإِذَا رَوِيَ أَخَذْتُهُ فَنَاوَلْتُهُ الْآخَرَ، حَتَّى رَوِيَ الْقَوْمُ جَمِيعًا، وَعَلَى هَذَا فَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِخَرْمِ الْقَاعِدَةِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ)؛ أَيْ فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ الْقَدَحَ) زَادَ رَوْحٌ وَقَدْ بَقِيَتْ فِيهِ فَضْلَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَتَبَسَّمَ كَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ تَفَرَّسَ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ مَا كَانَ وَقَعَ فِي تَوَهُّمِهِ أَنْ لَا يَفْضُلَ لَهُ مِنَ اللَّبَنِ شَيْءٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، فَلِذَلِكَ تَبَسَّمَ إِلَيْهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبَا هِرٍّ) كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ.
قَوْلُهُ: (بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ) كَأَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مِنْ أَهْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْبَيْتَ إِذْ ذَاكَ مَا كَانَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَوْ كَانُوا أَخَذُوا كِفَايَتَهُمْ، وَكَانَ اللَّبَنُ الَّذِي فِي ذَلِكَ الْقَدَحِ نَصِيبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (اقْعُدْ فَاشْرَبْ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ: قَالَ: خُذْ فَاشْرَبْ.
قَوْلُهُ: (فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ) فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ فَمَا زَالَ يَقُولُ لِي.
قَوْلُهُ: (مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا) فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ فِيَّ مَسْلَكًا.
قَوْلُهُ: (فَأَرِنِي) فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ فَقَالَ نَاوِلْنِي الْقَدَحَ.
قَوْلُهُ: (فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى)؛ أَيْ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ مِنَ الْبَرَكَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي اللَّبَنِ الْمَذْكُورِ مَعَ قِلَّتِهِ حَتَّى رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَأَفْضَلُوا، وَسَمَّى فِي ابْتِدَاءِ الشُّرْبِ.
قَوْلُهُ: (وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ)؛ أَيِ الْبَقِيَّةَ، وَهِيَ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَفِي رِوَايَةِ رَوْحٍ: فَشَرِبَ مِنَ الْفَضْلَةِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ بَقِيَ بَعْدَ شُرْبِهِ شَيْءٌ، فَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَلَعَلَّهُ أَعَدَّهَا لِمَنْ بَقِيَ فِي الْبَيْتِ إِنْ كَانَ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ: اسْتِحْبَابُ الشُّرْبِ مِنْ قُعُودٍ، وَأَنَّ خَادِمَ الْقَوْمِ إِذَا دَارَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْرَبُونَ يَتَنَاوَلُ الْإِنَاءَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، فَيَدْفَعُهُ هُوَ إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، وَلَا يَدْعُ الرَّجُلَ يُنَاوِلُ رَفِيقَهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ امْتِهَانِ الضَّيْفِ.
وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهَا نَظَائِرُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِبَرَكَتِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَفِيهِ جَوَازُ الشِّبَعِ وَلَوْ بَلَغَ أَقْصَى غَايَتِهِ؛ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، وَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي اللَّبَنِ مَعَ رِقَّتِهِ وَنُفُوذِهِ فَكَيْفَ بِمَا فَوْقَهُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ الْكَثِيفَةِ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِمَا وَقَعَ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا حَدِيثَ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَهُ: أَكْثَرُهُمْ فِي الدُّنْيَا شِبَعًا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ: حَسَنٌ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَب ي جُحَيْفَةَ. قُلْتُ: وَحَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ. وَفِي الْبَابِ أَيْضًا حَدِيثُ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رَفَعَهُ: مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ. الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ،
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُحْمَلَ الزَّجْرُ عَلَى مَنْ يَتَّخِذُ الشِّبَعَ عَادَةً لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكَسَلِ عَنِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا، وَيُحْمَلُ الْجَوَازُ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ نَادِرًا، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ شِدَّةِ جُوعٍ، وَاسْتِبْعَادُ حُصُولِ شَيْءٍ بَعْدَهُ عَنْ قُرْبٍ.
وَفِيهِ أَنَّ كِتْمَانَ الْحَاجَةِ وَالتَّلْوِيحَ بِهَا أَوْلَى مِنْ إِظْهَارِهَا وَالتَّصْرِيحِ بِهَا. وَفِيهِ كَرَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِيثَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَخَادِمِهِ.
وَفِيهِ مَا كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ضِيقِ الْحَالِ، وَفَضْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَعَفُّفُهُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالسُّؤَالِ، وَاكْتِفَاؤُهُ بِالْإِشَارَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَتَقْدِيمُهُ طَاعَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِ، وَفَضْلُ أَهْلِ الصُّفَّةِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْمَدْعُوَّ إِذَا وَصَلَ إِلَى دَارِ الدَّاعِي لَا يَدْخُلُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ: رَسُولُ الرَّجُلِ إِذْنُهُ. وَفِيهِ جُلُوسُ كُلِّ أَحَدٍ فِي الْمَكَانِ اللَّائِقِ بِهِ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِمُلَازَمَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَدُعَاءُ الْكَبِيرِ خَادِمَهُ بِالْكُنْيَةِ.
وَفِيهِ تَرْخِيمُ الِاسْمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَالْعَمَلُ بِالْفَرَاسَةِ، وَجَوَابُ الْمُنَادَى بِلَبَّيْكَ، وَاسْتِئْذَانُ الْخَادِمِ عَلَى مَخْدُومِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَسُؤَالُ الرَّجُلِ عَمَّا يَجِدُهُ فِي مَنْزِلِهِ مِمَّا لَا عَهْدَ لَهُ بِهِ؛ لِيُرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ، وَقَبُولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ، وَتَنَاوُلُهُ مِنْهَا وَإِيثَارُهُ بِبَعْضِهَا الْفُقَرَاءَ، وَامْتِنَاعُهُ مِنْ تَنَاوُلِ الصَّدَقَةِ، وَوَضْعُهُ لَهَا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَشُرْبُ السَّاقِي آخِرًا، وَشُرْبُ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ بَعْدَهُ، وَالْحَمْدُ عَلَى النِّعَمِ، وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ الشُّرْبِ.
(تَنْبِيه): وَقَعَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ قِصَّةٌ أُخْرَى فِي تَكْثِيرِ الطَّعَامِ مَعَ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمِ بْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ قَالَ: أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَمْ أَطْعَمْ، فَجِئْتُ أُرِيدُ الصُّفَّةَ فَجَعَلْتُ أَسْقُطُ، فَجَعَلَ الصِّبْيَانُ يَقُولُونَ: جُنَّ أَبُو هُرَيْرَةَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الصُّفَّةِ فَوَافَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ فَدَعَا عَلَيْهَا أَهْلَ الصُّفَّةِ وهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا، فَجَعَلْتُ أَتَطَاوَلُ كَيْ يَدْعُوَنِي، حَتَّى قَامُوا وَلَيْسَ فِي الْقَصْعَةِ إِلَّا شَيْءٌ فِي نَوَاحِيهَا، فَجَمَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَارَ لُقْمَةً فَوَضَعَهَا عَلَى أَصَابِعِهِ فَقَالَ لِي: كُلْ بِاسْمِ اللَّهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا زِلْتُ آكُلُ مِنْهَا حَتَّى شَبِعْتُ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، زَادَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ بَيَانٍ عَنْ قَيْسٍ: سَمِعْتُ سَعْدًا يَقُولُ: إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ أَهَرَاقَ دَمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعْدٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي السَّرِيَّةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا مَعَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي سِتِّينَ رَاكِبًا، وَهِيَ أَوَّلُ السَّرَايَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ: (وَرَأَيْتُنَا) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ.
قَوْلُهُ: (وَرَقُ الْحُبْلَةِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَبِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْضًا، وَوَقَعَ فِي مَنَاقِبِ سَعْدٍ بِالتَّرَدُّدِ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ.
قَوْلُهُ: (وَهَذَا السَّمُرُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ: هُمَا نَوْعَانِ مِنْ شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَقِيلَ: الْحُبْلَةُ ثَمَرُ الْعِضَاهِ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ شَجَرُ الشَّوْكِ كَالطَّلْحِ وَالْعَوْسَجِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا جَيِّدٌ عَلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لِعَطْفِهِ الْوَرَقَ عَلَى الْحُبْلَةِ.
قُلْتُ: هِيَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ: إِلَّا الْحُبْلَةُ وَوَرَقُ السَّمُرِ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ بَيَانٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَغْزُو فِي الْعِصَابَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا نَأْكُلُ إِلَّا وَرَقَ الشَّجَرِ وَالْحُبْلَةَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ هَذَا السَّمُرُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْحُبْلَةُ ثَمَرُ السَّمُرِ يُشْبِهُ اللُّوبِيَة، وَفِي رِوَايَةِ التَّيْمِيِّ، وَالطَّبَرِيِّ فِي مُسْلِمٍ: وَهَذَا السَّمُرُ بِزِيَادَةِ وَاوٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَحْسَنُهَا؛ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَرَقِ وَالسَّمُرِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا.
قَوْلُهُ: (لَيَضَعُ) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ كِنَايَةٌ
عَنِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ فِي حَالِ التَّغَوُّطِ.
قَوْلُهُ: (كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ) زَادَ بَيَانٌ فِي رِوَايَتِهِ وَالْبَعِيرُ.
قَوْلُهُ: (مَا لَهُ خِلْطٌ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ؛ أَيْ يَصِيرُ بَعْرًا لَا يَخْتَلِطُ مِنْ شِدَّةِ الْيُبْسِ النَّاشِئِ عَنْ قَشَفِ الْعَيْشِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي مَنَاقِبِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ)؛ أَيِ ابْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَبَنُو أَسَدٍ هُمْ إِخْوَةُ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ جَدِّ قُرَيْشٍ، وَبَنُو أَسَدٍ كَانُوا فِيمَنِ ارْتَدَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَبِعُوا طُلَيْحَةَ بْنَ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيَّ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَكَسَرَهُمْ وَرَجَعَ بَقِيَّتُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَابَ طُلَيْحَةُ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَسَكَنَ مُعْظَمُهُمُ الْكُوفَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ كَانُوا مِمَّنْ شَكَا سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ إِلَى عُمَرَ حَتَّى عَزَلَهُ، وَقَالُوا فِي جُمْلَةٍ مَا شَكَوْهُ: إِنَّهُ لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي بَابِ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مِنْ أَبْوَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَبَيَّنْتُ أَسْمَاءَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي أَسَدٍ الْمَذْكُورِينَ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَنَقَلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مُرَادَ سَعْدٍ بِقَوْلِهِ: فَأَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ بَنُو الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامِّ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ إِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي عَهْدِ عُمَرَ فَلَمْ يَكُنْ لِلزُّبَيْرِ إِذْ ذَاكَ بَنُونَ يَصِفُهُمْ سَعْدٌ بِذَلِكَ، وَلَا يَشْكُو مِنْهُمْ، فَإِنَّ أَبَاهُمُ الزُّبَيْرَ كَانَ إِذْ ذَاكَ مَوْجُودًا وَهُوَ صَدِيقُ سَعْدٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ.
قَوْلُهُ: (تُعَزِّرُنِي)؛ أَيْ تُوقِفُنِي، وَالتَّعْزِيزُ التَّوْقِيفُ عَلَى الْأَحْكَامِ وَالْفَرَائِضِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ تُقَوِّمُنِي وَتُعَلِّمُنِي، وَمِنْهُ تَعْزِيرُ السُّلْطَانِ وَهُوَ التَّقْوِيمُ بِالتَّأْدِيبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ سَعْدًا أَنْكَرَ أَهْلِيَّةَ بَنِي أَسَدٍ لِتَعْلِيمِهِ الْأَحْكَامَ مَعَ سَابِقِيَّتِهِ وَقِدَمِ صُحْبَتِهِ، وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: مَعْنَى تُعَزِّرُنِي تَلُومُنِي وَتَعْتِبُنِي، وَقِيلَ: تُوَبِّخُنِي عَلَى التَّقْصِيرِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ حَكَى ذَلِكَ: فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ بُعْدٌ عَنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ، قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْأَلْيَقَ بِمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْزِيرِ هُنَا الْإِعْظَامُ وَالتَّوْقِيرُ كَأَنَّهُ وَصَفَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالَتُهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ شِدَّةِ الْحَالِ وَخُشُونَةِ الْعَيْشِ وَالْجَهْدِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا بِالْفُتُوحَاتِ وَوُلُّوا الْوِلَايَاتِ، فَعَظَّمَهُمُ النَّاسُ لشُهْرَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، فَكَأَنَّهُ كَرِهَ تَعْظِيمَ النَّاسِ لَهُ، وَخَصَّ بَنِي أَسَدٍ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمْ أَفْرَطُوا فِي تَعْظِيمِهِ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ الَّذِي بَعْدَهُ فِي مُسْلِمٍ نَحْوُ حَدِيثِ سَعْدٍ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ - أَيِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا، وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا، فَمَا أَصْبَحَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ انْتَهَى، وَكَانَ عُتْبَةُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرَ الْبَصْرَةِ وَسَعْدٌ أَمِيرَ الْكُوفَةِ.
قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ بَنِي أَسَدٍ شَكَوْهُ، وَقَالُوا فِيهِ مَا قَالُوا، وَلِذَلِكَ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَنَاقِبِ سَعْدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَضَلَّ عَمَلِي: وَكَانُوا وَشَوْا بِهِ إِلَى عُمَرَ قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي، وَوَقَعَ كَذَلِكَ هُنَا فِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُمْ شَكَوْهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ سَعْدٌ: أَتُعَلِّمُنِي الْأَعْرَابُ الصَّلَاةَ، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَتَفْسِيرُ التَّعْزِيرِ عَلَى مَا شَرَحَهُ مَنْ تَقَدَّمَ مُسْتَقِيمٌ، وَأَمَّا قِصَّةُ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ فَإِنَّمَا قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ مَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ خَطَبَ بِذَلِكَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ، فَأَرَادَ إِعْلَامَ الْقَوْمِ بِأَوَّلِ أَمْرِهِ وَآخِرِهِ إِظْهَارًا مِنْهُ لِلتَّوَاضُعِ وَالتَّحَدُّثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا، وَأَمَّا سَعْدٌ فَقَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عُزِلَ، وَجَاءَ إِلَى عُمَرَ فَاعْتَذَرَ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ سَعَى فِيهِ بِمَا سَعَى.
قَوْلُهُ: (عَلَى الْإِسْلَامِ) فِي رِوَايَةِ بَيَانٍ عَلَى الدِّينِ.
قَوْلُهُ: (خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِي) فِي رِوَايَةِ خَالِدٍ عَمَلِي كَمَا تَرَى، وَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي
رِوَايَةِ بَيَانٍ لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَعْلَى، وَمُحَمَّدٍ ابْنَيْ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِسَنَدِهِ فِي آخِرِهِ وَضَلَّ عَمَلِيَهْ بِزِيَادَةِ هَاءٍ فِي آخِرِهِ وَهِيَ هَاءُ السَّكْتِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ سَاغَ لِسَعْدٍ أَنْ يَمْدَحَ نَفْسَهُ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ تَرْكُ ذَلِكَ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ سَاغَ لَهُ لَمَّا عَيَّرَهُ الْجُهَّالُ بِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ، فَاضْطَرَّ إِلَى ذِكْرِ فَضْلِهِ، وَالْمِدْحَةُ إِذَا خَلَتْ عَنِ الْبَغْيِ وَالِاسْتِطَالَةِ، وَكَانَ مَقْصُودُ قَائِلِهَا إِظْهَارَ الْحَقِّ، وَشُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ لَمْ يُكْرَهْ، كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: إِنِّي لَحَافِظٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَالِمٌ بِتَفْسِيرِهِ وَبِالْفِقْهِ فِي الدِّينِ، قَاصِدًا إِظْهَارَ الشُّكْرِ أَوْ تَعْرِيفَ مَا عِنْدَهُ لِيُسْتَفَادَ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ، وَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ عليه السلام:{إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وَقَالَ عَلِيٌّ: سَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي لَأَتَيْتُهُ، وَسَاقَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارًا وَآثَارًا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عُثْمَانُ) هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَسْوَدُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ) يَخْرُجُ مَا كَانُوا فِيهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ (مِنْ طَعَامِ بُرٍّ) يَخْرُجُ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَأْكُولَاتِ (ثَلَاثَ لَيَالٍ) أَيْ بِأَيَّامِهَا (تِبَاعًا) يَخْرُجُ التَّفَارِيقُ (حَتَّى قُبِضَ) إِشَارَةً إِلَى اسْتِمْرَارِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ بِمَا فِيهَا مِنْ أَيَّامِ أَسْفَارِهِ فِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَزَادَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَمَا رُفِعَ عَنْ مَائِدَتِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَضْلًا حَتَّى قُبِضَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مَنْصُورٍ فِيهِ بِلَفْظِ مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ أَخْرَجَاهُ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْهَا: وَاللَّهِ مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَائِشَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَأْتِي عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مَا يَشْبَعُ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ حَدِيثِ الْبَابِ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعْدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْهُ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَأَخْرَجَهُ مسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ غَدَاءً وَعَشَاءً، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَبْعَتَيْنِ فِي يَوْمٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: مَا شَبِعَ مِنْ غَدَاءٍ أَوْ عَشَاءٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النَّاسِ كَوْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ كَانُوا يَطْوُونَ الْأَيَّامَ جُوعًا، مَعَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ قَسَمَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ أَلْفَ بَعِيرٍ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ سَاقَ فِي عُمْرَتِهِ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَهَا وَأَطْعَمَهَا الْمَسَاكِينَ، وَأَنَّهُ أَمَرَ لِأَعْرَابِيٍّ بِقَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَطَلْحَةَ وَغَيْرِهِمْ، مَعَ بَذْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَعُمَرُ بِنِصْفِهِ، وَحَثَّ عَلَى تَجْهِيزِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ فَجَهَّزَهُمْ عُثْمَانُ بِأَلِفِ بَعِيرٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ لَا لِعَوْزٍ وَضِيقٍ، بَلْ تَارَةً لِلْإِيثَارِ وَتَارَةً لِكَرَاهَةِ الشِّبَعِ وَلِكَثْرَةِ الْأَكْلِ انْتَهَى.
وَمَا نَفَاهُ مُطْلَقًا فِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ آنِفًا، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّا كُنَّا نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ فَقَدْ كَذَبَكُمْ، فَلَمَّا افْتُتِحَتْ
قُرَيْظَةُ أَصَبْنَا شَيْئًا مِنَ التَّمْرِ وَالْوَدَكِ وَتَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا الْآنَ نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ حَدِيثُ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَبِعْنَا مِنَ التَّمْرِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ شَبِعْنَا مِنَ التَّمْرِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْهُمْ كَانُوا فِي حَالِ ضِيقٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حَيْثُ كَانُوا بِمَكَّةَ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ أَكْثَرُهُمْ كَذَلِكَ، فَوَاسَاهُمُ الْأَنْصَارُ بِالْمَنَازِلِ وَالْمَنَائِحِ، فَلَمَّا فُتِحَتْ لَهُمُ النَّضِيرُ وَمَا بَعْدَهَا رَدُّوا عَلَيْهِمْ مَنَائِحَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ. وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ أَحَدٌ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبِطُ بِلَالٍ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِمَعْنَاهُ.
نَعَمْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَخْتَارُ ذَلِكَ مَعَ إِمْكَانِ حُصُولِ التَّوَسُّعِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الدُّنْيَا لَهُ، كَمَا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ، قَوْلُهُ (إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ الْبَغَوِيُّ، وَهِلَالٌ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ هُوَ الْوَزَّانُ وَهُوَ ابْنُ حُمَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (مَا أَكْلَ آلُ مُحَمَّدٍ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ مُنَيْعٍ، عَنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ هُنَا مَا شَبِعَ مُحَمَّدٌ بِحَذْفِ لَفْظِ آلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ نَفْسُهُ.
قَوْلُهُ: (أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلَّا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّمْرَ كَانَ أَيْسَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَالسَّبَبُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ رُبَّمَا لَمْ يَجِدُوا فِي الْيَوْمِ إِلَّا أَكْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ وَجَدُوا أَكْلَتَيْنِ فَإِحْدَاهُمَا تَمْرٌ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مِسْعَرٍ بِلَفْظِ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا تَمْرٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ حَدَّثَنِي وَالِدِي، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: خَرَجَ - تَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَمْلَأْ بَطْنَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ طَعَامَيْنِ، كَانَ إِذَا شَبِعَ مِنَ التَّمْرِ لَمْ يَشْبَعْ مِنَ الشَّعِيرِ، وَإِذَا شَبِعَ مِنَ الشَّعِيرِ لَمْ يَشْبَعْ مِنَ التَّمْرِ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْجَمْعِ بَيْنَ لَوْنَيْنِ، فَقَدْ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَطْعِمَةِ لِلْجَوَازِ، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ كَانَ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ وَبَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ، قَوْلُهُ (النَّضْرُ) هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ.
قَوْلُهُ: (كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَدَمٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ (حَشْوُهُ لِيفٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِلَفْظِ كَانَ ضِجَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَدَمًا حَشْوُهُ لِيفٌ وَالضِّجَاعُ بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا جِيمٌ: مَا يُرْقَدُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَجَوَّزُ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْبُسُطِ مِنْ كِتَابِ اللِّبَاسِ حَدِيثُ عُمَرَ الطَّوِيلُ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ وَفِيهِ وِسَادَةٌ بَدَلَ مِرْفَقَةٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ، فَرَأَتْ فِرَاشَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَبَاءَةً مَثْنِيَّةً، فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ حَشْوُهُ صُوفٌ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَآهُ فَقَالَ: رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ، وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُ أَجْرَى اللَّهُ مَعِي جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا نَأْتِيكَ بِشَيْءٍ يَقِيكَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ حَدِيثُ أَنَسٍ
قَوْلُهُ: (وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْخُبْزِ
الْمُرَقَّقِ مِنْ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الثَّانِيَةُ لِلنَّسَفِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَثَبَتَتْ لِلْبَاقِينَ وَهِيَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى: (يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ) كَذَا فِيهِ بِالتَّصْغِيرِ إِشَارَةٌ إِلَى قِلَّتِهِ.
وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: ابْنُ أَبِي حَازِمٍ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: أَبُو حَازِمٍ، وَيَزِيدُ، وَعُرْوَةُ.
قَوْلُهُ: (ابْنَ أُخْتِي) بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ؛ أَيْ يَا ابْنَ أُخْتِي، لِأَنَّ أُمَّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ.
قَوْلُهُ: (إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ)، الْمُرَادُ بِالْهِلَالِ الثَّالِثِ هِلَالُ الشَّهْرِ الثَّالِثِ، وَهُوَ يُرَى عِنْدَ انْقِضَاءِ الشَّهْرَيْنِ، وَبِرُؤْيَتِهِ يَدْخُلُ أَوَّلُ الشَّهْرِ الثَّالِثِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: كَانَ يَمُرُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هِلَالٌ ثُمَّ هِلَالٌ ثُمَّ هِلَالٌ لَا يُوقَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ بُيُوتِهِ نَارٌ لَا لِخُبْزٍ وَلَا لِطَبْخٍ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ)؟ بِضَمِّ أَوَّلِهِ يُقَالُ: أَعَاشَهُ اللَّهُ؛ أَيْ أَعْطَاهُ الْعَيْشَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ قُلْتُ: فَمَا كَانَ طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالُوا: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا يَعِيشُونَ نَحْوَهُ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى ثَانِي الْحَالِ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ قُرَيْظَةُ وَغَيْرُهَا، وَمِنْ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قُلْتُ: وَأَيُّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ عَنْهُ؟ وَإِنَّمَا هُوَ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ قَالَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ.
قَالَ الصَّغَانِيُّ: الْأَسْوَدَانِ يُطْلَقُ عَلَى التَّمْرِ وَالْمَاءِ، وَالسَّوَادُ لِلتَّمْرِ دُونَ الْمَاءِ، فَنُعِتَا بِنَعْتٍ وَاحِدٍ تَغْلِيبًا، وَإِذَا اقْتَرَنَ الشَّيْئَانِ سُمِّيَا بِاسْمِ أَشْهَرِهِمَا، وَعَنْ أَبِي زَيْدٍ: الْمَاءُ يُسَمَّى الْأَسْوَدَ وَاسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِشِعْرٍ.
قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ تَقَعُ الْخِفَّةُ أَوِ الشَّرَفُ مَوْضِعَ الشُّهْرَةِ كَالْعُمَرَيْنِ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَالْقَمَرَيْنِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ)، زَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِهِ جَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا.
قَوْلُهُ: (كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ) جَمْعُ مَنِيحَةٍ بِنُونٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَبِيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ وَأَهْلُهُ طَاوِينَ لَا يَجِدُونَ عَشَاءً. وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ سُخْنٍ فَأَكَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا دَخَلَ بَطْنِي طَعَامٌ سُخْنٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَمِنْ شَوَاهِدِ الْحَدِيثِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مِرَارًا: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَاعُ حَبٍّ وَلَا صَاعُ تَمْرٍ، وَإِنَّ لَهُ يَوْمَئِذٍ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ. وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، وَعُمَارَةُ هُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ، وَأَبُو زُرْعَةَ هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا) هَكَذَا وَقَعَ هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ دُعَاءً بِطَلَبِ الْقُوتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنْ يَكُونَ طَلَبَ لَهُمُ الْقُوتَ، بِخِلَافِ اللَّفْظِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يُعَيِّنُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ، وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الْكَفَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ شَرَحَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْكَفَافِ، وَأَخْذِ الْبُلْغَةِ مِنَ الدُّنْيَا وَالزُّهْدِ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي تَوَفُّرِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَإِيثَارًا لِمَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَيَنْبَغِي أَنْ تَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَبَ الْكَفَافَ، فَإِنَّ الْقُوتَ مَا يَقُوتُ الْبَدَنَ وَيَكُفُّ عَنِ الْحَاجَةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَلَامَةٌ مِنْ آفَاتِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ جَمِيعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
18 - بَاب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ
6461 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَشْعَثَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: الدَّائِمُ قَالَ: قُلْتُ: فِي أَيِّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ.
6462 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ
6463 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَنْ يُنْجيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا
6464 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ
[الحديث 6464 - طرفه في 6467]
6465 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ وَقَالَ اكْلَفُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ"
6466 -
حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ "سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنْ الأَيَّامِ قَالَتْ لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ"
6467 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ" قَالَ أَظُنُّهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلًا سَدِيدًا وَسَدَادًا صِدْقًا"
6468 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى لَنَا يَوْمًا الصَّلَاةَ ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ قَدْ أُرِيتُ الْآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمْ الصَّلَاةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قُبُلِ هَذَا الْجِدَارِ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَصْدِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، هُوَ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمُعْتَدِلَةِ أَيِ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي أَنَّهُمْ فَسَّرُوا السَّدَادَ بِالْقَصْدِ وَبِهِ تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ.
قَوْلُهُ: (وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ)؛ أَيِ الصَّالِحِ، ذَكَرَ فِيهِ ثَمَانِيَةَ أَحَادِيثَ أَكْثَرُهَا مُكَرَّرٌ، وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ عَلَى بَعْضٍ، وَمُحَصَّلُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْحَثُّ عَلَى مُدَاوَمَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِنْ قَلَّ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ بِعَمَلِهِ بَلْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَقِصَّةُ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فِي صَلَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّرْجَمَةِ، وَالثَّانِي ذُكِرَ اسْتِطْرَادًا وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالتَّرْجَمَةِ أَيْضًا، وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقُ بِهَا أَيْضًا بَطَرِيقٍ خَفِيٍّ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، وَأَشْعَثُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَأَبُوهُ يُكَنَّى أَبَا الشَّعْثَاءِ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ، وَهُوَ بِهَا أَشْهَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي بَابِ مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ مِنْ كِتَابِ التَّهَجُّدِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَالْمُرَادُ بِالصَّارِخِ الدِّيكُ. وَقَوْلُهُ هُنَا: قُلْتُ فِي أَيِّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَأَيُّ حِينٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ بِلَفْظِ: قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقُومُ، وَأَعْقَبَهُ بِرِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ بِلَفْظِ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ فَصَلَّى اخْتَصَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِتَمَامِهِ وَقَالَ فِيهِ: قُلْتُ: أَيَّ حِينٍ كَانَ يُصَلِّي فَذَكَرَهُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ عَائِشَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَهَذَا يُفَسِّرُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِي الَّذِي بَعْدَهُ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُنَجِّيهُ عَمَلُهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْمَرَضِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَمْ يُدْخِلْ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَهُوَ كَلَفْظِ عَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ الرَّابِعِ هُنَا، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُنَجِّيهُ عَمَلُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ: لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَلَا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُنَجِّي أَيْ يُخَلِّصُ، وَالنَّجَاةُ مِنَ الشَّيْءِ التَّخَلُّصُ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مَا مُحَصَّلُهُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ تُنَالُ الْمَنَازِلُ فِيهَا بِالْأَعْمَالِ، فَإِنَّ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْأَعْمَالِ، وَأَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالْخُلُودِ فِيهَا، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ قَوْلَهُ - تَعَالَى - {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فَصَرَّحَ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ أَيْضًا بِالْأَعْمَالِ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ الْحَدِيثُ، وَالتَّقْدِيرُ: ادْخُلُوا مَنَازِلَ الْجَنَّةِ وَقُصُورَهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَصْلَ الدُّخُولِ.
ثُمَّ قَالَ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُفَسِّرًا لِلْآيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ ادْخُلُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ لَكُمْ وَتَفَضُّلِهِ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ اقْتِسَامَ مَنَازِلِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِهِ، وَكَذَا أَصْلُ دُخُولِ الْجَنَّةِ هُوَ بِرَحْمَتِهِ حَيْثُ أَلْهَمَ الْعَامِلِينَ مَا نَالُوا بِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ مُجَازَاتِهِ لِعِبَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً بِإِيجَادِهِمْ ثُمَّ بِرِزْقِهِمْ ثُمَّ بِتَعْلِيمِهِمْ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: طَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّ الْحَدِيثَ فَسَّرَ مَا أُجْمِلَ فِي الْآيَةِ، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ الْأَخِيرِ، وَأَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَوْفِيقُهُ لِلْعَمَلِ وَهِدَايَتُهُ لِلطَّاعَةِ، وكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَتَحَصَّلُ عَنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ التَّوْفِيقَ لِلْعَمَلِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَوْلَا رَحْمَتُ اللَّهِ السَّابِقَةُ مَا حَصَلَ الْإِيمَانُ وَلَا الطَّاعَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا النَّجَاةُ. الثَّانِي: أَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فَعَمَلُهُ مُسْتَحَقٌّ لِمَوْلَاهُ، فَمَهْمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ فَهُوَ مِنْ فَضْلِهِ. الثَّالِثُ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ نَفْسَ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَاقْتِسَامَ الدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ. الرَّابِعُ: أَنَّ أَعْمَالَ الطَّاعَاتِ كَانَتْ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، وَالثَّوَابُ لَا يَنْفَدُ فَالْإِنْعَامُ الَّذِي لَا يَنْفَدُ فِي جَزَاءِ مَا يَنْفَدُ بِالْفَضْلِ لَا بِمُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لَيْسَت لِلسَّبَبِيَّةِ؛ بَلْ لِلْإِلْصَاقِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ، أَيْ أُورِثْتُمُوهَا مُلَابَسَةً أَوْ مُصَاحَبَةً، أَوْ لِلْمُقَابَلَةِ نَحْوَ أُعْطِيتُ الشَّاةَ بِالدِّرْهَمِ، وَبِهَذَا الْأَخِيرِ جَزَمَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي فَسَبَقَ إِلَيْهِ فَقَالَ: تَرِدُ الْبَاءُ لِلْمُقَابَلَةِ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَعْوَاضِ، كَاشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ، وَمِنْهُ:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَإِنَّمَا لَمْ تُقَدَّرْ هُنَا لِلسَّبَبِيَّةِ كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَكَمَا قَالَ الْجَمِيعُ فِي: لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ بِعِوَضٍ قَدْ يُعْطِي مَجَّانًا بِخِلَافِ الْمُسَبَّبِ فَلَا يُوجَدُ بِدُونِ السَّبَبِ، قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ يَنْتَفِي التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ.
قُلْتُ: سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَالَ فِي كِتَابِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: الْبَاءُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلدُّخُولِ غَيْرُ الْبَاءِ الْمَاضِيَةِ، فَالْأُولَى السَّبَبِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ سَبَبُ الدُّخُولِ الْمُقْتَضِيَةُ لَهُ كَاقْتِضَاءِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَالثَّانِيَةُ: بِالْمُعَاوَضَةِ نَحْوَ اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بِكَذَا، فَأَخْبَرَ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ لَوْلَا رَحْمَتُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ لَمَا أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمُجَرَّدِهِ وَلَوْ تَنَاهَى لَا يُوجِبُ بِمُجَرَّدِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ وَلَوْ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ لَا يُقَاوِمُ نِعْمَةَ اللَّهِ؛ بَلْ جَمِيعُ الْعَمَلِ لَا يُوَازِي نِعْمَةً وَاحِدَةً، فَتَبْقَى سَائِرُ نِعَمِهِ مُقْتَضِيَةً لِشُكْرِهَا وَهُوَ لَمْ يُوَفِّهَا حَقَّ شُكْرِهَا، فَلَوْ عَذَّبَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَعَذَّبَهُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ، وَإِذَا رَحِمَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا مِنْ عَمَلِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي ذِكْرِ الْقَدَرِ فَفِيهِ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمُ، الْحَدِيثَ، قَالَ: وَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ مَعَ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ تَكُونَ الْأَعْمَالُ سَبَبًا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ عِوَضُ الْعَمَلِ، وَأَنَّهَا ثَمَنُهُ، وَأَنَّ دُخُولَهَا بِمَحْضِ الْأَعْمَالِ، وَالْحَدِيثُ يُبْطِلُ دَعْوَى الطَّائِفَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الدُّخُولَ لَيْسَ بِالْعَمَلِ، وَالْإِدْخَالُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْإِرْثِ بِالْعَمَلِ، وَهَذَا إِنْ مَشَى فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لَمْ يَمْشِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَيَظْهَرُ لِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلٌ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْعَامِلُ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَمْرُ الْقَبُولِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ لِمَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ؛ أَيْ تَعْمَلُونَهُ مِنَ الْعَمَلِ الْمَقْبُولِ، وَلَا يَضُرُّ بَعْدَ هَذَا أَنْ تَكُونَ
الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوْ لِلْإِلْصَاقِ أَوِ الْمُقَابَلَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً.
ثُمَّ رَأَيْتُ النَّوَوِيَّ جَزَمَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَاتِ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَدِيثِ أَنَّ التَّوْفِيقَ لِلْأَعْمَالِ وَالْهِدَايَةَ لِلْإِخْلَاصِ فِيهَا وَقَبُولَهَا إِنَّمَا هُوَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ، فَيَصِحُّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ، وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ، وَيَصِحُّ أَنَّهُ دَخَلَ بِسَبَبِ الْعَمَلِ وَهُوَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -.
وَرَدَّ الْكَرْمَانِيُّ الْأَخِيرَ بِأَنَّهُ خِلَافُ صَرِيحِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ إِثَابَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - مَنْ أَطَاعَهُ بِفَضْلٍ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ انْتِقَامُهُ مِمَّنْ عَصَاهُ بِعَدْلٍ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ وَاحدٌ مِنْهُمَا إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَلَهُ سبحانه وتعالى أَنْ يُعَذِّبَ الطَّائِعَ وَيُنَعِّمَ الْعَاصِيَ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ لَا خُلْفَ فِيهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُقَوِّي مَقَالَتَهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ أَثْبَتُوا بِعُقولِهِمْ أَعْوَاضَ الْأَعْمَالِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خَبْطٌ كَثِيرٌ وَتَفْصِيلٌ طَوِيلٌ.
قَوْلُهُ: (قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ)؟ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَقَالَ رَجُلٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْقَائِلِ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إِذَا كَانَ كُلُّ النَّاسِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ فَوَجْهُ تَخْصِيصِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالذِّكْرِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَقْطُوعًا لَهُ بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ فَغَيْرُهُ يَكُونُ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. قُلْتُ: وَسَبَقَ إِلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى الرَّافِعِيُّ فِي أَمَالِيهِ فَقَالَ: لَمَّا كَانَ أَجْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّاعَةِ أَعْظَمَ وَعَمَلُهُ فِي الْعِبَادَةِ أَقَوْمَ قِيلَ لَهُ: وَلَا أَنْتَ؛ أَيْ لَا يُنَجِّيكَ عَمَلُكَ مَعَ عِظَمِ قَدْرِهِ، فَقَالَ: لَا إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَقَدْ وَرَدَ جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ بِعَيْنِهِ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ: لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَلَا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ، وَلَا أَنَا إِلَّا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ) فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَنِي.
قَوْلُهُ: (بِرَحْمَةٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ: بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ: بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ: بِرَحْمَةٍ وَفَضْلٍ، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ: مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ: بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ بِيَدِهِ هَكَذَا: وَأَشَارَ عَلَى رَأْسِهِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ مَعْنَى يَتَغَمَّدَنِي قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالتَّغَمُّدِ السَّتْرُ، وَمَا أَظُنُّهُ إِلَّا مَأْخُوذًا مِنْ غَمْدِ السَّيْفِ؛ لِأَنَّكَ إِذَا أَغْمَدْتَ السَّيْفَ فَقَدْ أَلْبَسْتَهُ الْغِمْدَ وَسَتَرْتَهُ بِهِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى عَمَلِهِ فِي طَلَبِ النَّجَاةِ وَنَيْلِ الدَّرَجَاتِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عَمِلَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الْمَعْصِيَةَ بِعِصْمَةِ اللَّهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.
قَوْلُهُ: (سَدِّدُوا) فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَكِنْ سَدِّدُوا، وَمَعْنَاهُ اقْصِدُوا السَّدَادَ؛ أَيِ الصَّوَابَ، وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّهُ قَدْ يُفْهَمُ مِنَ النَّفْيِ الْمَذْكُورِ نَفْيُ فَائِدَةِ الْعَمَلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ لَهُ فَائِدَةٌ وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَامَةٌ عَلَى وُجُودِ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُدْخِلُ الْعَامِلَ الْجَنَّةَ، فَاعْمَلُوا وَاقْصِدُوا بِعَمَلِكُمُ الصَّوَابَ؛ أَيِ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَغَيْرِهِ لِيَقْبَلَ عَمَلَكُمْ فَيُنْزِلَ عَلَيْكُمُ الرَّحْمَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَارِبُوا)؛ أَيْ لَا تُفْرِطُوا فَتُجْهِدُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْعِبَادَةِ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ بِكُمْ ذَلِكَ إِلَى الْمَلَالِ فَتَتْرُكُوا الْعَمَلَ فَتُفَرِّطُوا، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ وَلَكِنْ صَوَّبَ إِرْسَالَهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الزُّهْدِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفٌ: إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبْغِضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى، وَالْمُنْبَتُّ بِنُونٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ ثَقِيلَةٍ؛ أَيِ الَّذِي عَطِبَ مَرْكُوبُهُ مِنْ شِدَّةِ السَّيْرِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَتِّ وَهُوَ الْقَطْعُ؛ أَيْ صَارَ مُنْقَطِعًا لَمْ يَصِلْ إِلَى مَقْصُودِهِ وَفَقَدَ مَرْكُوبَهُ الَّذِي كَانَ يُوَصِّلُهُ لَوْ رَفَقَ بِهِ. وَقَوْلُهُ أَوْغِلُوا بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْوُغُولِ وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ.
قَوْلُهُ: (وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْئًا مِنَ الدُّلْجَةِ) فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَخَطًّا مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْغُدُوِّ
السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَبِالرَّوَاحِ السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ النَّهَارِ، وَالدُّلْجَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَبَعْدَ اللَّامِ جِيمٌ سَيْرُ اللَّيْلِ يُقَالُ: سَارَ دُلْجَةً مِنَ اللَّيْلِ؛ أَيْ سَاعَةً فَلِذَلِكَ قَالَ: شَيْئًا مِنَ الدُّلْجَةِ لِعُسْرِ سَيْرِ جَمِيعِ اللَّيْلِ، فَكَأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى صِيَامِ جَمِيعِ النَّهَارِ، وَقِيَامِ بَعْضِ اللَّيْلِ، وَإِلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ أَوْجُهِ الْعِبَادَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ فِي الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَعَبَّرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى السَّيْرِ؛ لِأَنَّ الْعَابِدَ كَالسَّائِرِ إِلَى مَحَلِّ إِقَامَتِهِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَشَيْئًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيِ افْعَلُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي بَابِ الدِّينُ يُسْرٌ.
قَوْلُهُ: (وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ؛ أَيِ الْزَمُوا الطَّرِيقَ الْوَسَطَ الْمُعْتَدِلَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَانَتْ خُطْبَتُهُ قَصْدًا؛ أَيْ لَا طَوِيلَةً وَلَا قَصِيرَةً، وَاللَّفْظُ الثَّانِي لِلتَّأْكِيدِ، وَوَقَفْتُ عَلَى سَبَبٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ، فَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ يُصَلِّي عَلَى صَخْرَةٍ فَأَتَى نَاحِيَةً فَمَكَثَ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَجَدَهُ عَلَى حَالِهِ، فَقَامَ فَجَمَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمُ الْقَصْدَ، عَلَيْكُمُ الْقَصْدَ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْأُوَيْسِيُّ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: لَمْ أَرَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بَيْنَ سُلَيْمَانَ، وَمُوسَى. قُلْتُ: وَهُوَ الْمَحْفُوظُ، وَالَّذِي زَادَهُ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ زَبَالَةَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَدَنِيِّ، وَهَذَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ لِمَا تَعَقَّبْتُهُ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ فِي جَزْمِهِ بِأَنَّ الزِّيَادَاتِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْمُسْتَخْرَجَاتِ تَحْكُمُ بِصِحَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مَخْرَجَ الصَّحِيحِ، وَوَجْهُ التَّعَقُّبِ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوا لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْتِزَامِ ذَلِكَ، سَلَّمْنَا أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَفُوا بِهِ، وَهَذَا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فَإِنَّ ابْنَ زَبَالَةَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) سَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِاتِّصَالِهِ بَعْدَ حَدِيثَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَخْ) خَرَّجَ هَذَا جَوَابَ سُؤَالٍ سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ قَوْلُهُ: (عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيم)؛ أَيِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ شَيْخُهُ هُوَ عَمُّهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ) وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ مَعْنَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَرِوَايَةُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَقْوَى لِكَوْنِ أَبِي سَلَمَةَ بَلَدِيَّهُ وَقَرِيبَهُ، بِخِلَافِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ لِاخْتِلَافِ السِّيَاقَيْنِ، فَإِنَّ لَفْظَهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بَعْدَ زِيَادَةٍ فِي أَوَّلِهِ: وَكَانَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُ سِيَاقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ السَّائِلِ عَنْ ذَلِكَ، لَكِنْ
…
(1)
.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ) فِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ، وَظَاهِرُهُ السُّؤَالُ عَنْ ذَاتِ الْعَمَلِ فَلَمْ يَتَطَابَقَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَقَعَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي فِي الصَّلَاةِ وَفِي الْحَجِّ وَفِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، حَيْثُ أَجَابَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ بِالْبِرِّ إِلَخْ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَمَلٍ يَكُونُ أَعْظَمَ أَجْرًا، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مُدَاوَمَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ)؛ أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (اِكْلَفُوا) بِفَتْحِ اللَّامِ وَبِضَمِّهَا أَيْضًا، قَالَ ابْنُ التِّينِ:
(1)
بياض بأصله.
هُوَ فِي اللُّغَةِ بِالْفَتْحِ وَرُوِّينَاهُ بِالضَّمِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِبْلَاغُ بِالشَّيْءِ إِلَى غَايَتِهِ، يُقَالُ: كَلِفْتُ بِالشَّيْءِ إِذَا أَوْلَعْتَ بِهِ، وَنَقَلَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ رَوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ أَكَلَفَ بِالشَّيْءِ قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ:: الْكَلَفُ بِالشَّيْءِ التَّوَلُّعُ بِهِ، فَاسْتُعِيرَ لِلْعَمَلِ لِلِالْتِزَامِ وَالْمُلَابَسَةِ، وَأَلِفُهُ أَلِفُ وَصْلٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُدِيمَ لِلْعَمَلِ يُلَازِمُ الْخِدْمَةَ فَيُكْثِرُ التَّرَدُّدَ إِلَى بَابِ الطَّاعَةِ كُلَّ وَقْتٍ لِيُجَازَى بِالْبِرِّ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ، فَلَيْسَ هُوَ كَمَنْ لَازَمَ الْخِدْمَةَ مَثَلًا ثُمَّ انْقَطَعَ، وَأَيْضًا فَالْعَامِلُ إِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ صَارَ كَالْمُعْرِضِ بَعْدَ الْوَصْلِ، فَيَتَعَرَّضُ لِلذَّمِّ وَالْجَفَاءِ، وَمِنْ ثُمَّ وَرَدَ الْوَعِيدُ فِي حَقِّ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ هُنَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ.
قَوْلُهُ: (مَا تُطِيقُونَ)؛ أَيْ قَدْرَ طَاقَتِكُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْجِدِّ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِبْلَاغِ بِهَا إِلَى حَدِّ النِّهَايَةِ، لَكِنْ بِقَيْدِ مَا لَا تَقَعُ مَعَهُ الْمَشَقَّةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى السَّآمَةِ وَالْمَلَالِ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ قَوْلُهُ: (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَلْقَمَةُ هُوَ ابْنُ قَيْسٍ وَهُوَ خَالُ إِبْرَاهِيمَ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ إِلَى عَائِشَةَ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الْأَيَّامِ)؛ أَيْ بِعِبَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا يَفْعَلُ مِثْلَهَا فِي غَيْرِهِ: (قَالَتْ لَا)، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ عَنْهَا أَنَّ أَكْثَرَ صِيَامِهِ كَانَ فِي شَعْبَانَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَبِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَيَّامَ الْبِيضِ كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَهَا تَخْصِيصُ عِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ، وَإِكْثَارُهُ الصِّيَامَ فِي شَعْبَانَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْتَرِيهِ الْوَعْكُ كَثِيرًا، وَكَانَ يُكْثِرُ السَّفَرَ فِي الْغَزْوِ فَيُفْطِرُ بَعْضَ الْأَيَّامِ الَّتِي كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَهَا، فَيَتَّفِقُ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ قَضَاءِ ذَلِكَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ فَيَصِيرُ صِيَامُهُ فِي شَعْبَانَ بِحَسَبِ الصُّورَةِ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَيَّامُ الْبِيضِ فَلَمْ يَكُنْ يُوَاظِبُ عَلَى صِيَامِهَا فِي أَيَّامٍ بِعَيْنِهَا؛ بَلْ كَانَ رُبَّمَا صَامَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَرُبَّمَا صَامَ مِنْ وَسَطِهِ، وَرُبَّمَا صَامَ مِنْ آخِرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ أَنَسٌ: مَا كُنْتَ تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ صَائِمًا مِنَ النَّهَارِ إِلَّا رَأَيْتَهُ، وَلَا قَائِمًا مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا رَأَيْتَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً) بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ؛ أَيْ دَائِمًا، وَالدِّيمَةُ فِي الْأَصْلِ الْمَطَرُ الْمُسْتَمِرُّ مَعَ سُكُونٍ بِلَا رَعْدٍ وَلَا بَرْقٍ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ، وَأَصْلُهَا الْوَاوُ، فَانْقَلَبَتْ بِالْكَسْرَةِ قَبْلَهَا يَاءً.
قَوْلُهُ: (وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ إِلَخْ)؛ أَيْ فِي الْعِبَادَةِ كَمِّيَّةً كَانَتْ أَوْ كَيْفِيَّةً مِنْ خُشُوعٍ وَخُضُوعٍ وَإِخْبَاتٍ وَإِخْلَاصٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ قَوْلُهُ: (مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَالرَّاءِ بَيْنَهُمَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ وَبِالْقَافِ، هُوَ أَبُو هَمَّامٍ الْأَهْوَازِيُّ، وَثَّقَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالَّدارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: صَدُوقٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَقَالَ: رُبَّمَا أَخْطَأَ؛ وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ تُوبِعَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَظُنُّهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) هُوَ سَالِمُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَدَنِيُّ التَّيْمِيُّ، وَفَاعِلُ أَظُنُّهُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَكَأَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَنَّ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَاسِطَةً وَهُوَ أَبُو النَّضْرِ، لَكِنْ قَدْ ظَهَرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنْ لَا وَاسِطَةَ لِتَصْرِيحِ وُهَيْبٍ وَهُوَ ابْنُ خَالِدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِقَوْلِهِ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ وَهَذَا هُوَ النُّكْتَةُ فِي إِيرَادِ الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ بَعْدَهَا عَنْ عَفَّانَ، عَنْ وُهَيْبٍ، وَطَرِيقُ عَفَّانَ هَذِهِ وَصَلَهَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بِسَنَدِهِ، وَأَخْرَجَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، عَنْ عَفَّانَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ عَنْ وُهَيْبٍ.
قَوْلُهُ: (سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا) هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَى طَرَفِ الْمَتْنِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْهُ بَيَانُ اتِّصَالِ السَّنَدِ فَاكْتَفَى، وَقَدْ سَاقَهُ أَحْمَدُ بِتَمَامِهِ عَنْ عَفَّانَ مِثْلَ رِوَايَةِ أَبِي هَمَّامٍ سَوَاءً، لَكِنْ قَدَّمَ وَأَخَّرَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ بَهْزٍ وَزَادَ
فِي آخِرِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ، وَمَضَى لِنَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ سَبَبٌ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيَبْسُطُهُ فِي النَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ بِصَلَاتِهِ حَتَّى كَثُرُوا، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا تُطِيقُونَ، وَوَقَفْتُ لَهُ عَلَى سَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَضْحَكُونَ فَقَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ لَكَ: لَا تُقَنِّطْ عِبَادِي، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كَلَامِهِ عَلَى مَوَاضِعَ مِنَ الْبُخَارِيِّ: مَعْنَى الْأَمْرِ بِالسَّدَادِ وَالْمُقَارَبَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ بُعِثَ مُيَسِّرًا مُسَهِّلًا، فَأَمَرَ أُمَّتَهُ بِأَنْ يَقْتَصِدُوا فِي الْأُمُورِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِدَامَةَ عَادَةً.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَدِيدًا سَدَادًا صِدْقًا)، كَذَا ثَبَتَ لِلْأَكْثَرِ، وَالَّذِي ثَبَتَ عَنْ مُجَاهِدٍ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ، وَالطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{قَوْلا سَدِيدًا} قَالَ: سَدَادًا وَالسَّدَادُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الْعَدْلُ الْمُعْتَدِلُ الْكَافِي، وَبِالْكَسْرِ مَا يَسُدُّ الْخَلَلَ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ بِالْفَتْحِ، وَزَعَمَ مُغْلَطَايْ، وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ أَنَّ الطَّبَرِيَّ وَصَلَ تَفْسِيرَ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ هَارُونَ بْنِ عَمْرِو بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَهَذَا وَهَمٌ فَاحِشٌ، فَمَا لِلسُّدِّيِّ مِنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ رِوَايَةٌ، وَلَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{قَوْلا سَدِيدًا} قَالَ: الْقَوْلُ السَّدِيدُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: قَدِّمْ لِنَفْسِكَ وَاتْرُكْ لِوَلَدِكَ. وَأَخْرَجَ أَثَرَ مُجَاهِدٍ مِنْ رِوَايَةِ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{قَوْلا سَدِيدًا} قَالَ: عَدْلًا يَعْنِي فِي مَنْطِقِهِ وَفِي عَمَلِهِ، قَالَ: وَالسَّدَادُ الصِّدْقُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ:{قَوْلا سَدِيدًا} قَالَ: صِدْقًا، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ مِثْلَهُ، وَالَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّهُ سَقَطَ مِنَ الْأَصْلِ لَفْظَةُ، وَالتَّقْدِيرُ قَالَ مُجَاهِدٌ: سَدَادًا، وَقَالَ غَيْرُهُ صِدْقًا، أَوِ السَّاقِطُ مِنْهُ لَفْظَةُ أَيْ، كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ تَفْسِيرَ مَا فَسَّرَ بِهِ مُجَاهِدٌ السَّدِيدَ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ: (فُلَيْحٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى لَنَا يَوْمًا الصَّلَاةَ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهَا الظُّهْرُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَقِيَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْقَافِ مِنَ الِارْتِقَاءِ؛ أَيْ صَعِدَ وَزْنًا وَمَعْنًى.
قَوْلُهُ: (مِنْ قِبَلِ)؛ أَيْ مِنْ جِهَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى.
قَوْلُهُ: (أُرِيت) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَفِي بَعْضِهَا رَأَيْتُ بِفَتْحَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (مُمَثَّلَتَيْنِ)؛ أَيْ مُصَوَّرَتَيْنِ وَزْنًا وَمَعْنًى، يُقَالُ: مَثَّلَهُ إِذَا صَوَّرَهُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فِي قُبُلِ) بِضَمِّ الْقَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْجِدَارِ جِدَارُ الْمَسْجِدِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ) وَقَعَ هُنَا مُكَرَّرًا تَأْكِيدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا اللَّفْظِ فِي بَابِ وَقْتِ الظُّهْرِ مِنْ أَبْوَابِ الْمَوَاقِيتِ، وَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَثِّ عَلَى مُدَاوَمَةِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ مَنْ مَثَّلَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَانَ ذَلِكَ بَاعِثًا لَهُ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيبِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ.
19 - بَاب الرَّجَاءِ مَعَ الْخَوْفِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}
6469 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ،، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأسْ مِنْ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُسْلِمُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّجَاءِ مَعَ الْخَوْفِ)؛ أَيِ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ فَلَا يَقْطَعُ النَّظَرَ فِي الرَّجَاءِ عَنِ الْخَوْفِ، وَلَا فِي الْخَوْفِ عَنِ الرَّجَاءِ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ فِي الْأَوَّلِ إِلَى الْمَكْرِ، وَفِي الثَّانِي إِلَى الْقُنُوطِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَذْمُومٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الرَّجَاءِ أَنَّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فَلْيُحْسِنْ ظَنَّهُ بِاللَّهِ، وَيَرْجُو أَنْ يَمْحُوَ عَنْهُ ذَنْبَهُ، وَكَذَا مَنْ وَقَعَ مِنْهُ طَاعَةٌ يَرْجُو قَبُولَهَا، وَأَمَّا مَنِ انْهَمَكَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ رَاجِيًا عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِغَيْرِ نَدَمٍ وَلَا إِقْلَاعٍ فَهَذَا فِي غُرُورٍ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَبِي عُثْمَانَ الْجِيزِيِّ: مِنْ عَلَامَةِ السَّعَادَةِ أَنْ تُطِيعَ وَتَخَافَ أَنْ لَا تُقْبَلَ، وَمِنْ عَلَامَةِ الشَّقَاءِ أَنْ تَعْصِيَ وَتَرْجُوَ أَنْ تَنْجُوَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِيهِ. عَنْ عَائِشَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَهُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُصَلِّي وَيَخَافُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ مِنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ فِي الصِّحَّةِ أَكْثَرَ، وَفِي الْمَرَضِ عَكْسَهُ، وَأَمَّا عِنْدَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ فَاسْتَحَبَّ قَوْمٌ الِاقْتِصَارَ عَلَى الرَّجَاءِ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَلِأَنَّ الْمَحْذُورَ مِنْ تَرْكِ الْخَوْفِ قَدْ تَعَذَّرَ، فَيَتَعَيَّنُ حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ بِرَجَاءِ عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُهْمِلُ جَانِبَ الْخَوْفِ أَصْلًا بِحَيْثُ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ آمِنٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ: أَرْجُو اللَّهَ وَأَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَلَمَّا لَمْ يُوَافِقْ شَرْطَهُ أَوْرَدَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا لَهُ فِي التَّصْرِيحِ بِالْمَقْصُودِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ (مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدَّ عَلَيَّ) مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ وَبَيَانِهِ وَالْبَحْثِ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ النَّجَاةُ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْإِصْرِ الَّذِي كَانَ كُتِبَ عَلَى مَنْ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَيَحْصُلُ الرَّجَاءُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ مَعَ الْخَوْفِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَلِّبِ وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَشَيْخُهُ تَابِعِيٌّ وَسَطٌ، وَهُمَا مَدَنِيَّانِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: رَحْمَتُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَلَيْسَ هِيَ بِمَعْنَى الرِّقَّةِ الَّتِي فِي صِفَاتِ الْآدَمِيِّينَ؛ بَلْ ضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلًا لِمَا يُعْقَلُ مِنْ ذِكْرِ الْأَجْزَاءِ وَرَحْمَةِ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا مَا يَقَعُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ كَمَا سَأُقَرِّرُهُ فَلَا حَاجَةَ لِلتَّأْوِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْأَدَبِ جَوَابٌ آخَرُ مَعَ مَبَاحِثَ حَسَنَةٍ، وَهُوَ فِي بَابِ جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ.
قَوْلُهُ: (وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ) كَذَا لَهُمْ وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ السَّرَّاجِ كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ، وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِ.
قَوْلُهُ: (فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ) كَذَا ثَبَتَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ بِالْفَاءِ إِشَارَةً إِلَى تَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَمِنْ ثَمَّ قَدَّمَ ذِكْرَ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ كَثْرَتَهَا وَسَعَتَهَا تَقْتَضِي أَنْ يَطْمَعَ فِيهَا كُلُّ أَحَدٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُؤْمِنَ اسْتِطْرَادًا، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَطَعَهُ حَدِيثَيْنِ، أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ، فَذَكَرَ حَدِيثَ الرَّحْمَةِ بِلَفْظِ: خَلَقَ اللَّهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَوَضَعَ وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ وَخَبَّأَ عِنْدَهُ مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْآخَرَ بِلَفْظِ: لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ إِلَخْ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ دُونَ الْمَاضِي الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ عِلْمُ ذَلِكَ وَلَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ مُمْتَنِعًا فِيمَا مَضَى.
قَوْلُهُ: (بِكُلِّ الَّذِي) اسْتَشْكَلَ هَذَا التَّرْكِيبُ لِكَوْنِ كُلٍّ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الْمَوْصُولِ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ لِعُمُومِ الْأَجْزَاءِ لَا لِعُمُومِ الْأَفْرَادِ، وَالْغَرَضُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ تَعْمِيمُ الْأَفْرَادِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ الرَّحْمَةَ قُسِّمَتْ مِائَةَ جُزْءٍ، فَالتَّعْمِيمُ حِينَئِذٍ لِعُمُومِ الْأَجْزَاءِ فِي الْأَصْلِ، أَوْ نَزَلَتِ الْأَجْزَاءُ مَنْزِلَةَ الْأَفْرَادِ مُبَالَغَةً.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ) قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ عَلِمَ سَعَةَ الرَّحْمَةِ لَغَطَّى عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْ عِظَمِ الْعَذَابِ فَيَحْصُلُ بِهِ الرَّجَاءُ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ عِلْمِهِ بِسَعَةِ الرَّحْمَةِ مَعَ عَدَمِ الْتِفَاتِهِ إِلَى مُقَابِلِهَا يُطْمِعُهُ فِي الرَّحْمَةِ، وَمُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الْمُقْتَضَيَيْنِ لِلرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى - الرَّحْمَةَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْحَمَهُ، وَالِانْتِقَامَ مِمَّنْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُ لَا يَأْمَنِ انْتِقَامَهُ مَنْ يَرْجُو رَحْمَتَهُ، وَلَا يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَتِهِ مَنْ يَخَافُ انْتِقَامَهُ، وَذَلِكَ بَاعِثٌ عَلَى مُجَانَبَةِ السَّيِّئَةِ وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَمُلَازَمَةُ الطَّاعَةِ وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً، قِيلَ: فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى نَوْعُ إِشْكَالٍ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ لِلْكَافِرِ وَلَا طَمَعَ لَهُ فِيهَا، فَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَنْ يَطْمَعَ فِي الْجَنَّةِ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ كُفْرَ نَفْسِهِ، فَيُشْكِلُ تَرَتُّبُ الْجَوَابِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ سِيقَتْ لِتَرْغِيبِ الْمُؤْمِنِ فِي سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي لَوْ عَلِمَهَا الْكَافِرُ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُخْتَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الرَّحْمَةِ لَتَطَاوَلَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَيْأَسْ مِنْهَا، إِمَّا بِإِيمَانِهِ الْمَشْرُوطِ وَإِمَّا لِقَطْعِ نَظَرِهِ عَنِ الشَّرْطِ، مَعَ تَيَقُّنِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَيْهِ عِنَادًا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حَالَ الْكَافِرِ فَكَيْفَ لَا يَطْمَعُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ؟ وَقَدْ وَرَدَ: أَنَّ إِبْلِيسَ يَتَطَاوَلُ لِلشَّفَاعَةِ؛ لِمَا يَرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَعَةِ الرَّحْمَةِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي
الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَمِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَسَنَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا ضَعِيفٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْكِرْمَانِيُّ هُنَا عَلَى لَوْ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهَا هُنَا لِانْتِفَاءِ الثَّانِي وَهُوَ الرَّجَاءُ لِانْتِفَاءِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعِلْمُ، فَأَشْبَهَتْ: لَوْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، وَلَيْسَتْ لِانْتِفَاءِ الْأَوَّلِ لِانْتِفَاءِ الثَّانِي كَمَا بَحَثَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ: وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ مُفْرِطًا فِي الرَّجَاءِ بِحَيْثُ يَصِيرُ مِنَ الْمُرْجِئَةِ الْقَائِلِينَ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ، وَلَا فِي الْخَوْفِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِتَخْلِيدِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ إِذَا مَاتَ عَنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فِي النَّارِ؛ بَلْ يَكُونُ وَسَطًا بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} وَمَنْ تَتَبَّعَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَجَدَ قَوَاعِدَهُ أُصُولًا وَفُرُوعًا كُلَّهَا فِي جَانِبِ الْوَسَطِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
20 - بَاب الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وَقَالَ عُمَرُ: وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ
6470 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَعْطَاهُ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ نَفِدَ كُلُّ شَيْءٍ أَنْفَقَ بِيَدَيْهِ: مَا يَكُونْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ لَا أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ.
6471 -
حَدَّثَنَا خَلَادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ قَالَ "سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا"
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ) يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمُوَاظَبَةُ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَالْكَفُّ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ عِلْمِ الْعَبْدِ بِقُبْحِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا صِيَانَةً لِعَبْدِهِ عَنِ الرَّذَائِلِ، فَيَحْمِلُ ذَلِكَ الْعَاقِلَ عَلَى تَرْكِهَا وَلَوْ لَمْ يَرِدْ عَلَى فِعْلِهَا وَعِيدٌ، وَمِنْهَا الْحَيَاءُ مِنْهُ وَالْخَوْفُ مِنْهُ أَنْ يُوقِعَ وَعِيدَهُ فَيَتْرُكُهَا لِسُوءِ عَاقِبَتِهَا، وَأَنَّ الْعَبْدَ مِنْهُ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ فَيَبْعَثُهُ ذَلِكَ عَلَى الْكَفِّ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ، وَمِنْهَا مُرَاعَاةُ النِّعَمِ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ غَالِبًا تَكُونُ سَبَبًا لِزَوَالِ النِّعْمَةِ، وَمِنْهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُحِبَّ يُصَيِّرُ نَفْسَهُ عَلَى مُرَادِ مَنْ يُحِبُّ، وَأَحْسَنُ مَا وُصِفَ بِهِ الصَّبْرُ أَنَّهُ حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْمَكْرُوهِ، وَعَقْدُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى وَالْمُكَابَدَةُ فِي تَحَمُّلِهِ وَانْتِظَارُ الْفَرَجِ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الصَّابِرِينَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ حَدِيثُ: الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ مُعَلَّقًا.
قَالَ الرَّاغِبُ: الصَّبْرُ الْإِمْسَاكُ فِي ضِيقٍ، صَبَرْتُ الشَّيْءَ حَبَسْتُهُ، فَالصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ، وَتَخْتَلِفُ مَعَانِيهِ بِتَعَلُّقَاتِهِ فَإِنْ كَانَ عَنْ مُصِيبَةٍ سُمِّيَ صَبْرًا فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ فِي لِقَاءِ عَدُوٍّ سُمِّيَ شَجَاعَةً، وَإِنْ كَانَ عَنْ كَلَامٍ سُمِّيَ كِتْمَانًا، وَإِنْ كَانَ عَنْ تَعَاطِي مَا نُهِيَ عَنْهُ سُمِّيَ عِفَّةً قُلْتُ: وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا.
قَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِأَبِي ذَرٍّ: وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -، وَفِي نُسْخَةٍ عز وجل وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهَا صَدَرَتْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} وَمَنِ اتَّقَى رَبَّهُ كَفَّ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَفَعَلَ الْوَاجِبَاتِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسَابٍ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّكْثِيرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِحَذْفِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْأَصْلُ فِي الصَّبْرِ وَالْبَاءُ بِمَعْنَى فِي، وَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا الصَّبْرَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ كَذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ، وَالصَّبْرُ إِنْ عُدِّيَ بِعَنْ كَانَ فِي الْمَعَاصِي، وَإِنْ عُدِّيَ بِعَلَى كَانَ فِي الطَّاعَاتِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَفِي أَثَرِ عُمَرَ شَامِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ، وَالتَّرْجَمَةُ لِبَعْضِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:
قَوْلُهُ: (أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَائِهِمْ، وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ أَبَا سَعِيدٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: إِنَّ
رَجُلًا كَانَ ذَا حَاجَةٍ فَقَالَ لَهُ أَهْلُهُ: ائْتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْأَلْهُ فَأَتَاهُ، فَذَكَرَ نَحْوَ الْمَتْنِ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَمِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَرَّحَتْنِي أُمِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ الْحَدِيثَ، فَعُرِفَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَهْلُهُ وَمِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ نَزَلْتُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ فَحَدَّثَ أَنَّهُ أَصْبَحَ وَقَدْ عَصَبَ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا مِنَ الْجُوعِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أَوْ أُمُّهُ: ائْتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْأَلْهُ، فَقَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ فَسَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ الْحَدِيثَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ نَحْوُ مَا وَقَعَ لِأَبِي سَعِيدٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ حِينَ افْتُتِحَتْ قُرَيْظَةُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ نَاسًا) فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّ أُنَاسًا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ، وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ بِلَفْظِ: سَأَلُوا فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَجَعَلَ لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَعْطَاهُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى نَفِدَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ اسْتِئْنَافِيَّةً. وَالْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: شَيْءٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: أَنْفَقَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدِهِ، وَسَقَطَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ)؛ أَيْ مَالٍ وَمَا مَوْصُولَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَفِي رِوَايَةٍ صَوَّبَهَا الدِّمْيَاطِيُّ مَا يَكُنْ، وَمَا حِينَئِذٍ شَرْطِيَّةٌ وَلَيْسَتِ الْأُولَى خَطَأً.
قَوْلُهُ: (لَا أَدَّخِرُهُ عَنْكُمْ) بِالْإِدْغَامِ وَبِغَيْرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فَلَمْ، وَعَنْهُ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ؛ أَيْ أَجْعَلَهُ ذَخِيرَةً لِغَيْرِكُمْ مُعْرِضًا عَنْكُمْ، وَدَالُهُ مُهْمَلَةٌ، وَقِيلَ: مُعْجَمَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ يَسْتَعْفِفْ بِفَاءَيْنِ، وَقَوْلُهُ: يُعِفَّهُ اللَّهُ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ) قُدِّمَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الِاسْتِغْنَاءُ عَلَى التَّصَبُّرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ بَدَلَ التَّصَبُّرِ: وَمَنِ اسْتَكْفَى كَفَاهُ اللَّهُ، وَزَادَ وَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ هِلَالٍ: وَمَنْ سَأَلَنَا إِمَّا أَنْ نَبْذُلَ لَهُ وَإِمَّا أَنْ نُوَاسِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَعِفَّ أَوْ يَسْتَغْنِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّنْ يَسْأَلُنَا.
قَوْلُهُ: (وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً وَأُعْطِيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ: (خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) كَذَا بِالنَّصْبِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ هُوَ خَيْرٌ بِالرَّفْعِ، وَلِمُسْلِمٍ: عَطَاءُ خَيْرٍ قَالَ النَّوَوِيُّ: كَذَا فِي نُسَخِ مُسْلِمٍ خَيْرٌ بِالرَّفْعِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَالتَّقْدِيرُ هُوَ خَيْرٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ يَعْنِي مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ النَّاسِ وَالتَّعَفُّفُ عَنْ سُؤَالِهِمْ بِالصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَانْتِظَارُ مَا يَرْزُقُهُ اللَّهُ، وَأَنَّ الصَّبْرَ أَفْضَلُ مَا يُعْطَاهُ الْمَرْءُ لِكَوْنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ غَيْرَ مُقَدَّرٍ وَلَا مَحْدُودٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: مَنْ يَسْتَعِفَّ أَيْ يَمْتَنِعُ عَنِ السُّؤَالِ، وَقَوْلُهُ: يُعِفَّهُ اللَّهُ؛ أَيْ إِنَّهُ يُجَازِيهِ عَلَى اسْتِعْفَافِهِ بِصِيَانَةِ وَجْهِهِ وَدَفْعِ فَاقَتِهِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَسْتَغْنِ؛ أَيْ بِاللَّهِ عَمَّنْ سِوَاهُ، وَقَوْلُهُ: يُغْنِهِ؛ أَيْ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ السُّؤَالِ، وَيَخْلُقْ فِي قَلْبِهِ الْغِنَى؛ فَإِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَصَبَّرْ، أَيْ يُعَالِجْ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِ السُّؤَالِ وَيَصْبِرْ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الرِّزْقُ وَقَوْلُهُ: يُصَبِّرْهُ اللَّهُ؛ أَيْ فَإِنَّهُ يُقَوِّيهِ وَيُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى تَنْقَادَ لَهُ وَيُذْعِنَ لِتَحَمُّلِ الشِّدَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ اللَّهُ مَعَهُ فَيُظْفِرَهُ بِمَطْلُوبِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمَّا كَانَ التَّعَفُّفُ يَقْتَضِي سَتْرَ الْحَالِ عَنِ الْخَلْقِ وَإِظْهَارِ الْغِنَى عَنْهُمْ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ مُعَامِلًا لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ فَيَقَعُ لَهُ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الصِّدْقِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الصَّبْرُ خَيْرَ الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ فِعْلِ مَا تُحِبُّهُ، وَإِلْزَامُهَا بِفِعْلِ مَا تَكْرَهُ فِي الْعَاجِلِ مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ لَتَأَذَّى بِهِ فِي الْآجِلِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ مَنْ يَسْتَعْفِفْ
يُعِفَّهُ اللَّهُ؛ أَيْ إِنْ عَفَّ عَنِ السُّؤَالِ وَلَوْ لَمْ يُظْهِرْ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ النَّاسِ، لَكِنَّهُ إِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا لَمْ يَتْرُكْهُ يَمْلَأِ اللَّهُ قَلْبَهُ غِنًى بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى سُؤَالٍ، وَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَأَظْهَرَ الِاسْتِغْنَاءَ فَتَصَبَّرَ وَلَوْ أُعْطِيَ لَمْ يَقْبَلْ فَذَاكَ أَرْفَعُ دَرَجَةً، فَالصَّبْرُ جَامِعٌ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: يُعِفَّهُ اللَّهُ إِمَّا أَنْ يَرْزُقَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ السُّؤَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَرْزُقَهُ الْقَنَاعَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6471 -
حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ - أَوْ تَنْتَفِخَ - قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ: قَوْلُهُ: (حَتَّى تَرِمَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَقَوْلُهُ: أَوْ تَنْتَفِخَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: فَيُقَالُ لَهُ الْقَائِلُ لَهُ ذَلِكَ عَائِشَةُ.
قَوْلُهُ: (أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مَعَ شَرْحِ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ، وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الشُّكْرَ وَاجِبٌ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ حَرَامٌ، وَفِي شَغْلِ النَّفْسِ بِفِعْلِ الْوَاجِبِ صَبْرٌ عَلَى فِعْلِ الْحَرَامِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشُّكْرَ يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالصَّبْرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: الصَّبْرُ يَسْتَلْزِمُ الشُّكْرَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَبِالْعَكْسِ فَمَتَى ذَهَبَ أَحَدُهُمَا ذَهَبَ الْآخَرُ، فَمَنْ كَانَ فِي نِعْمَةٍ فَفَرْضُهُ الشُّكْرُ وَالصَّبْرُ، أَمَّا الشُّكْرُ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا الصَّبْرُ فَعَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي بَلِيَّةٍ فَفَرْضُهُ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ، أَمَّا الصَّبْرُ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا الشُّكْرُ فَالْقِيَامُ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْبَلِيَّةِ، فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَى الْعَبْدِ عُبُودِيَّةً فِي الْبَلَاءِ كَمَا لَهُ عَلَيْهِ عُبُودِيَّةً فِي النَّعْمَاءِ، ثُمَّ الصَّبْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: صَبْرٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَرْتَكِبُهَا، وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، وَصَبْرٌ عَلَى الْبَلِيَّةِ فَلَا يَشْكُو رَبَّهُ فِيهَا، وَالْمَرْءُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ، فَالصَّبْرُ لَازِمٌ لَهُ أَبَدًا لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْهُ، وَالصَّبْرُ سَبَبٌ فِي حُصُولِ كُلِّ كَمَالٍ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: إِنَّ الصَّبْرَ خَيْرُ مَا أُعْطِيَهُ الْعَبْدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّبْرُ تَارَةً يَكُونُ لِلَّهِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِاللَّهِ، فَالْأَوَّلُ الصَّابِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ فَيَصْبِرُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيَصْبِرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالثَّانِي: الْمُفَوِّضُ لِلَّهِ بِأَنْ يَبْرَأَ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَيُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى رَبِّهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمُ الصَّبْرَ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ الرِّضَا بِالْمَقْدُورِ، فَالصَّبْرُ لِلَّهِ يَتَعَلَّقُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالصَّبْرُ بِهِ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَالثَّالِثُ: يَرْجِعُ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الصَّبْرِ
عَلَى أَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى ابْتِلَائِهِ وَهُوَ أَحْكَامُهُ الْكَوْنِيَّةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
21 - بَاب {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ
6472 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ: سَمِعْتُ حُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ: هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْآيَةِ تَرْجَمَةً لِتَضَمُّنِهَا التَّرْغِيبَ فِي التَّوَكُّلِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى تَقْيِيدِ مَا أُطْلِقَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ قَبْلَهُ، وَأَنَّ كُلًّا مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ وَالتَّصَبُّرِ وَالتَّعَفُّفِ إِذَا كَانَ مَقْرُونًا بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي يَنْفَعُ وَيَنْجَعُ، وَأَصْلُ التَّوَكُّلِ الْوُكُولُ، يُقَالُ: وَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى فُلَانٍ، أَيْ أَلْجَأْتُهُ إِلَيْهِ وَاعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْهِ، وَوَكَّلَ فُلَانٌ فُلَانًا اسْتَكْفَاهُ أَمْرَهُ ثِقَةً بِكِفَايَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّوَكُّلِ اعْتِقَادُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةِ:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَرْكَ التَّسَبُّبِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى مَا يَأْتِي مِنَ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَجُرُّ إِلَى ضِدِّ مَا يَرَاهُ مِنَ التَّوَكُّلِ، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: لَا أَعْمَلُ شَيْئًا
حَتَّى يَأْتِيَنِي رِزْقِي، فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَقَالَ: لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا، فَذَكَرَ أَنَّهَا تَغْدُو وَتَرُوحُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ قَالَ: وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَّجِرُونَ وَيَعْمَلُونَ فِي نَخِيلِهِمْ وَالْقُدْوَةُ بِهِمْ. انْتَهَى، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْجِهَادِ، وَالثَّانِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ مُصَغَّرٌ.
قَوْلُهُ: (مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ) وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} الْآيَةَ قَالَ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَالرَّبِيعُ الْمَذْكُورُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، صَحِبَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُ: لَوْ رَآكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَأَحَبَّكَ، أَوْرَدَ ذَلِكَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَحَدِيثُهُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَالرَّبِيعُ بْنُ مُنْذِرٍ لَمْ يُخَرِّجُوا عَنْهُ، لَكِنْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ جَرْحًا، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَأَبُوهُ مُتَّفَقٌ عَلَى تَوْثِيقِهِ وَالتَّخْرِيجِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ كَمَا أَوْضَحْتُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بَعْدَ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
22 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ
6473 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُغِيرَةُ وَفُلَانٌ، وَرَجُلٌ ثَالِثٌ أَيْضًا عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ أَنْ اكْتُبْ إِلَيَّ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ الصَّلَاةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قَالَ: وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ، وَعُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ الْبَنَاتِ.
وَعَنْ هُشَيْمٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ وَرَّادًا يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي ذَلِكَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: جَعَلَ الْقَالَ مَصْدَرًا، كَأَنَّهُ قَالَ: نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَوْلٍ تَقُولُ: قُلْتُ قَوْلًا وَقِيلًا وَقَالًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْإِكْثَارِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ بِالتَّنْوِينِ، وَقَالَ غَيْرُهُ اسْمَانِ يُقَالُ كَثِيرُ الْقِيلِ وَالْقَالِ، وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَالُ الْحَقِّ بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْأَشْهَرُ مِنْهُ فَتْحُ اللَّامِ فِيهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْقِيلَ وَالْقَالَ إِذَا كَانَا اسْمَيْنِ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْقَوْلِ فَلَا يَكُونُ فِي عَطْفِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَا فِعْلَيْنِ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: إِذَا كَانَا اسْمَيْنِ يَكُونُ الثَّانِي تَأْكِيدًا.
وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْكَثْرَةَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ مَعَهَا وُقُوعُ الْخَطَأِ، قُلْتُ: وَفِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ عُمُومِهِ مَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ الْمَحْضِ فَلَا يُكْرَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ حِكَايَةُ أَقَاوِيلِ النَّاسِ،
وَالْبَحْثُ عَنْهَا كَمَا يُقَالُ قَالَ فُلَانٌ كَذَا، وَقِيلَ عَنْهُ كَذَا مِمَّا يُكْرَهُ حِكَايَتُهُ عَنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَذْكُرَ لِلْحَادِثَةِ عَنِ الْعُلَمَاءِ أَقْوَالًا كَثِيرَةً، ثُمَّ يَعْمَلَ بِأَحَدِهَا بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ أَوْ يُطْلِقَهَا مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا احْتِيَاطٍ لِبَيَانِ الرَّاجِحِ، وَالنَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ يَتَنَاوَلُ الْإِلْحَافَ فِي الطَّلَبِ وَالسُّؤَالَ عَمَّا لَا يَعْنِي السَّائِلَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ الْمَسَائِلُ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وَقِيلَ: يَتَنَاوَلُ الْإِكْثَارَ مِنْ تَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ، وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ تَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ، وَمِنْ ثَمَّ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ السُّؤَالَ عَمَّا لَمْ يَقَعْ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ التَّكَلُّفِ فِي الدِّينِ، وَالتَّنَطُّعِ، وَالرَّجْمِ بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ عِنْدَ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ فِي الْمَالِ، وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ لِمُنَاسَبَتِهِ لِقولِهِ: وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بِكَثْرَةِ سُؤَالِ النَّاسِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ عَنْ أَحْدَاثِ الزَّمَانِ، وَمَا لَا يَعْنِي السَّائِلَ فَإِنَّهُ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ وجَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
قَوْلُهُ: (أَنْبَأَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُغِيرَةُ) هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ وَفُلَانٌ وَرَجُلٌ ثَالِثٌ، الْمُرَادُ بِفُلَانٍ مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، وَيَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُغِيرَةُ، وَمُجَالِدٌ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خُثَيْمَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ الدَّوْرَقِيِّ، لَكِنْ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُغِيرَةُ، وَلَمْ يُسَمِّ مُجَالِدًا.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هُشَيْمٍ، أَنْبَأَنَا مُغِيرَةُ وَذَكَرَ آخَرَ وَلَمْ يُسَمِّهِ وَكَأَنَّهُ مُجَالِدٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَ مُغِيرَةَ أَحَدًا، وَأَمَّا الرَّجُلُ الثَّالِثُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي بُكَيْرٍ الْكِرْمَانِيِّ، عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ بِهِ، وَيُحْتَمُلُ أَنْ يَكُونَ زَكَرِيَّا بْنَ أَبِي زَائِدَةَ، أَوْ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَاشِدٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، وَزَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَمُجَالِدٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ كُلُّهُمْ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنُ الْمَذْكُورُ ثِقَةٌ مِنْ شُيُوخِ أَبِي دَاوُدَ تَكَلَّمَ فِيهِ عَبْدَانُ بِمَا لَا يَقْدَحُ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا.
قَوْلُهُ: (فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بَاشَرَ الْكِتَابَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: إنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ، فَدَعَا غُلَامَهُ وَرَّادًا فَقَالَ: اكْتُبْ فَذَكَرَهُ. وَقَوْلُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - إِلَى قَوْلِهِ - وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، زَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُنَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَرَّادٍ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ: اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِخَطِّي، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ مَنْ كَتَبَ لِمُعَاوِيَةَ صَرِيحًا إِلَّا أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَانَ مُعَاوِيَةُ أَمَّرَهُ عَلَى الْكُوفَةِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ، أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا وَكَانَ كَاتِبُ مُعَاوِيَةَ إِذْ ذَاكَ عُبَيْدَ بْنَ أَوْسٍ الْغَسَّانِيَّ. وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ فِي الرِّوَايَةِ بِالْمُكَاتَبَةِ.
وَاعْتَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْعُمْدَةَ حِينَئِذٍ عَلَى الَّذِي بَلَّغَ الْكِتَابَ كَأَنْ يَكُونَ الَّذِي أَرْسَلَهُ أَمَرَهُ أَنْ يُوَصِّلَ الْكِتَابَ، وَأَنْ يُبَلِّغَ مَا فِيهِ مُشَافَهَةً، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ فَتَكُونُ الرِّوَايَةُ عَنْ مَجْهُولٍ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ ثِقَةٌ عِنْدَ مَنْ أَرْسَلَهُ وَمَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَتَجِيءُ فِيهِ مَسْأَلَةُ التَّعْدِيلِ عَلَى الْإِبْهَامِ وَالْمُرَجَّحُ عَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهِ.
قَوْلُهُ:
(وَعَنْ هُشَيْمٍ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالطَّرِيقِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَعْقُوبَ الدَّوْرَقِيِّ، وَزِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) كَذَا أَطْلَقَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ هُشَيْمٍ فَقَالَ فِي سِيَاقِهِ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ.
23 - بَاب حِفْظِ اللِّسَانِ: ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
6474 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ سَمِعَ أَبَا حَازِمٍ،، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ.
6475 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ"
6475 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ "عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ سَمِعَ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ جَائِزَتُهُ قِيلَ مَا جَائِزَتُهُ قَالَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ"
6477 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ"
[الحديث 6477 - طرفه في 6478]
6478 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْني ابْنَ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ حِفْظِ اللِّسَانِ)؛ أَيْ عَنِ النُّطْقِ بِمَا لَا يَسُوغُ شَرْعًا مِمَّا لَا حَاجَةَ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ
فِي كِتَابِ الثَّوَابِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ رَفَعَهُ: أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ حِفْظُ اللِّسَانِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إِلَخْ) وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ: وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إِلَخْ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ مَوْصُولًا فِي الْبَابِ بِلَفْظِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْأَكْثَرِ: وَقَوْلُهُ مَا يَلْفِظُ إِلَخْ وَلِابْنِ بَطَّالٍ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - مَا يَلْفِظُ الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ق، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمَا يَكْتُبَانِ كُلَّ شَيْءٍ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ يَكْتُبَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَقَطْ، وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ تَفْسِيرُ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قَالَ: تَكْتُبُ الْمَلَائِكَةُ كُلَّ مَا يَتَلَفَّظُ بِهِ الْإِنْسَانُ، ثُمَّ يُثْبِتُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ وَيَمْحُو مَا عَدَا ذَلِكَ.
قُلْتُ: هَذَا لَوْ ثَبَتَ كَانَ نَصًّا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَالرَّقِيبُ: هُوَ الْحَافِظُ، وَالْعَتِيدُ: هُوَ الْحَاضِرُ، وَوَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّمْتِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ: مِنْهَا حَدِيثُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ قَالَ: هَذَا، وَأَخَذَ بِلِسَانِهِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَتَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ حَدِيثُ: الْمُسْلِمِ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَلِأَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ: وَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ. الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ الْأَمْرِ كُلِّهِ، كُفَّ هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مُعَاذٍ مُطَوَّلًا، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُعَاذٍ، وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي رِوَايَةٍ مُخْتَصَرَةٍ، ثُمَّ إِنَّكَ لَنْ تَزَالَ سَالِمًا مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ كُتِبَ عَلَيْكَ أَوْ لَكَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: مَنْ صَمَتَ نَجَا.
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِلْبَاقِينَ حَدَّثَنَا وَكَذَا لِلْجَمِيعِ فِي هَذَا السَّنَدِ بِعَيْنِهِ فِي الْمُحَارِبِينَ، وَعُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ هُوَ عَمُّ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الرَّاوِي عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ مُدَلِّسٌ لَكِنَّهُ صَرَّحَ هُنَا بِالسَّمَاعِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) هُوَ السَّاعِدِيُّ.
قَوْلُهُ: (مَنْ يَضْمَنْ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْجَزْمِ مِنَ الضَّمَانِ بِمَعْنَى الْوَفَاءِ بِتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، فَأَطْلَقَ الضَّمَانَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ وَهُوَ أَدَاءُ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى مَنْ أَدَّى الْحَقَّ الَّذِي عَلَى لِسَانِهِ مِنَ النُّطْقِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، أَوِ الصَّمْتِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ وَأَدَّى الْحَقَّ الَّذِي عَلَى فَرْجِهِ مِنْ وَضْعِهِ فِي الْحَلَالِ وَكَفِّهِ عَنِ الْحَرَامِ، وَسَيَأْتِي فِي الْمُحَارِبِينَ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: مَنْ تَوَكَّلَ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: مَنْ تَكَفَّلَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ الْفَلَّاسُ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: مَنْ حَفِظَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي، مُوسَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ لَكِنْ قَالَ: فَقْمَيْهِ بَدَلَ لَحْيَيْهِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَالْفَقْمِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ
قَوْلُهُ: (لَحْيَيْهِ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّثْنِيَةِ هُمَا الْعَظْمَان فِي جَانِبَيِ الْفَمِ، وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَهُمَا اللِّسَانُ وَمَا يَتَأَتَّى بِهِ النُّطْقُ، وَبِمَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ الْفَرْجُ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ اللَّحْيَيْنِ الْفَمُ، قَالَ: فَيَتَنَاوَلُ
الْأَقْوَالَ وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَسَائِرَ مَا يَتَأَتَّى بِالْفَمِ مِنَ الْفِعْلِ، قَالَ: وَمَنْ تَحَفَّظْ مِنْ ذَلِكَ أَمِنَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، كَذَا قَالَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَقِيَ الْبَطْشُ بِالْيَدَيْنِ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ النُّطْقَ بِاللِّسَانِ أَصْلٌ فِي حُصُولِ كُلِّ مَطْلُوبٍ، فَإِذَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ إِلَّا فِي خَيْرٍ سَلِمَ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَعْظَمَ الْبَلَاءِ عَلَى الْمَرْءِ فِي الدُّنْيَا لِسَانُهُ وَفَرْجُهُ، فَمَنْ وُقِيَ شَرَّهُمَا وُقِيَ أَعْظَمَ الشَّرِّ.
قَوْلُهُ: (أَضْمَنْ لَهُ) بِالْجَزْمِ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَفِي رِوَايَةِ خَلِيفَةَ: تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: تَكَفَّلْتُ لَهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ أَبَا حَازِمٍ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ سَهْلٍ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَحَسَّنَهُ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَبَا حَازِمٍ الرَّاوِيَ عَنْ سَهْلٍ غَيْرُ أَبِي حَازِمٍ الرَّاوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قُلْتُ: وَهُمَا مَدَنِيَّانِ تَابِعِيَّانِ، لَكِنَّ الرَّاوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ اسْمُهُ سَلْمَانُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الرَّاوِي عَنْ سَهْلٍ وَاسْمُهُ سَلَمَةُ، وَلِهَذَا اللَّفْظِ شَاهِدٌ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ فِي الْمُوَطَّأِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَدَبِ، وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَمَنْعُ أَذَى الْجَارِ، وَفِيهِ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا هُنَاكَ، وَفِيهِ: فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ، وَفِيهِ إِكْرَامُ الضَّيْفِ أَيْضًا، وَتَوْقِيتُ الضِّيَافَةِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَوْلُهُ: الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ جَائِزَتُهُ، قِيلَ: وَمَا جَائِزَتُهُ؟ قَالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَدَبِ بِلَفْظِ: فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ، قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ؟ قَالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَعَلَى مَا هُنَا فَالْمَعْنَى أَعْطُوهُ جَائِزَتَهُ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ بِالنَّصْبِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِالرَّفْعِ فَالْمَعْنَى تَتَوَجَّهُ عَلَيْكُمْ جَائِزَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي تَوْجِيهِهِ وَوَقَعَ قَوْلُهُ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ خَبَرًا عَنِ الْجَائِزَةِ، وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ زَمَانُ جَائِزَتِهِ أَوْ تَضْيِيفُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ حَدَّثَنِي بِالْإِفْرَادِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ دِينَارٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمْزَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي حَازِمٍ، وَعَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيَّ حَدَّثَاهُ عَنْ يَزِيدَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيَّ اقْتَصَرَ عَلَى ابْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَ عَنْهُمَا، فَحَذَفَ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا إِشْكَالَ، وَعَلَى الثَّانِي يَتَوَقَّفُ الْجَوَازُ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ لِلِاثْنَيْنِ سَوَاءٌ، وَإنَّ الْمَذْكُورَ لَيْسَ هُوَ لَفْظَ الْمَحْذُوفِ، أَوْ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِمَا مُتَّحِدٌ تَفْرِيعًا عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدِيثًا جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَالدَّرَاوَرْدِيِّ، وَهُوَ فِي بَابِ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَزِيدَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْهَادِ، وَوَقَعَ مَنْسُوبًا فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ التَّيْمِيُّ، وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، وَعِيسَى بْنُ طَلْحَةَ هُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَطَلْحَةَ هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ يَتَكَلَّمُ بِحَذْفِ اللَّامِ.
قَوْلُهُ: (بِالْكَلِمَةِ)؛ أَيِ الْكَلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا يُفْهِمُ الْخَيْرَ أَوِ الشَّرِّ سَوَاءٌ طَالَ أَمْ قَصُرَ، كَمَا يُقَالُ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، وَكَمَا يُقَالُ لِلْقَصِيدَةِ كَلِمَةُ فُلَانٍ.
قَوْلُهُ مَا: (يَتَبَيَّنُ فِيهَا)؛ أَيْ لَا يَتَطَلَّبُ مَعْنَاهَا، أَيْ لَا يُثْبِتُهَا بِفِكْرِهِ وَلَا يَتَأَمَّلُهَا حَتَّى يَتَثَبَّتَ فِيهَا فَلَا يَقُولُهَا إِلَّا إِنْ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الْقَوْلِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُبَيِّنُهَا بِعِبَارَةٍ وَاضِحَةٍ، وَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بَيَّنَ وَتَبَيَّنَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
الْهَادِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، وَهَذِهِ أَوْضَحُ، وَمَا الْأُولَى نَافِيَةٌ، ومَا الثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَا يَتَّقِي بِهَا وَمَعْنَاهَا يَؤولُ لِمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (يَزِلُّ بِهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا لَامٌ أَيْ يَسْقُطُ.
قَوْلُهُ: (أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمْزَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ بِلَفْظِ: أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ بَطَّالٍ وَشَرَحَهُ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: قَوْلُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ لَفْظُ بَيْنَ يَقْتَضِي دُخُولَهُ عَلَى الْمُتَعَدِّدِ، وَالْمَشْرِقِ مُتَعَدِّدٌ مَعْنًى؛ إِذْ مَشْرِقُ الصَّيْفِ غَيْرُ مَشْرِقِ الشِّتَاءِ وَبَيْنَهُمَا بُعْدٌ كَبِيرٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اكْتَفَى بِأَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ عَنِ الْآخَرِ مِثْلَ:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ: بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْكَلِمَةُ الَّتِي يَهْوِي صَاحِبُهَا بِسَبَبِهَا فِي النَّارِ هِيَ الَّتِي يَقُولُهَا عِنْدَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ، وَزَادَ ابْنُ بَطَّالٍ: بِالْبَغْيِ أَوْ بِالسَّعْيِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَتَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْقَائِلُ ذَلِكَ لَكِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى ذَلِكَ فَيُكْتَبُ عَلَى الْقَائِلِ إِثْمُهَا، وَالْكَلِمَةُ الَّتِي تُرْفَعُ بِهَا الدَّرَجَاتُ وَيُكْتَبُ بِهَا الرِّضْوَانُ هِيَ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنِ الْمُسْلِمِ مَظْلِمَةً، أَوْ يُفَرِّجَ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ يَنْصُرَ بِهَا مَظْلُومًا. وَقَالَ غَيْرُهُ فِي الْأُولَى: هِيَ الْكَلِمَةُ عِنْدَ ذِي السُّلْطَانِ يُرْضِيهِ بِهَا فِيمَا يُسْخِطُ اللَّهَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا هُوَ الْغَالِبُ وَرُبَّمَا كَانَتْ عِنْدَ غَيْرِ ذِي السُّلْطَانِ مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ.
وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّلَفُّظُ بِالسُّوءِ وَالْفُحْشُ مَا لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْجَحْدَ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي الدِّينِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْخَنَى وَالرَّفَثِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي التَّعْرِيضِ بِالْمُسْلِمِ بِكَبِيرَةٍ أَوْ بِمُجُونٍ، أَوِ اسْتِخْفَافٍ بِحَقِّ النُّبُوَّةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ الْقَائِلُ حُسْنَهَا مِنْ قُبْحِهَا، قَالَ: فَيَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْرِفُ حُسْنَهُ مِنْ قُبْحِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي يَجْرِي عَلَى قَاعِدَةٍ مُقَدَّمَةُ الْوَاجِبِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى حِفْظِ اللِّسَانِ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْطِقَ أَنْ يَتَدَبَّرَ مَا يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ تَكَلَّمَ وَإِلَّا أَمْسَكَ، قُلْتُ: وَهُوَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ. (تَنْبِيه): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ تَأْخِيرُ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنِ الطَّرِيقِ الْأُخْرَى، وَلِغَيْرِهِ بِالْعَكْسِ، وَسَقَطَ طَرِيقُ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ أَصْلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: (سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ) هُوَ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ سَمِعَ، وَيُحْذَفُ لَفْظُ أَنَّهُ فِي الْكِتَابَةِ غَالِبًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) هُوَ ذَكْوَانُ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ.
قَوْلُهُ: (لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا) بِالْقَافِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ؛ أَيْ لَا يَتَأَمَّلُهَا بِخَاطِرِهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي عَاقِبَتِهَا، وَلَا يَظُنُّ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَهُوَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ: إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ فِي السَّخَطِ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ، وَلِلنَّسَفِيِّ وَالْأَكْثَرُ: يَرْفَعُ اللَّهُ لَهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ.
قَوْلُهُ: (يَهْوِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْوَاوِ، قَالَ عِيَاضٌ: الْمَعْنَى يَنْزِلُ فِيهَا سَاقِطًا، وَقَدْ جَاءَ بِلَفْظِ: يَنْزِلُ بِهَا فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ دَرَكاتِ النَّارِ إِلَى أَسْفَلَ، فَهُوَ نُزُولُ سُقُوطٍ، وَقِيلَ: أَهْوَى مِنْ قَرِيبٍ وَهَوَى
مِنْ بِعِيدِ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ بِلَفْظِ: لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا.
24 - بَاب الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عز وجل
6479 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ في ظله: رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عز وجل، ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، وَلَفْظُهُ: رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، كَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مَعَ شَرْحِهِ وَفِيهِ: ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، وَوَرَدَ هُنَا بِدُونِهَا، وَثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْهُ مُخْتَصَرًا كَمَا هُنَا، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَخُبَيْبٌ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَوَقَعَ هُنَا فِي ظِلِّهِ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: فِي ظِلِّ عَرْشِهِ، وَظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ وَيُطْلَقُ أَيْضًا بِمَعْنَى النَّعِيمِ، وَمِنْهُ:{أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} وَبِمَعْنَى الْجَانِبِ وَمِنْهُ: يَسِيرُ الرَّاكِبِ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، وَبِمَعْنَى السِّتْرِ وَالْكَنَفِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهُ: أَنَا فِي ظِلِّكَ، وَبِمَعْنَى الْعِزِّ، وَمِنْهُ: أَسْبَغَ اللَّهُ ظِلَّكَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَلَى وَفْقِ لَفْظِ التَّرْجَمَةِ حَدِيثُ أَبِي رَيْحَانَةَ رَفَعَهُ: حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ،، وَللتِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: لَا تَمَسُّهَا النَّارُ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَعَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ عَنْ أَبِي يَعْلَى، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. الْحَدِيثَ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ.
25 - بَاب الْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ
6480 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَخُذُونِي فَذَرُّونِي فِي الْبَحْرِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَفَعَلُوا بِهِ، فَجَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَا حَمَلَنِي إِلَّا مَخَافَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ.
6481 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ سَلَفَ - أَوْ قَبْلَكُمْ - آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا؛ يَعْنِي أَعْطَاهُ، قَالَ: فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ لِبَنِيهِ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا. فَسَّرَهَا قَتَادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ. وَإِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللَّهِ يُعَذِّبْهُ. فَانْظُرُوا، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا فَاسْحَقُونِي - أَوْ قَالَ فَاسْهَكُونِي - ثُمَّ إِذَا كَانَ رِيحٌ عَاصِفٌ فَاذْرُونِي فِيهَا، فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي.
فَفَعَلُوا. فَقَالَ اللَّهُ: كُنْ. فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ. ثُمَّ قَالَ: أَيْ عَبْدِي، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ، أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ. فَمَا تَلَافَاهُ أَنْ رحمه الله. فَحَدَّثْتُ أَبَا عُثْمَانَ فَقَالَ: سَمِعْتُ سَلْمَانَ، غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ: فَاذْرُونِي فِي الْبَحْرِ أَوْ كَمَا حَدَّثَ، وَقَالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ عز وجل هُوَ مِنَ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَقَالَ - تَعَالَى -: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ - تَعَالَى -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَقْرَبُ إِلَى رَبِّهِ كَانَ أَشَدَّ لَهُ خَشْيَةً مِمَّنْ دُونَهُ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْمَلَائِكَةَ بِقَوْلِهِ:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وَالْأَنْبِيَاءَ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} وَإِنَّمَا كَانَ خَوْفُ الْمُقَرَّبِينَ أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُمْ يُطَالَبُونَ بِمَا لَا يُطَالَبُ بِهِ غَيْرُهُمْ، فَيُرَاعُونَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ مِنْهُ الشُّكْرُ عَلَى الْمَنْزِلَةِ فَيُضَاعَفُ بِالنِّسْبَةِ لِعُلُوِّ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ.
فَالْعَبْدُ إِنْ كَانَ مُسْتَقِيمًا فَخَوْفُهُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لِقولِهِ - تَعَالَى -: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} أَوْ نُقْصَانِ الدَّرَجَةِ بِالنِّسْبَةِ، وَإِنْ كَانَ مَائِلًا فَخَوْفُهُ مِنْ سُوءِ فِعْلِهِ.
وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَعَ النَّدَمِ وَالْإِقْلَاعِ، فَإِنَّ الْخَوْفَ يَنْشَأُ مِنْ مَعْرِفَةِ قُبْحِ الْجِنَايَةِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْوَعِيدِ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحْرَمَ التَّوْبَةَ، أَوْ لَا يَكُونَ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، فَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ ذَنْبِهِ طَالِبٌ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ فِيمَنْ يَغْفِرُ لَهُ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ الْحَدِيثُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَفِيهِ أَيْضًا: وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَات جَمَالٍ وَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَحَدِيثُ الثَّلَاثَةِ أَصْحَابِ الْغَارِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمُ الَّذِي عَفَّ عَنِ الْمَرْأَةِ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَتَرَكَ لَهَا الْمَالَ الَّذِي أَعْطَاهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قِصَّةُ الْكِفْلِ، وَكَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ عَفَّ عَنِ الْمَرْأَةِ وَتَرَكَ الْمَالَ الَّذِي أَعْطَاهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الَّذِي أَوْصَى بِأَنْ يُحْرَقَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ. وَرِبْعِيٌّ هُوَ ابْنُ حِرَاشٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرَهُ شِينٌ مُعْجَمَةٌ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَصْرِيحُ حُذَيْفَةَ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ وَالَانِ الْعَبْدِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ بِطُولِهِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الشَّفَاعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -، وَيَتَبَيَّنُ شُذُوذَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَتْنُ كَمَا ظَهَرَ شُذُوذُهَا مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ.
قَوْلُهُ: (كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِنْ ثَمَّ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ) تَقَدَّمَ هُنَاكَ أَنَّهُ كَانَ نَبَّاشًا.
قَوْلُهُ: (فَذَرُونِي) قَدَّمْتُ هُنَاكَ فِيهِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى التَّرْكِ وَالتَّشْدِيدُ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ، وَهُوَ ثُلَاثِيٌّ مُضَاعَفٌ، تَقُولُ: ذَرَرْتُ الْمِلْحَ أَذُرُّهُ وَمِنْهُ الذَّرِيرَةُ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَكَذَا قَرَأْنَاهُ وَرُوِّينَاهُ بِضَمِّهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ مِنَ الذَّرِّ، وَعَلَى الثَّانِي مِنَ التَّذْرِيَةِ، وَبِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ أَذَرَتِ الْعَيْنُ دَمْعَهَا وَأَذْرَيْتُ الرَّجُلَ عَنِ الْفَرَسِ، وَبِالْوَصْلِ مِنْ ذَرَوْتُ الشَّيْءَ وَمِنْهُ {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}
قَوْلُهُ: (فِي الْبَحْرِ) سَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الرِّيحِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي التَّوْحِيدِ: وَأذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ.
قَوْلُهُ: (فِي يَوْمٍ صَائِفٍ) تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ بِلَفْظِ: فَذَرُونِي فِي الْيَمِّ فِي يَوْمٍ حَازٍّ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَزَايٍ ثَقِيلَةٍ، كَذَا لِلْمَرْوَزِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ وَكَرِيمَةَ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِرِوَايَةِ الْبَابِ، وَوُجِّهَتِ الْأُولَى بِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحُزُّ الْبَدَنَ لِشِدَّةِ حَرِّهِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي بَعْدَهُ: حَتَّى إِذَا كَانَ رِيحٌ عَاصِفٌ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ رِوَايَةَ الْمَرْوَزِيِّ بِنُونٍ بَدَلَ الزَّايِ؛ أَيْ حَانَ رِيحُهُ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْحُونُ رِيحٌ تَحِنُّ كَحَنِينِ الْإِبِلِ.
قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَابِعِيهِ، وَمُوسَى هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ، وَمُعْتَمِرٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (فِيمَنْ سَلَفَ أَوْ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي عَنْ قَتَادَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ.
قَوْلُهُ: (آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا)؛ يَعْنِي أَعْطَاهُ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلَفْظِ آتَاهُ، وَهِيَ بِالْمَدِّ بِمَعْنَى الْعَطَاءِ، وَبِالْقَصْرِ بِمَعْنَى الْمَجِيءِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا مَالًا، وَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا بِمُفْرَدِهَا.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، فَسَّرَهَا قَتَادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ) كَذَا وَقَعَ هُنَا يَبْتَئِرُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَهْمُوزَةٌ ثُمَّ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ، وَتَفْسِيرُ قَتَادَةَ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَئِيرَةِ بِمَعْنَى الذَّخِيرَةِ وَالْخَبِيئَةِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: بَأَرْتُ الشَّيْءَ وَابْتَأَرْتُهُ أَبْأَرُهُ وَأَبْتَئِرُهُ إِذَا خَبَّأْتُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ لَمْ يَأْبَتِرْ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمُوَحَّدَةِ حَكَاهُ عِيَاضٌ، وَهُمَا صَحِيحَانِ بِمَعْنًى وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَمَعْنَاهُ لَمْ يُقَدِّمْ خَيْرًا كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ، يُقَالُ: بَأَرْتُ الشَّيْءَ وَابْتَأَرْتُهُ وَائْبَتَرْتُهُ إِذَا ادَّخَرْتُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلْحُفْرَةِ الْبِئْرُ وَوَقَعَ فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ فِيمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: لَمْ يَبْتَئِرْ أَوْ لَمْ يَبْتَئِزْ بِالشَّكِّ فِي الزَّايِ أَوِ الرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الجُّرْجَانِيِّ بِنُونٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ وَالزَّايِ قَالَ: وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي غَيْرِ الْبُخَارِيِّ يَنْتَهِزُ بِالْهَاءِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ وَبِالزَّايِ، وَيَمْتَئِرُ بِالْمِيمِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالرَّاءِ أَيْضًا قَالَ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ أَيْضًا كَالْأَوَّلَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللَّهِ يُعَذِّبْهُ) كَذَا هُنَا بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْقَافِ مِنَ الْقُدُومِ وَهُوَ بِالْجَزْمِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ وَكَذَا يُعَذِّبْهُ بِالْجَزْمِ عَلَى الْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى إِنْ بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْئَتِهِ يَعْرِفْهُ كُلُّ أَحَدٍ فَإِذَا صَارَ رَمَادًا مَبْثُوثًا فِي الْمَاءِ وَالرِّيحِ لَعَلَّهُ يَخْفَى، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ جَرِيرٍ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ فَإِنَّهُ إِنْ يَقْدِرْ عَلَيَّ رَبِّي لَا يَغْفِرْ لِي وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ مُسْتَوْفًى فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْوِبَةِ عَنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فِي شَرْحِهِ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ ذَلِكَ لِمَا غَلَبَهُ مِنَ الْخَوْفِ وَغَطَّى عَلَى فَهْمِهِ مِنَ الْجَزَعِ فَيُعْذَرُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِي قِصَّةِ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ آخِرَ مَنْ يَدْخُلُهَا فَيُقَالُ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا فَيَقُولُ لِلْفَرَحِ الَّذِي دَخَلَهُ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ. قُلْتُ وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ أَبَا عَوَانَةَ أَخْرَجَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ هُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَقَعَ لَهُ مِنَ الْخَطَإِ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْخَطَإِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، لَكِنْ أَحَدَهُمَا مِنْ غَلَبَةِ الْخَوْفِ وَالْآخَرُ مِنْ غَلَبَةِ الْفَرَحِ. قُلْتُ: وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ الَّذِي قَالَ أَنْتَ عَبْدِي هُوَ الَّذِي وَجَدَ رَاحِلَتَهُ بَعْدَ أَنْ ضَلَّتْ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى.
قَوْلُهُ: (فَأَحْرِقُونِي) فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ هُنَاكَ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا ثُمَّ أَوْرُوا نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي.
قَوْلُهُ: (فَاسْحَقُونِي أَوْ قَالَ فَاسْهَكُونِي) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ اسْحَقُونِي بِغَيْرِ شَكٍّ، وَالسَّهْكُ بِمَعْنَى السَّحْقِ وَيُقَالُ هُوَ دُونَهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ
الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُونِي.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ إِذَا كَانَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَتَّى إِذْ كَانَ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي) هُوَ مِنَ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ جَوَابُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ، أَيْ قَالَ لِمَنْ أَوْصَاهُ قُلْ وَرَبِّي لَأَفْعَلَنَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَأَخَذَ مِنْهُمْ يَمِينًا لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَيْضًا فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ وَرَبِّي فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ قَسَمٌ مِنَ الْمُخْبِرِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ هُوَ الصَّوَابُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الَّذِي عِنْدَ مُسْلِمٍ لَعَلَّهُ أَصْوَبُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ مُسْلِمٍ وَذُرِّي بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ بَدَلَ وَرَبِّي أَيْ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ التَّذْرِيَةِ، قَالَ عِيَاضٌ: إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَهِيَ الْوَجْهُ، وَلَعَلَّ الذَّالَ سَقَطَتْ لِبَعْضِ النُّسَّاخِ ثُمَّ صُحِّفَتِ اللَّفْظَةُ، كَذَا قَالَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَصْوِيبِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَخْطِئَةُ الْحُفَّاظِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلِأَنَّ غَايَتَهَا أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرًا أَوْ تَأْكِيدًا لِقولِهِ: فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَرَبِّي فَإِنَّهَا تَزِيدُ مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ قَوْلِهِ وَذُرِّي وَأَبْعَدَ الْكِرْمَانِيُّ فَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَرَبِّي بِصِيغَةِ الْمَاضِي مِنَ التَّرْبِيَةِ أَيْ رَبِّي أَخَذَ الْمَوَاثِيقَ بِالتَّأْكِيدَاتِ وَالْمُبَالَغَاتِ، قَالَ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الرِّوَايَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ اللَّهُ كُنْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ وَكَذَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي قَبْلَهُ فَجَمَعَهُ اللَّهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: جَازَ وُقُوعُ الْمُبْتَدَأِ نَكِرَةً مَحْضَةً بَعْدَ إِذَا الْمُفَاجِئَةِ لِأَنَّهَا مِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْفَائِدَةُ كَقَوْلِكَ: خَرَجْتُ فَإِذَا سَبُعٌ.
قَوْلُهُ: (مَخَافَتُكَ، أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ مَخَافَتُكَ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَتَقَدَّمَ بِلَفْظِ خَشْيَتُكَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ. وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ فِيمَا مَضَى، وَهُوَ بِالرَّفْعِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مِنْ خَشْيَتِكَ وَلِبَعْضِهِمْ خَشْيَتَكَ بِغَيْرِ مِنْ وَهِيَ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَجَوَّزُوا الْكَسْرَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِهَا وَإِبْقَاءِ عَمَلِهَا.
قَوْلُهُ: (فَمَا تَلَافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ) أَيْ تَدَارَكَهُ ومَا مَوْصُولَةٌ أَيِ الَّذِي تَلَافَاهُ هُوَ الرَّحْمَةُ، أَوْ نَافِيَةٌ وَصِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مَحْذُوفَةٌ، أَوِ الضَّمِيرُ فِي تَلَافَاهُ لِعَمَلِ الرَّجُلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ هُنَاكَ، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ فَغَفَرَ لَهُ وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: غَفَرَ لَهُ لِأَنَّهُ تَابَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَنَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ، وَقَالَتِ الْمُرْجِئَةُ: غَفَرَ لَهُ بِأَصْلِ تَوْحِيدِهِ الَّذِي لَا تَضُرُّ مَعَهُ مَعْصِيَةٌ، وَتُعُقِّبَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ رَدَّ الْمَظْلِمَةَ فَالْمَغْفِرَةِ حِينَئِذٍ بِفَضْلِ اللَّهِ لَا بِالتَّوْبَةِ لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأَخْذِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ مِنَ الظَّالِمِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ نَبَّاشًا، وَتُعُقِّبَ الثَّانِي بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَوَّلًا أَنَّهُ عُذِّبَ، فَعَلَى هَذَا فَتُحْمَلُ الرَّحْمَةُ وَالْمَغْفِرَةُ عَلَى إِرَادَةِ تَرْكِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا: عَلَى الْمُرْجِئَةِ فِي أَصْلِ دُخُولِ النَّارِ، وَعَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي دَعْوَى الْخُلُودِ فِيهَا.
وَفِيهِ أَيْضًا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ تَابَ فَوَجَبَ عَلَى اللَّهِ قَبُولُ تَوْبَتِهِ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: كَانَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا لِأَنَّهُ قَدْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ، وَأَنَّ السَّيِّئَاتِ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَا أَوْصَى بِهِ فَلَعَلَّهُ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِمْ ذَلِكَ لِتَصْحِيحِ التَّوْبَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي شَرْعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتْلُهُمْ أَنْفُسَهُمْ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ. قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا قَرُبَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ قَالَ: حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَإِنَّمَا الَّذِي حَضَرَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَلَامَاتُهُ، وَفِيهِ فَضْلُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لِمَا خُفِّفَ عَنْهُمْ مِنْ وَضْعِ مِثْلِ هَذِهِ الْآصَارِ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَفِيهِ عِظَمُ قُدْرَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ جَمَعَ جَسَدَ الْمَذْكُورِ بَعْدَ أَنْ تَفَرَّقَ ذَلِكَ التَّفْرِيقَ الشَّدِيدَ، قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَمَّا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى.
قَوْلُهُ: (قَالَ فَحَدَّثْتُ أَبَا عُثْمَانَ) الْقَائِلُ هُوَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَالِدُ مُعْتَمِرٍ، وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مُلٍّ، وَقَوْلُهُ سَمِعْتُ سَلْمَانَ غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ حَذَفَ الْمَسْمُوعَ الَّذِي اسْتُثْنِيَ مِنْهُ مَا ذُكِرَ، وَالتَّقْدِيرُ سَمِعْتُ سَلْمَانَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ.
قَوْلُهُ: (أَوْ كَمَا حَدَّثَ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لَا بِلَفْظِهِ كُلِّهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ حَدِيثَ سَلْمَانَ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ وَرْدَانَ، وَحُمَيْدِ بْنِ مَسْعَدَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِي، سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ، سَمِعْتُ هَذَا مِنْ سَلْمَانَ فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ مُعَاذٌ إِلَخْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ مَضَى التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ أَيْضًا هُنَاكَ.
26 - بَاب الِانْتِهَاءِ عَنْ الْمَعَاصِي
6482 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَا النَّجَاءَ، فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَاجْتَاحَهُمْ.
[الحديث 6482 - طرفه في 7283]
6483 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ "سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا"
6484 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ"
قَوْلُهُ: بَابُ الِانْتِهَاءِ عَنِ الْمَعَاصِي أَيْ تَرْكِهَا أَصْلًا وَرَأَسَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهَا، ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:
الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (بُرَيْد) بِمُوَحَّدَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ.
قَوْلُهُ: مَثَلِي بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ، وَالْمَثَلُ الصِّفَةُ الْعَجِيبَةُ الشَّأْنِ يُورِدُهَا الْبَلِيغُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ لِإِرَادَةِ التَّقْرِيبِ وَالتَّفْهِيمِ.
قَوْلُهُ: مَا بَعَثَنِي اللَّهُ الْعَائِدُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ بَعَثَنِي اللَّهِ بِهِ إِلَيْكُمْ.
قَوْلُهُ: أَتَى قَوْمًا التَّنْكِيرُ فِيهِ لِلشُّيُوعِ.
قَوْلُهُ: رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِالْجِيمِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ.
قَوْلُهُ: بِعَيْنِي بِالْإِفْرَادِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالتَّثْنِيَةِ بِفَتْحِ النُّونِ وَالتَّشْدِيدِ، قِيلَ ذَكَرَ الْعَيْنَيْنِ إِرْشَادًا إِلَى أَنَّهُ تَحَقَّقَ عِنْدَهُ جَمِيعُ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ تَحَقُّقَ مَنْ رَأَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَا يَعْتَرِيهِ وَهْمٌ وَلَا يُخَالِطُهُ شَكٌّ.
قَوْلُهُ: (وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ: رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمٍ حَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَوْمَ ذِي الْخَلَصَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ وَيَدَ امْرَأَتِهِ، فَانْصَرَفَ إِلَى قَوْمِهِ فَحَذَّرَهُمْ، فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فِي تَحْقِيقِ الْخَبَرِ. قُلْتُ: وَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ، وَسَمَّى الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ عَوْفَ بْنَ عَامِرٍ الْيَشْكُرِيَّ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ. وَتُعُقِّبَ بِاسْتِبْعَادِ تَنْزِيلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ عُرْيَانًا.
وَزَعَمَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ النَّذِيرَ الْعُرْيَانَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ
كَعْبٍ لَمَّا قَتَلَ الْمُنْذِرُ بْنُ مَاءِ السَّمَاءِ أَوْلَادَ أَبِي دَاوُدَ، وَكَانَ جَارَ الْمُنْذِرِ، خَشِيَتْ عَلَى قَوْمِهَا فَرَكِبَتْ جَمَلًا وَلَحِقَتْ بِهِمْ وَقَالَتْ: أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ. وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَنْ قَالَهُ أَبْرَهَةُ الْحَبَشِيُّ لَمَّا أَصَابَتْهُ الرَّمْيَةُ بِتِهَامَةَ وَرَجَعَ إِلَى الْيَمَنِ، وَقَدْ سَقَطَ لَحْمُهُ، وَذَكَرَ أَبُو بِشْرٍ الْآمِدِيُّ أَنَّ زَنْبَرًا بِزَايٍّ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ابْنَ عَمْرٍو الْخَثْعَمِيَّ كَانَ نَاكِحًا فِي آلِ زُبَيْدٍ، فَأَرَادُوا أَنْ يَغُزوا قَوْمَهُ وَخَشُوا أَنْ يُنْذِرَ بِهِمْ، فَحَرَسَهُ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، فَصَادَفَ مِنْهُمْ غِرَّةً فَقَذَفَ ثِيَابَهُ وَعَدَا وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدْوًا فَأَنْذَرَ قَوْمَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ جَيْشًا فَسَلَبُوهُ وَأَسَرُوهُ فَانْفَلَتَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشُ فَسَلَبُونِي فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا فَتَحَقَّقُوا صِدْقَهُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يَتَّهِمُونَهُ فِي النَّصِيحَةِ وَلَا جَرَتْ عَادَتُهُ بِالتَّعَرِّي، فَقَطَعُوا بِصِدْقِهِ لِهَذِهِ الْقَرَائِنِ، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ وَلِمَا جَاءَ بِهِ مَثَلًا بِذَلِكَ لِمَا أَبْدَاهُ مِنَ الْخَوَارِقِ وَالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقَطْعِ بِصِدْقِهِ تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَا يَأْلَفُونَهُ وَيَعْرِفُونَهُ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ فِي الْأَمْثَالِ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَنَادَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَيُّهَا النَّاسُ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مَثَلُ قَوْمٍ خَافُوا عَدُوًّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، فَبَعَثُوا رَجُلًا يَتَرَايَا لَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَبْصَرَ الْعَدُوَّ، فَأَقْبَلَ لِيُنْذِرَ قَوْمَهُ، فَخَشِيَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ، فَأَهْوَى بِثَوْبِهِ أَيُّهَا النَّاسُ أُتِيتُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَأَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْحَدِيثُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُرْيَانَ مِنَ التَّعَرِّي، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الرِّوَايَةِ.
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدٍ رَوَاهُ بِالْمُوَحَّدَةِ قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَمَعْنَاهُ الْفَصِيحُ بِالْإِنْذَارِ لَا يُكَنَّى وَلَا يُوَرَّى، يُقَالُ: رَجُلٌ عُرْيَانُ أَيْ فَصِيحُ اللِّسَانِ.
قَوْلُهُ: (فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ) بِالْمَدِّ فِيهِمَا وَبِمَدِّ الْأُولَى وَقَصْرِ الثَّانِيَةِ وَبِالْقَصْرِ فِيهِمَا تَخْفِيفًا. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ اطْلُبُوا النَّجَاءَ بِأَنْ تُسْرِعُوا الْهَرَبَ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ مُقَاوَمَةَ ذَلِكَ الْجَيْشِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي كَلَامِهِ أَنْوَاعٌ مِنَ التَّأْكِيدَاتِ أَحَدُهَا بِعَيْنِي ثَانِيهَا قَوْلُهُ: وَإِنِّي أَنَا ثَالِثُهَا قَوْلُهُ: الْعُرْيَانُ لِأَنَّهُ الْغَايَةُ فِي قُرْبِ الْعَدُوِّ، وَلِأَنَّهُ الَّذِي يَخْتَصُّ فِي إِنْذَارِهِ بِالصِّدْقِ.
قَوْلُهُ: فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ كَذَا فِيهِ بِالتَّذْكِيرِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْقَوْمِ.
قَوْلُهُ: (فَأَدْلَجُوا) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ ثُمَّ سُكُونٍ، أَيْ سَارُوا أَوَّلَ اللَّيْلِ، أَوْ سَارُوا اللَّيْلَ كُلَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مَدْلُولِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَإِمَّا بِالْوَصْلِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ سَيْرُ آخِرِ اللَّيْلِ، فَلَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ.
قَوْلُهُ: عَلَى مَهَلِهِمْ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْهِينَةُ وَالسُّكُونُ، وَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ الْإِمْهَالُ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَلَى مُهْلَتِهِمْ بِزِيَادَةِ تَاءِ تَأْنِيثٍ، وَضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ.
قَوْلُهُ: وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ قَالَ الطِّيبِيُّ: عَبَّرَ فِي الْفِرْقَةِ الْأُولَى بِالطَّاعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِالتَّكْذِيبِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الطَّاعَةَ مَسْبُوقَةٌ بِالتَّصْدِيقِ، وَيُشْعِرُ بِأَنَّ التَّكْذِيبَ مُسْتَتْبِعٌ لِلْعِصْيَانِ.
قَوْلُهُ: فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ أَيْ أَتَاهُمْ صَبَاحًا، هَذَا أَصْلُهُ ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِيمَنْ طُرِقَ بَغْتَةً فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ.
قَوْلُهُ: (فَاجْتَاحَهُمْ) بِجِيمٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيِ اسْتَأْصَلَهُمْ مِنْ جُحْتُ الشَّيْءَ أَجُوحُهُ إِذَا اسْتَأْصَلْتُهُ، وَالِاسْمُ الْجَائِحَةُ وَهِيَ الْهَلَاكُ وَأُطْلِقَتْ عَلَى الْآفَةِ لِأَنَّهَا مُهْلِكَةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ بِالرَّجُلِ وَإِنْذَارَهُ بِالْعَذَابِ الْقَرِيبِ بِإِنْذَارِ الرَّجُلِ قَوْمَهُ بِالْجَيْشِ الْمُصْبِحِ وَشَبَّهَ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ وَمَنْ عَصَاهُ بِمَنْ كَذَّبَ الرَّجُلَ فِي إِنْذَارِهِ وَمَنْ صَدَّقَهُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، جَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي الرِّقَاقِ، فَوَجَدْتُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ عليه السلام لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا طَرَفًا مِنْهُ وَلَمْ أَسْتَحْضِرْهُ إِذْ ذَاكَ فِي الرِّقَاقِ فَشَرَحْتُهُ هُنَاكَ، ثُمَّ ظَفِرْتُ بِهِ هُنَا فَأَذْكُرُ الْآنَ مِنْ شَرْحِهِ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ.
قَوْلُهُ: (اِسْتَوْقَدَ) بِمَعْنَى أَوْقَدَ وَهُوَ أَبْلَغُ، وَالْإِضَاءَةُ
فَرْطُ الْإِنَارَةِ.
قَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} اخْتَصَرَهَا الْمُؤَلِّفُ هُنَاكَ وَنَسَبْتُهَا أَنَا لِتَخْرِيجِ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ وَهِيَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ كَمَا تَرَى، وَكَأَنَّهُ تَبَرَّكَ بِلَفْظِ الْآيَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَا حَوْلَهَا وَالضَّمِيرُ لِلنَّارِ، وَالْأَوَّلُ لِلَّذِي أَوْقَدَ النَّارَ، وَحَوْلُ الشَّيْءِ جَانِبُهُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الدَّوَرَانِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعَامِ حَوْلٌ.
قَوْلُهُ: (الْفَرَاش) جَزَمَ الْمَازِرِيُّ بِأَنَّهَا الْجَنَادِبُ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ فَقَالَ: الْجُنْدُبُ هُوَ الصِّرَارُ. قُلْتُ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَرَاشَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الطَّيْرِ مُسْتَقِلٌّ لَهُ أَجْنِحَةٌ أَكْبَرُ مِنْ جُثَّتِهِ، وَأَنْوَاعُهُ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، وَكَذَا أَجْنِحَتُهُ، وَعَطْفُ الدَّوَابِّ عَلَى الْفَرَاشِ يُشْعِرُ بِأَنَّهَا غَيْرُ الْجَنَادِبِ وَالْجَرَادِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فَقَالَ: الْفَرَاشُ مَا تَهَافَتَ فِي النَّارِ مِنَ الْبَعُوضِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْضَ الْبَعُوضِ هُوَ الَّذِي يَقَعُ فِي النَّارِ وَيُسَمَّى حِينَئِذٍ الْفَرَاشُ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْفَرَاشُ كَالْبَعُوضِ، وَإِنَّمَا شَبَّهَهُ بِهِ لِكَوْنِهِ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي النَّارِ لَا أَنَّهُ يُشَارِكُ الْبَعُوضَ فِي الْقَرْصِ.
قَوْلُهُ: وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، اخْتَصَرَهُ هُنَاكَ فَنِسْبَتُهُ لِتَخْرِيجِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ كَمَا تَرَى، وَيَدْخُلُ فِيمَا يَقَعُ فِي النَّارِ الْبَعُوضُ وَالْبَرْغَشُ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ الْبَقُّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَعُوضُ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَجَعَلَ وَمِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَزَعُهُنَّ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالزَّايِ وَضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يَدْفَعُهُنَّ، وَفِي رِوَايَةِ يَنْزِعُهُنَّ بِزِيَادَةِ نُونٍ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَعَلَ يَحْجِزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا.
قَوْلُهُ: فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا أَيْ يَدْخُلْنَ، وَأَصْلُهُ الْقَحْمُ وَهُوَ الْإِقْدَامُ وَالْوُقُوعُ فِي الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى رَمْيِ الشَّيْءِ بَغْتَةً، وَاقْتَحَمَ الدَّارَ هَجَمَ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: فَأَنَا آخِذٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِيَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَيُرْوَى بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ. قُلْتُ: هَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِيهِ فَصَيْحَةٌ كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ إِلَخْ أَتَى بِمَا هُوَ أَهَمُّ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ، وَمِنْ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ الْتَفَتَ مِنَ الْغِيبَةِ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ النَّاسِ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: بِحُجَزِكُمْ كَمَا أَنَّ مَنْ أَخَذَ فِي حَدِيثِ مَنْ لَهُ بِشَأْنِهِ عِنَايَةٌ وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي شَيْءٍ يُوَرِّطُهُ فِي الْهَلَاكِ يَجِدُ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى نَجَاتِهِ أَنَّهُ حَاضِرٌ عِنْدَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِلَى النَّذِيرِ أَحْوَجُ مِنْهُ إِلَى الْبَشِيرِ ; لِأَنَّ جِبِلَّتَهُ مَائِلَةٌ إِلَى الْحَظِّ الْعَاجِلِ دُونَ الْحَظِّ الْآجِلِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا كَانَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى نَجَاةِ الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
قَوْلُهُ: بِحُجَزِكُمْ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ بَعْدَهَا زَايٌ جَمْعُ حُجْزَةٍ وَهِيَ مَعْقِدُ الْإِزَارِ، وَمِنَ السَّرَاوِيلِ مَوْضِعُ التِّكَّةِ، وَيَجُوزُ ضَمُّ الْجِيمِ فِي الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ النَّارِ) وَضَعَ الْمُسَبَّبَ مَوْضِعَ السَّبَبِ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِوُلُوجِ النَّارِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنْتُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَهُمْ وَعَلَيْهَا شَرْحُ الْكِرْمَانِيِّ فَقَالَ: كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ: وَأَنْتُمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: وَهُمْ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحُجْزَتِهِ لَا اقْتِحَامَ لَهُ فِيهَا، قَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا احْتِرَازٌ عَنْ مُوَاجَهَتِهِمْ بِذَلِكَ. قُلْتُ: وَالرِّوَايَةُ بِلَفْظِ وَأَنْتُمْ ثَابِتَةٌ تَدْفَعُ هَذَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَنْتُمْ تَفْلِتُونَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْفَاءِ وَاللَّامِ الثَّقِيلَةِ وَأَصْلُهُ تَتَفَلَّتُونَ، وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ ضَبَطُوهُ بِالْوَجْهَيْنِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، تَقُولُ: تَفَلَّتَ مِنِّي وَأَفْلَتَ مِنِّي لِمَنْ كَانَ بِيَدِكَ فَعَالَجَ الْهَرَبَ مِنْكَ حَتَّى هَرَبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا التَّمْثِيلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ شَبَّهَ تَهَافُتُ أَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ فِي الْمَعَاصِي الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا فِي الْوُقُوعِ فِي النَّارِ بِتَهَافُتِ الْفَرَاشِ بِالْوُقُوعِ فِي النَّارِ اتِّبَاعًا لِشَهَوَاتِهَا، وَشَبَّهَ ذَبَّهُ الْعُصَاةَ عَنِ الْمَعَاصِي بِمَا حَذَّرَهُمْ بِهِ وَأَنْذَرَهُمْ بِذَبِّ صَاحِبِ النَّارِ الْفَرَاشَ عَنْهَا. وَقَالَ عِيَاضٌ: شَبَّهَ
تَسَاقُطَ أَهْلِ الْمَعَاصِي فِي نَارِ الْآخِرَةِ بِتَسَاقُطِ الْفَرَاشِ فِي نَارِ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: تَقَحَّمُونَ فِيهَا فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَيَغْلِبُونِّي النُّونُ مُثَقَّلَةٌ لِأَنَّ أَصْلَهُ فَيَغْلِبُونَنِي، وَالْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ لِأُخَلِّصَكُمْ مِنَ النَّارِ فَجَعَلْتُمُ الْغَلَبَةَ مُسَبَّبَةً عَنِ الْأَخْذِ.
قَوْلُهُ: (تَقَحَّمُونَ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْقَافِ وَالْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَالْأَصْلُ تَتَقَحَّمُونَ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَحْقِيقُ التَّشْبِيهِ الْوَاقِعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَذَلِكَ أَنَّ حُدُودَ اللَّهِ مَحَارِمُهُ وَنَوَاهِيهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، وَرَأْسُ الْمَحَارِمِ حُبُّ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَاسْتِيفَاءُ لَذَّتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، فَشَبَّهَ صلى الله عليه وسلم إِظْهَارَ تِلْكَ الْحُدُودِ بِبَيَانَاتِهِ الشَّافِيَةِ الْكَافِيَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِاسْتِنْقَاذِ الرِّجَالِ مِنَ النَّارِ، وَشَبَّهَ فُشُوَّ ذَلِكَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا بِإِضَاءَةِ تِلْكَ النَّارِ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقَدِ، وَشَبَّهَ النَّاسَ وَعَدَمَ مُبَالَاتِهِمْ بِذَلِكَ الْبَيَانِ وَالْكَشْفِ وَتَعَدِّيَهُمْ حُدُودَ اللَّهِ وَحِرْصَهُمْ عَلَى اسْتِيفَاءِ تِلْكَ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَمَنْعَهُ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِأَخْذِ حُجَزِهِمْ بِالْفَرَاشِ الَّتِي تَقْتَحِمْنَ فِي النَّارِ وَتَغْلِبْنَ الْمُسْتَوْقِدَ عَلَى دَفْعِهِنَّ عَنْ الِاقْتِحَامِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَوْقِدَ كَانَ غَرَضُهُ مِنْ فِعْلِهِ انْتِفَاعَ الْخَلْقِ بِهِ مِنَ الِاسْتِضَاءَةِ وَالِاسْتِدْفَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالْفَرَاشُ لِجَهْلِهَا جَعَلَتْهُ سَبَبًا لِهَلَاكِهَا، فَكَذَلِكَ كَانَ الْقَصْدُ بِتِلْكَ الْبَيَانَاتِ اهْتِدَاءَ الْأُمَّةِ وَاجْتِنَابَهَا مَا هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِمْ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ جَعَلُوهَا مُقْتَضِيَةً لِتَرَدِّيهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ اسْتِعَارَةٌ مِثْلُ حَالَةِ مَنْعِهِ الْأُمَّةِ عَنِ الْهَلَاكِ بِحَالَةِ رَجُلٍ أَخَذَ بِحُجْزَةِ صَاحِبِهِ الَّذِي يَكَادُ يَهْوِي فِي مَهْوَاةِ مُهْلِكَةٍ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ؛ قَوْلُهُ: (زَكَرِيَّا) هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ.
قَوْلُهُ: الْمُسْلِمُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ: وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ خُصَّ الْمُهَاجِرُ بِالذِّكْرِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِفَوَاتِ ذَلِكَ بِفَتْحِ مَكَّةَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَانَ هُوَ الْمُهَاجِرَ الْكَامِلَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْمُهَاجِرِينَ أَنْ لَا يَتَّكِلُوا عَلَى الْهِجْرَةِ فَيُقَصِّرُوا فِي الْعَمَلِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي أُوتِيَهَا صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
27 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا.
6485 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا.
[الحديث 6485 - طرفه في 6637]
6486 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ إِلَخْ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ.
وَقَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ اللَّيْثِ بِسَنَدِهِ أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وحديث أنس كذلك، وهو طرف من حديث تقدم في تفسير المائدة ويأتي شرحه في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَانْتِقَامِهِ مِمَّنْ يَعْصِيهِ وَالْأَهْوَالُ الَّتِي تَقَعُ عِنْدَ النَّزْعِ وَالْمَوْتِ وَفِي الْقَبْرِ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمُنَاسَبَةُ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ وَقِلَّةِ الضَّحِكِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَاضِحَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّخْوِيفُ، وَقَدْ جَاءَ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبٌ أَخْرَجَهُ سُنَيْدٌ فِي تَفْسِيرِهِ
بِسَنَدٍ وَاهٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا بِقَوْمٍ يَتَحَدَّثُونَ وَيَضْحَكُونَ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ مَوْرِدُهُ، وَالْقِيَامَةَ مَوْعِدُهُ، وَالْوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَشْهَدُهُ، فَحَقُّهُ أَنْ يَطُولَ فِي الدُّنْيَا حُزْنُهُ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ صِنَاعَةِ الْبَدِيعِ مُقَابَلَةُ الضَّحِكِ بِالْبُكَاءِ وَالْقِلَّةِ بِالْكَثْرَةِ وَمُطَابَقَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا.
28 - بَاب حُجِبَتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ
6487 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حُجِبَتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ.
قَوْلُهُ: بَابُ حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ حُفَّتْ بَدَلَ حُجِبَتْ أَيْ غُطِّيَتْ بِهَا، فَكَانَتِ الشَّهَوَاتُ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي النَّارِ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مَالِكٌ) هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَقَدْ ضَاقَ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَخْرَجُهُ فَأَخْرَجَهُ عَنْ الْهَيْثَمِ بْنِ خَلَفٍ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ الْغَرَائِبُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيِّ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ لَكِنْ وَقَفَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ.
قَوْلُهُ: (حُجِبَتْ) كَذَا لِلْجَمِيعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَّا الْفَرْوِيَّ فَقَالَ حُفَّتْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ وَرْقَاءَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَدِيعِ بَلَاغَتِهِ فِي ذَمِّ الشَّهَوَاتِ وَإِنْ مَالَتْ إِلَيْهَا النُّفُوسُ، وَالْحَضِّ عَلَى الطَّاعَاتِ وَإِنْ كَرِهَتْهَا النُّفُوسُ وَشَقَّ عَلَيْهَا، وَقَدْ وَرَدَ إِيضَاحُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ. فَهَذَا يُفَسِّرُ رِوَايَةَ الْأَعْرَجِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكَارِهِ هُنَا مَا أُمِرَ الْمُكَلَّفُ بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ فِيهِ فِعْلًا وَتَرْكًا، كَالْإِتْيَانِ بِالْعِبَادَاتِ عَلَى وَجْهِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ قَوْلًا وَفِعْلًا.
وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا الْمَكَارِهَ لِمَشَقَّتِهَا عَلَى الْعَامِلِ وَصُعُوبَتِهَا عَلَيْهِ، وَمَنْ جُمْلَتِهَا الصَّبْرُ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ فِيهَا ; وَالْمُرَادُ بِالشَّهَوَاتِ مَا يُسْتَلَذُّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مِمَّا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ تَعَاطِيهِ إِمَّا بِالْأَصَالَةِ، وَإِمَّا لِكَوْنِ فِعْلِهِ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ شَيْءٍ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ، وَيُلْتَحَقُ بِذَلِكَ الشُّبُهَاتُ، وَالْإِكْثَارُ مِمَّا أُبِيحَ خَشْيَةَ أَنْ يُوقِعَ فِي الْمُحَرَّمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُوصَلُ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا بِارْتِكَابِ الْمَشَقَّاتِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْمَكْرُوهَاتِ، وَلَا إِلَى النَّارِ إِلَّا بِتَعَاطِي الشَّهَوَاتِ، وَهُمَا مَحْجُوبَتَانِ، فَمَنْ هَتَكَ الْحِجَابَ اقْتَحَمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ. وَقَوْلُهُ حُفَّتْ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءُ مِنَ الْحِفَافِ وَهُوَ مَا يُحِيطُ بِالشَّيْءِ حَتَّى لَا يُتَوَصَّلَ إِلَيْهِ إِلَّا
بِتَخَطِّيهِ، فَالْجَنَّةُ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِقَطْعِ مَفَاوِزِ الْمَكَارِهِ، وَالنَّارُ لَا يُنَجَّى مِنْهَا إِلَّا بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّهَوَاتِ جُعِلَتْ عَلَى حِفَافَيِ النَّارِ وَهِيَ جَوَانِبُهَا، وَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا ضُرِبَ بِهَا الْمِثْلُ فَجَعَلَهَا فِي جَوَانِبِهَا مِنْ خَارِجٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ مَثَلًا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ دَاخِلٍ وَهَذِهِ صُورَتُهَا:
|
فَمَنِ اطَّلَعَ الْحِجَابَ فَقَدْ وَاقِعَ مَا وَرَاءَهُ ; وَكُلُّ مَنْ تَصَوَّرَهَا مِنْ خَارِجٍ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ جَاءَ فِي الْبُخَارِيِّ حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْأَعْمَى عَنِ التَّقْوَى الَّذِي قَدْ أَخَذَتِ الشَّهَوَاتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ يَرَاهَا وَلَا يَرَى النَّارَ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَذَلِكَ لِاسْتِيلَاءِ الْجَهَالَةِ وَالْغَفْلَةِ عَلَى قَلْبِهِ، فَهُوَ كَالطَّائِرِ يَرَى الْحَبَّةَ فِي دَاخِلِ الْفَخِّ وَهِيَ مَحْجُوبَةٌ بِهِ وَلَا يَرَى الْفَخَّ لِغَلَبَةِ شَهْوَةِ الْحَبَّةِ عَلَى قَلْبِهِ وَتَعَلُّقِ بَالِهِ بِهَا. قُلْتُ: بَالَغَ كَعَادَتِهِ فِي تَضْلِيلِ مَنْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ بِبَعِيدٍ، وَأَنَّ الشَّهَوَاتِ عَلَى جَانِبِ النَّارِ مِنْ خَارِجٍ فَمَنْ وَاقَعَهَا وَخَرَقَ الْحِجَابَ دَخَلَ النَّارَ، كَمَا أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي مُحْتَمَلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): أَدْخَلَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَيِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ وَحَذَفَ التَّرْجَمَةَ الَّتِي تَلِيهِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَفِيهَا الْحَدِيثَانِ وَلَيْسَ فِي الَّذِي قَبْلَهَا إِلَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
29 - بَاب الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ
6488 -
حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ.
6489 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَهُ الشَّاعِرُ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ.
قَوْلُهُ: بَابُ الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ حَذَفَهَا ابْنُ بَطَّالٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، لَكِنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ التَّفْرِقَةُ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ هُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ وَهُوَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَرُ، وَسُفْيَانُ شَيْخُهُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (شِرَاك) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَبَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ اللِّبَاسِ وَأَنَّهُ السَّيْرُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ إِصْبَعُ الرَّجُلِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى كُلِّ سَيْرٍ وُقِيَ بِهِ الْقَدَمُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ الطَّاعَةَ مُوصِلَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُقَرِّبَةٌ إِلَى النَّارِ، وَأَنَّ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ قَدْ تَكُونُ فِي أَيْسَرِ الْأَشْيَاءِ. وَتَقَدَّمَ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَرِيبًا حَدِيثُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ. الْحَدِيثَ. فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَزْهَدَ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَلَا فِي قَلِيلٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَجْتَنِبَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْحَسَنَةَ الَّتِي يَرْحَمُهُ اللَّهُ بِهَا وَلَا السَّيِّئَةَ الَّتِي يَسْخَطُ عَلَيْهِ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ تَحْصِيلَ الْجَنَّةِ سَهْلٌ بِتَصْحِيحِ الْقَصْدِ وَفِعْلِ الطَّاعَةِ، وَالنَّارُ كَذَلِكَ بِمُوَافَقَةِ الْهَوَى وَفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَفِي الْأَدَبِ.
قَوْلُهُ: أَصْدَقُ بَيْتٍ أَطْلَقَ الْبَيْتَ عَلَى بَعْضِهِ مَجَازًا، فَإِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ نِصْفُهُ وَهُوَ الْمِصْرَاعُ الْأَوَّلُ الْمُسَمَّى عَرُوضَ الْبَيْتِ، وَأَمَّا نِصْفُهُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالضَّرْبِ فَهُوَ
وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ فَأَشَارَ بِأَوَّلِ الْبَيْتِ إِلَى بَقِيَّتِهِ وَالْمُرَادُ كُلُّهُ، وَعَكْسُهُ مَا مَضَى فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنَ الشِّعْرِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ بِلَفْظِ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْقَصِيدَةُ وَقَدْ أَطْلَقَهَا وَأَرَادَ الْبَيْتَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَوْرَدَهُ فِيهَا أَيْضًا بِلَفْظِ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
وَذَكَرْتُ هُنَاكَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ أَشْعَرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ، وَبَحَثَ السُّهَيْلِيُّ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرْتُ أَيْضًا مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ فِيمَا جَرَى لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ مَعَ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ نَاظِمِ هَذَا الْبَيْتِ حَيْثُ قَالَ لَهُ لَمَّا أَنْشَدَ الْمِصْرَاعَ الْأَوَّلَ: صَدَقْتَ، وَلَمَّا أَنْشَدَ الْمِصْرَاعَ الثَّانِيَ: كَذَبْتَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: نَعِيمُ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ، وَذَكَرْتُ تَوْجِيهَ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَّقَ بِأَنَّ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ فَقَدْ صَدَّقَ بِبُطْلَانِ مَا سِوَاهُ، فَيَدْخُلُ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاطِلِ هُنَا الْهَالِكُ، وَكُلُّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ جَائِزٌ عَلَيْهِ الْفِنَاءُ، وَإِنْ خُلِقَ فِيهِ الْبَقَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ كَنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ هُنَا: قَوْلُهُ: مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ لَفْظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَا قَرُبَ مِنَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِبَاطِلٍ، وَأَمَّا أُمُورُ الدُّنْيَا الَّتِي لَا تَئُولُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَهِيَ الْبَاطِلُ، انْتَهَى وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى.
(تَنْبِيهٌ): مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ الثَّانِي لِلتَّرْجَمَةِ خَفِيَّةٌ، وَكَأَنَّ التَّرْجَمَةَ لَمَّا تَضَمَّنَتْ مَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الطَّاعَةِ وَلَوْ قَلَّتْ وَالزَّجْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ قَلَّتْ فَيُفْهَمُ أَنَّ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ إِنَّمَا يُخَالِفُهُ لِرَغْبَةٍ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَكُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا بَاطِلٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الثَّانِي، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُؤْثِرَ الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي.
30 - بَاب لِيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَلَا يَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ
6490 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ ممن فضل عليه.
قَوْلُهُ: بَابُ لِيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَلَا يَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ هَذَا لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ.
قَوْلُهُ: عَنِ الْأَعْرَجِ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ مَالِكٍ حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، وَضَاقَ مَخْرَجُهُ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ.
قَوْلُهُ: إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ بِالْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ: فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ بِفَتْحِ الْخَاءِ أَيِ الصُّورَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ الْأَوْلَادُ وَالْأَتْبَاعُ وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنَ الْغَرَائِبِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ وَالْخُلُقُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ.
قَوْلُهُ: فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا. وَيَجُوزُ فِي أَسْفَلَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ كَذَا ثَبَتَ فِي آخِرِ
هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَكَذَا ثَبَتَ لِمَالِكٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أَيْ هُوَ حَقِيقٌ بِعَدَمِ الِازْدِرَاءِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ زَرَيْتُ عَلَيْهِ وَأَزْرَيْتُ بِهِ إِذَا تَنَقَّصْتُهُ. وَفِي مَعْنَاهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رَفَعَهُ أَقِلُّوا الدُّخُولَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ جَامِعٌ لِمَعَانِي الْخَيْرِ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ بِحَالٍ تَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ مُجْتَهِدًا فِيهَا إِلَّا وَجَدَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، فَمَتَى طَلَبَتْ نَفْسُهُ اللَّحَاقَ بِهِ اسْتَقْصَرَ حَالَهُ، فَيَكُونُ أَبَدًا فِي زِيَادَةٍ تُقَرِّبُهُ مِنْ رَبِّهِ، وَلَا يَكُونُ عَلَى حَالٍ خَسِيسَةٍ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَجَدَ مِنْ أَهْلِهَا مَنْ هُوَ أَخَسُّ حَالًا مِنْهُ. فَإِذَا تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ نِعْمَة اللَّهِ وَصَلَتْ إِلَيْهِ دُونَ كَثِيرٍ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ أَوْجَبَهُ فَيُلْزِمُ نَفْسَهُ الشُّكْرَ، فَيَعْظُمُ اغْتِبَاطُهُ بِذَلِكَ فِي مَعَادِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَوَاءُ الدَّاءِ، لِأَنَّ الشَّخْصَ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُؤَثِّرَ ذَلِكَ فِيهِ حَسَدًا، وَدَوَاؤُهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى الشُّكْرِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ قَالَ: خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا: مَنْ نَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَاقْتَدَى بِهِ. وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُكْتَبُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا.
31 - بَاب مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ بِسَيِّئَةٍ
6491 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا جَعْدُ أَبُو عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ. وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ بِسَيِّئَةٍ الْهَمُّ: تَرْجِيحُ قَصْدِ الْفِعْلِ، تَقُولُ: هَمَمْتُ بِكَذَا أَيْ قَصَدْتُهُ بِهِمَّتِي، وَهُوَ فَوْقَ مُجَرَّدِ خُطُورِ الشَّيْءِ بِالْقَلْبِ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَجَّاجِ الْمِنْقَرِيُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْقَافِ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَجَعْدُ بْنُ دِينَارٍ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ وَهُوَ الْجَعْدُ أَبُو عُثْمَانَ الرَّاوِي عَنْ أَنَسٍ فِي أَوَاخِرِ النَّفَقَاتِ وَفِي غَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
قَوْلُهُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ التَّصْرِيحَ بِسَمَاعِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ هُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَلَقَّاهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَلَقَّاهُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَيَانِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِسْنَادِ
الصَّرِيحِ إِلَى اللَّهِ حَيْثُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، بَلْ فِيهِ أَنَّ غَيْرَهُ كَذَلِكَ إِذْ قَالَ فِيمَا يَرْوِيهِ أَيْ فِي جُمْلَةِ مَا يَرْوِيهِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَالثَّانِي لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْجَعْدِ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ جَعْفَرٍ بِلَفْظِ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ قَالَ: إِنَّ رَبَّكُمْ رَحِيمٌ، مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمَنْ طُرُقٍ أُخْرَى مِنْهَا عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِذَا هَمَّ عَبْدِي.
قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ قَالَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِيهِ عَنْ فِعْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَفَاعِلُ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَقَوْلُهُ فَمَنْ هَمَّ شَرْحُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ أَيْ فَصَّلَهُ بِقَوْلِهِ فَمَنْ هَمَّ وَالْمُجْمَلُ قَوْلُهُ: كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَقَوْلُهُ: كَتَبَ قَالَ الطُّوفِيُّ: أَيْ أَمَرَ الْحَفَظَةَ أَنْ تَكْتُبَ، أَوِ الْمُرَادُ قَدَّرَ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ عَلَى وَفْقِ الْوَاقِعِ مِنْهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ قَدَّرَ ذَلِكَ وَعَرَّفَ الْكَتَبَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِفْسَارِ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْكِتَابَةِ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَفْرُوغًا مِنْهُ. انْتَهَى. وَقَدْ يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ، ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ، فَقَالَ: ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا. فَهَذَا ظَاهِرُهُ وُقُوعُ الْمُرَاجَعَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِإِرَادَةِ عَمَلِ السَّيِّئَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْجَوَابُ اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَهُ، وَقَدْ وَجَدْتُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يُوَافِقُ ظَاهِرَ الْخَبَرِ، وَأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ إِنَّمَا تَقَعُ لِمَنْ هَمَّ عَلَى الشَّيْءِ فَشَرَعَ فِيهِ. لَا مَنْ هَمَّ بِهِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْعَمَلُ، فَقَالَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَمَّا ذَكَرَ الْعَمَلَ الَّذِي يُبْطِلُهَا مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ وَقَصَدَ الْقِتَالَ فَشَرَعَ فِيهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَمَنْ تَحَرَّمَ وَقَصَدَ إِلَى الْعَدُوِّ لَوْ دَهَمَهُ دَفَعَهُ بِالْقِتَالِ لَمْ تَبْطُلْ.
قَوْلُهُ: فَمَنْ هَمَّ) كَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ فِي التَّوْحِيدِ إِذَا أَرَادَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ إِذَا هَمَّ وكَذَا عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ إِذَا تَحَدَّثَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ لِتُوَافِقَ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ قَيْدًا فِي كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ تُكْتَبُ الْحَسَنَةُ، نَعَمْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْهَمِّ وَالْإِرَادَةِ لَا يَكْفِي، فَعِنْدَ أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ خَرِيمِ بْنِ فَاتِكٍ رَفَعَهُ وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أُشْعِرَ بِهَا قَلْبُهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ ابْنُ حِبَّانَ فَقَالَ بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي صَحِيحِهِ: الْمُرَادُ بِالْهَمِّ هُنَا الْعَزْمُ. ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ الْحَسَنَةَ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهَا زِيَادَةً فِي الْفَضْلِ.
قَوْلُهُ: فَلَمْ يَعْمَلْهَا يَتَنَاوَلُ نَفْيَ عَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَأَمَّا عَمَلُ الْقَلْبِ فَيَحْتَمِلُ نَفْيَهُ أَيْضًا إِنْ كَانَتِ الْحَسَنَةُ تُكْتَبُ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ كَمَا فِي مُعْظَمِ الْأَحَادِيثِ، لَا إِنْ قُيِّدَتْ بِالتَّصْمِيمِ كَمَا فِي حَدِيثِ خَرِيمٍ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ الْكَفَّ عَنِ الشَّرِّ صَدَقَةٌ.
قَوْلُهُ: كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ أَيْ لِلَّذِي هَمَّ بِالْحَسَنَةِ عِنْدَهُ أَيْ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنَةً كَامِلَةً) كَذَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِ وَصْفُ الْحَسَنَةَ بِكَوْنِهَا كَامِلَةً، وَكَذَا قَوْلُهُ: عِنْدَهُ وَفِيهِمَا نَوْعَانِ مِنَ التَّأْكِيدِ:
فَأَمَّا الْعِنْدِيَّةُ فَإِشَارَةٌ إِلَى الشَّرَفِ، وَأَمَّا الْكَمَالُ فَإِشَارَةٌ إِلَى رَفْعِ تَوَهُّمِ نَقْصِهَا لِكَوْنِهَا نَشَأَتْ عَنِ الْهَمِّ الْمُجَرَّدِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ هِيَ كَامِلَةٌ لَا نَقْصَ فِيهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَشَارَ بِقَوْلِهِ: عِنْدَهُ إِلَى مَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَبِقَوْلِهِ كَامِلَةً إِلَى تَعْظِيمِ الْحَسَنَةِ وَتَأْكِيدِ أَمْرِهَا، وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي السَّيِّئَةِ فَلَمْ يَصِفْهَا بِكَامِلَةٍ بَلْ أَكَّدَهَا بِقَوْلِهِ: وَاحِدَةً إِشَارَةً إِلَى تَخْفِيفِهَا مُبَالَغَةً فِي الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ كَتَبَهَا اللَّهُ أَمَرَ الْحَفَظَةَ بِكِتَابَتِهَا بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي التَّوْحِيدِ بِلَفْظِ: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَلْبِ الْآدَمِيِّ إِمَّا بِإِطْلَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ لَهُ عِلْمًا يُدْرِكُ بِهِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: يُنَادَى الْمَلَكُ اكْتُبْ لِفُلَانٍ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ، فَيَقُولُ: إِنَّهُ نَوَاهُ. وَقِيلَ بَلْ يَجِدُ الْمَلَكُ لِلْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ رَائِحَةً خَبِيثَةً وَبِالْحَسَنَةِ رَائِحَةً طَيِّبَةً.
وَأَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَرَأَيْتُ فِي شَرْحِ مُغْلَطَايْ أَنَّهُ وَرَدَ مَرْفُوعًا قَالَ الطُّوفِيُّ إِنَّمَا كُتِبَتِ الْحَسَنَةُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْخَيْرِ سَبَبٌ إِلَى الْعَمَلِ، وَإِرَادَةَ الْخَيْرِ خَيْرٌ، لِأَنَّ إِرَادَةَ الْخَيْرِ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ.
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ لَا تُضَاعَفُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْآيَةِ عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ وَالْحَدِيثِ عَلَى الْهَمِّ الْمُجَرَّدِ، وَاسْتَشْكَلَ أَيْضًا بِأَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ إِذَا اعْتُبِرَ فِي حُصُولِ الْحَسَنَةِ فَكَيْفَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حُصُولِ السَّيِّئَةِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَرْكَ عَمَلِ السَّيِّئَةِ الَّتِي وَقَعَ الْهَمُّ بِهَا يُكَفِّرُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ نَسَخَ قَصْدَهُ السَّيِّئَةَ، وَخَالَفَ هَوَاهُ، ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ حُصُولُ الْحَسَنَةِ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِمَانِعٍ أَمْ لَا، وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: يَتَفَاوَتُ عِظَمُ الْحَسَنَةِ بِحَسَبِ الْمَانِعِ فَإِنْ كَانَ خَارِجِيًّا مَعَ بَقَاءِ قَصْدِ الَّذِي هَمَّ بِفِعْلِ الْحَسَنَةِ فَهِيَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ قَارَنَهَا نَدَمٌ عَلَى تَفْوِيتِهَا وَاسْتَمَرَّتِ النِّيَّةُ عَلَى فِعْلِهَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ مِنَ الَّذِي هَمَّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَهِيَ دُونَ ذَلِكَ إِلَّا إِنْ قَارَنَهَا قَصْدُ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا جُمْلَةً وَالرَّغْبَةُ عَنْ فِعْلِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ وَقَعَ الْعَمَلُ فِي عَكْسِهَا كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مَثَلًا فَصَرَفَهُ بِعَيْنِهِ فِي مَعْصِيَةٍ، فَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْأَخِيرِ أَنْ لَا تُكْتَبَ لَهُ حَسَنَةً أَصْلًا، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَعَلَى الِاحْتِمَالِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: حَسَنَةً كَامِلَةً عَلَى أَنَّهَا تُكْتَبُ حَسَنَةً مُضَاعَفَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكَمَالُ، لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ يَلْزَمُ مِنْهُ مُسَاوَاةُ مَنْ نَوَى الْخَيْرَ بِمَنْ فَعَلَهُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكْتُبُ لَهُ حَسَنَةً، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْعَامِلِ لِقولِهِ - تَعَالَى -:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} وَالْمَجِيءُ بِهَا هُوَ
الْعَمَلُ، وَأَمَّا النَّاوِي فَإِنَّمَا وَرَدَ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَعْنَاهُ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ، وَالتَّضْعِيفُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْحَسَنَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى.
قَوْلُهُ: فَإِنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ) يُؤْخَذُ مِنْهُ رَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّ حَسَنَةَ الْإِرَادَةِ تُضَافُ إِلَى عَشْرَةِ التَّضْعِيفِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ: فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ احْتِمَالٌ، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الْوَارِثِ فِي الْبَابِ ظَاهِرَةٌ فِيمَا قُلْتُهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَمَالِيهِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ إِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَإِنْ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ عَمِلَهَا كُمِّلَتْ لَهُ عَشَرَةً لِأَنَّا نَأْخُذُ بِقَيْدِ كَوْنِهَا قَدْ هَمَّ بِهَا، وَكَذَا السَّيِّئَةُ إِذَا عَمِلَهَا لَا تُكْتَبُ وَاحِدَةً لِلْهَمِّ وَأُخْرَى لِلْعَمَلِ بَلْ تُكْتَبُ وَاحِدَةً فَقَطْ.
قُلْتُ: الثَّانِي صَرِيحٌ فِي حَدِيثِ هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَوْنِهَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ لَا تُكْتَبُ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ، وَأَمَّا حَسَنَةُ الْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ فَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ، وَقَوْلُهُ: بِقَيْدِ كَوْنِهَا قَدْ هَمَّ بِهَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ لَهُ أَنَّهُ هَمَّ بِهَا فَإِنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ تِسْعَةٌ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَنْ هَمَّ بِهَا وَمَنْ لَمْ يَهُمَّ،
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ حَسَنَةَ مَنْ هَمَّ بِهَا تَنْدَرِجُ فِي الْعَمَلِ فِي عَشْرَةٍ الِعَمَلٍ لَكِنْ تَكُونُ حَسَنَةُ مَنْ هَمَّ بِهَا أَعْظَمَ قَدْرًا مِمَّنْ لَمْ يَهِمَّ بِهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى.
قَوْلُهُ: إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ الضِّعْفُ فِي اللُّغَةِ الْمِثْلُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْعَدَدِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ عَدَدٌ آخَرُ، فَإِذَا قِيلَ ضِعْفُ الْعَشَرَةِ فُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ عِشْرُونَ، وَمَنْ ذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ لَهُ عِنْدِي ضِعْفُ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ أَوْ ضِعْفَيْ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ ثَلَاثَةٌ.
قَوْلُهُ: إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ إِلَّا فِي حَدِيثِهِ الْمَاضِي فِي الصِّيَامِ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَضْعِيفَ حَسَنَةِ الْعَمَلِ إِلَى عَشْرَةٍ مَجْزُومٌ بِهِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا جَائِزٌ وُقُوعُهُ بِحَسَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِخْلَاصِ وَصِدْقِ الْعَزْمِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَتَعَدِّي النَّفْعِ كَالصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالسُّنَّةِ الْحَسَنَةِ وَشَرَفِ الْعَمَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يُضَاعَفُ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ خَاصٌّ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَمَسَّكَ قَائِلُهُ بِمَا فِي حَدِيثِ خَرِيمِ بْنِ فَاتِكٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَرِيبًا رَفَعَهُ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ وَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً كَانَتْ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَمَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُضَاعَفُ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهَا صَرِيحًا، وَيَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِي فِي الصِّيَامِ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ الْحَدِيثَ.
وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} هَلِ الْمُرَادُ الْمُضَاعَفَةُ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ فَقَطْ أَوْ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ؟ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُحَقَّقُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ وَالثَّانِي مُحْتَمَلٌ، وَيُؤَيِّدُ الْجَوَازَ سَعَةُ الْفَضْلِ.
قَوْلُهُ: وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً الْمُرَادُ بِالْكَمَالِ عِظَمُ الْقَدْرِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا التَّضْعِيفُ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَلَمْ يَقَعِ التَّقْيِيدُ بِكَامِلَةٍ فِي طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ كِتَابَةُ الْحَسَنَةِ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ، لَكِنَّهُ قَيَّدَهُ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَلَفْظُهُ إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ لَمْ يَقَعْ عِنْدَهُ مِنْ أَجْلِي وَوَقَعَ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بَعْدَ الْأَلِفِ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ وَهِيَ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِي، وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عُمُومِهِ، ثُمَّ صَوَّبَ حَمْلَ مُطْلَقِهِ عَلَى مَا قُيِّدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَسَنَةُ مَنْ تَرَكَ بِغَيْرِ اسْتِحْضَارِ مَا قُيِّدَ بِهِ دُونَ حَسَنَةِ الْآخَرِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ كَفٌّ عَنِ الشَّرِّ، وَالْكَفُّ عَنِ الشَّرِّ خَيْرٌ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يُكْتَبَ لِمَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ ثُمَّ تَرَكَهَا حَسَنَةٌ مُجَرَّدَةٌ، فَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ كُتِبَتْ حَسَنَةً مُضَاعَفَةً. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَحَلُّ كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ عَلَى التَّرْكِ أَنْ يَكُونَ التَّارِكُ قَدْ قَدَرَ عَلَى الْفِعْلِ ثُمَّ تَرَكَهُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُسَمَّى تَارِكًا إِلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حِرْصِهِ عَلَى الْفِعْلِ مَانِعٌ كَأَنْ يَمْشِيَ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا مَثَلًا فَيَجِدُ الْبَابَ مُغْلَقًا وَيَتَعَسَّرُ فَتْحُهُ، وَمِثْلُهُ مَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الزِّنَا مَثَلًا فَلَمْ يَنْتَشِرْ أَوْ طَرَقَهُ مَا يَخَافُ مِنْ أَذَاهُ عَاجِلًا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ مَا قَدْ يُعَارِضُ ظَاهِرَ حَدِيثِ الْبَابِ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ بِلَفْظِ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَرَى لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَرَجُلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ
لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ، فَقِيلَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِالتَّنْزِيلِ عَلَى حَالَتَيْنِ: فَتُحْمَلُ الْحَالَةُ الْأُولَى عَلَى مَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ هَمًّا مُجَرَّدًا مِنْ غَيْرِ تَصْمِيمٍ، وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى مَنْ صَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ.
وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَاقِلَّانِيُّ وَغَيْرُهُ ; قَالَ الْمَازِرِيُّ: ذَهَبَ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ يَعْنِي وَمَنْ تَبِعَهُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبِهِ وَوَطَّنَ عَلَيْهَا نَفْسَهُ أَنَّهُ يَأْثَمُ، وَحَمَلَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْعَفْوِ عَمَّنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا عَلَى الْخَاطِرِ الَّذِي يَمُرُّ بِالْقَلْبِ وَلَا يَسْتَقِرُّ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمَلِ هُنَا عَمَلُ الْجَارِحَةِ بِالْمَعْصِيَةِ الْمَهْمُومُ بِهِ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ عَامَّةَ السَّلَفِ وَأَهْلَ الْعِلْمِ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، لَكِنْهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْعَزْمَ عَلَى السَّيِّئَةِ يُكْتَبُ سَيِّئَةً مُجَرَّدَةً لَا السَّيِّئَةَ الَّتِي هَمَّ أَنْ يَعْمَلَهَا، كَمَنْ يَأْمُرُ بِتَحْصِيلِ مَعْصِيَةٍ ثُمَّ لَا يَفْعَلُهَا بَعْدَ حُصُولِهَا، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِالْأَمْرِ الْمَذْكُ رِ لَا بِالْمَعْصِيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قِيلَ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ. وَسَيَأْتِي سِيَاقُهُ وَشَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى عَزْمِهِ بِمِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يُعَاقَبُ عِقَابَ مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ حِسًّا.
وَهُنَا قِسْمٌ آخَرُ وَهُوَ مَنْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا ثُمَّ هَمَّ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الْإِصْرَارِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْإِصْرَارَ مَعْصِيَةٌ اتِّفَاقًا، فَمَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَصَمَّمَ عَلَيْهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ، فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ ثَانِيَةٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا ظَاهِرٌ حَسَنٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرِيعَةِ بِالْمُؤَاخَذَةِ عَلَى عَزْمِ الْقَلْبِ الْمُسْتَقِرِّ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْمَعْصِيَةِ لَمْ يُؤَاخَذْ فَإِنْ عَزَمَ وَصَمَّمَ زَادَ عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْعَزْمِ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَوَقَعَ فِي خَاطِرِهِ أَنْ يَقْطَعَهَا لَمْ تَنْقَطِعْ، فَإِنْ صَمَّمَ عَلَى قَطْعِهَا بَطَلَتْ، وَأُجِيبَ عَنِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِالْمَعْصِيَةِ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى عَمَلِ الْقَلْبِ بِقَصْدِ مَعْصِيَةِ الْجَارِحَةِ إِذَا لَمْ يَعْمَلِ الْمَقْصُودَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا هُوَ بِالْقَصْدِ وَمَا هُوَ بِالْوَسِيلَةِ، وَقَسَمَ بَعْضُهُمْ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ أَقْسَامًا يَظْهَرُ مِنْهَا الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي، أَضْعَفُهَا أَنْ يَخْطِرَ لَهُ ثُمَّ يَذْهَبَ فِي الْحَالِ، وَهَذَا مِنَ الْوَسْوَسَةِ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَهُوَ دُونَ التَّرَدُّدِ، وَفَوْقَهُ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِيهِ فَيَهُمَّ بِهِ ثُمَّ يَنْفِرَ عَنْهُ فَيَتْرُكَهُ ثُمَّ يَهُمَّ بِهِ ثُمَّ يَتْرُكَ كَذَلِكَ وَلَا يَسْتَمِرُّ عَلَى قَصْدِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّرَدُّدُ فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا، وَفَوْقَهُ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ وَلَا يَنْفِرَ عَنْهُ لَكِنْ لَا يُصَمِّمُ عَلَى فِعْلِهِ وَهَذَا هُوَ الْهَمُّ فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا، وَفَوْقَهُ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ وَلَا يَنْفِرَ مِنْهُ بَلْ يُصَمِّمُ عَلَى فِعْلِهِ فَهَذَا هُوَ الْعَزْمُ وَهُوَ مُنْتَهَى الْهَمِّ.
وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ صِرْفًا كَالشَّكِّ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ أَوِ النُّبُوَّةِ أَوِ الْبَعْثِ فَهَذَا كُفْرٌ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ جَزْمًا، وَدُونَهُ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي لَا تَصِلُ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَنْ يُحِبُّ مَا يُبْغِضُ اللَّهَ وَيُبْغِضُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَيُحِبُّ لِلْمُسْلِمِ الْأَذَى بِغَيْرِ مُوجِبٍ لِذَلِكَ، فَهَذَا يَأْثَمُ وَيَلْتَحِقُ بِهِ الْكِبْرَ وَالْعُجْبَ وَالْبَغْيَ وَالْمَكْرَ وَالْحَسَدَ، وَفِي بَعْضِ هَذَا خِلَافٌ، فَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَحَسَدَهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِمَّا لَا يُقْدَرُ عَلَى دَفْعِهِ، لَكِنَّ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِمُجَاهَدَتِهِ النَّفْسَ عَلَى تَرْكِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ فَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ، فَذَهَبَتْ
طَائِفَةٌ إِلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَلِكَ أَصْلًا، ونقل عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِ قَبْلُ فَإِنَّهُ حَيْثُ ذَكَرَ الْهَمَّ بِالْحَسَنَةِ قَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا، وَحَيْثُ ذَكَرَ الْهَمَّ بِالسَّيِّئَةِ لَمْ يُقَيِّدْ بِشَيْءٍ بَلْ قَالَ فِيهِ: وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْفَضْلِ فَلَا يَلِيقُ التَّحْجِيرُ فِيهِ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعَزْمِ الْمُصَمَّمِ، وَسَأَلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ: أَيُؤَاخَذُ الْعَبْدُ بِمَا يَهُمُّ بِهِ؟ قَالَ: إِذَا جَزَمَ بِذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وَحَمَلُوا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحَ الْمَرْفُوعَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ عَلَى الْخَطَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ افْتَرَقَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُعَاقَبُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً بِنَحْوِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكِنْ بِالْعِتَابِ لَا بِالْعَذَابِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَطَائِفَةٍ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النَّجْوَى الْمَاضِي شَرْحُهُ فِي بَابِ سَتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ، وَاسْتَثْنَى جَمَاعَةٌ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ مُؤَاخَذَةِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْهَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ مَا يَقَعُ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ وَلَوْ لَمْ يُصَمِّمْ لِقولِهِ - تَعَالَى - {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِهِ مَرْفُوعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَهُ مَوْقُوفًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَرَمَ يَجِبُ اعْتِقَادُ تَعْظِيمِهِ، فَمَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ فِيهِ خَالَفَ الْوَاجِبَ بِانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ، وَتُعُقِّبَ هَذَا الْبَحْثُ بِأَنَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ آكَدُ مِنْ تَعْظِيمِ الْحَرَمِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَتِهِ لَا يُؤَاخِذُهُ فَكَيْفَ يُؤَاخَذُ بِمَا دُونَهُ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ انْتَهَاكَ حُرْمَةِ
الْحَرَمِ بِالْمَعْصِيَةِ تَسْتَلْزِمُ انْتَهَاكَ حُرْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْحَرَمِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ فَصَارَتِ الْمَعْصِيَةُ فِي الْحَرَمِ أَشَدَّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي غَيْرِهِ وَإِنِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي تَرْكِ تَعْظِيمِ اللَّهِ - تَعَالَى - نَعَمْ مَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ قَاصِدًا الِاسْتِخْفَافَ بِالْحَرَمِ عَصَى وَمَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ قَاصِدًا الِاسْتِخْفَافَ بِاللَّهِ كَفَرَ، وَإِنَّمَا الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ ذَاهِلًا عَنْ قَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحْضَرَ عِنْدِ شَرْحِ حَدِيثِ لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: الْهَاجِسُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ إِجْمَاعًا، وَالْخَاطِرُ وَهُوَ جَرَيَانُ ذَلِكَ الْهَاجِسِ وَحَدِيثُ النَّفْسِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِمَا لِلْحَدِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَالْهَمُّ وَهُوَ قَصْدُ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ التَّرَدُّدِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ لِحَدِيثِ الْبَابِ، وَالْعَزْمُ - وَهُوَ قُوَّةُ ذَلِكَ الْقَصْدِ أَوِ الْجَزْمُ بِهِ وَرَفْعُ التَّرَدُّدِ - قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: يُؤَاخَذُ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ: هَمَّ بِالشَّيْءِ عَزَمَ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَكْفِي، قَالَ: وَمِنْ أَدِلَّةِ الْأَوَّلِ حَدِيثُ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، فَعُلِّلَ بِالْحِرْصِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَلَا حُجَّةَ مَعَهُ، لِأَنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ خَارِجِيٍّ وَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِالْمُلْتَقِيَيْنِ عَزَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ وَاقْتَرَنَ بِعَزْمِهِ فِعْلُ بَعْضِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهْرُ السِّلَاحِ وَإِشَارَتُهُ بِهِ إِلَى الْآخَرِ فَهَذَا الْفِعْلُ يُؤَاخَذُ بِهِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْقَتْلُ أَمْ لَا. انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ أَنْ يَكُونَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعَذَابِ بِالِاتِّفَاقِ.
قَوْلُهُ: فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فَجَزَاؤُهُ بِمِثْلِهَا أَوْ أَغْفِرُ وَلَهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ يَمْحُوهَا وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَمْحُوهَا بِالْفَضْلِ أَوْ بِالتَّوْبَةِ أَوْ بِالِاسْتِغْفَارِ أَوْ بِعَمَلِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تُكَفِّرُ السَّيِّئَةَ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَفِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُغْفَرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ التَّأْكِيدِ بِقَوْلِهِ وَاحِدَةً أَنَّ السَّيِّئَةَ لَا تُضَاعَفُ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَلا يُجْزَى إِلا
مِثْلَهَا} قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَمَالِيهِ: فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ دَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ إِذَا عَمِلَ السَّيِّئَةَ كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةُ الْعَمَلِ وَأُضِيفَتْ إِلَيْهَا سَيِّئَةُ الْهَمِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدِ اسْتَثْنَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وُقُوعَ الْمَعْصِيَةِ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: هَلْ وَرَدَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُكْتَبُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: لَا، مَا سَمِعْتُ إِلَّا بِمَكَّةَ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ لَكِنْ قَدْ يَتَفَاوَتُ بِالْعِظَمِ وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ تَعْظِيمًا لِحَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْ نِسَائِهِ يَقْتَضِي أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الْفَاحِشَةِ وَهُوَ أَذَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَزَادَ مُسْلِمٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَوْ يَمْحُوهَا: وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ أَيْ مَنْ أَصَرَّ عَلَى التَّجَرِّي عَلَى السَّيِّئَةِ عَزْمًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا وَأَعْرَضَ عَنِ الْحَسَنَاتِ هَمًّا وَقَوْلًا وَفِعْلًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ فَضْلِ اللَّهِ الْعَظِيمِ عَلَى هَذِهِ الْأَمَةِ، لِأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ كَادَ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ، لِأَنَّ عَمَلَ الْعِبَادِ لِلسَّيِّئَاتِ أَكْثَرُ مِنْ عَمَلِهِمُ الْحَسَنَاتِ ; وَيُؤَيِّدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ مِنَ الْإِثَابَةِ عَلَى الْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} إِذْ ذَكَرَ فِي السُّوءِ الِافْتِعَالَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُعَالَجَةِ وَالتَّكَلُّفِ فِيهِ بِخِلَافِ الْحَسَنَةِ، وَفِيهِ مَا يَتَرَتَّبُ لِلْعَبْدِ عَلَى هِجْرَانِ لَذَّتِهِ وَتَرْكِ شَهْوَتِهِ مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ رَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ وَرَهْبَةً مِنْ عِقَابِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَفَظَةَ لَا تَكْتُبُ الْمُبَاحَ لِلتَّقْيِيدِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَأَجَابَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ
بِأَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ عَدَّ الْمُبَاحَ مِنَ الْحَسَنِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِهِ حَسَنَةٌ وَلَيْسَ الْمُبَاحُ وَلَوْ سُمِّيَ حَسَنًا كَذَلِكَ.
نَعَمْ قَدْ يُكْتَبُ حَسَنَةً بِالنِّيَّةِ وَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ حِفْظِ اللِّسَانِ قَرِيبًا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ جَعَلَ الْعَدْلَ فِي السَّيِّئَةِ وَالْفَضْلَ فِي الْحَسَنَةِ، فَضَاعَفَ الْحَسَنَةَ وَلَمْ يُضَاعِفِ السَّيِّئَةَ، بَلْ أَضَافَ فِيهَا إِلَى الْعَدْلِ الْفَضْلَ فَأَدَارَهَا بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعَفْوِ بِقَوْلِهِ: كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ أَوْ يَمْحُوهَا وَبِقَوْلِهِ فَجَزَاؤُهُ بِمِثْلِهَا أَوْ أَغْفِرُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى الْكَعْبِيِّ فِي زَعْمِهِ أَنْ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ مُبَاحٌ بَلِ الْفَاعِلُ إِمَّا عَاصٍ وَإِمَّا مُثَابٌ، فَمَنِ اشْتَغَلَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِشَيْءٍ فَهُوَ مُثَابٌ، وَتَعَقَّبُوهُ بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي يُثَابُ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ بِتَرْكِهَا رِضَا اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ يَلْزَمهُ أَنَّ الزَّانِيَ مَثَلًا مُثَابٌ لِاشْتِغَالِهِ بِالزِّنَا عَنْ مَعْصِيَةٍ أُخْرَى وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
32 - بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ
6492 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ، عَنْ غَيْلَانَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُوبِقَاتِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ) التَّعْبِيرُ بِالْمُحَقَّرَاتِ وَقَعَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَفَعَهُ إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَنَحْوُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
قَوْلُهُ: مَهْدِيٌّ هُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ، وَغَيْلَانُ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ وَزْنَ عَجْلَانَ
هُوَ ابْنُ جَامِعٍ (جرير)، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: هِيَ أَدَقُّ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الدِّقَّةِ بِكَسْرِ الدَّالِ إِشَارَةً إِلَى تَحْقِيرِهَا وَتَهْوِينِهَا، وَتُسْتَعْمَلُ فِي تَدْقِيقِ النَّظَرِ فِي الْعَمَلِ وَالْإِمْعَانِ فِيهِ، أَيْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالًا تَحْسَبُونَهَا هَيِّنَةً وَهِيَ عَظِيمَةٌ أَوْ تَؤُولُ إِلَى الْعِظَمِ.
قَوْلُهُ: إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَامِ التَّأْكِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي بِحَذْفِهَا وَبِحَذْفِ الضَّمِيرِ أَيْضًا وَلَفْظُهُمَا إِنْ كُنَّا نَعُدُّ وَلَهُ عَنْ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا وَإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَهِيَ لِلتَّأْكِيدِ.
قَوْلُهُ: مِنَ الْمُوبِقَاتِ بِمُوَحَّدَةٍ وَقَافٍ وَسَقَطَ لَفْظُ مِنْ لِلسَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي أَيْضًا.
قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ أَيِ الْمُوبِقَةَ هِيَ الْمُهْلِكَةُ، وَوَقَعَ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ مَهْدِيٍّ كُنَّا نَعُدُّهَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْكَبَائِرِ وَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُحَقَّرَاتُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ كِبَارًا مَعَ الْإِصْرَارِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى فِي الزُّهْدِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَثِقُ بِهَا وَيَنْسَى الْمُحَقَّرَاتِ فَيَلْقَى اللَّهَ وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَلَا يَزَالُ مِنْهَا مُشْفِقًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ آمِنًا.
33 - بَاب الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَمَا يُخَافُ مِنْهَا
6493 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ الْأَلْهَانِيُّ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ، فَقَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا، فَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ، فِيمَا يَرَى النَّاسُ، عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ - فِيمَا يَرَى النَّاسُ - عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا.
قَوْلُهُ: بَابُ الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ وَمَا يُخَافُ مِنْهَا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ، وَفِي آخِرِهِ: وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْقِصَّةِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَيَأْتِي شَرْحُ آخِرِهِ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -
وَقَوْلُهُ: غَنَاءً بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا نُونٌ مَمْدُودٌ أَيْ كِفَايَةً، وَأَغْنَى فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ نَابَ عَنْهُ، وَجَرَى مَجْرَاهُ، وَذُبَابَةُ السَّيْفِ حَدُّهُ وَطَرَفُهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي تَغْيِيبِ خَاتِمَةِ الْعَمَلِ عَنِ الْعَبْدِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَتَدْبِيرٌ لَطِيفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ وَكَانَ نَاجِيًا أُعْجِبَ وَكَسِلَ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا ازْدَادَ عُتُوًّا، فَحُجِبَ عَنْهُ ذَلِكَ لِيَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ حَفْصِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: رَأَيْتُ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا ظُلْمًا، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَنَا أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، فَقَالَ: أَمْنُكَ عَلَى نَفْسِكَ أَشَدُّ مِنْ ذَنْبِهِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، لَعَلَّ الْقَاتِلَ يَتُوبُ فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِ يُخْتَمُ لَهُ بِخَاتِمَةِ السُّوءِ.
34 - بَاب الْعُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ خُلَّاطِ السُّوءِ
6494 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ قَالَ:
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ح. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ. تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَالنُّعْمَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، أَوْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ يُونُسُ، وَابْنُ مُسَافِرٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6495 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا الْمَاجِشُونُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ خَيْرُ مَالِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْغَنَمُ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ"
قَوْلُهُ: بَابُ الْعُزْلَةُ رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ خُلَّاطِ السُّوءِ لَفْظُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَثَرٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَهُ، لَكِنْ فِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ. وَخُلَّاطٌ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ جَمْعٌ مُسْتَغْرَبٌ، وَذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِلَفْظِ خُلُطٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَهُوَ بِضَمَّتَيْنِ مُخَفَّفًا، كَذَا ذَكَرَهُ الصَّغَانِيُّ فِي الْعُبَابِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: جَمْعُ خَلِيطٍ، وَالْخَلِيطُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
بَانَ الْخَلِيطُ وَلَوْ طُووِعَتْ مَا بَانَا وَعَلَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ:
إِنَّ الْخَلِيطَ أَجَدُّوا الْبَيْنَ يَوْمَ نَأَوْا.
وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى خُلُطٍ بِضَمَّتَيْنِ مُخَفَّفًا. قَالَ الشَّاعِرُ:
ضَرْبًا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْجِيرَةِ الْخُلُطُ
قَالَ: وَالْخُلَّاطُ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ الْمُخَالَطَةُ. قُلْتُ: فَلَعَلَّهُ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ خَلْطًا بَدَلَ خُلَّاطٍ وَأَخْرَجَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِ الْعُزْلَةِ بِلَفْظِ خَلِيطٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الرَّقَائِقِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ خُذُوا حَظَّكُمْ مِنَ الْعُزْلَةِ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْجُنَيْدِ نَفَعَ اللَّهُ بِبَرَكَتِهِ مُكَابَدَةُ الْعُزْلَةِ أَيْسَرُ مِنْ مُدَارَاةِ الْخُلْطَةِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعُزْلَةِ إِلَّا السَّلَامَةُ مِنَ الْغِيبَةِ وَمِنْ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا يُقْدَرُ عَلَى إِزَالَتِهِ لَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا. وَفِي مَعْنَى التَّرْجَمَةِ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: الْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ. وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، لَكِنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَوْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ:
الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَقَرَنَهُ هُنَا بِرِوَايَةِ أَبِي الْيَمَانِ، وَأَفْرَدَهَا فِي الْجِهَادِ، فَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ هُنَاكَ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ.
قَوْلُهُ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ أَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَأَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ أَعْرَابِيٌّ.
قَوْلُهُ: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ بِلَفْظِ أَفْضَلُ وَسَأَذْكُرُ لَهُ أَلْفَاظًا أُخْرَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ رَجُلٌ جَاهَدَ) هَذَا لَا يُنَافِي جَوَابَهُ الْآخَرَ الْمَاضِيَ فِي الْإِيمَانِ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْوِبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ
وَالْأَوْقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ إِلَخْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ فَيُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ الْعُزْلَةُ لِيَسْلَمَ وَيَسْلَمَ غَيْرُهُ مِنْهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَوْلُهُ يَعْبُدُ رَبَّهُ زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلَّا فِي خَيْرٍ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ؟ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالَّذِي يَتْلُوهُ؟ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَةٍ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ فِيهَا. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَقَالَ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ هُنَا تَابَعَهُ النُّعْمَانُ هُوَ ابْنُ رَاشِدٍ الْجَزَرِيُّ، وَمُتَابَعَتُهُ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ رَاشِدٍ بِهِ.
قَوْلُهُ: وَالزُّبَيْدِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الشَّامِيُّ، وَطَرِيقُهُ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ هُوَ الْعَبْدِيُّ، وَطَرِيقُهُ وَصَلَهَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ سُئِلَ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا.
قَوْلُهُ: وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ أَوْ عُبَيْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ كَذَا بِالشَّكِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَقَالَ فِي سِيَاقِهِ مَعْمَرٌ يَشُكُّ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ فَقَالَ عَنْ عَطَاءٍ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَكَذَا وَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَلَمْ يَشُكَّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ يُونُسُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ، وَطَرِيقُهُ وَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزَّهْرِيَّاتِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ يُونُسَ.
قَوْلُهُ: (وَابْنُ مُسَافِرٍ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، وَطَرِيقُهُ وَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزَّهْرِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَطَرِيقُهُ وَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا لَا يُخَالِفُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى، لِأَنَّ الَّذِي حَفِظَ اسْمَ الصَّحَابِيِّ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ أَبْهَمَهُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ لَفْظَ مَعْمَرٍ وَلَفْظَ الزُّبَيْدِيِّ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي، قَوْلُهُ:(حَدَّثَنَا الْمَاجِشُونُ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا، وَلَكِنْ قَالَ فِيهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ الْمَاجِشُونِ فَنَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ، وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَ قَوْلِهِ الْمَاجِشُونِ، وَابْنِ الْمَاجِشُونِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَوْلَادِهِ يُقَالُ لَهُ الْمَاجِشُونُ.
قَوْلُهُ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَجَوَّدَ نَسَبَهُ، وَبَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي بَابُ مِنَ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ.
قَوْلُهُ: عَنْ أَبِيهِ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ.
قَوْلُهُ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ الْغَنَمُ كَذَا أَوْرَدَهُ هُنَا، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: يَكُونُ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ الْغَنَمُ فِيهِ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ إِلَخْ وَتَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَلَفْظُهُ هُنَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِخَيْرِيَّةِ الْعُزْلَةِ أَنْ تَقَعَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَمَّا زَمَنُهُ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ الْجِهَادُ فِيهِ مَطْلُوبًا حَتَّى كَانَ يَجِبُ عَلَى الْأَعْيَانِ إِذَا خَرَجَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم غَازِيًا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعْذُورًا. وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُ فَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى. وَالشِّعْبُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ أَوِ الْمَوْضِعُ فِيهِ، وَشَعَفٌ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ فَاءٍ رَأْسُ الْجَبَلِ.
وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِ الْعُزْلَةِ أَنَّ الْعُزْلَةَ وَالِاخْتِلَاطَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَاتِهِمَا، فَتُحْمَلُ الْأَدِلَّةُ الْوَارِدَةُ فِي الْحَضِّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِطَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَأُمُورِ الدِّينِ، وَعَكْسُهَا فِي عَكْسِهِ، وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ
بِالْأَبْدَانِ فَمَنْ عَرَفَ الِاكْتِفَاءَ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ مَعَاشِهِ وَمُحَافَظَةِ دِينِهِ فَالْأَوْلَى لَهُ الِانْكِفَافُ عَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ بِشَرْطِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالسَّلَامِ وَالرَّدِّ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِيَادَةِ وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَطْلُوبُ إِنَّمَا هُوَ تَرْكُ فُضُولِ الصُّحْبَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَغْلِ الْبَالِ وَتَضْيِيعِ الْوَقْتِ عَنِ الْمُهِمَّاتِ، وَيَجْعَلُ الِاجْتِمَاعَ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ فَيَقْتَصِرُ مِنْهُ عَلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَهُوَ أَرْوَحُ لِلْبَدَنِ وَالْقَلْبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ فِي الرِّسَالَةِ: طَرِيقُ مَنْ آثَرَ الْعُزْلَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ سَلَامَةَ النَّاسِ مِنْ شَرِّهِ لَا الْعَكْسُ. فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُنْتِجُهُ اسْتِصْغَارُهُ نَفْسَهُ وَهِيَ صِفَةُ الْمُتَوَاضِعِ. وَالثَّانِي شُهُودُهُ مَزِيَّةً لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُتَكَبِّرِ.
35 - بَاب رَفْعِ الْأَمَانَةِ
6496 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ. قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ.
6497 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ. ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلَا يَكَادُ أَحَدُهُمْ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ. فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا.
[الحديث 6497 - طرفاه في: 7086، 7276]
6498 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً.
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْأَمَانَةِ) هِيَ ضِدُّ الْخِيَانَةِ، وَالْمُرَادُ بِرَفْعِهَا إِذْهَابُهَا بِحَيْثُ يَكُونُ الْأَمِينُ مَعْدُومًا أَوْ شِبْهَ الْمَعْدُومِ،
وَذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثةَ أَحَادِيثَ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَنُونَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْعِلْمِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَقْرُونًا بِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ، وَسَاقَهُ هُنَاكَ عَلَى لَفْظِهِ، وَفِيهِ قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ.
قَوْلُهُ: إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ هَذَا جَوَابُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ وَهُوَ الْقَائِلُ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟
قَوْلُهُ: إِذَا أُسْنِدَ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَجَابَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْإِضَاعَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ كَيْفِيَّتَهَا هِيَ الْإِسْنَادُ الْمَذْكُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ بِلَفْظِ وُسِّدَ مَعَ شَرْحِهِ وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ جِنْسُ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ كَالْخِلَافَةِ وَالْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَتَى بِكَلِمَةِ إِلَى بَدَلَ اللَّامِ لِيَدُلَّ عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى الْإِسْنَادِ.
قَوْلُهُ: فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ، أَوْ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَانْتَظِرْ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ أَنَّ الْأَئِمَّةَ قَدِ ائْتَمَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَفَرَضَ عَلَيْهِمُ النَّصِيحَةَ لَهُمْ، فَيَنْبَغِي لَهُمْ تَوْلِيَةُ أَهْلِ الدِّينِ، فَإِذَا قَلَّدُوا غَيْرَ أَهْلِ الدِّينِ فَقَدْ ضَيَّعُوا الْأَمَانَةَ الَّتِي قَلَّدَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - إِيَّاهَا.
قال الفربري: قال أبو جعفر: حدثت أبا عبد الله فقال: سمعت أبا أحمد بن عاصم يقول: سمعت أبا عبيد يقول: قال الأصمعي وأبو عمرو وغيرهما: جذر قلوب الرجال، الجذر الأصل من كل شيء. والوكت أثر الشيء اليسير منه. والمجل أثر العمل في الكف إذا غلظ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي ذِكْرِ الْأَمَانَةِ وَفِي ذِكْرِ رَفْعِهَا، وَسَيَأْتِي بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وَيُشْرَحُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَالْجَذْرُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا الْأَصْلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالْوَكْتُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْكَافِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ أَثَرُ النَّارِ وَنَحْوُهُ، وَالْمَجْلُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا لَامٌ هُوَ أَثَرُ الْعَمَلِ فِي الْكَفِّ، وَالْمُنْتَبِرُ بِنُونٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَهُوَ الْمُتَنَفِّطُ.
قَوْلُهُ: وَلَا يَكَادُ أَحَدُهُمْ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَحَدٌ بِغَيْرِ ضَمِيرٍ.
قَوْلُهُ: (مِنْ إِيمَانٍ) قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمَانَةِ فِي الْحَدِيثِ الْإِيمَانُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا لَازِمَةَ الْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ: (بَايَعْت) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَأَوَّلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى بَيْعَةِ الْخِلَافَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، وكَيْفَ يَكُونُ وَهُوَ يَقُولُ: إِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَي سَاعِيهِ، فَهَلْ يُبَايَعُ النَّصْرَانِيُّ عَلَى الْخِلَافَةِ؟ وَإِنَّمَا أَرَادَ مُبَايَعَةَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
قَوْلُهُ: رَدَّهُ عَلَي الْإِسْلَامِ، فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِالْإِسْلَامِ بِزِيَادَةِ مُوَحَّدَةٍ.
قَوْلُهُ: نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَي سَاعِيهِ أَيْ وَالِيهِ الَّذِي أُقِيمَ عَلَيْهِ لِيُنْصَفَ مِنْهُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ السَّاعِي فِي وُلَاةِ الصَّدَقَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ هُنَا الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الْجِزْيَةِ.
قَوْلُهُ: إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى اثْنَيْنِ مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالْأَمَانَةِ إِذْ ذَاكَ فَأَبْهَمَهُمَا الرَّاوِي، وَالْمَعْنَى: لَسْتُ أَثِقُ بِأَحَدٍ أَأْتِمِنُهُ عَلَى بَيْعٍ وَلَا شِرَاءٍ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ الْفَرَبْرِيُّ) ثَبَتَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الَّذِي رَوَى عَنْهُ هُنَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الْبُخَارِيُّ وَرَّاقُ الْبُخَارِيِّ، أَيْ نَاسِخُ كُتُبِهِ، وَقَوْلُهُ حَدَّثْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُرِيدُ الْبُخَارِيَّ وَحَذَفَ مَا حَدَّثَهُ بِهِ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ لَهُ حِينَئِذٍ، وَقَوْلُهُ فَقَالَ سَمِعْتُ الْقَائِلُ هُوَ الْبُخَارِيُّ، وَشَيْخُهُ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ هُوَ الْبَلْخِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ) هُوَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ الْمَشْهُورُ صَاحِبُ كِتَابِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَانِيفِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَكَذَا الْأَصْمَعِيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَقَوْلُهُ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَرِيبٍ، وَأَبُو عَمْرٍو هُوَ ابْنُ الْعَلَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَغَيْرهمَا) ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ سُفْيَانُ: الْجَذْرُ الْأَصْلُ.
قَوْلُهُ: الْجَذْرُ الْأَصْلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ اتَّفَقُوا عَلَى التَّفْسِيرِ، وَلَكِنْ عِنْدَ أَبِي عَمْرٍو أَنَّ الْجِذْرَ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَعِنْدَ الْأَصْمَعِيِّ بِفَتْحِهَا.
قَوْلُهُ: وَالْوَكْتُ أَثَرُ الشَّيْءِ الْيَسِيرُ مِنْهُ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا، وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا تَقَدَّمَ لِتَقْيِيدِهِ
بِالْيَسِيرِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وسَنَدُهُ مَعْدُودٌ فِي أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ.
قَوْلُهُ: إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً. فَعَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَبِغَيْرِ تَكَادُ فَالْمَعْنَى لَا تَجِدُ فِي مِائَةِ إِبِلٍ رَاحِلَةً تَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ، لِأَنَّ الَّذِي يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَطِيئًا سَهْلَ الِانْقِيَادِ، وَكَذَا لَا تَجِدُ فِي مِائَةٍ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ بِأَنْ يُعَاوِنَ رَفِيقَهُ وَيُلِينَ جَانِبَهُ، وَالرِّوَايَةُ بِإِثْبَاتِ لَا تَكَادُ أَوْلَى لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْمَعْنَى وَمُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْأَوَّلِ يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُحْمَلُ النَّفْيُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَعَلَى أَنَّ النَّادِرَ لَا حُكْمَ لَهُ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِلْمِائَةِ مِنَ الْإِبِلِ إِبِلٌ. يَقُولُونَ: لِفُلَانٍ إِبِلٌ أَيْ مِائَةُ بَعِيرٍ، وَلِفُلَانٍ إِبِلَانِ أَيْ مِائَتَانِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا فَالرِّوَايَةُ الَّتِي بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ يَكُونُ قَوْلُهُ: مِائَةٌ تَفْسِيرًا لِقولِهِ إِبِلٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ كَإِبِلٍ أَيْ كَمِائَةِ بَعِيرٍ، وَلَمَّا كَانَ مُجَرَّدُ لَفْظِ إِبِلٍ لَيْسَ مَشْهُورَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْمِائَةِ ذَكَرَ الْمِائَةَ تَوْضِيحًا وَرَفْعًا لِلْإِلْبَاسِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَاللَّامُ لِلْجِنْسِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِبِلُ اسْمُ مِائَةِ بَعِيرٍ، فَقَوْلُهُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ الْمُرَادُ بِهِ عَشَرَةُ آلَافٍ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ كَالْمِائَةِ الْمِائَةِ انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ عَلَى تَسْلِيمِ قَوْلِهِ لَا يَلْزَمُ مَا قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ عَشَرَةُ آلَافٍ ; بَلِ الْمِائَةُ الثَّانِيَةُ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّاسَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ سَوَاءٌ لَا فَضْلَ فِيهَا لِشَرِيفٍ عَلَى مَشْرُوفٍ، وَلَا لِرَفِيعٍ عَلَى وَضِيعٍ، كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا رَاحِلَةٌ وَهِيَ الَّتِي تُرَحَّلُ لِتُرْكَبَ، وَالرَّاحِلَةُ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ أَيْ كُلُّهَا حَمُولَةٌ تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ وَلَا تَصْلُحُ لِلرَّحْلِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أَهْلُ نَقْصٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْفَضْلِ فَعَدَدُهُمْ قَلِيلٌ جِدًّا، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الرَّاحِلَةِ فِي الْإِبِلِ الْحَمُولَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
قُلْتُ: وَأَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ فِي تَسْوِيَةِ الْقَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَخْذًا بِالتَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّ الرَّاحِلَةَ هِيَ النَّجِيبَةُ الْمُخْتَارَةُ مِنَ الْإِبِلِ لِلرُّكُوبِ، فَإِذَا كَانَتْ فِي إِبِلٍ عُرِفَتْ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاسَ فِي النَّسَبِ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ الَّتِي لَا رَاحِلَةَ فِيهَا فَهِيَ مُسْتَوِيَةٌ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الرَّاحِلَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الذَّكَرُ النَّجِيبُ وَالْأُنْثَى النَّجِيبَةُ، وَالْهَاءُ فِي الرَّاحِلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ. قَالَ: وَقَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ غَلَطٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّاهِدَ فِي الدُّنْيَا الْكَامِلَ فِيهِ الرَّاغِبَ فِي الْآخِرَةِ قَلِيلٌ كَقِلَّةِ الرَّاحِلَةِ فِي الْإِبِلِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا أَجْوَدُ، وَأَجْوَدُ مِنْهُمَا قَوْلُ آخَرِينَ: إِنَّ الْمَرْضِيَّ الْأَحْوَالِ مِنَ النَّاسِ الْكَامِلَ الْأَوْصَافِ قَلِيلٌ.
قُلْتُ: هُوَ الثَّانِي، إِلَّا أَنَّهُ خَصَّصَهُ بِالزَّاهِدِ، وَالْأَوْلَى تَعْمِيمُهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الَّذِي يُنَاسِبُ التَّمْثِيلَ أَنَّ الرَّجُلَ الْجَوَادَ الَّذِي يَحْمِلُ أَثْقَالَ النَّاسِ وَالْحُمَالَاتِ عَنْهُمْ وَيَكْشِفُ كُرَبَهُمْ عَزِيزُ الْوُجُودِ كَالرَّاحِلَةِ فِي الْإِبِلِ الْكَثِيرَةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاسَ كَثِيرٌ وَالْمَرْضِيَّ مِنْهُمْ قَلِيلٌ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْمَأ الْبُخَارِيُّ بِإِدْخَالِهِ فِي بَابِ رَفْعِ الْأَمَانَةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَالِاخْتِيَارُ عَدَمُ مُعَاشَرَتِهِ.
وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ فِي الْحَدِيثِ مَنْ يَأْتِي بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ حَيْثُ يَصِيرُونَ يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ. وَنَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ هَذَا عَنْ مُغْلَطَايْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ كَلَامُهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْزُهُ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّخْصِيصِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
36 - بَاب الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ
6499 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ ح. وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَهُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ.
[الحديث 6499 - طرفه في: 7152]
قَوْلُهُ: (بَابُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ) الرِّيَاءُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمَدِّ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِظْهَارُ الْعِبَادَةِ لِقَصْدِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهَا فَيَحْمَدُوا صَاحِبَهَا، وَالسُّمْعَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ سَمِعَ، وَالْمُرَادُ بِهَا نَحْوُ مَا فِي الرِّيَاءِ، لَكِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَالرِّيَاءُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمَعْنَى طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بِأَنْ يُرِيَهِمُ الْخِصَالَ الْمَحْمُودَةَ، وَالْمُرَائِي هُوَ الْعَامِلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الرِّيَاءُ أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَالسُّمْعَةُ أَنْ يُخْفِيَ عَمَلَهُ لِلَّهِ ثُمَّ يُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ.
قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ. وَسُفْيَانُ فِي الطَّرِيقَيْنِ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَالسَّنَدُ الثَّانِي أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِهِ مَعَ عُلُوِّهُ، لِأَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَزَايَا وَهِيَ جَلَالَةُ الْقَطَّانِ وَمَا وَقَعَ فِي سِيَاقِهِ مِنْ تَصْرِيحِ سُفْيَانَ بِالتَّحْدِيثِ، وَنِسْبَةُ سَلَمَةَ شَيْخِ الثَّوْرِيِّ وَهُوَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ بِالتَّصْغِيرِ ابْنِ حُصَيْنٍ الْحَضْرَمِيِّ، وَالسَّنَدُ الثَّانِي كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَهُ. وَثَبَتَ كَذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ، وَقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ حَدِيثًا مُسْنَدًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ جُنْدُبٍ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُرَادُهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
قُلْتُ: احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ عَمَّنْ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ مَوْجُودًا إِذْ ذَاكَ بِغَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ جُنْدَبٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ جُنْدَبًا كَانَ بِالْكُوفَةِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ بِهَا فِي حَيَاةِ جُنْدَبٍ، أَبُو جُحَيْفَةَ السَّوَائِيُّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ جُنْدَبٍ بِسِتِّ سِنِينَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ جُنْدَبٍ بِعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ رَوَى سَلَمَةُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمَا وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَا مِنْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ كَانَ مَوْجُودًا مِنَ الصَّحَابَةِ بِغَيْرِ الْكُوفَةِ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ مِنْ جُنْدَبٍ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (مَنْ سَمَّعَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ الثَّقِيلَةِ وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا، وَقَوْلُهُ وَمَنْ يُرَائِي بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَالْمَدِّ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْيَاءُ فِي آخِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا، أَمَّا الْأُولَى فَلِلْإِشْبَاعِ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَكَذَلِكَ، أَوِ التَّقْدِيرُ فَإِنَّهُ يُرَائِي بِهِ اللَّهَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائي يُرَائي اللَّهُ بِهِ. وَلِابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ تَطَاوَلَ تَعَاظُمًا خَفَضَهُ اللَّهُ، وَمَنْ تَوَاضَعَ تَخَشُّعًا رَفَعَهُ اللَّهُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ
(1)
من سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ جَابِرٍ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَمَنْ كَانَ ذَا لِسَانَيْنِ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا عَلَى غَيْرِ إِخْلَاصٍ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ وَيَسْمَعُوهُ، جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُشَهِّرَهُ اللَّهُ وَيَفْضَحَهُ وَيُظْهِرَ مَا كَانَ يُبْطِنُهُ.
وَقِيلَ: مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ الْجَاهَ وَالْمَنْزِلَةَ عِنْدَ النَّاسِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهُ حَدِيثًا عِنْدَ النَّاسِ الَّذِينَ أَرَادَ نَيْلَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ، وَلَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى يُرَائِي يُطْلِعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ لَا لِوَجْهِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
(1)
بياض بالأصل، وهو عند مسلم في كتاب الزهد والرقاق 53 الحديث 47 (الرقم العام 2986)
- تَعَالَى -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} - إِلَى قَوْلِهِ: - {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ أَنْ يَسْمَعَهُ النَّاسُ وَيَرَوْهُ لِيُعَظِّمُوهُ وَتَعْلُوَ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُمْ حَصَلَ لَهُ مَا قَصَدَ، وَكَانَ ذَلِكَ جَزَاءَهُ عَلَى عَمَلِهِ ; وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَنْ سَمَّعَ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَأَذَاعَهَا أَظْهَرَ اللَّهُ عُيُوبَهُ وَسَمَّعَهُ الْمَكْرُوهَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَنْ نَسَبَ إِلَى نَفْسِهِ عَمَلًا صَالِحًا لَمْ يَفْعَلْهُ وَادَّعَى خَيْرًا لَمْ يَصْنَعْهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَفْضَحُهُ وَيُظْهِرُ كَذِبَهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَنْ يُرَائي النَّاسَ بِعَمَلِهِ أَرَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَحَرَمَهُ إِيَّاهُ، وقِيلَ: مَعْنَى سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ شَهَّرَهُ أَوْ مَلَأَ أَسْمَاعَ النَّاسِ بِسُوءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقِيَامَةِ بِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ خُبْثِ السَّرِيرَةِ.
قُلْتُ: وَرَدَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ التَّصْرِيحُ بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَالدَّارِمِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هِنْدٍ الدَّارِيِّ رَفَعَهُ مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ رَاءَى اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَمَّعَ بِهِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ بن مالك نحوه، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُومُ فِي الدُّنْيَا مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ إِلَّا سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ إِخْفَاءِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لَكِنْ قَدْ يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ عَلَى إِرَادَتِهِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، وَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يُسْتَثْنَى مِنِ اسْتِحْبَابِ إِخْفَاءِ الْعَمَلِ مَنْ يُظْهِرُهُ لِيُقْتَدَى بِهِ أَوْ لِيُنْتَفَعَ بِهِ كَكِتَابَةِ الْعِلْمِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ سَهْلٍ الْمَاضِي فِي الْجُمُعَةِ لِتَأْتَمُّوا بِي وَلْتَعْلَمُوا صَلَاتِي. قَالَ الطَّبَرِيُّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَتَهَجَّدُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَيَتَظَاهَرُونَ بِمَحَاسِنِ أَعْمَالِهِمْ لِيُقْتَدَى بِهِمْ. قَالَ: فَمَنْ كَانَ إِمَامًا يُسْتَنُّ بِعَمَلِهِ عَالِمًا بِمَا لِلَّهِ عَلَيْهِ قَاهِرًا لِشَيْطَانِهِ اسْتَوَى مَا ظَهَرَ مِنْ عَمَلِهِ وَمَا خَفِيَ؛ لِصِحَّةِ قَصْدِهِ، وَمَنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَالْإِخْفَاءُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى عَمَلُ السَّلَفِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقْرَأُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ، فَقَالَ: إِنَّهُ أَوَّابٌ، قَالَ: فَإِذَا هُوَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ.
وَمِنَ الثَّانِي حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُسْمِعْنِي وَأَسْمِعْ رَبَّكَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.
37 - بَاب مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ
6500 -
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ.
قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عز وجل يَعْنِي بَيَانَ فَضْلِ مَنْ جَاهَدَ، وَالْمُرَادُ بِالْمُجَاهَدَةِ كَفُّ النَّفْسِ
عَنْ إِرَادَتِهَا مِنَ الشَّغْلِ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ لِحَدِيثِ الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: جِهَادُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ هُوَ الْجِهَادُ الْأَكْمَلُ. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ * وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} الْآيَةَ. وَيَقَعُ بِمَنْعِ النَّفْسِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَبِمَنْعِهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَبِمَنْعِهَا مِنَ الْإِكْثَارِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ لِتَتَوَفَّرَ لَهَا فِي الْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَلِئَلَّا يَعْتَادَ الْإِكْثَارَ فَيَأْلَفَهُ فَيَجُرُّهُ إِلَى الشُّبُهَاتِ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ. وَنَقَلَ الْقُشَيْرِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ: مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بِدَايَتِهِ صَاحِبَ مُجَاهِدَةٍ لَمْ يَجِدْ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ شِمَّةً.
وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ بُجَيْدٍ: مَنْ كَرُمَ عَلَيْهِ دِينُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَصْلُ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ فَطْمُهَا عَنِ الْمَأْلُوفَاتِ، وَحَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ هَوَاهَا، وَلِلنَّفْسِ صِفَتَانِ: انْهِمَاكٌ فِي الشَّهَوَاتِ، وَامْتِنَاعٌ عَنِ الطَّاعَاتِ، فَالْمُجَاهَدَةُ تَقَعُ بِحَسَبِ ذَلِكَ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: جِهَادُ النَّفْسِ دَاخِلٌ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْأَعْدَاءَ ثَلَاثَةٌ: رَأْسُهُمُ الشَّيْطَانُ، ثُمَّ النَّفْسُ؛ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى اللَّذَّاتِ الْمُفْضِيَةِ بِصَاحِبِهَا إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ الَّذِي يُسْخِطُ الرَّبَّ، وَالشَّيْطَانُ هُوَ الْمُعِينُ لَهَا عَلَى ذَلِكَ وَيُزَيِّنُهُ لَهَا، فَمَنْ خَالَفَ هَوَى نَفْسِهِ قَمَعَ شَيْطَانَهُ، فَمُجَاهَدَتُهُ نَفْسَهُ حَمْلُهَا عَلَى اتِّبَاعِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَإِذَا قَوِيَ الْعَبْدُ عَلَى ذَلِكَ سَهُلَ عَلَيْهِ جِهَادُ أَعْدَاءِ الدِّينِ، فَالْأَوَّلُ الْجِهَادُ الْبَاطِنُ، وَالثَّانِي الْجِهَادُ الظَّاهِرُ، وَجِهَادُ النَّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: حَمْلُهَا عَلَى تَعَلُّمِ أُمُورِ الدِّينِ، ثُمَّ حَمْلُهَا عَلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ، ثُمَّ حَمْلُهَا عَلَى تَعْلِيمِ مَنْ لَا يَعْلَمُ، ثُمَّ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَقِتَالِ مَنْ خَالَفَ دِينَهُ وَجَحَدَ نِعَمَهُ. وَأَقْوَى الْمُعِينِ عَلَى جِهَادِ النَّفْسِ جِهَادُ الشَّيْطَانِ بِدَفْعِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِ مِنَ الشُّبْهَةِ وَالشَّكِّ، ثُمَّ تَحْسِينِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ مَا يُفْضِي الْإِكْثَارُ مِنْهُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ. وَتَمَامُ ذَلِكَ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا لِنَفْسِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ اسْتَهْوَاهُ شَيْطَانُهُ وَنَفْسُهُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ: هَمَّامٌ هُوَ ابْنُ يَحْيَى.
قَوْلُهُ: (أَنَسٌ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ) هَكَذَا رَوَاهُ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَمُقْتَضَاهُ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ مُعَاذٍ، وَخَالَفَهُ هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ: عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ - يَا مُعَاذُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَتْبَعَ رِوَايَةَ هِشَامٍ رِوَايَةَ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ ذَكَرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَنَسًا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: ذُكِرَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ حَمَلَهُ عَنْ مُعَاذٍ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَقَدْ أَشَرْتُ فِي شَرْحِهِ فِي الْعِلْمِ إِلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ حَمَلَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ، عَنْ مُعَاذٍ، أَوْ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ مُعَاذٍ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ رُجِّحَ لِي أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ وَإِنِ اتَّحَدَ مَخْرَجُهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ وَمَتْنُهُمَا فِي كَوْنِ مُعَاذٍ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلِاخْتِلَافِ فِيمَا وَرَدَا فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ فِي حَقِّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ وَحَقِّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ، وَالْمَاضِي فِيمَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَكَذَا رِوَايَةُ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَأَبِي رَزِينٍ، وَأَبِي الْعَوَّامِ كُلُّهُمْ عَنْ مُعَاذٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَرِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَنَحْوُهَا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ
مُعَاذٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ هِشَامٍ الَّتِي فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مُعَاذٍ نَحْوُ حَدِيثِ الْبَابِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَتَيْنَا مُعَاذًا فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا مِنْ غَرَائِبِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ اللِّبَاسِ قَبْلَ الْأَدَبِ بِبَابَيْنِ.
قَوْلُهُ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ لِلْبَعِيرِ كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ،
وَآخِرُة بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ هِيَ الْعُودُ الَّذِي يُجْعَلُ خَلْفَ الرَّاكِبِ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي شِدَّةِ قُرْبِهِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ سَامِعِهِ أَنَّهُ ضَبَطَ مَا رَوَاهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ هَدَّابِ بْنِ خَالِدٍ وَهُوَ هُدْبَةُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِسَنَدِهِ هَذَا مُؤْخَرَةُ بَدَلَ آخِرَةُ وَهِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُعَاذٍ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي الْجِهَادِ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنَمٍ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ يَعْفُورٌ رَسَنُهُ مِنْ لِيفٍ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِآخِرَةِ الرَّحْلِ مَوْضِعُ آخِرَةِ الرَّحْلِ لِلتَّصْرِيحِ هُنَا بِكَوْنِهِ كَانَ عَلَى حِمَارٍ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّوَوِيُّ، وَمَشَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَوَّامِ عِنْدَ أَحْمَدَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ وَلَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ.
قَوْلُهُ: فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
قَوْلُهُ: رَسُولَ اللَّهِ بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ وَحَرْف النِّدَاءِ مَحْذُوفٌ، وَوَقَعَ فِي الْعِلْمِ بِإِثْبَاتِهِ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ سَارَ سَاعَةً) فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْعِلْمِ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ يَا مُعَاذُ لَمْ يَقَعِ النِّدَاءُ الثَّانِي عَلَى الْفَوْرِ بَلْ بَعْدَ سَاعَةٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ثُمَّ قَالَ.
قَوْلُهُ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: قَالَ هَلْ تَدْرِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بَعْدَ قَوْلِهِ وَسَعْدَيْكَ الثَّانِيَةِ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرِي وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هَمَّامٍ الْمَاضِيَةِ فِي الِاسْتِئْذَانِ بَعْدَ الْمَرَّةِ الْأُولَى ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلَاثًا أَيِ النِّدَاءَ وَالْإِجَابَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُهُ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ لِتَأْكِيدِ الِاهْتِمَامِ بِمَا يُخْبِرُهُ بِهِ وَيُبَالِغُ فِي تَفَهُّمِهِ وَضَبْطِهِ.
قَوْلُهُ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ) الْحَقُّ كُلُّ مَوْجُودٍ مُتَحَقِّقٍ، أَوْ مَا سَيُوجَدُ لَا مَحَالَةَ، وَيُقَالُ لِلْكَلَامِ الصِّدْقِ حَقٌّ لِأَنَّ وُقُوعَهُ مُتَحَقِّقٌ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَكَذَا الْحَقُّ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى الْغَيْرِ إِذَا كَانَ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِمَّا جَعَلَهُ مُحَتَّمًا عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ التَّيْمِيِّ فِي التَّحْرِيرِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ هُوَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَأَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ بِخِطَابِهِ.
قَوْلُهُ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ عَمَلُ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَعَاصِي، وَعَطَفَ عَلَيْهَا عَدَمَ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ تَمَامُ التَّوْحِيدِ، وَالْحِكْمَةُ فِي عَطْفِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ أَنَّ بَعْضَ الْكَفَرَةِ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ آلِهَةً أُخْرَى، فَاشْتَرَطَ نَفْيَ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ: يَعْبُدُونَهُ فِي حَالِ عَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِهِ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ عِبَادَةُ اللَّهِ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْجَوَابِ فَمَا حَقُّ الْعِبَادِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَعَبَّرَ بِالْفِعْلِ وَلَمْ يُعَبِّرْ بِالْقَوْلِ.
قَوْلُهُ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟ الضَّمِيرُ لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ. فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا يُعَذِّبَهُمْ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَوَّامِ مِثْلُهُ وَزَادَ وَيَغْفِرَ لَهُمْ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ أَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ، فَحُقَّ ذَلِكَ، وَوَجَبَ بِحُكْمِ وَعْدِهِ الصِّدْقِ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي الْخَبَرِ وَلَا الْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ، فَاللَّهُ سبحانه وتعالى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِحُكْمِ الْأَمْرِ، إِذْ لَا آمِرَ فَوْقَهُ وَلَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ لِأَنَّهُ كَاشِفٌ لَا مُوجِبٌ انْتَهَى. وَتَمَسَّكَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِظَاهِرِهِ، وَلَا مُتَمَسَّكَ لَهُمْ فِيهِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ غَيْرُ هَذِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ هُنَا الْمُتَحَقِّقُ الثَّابِتُ، أَوِ الْجَدِيرُ، لِأَنَّ إِحْسَانَ الرَّبِّ لِمَنْ لَمْ يَتَّخِذْ رَبًّا سِوَاهُ جَدِيرٌ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَالْوَاجِبِ فِي تَحَقُّقِهِ وَتَأَكُّدِهِ،
أَوْ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ.
قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ رُكُوبِ اثْنَيْنِ عَلَى حِمَارٍ، وَفِيهِ تَوَاضُعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفَضْلُ مُعَاذٍ وَحُسْنُ أَدَبِهِ فِي الْقَوْلِ وَفِي الْعِلْمِ بِرَدِّهِ لِمَا لَمْ يُحِطْ بِحَقِيقَتِهِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقُرْبِ مَنْزِلَتِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ تَكْرَارُ الْكَلَامِ لِتَأْكِيدِهِ وَتَفْهِيمِهِ، وَاسْتِفْسَارُ الشَّيْخِ تِلْمِيذَهُ عَنِ الْحُكْمِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُ وَيُبَيِّنَ لَهُ مَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي شَرْحِهِ لِأَوَائِلِ الْبُخَارِيِّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُؤْخَذُ مِنْ مَنْعِ مُعَاذٍ مِنْ تَبْشِيرِ النَّاسِ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا أَنَّ أَحَادِيثَ الرُّخَصِ لَا تُشَاعُ فِي عُمُومِ النَّاسِ، لِئَلَّا يَقْصُرَ فَهْمُهُمْ عَنِ الْمُرَادِ بِهَا، وَقَدْ سَمِعَهَا مُعَاذٌ فَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا اجْتِهَادًا فِي الْعَمَلِ وَخَشْيَةً لِلَّهِ عز وجل، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يُقَصِّرَ اتِّكَالًا عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ.
وَقَدْ عَارَضَهُ مَا تَوَاتَرَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ، فَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ سَلَكُوا فِي ذَلِكَ مَسَالِكَ أَحَدُهَا: قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: إِنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ عَنْهُ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ فِي الْوُضُوءِ، وَاسْتَبْعَدَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَدْخُلُ الْخَبَرَ، وَبِأَنَّ سَمَاعَ مُعَاذٍ لِهَذِهِ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ أَكْثَرِ نُزُولِ الْفَرَائِضِ. وَقِيلَ: لَا نَسْخَ، بَلْ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرَائِطَ كَمَا تُرَتَّبُ الْأَحْكَامُ عَلَى أَسْبَابِهَا الْمُقْتَضِيَةِ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ، فَإِذَا تَكَامَلَ ذَلِكَ عَمِلَ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ بِقَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ فِي شَرْحِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ: لَيْسَ مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَرْكُ دُخُولِ نَارِ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: تَرْكُ تَعْذِيبِ جَمِيعِ بَدَنِ الْمُوَحِّدِينَ، لِأَنَّ النَّارَ لَا تَحْرِقُ مَوَاضِعَ السُّجُودِ. وَقِيلَ: لَيْسَ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ وَحَّدَ وَعَبَدَ، بَلْ يَخْتَصُّ بِمَنْ أَخْلَصَ، وَالْإِخْلَاصُ يَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْقَلْبِ بِمَعْنَاهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُ التَّحْقِيقِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِامْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَخَشْيَتِهِ، فَتَنْبَعِثُ الْجَوَارِحُ إِلَى الطَّاعَةِ وَتَنْكَفُّ عَنِ الْمَعْصِيَةِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَفِي آخِرِ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ مُعَاذٍ فِي نَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقُلْتُ: أَلَا أُخْبِرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا، لِئَلَّا يَتَّكِلُوا. فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.
(تَنْبِيهٌ) هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ قَلِيلَةٌ فِي كِتَابِهِ جِدًّا، وَلَكِنَّهُ أَضَافَ إِلَيْهِ فِي الِاسْتِئْذَانِ مُوسَى بْنَ إِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ تَتَبَّعَ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ مَا أَخْرَجَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ بِسَنَدٍ فَبَلَغَ عِدَّتُهَا زِيَادَةً عَلَى الْعِشْرِينَ، وَفِي بَعْضِهَا يَتَصَرَّفُ فِي الْمَتْنِ بِالِاخْتِصَارِ مِنْهُ.
38 - بَاب التَّوَاضُعِ
6501 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قال: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةٌ. . . ح. قال: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ، وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ، وَكَانَتْ لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: سُبِقَتْ الْعَضْبَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ.
6502 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ
آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُه عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَ بي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ.
قَوْلُهُ: بَابُ التَّوَاضُعِ بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الضِّعَةِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهِيَ الْهَوَانُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّوَاضُعِ إِظْهَارُ التَّنَزُّلِ عَنِ الْمَرْتَبَةِ لِمَنْ يُرَادُ تَعْظِيمُهُ. وَقِيلَ: هُوَ تَعْظِيمُ مَنْ فَوْقَهُ لِفَضْلِهِ. وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا:
حَدِيثُ أَنَسٍ فِي ذِكْرِ النَّاقَةِ لَمَّا سُبِقَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ فِي بَابِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَغَفَلَ عَمَّا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْءٌ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى الْحَثِّ عَلَى عَدَمِ التَّرَفُّعِ، وَالْحَثِّ عَلَى التَّوَاضُعِ، وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّ أُمُورَ الدُّنْيَا نَاقِصَةٌ غَيْرُ كَامِلَةٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ هَوَانُ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى تَرْكِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَانَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الضِّعَةِ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ أَنْ يَزْهَدَ فِيهِ وَيُقِلَّ مُنَافَسَتَهُ فِي طَلَبِهِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي التَّوَاضُعِ مَصْلَحَةُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَإِنَّ النَّاسَ لَوِ اسْتَعْمَلُوهُ فِي الدُّنْيَا لَزَالَتْ بَيْنَهُمُ الشَّحْنَاءُ، وَلَاسْتَرَاحُوا مِنْ تَعَبِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَيْضًا حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَوَاضُعُهُ لِكَوْنِهِ رَضِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا يُسَابِقُهُ، وَفِيهِ جَوَازُ الْمُسَابَقَةِ. وَزُهَيْرٌ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْجُعْفِيُّ ; وَمُحَمَّدٌ فِي السَّنَدِ الثَّانِي هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَجَزَمَ بِهِ الْكَلَابَاذِيُّ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْفَزَارِيُّ هُوَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، نَعَمْ رِوَايَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ لَهُ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْجِهَادِ، وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالرَّاءِ الْخَفِيفَةِ هُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ شَارَكَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ مِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ شَيْخُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ كَثِيرًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مِنْهَا فِي بَابِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْجُبْنِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ، وَهُوَ أَقْرَبُهَا إِلَى هَذَا.
قَوْلُهُ: عَنْ عَطَاءٍ هُوَ ابْنُ يَسَارٍ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّسْخِ، وَقِيلَ: هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْخَطِيبُ، وَسَاقَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ خَالِدٍ مِنَ الْمِيزَانِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ فِيهِ: لَهُ مَنَاكِيرُ، وَقَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ مِنْ حَدِيثِهِ اسْتَنْكَرَهَا: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا لَوْلَا هَيْبَةُ الصَّحِيحِ لَعَدُّوهُ فِي مُنْكَرَاتِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، فَإِنَّ هَذَا الْمَتْنَ لَمْ يُرْوَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَا خَرَّجَهُ مَنْ عَدَا الْبُخَارِيَّ، وَلَا أَظُنُّهُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ.
قُلْتُ: لَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ جَزْمًا، وَإِطْلَاقُ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ هَذَا الْمَتْنُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَرْدُودٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَشَرِيكٌ شَيْخُ شَيْخِ خَالِدٍ فِيهِ مَقَالٌ أَيْضًا، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ الَّذِي زَادَ فِيهِ وَنَقَصَ وَقَدَّمَ وَأَخَّرَ، وَتَفَرَّدَ فِيهِ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا كَمَا يَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ مُسْتَوْعَبًا فِي مَكَانِهِ، وَلَكِنْ لِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنْ لَهُ أَصْلًا، مِنْهَا عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْهَا، وَذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ عَدِيٍّ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ إِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، لَكِنْ
أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُرْوَةَ وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عُرْوَةَ إِلَّا يَعْقُوبُ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ. وَمِنْهَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
وَمِنْهَا عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي مُسْنَدِ عَلِيٍّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَسَنَدُهُمَا ضَعِيفٌ، وَعَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ أَيْضًا، وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مُخْتَصَرًا وَسَنَدُهُ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مُخْتَصَرًا وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَقْطُوعًا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى ابْنِ حِبَّانَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ إِخْرَاجِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يُعْرَفُ لِهَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا طَرِيقَانِ، يَعْنِي غَيْرَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَهُمَا هِشَامٌ الْكِنَانِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ.
قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى -) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا قَبْلَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ بِهِ عَنْ جِبْرِيلَ عَنِ اللَّهِ عز وجل، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: مِنْ عَادَى لِي وَلِيًّا) الْمُرَادُ بِوَلِيِّ اللَّهِ الْعَالِمُ بِاللَّهِ الْمُوَاظِبُ عَلَى طَاعَتِهِ الْمُخْلِصُ فِي عِبَادَتِهِ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ وُجُودُ أَحَدٍ يُعَادِيهِ، لِأَنَّ الْمُعَادَاةَ إِنَّمَا تَقَعُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَمَنْ شَأْنِ الْوَلِيِّ الْحِلْمُ وَالصَّفْحُ عَمَّنْ يَجْهَلُ عَلَيْهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعَادَاةَ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي الْخُصُومَةِ وَالْمُعَامَلَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَثَلًا، بَلْ قَدْ تَقَعُ عَنْ بُغْضٍ يَنْشَأُ عَنِ التَّعَصُّبِ، كَالرَّافِضِيِّ فِي بُغْضِهِ لِأَبِي بَكْرٍ، وَالْمُبْتَدِعِ فِي بُغْضِهِ لِلسُّنِّيِّ، فَتَقَعُ الْمُعَادَاةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، أَمَّا مِنْ جَانِبِ الْوَلِيِّ فَلِلَّهِ - تَعَالَى - وَفِي اللَّهِ، وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْآخَرِ فَلِمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا الْفَاسِقُ الْمُتَجَاهِرُ بِبُغْضِهِ الْوَلِيَّ فِي اللَّهِ، وَبِبُغْضِهِ الْآخَرَ لِإِنْكَارِهِ عَلَيْهِ وَمُلَازَمَتِهِ لِنَهْيِهِ عَنْ شَهَوَاتِهِ.
وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُعَادَاةُ وَيُرَادُ بِهَا الْوُقُوعُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْفِعْلِ وَمِنَ الْآخَرِ بِالْقُوَّةِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: لِي هُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِقولِهِ: وَلِيًّا لَكِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ صَارَ حَالًا. وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي الْإِفْصَاحِ قَوْلُهُ: عَادَى لِي وَلِيًّا أَيِ اتَّخَذَهُ عَدُوًّا، وَلَا أَرَى الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّهُ عَادَاهُ مِنْ أَجْلِ وِلَايَتِهِ، وَهُوَ وإِنْ تَضَمَّنَ التَّحْذِيرَ مِنْ إِيذَاءِ قُلُوبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا إِذَا كَانَتِ الْحَالُ تَقْتَضِي نِزَاعًا بَيْنَ وَلِيَّيْنِ فِي مُخَاصَمَةٍ أَوْ مُحَاكَمَةٍ تَرْجِعُ إِلَى اسْتِخْرَاجِ حَقٍّ أَوْ كَشْفِ غَامِضٍ، فَإِنَّهُ جَرَى بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ مُشَاجَرَةٌ وَبَيْنَ الْعَبَّاسِ، وَعَلِيٍّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ انْتَهَى مُلَخَّصًا مُوَضَّحًا. وَتَعَقَّبَهُ الْفَاكِهَانِيُّ بِأَنَّ مُعَادَاةَ الْوَلِيِّ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا لَا يُفْهَمُ إِلَّا إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْحَسَدِ الَّذِي هُوَ تَمَنِّي زَوَالِ وِلَايَتِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا فِي حَقِّ الْوَلِيِّ فَتَأَمَّلْهُ. قُلْتُ: وَالَّذِي قَدَّمْتُهُ أَوْلَى أَنْ يُعْتَمَدَ. قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَقْدِيمُ الْإِعْذَارِ عَلَى الْإِنْذَارِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ: فَقَدْ آذَنْتُهُ) بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا نُونٌ أَيْ أَعْلَمْتُهُ، وَالْإِيذَانُ الْإِعْلَامُ، وَمِنْهُ أُخِذَ الْأَذَانُ.
قَوْلُهُ: (بِالْحَرْبِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِحَرْبٍ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا وَفِي أُخْرَى لَهُ مَنْ آذَى وَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ مِثْلُهُ فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَوْقُوفًا قَالَ اللَّهُ: مَنْ أَهَانَ وَلِيِّي الْمُؤْمِنَ فَقَدِ اسْتَقْبَلَنِي بِالْمُحَارَبَةِ. وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَأَنَسٍ فَقَدْ بَارَزَنِي وَقَدِ اسْتُشْكِلَ وُقُوعُ الْمُحَارَبَةِ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، مَعَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ فِي أَسْرِ الْخَالِقِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مِنَ الْمُخَاطَبَةِ بِمَا يُفْهَمُ، فَإِنَّ الْحَرْبَ تَنْشَأُ عَنِ الْعَدَاوَةِ، وَالْعَدَاوَةُ تَنْشَأُ عَنِ الْمُخَالَفَةِ، وَغَايَةُ الْحَرْبِ الْهَلَاكُ، وَاللَّهُ لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى فَقَدْ تَعَرَّضَ لِإِهْلَاكِي إِيَّاهُ. فَأَطْلَقَ الْحَرْبَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ أَيْ أَعْمَلُ بِهِ مَا يَعْمَلُهُ الْعَدُوُّ الْمُحَارَبُ.
قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: فِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ أَهْلَكَهُ، وَهُوَ مِنَ
الْمَجَازِ الْبَلِيغِ، لِأَنَّ مَنْ كَرِهَ مَنْ أَحَبَّ اللَّهُ خَالَفَ اللَّهَ، وَمَنْ خَالَفَ اللَّهَ عَانَدَهُ، وَمَنْ عَانَدَهُ أَهْلَكَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي جَانِبِ الْمُعَادَاةِ ثَبَتَ فِي جَانِبِ الْمُوَالَاةِ، فَمَنْ وَالَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ الطُّوفِيُّ: لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ مَنْ تَوَلَّى اللَّهَ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى تَوَلَّاهُ اللَّهُ بِالْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّ عَدُوَّ الْعَدُوِّ صِدِّيقٌ، وَصِدِّيقَ الْعَدُوِّ عَدُوٌّ، فَعَدُوُّ وَلِيِّ اللَّهِ عَدُوُّ اللَّهِ فَمَنْ عَادَاهُ كَانَ كَمَنْ حَارَبَهُ، وَمَنْ حَارَبَهُ فَكَأَنَّمَا حَارَبَ اللَّهَ.
قَوْلُهُ: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ يَجُوزُ فِي أَحَبَّ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ جَمِيعُ فَرَائِضِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ، وَظَاهِرُهُ الِاخْتِصَاصُ بِمَا ابْتَدَأَ اللَّهُ فَرْضِيَّتَهُ، وَفِي دُخُولِ مَا أَوْجَبَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ نَظَرٌ لِلتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، قَالَ الطُّوفِيُّ: الْأَمْرُ بِالْفَرَائِضِ جَازِمٌ وَيَقَعُ بِتَرْكِهَا الْمُعَاقَبَةُ، بِخِلَافِ النَّفْلِ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَإِنِ اشْتَرَكَ مَعَ الْفَرَائِضِ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ فَكَانَتِ الْفَرَائِضُ أَكْمَلَ، فَلِهَذَا كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَشَدَّ تَقْرِيبًا، وَأَيْضًا فَالْفَرْضُ كَالْأَصْلِ وَالْأُسِّ، وَالنَّفْلُ كَالْفَرْعِ وَالْبِنَاءِ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاحْتِرَامُ الْآمِرِ وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ، فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَلِ، وَالَّذِي يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ قَدْ يَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَمُؤَدِّي النَّفْلِ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا إِيثَارًا لِلْخِدْمَةِ، فَيُجَازَى بِالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ مَطْلُوبِ مَنْ يَتَقَرَّبُ بِخِدْمَتِهِ.
قَوْلُهُ: وَمَا زَالَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَمَا يَزَالُ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ.
قَوْلُهُ: يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ التَّقَرُّبُ طَلَبُ الْقُرْبِ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: قُرْبُ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ يَقَعُ أَوَّلًا بِإِيمَانِهِ ثُمَّ بِإِحْسَانِهِ، وَقُرْبُ الرَّبِّ مِنْ عَبْدِهِ مَا يَخُصُّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِرْفَانِهِ وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ رِضْوَانِهِ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ لُطْفِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَلَا يَتِمُّ قُرْبُ الْعَبْدِ مِنَ الْحَقِّ إِلَّا بِبَعْدِهِ مِنَ الْخَلْقِ. قَالَ: وَقُرْبُ الرَّبِّ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَامٌّ لِلنَّاسِ، وَبِاللُّطْفِ وَالنُّصْرَةِ خَاصٌّ بِالْخَوَاصِّ، وَبِالتَّأْنِيسِ خَاصٌّ بِالْأَوْلِيَاءِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ يَتَحَبَّبُ إِلَيَّ بَدَلَ يَتَقَرَّبُ وَكَذَا فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ.
قَوْلُهُ: بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحْبَبْتُهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أُحِبَّهُ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ - تَعَالَى - لِلْعَبْدِ تَقَعُ بِمُلَازَمَةِ الْعَبْدِ التَّقَرُّبَ بِالنَّوَافِلِ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ بِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا أَنَّ الْفَرَائِضَ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَرَّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ، فَكَيْفَ لَا تُنْتِجُ الْمَحَبَّةَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّوَافِلِ مَا كَانَتْ حَاوِيَةً لِلْفَرَائِضِ مُشْتَمِلَةً عَلَيْهَا وَمُكَمِّلَةً لَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ: ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَ مَا عِنْدِي إِلَّا بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكَ. وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِذَا أَدَّى الْفَرَائِضَ وَدَامَ عَلَى إِتْيَانِ النَّوَافِلِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِهِمَا أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ مَا تَقْرَبَ إِلَخْ أَنَّ النَّافِلَةَ لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْفَرِيضَةِ، لِأَنَّ النَّافِلَةَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً لِأَنَّهَا تَأْتِي زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ، فَمَا لَمْ تُؤَدَّ الْفَرِيضَةُ لَا تَحْصُلُ النَّافِلَةُ، وَمَنْ أَدَّى الْفَرْضَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ النَّفْلَ وَأَدَامَ ذَلِكَ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ انْتَهَى.
وَأَيْضًا فَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ التَّقَرُّبَ يَكُونُ غَالِبًا بِغَيْرِ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَقَرِّبِ كَالْهَدِيَّةِ وَالتُّحْفَةِ، بِخِلَافِ مَنْ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا شُرِعَتْ لَهُ النَّوَافِلُ جَبْرُ الْفَرَائِضِ، كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتَكْمُلُ بِهِ فَرِيضَتُهُ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ أَنْ تَقَعَ مِمَّنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ لَا مَنْ أَخَلَّ بِهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: مَنْ شَغَلَهُ الْفَرْضُ عَنِ النَّفْلِ فَهُوَ مَعْذُورٌ، وَمَنْ شَغَلَهُ النَّفْلُ عَنِ الْفَرْضِ فَهُوَ مَغْرُورٌ.
قَوْلُهُ: فَكُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ بِهِ
قَوْلُهُ: وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَيْنَهُ الَّتِي يُبْصِرُ بِهَا
وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ عَيْنَيْهِ الَّتِي يُبْصِرُ بِهِمَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَكَذَا قَالَ فِي الْأُذُنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَزَادَ عَبْدُ الْوَاحِدِ فِي رِوَايَتِهِ وَفُؤَادَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: وَمَنْ أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ كَيْفَ يَكُونُ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا سَمْعَ الْعَبْدِ وَبَصَرَهُ إِلَخْ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَالْمَعْنَى كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فِي إِيثَارِهِ أَمْرِي، فَهُوَ يُحِبُّ طَاعَتِي وَيُؤْثِرُ خِدْمَتِي كَمَا يُحِبُّ هَذِهِ الْجَوَارِحَ. ثَانِيهَا أَنَّ الْمَعْنَى كُلِّيَّتَهُ مَشْغُولَةٌ بِي فَلَا يُصْغِي بِسَمْعِهِ إِلَّا إِلَى مَا يُرْضِينِي، وَلَا يَرَى بِبَصَرِهِ إِلَّا مَا أَمَرْتُهُ بِهِ. ثَالِثُهَا الْمَعْنَى أُحَصِّلُ لَهُ مَقَاصِدَهُ كَأَنَّهُ يَنَالُهَا بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ إِلَخْ. رَابِعُهَا كُنْتُ لَهُ فِي النُّصْرَةِ كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ فِي الْمُعَاوَنَةِ عَلَى عَدُوِّهِ. خَامِسُهَا قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ، وَسَبَقَهُ إِلَى مَعْنَاهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ: هُوَ فِيمَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَالتَّقْدِيرُ: كُنْتُ حَافِظَ سَمْعِهِ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يَحِلُّ اسْتِمَاعُهُ، وَحَافِظُ بَصَرِهِ كَذَلِكَ إِلَخْ.
سَادِسُهَا قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: يَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ أَدَقَّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى سَمْعِهِ مَسْمُوعَهُ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، مِثْلُ فُلَانٌ أَمَلِي بِمَعْنَى مَأْمُولِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ إِلَّا ذِكْرِي، وَلَا يَلْتَذُّ إِلَّا بِتِلَاوَةِ كِتَابِي، وَلَا يَأْنَسُ إِلَّا بِمُنَاجَاتِي، وَلَا يَنْظُرُ إِلَّا فِي عَجَائِبِ مَلَكُوتِي، وَلَا يَمُدُّ يَدَهُ إِلَّا فِيمَا فِيهِ رِضَايَ، وَرِجْلَهُ كَذَلِكَ، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أَيْضًا، وَقَالَ الطُّوفِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ أَنَّ هَذَا مَجَازٌ وَكِنَايَةٌ عَنْ نُصْرَةِ الْعَبْدِ وَتَأْيِيدِهِ وَإِعَانَتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الْآلَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ: فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي.
قَالَ: وَالِاتِّحَادِيَّةُ زَعَمُوا أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ الْحَقَّ عَيْنُ الْعَبْدِ، وَاحْتَجُّوا بِمَجِيءِ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ، قَالُوا: فَهُوَ رُوحَانِيٌّ خَلَعَ صُورَتَهُ وَظَهَرَ بِمَظْهَرِ الْبَشَرِ، قَالُوا: فَاللَّهُ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ فِي صُورَةِ الْوُجُودِ الْكُلِّيِّ أَوْ بَعْضِهِ - تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ أَمْثَالٌ، وَالْمَعْنَى تَوْفِيقُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَتَيْسِيرُ الْمَحَبَّةِ لَهُ فِيهَا بِأَنْ يَحْفَظَ جَوَارِحَهُ عَلَيْهِ وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَةِ مَا يَكْرَهُ اللَّهُ، مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى اللَّهْوِ بِسَمْعِهِ، وَمِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ بِبَصَرِهِ، وَمِنَ الْبَطْشِ فِيمَا لَا يَحِلُّ لَهُ بِيَدِهِ، وَمِنَ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ، وَإِلَى هَذَا نَحَا الدَّاوُدِيُّ، وَمِثْلُهُ الْكَلَابَاذِيُّ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: أَحْفَظُهُ فَلَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا فِي مَحَابِّي، لِأَنَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَكْرَهُهُ مِنْهُ.
سَابِعُهَا: قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا: وَقَدْ يَكُونُ عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنْ سُرْعَةِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَالنُّجْحِ فِي الطَّلَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسَاعِيَ الْإِنْسَانِ كُلَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ مُنْتَزَعٌ مِمَّا تَقَدَّمَ: لَا يَتَحَرَّكُ لَهُ جَارِحَةٌ إِلَّا فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ، فَهِيَ كُلُّهَا تَعْمَلُ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ. وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْجِيزِيِّ، أَحَدِ أَئِمَّةِ الطَّرِيقِ، قَالَ: مَعْنَاهُ كُنْتُ أَسْرَعَ إِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ مِنْ سَمْعِهِ فِي الْأَسْمَاعِ، وَعَيْنِهِ فِي النَّظَرِ، وَيَدِهِ فِي اللَّمْسِ، وَرِجْلِهِ فِي الْمَشْيِ.
وَحَمَلَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّةِ عَلَى مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَقَامِ الْفِنَاءِ وَالْمَحْوِ، وَأَنَّهُ الْغَايَةُ الَّتِي لَا شَيْءَ وَرَاءَهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِإِقَامَةِ اللَّهِ لَهُ مُحِبًّا بِمَحَبَّتِهِ لَهُ نَاظِرًا بِنَظَرِهِ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَبْقَى مَعَهُ بَقِيَّةٌ تُنَاطُ بِاسْمٍ أَوْ تَقِفُ عَلَى رَسْمٍ أَوْ تَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ أَوْ تُوصَفُ بِوَصْفٍ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَشْهَدُ إِقَامَةَ اللَّهِ لَهُ حَتَّى قَامَ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ حَتَّى أَحَبَّهُ وَنَظَرَهُ إِلَى عَبْدِهِ حَتَّى أَقْبَلَ نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الزَّيْغِ عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَازَمَ الْعِبَادَةَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ حَتَّى يُصَفَّى مِنَ الْكُدُورَاتِ أَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْحَقِّ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَفْنَى عَنْ نَفْسِهِ جُمْلَةً حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الذَّاكِرُ لِنَفْسِهِ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ الْمُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ وَالرُّسُومَ تَصِيرُ عَدَمًا صَرْفًا فِي شُهُودِهِ، وَإِنْ لَمْ تُعْدَمْ فِي الْخَارِجِ، وَعَلَى الْأَوْجُهِ كُلِّهَا فَلَا مُتَمَسَّكَ فِيهِ
لِلِاتِّحَادِيَّةِ، وَلَا الْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ لِقولِهِ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: وَلَئِنْ سَأَلَنِي، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: وَإِنْ سَأَلَنِي) زَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَبْدِي.
قَوْلُهُ: أَعْطَيْتُهُ أَيْ مَا سَأَلَ.
قَوْلُهُ: وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي ضَبَطْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ الْأَشْهَرُ بِالنُّونِ بَعْدَ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَالثَّانِي بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمَعْنَى أَعَذْتُهُ مِمَّا يَخَافُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَإِذَا اسْتَنْصَرَ بِي نَصَرْتُهُ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ نَصَحَنِي فَنَصَحْتُ لَهُ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّوَافِلِ جَمِيعُ مَا يُنْدَبُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْمَذْكُورِ: وَأَحَبُّ عِبَادَةِ عَبْدِي إِلَيَّ النَّصِيحَةُ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعُبَّادِ وَالصُّلَحَاءِ دَعَوْا وَبَالَغُوا وَلَمْ يُجَابُوا، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِجَابَةَ تَتَنَوَّعُ، فَتَارَةً يَقَعُ الْمَطْلُوبُ بِعَيْنِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَتَارَةً يَقَعُ، وَلَكِنْ يَتَأَخَّرُ لِحِكْمَةٍ فِيهِ وَتَارَةً قَدْ تَقَعُ الْإِجَابَةُ، وَلَكِنْ بِغَيْرِ عَيْنِ الْمَطْلُوبِ حَيْثُ لَا يَكُونُ فِي الْمَطْلُوبِ مَصْلَحَةٌ نَاجِزَةٌ، وَفِي الْوَاقِعِ مَصْلَحَةٌ نَاجِزَةٌ أَوْ أَصْلَحُ مِنْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ عِظَمُ قَدْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْمُنَاجَاةِ وَالْقُرْبَةِ وَلَا وَاسِطَةَ فِيهَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَلَا شَيْءَ أَقَرَّ لَعَيْنِ الْعَبْدِ مِنْهَا، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَرْفُوعِ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَمَنْ كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَوَدُّ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ وَلَا يَخْرُجَ مِنْهُ، لِأَنَّ فِيهِ نَعِيمَهُ وَبِهِ تَطِيبُ حَيَاتُهُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْعَابِدِ بِالْمُصَابَرَةِ عَلَى النَّصَبِ، فَإِنَّ السَّالِكَ غَرَضُ الْآفَاتِ وَالْفُتُورِ.
وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ: وَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِي وَأَصْفِيَائِي، وَيَكُونُ جَارِي مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنْ أَهْلِ التَّجَلِّي وَالرِّيَاضَةِ فَقَالُوا: الْقَلْبُ إِذَا كَانَ مَحْفُوظًا مَعَ اللَّهِ كَانَتْ خَوَاطِرُهُ مَعْصُومَةً مِنَ الْخَطَأِ، وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ فَقَالُوا: لَا يُلْتَفَتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَالْعِصْمَةُ إِنَّمَا هِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ عَدَاهُمْ فَقَدْ يُخْطِئُ، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه رَأْسَ الْمُلْهَمِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ رُبَّمَا رَأَى الرَّأْيَ فَيُخْبِرُهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ وَيَتْرُكُ رَأْيَهُ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِمَا يَقَعُ فِي خَاطِرِهِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام فَقَدِ ارْتَكَبَ أَعْظَمَ الْخَطَإِ، وَأَمَّا مَنْ بَالَغَ مِنْهُمْ فَقَالَ: حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي فَإِنَّهُ أَشَدُّ خَطَأً، فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ إِنَّمَا حَدَّثَهُ عَنِ الشَّيْطَانِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الطُّوفِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ وَالْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَرِيقِهِ، إِذِ الْمُفْتَرَضَاتُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالظَّاهِرَةُ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِحْسَانُ فِيهِمَا كَمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ جِبْرِيلَ، وَالْإِحْسَانُ يَتَضَمَّنُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ مِنَ الزُّهْدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَغَيْرِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَتَقَرَّبَ بِالنَّوَافِلِ لَمْ يُرَدَّ دُعَاؤُهُ لِوُجُودِ هَذَا الْوَعْدِ الصَّادِقِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَسَمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَمَّا يَتَخَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ وَلَوْ بَلَغَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ حَتَّى يَكُونَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ لَا يَنْقَطِعُ عَنِ الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُضُوعِ لَهُ وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا وَاضِحًا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.
قَوْلُهُ: وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ تَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِهِ وَوَقَعَ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ إِنِّي لَأَجِدُ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ إِلَخْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: التَّرَدُّدُ فِي حَقِّ اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْبَدَاءُ عَلَيْهِ فِي الْأُمُورِ غَيْرُ سَائِغٍ، وَلَكِنْ لَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُشْرِفُ عَلَى الْهَلَاكِ فِي أَيَّامِ عُمُرِهِ مِنْ دَاءٍ يُصِيبُهُ وَفَاقَةٍ تَنْزِلُ بِهِ، فَيَدْعُو اللَّهَ فَيَشْفِيهِ مِنْهَا وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَكْرُوهَهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ كَتَرَدُّدِ مَنْ يُرِيدُ أَمْرًا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فِيهِ فَيَتْرُكُهُ وَيُعْرِضُ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ لِقَائِهِ إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ الْفَنَاءَ عَلَى خَلْقِهِ،
وَاسْتَأْثَرَ بِالْبَقَاءِ لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا رَدَدْتُ رُسُلِي فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرْدِيدِي إِيَّاهُمْ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، كَمَا رَوي فِي قِصَّةِ مُوسَى وَمَا كَانَ مِنْ لَطْمَةِ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَتَرَدُّدِهِ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَالَ: وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ عَطْفُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ وَلُطْفُهُ بِهِ وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْكَلَابَاذِيُّ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ صِفَةِ الْفِعْلِ بِصِفَةِ الذَّاتِ، أَيْ عَنِ التَّرْدِيدِ بِالتَّرَدُّدِ، وَجَعَلَ مُتَعَلَّقَ التَّرْدِيدِ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْعَبْدِ مِنْ ضَعْفٍ وَنَصَبٍ إِلَى أَنْ تَنْتَقِلَ مَحَبَّتُهُ فِي الْحَيَاةِ إِلَى مَحَبَّتِهِ لِلْمَوْتِ فَيُقْبَضُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: وَقَدْ يُحْدِثُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ مِنَ الرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ وَالْمَحَبَّةِ لِلِقَائِهِ مَا يَشْتَاقُ مَعَهُ إِلَى الْمَوْتِ، فَضْلًا عَنْ إِزَالَةِ الْكَرَاهَةِ عَنْهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَيَسُوءُهُ، وَيَكْرَهُ اللَّهُ مُسَاءَتَهُ فَيُزِيلُ عَنْهُ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ لِمَا يُورِدُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ وَهُوَ لَهُ مُؤْثِرٌ وَإِلَيْهِ مُشْتَاقٌ. قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ تَفَعَّلَ بِمَعْنَى فَعَلَ مِثْلَ تَفَكَّرَ وَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ وَدَبَّرَ وَتَهَدَّدَ وَهَدَّدَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكِيبُ الْوَلِيِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعِيشَ خَمْسِينَ سَنَةً وَعُمُرُهُ الَّذِي كُتِبَ لَهُ سَبْعُونَ، فَإِذَا بَلَغَهَا فَمَرِضَ دَعَا اللَّهَ بِالْعَافِيَةِ فَيُحْيِيهِ عِشْرِينَ أُخْرَى مَثَلًا، فَعَبَّرَ عَنْ قَدْرِ التَّرْكِيبِ وَعَمًّا انْتَهَى إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَجَلِ الْمَكْتُوبِ بِالتَّرَدُّدِ. وَعَبَّرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ التَّرَدُّدَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ الرُّوحَ، وَأَضَافَ الْحَقُّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ تَرَدُّدَهُمْ عَنْ أَمْرِهِ. قَالَ: وَهَذَا التَّرَدُّدُ يَنْشَأُ عَنْ إِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أُمِرَ الْمَلَكُ بِالْقَبْضِ كَيْفَ يَقَعُ مِنْهُ التَّرَدُّدُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ فِيمَا لم يُحَدُّ لَهُ فِيهِ الْوَقْتُ.
كَأَنْ يُقَالَ: لَا تَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا إِذَا رَضِيَ، ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَالِثًا: وَهُوَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّرَدُّدِ اللُّطْفَ بِهِ، كَأَنَّ الْمَلَكَ يُؤَخِّرُ الْقَبْضَ، فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى قَدْرِ الْمُؤْمِنِ وَعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا احْتَرَمَهُ فَلَمْ يَبْسُطْ يَدَهُ إِلَيْهِ، فَإِذَا ذَكَرَ أَمْرَ رَبِّهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنِ امْتِثَالِهِ.
وَجَوَابًا رَابِعًا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لَنَا بِمَا نَعْقِلُ، وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. فَكَمَا أَنَّ أَحَدَنَا يُرِيدُ أَنْ يَضْرِبَ وَلَدَهُ تَأْدِيبًا فَتَمْنَعُهُ الْمَحَبَّةُ وَتَبْعَثُهُ الشَّفَقَةُ فَيَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ الْوَالِدِ كَالْمُعَلَّمِ لَمْ يَتَرَدَّدْ، بَلْ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى ضَرْبِهِ لِتَأْدِيبِهِ، فَأُرِيدَ تَفْهِيمُنَا تَحْقِيقَ الْمَحَبَّةِ لِلْوَلِيِّ بِذِكْرِ التَّرَدُّدِ. وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ احْتِمَالًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَقْبِضُ رُوحَ الْمُؤْمِنِ بِالتَّأَنِّي وَالتَّدْرِيجِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمُورِ، فَإِنَّهَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ كُنْ سَرِيعًا دَفْعَةً.
قَوْلُهُ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ زَادَ ابْنُ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ كَرَامَةَ فِي آخِرِهِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ وَهْبٍ، وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ عَنِ الْجُنَيْدِ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ قَالَ: الْكَرَاهَةُ هُنَا لِمَا يَلْقَى الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمَوْتِ وَصُعُوبَتِهِ وَكَرْبِهِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنِّي أَكْرَهُ لَهُ الْمَوْتُ، لِأَنَّ الْمَوْتَ يُورِدُهُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَغْفِرَتِهِ انْتَهَى.
وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَوْتَ حَتْمٌ مَقْضِيٌّ، وَهُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ، وَلَا تَحْصُلُ غَالِبًا إِلَّا بِأَلَمٍ عَظِيمٍ جِدًّا، كَمَا جَاءَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سُئِلَ وَهُوَ يَمُوتُ فَقَالَ: كَأَنِّي أَتَنَفَّسُ مِنْ خُرْمِ إِبْرَةٍ، وَكَأَنَّ غُصْنَ شَوْكٍ يَجُرُّ بِهِ مِنْ قَامَتِي إِلَى هَامَتِي وَعَنْ كَعْبٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ عَنِ الْمَوْتِ فَوَصَفَهُ بِنَحْوِ هَذَا، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ بِهَذَا الْوَصْفِ وَاللَّهُ يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِ أَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ الْكَرَاهَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمُسَاءَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُولِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَتَنَكُّسِ الْخَلْقِ وَالرَّدِّ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ.
وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَكْرَهَ مُكْرَهَهُ الْمَوْتَ فَلَا أُسْرِعُ بِقَبْضِ رُوحِهِ، فَأَكُونُ كَالْمُتَرَدِّدِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَطَاءٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِظَمُ قَدْرِ الْوَلِيِّ لِكَوْنِهِ خَرَجَ عَنْ تَدْبِيرِهِ إِلَى تَدْبِيرِ رَبِّهِ، وَعَنِ انْتِصَارِهِ لِنَفْسِهِ إِلَى انْتِصَارِ اللَّهِ لَهُ، وَعَنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِصِدْقِ تَوَكُّلِهِ. قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنْ لَا يُحْكَمَ لِإِنْسَانٍ آذَى وَلِيًّا ثُمَّ لَمْ يُعَاجَلْ بِمُصِيبَةٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ
مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ بِأَنَّهُ سَلِمَ مِنِ انْتِقَامِ اللَّهِ، فَقَدْ تَكُونُ مُصِيبَتُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ كَالْمُصِيبَةِ فِي الدِّينِ مَثَلًا.
قَالَ: وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ الْفَرَائِضَ الظَّاهِرَةَ فِعْلًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَتَرْكًا كَالزِّنَا وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْبَاطِنَةِ كَالْعِلْمِ بِاللَّهِ وَالْحُبِّ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى أَفْعَالٍ وَتُرُوكٍ. قَالَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ اطِّلَاعِ الْوَلِيِّ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ دُخُولَ بَعْضِ أَتْبَاعِهِ مَعَهُ بِالتَّبَعِيَّةِ لِصِدْقِ قَوْلِنَا مَا دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ الْيَوْمَ إِلَّا الْوَزِيرُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَهُ بَعْضُ خَدَمِهِ. قُلْتُ: الْوَصْفُ الْمُسْتَثْنَى لِلرَّسُولِ هُنَا إِنْ كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ كَوْنِهِ رَسُولًا فَلَا مُشَارَكَةَ لِأَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِيهِ إِلَّا مِنْهُ، وَإِلَّا فَيَحْتَمِلُ مَا قَالَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -
(تَنْبِيهٌ): أَشْكَلَ وَجْهُ دُخُولِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ التَّوَاضُعِ حَتَّى قَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ التَّوَاضُعِ فِي شَيْءٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُنَاسِبُ إِدْخَالُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ مُجَاهَدَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ فَقَالَ: فَصْلٌ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الطَّاعَةِ وَمُلَازَمَةِ الْعُبُودِيَّةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْبُخَارِيِّ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَايَةِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ. ثَانِيهَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فَقَالَ: قِيلَ التَّرْجَمَةُ مُسْتَفَادَةٌ مِمَّا قَالَ كُنْتُ سَمْعَهُ وَمِنَ التَّرَدُّدِ.
قُلْتُ: وَيَخْرُجُ مِنْهُ جَوَابٌ ثَالِثٌ، وَيَظْهَرُ لِي رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّهَا تُسْتَفَادُ مِنْ لَازِمِ قَوْلِهِ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الزَّجْرَ عَنْ مُعَادَاةِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَلْزِمِ لِمُوَالَاتِهِمْ، وَمُوَالَاةِ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ لَا تَتَأَتَّى إِلَّا بِغَايَةِ التَّوَاضُعِ، إِذْ مِنْهُمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ الَّذِي لَا يُؤْبَهُ لَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَثِّ عَلَى التَّوَاضُعِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، لَكِنْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى شَرْطِهِ، فَاسْتَغْنَى عَنْهَا بِحَدِيثَيِ الْبَابِ، مِنْهَا حَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُمَا. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - إِلَّا رَفَعَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ. الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
39 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ.
6503 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كهاتين. وَيُشِيرُ بِإِصْبَعَيْهِ فَيَمُدُّهِمَا.
6504 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ - هُوَ الجُعْفِيُّ -، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، وَأَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ.
6505 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ يَعْنِي إِصْبَعَيْنِ تَابَعَهُ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ"
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ فِي إِعْرَابِ الْمُسْنَدِ: السَّاعَةَ بِالنَّصْبِ، وَالْوَاوُ فِيهِ بِمَعْنَى مَعَ قَالَ: وَلَوْ قُرِئَ بِالرَّفْعِ لَفَسَدَ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ بُعِثَتِ السَّاعَةُ، وَلَا هُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَرْفُوعِ، لِأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ بَعْدُ، وَأَجَازَ غَيْرُهُ الْوَجْهَيْنِ، بَلْ جَزَمَ عِيَاضٌ بِأَنَّ الرَّفْعَ أَحْسَنُ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى ضَمِيرِ الْمَجْهُولِ فِي بُعِثْتُ. قَالَ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ، وَذَكَرَ نَحْوَ تَوْجِيهِ أَبِي الْبَقَاءِ، وَزَادَ: أَوْ عَلَى ضَمِيرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَالُ، نَحْو فَانْتَظَرُوا، كَمَا قُدِّرَ فِي نَحْوِ جَاءَ الْبَرْدُ وَالطَّيَالِسَةُ فَاسْتَعِدُّوا.
قُلْتُ: وَالْجَوَابُ عَنِ الَّذِي اعْتَلَّ بِهِ أَبُو الْبَقَاءِ أَوَّلًا أَنْ يُضَمَّنَ بُعِثْتُ مَعْنًى يَجْمَعُ إِرْسَالَ الرَّسُولِ وَمَجِيءَ السَّاعَةِ، نَحْوُ جِئْتُ، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّهَا نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْمَوْجُودِ مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِ مَجِيئِهَا، وَيُرَجِّحُ النَّصْبَ مَا وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ وَالنَّازِعَاتِ مِنْ هَذَا الصَّحِيحِ مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ بِلَفْظِ: بُعِثْتُ وَالسَّاعَةَ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْوَاوَ لِلْمَعِيَّةِ.
قَوْلُهُ: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} ] الْآيَةَ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كَذَا لِلْجَمِيعِ مَعْطُوفًا عَلَى الْحَدِيثِ بِغَيْرِ فَصْلٍ، وَهُوَ يُوهِمُ أَنْ تَكُونَ بَقِيَّتَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ التَّقْدِيرُ وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَلَمَّا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ إِدْخَالَ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَصِفَةِ الْقِيَامَةِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ اسْتَطْرَدَ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ الْمَوْتِ الدَّالِّ عَلَى فَنَاءِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ مِنْ لَطِيفِ تَرْتِيبِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: عَنْ سَهْلٍ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَفِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ زِيَادَةُ الْإِشَارَةِ.
قَوْلُهُ: عَنْ سَهْلٍ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، سَمِعْتُ مِنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ.
قَوْلُهُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ الْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ هُنَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا قِطْعَةٌ مِنَ الزَّمَانِ، وَفِي عُرْفِ أَهْلِ الْمِيقَاتِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَثَبَتَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، وَقَدْ بَيَّنْتُ حَالَهُ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَأَطْلَقْتُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى انْخِرَامِ قَرْنِ الصَّحَابَةِ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّاعَةِ، فَنَظَرَ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنْ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ. وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَأُطْلِقَتْ أَيْضًا عَلَى مَوْتِ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ: (كَهَاتَيْنِ) كَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَلِغَيْرِهِ كَهَاتَيْنِ هَكَذَا وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ لَكِنْ بِلَفْظِ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَوْ كَهَاتَيْنِ وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ هَكَذَا، وَفِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ بِأُصْبُعَيْهِ هَكَذَا.
قَوْلُهُ: وَيُشِيرُ بِأصْبَعَيْهِ فَيَمُدُّهُمَا فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَقَرَنَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَيَعْقُوبَ بِالْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَجَمَعَ بَيْنَ أصْبَعَيْهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَضَمَّ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ وَقَالَ: وَمَا مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ إِلَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بِلَفْظِ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ، إِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرِيُّ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَفِي حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ بُعِثْتُ فِي نَفْسِ السَّاعَةِ سَبَقَتهَا كَمَا سَبَقَتْ هَذِهِ لِهَذِهِ، لِأصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ. وَقَوْلُهُ: فِي نَفَسٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُرْبِ، أَيْ بُعِثْتُ عِنْدَ تَنَفُّسِهَا. وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي جَبِيرَةَ - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ - الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي جَبِيرَةَ مَرْفُوعًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ بِلَفْظٍ آخَرَ سَأُنَبِّهُ
عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (في حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَبِي التَّيَّاحِ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَآخِرَهُ مُهْمَلَةٌ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، وَأَبَا التَّيَّاحِ يُحَدِّثَانِ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَنَسًا فَذَكَرَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ هَكَذَا وَقَرَنَ شُعْبَةُ الْمُسَبِّحَةَ وَالْوُسْطَى وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَمْزَةَ الضَّبِّيِّ، وَأَبِي التَّيَّاحِ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا عَلَى شُعْبَةَ، بَلْ كَانَ سَمِعَهُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً عَنِ الْجَمِيعِ، وَتَارَةً عَنِ الْبَعْضِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، فَجَمَعَ الثَّلَاثَةَ، وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ كَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَزَادَ قَالَ شُعْبَةُ: وَسَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ كَفَضْلِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَهُ عَنْ أَنَسٍ أَوْ قَالَهُ قَتَادَةُ أَيْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَهُ عَنْ أَنَسٍ أَوْ قَالَهُ هُوَ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ هَكَذَا وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ. قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ يَعْنِي قَتَادَةَ كَفَضْلِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى.
قُلْتُ: وَلَمْ أَرَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَعْبَدٍ وَهُوَ ابْنُ هِلَالٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيهِ، نَعَمْ وَجَدْتُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَرْفُوعَةً فِي حَدِيثِ أَبِي جَبِيرَةَ بْنِ الضَّحَّاكِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ.
قَوْلُهُ: فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ.
قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ حَدَّثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ أَوَّلَهُ، وَأَبُو صَالِحٍ هُوَ ذَكْوَانُ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: كَهَاتَيْنِ يَعْنِي أُصْبُعَيْنِ كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَجَمَعَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ هَنَّادٍ بِلَفْظِ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى بَدَلَ قَوْلِهِ: يَعْنِي أُصْبُعَيْنِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ هَنَّادٍ بِلَفْظِ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ يَعْنِي أُصْبُعَيْهِ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ الدَّوْرِيِّ وَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ إِدْرَاجًا، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةٌ فِي الْمَرْفُوعِ لَكِنْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أُصْبُعَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ بِالْمُسَبِّحَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا وَهُوَ يَقُولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وفي رِوَايَةً لَهُ عَنْهُ وَجَمَعَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَالْمُرَادُ بِالسَّبَّابَةِ وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُصْبُعَ الَّتِي بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَالْوُسْطَى، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمُسَبِّحَةِ، سُمِّيَتْ مُسَبِّحَةً لِأَنَّهَا يُشَارُ بِهَا عِنْدَ التَّسْبِيحِ، وَتُحَرَّكُ فِي التَّشَهُّدِ عِنْدَ التَّهْلِيلِ إِشَارَةً إِلَى التَّوْحِيدِ، وَسُمِّيَتْ سَبَّابَةً لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَسَابُّوا أَشَارُوا بِهَا.
قَوْلُهُ: تَابَعَهُ إِسْرَائِيلُ يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ) يَعْنِي بِالسَّنَدِ وَالْمَتْنِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ بِسَنَدِهِ قَالَ مِثْلَ رِوَايَةِ هَنَّادٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَقَدْ تَابَعَهُمَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: أَشَارَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ إِلَى قِلَّةِ الْمُدَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاعَةِ، وَالتَّفَاوُتِ إِمَّا فِي الْمُجَاوَرَةِ وَإِمَّا فِي قَدْرِ مَا بَيْنَهُمَا، وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ: كَفَضْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الَّذِي يَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَوَّلَ لَقَامَتِ السَّاعَةُ لِاتِّصَالِ إِحْدَى الْأُصْبُعَيْنِ بِالْأُخْرَى.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: كَهَاتَيْنِ فَقِيلَ كَمَا بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فِي الطُّولِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا نَبِيٌّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: حَاصِلُ الْحَدِيثِ تَقْرِيبُ أَمْرِ السَّاعَةِ وَسُرْعَةُ مَجِيئِهَا، قَالَ: وَعَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ يَكُونُ التَّشْبِيهُ وَقَعَ بِالِانْضِمَامِ، وَعَلَى الرَّفْعِ وَقَعَ بِالتَّفَاوُتِ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ نِسْبَةَ تَقَدُّمِ الْبَعْثَةِ
النَّبَوِيَّةِ عَلَى قِيَامِ السَّاعَةِ كَنِسْبَةِ فَضْلِ إِحْدَى الْأُصْبُعَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ اسْتِمْرَارُ دَعَوْتِهِ لَا تَفْتَرِقُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى، كَمَا أَنَّ الْأُصْبُعَيْنِ لَا تَفْتَرِقُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى.
وَرَجَّحَ الطِّيبِيُّ قَوْلَ الْبَيْضَاوِيِّ بِزِيَادَةِ الْمُسْتَوْرِدِ فِيهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ تَقْرِيبُ أَمْرِ السَّاعَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاعَةِ نَبِيٌّ كَمَا لَيْسَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى أُصْبُعٌ أُخْرَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمُ وَقْتِهَا بِعَيْنِهِ، لَكِنَّ سِيَاقَهُ يُفِيدُ قُرْبِهَا، وَأَنَّ أَشْرَاطَهَا مُتَتَابِعَةٌ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} قَالَ الضَّحَّاكُ: أَوَّلُ أَشْرَاطِهَا بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْحِكْمَةُ فِي تَقَدُّمِ الْأَشْرَاطِ إِيقَاظُ الْغَافِلِينَ وَحَثُّهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قِيلَ مَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى قُرْبِ الْمُجَاوَرَةِ، وَقِيلَ إِلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا طُولًا، وَعَلَى هَذَا فَالنَّظَرُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى الْعَرْضِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَ قُرْبِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ وَقْتِ مَجِيئِهَا مُعَيَّنًا، وَقِيلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْقِيَامَةِ شَيْءٌ، هِيَ الَّتِي تَلِينِي كَمَا تَلِي السَّبَّابَةُ الْوُسْطَى، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنِ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: حَاوَلَ بَعْضُهُمْ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّ نِسْبَةَ مَا بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ كَنِسْبَةِ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى، وَأَنَّ جُمْلَتَهَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَاسْتَنَدَ إِلَى أَخْبَارٍ لَا تَصِحُّ، وَذَكَرَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي تَأْخِيرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ نِصْفَ يَوْمٍ، وَفَسَّرَهُ بِخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي بَقِيَ نِصْفُ سُبُعٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فِي الطُّولِ.
قَالَ: وَقَدْ ظَهَرَ عَدَمُ صِحَّةِ ذَلِكَ لِوُقُوعِ خِلَافِهُ، وَمُجَاوَزَةِ هَذَا الْمِقْدَارِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا لَمْ يَقَعْ خِلَافُهُ. قُلْتُ: وَقَدِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مُنْذُ عَهْدِ عِيَاضٍ إِلَى هَذَا الْحِينِ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قِيلَ الْوُسْطَى تَزِيدُ عَلَى السَّبَّابَةِ نِصْفَ سُبُعِهَا، وَكَذَلِكَ الْبَاقِي من الدُّنْيَا مِنَ الْبَعْثَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ، وَلَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَتَحَصَّلُ لَنَا نِصْفُ سُبُعِ أَمَدٍ مَجْهُولٍ، فَالصَّوَابُ الْإِعْرَاضُ عَنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: السَّابِقُ إِلَى ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ فِي مُقَدِّمَةِ تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الدُّنْيَا جُمُعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَقَدْ مَضَى سِتَّةُ آلَافِ وَمِائَةُ سَنَةٍ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، وَيَحْيَى هُوَ أَبُو طَالِبٍ الْقَاصُّ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَشَيْخُهُ هُوَ فَقِيهُ الْكُوفَةِ وَفِيهِ مَقَالٌ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: الدُّنْيَا سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ: أَنَّ الَّذِي مَضَى مِنْهَا خَمْسَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ زَيَّفَهُمَا وَرَجَّحَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا مَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إِلَّا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَمِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: مَا بَقِيَ لِأُمَّتِي مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا كَمِقْدَارِ إِذَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالشَّمْسُ عَلَى قُعَيْقِعَانٍ مُرْتَفِعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: مَا أَعْمَارُكُمْ فِي أَعْمَارِ مَنْ مَضَى إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ هَذَا النَّهَارِ فِيمَا مَضَى مِنْهُ. وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا بِسَنَدٍ حَسَنٍ، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَنَسٍ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ تَغِيبُ فَذَكَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِمَعْنَاهُ قَالَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ: إِنَّ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا كَبَقِيَّةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا، وَفِيهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا، وَفِيهِ مُوسَى بْنُ خَلَفٍ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى مَا إِذَا صَلَّيْتَ فِي
وَسَطٍ مِنْ وَقْتِهَا.
قُلْتُ: وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ لَفْظِ أَنَسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَالصَّوَابُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، وَلَهُ مَحْمَلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشْبِيهِ التَّقْرِيبُ، وَلَا يُرَادُ حَقِيقَةَ الْمِقْدَارِ فِيهِ يَجْتَمِعُ مَعَ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِمَا. وَالثَّانِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيُقَدَّمُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لِصِحَّتِهِ، وَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْرُ خُمُسِ النَّهَارِ تَقْرِيبًا، ثُمَّ أَيَّدَ الطَّبَرِيُّ كَلَامَهُ بِحَدِيثِ الْبَابِ وَبِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَلَفْظُهُ: وَاللَّهِ لَا تَعْجِزُ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ. وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَلَكِنْ رَجَّحَ الْبُخَارِيُّ وَقْفَهُ.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِلَفْظِ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ. قِيلَ لِسَعْدٍ: كَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ. وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ إِلَّا أَنَّ فِيهَا انْقِطَاعًا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَنِصْفُ الْيَوْمِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ تَوَافَقَتِ الْأَخْبَارُ فَيَكُونُ الْمَاضِي إِلَى وَقْتِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ وَخَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ تَقْرِيبًا. وَقَدْ أَوْرَدَ السُّهَيْلِيُّ كَلَامَ الطَّبَرِيِّ وَأَيَّدَهُ بِمَا وَقَعَ عِنْدَهُ فِي حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ، وَأَكَّدَهُ بِحَدِيثِ زِمْلٍ رَفَعَهُ: الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ بُعِثْتُ فِي آخِرِهَا.
قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ عَنِ ابْنِ زِمْلٍ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، أَخْرَجَهُ ابْنُ السَّكَنِ فِي الصَّحَابَةِ وَقَالَ: إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ أَيْضًا ابْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُ، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ عَبْدَ اللَّهِ، وَبَعْضُهُمُ الضَّحَّاكَ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَلْفَاظُهُ مَصْنُوعَةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ نِصْفِ يَوْمٍ مَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ، قَالَ: وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ: إِنْ أَحْسَنَتْ أُمَّتِي فَبَقَاؤُهَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ أَلْفُ سَنَةٍ، وَإِنْ أَسَاءَتْ فَنِصْفُ يَوْمٍ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ مَا يَقْطَعُ بِهِ عَلَى صِحَّةِ التَّأْوِيلِ الْمَاضِي، بَلْ قَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاعَةِ نَبِيٌّ مَعَ التَّقْرِيبِ لِمَجِيئِهَا.
ثُمَّ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مَعَ حَذْفِ الْمُكَرَّرِ مَا يُوَافِقُ حَدِيثَ ابْنِ زِمْلٍ، وَذَكَرَ أَنَّ عِدَّتَهَا تِسْعُمِائَةِ وَثَلَاثَةٌ. قُلْتُ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَغَارِبَةِ فِي عَدِّ الْحُرُوفِ، وَأَمَّا الْمَشَارِقَةُ فَيَنْقُصُ الْعَدَدُ عِنْدَهُمْ مِائَتَيْنِ وَعَشْرَةً، فَإِنَّ السِّينَ عِنْدَ الْمَغَارِبَةِ بِثَلَاثِمِائَةِ، وَالصَّادَ بِسِتِّينَ، وَأَمَّا الْمَشَارِقَةُ فَالسِّينُ عِنْدَهُمْ سِتُّونَ، وَالصَّادُ تِسْعُونَ، فَيَكُونُ الْمِقْدَارُ عِنْدَهُمْ سِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ، وَقَدْ مَضَتْ وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، فَالْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بَاطِلٌ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الزَّجْرُ عَنْ عَدِّ أَبِي جَادٍ وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ السِّحْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ، فَإِنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ السُّهَيْلِيِّ، فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ مَا نَصُّهُ: وَمَنَ الْبَاطِلِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَقَدْ تَحَصَّلَ لِي فِيهَا عِشْرُونَ قَوْلًا وَأَزْيَدُ، وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا يَحْكُمُ عَلَيْهَا بِعِلْمِ وَلَا يَصِلُ فِيهَا إِلَى فَهْمٍ، إِلَّا أَنِّي أَقُولُ. فَذَكَرَ مَا مُلَخَّصُهُ أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ لَهَا مَدْلُولًا مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ لَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ تَلَا عَلَيْهِمْ ص وحم وَفُصِّلَتْ وَغَيْرَهُمَا فَلَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ، بَلْ صَرَّحُوا بِالتَّسْلِيمِ لَهُ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، مَعَ تَشَوُّفِهِمْ إِلَى عَثْرَةٍ، وَحِرْصِهِمْ عَلَى زَلَّةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ لَا إِنْكَارَ فِيهِ.
قُلْتُ: وَأَمَّا عَدُّ الْحُرُوفِ بِخُصُوصِهِ فَإِنَّمَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَنْ أَبِي يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْحُرُوفَ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ وَاسْتَقْصَرُوا الْمُدَّةَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ الم والر، فَلَمَّا نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ المص وَطسم وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالُوا: أَلْبَسْتَ عَلَيْنَا الْأَمْرَ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ مُرَادًا فَلْيُحْمَلْ عَلَى جَمِيعِ الْحُرُوفِ الْوَارِدَةِ وَلَا يُحْذَفُ الْمُكَرَّرُ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ حَرْفٍ مِنْهَا إِلَّا وَلَهُ سِرٌّ يَخُصُّهُ أَوْ يُقْتَصَرُ عَلَى حَذْفِ الْمُكَرَّرِ مِنْ أَسْمَاءِ السُّوَرِ، وَلَوْ تَكَرَّرَتِ الْحُرُوفُ فِيهَا، فَإِنَّ السُّوَرَ الَّتِي ابْتُدِئَتْ بِذَلِكَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً، وَعَدَدُ حُرُوفِ الْجَمِيعِ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ حَرْفًا، وَهِيَ الم سِتَّةٌ، حم سِتَّةٌ، الر خَمْسَةٌ، طسم ثِنْتَانِ، المص المر كهيعص حم عسق طه طس يس ص ق ن، فَإِذَا حُذِفَ مَا كُرِّرَ مِنَ السُّوَرِ وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الم، وَخَمْسٌ مِنْ حم، وَأَرْبَعٌ مِنَ الر، وَوَاحِدَةٌ مِنْ طسم، بَقِيَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً عَدَدُ حُرُوفِهَا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ حَرْفًا، فَإِذَا حُسِبَ عَدَدُهَا بِالْجُمَّلِ الْمَغْرِبِيِّ بَلَغَتْ أَلْفَيْنِ وَسِتَّمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَأَمَّا بِالْجُمَّلِ الْمَشْرِقِيِّ فَتَبْلُغُ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ، وَلَمْ أَذْكُرْ ذَلِكَ لِيُعْتَمَدَ عَلَيْهِ إِلَّا لِأُبَيِّنَ أَنَّ الَّذِي جَنَحَ إِلَيْهِ السُّهَيْلِيُّ لَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لِشِدَّةِ التَّخَالُفِ فِيهِ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَأَقْوَى مَا يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلُ، وَقَدْ أَخْرَجَ مَعْمَرٌ فِي الْجَامِعِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَبَلَغَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا يَوْمٌ مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ لَا يَدْري كَمْ مَضَى وَلَا كَمْ بَقِيَ إِلَّا اللَّهُ - تَعَالَى -، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ حَدِيثَ لَنْ تَعْجِزَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا نِصْفَ يَوْمٍ عَلَى حَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَزَيَّفَهُ الطِّيبِيُّ
فَأَصَابَ، وَأَمَّا زِيَادَةُ جَعْفَرٍ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ الْأَئِمَّةُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسُقْ سَنَدَهُ بِذَلِكَ، فَالْعَجَبُ مِنَ السُّهَيْلِي كَيْفَ سَكَتَ عَنْهُ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِحَالِهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
40 - باب
6506 -
بَاب حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَاكَ حِينَ {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا.
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ ولِلكُشْمِيهَنِيِّ بَابُ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَكَذَا هُوَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَنْسَبُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِهِ أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا إِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ إِشْرَافِ قِيَامِ السَّاعَةِ كَمَا سَأُقَرِّرُهُ.
قَوْلُهُ: (أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ الْأَعْرَجُ، وَصَرَّحَ بِهِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا إِلَخْ هَذَا بَعْضُ حَدِيثٍ سَاقَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِتَمَامِهِ، وَفِي أَوَّلِهِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظْمِيَّتَانِ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ فِيهِ نَحْوَ عَشَرَةَ أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْجِنْسَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَسَأَذْكُرُ شَرْحَهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَأَقْتَصِرُ هُنَا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قُرْبِ الْقِيَامَةِ خَاصَّةً وَعَامَّةً.
قَالَ الطِّيبِيُّ: الْآيَاتُ أَمَارَاتٌ لِلسَّاعَةِ إِمَّا عَلَى قُرْبِهَا وَإِمَّا عَلَى حُصُولِهَا، فَمِنِ الْأَوَّلِ الدَّجَّالُ وَنُزُولُ عِيسَى وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالْخَسْفُ. وَمِنَ الثَّانِي الدُّخَانُ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ
مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ وَالنَّارُ الَّتِي تَحْشُرُ النَّاسَ. وَحَدِيثُ الْبَابِ يُؤْذِنُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ جَعَلَ فِي طُلُوعِهَا مِنَ الْمُغْرِبِ غَايَةً لِعَدَمِ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَيَقْتَضِي أَنَّهَا إِذَا طَلَعَتْ كَذَلِكَ انْتَفَى عَدَمُ الْقِيَامِ فَثَبَتَ الْقِيَامُ.
قَوْلُهُ: فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّفْسِيرِ فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا، أَيْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ النَّاسِ.
قَوْلُهُ: (فَذَاكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَذَلِكَ وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّفْسِيرِ أَيْضًا وَذَلِكَ بِالْوَاوِ.
قَوْلُهُ: حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا الْآيَةَ كَذَا هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ {إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ إِيمَانُهَا ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا يَنْفَعُ كَافِرًا لَمْ يَكُنْ آمَنَ قَبْلَ الطُّلُوعِ إِيمَانٌ بَعْدَ الطُّلُوعِ، وَلَا يَنْفَعُ مُؤْمِنًا لَمْ يَكُنْ عَمِلَ صَالِحًا قَبْلَ الطُّلُوعِ عَمَلٌ صَالِحٌ بَعْدَ الطُّلُوعِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ حِينَئِذٍ حُكْمُ مَنْ آمَنَ أَوْ عَمِلَ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} وَكَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْغَرْغَرَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَعْضِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ الْمُغْرِبِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَعْضِ إِحْدَى ثَلَاثٍ هَذِهِ أَوْ خُرُوجِ الدَّابَّةِ أَوِ الدَّجَّالِ، قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ نُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يُعْقِبُ خُرُوجَ الدَّجَّالِ، وَعِيسَى لَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِيمَانَ، فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ لَا يُقْبَلُ الْإِيمَانُ وَلَا التَّوْبَةُ.
قُلْتُ: ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ، قِيلَ: فَلَعَلَّ حُصُولُ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَتَابِعًا بِحَيْثُ تَبْقَى النِّسْبَةُ إِلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا مَجَازِيَّةً، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ مُدَّةَ لُبْثِ الدَّجَّالِ إِلَى أَنْ يَقْتُلَهُ عِيسَى ثُمَّ لُبْثِ عِيسَى وَخُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ كُلُّ ذَلِكَ سَابِقٌ عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمُغْرِبِ، فَالَّذِي يَتَرَجَّحُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَخْبَارِ أَنَّ خُرُوجَ الدَّجَّالِ أَوَّلُ الْآيَاتِ الْعِظَامِ الْمُؤْذِنَةِ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ الْعَامَّةِ فِي مُعْظَمِ الْأَرْضِ، وَيَنْتَهِي ذَلِكَ بِمَوْتِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنَ الْمُغْرِبِ هُوَ أَوَّلُ الْآيَاتِ الْعِظَامِ الْمُؤْذِنَةِ بِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعَلَوِيِّ، وَيَنْتَهِي ذَلِكَ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَعَلَّ خُرُوجَ الدَّابَّةِ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ مِنَ الْمُغْرِبِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَفَعَهُ: أَوَّلُ الْآيَاتِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، فَأَيُّهُمَا خَرَجَتْ قَبْلَ الْأُخْرَى فَالْأُخْرَى مِنْهَا قَرِيبٌ، وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَوَّلُ الْآيَاتِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو. قُلْتُ: وَلِكَلَامِ مَرْوَانَ مَحْمَلٌ يُعْرَفُ مِمَّا ذَكَرْتُهُ.
قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ يَسْبِقُ خُرُوجَ الدَّابَّةِ، ثُمَّ تَخْرُجُ الدَّابَّةُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوِ الَّذِي يَقْرُبُ مِنْهُ. قُلْتُ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمُغْرِبِ يُغْلَقُ بَابُ التَّوْبَةِ، فَتَخْرُجُ الدَّابَّةُ تُمَيِّزُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ تَكْمِيلًا لِلْمَقْصُودِ مِنْ إِغْلَاقِ بَابِ التَّوْبَةِ، وَأَوَّلُ الْآيَاتِ الْمُؤْذِنَةِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ النَّارُ الَّتِي تَحْشُرُ النَّاسَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ فِي مَسَائِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَفِيهِ وَأَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمُغْرِبِ وَسَيَأْتِي فِيهِ زِيَادَةٌ فِي بَابِ كَيْفَ الْحَشْرُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ مَا حَاصِلُهُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمُغْرِبِ، وَكَذَلِكَ الْعَاصِي لَا تَنْفَعُهُ تَوْبَتُهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا مِنْ قَبْلُ وَلَوْ كَانَ مُؤْمِنًا لَا يَنْفَعُهُ الْعَمَلُ بَعْدَ طُلُوعِهَا مِنَ الْمُغْرِبِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْمَعْنَى لَا تَنْفَعُ تَوْبَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِ كُلِّ أَحَدٍ بِالْحَالَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا.
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا أَوَّلُ ابْتِدَاءِ قِيَامِ السَّاعَةِ بِتَغَيُّرِ الْعَالِمِ الْعَلَوِيِّ، فَإِذَا شُوهِدَ ذَلِكَ حَصَلَ الْإِيمَانُ الضَّرُورِيُّ بِالْمُعَايَنَةِ، وَارْتَفَعَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، فَهُوَ كَالْإِيمَانِ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ، وَهُوَ لَا يَنْفَعُ، فَالْمُشَاهَدَةُ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمُغْرِبِ مِثْلُهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا: فَعَلَى هَذَا فَتَوْبَةُ مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ أَوْ كَانَ كَالْمَشَاهِدِ لَهُ مَرْدُودَةٌ، فَلَوِ امْتَدَّتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُنْسَى هَذَا الْأَمْرُ أَوْ يَنْقَطِعَ تَوَاتُرُهُ وَيَصِيرَ الْخَبَرُ عَنْهُ آحَادًا فَمَنْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ أَوْ تَابَ قُبِلَ مِنْهُ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يُكْسَيَانِ الضَّوْءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَطْلُعَانِ وَيَغْرُبَانِ مِنَ الْمَشْرِقِ كَمَا كَانَا قَبْلَ ذَلِكَ.
قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: إِنَّمَا لَا يُقْبَلُ الْإِيمَانُ وَالتَّوْبَةُ وَقْتَ الطُّلُوعِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ صَيْحَةٌ فَيَهْلِكُ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ أَسْلَمَ أَوْ تَابَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَمَنْ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. قَالَ: وَذَكَرَ الْمَيَانِشِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ قَالَ: تَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ. قُلْتُ: رَفْعُ هَذَا لَا يَثْبُتُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ مَا يُعَارِضُهُ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ: الْآيَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ فِي سِلْكٍ إِذَا انْقَطَعَ السِّلْكُ تَبِعَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ: إِذَا طَلَعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا خَرَّ إِبْلِيسُ سَاجِدًا يُنَادِي إِلَهِي مُرْنِي أَنْ أَسْجُدَ لِمَنْ شِئْتَ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ نُعَيْمٌ نَحْوَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ بِأَسَانِيدَ مُخْتَلِفَةٍ. وَعِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ رَفَعَهُ: بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ عَشْرُ آيَاتٍ كَالنَّظْمِ فِي الْخَيْطِ، إِذَا سَقَطَ مِنْهَا وَاحِدةٌ تَوَالَتْ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ بَيْنَ أَوَّلِ الْآيَاتِ وَآخِرِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ يَتَتَابَعْنَ كَتَتَابُعِ الْخَرَزَاتِ فِي النِّظَامِ.
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِأَنَّ الْمُدَّةَ وَلَوْ كَانَتْ كَمَا قَالَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ لَكِنَّهَا تَمُرُّ مُرُورًا سَرِيعًا كَمِقْدَارِ مُرُورِ عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَهْرٍ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ أَوْ دُونَ ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَالْيَوْمُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَقَالَ فِي بَابِ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَصْلٌ ذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ الدَّجَّالُ، ثُمَّ نُزُولُ عِيسَى، لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنَ الْمُغْرِبِ لَوْ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ عِيسَى لَمْ يَنْفَعِ الْكُفَّارَ إِيمَانُهُمْ فِي زَمَانِهِ، وَلَكِنَّهُ يَنْفَعُهُمْ، إِذْ لَوْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ لَمَا صَارَ الدِّينُ وَاحِدًا بِإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ لَوْ لَمْ يُعَارِضِ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الْمَذْكُورَ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو طُلُوعُ الشَّمْسِ أَوْ خُرُوجُ الدَّابَّةِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْجَزْمُ بِهِمَا وَبِالدَّجَّالِ فِي عَدَمِ نَفْعِ الْإِيمَانِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ سَابِقٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ النَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِ الْقَرْنِ الَّذِينَ شَاهَدُوا ذَلِكَ، فَإِذَا انْقَرَضُوا وَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ وَعَادَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ عَادَ تَكْلِيفُهُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ، وَكَذَا فِي قِصَّةِ الدَّجَّالِ لَا يَنْفَعُ إِيمَانُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الدَّجَّالِ، وَيَنْفَعُهُ بَعْدَ انْقِرَاضِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ طُلُوعَ الشَّمْسِ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو آيَاتٍ أُخْرَى غَيْرَ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى، إِذْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عِيسَى.
قُلْتُ: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ تُخَالِفُهُ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ رَفَعَهُ: لَا تَزَالُ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ حَتَّى
تطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ نَحْوُهُ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ وَبِكَسْرِ الْمِيمِ، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعُوهُ: لَا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكَفَى النَّاسَ الْعَمَلَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ رَفَعَهُ: لَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا: التَّوْبَةُ مَفْرُوضَةٌ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. وَفِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ بِالْمَغْرِبِ بَابًا مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ مَسِيرَةَ سَبْعِينَ سَنَةً لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَفِيهِ: فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا رُدَّ الْمِصْرَاعَانِ فَيَلْتَئِمُ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا أُغْلِقَ ذَلِكَ الْبَابُ لَمْ تُقْبَلْ بَعْدَ ذَلِكَ تَوْبَةٌ، وَلَا تَنْفَعُ حَسَنَةٌ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْمَلُ الْخَيْرَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجْرِي لَهُمْ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِيهِ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: فَكَيْفَ بِالشَّمْسِ وَالنَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: تُكْسَى الشَّمْسُ الضَّوْءَ وَتَطْلُعُ كَمَا كَانَتْ تَطْلُعُ، وَتُقْبِلُ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا، فَلَوْ نَتَجَ رَجُلٌ مُهْرًا لَمْ يَرْكَبْهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ الْخَيْوَانِيِّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَذَكَرَ قِصَّةً، قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ إِذَا غَرَبَتْ سَلَّمَتْ وَسَجَدَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ فِي الطُّلُوعِ، فَيُؤْذَنُ لَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، وَتُحْبَسُ مَا شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - ثُمَّ يُقَالُ لَهَا: اطْلُعِي مِنْ حَيْثُ غَرَبْتِ، قَالَ: فَمِنْ يَوْمَئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ كَذَلِكَ، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، وَزَادَ فِيهَا قِصَّةَ الْمُتَهَجِّدِينَ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَنْكِرُونَ بُطْءَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: تَأْتِي لَيْلَةُ قَدْرٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْمُتَهَجِّدُونَ، يَقُومُ فَيَقْرَأُ حِزْبَهُ، ثُمَّ يَنَامُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ، ثُمَّ يَنَامُ، ثُمَّ يَقُومُ، فَعِنْدَهَا يَمُوجُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، حَتَّى إِذَا صَلَّوُا الْفَجْرَ وَجَلَسُوا فَإِذَا هُمْ بِالشَّمْسِ قَدْ طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَيَضِجُّ النَّاسُ ضَجَّةً وَاحِدَةً، حَتَّى إِذَا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ رَجَعَتْ. وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ فَيُنَادِي الرَّجُلُ جَارَهُ يَا فُلَانُ، مَا شَأْنُ اللَّيْلَةِ لَقَدْ نِمْتُ حَتَّى شَبِعْتُ وَصَلَّيْتُ حَتَّى أُعْيِيتُ.
وَعِنْدَ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَا يَلْبَثُونَ بَعْدَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبهَا فَيُنَادِيهِمْ مُنَادٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ قُبِلَ مِنْكُمْ، وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا قَدْ أُغْلِقَ عَنْكُمْ بَابُ التَّوْبَةِ، وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ. وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ شُرَيْحٍ، وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْمَغْرِبِ يُطْبَعُ عَلَى الْقُلُوبِ بِمَا فِيهَا، وَتَرْتَفِعُ الْحَفَظَةُ، وَتُؤْمَرُ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لَا يَكْتُبُوا عَمَلًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَائِشَةَ إِذَا خَرَجَتْ أَوَّلُ الْآيَاتِ طُرِحَتِ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ وَخَلَصَتِ الْحَفَظَةُ وَشَهِدَتِ الْأَجْسَادُ عَلَى الْأَعْمَالِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَحُكْمُهُ الرَّفْعُ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ الْآيَةُ الَّتِي يُخْتَمُ بِهَا الْأَعْمَالُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فَهَذِهِ آثَارٌ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ مِنَ الْمَغْرِبِ أُغْلِقَ بَابُ التَّوْبَةِ وَلَمْ يُفْتَحْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ الطُّلُوعِ، بَلْ يَمْتَدُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوَّلُ الْإِنْذَارِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ
عَلَى أَصْحَابِ الْهَيْئَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ الشَّمْسَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْفَلَكِيَّاتِ بَسِيطَةٌ لَا يَخْتَلِفُ مُقْتَضَيَاتُهَا وَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا تَغْيِيرُ مَا هِيَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَقَوَاعِدُهُمْ مَنْقُوضَةٌ، وَمُقَدِّمَاتُهُمْ مَمْنُوعَةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهَا فَلَا امْتِنَاعَ مِنِ انْطِبَاقِ مِنْطِقَةِ الْبُرُوجِ الَّتِي هِيَ مُعَدَّلُ النَّهَارِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَشْرِقُ مَغْرِبًا وَبِالْعَكْسِ، وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ: قَوْلُهُ: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} صِفَةٌ لِقولِهِ: نَفْسًا، وَقَوْلُهُ:{أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} عَطْفٌ عَلَى آمَنَتْ، والْمَعْنَى أَنَّ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ إِذَا جَاءَتْ وَهِيَ آيَاتٌ مُلْجِئَةٌ لِلْإِيمَانِ ذَهَبَ أَوَانُ التَّكْلِيفِ عِنْدَهَا فَلَمْ يَنْفَعِ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِ مُقَدِّمَةِ إِيمَانِهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْآيَاتِ أَوْ مُقَدِّمَةِ إِيمَانِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ عَمَلٍ صَالِحٍ، فَلَمْ يُفَرِّقْ كَمَا تَرَى بَيْنَ النَّفْسِ الْكَافِرَةِ وَبَيْنَ النَّفْسِ الَّتِي آمَنَتْ فِي وَقْتِهِ وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرًا، لِيُعْلَمَ أَنَّ قَوْلَهُ:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} جَمْعٌ بَيْنَ قَرِينَتَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَنْفَكَّ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى حَتَّى يَفُوزَ صَاحِبُهَا وَيَسْعَدَ، وَإِلَّا فَالشِّقْوَةُ وَالْهَلَاكُ.
قَالَ الشِّهَابُ السَّمِينُ: قَدْ أَجَابَ النَّاسُ بِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا أَتَى بَعْضُ الْآيَاتِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا كَافِرَةً إِيمَانُهَا الَّذِي أَوْقَعَتْهُ إِذْ ذَاكَ، وَلَا يَنْفَعُ نَفْسًا سَبْقُ إِيمَانِهَا وَلَمْ تَكْسِبْ فِيهِ خَيْرًا، فَقَدْ عَلَّقَ نَفْيَ نَفْعِ الْإِيمَانِ بِأَحَدِ وَصْفَيْنِ: إِمَّا نَفْيُ سَبْقِ الْإِيمَانِ فَقَطْ، وَإِمَّا سَبْقُهُ مَعَ نَفْيِ كَسْبِ الْخَيْرِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ يَنْفَعُ الْإِيمَانُ السَّابِقُ وَحْدَهُ وَكَذَا السَّابِقُ وَمَعَهُ الْخَيْرُ، وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ قَوِيٌّ فَيُسْتَدَلُّ بِالْآيَةِ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَيَكُونُ فِيهِ قَلْبُ دَلِيلِ الْمُعْتَزِلَةِ دَلِيلًا عَلَيْهِمْ، وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الِانْتِصَافِ فَقَالَ: هَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْبَلَاغَةِ يُلَقَّبُ اللَّفَّ، وَأَصْلُهُ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً قَبْلَ إِيمَانِهَا بَعْدُ، وَلَا نَفْسًا لَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا قَبْلَ مَا تَكْتَسِبُهُ مِنَ الْخَيْرِ بَعْدُ، فلَفَّ الْكَلَامَيْنِ فَجَعَلَهُمَا كَلَامًا وَاحِدًا إِيجَازًا، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تُخَالِفُ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ، فَلَا يَنْفَعُ بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ اكْتِسَابُ الْخَيْرِ وَلَوْ نَفَعَ الْإِيمَانُ الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الْخُلُودِ فَهِيَ بِالرَّدِّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَدُلَّ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ: الْإِيمَانُ قَبْلَ مَجِيءِ الْآيَةِ نَافِعٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ صَالِحٌ غَيْرُهُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا وَلَا كَسْبُهَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ قَبْلَ الْآيَةِ أَوْ لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ مَعَ الْإِيمَانِ قَبْلَهَا، فَاخْتُصِرَ لِلْعِلْمِ، وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: الْمُعْتَمَدُ مَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَبَسَطَهُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمَّا خَاطَبَ الْمُعَانِدِينَ بَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} الْآيَةَ عَلَّلَ الْإِنْزَالَ بِقَوْلِهِ:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ} إِلَخْ إِزَالَةً لِلْعُذْرِ وَإِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ، وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ:{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} تَبْكِيتًا لَهُمْ وَتَقْرِيرًا لِمَا سَبَقَ مِنْ طَلَبِ الِاتِّبَاعِ، ثُمَّ قَالَ:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ} الْآيَةَ. أَيْ أَنَّهُ أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ الْمُنِيرَ كَاشِفًا لِكُلِّ رَيْبٍ وَهَادِيًا إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَرَحْمَةً مِنَ اللَّهِ لِلْخَلْقِ لِيَجْعَلُوهُ زَادًا لِمَعَادِهِمْ فِيمَا يُقَدِّمُونَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَجَعَلُوا شُكْرَ النِّعْمَةِ أَنْ كَذَّبُوا بِهَا، وَمُنِعُوا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، ثُمَّ قَالَ:{هَلْ يَنْظُرُونَ} الْآيَةَ.
أَيْ مَا يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ الدُّنْيَا بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ بِالْعِقَابِ الَّذِي يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ كَمَا جَرَى لِمَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، أَوْ يَأْتِيَهِمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ بِوُجُودِ بَعْضِ قَوَارِعِهَا، فَحِينَئِذٍ تَفُوتُ تِلْكَ الْفُرْصَةُ السَّابِقَةُ فَلَا يَنْفَعُهُمْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ يَنْفَعُهُمْ مِنْ قَبْلُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَكَذَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ مَعَ الْإِيمَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا وَلَا كَسْبُهَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي إِيمَانِهَا حِينَئِذٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا مِنْ قَبْلُ، فَفِي الْآيَةِ لَفٌّ لَكِنْ حُذِفَتْ إِحْدَى الْقَرِينَتَيْنِ بِإِعَانَةِ النَّشْرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} قَالَ: فَهَذَا الَّذِي عَنَاهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي الْبَلَاغَةِ يُقَالُ لَهُ اللَّفُّ، وَالْمَعْنَى يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ
نَفْسًا لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ إِيمَانُهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَلَا يَنْفَعُ نَفْسًا كَانَتْ مُؤْمِنَةً لَكِنْ لَمْ تَعْمَلْ فِي إِيمَانِهَا عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ ذَلِكَ مَا تَعْمَلُهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ: وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَا يَنْفَعُ بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ اكْتِسَابُ الْخَيْرِ أَيْ لِإِغْلَاقِ بَابِ التَّوْبَةِ وَرَفْعِ الصُّحُفِ وَالْحَفَظَةِ، وَإِنْ كَانَ مَا سَبَقَ قَبْلَ ظُهُورِ الْآيَةِ مِنَ الْإِيمَانِ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الْجُمْلَةِ.
ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ ظَفِرْتُ بِفَضْلِ اللَّهِ بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ عَلَى آيَةٍ أُخْرَى تُشْبِهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَتُنَاسِبُ هَذَا التَّقْرِيرَ مَعْنًى وَلَفْظًا مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} الْآيَةَ. فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُجَرَّدَ قَبْلَ كَشْفِ قَوَارِعِ السَّاعَةِ نَافِعٌ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ الْمُقَارَنَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنْفَعُ، وَأَمَّا بَعْدَ حُصُولِهَا فَلَا يَنْفَعُ شَيْءٌ أَصْلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَوْلُهُ: وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْقَافِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ هِيَ ذَاتُ الدَّرِّ مِنَ النُّوقِ.
قَوْلُهُ: يُلِيطُ حَوْضَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُقَالُ أَلَاطَ حَوْضَهُ إِذَا مَدَرَهُ أَيْ جَمَعَ حِجَارَةً فَصَيَّرَهَا كَالْحَوْضِ ثُمَّ سَدَّ مَا بَيْنَهَا مِنَ الْفُرَجِ بِالْمَدَرِ وَنَحْوِهِ لِيَنْحَبِسَ الْمَاءُ ; هَذَا أَصْلُهُ وَقَدْ يَكُونُ لِلْحَوْضِ خُرُوقٌ فَيَسُدُّهَا بِالْمَدَرِ قَبْلَ أَنْ يَمْلَأَهُ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ بَغْتَةً، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً}
41 - بَاب مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ
6507 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ - أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ - إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: لَيْسَ ذَلكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ.
اخْتَصَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَعَمْرٌو عَنْ شُعْبَةَ. وَقَالَ سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6508 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ"
6509 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ "أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ
سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى" قُلْتُ إِذًا لَا يَخْتَارُنَا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ قَالَتْ فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى"
قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ) هَكَذَا تَرْجَمَ بِالشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ إِشَارَةً إِلَى بَقِيَّتِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَحَبَّةُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ إِرَادَتُهُ الْخَيْرَ لَهُ وَهِدَايَتُهُ إِلَيْهِ وَإِنْعَامُهُ عَلَيْهِ، وَكَرَاهَتُهُ لَهُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ) هُوَ ابْنُ الْمِنْهَالِ الْبَصْرِيُّ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ رَوَى عَنْ هَمَّامٍ أَيْضًا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصِّيصِيُّ، لَكِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ الْبُخَارِيُّ.
قَوْلُهُ: عَنْ قَتَادَةَ) لِهَمَّامٍ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنِي فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ بِمَعْنَاهُ، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ، وَإِبْهَامُ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا عَلَى هَمَّامٍ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَنَسًا وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ.
قَوْلُهُ: عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) قَدْ رَوَاهُ حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِهِ. وَذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقًا وَرَدَتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ قَتَادَةَ، وَإِنْ أَرَادَ بِقَيْدِ كَوْنِهِ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ سَلِمَ.
قَوْلُهُ: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَيْسَ الشَّرْطُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ، بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْخَبَرِ، أَيْ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَخْبِرْهُ بِأَنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لِقَاءَهُ، وَكَذَا الْكَرَاهَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ مَنْ هُنَا خَبَرِيَّةٌ وَلَيْسَتْ شَرْطِيَّةً، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ سَبَبَ حُبِّ اللَّهِ لِقَاءَ الْعَبْدِ حُبُّ الْعَبْدِ لِقَاءَهُ وَلَا الْكَرَاهَةُ، وَلَكِنَّهُ صِفَةُ حَالِ الطَّائِفَتَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَكَذَا الْكَرَاهَةُ.
قُلْتُ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى نَفْيِ الشَّرْطِيَّةِ، فَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ الْحَدِيثَ. فَيُعَيِّنُ أَنَّ مَنْ فِي حَدِيثِ الْبَابِ شَرْطِيَّةٌ وَتَأْوِيلُهَا مَا سَبَقَ، وَفِي قَوْلِهِ: أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ الْعُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الظَّاهِرِ تَفْخِيمًا، وَتَعْظِيمًا وَدَفْعًا لِتَوَهُّمِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْمَوْصُولِ، لِئَلَّا يَتَّحِدَ فِي الصُّورَةِ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ، فَفِيهِ إِصْلَاحُ اللَّفْظِ لِتَصْحِيحِ الْمَعْنَى، وَأَيْضًا فَعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ قَلِيلٌ، وَقَرَأْتُ بِخَطِّ ابْنِ الصَّائِغِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِقَاءُ اللَّهِ مُضَافًا لِلْمَفْعُولِ فَأَقَامَهُ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَلِقَاءَهُ إِمَّا مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ أَوْ لِلْفَاعِلِ الضَّمِيرِ أَوْ لِلْمَوْصُولِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ إِذَا كَانَ شَرْطًا فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرٌ، نَعَمْ هُوَ مَوْجُودٌ هُنَا وَلَكِنْ تَقْدِيرًا.
قَوْلُهُ: وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ قَالَ الْمَازِرِيُّ: مَنْ قَضَى اللَّهُ بِمَوْتِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ وَإِنْ كَانَ كَارِهًا لِلِقَاءِ اللَّهِ، وَلَوْ كَرِهَ اللَّهُ مَوْتَهُ لَمَا مَاتَ، فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى كَرَاهَتِهِ سبحانه وتعالى الْغُفْرَانَ لَهُ وَإِرَادَتِهِ لِإِبْعَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ. قُلْتُ: وَلَا اخْتِصَاصَ لِهَذَا الْبَحْثِ بِهَذَا الشِّقِّ، فَإِنَّهُ يَأْتِي مِثْلُهُ فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ، كَأَنْ يُقَالَ مَثَلًا مَنْ قَضَى اللَّهُ بِامْتِدَادِ حَيَاتِهِ لَا يَمُوتُ وَلَوْ كَانَ مُحِبًّا لِلْمَوْتِ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالشَّكِّ، وَجَزَمَ سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَائِشَةَ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَالَتْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَرَدَّدْ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا تَظْهَرُ صَرِيحًا هَلْ هِيَ مِنْ كَلَامِ عُبَادَةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَ مُرَاجَعَةَ عَائِشَةَ، أَوْ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ بِأَنْ يَكُونَ حَضَرَ ذَلِكَ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا بِلَفْظِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَيَكُونُ أَسْنَدَ الْقَوْلَ إِلَى جَمَاعَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ لَهُ وَاحِدًا وَهِيَ عَائِشَةُ،
وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، وَفِيهَا: فَأَكَبَّ الْقَوْمُ يَبْكُونَ وَقَالُوا: إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ حَدِيثِ الْبَابِ، وَفِيهِ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ كُشِفَ لَهُ.
وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ أَرْسَلَهُ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَوَصَلَهُ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْهُ عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ، فَيَكُونُ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ إِدْرَاجٌ، وَهَذَا أَرْجَحُ فِي نَظَرِي، فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَدَّابِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هَمَّامٍ مُقْتَصِرًا عَلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ دُونَ قَوْلِهِ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ إِلَخْ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ مَوْصُولًا تَامًّا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ هُوَ وَأَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، وَكَذَا جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِدُونِ الْمُرَاجَعَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَأَبُو يَعْلَى جَمِيعًا عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هَمَّامٍ تَامًّا، كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ هَمَّامٍ، وَهُدْبَةُ هُوَ هَدَّابٌ شَيْ مُسْلِمٍ، فَكَأَنَّ مُسْلِمًا حَذَفَ الزِّيَادَةَ عَمْدًا لِكَوْنِهَا مُرْسَلَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَاكْتَفَى بِإِيرَادِهَا مَوْصُولَةً مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَقَدْ رَمَزَ الْبُخَارِيُّ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ عَلَّقَ رِوَايَةَ شُعْبَةَ بِقَوْلِهِ: اخْتَصَرَهُ إِلَخْ، وَكَذَا أَشَارَ إِلَى رِوَايَةِ سَعِيدٍ تَعْلِيقًا، وَهَذَا مِنَ الْعِلَلِ الْخَفِيَّةِ جِدًّا.
قَوْلُهُ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ فِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَكَرَاهَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ.
قَوْلُهُ: بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ، وَفِي حَدِيثِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللَّهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ، فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: وَلَكِنَّهُ إِذَا حَضَرَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ، فَإِذَا بُشِّرَ بِذَلِكَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَاللَّهُ لِلِقَائِهِ أَحَبُّ.
قَوْلُهُ: فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ مَا يَسْتَقْبِلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ مِنْ عَائِشَةَ لِبَعْضِ التَّابِعِينَ، فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ أَصْلَ الْحَدِيثِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: سَمِعْتُ حَدِيثًا إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ هَلَكْنَا فَذَكَرَهُ. قَالَ: وَلَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، فَقَالَتْ: لَيْسَ بِالَّذِي تَذْهَبُ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ إِذَا شَخَصَ الْبَصَرُ - بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ أَيْ فَتَحَ الْمُحْتَضَرُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ فَلَمْ يَطْرِفْ - وَحَشْرَجَ الصَّدْرُ - بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ وَآخِرُهُ جِيمٌ أَيْ تَرَدَّدَتِ الرُّوحُ فِي الصَّدْرِ - وَاقْشَعَرَّ الْجِلْدُ وَتَشَنَّجَتْ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ الثَّقِيلَةِ وَالْجِيمِ أَيْ تَقَبَّضَتْ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ هِيَ حَالَةُ الْمُحْتَضَرِ.
وَكَأَنَّ عَائِشَةَ أَخَذَتْهُ مِنْ مَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهَا سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَالْمَوْتُ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ فِيمَا يَظْهَرُ لِي ذَكَرَتْهَا اسْتِنْبَاطًا مِمَّا تَقَدَّمَ، وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا قَيَّضَ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ وَيُوَفِّقُهُ حَتَّى يُقَالَ مَاتَ بِخَيْرِ مَا كَانَ، فَإِذَا حَضَرَ وَرَأَى ثَوَابَهُ اشْتَاقَتْ نَفْسُهُ، فَذَلِكَ حِينَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرًّا قَيَّضَ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ شَيْطَانًا فَأَضَلَّهُ وَفَتَنَهُ حَتَّى يُقَالَ مَاتَ بِشَرِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَإِذَا حُضِرَ وَرَأَى مَا أُعِدَّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ جَزِعَتْ نَفْسُهُ، فَذَلِكَ حِينَ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَضَمَّنَ حَدِيثُ الْبَابِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَا فِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَاللِّقَاءُ يَقَعُ عَلَى أَوْجُهٍ مِنْهَا: الْمُعَايَنَةُ، وَمِنْهَا الْبَعْثُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} وَمِنْهَا الْمَوْتُ كَقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ
لآتٍ} وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: الْمُرَادُ بِلِقَاءِ اللَّهِ هُنَا الْمَصِيرُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ وَطَلَبُ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ بِهِ الْمَوْتَ، لِأَنَّ كُلًّا يَكْرَهُهُ، فَمَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا وَأَبْغَضَهَا أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَمَنْ آثَرَهَا وَرَكَنَ إِلَيْهَا كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ.
وَقَوْلُ عَائِشَةَ وَالْمَوْتُ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَوْتَ غَيْرُ اللِّقَاءِ، وَلَكِنَّهُ مُعْتَرِضٌ دُونَ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ، فَيَجِبُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلَ مَشَاقَّهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْفَوْزِ بِاللِّقَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ يُوهِمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِلِقَاءِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَوْتُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ لِقَاءَ اللَّهِ غَيْرُ الْمَوْتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَالْمَوْتُ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَوْتُ وَسِيلَةً إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ عُبِّرَ عَنْهُ بِلِقَاءِ اللَّهِ، وَقَدْ سَبَقَ ابْنَ الْأَثِيرِ إِلَى تَأْوِيلِ لِقَاءِ اللَّهِ بِغَيْرِ الْمَوْتِ الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فَقَالَ: لَيْسَ وَجْهُهُ عِنْدِي كَرَاهَةَ الْمَوْتِ وَشِدَّتَهُ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَخْلُو عَنْهُ أَحَدٌ، وَلَكِنَّ الْمَذْمُومَ مِنْ ذَلِكَ إِيثَارُ الدُّنْيَا وَالرُّكُونُ إِلَيْهَا وَكَرَاهِيَةُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ.
قَالَ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - عَابَ قَوْمًا بِحُبِّ الْحَيَاةِ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلِقَاءِ اللَّهِ إِيثَارُهُ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، فَلَا يُحِبُّ اسْتِمْرَارَ الْإِقَامَةِ فِيهَا، بَلْ يَسْتَعِدُّ لِلِارْتِحَالِ عَنْهَا وَالْكَرَاهَةُ بِضِدِّ ذَلِكَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْكَرَاهَةَ الَّتِي تُعْتَبَرُ شَرْعًا هِيَ الَّتِي تَقَعُ عِنْدَ النَّزْعِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا تُقْبَلُ فِيهَا التَّوْبَةُ حَيْثُ يُنكْشَفُ الْحَالُ لِلْمُحْتَضَرِ وَيَظْهَرُ لَهُ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ) فِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ، وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ وَإِنَّ الْكَافِرَ أَوِ الْفَاجِرَ إِذَا جَاءَهُ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ السُّوءِ أَوْ مَا يَلْقَى مِنَ الشَّرِّ إِلَخْ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى نَحْوُ مَا مَضَى.
قَوْلُهُ: اخْتَصَرَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَعَمْرٌو، عَنْ شُعْبَةَ) يَعْنِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عُبَادَةَ، وَمَعْنَى اخْتِصَارِهِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ دُونَ قَوْلِهِ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ إِلَخْ فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ وَهُوَ الطَّيَالِسِيُّ فَوَصَلَهَا التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا وَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَمْرٍو وَهُوَ ابْنُ مَرْزُوقٍ فَوَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ، وَيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَهُوَ غُنْدَرٌ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ إِلَخْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ لِابْنِ أَبِي دَاوُدَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ الْبَدَاءَةُ بِأَهْلِ الْخَيْرِ فِي الذِّكْرِ لِشَرَفِهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الشَّرِّ أَكْثَرَ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُجَازَاةَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَإِنَّهُ قَابَلَ الْمَحَبَّةَ بِالْمَحَبَّةِ، وَالْكَرَاهَةَ بِالْكَرَاهَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ اللِّقَاءَ أَعَمُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَيَحْتَمِلُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ لِقَاءَ اللَّهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ لِقَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَوَجْهُ الْبُعْدِ فِيهِ الْإِتْيَانُ بِمُقَابِلِهِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ لَا يَكْرَهُ لِقَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ، بَلْ كُلُّ مَنْ يَكْرَهُ الْمَوْتَ إِنَّمَا يَكْرَهُهُ خَشْيَةَ أَنْ لَا يَلْقَى ثَوَابَ اللَّهِ إِمَّا لِإِبْطَائِهِ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالشُّغْلِ بِالتَّبَعَاتِ، وَإِمَّا لِعَدَمِ دُخُولِهَا أَصْلًا كَالْكَافِرِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْمُحْتَضَرَ إِذَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ السُّرُورِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ بُشِّرَ بِالْخَيْرِ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ، وَفِيهِ أَنَّ مَحَبَّةَ لِقَاءِ اللَّهِ لَا تَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ مَعَ عَدَمِ تَمَنِّي الْمَوْتِ، كَأَنْ تَكُونَ الْمَحَبَّةُ حَاصِلَةً لَا يَفْتَرِقُ حَالُهُ فِيهَا بِحُصُولِ الْمَوْتِ وَلَا بِتَأَخُّرِهِ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْحَيَاةِ الْمُسْتَمِرَّةِ،
وَأَمَّا عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَالْمُعَايَنَةِ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ، بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَفِيهِ أَنَّ فِي كَرَاهَةِ الْمَوْتِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ تَفْصِيلًا، فَمَنْ كَرِهَهُ إِيثَارًا لِلْحَيَاةِ عَلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ كَانَ مَذْمُومًا، وَمَنْ كَرِهَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى الْمُؤَاخَذَةِ كَأَنْ يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ بِالْأُهْبَةِ بِأَنْ يَتَخَلَّصَ مِنَ التَّبَعَاتِ وَيَقُومَ بِأَمْرِ اللَّهِ كَمَا يَجِبُ فَهُوَ مَعْذُورٌ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى أَخْذِ الْأُهْبَةِ حَتَّى إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ لَا يَكْرَهُهُ، بَلْ يُحِبُّهُ لِمَا يَرْجُو بَعْدَهُ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى -.
وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَا يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: وَالْمَوْتُ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللِّقَاءَ أَعَمُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَإِذَا انْتَفَى اللِّقَاءُ انْتَفَتِ الرُّؤْيَةُ، وَقَدْ وَرَدَ بِأَصْرَحَ مِنْ هَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَفِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي مُوسَى مِثْلُ حَدِيثِ عُبَادَةَ دُونَ قَوْلِهِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ إِلَخْ وَكَأَنَّهُ أَوْرَدَهُ اسْتِظْهَارًا لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وَبَرِيدٌ بِمُوَحِّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ عَقِيلٍ، وَمَضَى فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ أَحَدًا، وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَذْكُرْ عُرْوَةَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ تَسْمِيَةَ بَعْضِ مَنْ أُبْهِمَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ شُيُوخِ الزُّهْرِيِّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ اخْتِيَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلِقَاءِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ خُيِّرَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، فَاخْتَارَ الْمَوْتَ، فَيَنْبَغِي الِاسْتِنَانُ بِهِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام قَالَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ لَمَّا أَتَاهُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ: هَلْ رَأَيْتَ خَلِيلًا يُمِيتُ خَلِيلَهُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِ قُلْ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ خَلِيلًا يَكْرَهُ لِقَاءَ خَلِيلِهِ؟ فَقَالَ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، الْآنَ فَاقْبِضْ. وَوَجَدْتُ فِي الْمُبْتَدَأِ لِأَبِي حُذَيْفَةَ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ الْبُخَارِيِّ أَحَدِ الضُّعَفَاءِ بِسَنَدٍ لَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ: يَا رَبِّ، إِنَّ عَبْدَكَ إِبْرَاهِيمَ جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ، فَقَالَ: قُلْ لَهُ: الْخَلِيلُ إِذَا طَالَ بِهِ الْعَهْدُ مِنْ خَلِيلِهِ اشْتَاقَ إِلَيْهِ، فَبَلَّغَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَبِّ، قَدِ اشْتَقْتُ إِلَى لِقَائِكَ، فَأَعْطَاهُ رَيْحَانَةً فَشَمَّهَا فَقُبِضَ فِيهَا.
42 - بَاب سَكَرَاتِ الْمَوْتِ
6510 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ - أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، يَشُكُّ عُمَرُ - فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِا وَجْهَهُ وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ، لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ. ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى. حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْعُلْبَةُ مِنْ الْخَشَبِ وَالرَّكْوَةُ مِنْ الْأَدَمِ.
6511 -
حَدَّثَنِي صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الأَعْرَابِ جُفَاةً يَأْتُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَسْأَلُونَهُ مَتَى السَّاعَةُ فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَصْغَرِهِمْ فَيَقُولُ إِنْ يَعِشْ هَذَا لَا يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ
حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ قَالَ هِشَامٌ يَعْنِي مَوْتَهُمْ"
6512 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ "عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ"
[الحديث 6512 - طرفه في 6513]
6513 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ "عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ"
6514 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ"
6515 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ غُدْوَةً وَعَشِيًّا إِمَّا النَّارُ وَإِمَّا الْجَنَّةُ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ إِلَيْهِ"
6516 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا"
قَوْلُهُ: بَابُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْكَافِ جَمْعُ سَكْرَةٍ، قَالَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ: السُّكْرُ حَالَةٌ تَعْرِضُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَعَقْلِهِ، وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ، وَيُطْلَقُ فِي الْغَضَبِ وَالْعِشْقِ وَالْأَلَمِ وَالنُّعَاسِ وَالْغَشْيِ النَّاشِئِ عَنِ الْأَلَمِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَذَكَرَ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ.
الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ أَيِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيِّ.
قَوْلُهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ.
قَوْلُهُ: شَكَّ عُمَرُ هُوَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ رَاوِيهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ بِلَفْظِ يَشُكُّ عُمَرُ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ شَكَّ ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ.
قَوْلُهُ: فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَهُ، عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَدَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَكَذَا تَقَدَّمَ لَهُمْ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ أَوَّلُهُ قِصَّةُ السِّوَاكِ، فَاخْتَصَرَهُ الْمُؤَلِّفُ هُنَا.
قَوْلُهُ: فَيَمْسَحُ بِهَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِهِمَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَكَذَا لَهُمْ فِي الْوَفَاةِ.
قَوْلُهُ: إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ سِوَى أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِلَفْظِ: ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى
هُنَاكَ. وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي، فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهَا بِلَفْظِ مَا أَغْبِطُ أَحَدًا بِهَوْنِ مَوْتٍ بَعْدَ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْبُخَارِيُّ.
قَوْلُهُ: الْعُلْبَةُ مِنَ الْخَشَبِ وَالرَّكْوَةُ مِنَ الْأَدَمِ) ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِهِمَا، وَوَقَعَ فِي الْمُحْكَمِ الرَّكْوَةُ شِبْهُ تَوْرٍ مِنْ أَدَمٍ، قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: دَلْوٌ صَغِيرٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَالْقَصْعَةِ تُتَّخَذُ مِنْ جِلْدٍ وَلَهَا طَوْقٌ خَشَبٌ. وَأَمَّا الْعُلْبَةُ فَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: هِيَ قَدَحُ الْأَعْرَابِ تُتَّخَذُ مِنْ جِلْدٍ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: قَدَحٌ ضَخْمٌ مِنْ خَشَبٍ، وَقَدْ يُتَّخَذُ مِنْ جِلْدٍ، وَقِيلَ: أَسْفَلُهُ جِلْدٌ وَأَعْلَاهُ خَشَبٌ مُدَوَّرٌ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ شِدَّةَ الْمَوْتِ لَا تَدُلُّ عَلَى نَقْصٍ فِي الْمَرْتَبَةِ، بَلْ هِيَ لِلْمُؤْمِنِ إِمَّا زِيَادَةٌ فِي حَسَنَاتِهِ، وَإِمَّا تَكْفِيرٌ لِسَيِّئَاتِهِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ أَحَادِيثِ الْبَابِ لِلتَّرْجَمَةِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي، قَوْلُهُ:(صَدَقَةُ) هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيُّ، وَعَبْدَةُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ. وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأَعْرَابِ لَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَائِهِمْ.
قَوْلُهُ: (جُفَاة) فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ بِالْجِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ بِالْمُهْمَلَةِ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ: أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْجِيمِ فَلِأَنَّ سُكَّانَ الْبَوَادِي يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الشَّظَفُ وَخُشُونَةُ الْعَيْشِ فَتَجْفُو أَخْلَاقُهُمْ غَالِبًا، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْحَاءِ فَلِقِلَّةِ اعْتِنَائِهِمْ بِالْمَلَابِسِ.
قَوْلُهُ: مَتَى السَّاعَةُ)؟ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ كَانَ الْأَعْرَابُ إِذَا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ مَتَى السَّاعَةُ؟ وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا طَرَقَ أَسْمَاعَهُمْ مِنْ تَكْرَارِ اقْتِرَابِهَا فِي الْقُرْآنِ فَأَرَادُوا أَنْ يَعْرِفُوا تَعْيِينَ وَقْتِهَا.
قَوْلُهُ: فَيَنْظُرُ إِلَى أَصْغَرِهِمْ، فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَنَظَرَ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فَقَالَ وَرِوَايَةُ عَبْدَةَ ظَاهِرُهَا تَكْرِيرُ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ سِيَاقَ مُسْلِمٍ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَهُ: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا بِعَيْنِهِ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِذِي الْخُوَيْصِرَةِ الْيَمَانِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ وَسَأَلَ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ وَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَكِنَّ جَوَابَهُ عَنِ السُّؤَالِ عَنِ السَّاعَةِ مُغَايِرٌ لِجَوَابِ هَذَا.
قَوْلُهُ: إِنْ يَعِشْ هَذَا لَا يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ) فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَعِنْدَهُ غُلَامٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَعَنْدَهُ غُلَامٌ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ وَمَدٍّ وَبَعْدَ الْوَاوِ هَمْزَةٌ ثُمَّ هَاءُ تَأْنِيثٍ، وَفِي أُخْرَى لَهُ غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِي وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ حَلِيفًا لِلْأَنْصَارِ وَكَانَ يَخْدُمُ الْمُغِيرَةَ، وَقَوْلُ أَنَسٍ وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِي وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ أَتْرَابِي يُرِيدُ فِي السِّنِّ، وَكَانَ سِنُّ أَنَسٍ حِينَئِذٍ نَحْوَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَوْلُهُ: حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ) قَالَ هِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ رَاوِيهِ يَعْنِي مَوْتَهُمْ) وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ قَالَ عِيَاضٌ: حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا يُفَسِّرُ حَدِيثَ أَنَسٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ سَاعَةُ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ أَحَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ انْقِرَاضُ ذَلِكَ الْقَرْنِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَضَتْ مِائَةُ سَنَةٍ مِنْ وَقْتِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِمَّنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ كَمَا جَزَمَ بِهِ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ وَقْتِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَقِيلَ: كَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ بَعْدَهُ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ احْتَجَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى كَذِبِ مَنِ ادَّعَى الصُّحْبَةَ أَوِ الرُّؤْيَةَ مِمَّنْ تَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: السَّاعَةُ جُزْءٌ مِنَ الزَّمَانِ
وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْقِيَامَةِ تَشْبِيهًا بِذَلِكَ لِسُرْعَةِ الْحِسَابِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} أَوْ لَمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وَأُطْلِقَتِ السَّاعَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: السَّاعَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ بَعْثُ النَّاسِ لِلْمُحَاسَبَةِ، وَالْوُسْطَى وَهِيَ مَوْتُ أَهْلِ الْقَرْنِ الْوَاحِدِ نَحْوُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ فَقَالَ: إِنْ يَطُلْ عُمُرُ هَذَا الْغُلَامِ لَمْ يَمُتْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالصُّغْرَى مَوْتُ الْإِنْسَانِ، فَسَاعَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ مَوْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ: تَخَوَّفْتُ السَّاعَةَ يَعْنِي مَوْتَهُ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَلَا هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَزْمًا. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: لَا أَدْرِي ابْتِدَاءً مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَفَاءِ وَقَبْلَ تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ لَارْتَابُوا فَعَدَلَ إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَنْقَرِضُونَ هُمْ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ تَمَكَّنَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ لَأَفْصَحَ لَهُمْ بِالْمُرَادِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَكَلَّمُ بِأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ دَلِيلٌ مَعْمُولٌ بِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فِي تَقْرِيبِ السَّاعَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى مُضِيِّ قَرْنٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي الدَّجَّالِ: إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ، فَجَوَّزَ خُرُوجَ الدَّجَّالِ فِي حَيَاتِهِ، قَالَ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
قُلْتُ: وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي أَبَدَاهُ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالَّذِي قَبْلَهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنِ السَّاعَةِ وَعَنِ الدَّجَّالِ تَعْيِينُ الْمُدَّةِ فِي السَّاعَةِ دُونَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى حَدَّثَ بِهَا خَوَاصَّ أَصْحَابِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أُمُورًا عِظَامًا كَمَا سَيَأْتِي بَعْضُهَا صَرِيحًا وَإِشَارَةً، وَمَضَى بَعْضُهَا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ دَعُوا السُّؤَالَ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى فَإِنَّهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَاسْأَلُوا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ انْقِرَاضُ عَصْرِكُمْ فَهُوَ أَوْلَى لَكُمْ، لِأَنَّ مَعْرِفَتَكُمْ بِهِ تَبْعَثُكُمْ عَلَى مُلَازَمَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ فَوْتِهِ، لِأَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَنِ الَّذِي يَسْبِقُ الْآخَرَ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ، قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَحَلْحَلَةُ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَلَامَيْنِ الْأُولَى سَاكِنَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ مِنِ ابْنِ كَعْبٍ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ.
قَوْلُهُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْمَارِّ وَلَا الْمَمْرُورِ بِجِنَازَتِهِ.
قَوْلُهُ: (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّآتِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِنَازَةٌ وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى عَلَى، وَذِكْرُ الْجِنَازَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَيِّتِ.
قَوْلُهُ: قَالَ مُسْتَرِيحٌ) كَذَا هُنَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فَقَالَ بِزِيَادَةِ الْفَاءِ فِي أَوَّلِهِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُحَارِبِيِّ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا لِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ طَلَعَتْ جِنَازَةٌ.
قَوْلُهُ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، الْوَاوُ فِيهِ بِمَعْنَى أَوْ، وَهِيَ لِلتَّقْسِيمِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِمُقْتَضَاهُ فِي جَوَابِ سُؤَالِهِمْ.
قَوْلُهُ: قَالُوا) أَيِ الصَّحَابَةُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّائِلِ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ قُلْنَا فَيَدْخُلُ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّائِلَ.
قَوْلُهُ: (مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ) فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَمَا الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ بِإِعَادَةِ مَا.
قَوْلُهُ: مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا، زَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ مِنْ أَوْصَابِ الدُّنْيَا وَالْأَوْصَابُ جَمْعُ وَصَبٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ وَهُوَ دَوَامُ الْوَجَعِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى فُتُورِ الْبَدَنِ، وَالنَّصَبُ بِوَزْنِهِ لَكِنْ أَوَّلُهُ نُونٌ هُوَ التَّعَبُ وَزْنَهُ وَمَعْنَاهُ، وَالْأَذَى مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، قَالَ ابْنُ التِّينِ:
يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُؤْمِنِ التَّقِيَّ خَاصَّةً، وَيَحْتَمِلُ كُلَّ مُؤْمِنٍ، وَالْفَاجِرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكَافِرَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْعَاصِي.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَمَّا اسْتِرَاحَةُ الْعِبَادِ فَلِمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ آذَاهُمْ وَإِنْ تَرَكُوهُ أَثِمُوا، وَاسْتِرَاحَةُ الْبِلَادِ مِمَّا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْجَدْبُ فَيَقْتَضِي هَلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَتَعَقَّبَ الْبَاجِيُّ أَوَّلَ كَلَامِهِ بِأَنَّ مَنْ نَالَهُ أَذَاهُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يُنْكِرَ بِقَلْبِهِ أَوْ يُنْكِرَ بِوَجْهٍ لَا يَنَالُهُ بِهِ أَذًى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِرَاحَةِ الْعِبَادِ مِنْهُ لِمَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ ظُلْمِهِ، وَرَاحَةُ الْأَرْضِ مِنْهُ لِمَا يَقَعُ عَلَيْهَا مِنْ غَصْبِهَا وَمَنْعِهَا مِنْ حَقِّهَا وَصَرْفِهِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ، وَرَاحَةِ الدَّوَابِّ مِمَّا لَا يَجُوزُ مِنْ إِتْعَابِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَعَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ كَذَا وَقَعَ هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ الثَّلَاثَةِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ جَدَّهُ، وَكَذَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيِّ، قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ السَّكَنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ مِثْلَهُ سَوَاءً، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ وَالْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ لَهُ لَا لِعَبْدِ رَبِّهِ.
قُلْتُ: وَجَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهَذَا السَّنَدِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ، وَلَكِنَّ التَّصْرِيحَ بِابْنِ أَبِي هِنْدٍ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ، كَذَا أَوْرَدَهُ بِدُونِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِهِ، وَأَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ وَأَبِي مُوسَى، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ تَامًّا، وَلَفْظُهُ مُرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجِنَازَةٍ فَذَكَرَ مِثْلَ سِيَاقِ مَالِكٍ، لَكِنْ قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مُسْتَرِيحٌ إِلَخْ.
(تَنْبِيهٌ): مُنَاسَبَةُ دُخُولِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَعْدُو أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ إِمَّا مُسْتَرِيحٌ وَإِمَّا مُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يُشَدَّدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَنْ يُخَفَّفَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِتَقْوَاهُ وَلَا بِفُجُورِهِ، بَلْ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى ازْدَادَ ثَوَابًا، وَإِلَّا فَيُكَفَّرُ عَنْهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ يَسْتَرِيحُ مِنْ أَذَى الدُّنْيَا الَّذِي هَذَا خَاتِمَتُهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا أُحِبُّ أَنْ يُهَوَّنَ عَلَيَّ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ، إِنَّهُ لَآخِرُ مَا يُكَفَّرُ بِهِ عَنِ الْمُؤْمِنِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَالَّذِي يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْبُشْرَى وَمَسَرَّةِ الْمَلَائِكَةِ بِلِقَائِهِ وَرِفْقِهِمْ بِهِ وَفَرَحِهِ بِلِقَاءِ رَبِّهِ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ كُلَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أَلَمِ الْمَوْتِ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ لَا يُحِسُّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ، قَوْلُهُ: سُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَلَيْسَ لِشَيْخِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ.
قَوْلُهُ: يَتْبَعُ الْمَيِّتَ) كَذَا لِلسَّرَخْسِيِّ، وَالْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الْمَرْءَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْمُؤْمِنَ وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ فَهُوَ الْمَحْفُوظُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ) هَذَا يَقَعُ فِي الْأَغْلَبِ، وَرُبَّ مَيِّتٍ لَا يَتْبَعُهُ إِلَّا عَمَلُهُ فَقَطْ، وَالْمُرَادُ مَنْ يَتْبَعُ جِنَازَتَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَرُفْقَتِهِ وَدَوَابِّهِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ، وَإِذَا انْقَضَى أَمْرُ الْحُزْنِ عَلَيْهِ رَجَعُوا، سَوَاءٌ أَقَامُوا بَعْدَ الدَّفْنِ أَمْ لَا، وَمَعْنَى بَقَاءِ عَمَلِهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَهُ الْقَبْرَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْقَبْرِ عِنْدَ أَحْمَدَ
وَغَيْرِهِ فَفِيهِ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ حَسَنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. وَقَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: بِالَّذِي يَسُوؤكَ، وَفِيهِ: عَمَلُكَ الْخَبِيثُ.
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: التَّبَعِيَّةُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ بَعْضُهَا حَقِيقَةٌ وَبَعْضُهَا مَجَازٌ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. قُلْتُ: هُوَ فِي الْأَصْلِ حَقِيقَةٌ فِي الْحِسِّ وَيَطْرُقُهُ الْمَجَازُ فِي الْبَعْضِ، وَكَذَا الْمَالُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَعَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّبَعِيَّةِ فِي الْحِسِّ.
قَوْلُهُ: إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَالسَّرَخْسِيِّ عَلَى مَقْعَدِهِ وَهَذَا الْعَرْضُ يَقَعُ عَلَى الرُّوحِ حَقِيقَةً، وَعَلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْبَدَنِ الِاتِّصَالَ الَّذِي يُمْكِنُ بِهِ إِدْرَاكُ التَّنْعِيمِ أَوِ التَّعْذِيبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَأَبْدَى الْقُرْطُبِيُّ فِي ذَلِكَ احْتِمَالَيْنِ: هَلْ هُوَ عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ، أَوْ عَلَيْهَا وَعَلَى جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ؟ وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ بَلَدِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَرْضِ هُنَا الْإِخْبَارُ بِأَنَّ هَذَا مَوْضِعَ جَزَائِكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَأُرِيدَ بِالتَّكْرِيرِ تَذْكَارُهُمْ بِذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْأَجْسَادَ تَفْنَى، وَالْعَرْضُ لَا يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ فَانْ، قَالَ: فَبَانَ أَنَّ الْعَرْضَ الَّذِي يَدُومُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَرْوَاحِ خَاصَّةً، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حَمْلَ الْعَرْضِ عَلَى الْإِخْبَارِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ مُقْتَضٍ لِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَّا بِصَارِفٍ يَصْرِفُهُ عَنِ الظَّاهِرِ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ الْحَمْلَ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلَوِ اخْتُصَّ بِالرُّوحِ لَمْ يَكُنْ لِلشَّهِيدِ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، لِأَنَّ رُوحَهُ مُنَعَّمَةٌ جَزْمًا كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَكَذَا رُوحُ الْكَافِرِ مُعَذَّبَةٌ فِي النَّارِ جَزْمًا، فَإِذَا حُمِلَ عَلَى الرُّوحِ الَّتِي لَهَا اتِّصَالٌ بِالْبَدَنِ ظَهَرَتْ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّهِيدِ وَفِي حَقِّ الْكَافِرِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: غُدْوَةً وَعَشِيَّةً أَيْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: إِمَّا النَّارُ وَإِمَّا الْجَنَّةُ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ بِلَفْظِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ ; وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بَحْثُ الْقُرْطُبِيِّ فِي الْمُفْهِمِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْعَرْضَ لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي وَالْكَافِرِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُخَلِّطُ فَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي سَيَصِيرُ إِلَيْهَا.
قُلْتُ: وَالِانْفِصَالُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ يَظْهَرُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ وَفِيهِ: ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا لَوْ عَصَيْتَهُ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا الْحَدِيثَ. وَفِيهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ وَفِيهِ فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِيهِ لَوْ أَطَعْتَهُ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَتَنْظُرُ فِي بَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ وَبَيْتٍ فِي النَّارِ، فَيَرَى أَهْلُ النَّارِ الْبَيْتَ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ: لَوْ عَمِلْتُمْ، وَيَرَى أَهْلُ الْجَنَّةِ الْبَيْتَ الَّذِي فِي النَّارِ فَيُقَالُ: لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ رُؤْيَةَ ذَلِكَ لِلنَّجَاةِ أَوِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ فِي الْمُذْنِبِ الَّذِي قُدِّرَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَذَّبَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَنْ يُقَالَ لَهُ مَثَلًا بَعْدَ عَرْضِ مَقْعَدِهِ مِنَ الْجَنَّةِ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لَوْ لَمْ تُذْنِبْ، وَهَذَا مَقْعَدُكَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِعِصْيَانِكَ. نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ مِنْ كُلِّ بَلِيَّةٍ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، إِنَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
قَوْلُهُ: فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ إِلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَيْهِ وَفِي طَرِيقِ مَالِكٍ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ بَيَّنْتُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ، حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ
مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ.
43 - بَاب نَفْخِ الصُّورِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: الصُّورُ كَهَيْئَةِ الْبُوقِ. زَجْرَةٌ: صَيْحَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّاقُورِ: الصُّورِ. الرَّاجِفَةُ: النَّفْخَةُ الْأُولَى. وَالرَّادِفَةُ: النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ
6517 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ، قَالَ: فَغَضِبَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ، فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلِ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مُوسَى فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ عز وجل.
6518 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَصْعَقُ النَّاسُ حِينَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ قَامَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَمَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
قَوْلُهُ: بَابُ نَفْخِ الصُّورِ) تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي الْأَنْعَامِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالنَّمْلِ وَالزُّمَرِ وَق وَغَيْرِهَا، وَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ وَالْأَحَادِيثِ، وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْوَاوِ جَمْعُ صُورَةٍ، وَتَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ النَّفْخُ فِي الْأَجْسَادِ لِتُعَادَ إِلَيْهَا الْأَرْوَاحُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ يُقَالُ: الصُّورُ يَعْنِي بِسُكُونِ الْوَاوِ جَمْعُ صُورَةٍ كَمَا يُقَالُ: سُورُ الْمَدِينَةِ جَمْعُ سُورَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْـ
…
ـرِ تَوَاضَعَتْ سُوَرُ الْمَدِينَةِ
فَيَسْتَوِي مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَحَكَى مِثْلَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ، وَزَادَ: كَالصُّوفِ جَمْعِ صُوفَةٍ، قَالُوا: وَالْمُرَادُ النَّفْخُ فِي الصُّورِ وَهِيَ الْأَجْسَادُ لِتُعَادَ فِيهَا الْأَرْوَاحُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وَتُعُقِّبَ قَوْلُهُ: جَمْعٌ بِأَنَّ هَذِهِ أَسْمَاءُ أَجْنَاسٍ لَا جُمُوعٌ، وَبَالَغَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ فِي الرَّدِّ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِنَّهُ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الصُّورَ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ بَيْضَاءَ فِي صَفَاءِ الزُّجَاجَةِ، ثُمَّ قَالَ لِلْعَرْشِ: خُذِ الصُّورَ فَتَعَلَّقْ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: كُنْ، فَكَانَ إِسْرَافِيلُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصُّورَ، فَأَخَذَهُ وَبِهِ ثُقْبٌ بِعَدَدِ كُلِّ رُوحٍ مَخْلُوقَةٍ وَنَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: ثُمَّ تُجْمَعُ الْأَرْوَاحُ كُلُّهَا فِي الصُّورِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ فَيَنْفُخُ فِيهِ فَتَدْخُلُ كُلُّ رُوحٍ فِي جَسَدِهَا، فَعَلَى هَذَا فَالنَّفْخُ يَقَعُ فِي الصُّورِ أَوَّلًا لِيَصِلَ النَّفْخُ بِالرُّوحِ إِلَى الصُّورِ وَهِيَ الْأَجْسَادُ، فَإِضَافَةُ النَّفْخِ إِلَى الصُّورِ الَّذِي هُوَ الْقَرْنُ حَقِيقَةً، وَإِلَى الصُّورِ الَّتِي هِيَ الْأَجْسَادُ مَجَازٌ.
قَوْلُهُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: الصُّورُ كَهَيْئَةِ الْبُوقِ) وَصَلَهُ
الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} قَالَ: كَهَيْئَةِ الْبُوقِ. وَقَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: الْبُوقُ الَّذِي يُزْمَرُ بِهِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَيُقَالُ لِلْبَاطِلِ، يَعْنِي يُطْلَقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَجَازًا لِكَوْنِهِ مِنْ جِنْسِ الْبَاطِلِ.
تَنْبِيهٌ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مَذْمُومًا أَنْ لَا يُشَبَّهَ بِهِ الْمَمْدُوحُ، فَقَدْ وَقَعَ تَشْبِيهُ صَوْتِ الْوَحْيِ بِصَلْصَلَةِ الْجَرْسِ مَعَ النَّهْيِ عَنِ اسْتِصْحَابِ الْجَرْسِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَالصُّورُ إِنَّمَا هُوَ قَرْنٌ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي قِصَّةِ بَدْءِ الْأَذَانِ بِلَفْظِ الْبُوقِ وَالْقَرْنِ فِي الْآلَةِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْيَهُودُ لِلْأَذَانِ، وَيُقَالُ: إِنَّ الصُّورَ اسْمُ الْقَرْنِ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ نَفَخْنَاهُمْ غَدَاةَ النَّقْعَيْنِ
…
نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا الصُّورُ؟ قَالَ: قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ. وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَاسْتَمَعَ الْإِذْنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِأَحْمَدَ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ وَهُوَ صَاحِبُ الصُّورِ يَعْنِي إِسْرَافِيلَ وَفِي أَسَانِيدِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقَالٌ، وَلِلْحَاكِمِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ طَرَفَ صَاحِبِ الصُّورِ مُنْذُ وُكِّلَ بِهِ مُسْتَعِدٌّ يَنْظُرُ نَحْوَ الْعَرْشِ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْمَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِ طَرَفُهُ، كَأَنَّ عَيْنَيْهِ كَوْكَبَانِ دُرِّيَّانِ.
قَوْلُهُ: زَجْرَةٌ: صَيْحَةٌ هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} قَالَ: صَيْحَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} قَالَ: صَيْحَةٌ. قُلْتُ: وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْخِ الصُّورِ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ، كَمَا عَبَّرَ بِهَا عَنِ النَّفْخَةِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّاقُورُ: الصُّورُ. وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} قَالَ؛ الصُّورُ. وَمَعْنَى نُقِرَ نُفِخَ، قَالَهُ فِي الْأَسَاسِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} قَالَ: قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدِ الْتَقَمَ صَاحِبُ الْقَرْنِ الْقَرْنَ الْحَدِيثَ.
(تَنْبِيهٌ): اشْتُهِرَ أَنَّ صَاحِبَ الصُّورِ إِسْرَافِيلُ عليه السلام، وَنَقَلَ فِيهِ الْحَلِيمِيُّ الْإِجْمَاعَ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْمَذْكُورِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ الَّذِي أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى فِي الْكَبِيرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الطِّوَالَاتِ، وَعَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ فِي كِتَابِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَدَارُهُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، وَاضْطَرَبَ فِي سَنَدِهِ مَعَ ضَعْفِهِ، فَرَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ تَارَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، وَتَارَةً بِوَاسِطَةِ رَجُلٍ مُبْهَمٍ، وَمُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ تَارَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، وَتَارَةً بِوَاسِطَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مُبْهَمٍ أَيْضًا، وَأَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الشَّامِيُّ أَحَدُ الضُّعَفَاءِ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَاعْتَرَضَ مُغْلَطَايْ عَلَى عَبْدِ الْحَقِّ فِي تَضْعِيفِهِ الْحَدِيثَ بِإِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّامِيَّ أَضْعَفُ مِنْهُ، وَلَعَلَّهُ سَرَقَهُ مِنْهُ فَأَلْصَقَهُ بِابْنِ عَجْلَانَ، وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّهُ مَتْرُوكٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ، وَقَالَ الْخَلِيلِيُّ: شَيْخٌ ضَعِيفٌ شَحَنَ
تَفْسِيرَهُ بِمَا لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي حَدِيثِ الصُّورِ: جَمَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ مِنْ عِدَّةِ آثَارٍ وَأَصْلُهُ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَسَاقَهُ كُلَّهُ مَسَاقًا وَاحِدًا. وَقَدْ صَحَّحَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي سِرَاجِهِ وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ، وَقَوْلُ عَبْدِ الْحَقِّ فِي تَضْعِيفِهِ أَوْلَى، وَضَعَّفَهُ قَبْلَهُ الْبَيْهَقِيُّ، فَوَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ إِنَّ اللَّهَ خَلْقَ الصُّورَ فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى الْعَرْشِ الْحَدِيثَ. وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا جَاءَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ أَصْلُهُ، وَجَاءَ أَنَّ الَّذِي يَنْفُخُ فِي الصُّورِ غَيْرُهُ، فَفِي الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَا كَعْبُ، أَخْبِرْنِي عَنْ إِسْرَافِيلَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَمَلَكُ الصُّورِ جَاثٍ عَلَى إِحْدَى رُكْبَتَيْهِ وَقَدْ نَصَبَ الْأُخْرَى يَلْتَقِمُ الصُّورَ مَحْنِيًّا ظَهْرُهُ شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى إِسْرَافِيلَ، وَقَدْ أُمِرَ إِذَا رَأَى إِسْرَافِيلَ قَدْ ضَمَّ جَنَاحَيْهِ أَنْ يَنْفُخَ فِي الصُّورِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا عَلِيَّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ فَفِيهِ ضَعْفٌ. فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا يَنْفُخَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ: مَا مِنْ صَبَاحٍ إِلَّا وَمَلَكَانِ مُوَكَّلَانِ بِالصُّورِ.
وَمَنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضَمْرَةَ مِثْلَهُ، وَزَادَ يَنْتَظِرَانِ مَتَى يَنْفُخَانِ وَنَحْوُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: النَّافِخَانِ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ رَأْسُ أَحَدِهِمَا بِالْمَشْرِقِ وَرِجْلَاهُ بِالْمَغْرِبِ - أَوْ قَالَ بِالْعَكْسِ - يَنْتَظِرَانِ مَتَى يُؤْمَرَانِ أَنْ يَنْفُخَا فِي الصُّورِ فَيَنْفُخَا. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِغَيْرِ شَكٍّ، وَلِابْنِ مَاجَهْ وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: إِنَّ صَاحِبَيِ الصُّورِ بِأَيْدِيهِمَا قَرْنَانِ يُلَاحِظَانِ النَّظَرَ مَتَى يُؤْمَرَانِ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّهُ إِذَا رَأَى إِسْرَافِيلَ ضَمَّ جَنَاحَيْهِ نَفَخَ أَنَّهُ يَنْفُخُ النَّفْخَةَ الْأُولَى وَهِيَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، ثُمَّ يَنْفُخُ إِسْرَافِيلُ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ نَفْخَةُ الْبَعْثِ.
قَوْلُهُ: الرَّاجِفَةُ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَالرَّادِفَةُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ) هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ وَالنَّازِعَاتِ، وَبِهِ جَزَمَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الرَّاجِفَةُ الزَّلْزَلَةُ، وَالرَّادِفَةُ الدَّكْدَكَةُ. أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ، وَنَحْوَهُ فِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ: ثُمَّ تَرْتَجُّ الْأَرْضُ وَهِيَ الرَّاجِفَةُ فَتَكُونُ الْأَرْضُ كَالسَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الزَّلْزَلَةَ تَنْشَأُ عَنْ نَفْخَةِ الصَّعْقِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى عليه السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَكَرْتُ فِيهِ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ يَقَعُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَتُعُقِّبَ كَلَامُهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهَا ثَلَاثٌ: نَفْخَةُ الْفَزَعِ كَمَا فِي النَّمْلِ، وَنَفْخَةُ الصَّعْقِ كَمَا فِي الزُّمَرِ، وَنَفْخَةُ الْبَعْثِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الزُّمَرِ أَيْضًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا نَفْخَتَانِ فَقَطْ لِثُبُوتِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} فِي كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُغَايَرَةِ الصَّعْقِ لِلْفَزَعِ أَنْ لَا يَحْصُلَا مَعًا مِنَ النَّفْخَةِ الْأُولَى، ثُمَّ وَجَدْتُ مُسْتَنَدَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ فَقَالَ فِيهِ: ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ثَلَاثُ نَفَخَاتٍ: نَفْخَةِ الْفَزَعُ، وَنَفْخَةِ الصَّعْقِ، وَنَفْخَةِ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ هَكَذَا مُخْتَصَرًا، وَقَدْ ذَكَرْتُ أَنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ وَمُضْطَرِبٌ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُمَا نَفْخَتَانِ، وَلَفْظُهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ
قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا: ثُمَّ يَقُومُ مَلَكُ الصُّورِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَيَنْفُخُ فِيهِ، وَالصُّورُ قَرْنٌ، فَلَا يَبْقَى لِلَّهِ خَلْقٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَاتَ إِلَّا مَنْ شَاءَ رَبُّكَ، ثُمَّ يَكُونُ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ. وَفِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ رَفَعَهُ: إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ الصَّعْقَةُ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ. الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّمَرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا نَفْخَتَانِ فَقَطْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَفِيهِ شَرْحُ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا قِيلَ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً أَبَيْتَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَاهُ امْتَنَعْتَ مِنْ تَبْيِينِهِ لِأَنِّي لَا أَعْلَمُهُ فَلَا أَخُوضُ فِيهِ بِالرَّأْيِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: امْتَنَعْتُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُفَسِّرْهُ لِأَنَّهُ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُ امْتَنَعْتُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْ تَفْسِيرِهِ، فَعَلَى الثَّانِي لَا يَكُونُ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْهُ، قَالَ: وَقَدْ جَاءَ أَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ عَامًا.
قُلْتُ: وَقَعَ كَذَلِكَ فِي طَرِيقٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الرَّقَائِقِ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَةً الْأُولَى يُمِيتُ اللَّهُ بِهَا كُلَّ حَيٍّ، وَالْأُخْرَى يُحْيِي اللَّهُ بِهَا كُلَّ مَيِّتٍ، وَنَحْوُهُ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَعِنْدَهُ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالتَّعْيِينِ، فَأَخْرَجَ عَنْهُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّهُ لَمَّا قَالُوا أَرْبَعُونَ مَاذَا قَالَ هَكَذَا سَمِعْتُ وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَتَادَةَ فَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مُنْقَطِعًا ثُمَّ قَالَ قَالَ أَصْحَابُهُ: مَا سَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا زَادَنَا عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ مِنْ رَأْيِهِمْ أَنَّهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى قَوْلِ الْحَلِيمِيِّ: اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قُلْتُ: وَجَاءَ فِيمَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ إِذَا مَاتُوا بَعْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ - سُبْحَانَهُ - أَنَا الْجَبَّارُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ، فَيَقُولُ: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بَعْدَ الْحَشْرِ، وَرَجَّحَهُ، وَرَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ الْأَوَّلَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزَّعْرَاءِ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ الدَّجَّالَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يَكُونُ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، فَلَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ خَلْقٌ إِلَّا فِي الْأَرْضِ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَ: فَيُرْسِلُ اللَّهُ مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَتَنْبُتُ جُسْمَانُهُمْ وَلَحْمَاتُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ كَمَا تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنَ الرَّيِّ. وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.
(تَنْبِيهٌ): إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النَّفْخَةَ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ فَكَيْفَ تَسْمَعُهَا الْمَوْتَى؟ وَالْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَفْخَةُ الْبَعْثِ تَطُولُ إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ إِحْيَاؤُهُمْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَتَقَدَّمَ الْإِلْمَامُ فِي قِصَّةِ مُوسَى بِشَيْءٍ مِمَّا وَرَدَ فِي تَعْيِينِ مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وَحَاصِلُ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُمُ الْمَوْتَى كُلُّهُمْ لِكَوْنِهِمْ لَا إِحْسَاسَ لَهُمْ فَلَا يُصْعَقُونَ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ وَفِيهِ مَا فِيهِ، وَمُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهِمْ خَبَرٌ صَحِيحٌ، وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ
(1)
فَقَالَ: قَدْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ; وَفِي الزُّهْدِ لِهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَوْقُوفًا: هُمُ الشُّهَدَاءُ، وَسَنَدُهُ إِلَى سَعِيدٍ صَحِيحٌ، وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الَّذِي بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي.
الثَّالِثُ: الْأَنْبِيَاءُ، وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ الْبَيْهَقِيُّ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ فِي تَجْوِيزِهِ أَنْ يَكُونَ مُوسَى مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، قَالَ: وَوَجْهُهُ
(1)
القرطبي صاحب "التذكرة" تلميذ القرطبي صاحب "المفهم شرح مسلم"
عِنْدِي أَنَّهُمْ أَحْيَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ النَّفْخَةُ الْأُولَى صَعِقُوا، ثُمَّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَوْتًا فِي جَمِيعِ مَعَانِيهِ إِلَّا فِي ذَهَابِ الِاسْتِشْعَارِ.
وَقَدْ جَوَّزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ مُوسَى مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَذْهَبُ اسْتِشْعَارُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُ فِي صَعْقَةِ الطُّورِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَثَرَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الشُّهَدَاءِ، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَنِ الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُصْعَقُوا؟ قَالَ: هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ عز وجل، صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ.
الرَّابِعُ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ فِي تَفْسِيرِهِ: بَلَغَنِي أَنَّ آخِرَ مَنْ يَبْقَى جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ، ثُمَّ يَمُوتُ الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: مُتْ فَيَمُوتُ، قُلْتُ: وَجَاءَ نَحْوُ هَذَا مُسْنَدًا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِلَفْظِ: فَكَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ ثَلَاثَةٌ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ الْحَدِيثَ. وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ أَنَسٍ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، وَوَصَلَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الشَّامِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ يَحْيَى بْنِ سَلَامٍ، وَنَحْوَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَزَادَ لَيْسَ فِيهِمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ لِأَنَّهُمْ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ.
الْخَامِسُ: يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِمَّا فِي الرَّابِعِ.
السَّادِسُ: الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورُونَ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الطَّوِيلِ الْمَعْرُوفِ بِحَدِيثِ الصُّورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ مُضْطَرِبٌ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ نَحْوَهُ، وَقَالَ: هُمُ اثْنَا عَشَرَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مَقْطُوعًا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَجَمَعَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ الْقَوْلِ إِنَّهُمُ الشُّهَدَاءُ فَفِيهِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنِ اسْتُثْنِيَ حِينَ الْفَزَعِ؟ قَالَ الشُّهَدَاءُ ثُمَّ ذَكَرَ نَفْخَةَ الصَّعْقِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
السَّابِعُ: مُوسَى وَحْدَهُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ قَتَادَةَ، وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ، عَنْ جَابِرٍ.
الثَّامِنُ: الْوِلْدَانُ الَّذِينَ فِي الْجَنَّةِ وَالْحَوَرُ الْعَيْنُ.
التَّاسِعُ: هُمْ وَخُزَّانُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، حَكَاهُمَا الثَّعْلَبِيُّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ.
الْعَاشِرُ: الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ، جَزَمَ بِهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ فَقَالَ: الْمَلَائِكَةُ أَرْوَاحٌ لَا أَرْوَاحَ فِيهَا فَلَا يَمُوتُونَ أَصْلًا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَثْنِي اللَّهُ وَمَا يَدَعُ أَحَدًا إِلَّا أَذَاقَهُ الْمَوْتَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ قَوْلًا آخَرَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: اسْتَضْعَفَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ مِنْ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ سُكَّانِهَا، لِأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، فَحَمَلَتُهُ لَيْسُوا مِنْ سُكَّانِهَا، وَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ مِنَ الصَّافِّينَ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَلِأَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ عَالَمَانِ بِانْفِرَادِهِمَا خُلِقَتَا لِلْبَقَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ مُطَوَّلًا وَفِيهِ يَلْبَثُونَ مَا لَبَّثَهُمْ ثُمَّ تُبْعَثُ الصَّائِحَةُ فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَدَعُ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا مَاتَ حَتَّى الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ مَعَ رَبِّكَ.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ فَمَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَبَقِيَّتُهُ أَمْ لَا أَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.
قَوْلُهُ: رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ يَعْنِي الْخُدْرِيَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) يَعْنِي أَصْلَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْأَشْخَاصِ، وَفِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَكَرْتُ شَرْحَهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى أَيْضًا.
44 - بَاب يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رَوَاهُ نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6519 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ أبي سلمة، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟.
6520 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ بَلَى قَالَ تَكُونُ الأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً كَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ قَالَ إِدَامُهُمْ بَالَامٌ وَنُونٌ قَالُوا وَمَا هَذَا قَالَ ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا"
6521 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ"
قَوْلُهُ: بَابُ يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لَمَّا ذَكَرَ تَرْجَمَةَ نَفْخِ الصُّورِ أَشَارَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ قَبْلَ آيَةِ النَّفْخِ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ، وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} مَا قَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ أَنَّ قَبْضَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَقَعُ بَعْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ أَوْ مَعَهُ وَسَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: رَوَاهُ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) سَقَطَ هَذَا التَّعْلِيقُ هُنَا فِي رِوَايَةِ بَعْضِ شُيُوخِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ، قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) كَذَا قَالَ يُونُسُ، وَخَالَفَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ فَقَالَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّمَرِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ الطَّرِيقَيْنِ وَقَالَ: هُمَا مَحْفُوظَانِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَسَأُشْبِعُ الْقَوْلَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَأَقْتَصِرُ هُنَا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْدِيلِ الْأَرْضِ لِمُنَاسَبَةِ الْحَالِ.
قَوْلُهُ: (يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا الْحَدِيثُ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ: الْقَبْضُ، وَالطَّيُّ، وَالْأَخْذُ، وَكُلُّهَا بِمَعْنَى الْجَمْعِ، فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ مَبْسُوطَةٌ وَالْأَرْضَ مَدْحُوَّةٌ مَمْدُودَةٌ، ثُمَّ رَجَعَ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ وَالتَّبْدِيلِ، فَعَادَ ذَلِكَ إِلَى ضَمِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ وَإِبَادَتِهَا، فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِصِفَةِ قَبْضِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَجَمْعِهَا بَعْدَ بَسْطِهَا وَتَفَرُّقِهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْمَقْبُوضِ
وَالْمَبْسُوطِ لَا عَلَى الْبَسْطِ وَالْقَبْضِ، وقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِيعَابِ انْتَهَى. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} هَلِ الْمُرَادُ ذَاتُ الْأَرْضِ وَصِفَتُهَا أَوْ تَبْدِيلُ صِفَتِهَا فَقَطْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي شَرْحِ ثَالِثِ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
الْحَدِيثُ الثَّانِي، قَوْلُهُ: عَنْ خَالِدٍ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ إِلَى سَعِيدٍ، وَمِنْهُ إِلَى مُنْتَهَاهُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي أَرْضَ الدُّنْيَا (خُبْزَة) بِضَمِّ الْخاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الزَّايِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْخُبْزَةُ الطُّلْمَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ عَجِينٌ يُوضَعُ فِي الْحُفْرَةِ بَعْدَ إِيقَادِ النَّارِ فِيهَا، قَالَ: وَالنَّاسُ يُسَمُّونَهَا الْمَلَّةَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَإِنَّمَا الْمَلَّةُ الْحُفْرَةُ نَفْسُهَا.
قَوْلُهُ: يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيْ يَمِيلُهَا، مِنْ كَفَأْتُ الْإِنَاءَ إِذَا قَلَّبْتُهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يَكْفَؤُهَا بِسُكُونِ الْكَافِ.
قَوْلُهُ: كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَعْنِي خُبْزَ الْمَلَّةِ الَّذِي يَصْنَعُهُ الْمُسَافِرُ، فَإِنَّهَا لَا تُدْحَى كَمَا تُدْحَى الرُّقَاقَةُ، وَإِنَّمَا تُقَلَّبُ عَلَى الْأَيْدِي حَتَّى تَسْتَوِيَ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ السَّفَرَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ سُفْرَةٍ وَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُتَّخَذُ لِلْمُسَافِرِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ السُّفْرَةُ.
قَوْلُهُ: نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ النُّزُلُ بِضَمِّ النُّونِ وَبِالزَّايِ وَقَدْ تُسَكَّنُ: مَا يُقَدَّمُ لِلضَّيْفِ وَلِلْعَسْكَرِ، يُطْلَقُ عَلَى الرِّزْقِ وَعَلَى الْفَضْلِ، وَيُقَالُ: أَصْلَحَ لِلْقَوْمِ نُزُلَهُمْ، أَيْ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغِذَاءِ، وَعَلَى مَا يُعَجَّلُ لِلضَّيْفِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَهُوَ اللَّائِقُ هُنَا، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا مَنْ سَيَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، لَا أَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَهَا حَتَّى يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.
قُلْتُ: وَظَاهِرُ الْخَبَرِ يُخَالِفُهُ، وَكَأَنَّهُ بَنَى عَلَى مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: تَكُونُ الْأَرْضُ خُبْزَةً بَيْضَاءَ يَأْكُلُ الْمُؤْمِنُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَوْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ نَحْوَهُ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ مِثْلَ الْخُبْزَةِ يَأْكُلُ مِنْهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَفْرَغُوا مِنَ الْحِسَابِ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ نَحْوُهُ، وَسَأَذْكُرُ بَقِيَّةَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ، عَنِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُشْكِلٌ جِدًّا لَا مِنْ جِهَةِ إِنْكَارِ صُنْعِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، بَلْ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ عَلَى قَلْبِ جِرْمِ الْأَرْضِ مِنَ الطَّبْعِ الَّذِي عَلَيْهِ إِلَى طَبْعِ الْمَطْعُومِ وَالْمَأْكُولِ، مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الْآثَارِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ تَصِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا وَتَنْضَمُّ إِلَى جَهَنَّمَ، فَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِيهِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ خُبْزَةً وَاحِدَةً أَيْ كَخُبْزَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نَعْتِهَا كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ يَعْنِي الْمَذْكُورَ بَعْدَهُ كَقُرْصَةِ النَّقِيَّ، فَضَرَبَ الْمَثَلَ بِهَا لِاسْتِدَارَتِهَا وَبَيَاضِهَا، فَضَرْبُ الْمَثَلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِخُبْزَةٍ تُشْبِهُ الْأَرْضَ فِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا بَيَانُ الْهَيْئَةِ الَّتِي تَكُونُ الْأَرْضُ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ، وَالْآخَرُ بَيَانُ الْخُبْزَةِ الَّتِي يُهَيِّئُهَا اللَّهُ - تَعَالَى - نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَبَيَانُ عِظَمِ مِقْدَارِهَا ابْتِدَاعًا وَاخْتِرَاعًا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْإِشْكَالُ لِأَنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَيْنِ فِي بَابِ الْحَشْرِ، فَظَنَّ أَنَّهُمَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ بَابٍ، وَحَدِيثُ سَهْلٍ مِنْ بَابٍ، وَأَيْضًا فَالتَّشْبِيهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ، بَلْ يَكْفِي حُصُولُهُ فِي الْبَعْضِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ شَبَّهَ أَرْضَ الْحَشْرِ بِالْخُبْزَةِ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالْبَيَاضِ، وَشَبَّهَ أَرْضَ الْجَنَّةِ فِي كَوْنِهَا نُزُلًا لِأَهْلِهَا وَمُهَيَّأَةً لَهُمْ تَكْرِمَةً بِعُجَالَةِ الرَّاكِبِ زَادَهُ يَقْنَعُ بِهِ فِي سَفَرِهِ. قُلْتُ: آخِرُ كَلَامِهِ يُقَرِّرُ مَا قَالَ الْقَاضِي أَنَّ كَوْنَ أَرْضِ الدُّنْيَا تَصِيرُ نَارًا مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ كَوْنَهَا تَصِيرُ خُبْزَةً يَأْكُلُ مِنْهَا أَهْلُ الْمَوْقِفِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَجَازِ، وَالْآثَارُ الَّتِي أَوْرَدْتُهَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِ تَرُدُّ عَلَيْهِ، وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ،
وَقُدْرَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، بَلِ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ حَقِيقَةً أَبْلَغُ وَكَوْنُ أَهْلِ الدُّنْيَا
(1)
وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُعَاقَبُونَ بِالْجُوعِ فِي طُولِ زَمَانِ الْمَوْقِفِ، بَلْ يَقْلِبُ اللَّهُ لَهُمْ بِقُدْرَتِهِ طَبْعَ الْأَرْضِ حَتَّى يَأْكُلُوا مِنْهَا مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ بِغَيْرِ عِلَاجٍ وَلَا كُلْفَةٍ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَيِ الَّذِينَ يَصِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ أَعَمَّ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ يَقَعُ بَعْدَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا أَوْ قَبْلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: فَأَتَى رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَتَاهُ.
قَوْلُهُ: مِنَ الْيَهُودِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ) يُرِيدُ أَنَّهُ أَعْجَبَهُ إِخْبَارُ الْيَهُودِيِّ عَنْ كِتَابِهِمْ بِنَظِيرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ مُوَافَقَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِمُوَافَقَتِهِمْ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ نَاجِذٍ وَهُوَ آخِرُ الْأَضْرَاسِ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ أَرْبَعُ نَوَاجِذَ، وَتُطْلَقُ النَّوَاجِذُ أَيْضًا عَلَى الْأَنْيَابِ وَالْأَضْرَاسِ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَالَ.
قَوْلُهُ: أَلَا أُخْبِرُكَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَلَا أُخْبِرُكُمْ.
قَوْلُهُ: بِإِدَامِهِمْ أَيْ مَا يُؤْكَلُ بِهِ الْخُبْزُ.
قَوْلُهُ: (بَالَامٌ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَوْلُهُ وَنُونٌ أَيْ بِلَفْظِ أَوَّلِ السُّورَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالُوا) أَيِ الصَّحَابَةُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقَالُوا.
قَوْلُهُ: مَا هَذَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَمَا هَذَا بِزِيَادَةِ وَاوٍ.
قَوْلُهُ: قَالَ ثَوْرٌ وَنُونٌ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَكَذَا رَوَوْهُ لَنَا، وَتَأَمَّلْتُ النُّسَخَ الْمَسْمُوعَةَ مِنَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ، وَالْفَرَبْرِيِّ فَإِذَا كُلُّهَا عَلَى نَحْوٍ وَاحِدٍ. قُلْتُ: وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فَأَمَّا نُونٌ فَهُوَ الْحُوتُ عَلَى مَا فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ، وَأَمَّا بَالَامٌ فَدَلَّ التَّفْسِيرُ مِنَ الْيَهُودِيِّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلثَّوْرِ، وَهُوَ لَفْظٌ مُبْهَمٌ لَمْ يَنْتَظِمْ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّفْرِقَةِ اسْمًا لِشَيْءٍ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودِيُّ أَرَادَ أَنْ يُعَمِّيَ الِاسْمَ فَقَطَعَ الْهِجَاءَ وَقَدَّمَ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْهِجَاءِ لَامٌ يَاءٌ هِجَاءٌ لَأَى بِوَزْنِ لَعَى وَهُوَ الثَّوْرُ الْوَحْشِيُّ، وَجَمْعُهُ آلَاءٌ بِثَلَاثِ هَمَزَاتٍ وَزْنُ أَحْبَالٍ فَصَحَّفُوهُ فَقَالُوا: بَالَامٌ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ وَكَتَبُوهُ بِالْهِجَاءِ فَأَشْكَلَ الْأَمْرُ، هَذَا أَقْرَبُ مَا يَقَعُ لِي فِيهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلِسَانِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِلِسَانِهِمْ، وَأَكْثَرُ الْعِبْرَانِيَّةِ فِيمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مَقْلُوبٌ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ بِتَقْدِيمٍ فِي الْحُرُوفِ وَتَأْخِيرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: أَوْرَدَ الْحُمَيْدِيُّ فِي اخْتِصَارِهِ يَعْنِي الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ هَذَا الْحَدِيثَ بِلَفْظِ بِاللَّأَى بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَأَلِفِ وَصْلٍ وَلَامٍ ثَقِيلَةٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ خَفِيفَةٌ بِوَزْنِ الرَّحَى، وَاللَّأَى الثَّوْرُ الْوَحْشِيُّ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ أَحَدًا رَوَاهُ كَذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ مِنْ إِصْلَاحِهِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا بَقِيَتِ الْمِيمُ زَائِدَةً إِلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّهَا حُرِّفَتْ عَنِ الْيَاءِ الْمَقْصُورَةِ، قَالَ: وَكُلُّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ، قَالَ: وَأَوْلَى مَا يُقَالُ فِي هَذَا أَنْ تَبْقَى الْكَلِمَةُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا عِبْرَانِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ الصَّحَابَةُ الْيَهُودِيَّ عَنْ تَفْسِيرِهَا، وَلَوْ كَانَ اللَّأَى لَعَرَفُوهَا، لِأَنَّهَا مِنْ لِسَانِهِمْ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِهَذَا فَقَالَ: هِيَ لَفَظَّةٌ عِبْرَانِيَّةٌ مَعْنَاهَا ثَوْرٌ.
قَوْلُهُ: يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا قَالَ عِيَاضٌ: زِيَادَةُ الْكَبِدِ وَزَائِدَتُهَا هِيَ الْقِطْعَةُ الْمُنْفَرِدَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا، وَهِيَ أَطْيَبُهُ، وَلِهَذَا خُصَّ بِأَكْلِهَا السَّبْعُونَ أَلْفًا، وَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فُضِّلُوا بِأَطْيَبِ النُّزُلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَبَّرَ بِالسَّبْعِينَ عَنِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، وَلَمْ يُرِدِ الْحَصْرَ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْهِجْرَةِ قُبَيْلَ الْمَغَازِي فِي مَسَائِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّ أَوَّلَ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ، وَأَنَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ تُحْفَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ زِيَادَةُ
(1)
بياض في الأصل.
كَبِدِ النُّونِ. وَفِيهِ: غِذَاؤُهُمْ عَلَى أَثَرِهَا أَنْ يُنْحَرَ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا. وَفِيهِ: وَشَرَابُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَيْنٍ تُسَمَّى سَلْسَبِيلَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا: إِنَّ لِكُلِّ ضَيْفٍ جَزُورًا، وَإِنِّي أَجْزُرُكُمُ الْيَوْمَ حُوتًا وَثَوْرًا، فَيُجْزَرُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ، قَوْلُهُ: (مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَيِ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: يُحْشَرُ النَّاسُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: أَرْضٍ عَفْرَاءَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعَفَرُ: بَيَاضٌ لَيْسَ بِالنَّاصِعِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: الْعَفَرُ بَيَاضٌ يَضْرِبُ إِلَى حُمْرَةٍ قَلِيلًا، وَمِنْهُ سُمِّيَ عَفَرُ الْأَرْضِ وَهُوَ وَجْهُهَا. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: مَعْنَى عَفْرَاءَ خَالِصَةُ الْبَيَاضِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: شَدِيدَةُ الْبَيَاضِ. كَذَا قَالَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ: كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْقَافِ أَيِ الدَّقِيقِ النَّقِيِّ مِنَ الْغِشِّ وَالنُّخَّالِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ.
قَوْلُهُ: قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَسَهْلٌ هُوَ رَاوِي الْخَبَرِ، وَأَوْ لِلشَّكِّ، وَالْغَيْرُ الْمُبْهَمُ لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، وَوَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ الْأَخِيرُ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ مُدْرَجًا بِالْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ: لَيْسَ فِيهَا عِلْمٌ لِأَحَدٍ وَمِثْلُهُ لِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَالْعِلْمُ وَالْمَعْلَمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهَا مُسْتَوِيَةٌ. وَالْمَعْلَمُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ بَيْنَهُمَا مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ أَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا عَلَامَةُ سُكْنَى وَلَا بِنَاءٌ وَلَا أَثَرٌ وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي الطَّرَقَاتِ كَالْجَبَلِ وَالصَّخْرَةِ الْبَارِزَةِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَرْضِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا ذَهَبَتْ وَانْقَطَعَتِ الْعَلَّاقَةُ مِنْهَا، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَحُوزُ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا مَا أَدْرَكَ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَالْإِعْلَامِ بِجُزْئِيَّاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَكُونَ السَّامِعُ عَلَى بَصِيرَةٍ فَيُخَلِّصَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ الْهَوْلِ، لِأَنَّ فِي مَعْرِفَةِ جُزْئِيَّاتِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ رِيَاضَةَ النَّفْسِ وَحَمْلَهَا عَلَى مَا فِيهِ خَلَاصُهَا، بِخِلَافِ مَجِيءِ الْأَمْرِ بَغْتَةً، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَرْضَ الْمَوْقِفِ أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْمَوْجُودَةِ جِدًّا، وَالْحِكْمَةُ فِي الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمُ عَدْلٍ وَظُهُورِ حَقٍّ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ ذَلِكَ طَاهِرًا عَنْ عَمَلِ الْمَعْصِيَةِ وَالظُّلْمِ، وَلِيَكُونَ تَجَلِّيهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَرْضٍ تَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ خَالِصًا لَهُ وَحْدَهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَرْضَ الدُّنْيَا اضْمَحَلَّتْ وَأُعْدِمَتْ، وَأَنَّ أَرْضَ الْمَوْقِفِ تَجَدَّدَتْ.
وَقَدْ وَقَعَ لِلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} هَلْ مَعْنَى تَبْدِيلِهَا تَغْيِيرُ ذَاتِهَا وَصِفَاتِهَا، أَوْ تَغْيِيرُ صِفَاتِهَا فَقَطْ، وَحَدِيثُ الْبَابِ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} الْآيَةَ قَالَ: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ أَرْضًا كَأَنَّهَا فِضَّةٌ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ حَرَامٌ، وَلَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ ; وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا وَقَالَ: الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا سَبِيكَةُ فِضَّةٍ. وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ أَيْضًا، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: أَرْضٌ كَالْفِضَّةِ الْبَيْضَاءِ، قِيلَ: فَأَيْنَ الْخَلْقُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: هُمْ أَضْيَافُ اللَّهِ لَنْ يُعْجِزَهُمْ مَا لَدَيْهِ.
وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: يُبَدِّلُهَا اللَّهُ بِأَرْضٍ مِنْ فِضَّةٍ لَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهَا الْخَطَايَا. وَعَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا نَحْوَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَرْضٌ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ وَالسَّمَاوَاتُ كَذَلِكَ. وَعَنْ عَلِيٍّ: وَالسَّمَاوَاتُ مِنْ ذَهَبٍ. وَعِنْدَ عَبْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ عَنْ
عِكْرِمَةَ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ يَعْنِي أَرْضَ الدُّنْيَا تُطْوَى وَإِلَى جَنْبِهَا أُخْرَى يُحْشَرُ النَّاسُ مِنْهَا إِلَيْهَا.
وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ فَيَبْسُطُهَا وَيُسَطِّحُهَا وَيَمُدُّهَا مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، ثُمَّ يَزْجُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ زَجْرَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ فِي مِثْلِ مَوَاضِعِهِمْ مِنَ الْأَوْلَى مَا كَانَ فِي بَطْنِهَا كَانَ فِي بَطْنِهَا وَمَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا كَانَ عَلَيْهَا انْتَهَى.
وَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَقِبَ نَفْخَةِ الصَّعْقِ بَعْدَ الْحَشْرِ الْأَوَّلِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّغْيِيرَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي صِفَاتِ الْأَرْضِ دُونَ ذَاتِهَا فَمُسْتَنَدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُدَّتِ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ وَحُشِرَ الْخَلَائِقُ. وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: تُمَدُّ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لِابْنِ آدَمَ مِنْهَا إِلَّا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي صَحَابِيِّهِ. وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - تعالى - {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} قَالَ: يُزَادُ فِيهَا وَيُنْقَصُ مِنْهَا وَيُذْهَبُ آكَامُهَا وَجِبَالُهَا وَأَوْدِيَتُهَا وَشَجَرُهَا، وَتُمَدُّ مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ، وَعَزَاهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيِّ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَقَعُ لِأَرْضِ الدُّنْيَا، لَكِنَّ أَرْضَ الْمَوْقِفِ غَيْرُهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ أَرْضَ الدُّنْيَا تَصِيرُ خُبْزَةً، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا تُعَدُّ لِأَكْلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا فِي زَمَانِ الْمَوْقِفِ، ثُمَّ تَصِيرُ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْأَرْضُ كُلُّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَالَّذِي قَبْلَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصَحُّ سَنَدًا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَرْضُ الْبَحْرِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: يَصِيرُ مَكَانَ الْبَحْرِ نَارًا، وَفِي تَفْسِيرٍ لِلرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: تَصِيرُ السَّمَاوَاتُ جِفَانًا وَيَصِيرُ مَكَانَ الْبَحْرِ نَارًا، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} قَالَ: يَصِيرَانِ غَبَرَةً فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ بَعْضَهَا يَصِيرُ نَارًا وَبَعْضَهَا غُبَارًا، وَبَعْضَهَا يَصِيرُ خُبْزَةً، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ حِينَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الصِّرَاطِ.
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَائِشَةَ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا يَكُونُونَ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهَا الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِسْرِ الصِّرَاطُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَرْجَمَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَأَنَّ فِي قَوْلِهِ: عَلَى الصِّرَاطِ مَجَازًا لِكَوْنِهِمْ يُجَاوِزُونَهُ، لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ زِيَادَةً يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لِثُبُوتِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الزَّجْرَةِ الَّتِي تَقَعُ عِنْدَ نَقْلِهِمْ مِنْ أَرْضِ الدُّنْيَا إِلَى أَرْضِ الْمَوْقِفِ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} وَاخْتُلِفَ فِي السَّمَاوَاتِ أَيْضًا، فَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَصِيرُ جِفَانًا، وَقِيلَ: إِنَّهَا إِذَا طُوِيَتْ تُكَوَّرُ شَمْسُهَا وَقَمَرُهَا وَسَائِرُ نُجُومِهَا وَتَصِيرُ تَارَةً كَالْمُهْلِ وَتَارَةً كَالدِّهَانِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: السَّمَاءُ تَكُونُ أَلْوَانًا كَالْمُهْلِ وَكَالدِّهَانِ وَوَاهِيَةً وَتَشَقَّقُ فَتَكُونُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا تَنْشَقُّ أَوَّلًا فَتَصِيرُ كَالْوَرْدَةِ وَكَالدِّهَانِ وَوَاهِيَةً وَكَالْمُهْلِ، وَتُكَوَّرُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَسَائِرُ النُّجُومِ، ثُمَّ تُطْوَى السَّمَاوَاتُ وَتُضَافُ إِلَى الْجِنَانِ، وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ حَيْدَرَةَ صَاحِبِ الْإِفْصَاحِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ تَبْدِيلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَقَعُ مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا تُبَدَّلُ
صِفَاتُهُمَا فَقَطْ وَذَلِكَ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى، فَتُنْثَرُ الْكَوَاكِبُ، وَتُخْسَفُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَتَصِيرُ السَّمَاءُ كَالْمُهْمَلِ، وَتُكْشَطُ عَنِ الرُّءُوسِ، وَتَسِيرُ الْجِبَالُ، وَتَمُوجُ الْأَرْضُ، وَتَنْشَقُّ إِلَى أَنْ تَصِيرَ الْهَيْئَةُ غَيْرَ الْهَيْئَةِ، ثُمَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ تُطْوَى السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَتُبَدَّلُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ. . إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -
45 - بَاب الْحَشْرُ
6522 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ: رَاغِبِينَ، رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمْ النَّارُ تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا.
6523 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ "أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ قَتَادَةُ بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا"
6524 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا قَالَ سُفْيَانُ هَذَا مِمَّا نَعُدُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
6525 -
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن عمرو عن سعيد بن جبير عن بن عباس رضي الله عنهما قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلا"
6526 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الْآيَةَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ إِلَى قَوْلِهِ الْحَكِيمُ قَالَ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ"
6527 -
حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ "أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا" قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ "الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ"
6528 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ فِي قُبَّةٍ فَقَالَ "أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لَارْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلاَّ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَحْمَرِ"
[الحديث 6528 - طرفه: في 6642]
6529 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ آدَمُ فَتَرَاءَى ذُرِّيَّتُهُ فَيُقَالُ هَذَا أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ جَهَنَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ كَمْ أُخْرِجُ فَيَقُولُ أَخْرِجْ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا أُخِذَ مِنَّا مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ ذذذذذوَتِسْعُونَ فَمَاذَا يَبْقَى مِنَّا قَالَ إِنَّ أُمَّتِي فِي الأُمَمِ كَالشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَشْرِ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحَشْرُ الْجَمْعُ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، حَشْرَانِ فِي الدُّنْيَا، وَحَشْرَانِ فِي الْآخِرَةِ، فَالَّذِي فِي الدُّنْيَا أَحَدُهُمَا الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} وَالثَّانِي الْحَشْرُ الْمَذْكُورُ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ رَفَعَهُ: إِنَّ السَّاعَةَ لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ، فَذَكَرَهُ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى مَرْفُوعًا: تَخْرُجُ نَارٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ حَضْرَمَوْتَ فَتَسُوقُ النَّاسَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ، تُرَحِّلُ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ، قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي مَسَائِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ لَمَّا أَسْلَمَ، أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمُغْرِبِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ فِي بَابِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الْحَاكِمِ رَفَعَهُ تُبْعَثُ نَارٌ عَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ فَتَحْشُرُهُمْ إِلَى الْمُغْرِبِ تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا وَيَكُونُ لَهَا مَا سَقَطَ مِنْهُمْ وَتَخَلَّفَ تَسُوقُهُمْ سَوْقَ الْجَمَلِ الْكَسِيرِ، وَقَدْ أَشْكَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَظَهَرَ لِي فِي وَجْهِ الْجَمْعِ أَنَّ كَوْنَهَا تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ لَا يُنَافِي حَشْرَهَا النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمُغْرِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْتِدَاءَ خُرُوجِهَا مِنْ قَعْرِ عَدَنَ فَإِذَا خَرَجَتِ انْتَشَرَتْ فِي الْأَرْضِ
كُلِّهَا.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ إِرَادَةُ تَعْمِيمِ الْحَشْرِ لَا خُصُوصِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ أَوْ أَنَّهَا بَعْدَ
الِانْتِشَارِ أَوَّلَ مَا تَحْشُرُ أَهْلَ الْمَشْرِقِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِتَنِ دَائِمًا مِنَ الْمَشْرِقِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَأَمَّا جَعْلُ الْغَايَةِ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَلِأَنَّ الشَّامَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَشْرِقِ مَغْرِبٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ كِنَايَةٌ عَنِ الْفِتَنِ الْمُنْتَشِرَةِ الَّتِي أَثَارَتِ الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَالْتَهَبَتْ كَمَا تَلْتَهِبُ النَّارُ، وَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ حَتَّى خَرِبَ مُعْظَمُهُ، وَانْحَشَرَ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ إِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ، وَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ كَمَا شُوهِدَ ذَلِكَ مِرَارًا مِنَ الْمَغلِ مِنْ عَهْدِ جَنْكِزْخَانْ، وَمَنْ بَعْدَهُ، وَالنَّارُ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْحَشْرُ الثَّالِثُ: حَشْرُ الْأَمْوَاتِ مِنْ قُبُورِهِمْ وَغَيْرُهَا بَعْدَ الْبَعْثِ جَمِيعًا إِلَى الْمَوْقِفِ قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} وَالرَّابِعُ: حَشْرُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ انْتَهَى مُلَخَّصًا بِزِيَادَاتٍ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ لَيْسَ حَشْرًا مُسْتَقِلًّا، فَإِنَّ الْمُرَادَ حَشْرُ كُلِّ مَوْجُودٍ يَوْمئِذٍ، وَالْأَوَّلُ إِنَّمَا وَقَعَ لِفِرْقَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُهُ مِرَارًا تَخْرُجُ طَائِفَةٌ مِنْ بَلَدِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا إِلَى جِهَةِ الشَّامِ كَمَا وَقَعَ لِبَنِي أُمَيَّةَ أَوَّلَ مَا تَوَلَّى ابْنُ الزُّبَيْرِ الْخِلَافَةَ فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى جِهَةِ الشَّامِ، وَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ أَحَدٌ حَشْرًا، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (وُهَيْب) بِالتَّصْغِيرِ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، وَابْنُ طَاوُسٍ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ثَلَاثَةٌ، وَالطَّرَائِقُ جَمْعُ طَرِيقٍ، وَهِيَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ.
قَوْلُهُ: (رَاغِبِينَ وَرَاهِبِينَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ رَاهِبِينَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى.
قَوْلُهُ: (وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، ثَلَاثَةُ عَلَى بَعِيرٍ، أَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، عَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ) كَذَا فِيهِ بِالْوَاوِ فِي الْأَوَّلِ فَقَطْ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ بِالْوَاوِ فِي الْجَمِيعِ، وَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فَهِيَ الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ.
قَوْلُهُ: (وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ) هَذِهِ هِيَ النَّارُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثٍ فِيهِ ذِكْرُ الْآيَاتِ الْكَائِنَةِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فَفِيهِ: وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ، تُرَحِّلُ النَّاسَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى حَشْرِهِمْ.
قَوْلُهُ: (تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا إِلَخْ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُلَازَمَةِ النَّارِ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَصِلُوا إِلَى مَكَانِ الْحَشْرِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْحَشْرُ يَكُونُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، تَحْشُرُ النَّاسَ أَحْيَاءً إِلَى الشَّامِ. وَأَمَّا الْحَشْرُ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْمَوْقِفِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ الرُّكُوبِ عَلَى الْإِبِلِ وَالتَّعَاقُبِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبَابِ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً قَالَ: وَقَوْلُهُ: وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ إِلَخْ يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَعْتَقِبُونَ الْبَعِيرَ الْوَاحِدَ يَرْكَبُ بَعْضٌ وَيَمْشِي بَعْضٌ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْخَمْسَةَ وَالسِّتَّةَ إِلَى الْعَشَرَةِ إِيجَازًا وَاكْتِفَاءً بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْدَادِ، مَعَ أَنَّ الِاعْتِقَابَ لَيْسَ مَجْزُومًا بِهِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فِي الْبَعِيرِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى حَمْلِ الْعَشَرَةِ، وَمَالَ الْحَلِيمِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَشْرَ يَكُونُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ، وَجَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: ظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ بَعْدَ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً. قَالَ: وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْحَشْرَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ النَّشْرِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ، وَهُوَ إِخْرَاجُ الْخَلْقِ مِنَ الْقُبُورِ حُفَاةً عُرَاةً فَيُسَاقُونَ وَيُجْمَعُونَ إِلَى الْمَوْقِفِ لِلْحِسَابِ، فَحِينَئِذٍ يُحْشَرُ الْمُتَّقُونَ رُكْبَانًا عَلَى الْإِبِلِ، وَجَمَعَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْقُبُورِ بِالْوَصْفِ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ يَفْتَرِقُ حَالُهُمْ مِنْ ثَمَّ إِلَى الْمَوْقِفِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: أَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَفْوَاجٍ، فَوْجٍ طَاعِمِينِ كَاسِينَ رَاكِبِينَ، وَفَوْجٍ يَمْشُونَ، وَفَوْجٍ تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ الْحَدِيثَ. وَصَوَّبَ عِيَاضٌ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ وَقَوَّاهُ بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ وَبِقَوْلِهِ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ تَقِيلُ مَعَهُمْ وَتَبِيتُ وَتُصْبِحُ
وَتُمْسِي فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ مُخْتَصَّةٌ بِالدُّنْيَا، وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: حَمْلُهُ عَلَى الْحَشْرِ مِنَ الْقُبُورِ أَقْوَى مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَشْرَ إِذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْحَشْرُ مِنَ الْقُبُورِ، مَا لَمْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ.
ثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ الْمَذْكُورَ فِي الْخَبَرِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْحَشْرِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ؛ لِأَنَّ الْمُهَاجِرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا أَوْ رَاهِبًا أَوْ جَامِعًا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا رَاهِبًا فَقَطْ، وَتَكُونُ هَذِهِ طَرِيقَةً وَاحِدَةً لَا ثَانِيَ لَهَا مِنْ جِنْسِهَا فَلَا.
ثَالِثُهَا: حَشْرُ الْبَقِيَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ وَإِلْجَاءُ النَّارِ لَهُمْ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، وَمُلَازَمَتُهَا حَتَّى لَا تُفَارِقَهُمْ، قَوْلٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ التَّوْقِيفُ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِتَسْلِيطِ النَّارِ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَهْلِ الشَّنْوَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ.
رَابِعُهَا: أَنَّ الْحَدِيثَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْحِسَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ ثَلَاثًا عَلَى الدَّوَابِّ، وَثَلَاثًا يَنْسِلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَثَلَاثًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، قَالَ: وَنَرَى أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظِيرُ التَّقْسِيمِ الَّذِي وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْوَاقِعَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} الْآيَاتِ، فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ يُرِيدُ بِهِ عَوَامَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ مَنْ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، فَيَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ يَخَافُونَ عَاقِبَةَ سَيِّئَاتِهِمْ، وَيَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ بِإِيمَانِهِمْ وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَقَوْلُهُ: وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ إِلَخْ السَّابِقِينَ، وَهُمْ أَفَاضِلُ الْمُؤْمِنِينَ يُحْشَرُونَ رُكْبَانًا. وَقَوْلُهُ وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ يريد بِهِ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَرُكُوبُ السَّابِقِينَ فِي الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُ الْحَمْلَ دَفْعَةً وَاحِدَةً تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْبَعِيرَ الْمَذْكُورَ يَكُونُ مِنْ بَدَائِعِ فِطْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَقْوَى عَلَى مَا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الْبُعْرَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّعَاقُبُ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا سَكَتَ عَنِ الْوَاحِدِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ لِمَنْ فَوْقَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ كَالْأَنْبِيَاءِ لِيَقَعَ الِامْتِيَازُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَمَنْ دُونَهُ مِنَ السَّابِقِينَ فِي الْمَرَاكِبِ كَمَا وَقَعَ فِي الْمَرَاتِبِ انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ وَرَجَّحَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ، وَأَجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الدَّلِيلَ ثَابِتٌ فَقَدْ وَرَدَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وُقُوعُ الْحَشْرِ فِي الدُّنْيَا إِلَى جِهَةِ الشَّامِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الَّذِي نَبَّهْتُ عَلَيْهِ قَبْلُ، وَحَدِيثَ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ جَدِّ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ رَفَعَهُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ وَنَحَا بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ رِجَالًا وَرُكْبَانًا وَتَجُرُونَ عَلَى وُجُوهكُمْ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ وَحَدِيثَ: سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، وَتَنْحَازُ النَّاسُ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا شِرَارُهَا تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ، وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا.
أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَسَنَدُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبَّهٍ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: لَأَضَعَنَّ عَلَيْكِ عَرْشِي، وَلَأَحْشُرَنَّ عَلَيْكِ خَلْقِي، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ شَكَّ أَنَّ الْمَحْشَرَ هَهُنَا يَعْنِي الشَّامَ، فَلْيَقْرَأْ أَوَّلَ سُورَةِ الْحَشْرِ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ: اخْرُجُوا قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ، وَحَدِيثَ: سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ تَحْشُرُ النَّاسَ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ ثُمَّ حَكَى خِلَافًا، هَلِ الْمُرَادُ بِالنَّارِ نَارٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْفِتْنَةِ الشَّدِيدَةِ كَمَا يُقَالُ: نَارُ الْحَرْبِ لِشِدَّةِ مَا يَقَعُ فِي الْحَرْبِ قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّارِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ نَارَ الْآخِرَةِ، وَلَوْ أُرِيدَ الْمَعْنَى الَّذِي زَعَمَهُ الْمُعْتَرِضُ لَقِيلَ: تَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمْ إِلَى النَّارِ، وَقَدْ أَضَافَ الْحَشْرَ إِلَى النَّارِ لَكَوْنِهَا هِيَ الَّتِي تَحْشُرُهُمْ، وَتَخْتَطِفُ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ; وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تَكُونَ النَّارُ كِنَايَةً عَلَى الْفِتْنَةِ فَنِسْبَةُ الْحَشْرِ إِلَيْهَا سَبَبِيَّةٌ، كَأَنَّهَا تَفْشُو فِي كُلِّ جِهَةٍ، وَتَكُونُ فِي جِهَةِ الشَّامِ أَخَفَّ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا، فَكُلُّ مَنْ عَرَفَ ازْدِيَادَهَا فِي الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا أَحَبَّ التَّحَوُّلَ مِنْهَا إِلَى
الْمَكَانِ الَّذِي لَيْسَتْ فِيهِ شَدِيدَةً، فَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى
الشَّامِ، وَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ وَإِطْلَاقُ النَّارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ، وَعَلَى الْمَجَازِيَّةِ، وَهِيَ الْفِتْنَةُ إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَيِّدُ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ، وَالْجَوَابُ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الثَّانِي أَنَّ التَّقْسِيمَ الْمَذْكُورَ فِي آيَاتِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّقْسِيمَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ وَرَدَ عَلَى الْقَصْدِ مِنَ الْخَلَاصِ مِنَ الْفِتْنَةِ، فَمَنِ اغْتَنَمَ الْفُرْصَةَ سَارَ عَلَى فُسْحَةٍ مِنَ الظَّهْرِ، وَيَسَرَةٍ فِي الزَّادِ رَاغِبًا فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُ، رَاهِبًا فِيمَا يَسْتَدْبِرُهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي الْحَدِيثِ، وَمَنْ تَوَانى حَتَّى قَلَّ الظَّهْرُ، وَضَاقَ عَنْ أَنْ يَسْعَهُمْ لِرُكُوبِهِمُ، اشْتَرَكُوا وَرَكِبُوا عَقِبَهُ، فَيَحْصُلُ اشْتِرَاكُ الِاثْنَيْنِ فِي الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ، وَكَذَا الثَّلَاثَةُ، وَيُمْكِنُهُمْ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ فِي الْوَاحِدِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِمُ التَّعَاقُبُ، وَقَدْ يُمْكِنُهُمْ إِذَا كَانُوا خِفَافًا أَوْ أَطْفَالًا، وَأَمَّا الْعَشَرَةُ فَبِالتَّعَاقُبِ، وَسَكَتَ عَمَّا فَوْقَهَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا الْمُنْتَهَى فِي ذَلِكَ، وَعَمَّا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْبَعَةِ إِيجَازًا وَاخْتِصَارًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الصِّنْفُ الثَّانِي فِي الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ فَعَبِّرْ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: تَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ تَحْصِيلِ مَا يَرْكَبُونَهُ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ حَالِهِمْ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ يَمْشُونَ أَوْ يُسْحَبُونَ فِرَارًا مِنَ النَّارِ الَّتِي تَحْشُرُهُمْ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كَلَامِ
الْمُعْتَرِضِ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ السَّبَبِ فِي مَشْيِ الْمَذْكُورِينَ فَقَالَ: يُبْقِي اللَّهُ الْآفَةَ عَلَى الظَّهْرِ حَتَّى لَا يُلْقَى ذَاتُ ظَهْرٍ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لِيُعْطَى الْحَدِيقَةَ الْمُعْجَبَةَ بِالشَّارِفِ ذَاتَ الْقَتَبِ، أَيْ يَشْتَرِي النَّاقَةَ الْمُسِنَّ لِأَجْلِ كَوْنِهَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْقَتَبِ بِالْبُسْتَانِ الْكَرِيمِ؛ لِهَوَانِ الْعَقَارِ الَّذِي عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ عَنْهُ وَعِزَّةِ الظَّهْرِ الَّذِي يُوصِلُهُ إِلَى مَقْصُودِهِ، وَهَذَا لَائِقٌ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا وَمُؤَكِّدٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ، وَيَتَنَزَّلُ عَلَى وَفْقِ حَدِيثِ الْبَابِ يَعْنِي مِنَ الْمَصَابِيحِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَوْجٌ طَاعِمِينِ كَاسِينَ رَاكِبِينَ مُوَافِقٌ لِقولِهِ: رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَقَوْلُهُ: وَفَوْجٌ يَمْشُونَ مُوَافِقٌ لِلصِّنْفِ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ عَلَى الْبَعِيرِ، فَإِنَّ صِفَةَ الْمَشْيِ لَازِمَةٌ لَهُمْ، وَأَمَّا الصِّنْفُ الَّذِينَ تَحْشُرُهُمُ النَّارُ فَهُمُ الَّذِينَ تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الثَّالِثِ أَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنْ شَوَاهِدِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّارِ نَارَ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ نَارٌ تَخْرُجُ فِي الدُّنْيَا أَنْذَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِخُرُوجِهَا، وَذَكَرَ كَيْفِيَّةَ مَا تَفْعَلُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الرَّابِعِ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ مَعَ ضَعْفِهِ لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَبي ذَرٍّ فِي لَفْظِهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا لَا بَعْدَ الْبَعْثِ فِي الْحَشْرِ إِلَى الْمَوْقِفِ، إِذْ لَا حَدِيقَةَ هُنَاكَ وَلَا آفَةَ تُلْقَى عَلَى الظَّهْرِ حَتَّى يَعِزَّ وَيَقِلَّ، ووَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ أَرْضَ الْمَوْقِفِ أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ لَا عِوَجَ فِيهَا، وَلَا أَكَمَةَ، وَلَا حَدَبَ، وَلَا شَوْكَ، وَأَشَارَ الطِّيبِيُّ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ الَّذِي مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَلَى مَنْ يُحْشَرُ مِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى مَكَانِ الِاسْتِقْرَارِ مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالرُّكْبَانِ السَّابِقِينَ الْمُتَّقِينَ، وَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} أَيْ رُكْبَانًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ مَرْيَمَ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ وَلَا يُسَاقُونَ سَوْقًا، وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ لَمْ تَرَ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رِحَالُ الذَّهَبِ، وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ، فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ، وَالْمُرَادُ سَوْقُ رَكَائِبِهِمْ إِسْرَاعًا بِهِمْ إِلَى دَارِ الْكَرَامَةِ كَمَا يُفْعَلُ فِي الْعَادَةِ بِمَنْ يَشْرُفُ وَيَكْرُمُ مِنَ الْوَافِدِينَ عَلَى الْمُلُوكِ.
قَالَ: وَيُسْتَبْعَدُ أَنْ يُقَالَ: يَجِيءُ وَفْدُ اللَّهِ عَشْرٌ عَلَى بَعِيرٍ جَمِيعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ حَالَ الْمَحْشُورِينَ عِنْدَ انْقِرَاضِ الدُّنْيَا إِلَى جِهَةِ أَرْضِ الْمَحْشَرِ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ
أَصْنَافٍ، وَحَالُ الْمَحْشُورِينَ فِي الْأُخْرَى إِلَى مَحِلِّ الِاسْتِقْرَارِ انْتَهَى كَلَامُ الطَّيِّبِيِّ عَنْ جَوَابِ الْمُعْتَرِضِ مُلَخَّصًا مُوَضَّحًا بِزِيَادَاتٍ فِيهِ، لَكِنْ تَقَدَّمَ مِمَّا قَرَّرْتُهُ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ لَيْسَ فِي الْمَحْشُورِينَ مِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى مَحِلِّ الِاسْتِقْرَارِ ثُمَّ خَتَمَ كَلَامَهُ بِأَنْ قَالَ: هَذَا مَا سَنَحَ لِي عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ الْمَحْشَرِ: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ، فَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ التُّورِبِشْتِيُّ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ.
قُلْتُ: وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى لَفْظِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا فِي صَحِيحِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرُهُمَا لَيْسَ فِيهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، نَعَمْ ثَبَتَ لَفْظُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِ قَبْلُ، وَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْقُبُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مِنْ مَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ، وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِمَا وَقَعَ فِيهِ أَنَّ الظَّهْرَ يَقِلُّ لِمَا يُلْقَى عَلَيْهِ مِنَ الْآفَةِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يَشْتَرِي الشَّارِفَ الْوَاحِدَ بِالْحَدِيقَةِ الْمُعْجَبَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي أَنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَا بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَقَدْ أَبْدَى الْبَيْهَقِيُّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ احْتِمَالَيْنِ فَقَالَ: قَوْلُهُ: رَاغِبِينَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْأَبْرَارِ، وَقَوْلُهُ: رَاهِبِينَ إِشَارَةً إِلَى الْمُخَلَّطِينَ الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالَّذِينَ تَحْشُرُهُمُ النَّارُ هُمُ الْكُفَّارُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ حَذَفَ ذِكْرَ قَوْلِهِ: وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ إِلَخْ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ صِفَتَانِ لِلصِّنْفَيْنِ الْأَبْرَارِ وَالْمُخَلَّطِينَ، وَكِلَاهُمَا يُحْشَرُ اثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ إِلَخْ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ حَشْرِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَوْجِ الْأَوَّلِ الْأَبْرَارَ، وَبِالْفَوْجِ الثَّانِي الَّذِينَ خَلَّطُوا، فَيَكُونُونَ مُشَاةً، وَالْأَبْرَارُ رُكْبَانًا، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْكُفَّارِ أَعْيَا مِنْ بَعْضٍ، فَأُولَئِكَ يُسْحَبُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَمَنْ دُونَهُمْ يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ مَعَ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْفُسَّاقِ، وَقْتَ حَشْرِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ، وَأَمَّا الظَّهْرُ، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يُحْيِهِ اللَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ الدَّوَابِّ، فَيَرْكَبُهَا الْأَبْرَارُ، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيُلْقِي اللَّهُ الْآفَةَ عَلَى بَقِيَّتِهَا حَتَّى يَبْقَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُخَلَّطِينَ بِلَا ظَهْرٍ.
قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَعَ قَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لِيُعْطى الْحَدِيقَةَ الْمُعْجَبَةَ بِالشَّارِفِ، وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ لِلَّذِينَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ عُرَاةً حُفَاةً حَدَائِقَ حَتَّى يَدْفَعُوهَا فِي الشَّوَارِفِ؟ فَالرَّاجِحُ مَا تَقَدَّمَ وَكَذَا يَبْعُدُ غَايَةَ الْبُعْدِ أَنْ يَحْتَاجَ مَنْ يُسَاقُ مِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَى التَّعَاقُبِ عَلَى الْأَبْعِرَةِ، فَرَجَحَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَيُونُسُ هُوَ الْمُؤَدِّبُ، وَشَيْبَانُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (إنَّ رَجُلًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ) كَأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ حُذِفَ أَدَاتُهُ، وَوَقَعَ فِي عِدَّةِ نُسَخٍ: كَيْفَ يُحْشَرُ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَالْكَافِرُ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا} الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْحَاكِمَ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: كَيْفَ يُحْشَرُ أَهْلُ النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
قَوْلُهُ: (أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ إِلَخْ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَشْيِ حَقِيقَتُهُ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْرَبُوهُ حَتَّى سَأَلُوا عَنْ كَيْفِيَّتِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ مَثَلٌ، وَأَنَّهُ كَقَوْلِهِ:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى، فَالْجَوَابُ الصَّادِرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ظَاهِرٌ فِي تَقْرِيرِ الْمَشْيِ عَلَى حَقِيقَتِهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى، وَعِزَّةِ رَبِّنَا هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَالْحِكْمَةُ فِي حَشْرِ الْكَافِرِ عَلَى وَجْهِهِ أَنَّهُ عُوقِبَ عَلَى عَدَمِ السُّجُودِ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، بِأَنْ يُسْحَبَ عَلَى وَجْهِهِ فِي الْقِيَامَةِ إِظْهَارًا لِهَوَانِهِ بِحَيْثُ صَارَ وَجْهُهُ
مَكَانَ يَدِهِ وَرِجْلِهِ فِي التَّوَقِّي عَنِ الْمُؤْذِيَاتِ.
الْحَدِيثَ ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، (وَسُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَمْرٌو) الْقَائِلُ هُوَ سُفْيَانُ، وَحَاكِي ذَلِكَ عَنْهُ هُوَ عَلِيٌّ، وَكَانَ سُفْيَانُ كَثِيرًا مَا يَحْذِفُ الصِّيغَةَ فَيَقْتَصِرُ عَلَى اسْمِ الرَّاوِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ صَدَقَةَ الَّتِي بَعْدَهَا عَنْ عَمْرٍو، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ سُفْيَانَ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زَادَ قُتَيْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ: يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِهِ لِرَاوِيَةِ قُتَيْبَةَ بَعْدَ رِوَايَةِ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ.
قَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّهِ) أَيْ فِي الْمَوْقِفِ بَعْدَ الْبَعْثِ.
قَوْلُهُ: (حُفَاةً) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ جَمْعُ حَافٍ، أَيْ بِلَا خُفٍّ وَلَا نَعْلٍ، وَقَوْلُهُ:(مُشَاةً) لَمْ أَرَ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ هُنَا مُشَاةً وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْهُ، وَعَنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ: عَلَى الْمِنْبَرِ.
قَوْلُهُ فِي آخِرِ رِوَايَةِ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ: (قَالَ سُفْيَانُ إِلَخْ) هُوَ مَوْصُولٌ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُعَلَّقٌ عَنْ سُفْيَانَ.
قَوْلُهُ: (هَذَا مِمَّا نَعُدُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) يُرِيدُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ، لَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يُرْسِلُ مَا يَسْمَعُهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَلَا يَذْكُرُ الْوَاسِطَةَ، وَتَارَةً يَذْكُرُهُ بِاسْمِهِ، وَتَارَةً مُبْهَمًا، كَقَوْلِهِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ أَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ فَأَمَّا مَا صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ لَهُ فَقَلِيلٌ، وَلِهَذَا كَانُوا يَعْتَنُونَ بَعْدَهُ فَجَاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي صَرَّحَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِسَمَاعِهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةٌ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَأَبِي دَاوُدَ صَاحِبِ السُّنَنِ تِسْعَةٌ، وَأَغْرَبَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى وَقَلَّدَهُ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ تَأَخَّرُوا عَنْهُ فَقَالَ: لَمْ يَسْمَعِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، وَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا: سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ الْعِشْرِينَ مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ. قُلْتُ: وَقَدِ اعْتَنَيْتُ بِجَمْعِهَا فَزَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ مَا بَيْنَ صَحِيحٍ وَحَسْنٍ، خَارِجًا عَنِ الضَّعِيفِ وَزَائِدًا أَيْضًا عَلَى مَا هُوَ فِي حُكْمِ السَّمَاعِ كَحِكَايَتِهِ حُضُورَ شَيْءٍ فُعِلَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَأَنَّ الْغَزَالِيَّ الْتَبَسَ عَلَيْهِ مَا قَالُوا: إِنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ سَمِعَهُ، مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ خَمْسَةٌ، وَقِيلَ أَرْبَعَةٌ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: (قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ) وَقَعَ لِمُسْلِمٍ بَدَلَ قَوْلِهِ: يَخْطُبُ بِمَوْعِظَةٍ أَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: إِنَّكُمْ) زَادَ ابْنُ الْمُثَنَّى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ.
قَوْلُهُ: (تُحْشَرُونَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَحْشُورُونَ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُثَنَّى.
قَوْلُهُ: (حُفَاةً) لَمْ يَقَعْ فِيهِ أَيْضًا مُشَاةً
قَوْلُهُ: (عُرَاةً) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلَبِسَهَا، وَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحْشَرُ عَارِيًا، وَبَعْضَهُمْ كَاسِيًا، أَوْ يُحْشَرُونَ كُلُّهُمْ عُرَاةً، ثُمَّ يُكْسَى الْأَنْبِيَاءُ، فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام، أَوْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْقُبُورِ بِالثِّيَابِ الَّتِي مَاتُوا فِيهَا، ثُمَّ تَتَنَاثَرُ عَنْهُمْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَشْرِ، فَيُحْشَرُونَ عُرَاةً، ثُمَّ يَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمَ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى الشُّهَدَاءِ؛ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَمَرَ أَنْ يُزَمَّلُوا فِي ثِيَابِهِمْ، وَيُدْفَنُوا فِيهَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعَهُ فِي الشَّهِيدِ، فَحَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَمِمَّنْ حَمَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: دَفَنَّا أُمَّ مُعَاذَ بْنِ جَبَلٍ فَأَمَرَ بِهَا فَكُفِّنَتْ فِي ثِيَابٍ جُدُدٍ وَقَالَ: أَحْسِنُوا أَكْفَانَ مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ فِيهَا، قَالَ: وَحَمَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِطْلَاقِ الثِّيَابِ عَلَى الْعَمَلِ وَقَعَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، قَالَ: مَعْنَاهُ وَعَمَلَكَ فَأَخْلِصْهُ،
وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَفَعَهُ يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ: مَنْ مَاتَ عَلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ بُعِثَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَرَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ الْحَمْلَ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِذِكْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} عَقِبَ قَوْلِهِ: حُفَاةً عُرَاةً قَالَ: فَيُحْمَلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى الشُّهَدَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ بِثِيَابِهِمْ، فَيُبْعَثُونَ فِيهَا تَمْيِيزًا لَهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِنَّ الْمَلَابِسَ فِي الدُّنْيَا أَمْوَالٌ وَلَا مَالَ فِي الْآخِرَةِ مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَلِأَنَّ الَّذِي يَقِي النَّفْسَ مِمَّا تَكْرَهُ ف ي الْآخِرَةِ ثَوَابٌ بِحُسْنِ عَمَلِهَا أَوْ رَحْمَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَأَمَّا مَلَابِسُ الدُّنْيَا فَلَا تُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ. وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَوْرَدَهُ بِزِيَادَةٍ لَمْ أَجِدْ لَهَا أَصْلًا، وَهِيَ فَإِنَّ أُمَّتِي تُحْشَرُ فِي أَكْفَانِهَا وَسَائِرُ الْأُمَمِ عُرَاةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى الشُّهَدَاءِ مِنْ أُمَّتِهِ حَتَّى لَا تَتَنَاقَضَ الْأَخْبَارُ.
قَوْلُهُ: (غُرْلًا) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ جَمْعُ أَغْرَلَ، وَهُوَ الْأَقْلَفُ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ مَنْ بَقِيَتْ غُرْلَتُهُ، وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي يَقْطَعُهَا الْخَاتِنُ مِنَ الذَّكَرِ. قَالَ أَبُو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ: لَا تَلْتَقِي اللَّامُ مَعَ الرَّاءِ فِي كَلِمَةٍ إِلَّا فِي أَرْبَعٍ: أُرُلٌ اسْمُ جَبَلٍ، وَوَرَلٌ اسْمُ حَيَوَانٍ مَعْرُوفٍ، وَحَرَلٌ ضَرْبٌ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَالْغُرْلَةِ، وَاسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ كَلِمَتَانِ: هَرَلٌ وَلَدُ الزَّوْجَةِ، وَبَرَلٌ الدِّيكُ الَّذِي يَسْتَدِيرُ بِعُنُقِهِ، وَالسِّتَّةُ حُوشِيَّةٌ إِلَّا الْغُرالَةُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُحْشَرُ الْآدَمِيُّ عَارِيًا، وَلِكُلٍّ مِنَ الْأَعْضَاءِ مَا كَانَ لَهُ يَوْمَ وُلِدَ، فَمَنْ قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ يُرَدُّ حَتَّى الْأَقْلَفُ، وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ: حَشَفَةُ الْأَقْلَفِ مُوَقَّاةٌ بِالْقُلْفَةِ فَتَكُونُ أَرَقَّ، فَلَمَّا أَزَالُوا تِلْكَ الْقِطْعَةَ فِي الدُّنْيَا أَعَادَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - لِيُذِيقَهَا مِنْ حَلَاوَةِ فَضْلِهِ.
قَوْلُهُ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الْآيَةَ سَاقَ ابْنُ الْمُثَنَّى الْآيَةَ كُلَّهَا إِلَى قَوْلِهِ: {فَاعِلِينَ} وَمِثْلُهُ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} وَمِنْهُ: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً كَمَا بُدِأوا.
قَوْلُهُ: وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَلَائِقِ مَنْ عَدَا نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَدْخُلْ هُوَ فِي عُمُومِ خِطَابِ نَفْسِهِ، وَتَعَقَّبَهُ تِلْمِيذُهُ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا فِي التَّذْكِرَةِ فَقَالَ: هَذَا حَسَنٌ لَوْلَا مَا جَاءَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلِيلُ اللَّهِ عليه السلام قِبْطِيَّتَيْنِ ثُمَّ يُكْسَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً حِبَرَةً عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ.
قُلْتُ: كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا مَوْقُوفًا وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مُطَوَّلًا مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ وَزَادَ: وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى مِنَ الْجَنَّةِ إِبْرَاهِيمُ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ وَيُؤْتَى بِكُرْسِيٍّ، فَيُطْرَحُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِي فَأُكْسَى حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ لَا يَقُومُ لَهَا الْبَشَرُ، ثُمَّ يُؤْتَى بِكُرْسِيٍّ فَيُطْرَحُ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ، وَهُوَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، وَفِي مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عِنْدَ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ: يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً فَيَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى -: أَلَا أَرَى خَلِيلِي عُرْيَانًا؟ فَيُكْسَى إِبْرَاهِيمُ ثَوْبًا أَبْيَضَ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى، قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى أَنَّهُ جُرِّدَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اسْتَنَّ التَّسَتُّرَ بِالسَّرَاوِيلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ أَخْوَفُ لِلَّهِ مِنْهُ، فَعُجِّلَتْ لَهُ الْكِسْوَةُ أَمَانًا لَهُ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْحَلِيمِيِّ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْقُرْطُبِيِّ.
قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ حَدِيثِ حَيْدَةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ رَفَعَهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ اللَّهُ: اكْسُوَا خَلِيلِي لِيَعْلَمَ النَّاسُ الْيَوْمَ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ
مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام مُطْلَقًا، وَقَدْ ظَهَرَ لِي الْآنَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَبِيُّنَا عليه الصلاة والسلام خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَالْحُلَّةُ الَّتِي يُكْسَاهَا حِينَئِذٍ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ خُلْعَةُ الْكَرَامَةِ بِقَرِينَةِ إِجْلَاسِهِ عَلَى الْكُرْسِيِّ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ، فَتَكُونُ أَوَّلِيَّةُ إِبْرَاهِيمَ فِي الْكِسْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِبَقِيَّةِ الْخَلْقِ، وَأَجَابَ الْحَلِيمِيُّ بِأَنَّهُ يُكْسَى أَوَّلًا ثُمَّ يُكْسَى نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ، لَكِنَّ حُلَّةَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم أَعْلَى وَأَكْمَلُ فَتَجْبُرُ نَفَاسَتُهَا مَا فَاتَ مِنَ الْأَوَّلِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ أَيْ إِلَى جِهَةِ النَّارِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ بَابِ صِفَةِ النَّارِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: فَإِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفَتْهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ: هَلُمَّ فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ الْحَدِيثَ، وَبَيَّنَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَوْضِعَ وَلَفْظُهُ: لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمُ اخْتَلَجُوا دُونِي الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ سَهْلٍ لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ.
قَوْلُهُ: فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فَلَأَقُولَنَّ وَفِي رِوَايَةِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أُصَيْحَابِي بِالتَّصْغِيرِ، وَكَذَا هُوَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَؤُلَاءِ.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى وَزَادَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا أَيْ بُعْدًا بُعْدًا، وَالتَّأْكِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي بَابِ صِفَةِ النَّارِ أَيْضًا فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ فَلَا أَرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ، وَلِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ رَفَعَهُ لَيَرِدَنَّ عَلَى الْحَوْضِ رِجَالٌ مِمَّنْ صَحِبَنِي وَرَآنِي وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوُهُ وَزَادَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: لَسْتَ مِنْهُمْ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.
قَوْلُهُ: فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} - إِلَى قَوْلِهِ: - {الْحَكِيمُ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ زِيَادَةُ مَا دُمْتُ فِيهِمْ، وَالْبَاقِي سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ: قَالَ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَنْ يَزَالُوا وَوَقَعَ فِي تَرْجَمَةِ مَرْيَمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ الْفَرَبْرِيُّ: ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ قَبِيصَةَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي حَتَّى قُتِلُوا وَمَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَبِيصَةَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَرْتَدَّ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا ارْتَدَّ قَوْمٌ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ مِمَّنْ لَا نُصْرَةَ لَهُ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ قَدْحًا فِي الصَّحَابَةِ الْمَشْهُورِينَ وَيَدُلُّ قَوْلُهُ: أُصَيْحَابِي بِالتَّصْغِيرِ عَلَى قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْمُرَادُ بِأُمَّتِي أَمَّةُ الدَّعْوَةِ لَا أَمَّةُ الْإِجَابَةِ، وَرُجِّحَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَقُولُ بُعْدًا لَهُمْ وَسُحْقًا وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُهُمْ خَفِيَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ وَلَوْ كَانُوا مِنْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، لَعَرَفَ حَالَهُمْ بِكَوْنِ أَعْمَالِهِمْ تُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ أَوْ مِنْ مُرْتَكِبِي الْكَبَائِرِ، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ وَالْبِدَعِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُرْتَدُّونَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُحْشَرُوا بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمَّةِ، فَيُنَادِيهِمْ مِنْ أَجْلِ السِّيمَا الَّتِي عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ بَدَّلُوا
بَعْدَكَ أَيْ لَمْ يَمُوتُوا عَلَى ظَاهِرِ مَا فَارَقْتَهُمْ عَلَيْهِ.
قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: وَعَلَى هَذَا فَيَذْهَبُ عَنْهُمُ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ وَيُطْفَأُ نُورُهُمْ، وَقِيلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِمُ السِّيمَا، بَلْ يُنَادِيهِمْ لِمَا كَانَ يَعْرِفُ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْكَبَائِرِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقْطَعُ بِدُخُولِ هَؤُلَاءِ النَّارَ لِجَوَازِ أَنْ يُذَادُوا عَنِ الْحَوْضِ أَوَّلًا عُقُوبَةً لَهُمْ ثُمَّ يُرْحَمُوا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ غُرَّةٌ وَتَحْجِيلٌ فَعَرَفَهُمْ بِالسِّيمَا سَوَاءٌ كَانُوا فِي زَمَنِهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَرَجَّحَ عِيَاضٌ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا مَا قَالَ قَبِيصَةُ رَاوِي الْخَبَرِ: إِنَّهُمْ مَنِ ارْتَدَّ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ لَهُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمُ السِّيمَا؛ لِأَنَّهَا كَرَامَةٌ يَظْهَرُ بِهَا عَمَلُ الْمُسْلِمِ، وَالْمُرْتَدُّ قَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فَقَدْ يَكُونُ عَرَفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ لَا بِصِفَتِهِمْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ارْتِدَادِهِمْ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَنْ كَانَ فِي زَمَنِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَعْرِفُ أَعْيَانَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تِلْكَ السِّيمَا فَمَنْ عَرَفَ صُورَتَهُ نَادَاهُ مُسْتَصْحِبًا لِحَالِهِ الَّتِي فَارَقَهُ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا دُخُولُ أَصْحَابِ الْبِدَعِ فِي ذَلِكَ فَاسْتُبْعِدَ لِتَعْبِيرِهِ فِي الْخَبَرِ بِقَوْلِهِ: أَصْحَابِي وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ إِنَّمَا حَدَثُوا بَعْدَهُ، وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الصُّحْبَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَاسْتُبْعِدَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ مُبْتَدِعًا سُحْقًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لِمَنْ
عَلِمَ أَنَّهُ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ عَلَى مَعْصِيَةٍ، ثُمَّ يَنْجُو بِالشَّفَاعَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ سُحْقًا تَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ مَعَ بَقَاءِ الرَّجَاءِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَيْسَ قَوْلُهُ مُرْتَدِّينَ نَصًّا فِي كَوْنِهِمُ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُمْ عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُرْتَدُّونَ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ يُبَدِّلُونَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِالسَّيِّئَةِ انْتَهَى، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ حَدِيثًا فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَإِذَا جِئْتُمْ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، فَأَقُولُ: أَمَّا النَّسَبُ فَقَدْ عَرَفْتُهُ، وَلَعَلَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ بَعْدِي، وَارْتَدَدْتُمْ، وَلِأَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَسَأَذْكُرُ فِي آخِرِ بَابِ صِفَةِ النَّارِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى شَرْحِهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
بَعْضٍ؟ فَقَالَ: الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ؛ هُوَ الْقُشَيْرِيُّ يُكَنَّى أَبَا يُونُسَ، وَأَبُوهُ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَزْنُ كَبِيرَةٍ، وَضِدُّهَا وَاسْمُهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ: تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً؛ كَذَا فِيهِ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ مُشَاةً وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ بِلَفْظِ: يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ - عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا بُهْمًا - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ - قُلْنَا وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ زِيَادَةٌ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، وَاسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حِبَّانَ، عَنْ حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ عَنْ عَائِشَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: حُفَاةً عُرَاةً، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ سَنَدُهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَلَمْ يَسُقِ الْمَتْنَ.
قَوْلُهُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ فِيهِ أَنَّ النِّسَاءَ يَدْخُلْنَ فِي الضَّمِيرِ الْمُذَكَّرِ الْآتِي بِالْوَاوِ، وَكَأَنَّهُ بِالتَّغْلِيبِ كَمَا فِي قَوْلِهَا: بَعْضُهُمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: حُفَاةً عُرَاةً قُلْتُ: وَالنِّسَاءُ؟ قَالَ: وَالنِّسَاءُ.
قَوْلُهُ: قَالَ: الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، يُقَالُ: أَهَمَّهُ الْأَمْرُ، وَجَوَّزَ ابْنُ التِّينِ فَتْحَ أَوَّلِهِ وَضَمَّ ثَانِيهِ مِنْ هَمَّهُ الشَّيْءُ إِذَا آذَاهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَاتِمٍ، عِنْدَ مُسْلِمٍ: قَالَ: يَا عَائِشُ، الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا نَسْتَحْيِي؟ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، الْأَمْرُ أَهَمُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ وَلِلنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ؟ قَالَ:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَظِيِّ: قَرَأَتْ عَائِشَةُ: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فَقَالَتْ: وَاسَوْءَتَاهْ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يُحْشَرُونَ جَمِيعًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى سَوْءَةِ بَعْضٍ؟ فَقَالَ:{لِكُلِّ امْرِئٍ} الْآيَةَ، وَزَادَ: لَا يَنْظُرُ الرِّجَالُ إِلَى النِّسَاءِ، وَلَا النِّسَاءُ إِلَى الرِّجَالِ، شُغِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَلِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ؟ قَالَ حُفَاةً عُرَاةً.
قَالَتْ: وَاسَوْأَتَاهْ، قَالَ: قَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ لَا يَضُرُّكِ كَانَ عَلَيْكِ ثِيَابٌ، أَوْ لَا، {لِكُلِّ امْرِئٍ} الْآيَةَ وَفِي حَدِيثِ سَوْدَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْهَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بَدَلَ سَوْدَةَ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ كِلَاهُمَا عَنْهُ.
قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ صَرَّحَ يُوسُفُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِسَمَاعِهِ مِنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ
قَوْلُهُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ الْمَذْكُورَةِ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
قَوْلُهُ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَادَ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى: نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَفِي رِوَايَةِ يُوسُفَ الْمَذْكُورَةِ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضِيفٌ ظَهْرَهُ إِلَى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ يَمَانِيٍّ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَسْنَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ بِمِنًى إِلَى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ.
قَوْلُهُ: (أَتَرْضَوْنَ) فِي رِوَايَةِ ي وسُفَ: إِذْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَلَا تَرْضَوْنَ؟ وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ: أَلَيْسَ تَرْضَوْنَ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ: أَتُحِبُّونَ قَالَ ابْنُ التِّينِ: ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِإِرَادَةِ تَقْرِيرِ الْبِشَارَةِ بِذَلِكَ، وَذَكَرَهُ بِالتَّدْرِيجِ لِيَكُونَ أَعْظَمَ لِسُرُورِهِمْ.
قَوْلُهُ: قُلْنَا: نَعَمْ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ: قَالُوا: بَلَى وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: فَكَبَّرْنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَزَادَ فَحَمِدْنَا وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَفَرِحُوا وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَبْشَرُوا بِمَا بَشَّرَهُمْ بِهِ، فَحَمِدُوا اللَّهَ عَلَى نِعْمَتِهِ الْعُظْمَى، وَكَبَّرُوهُ اسْتِعْظَامًا لِنِعْمَتِهِ بَعْدَ اسْتِعْظَامِهِمْ لِنِقْمَتِهِ.
قَوْلُهُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ وَإِسْرَائِيلَ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ وَقَالَ نِصْفَ بَدَلَ شَطْرَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إِنِّي لَأَطْمَعُ بَدَلَ لَأَرْجُو وَوَقَعَ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبٌ يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَزَادَ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَحْوِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، بَلْ أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَا تَصِحُّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الْكَلْبِيَّ وَاهٍ، وَلَكِنْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخَرِينَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَنَزَلَتْ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخَرِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، بَلْ ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، بَلْ أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَتُقَاسِمُونَهُمْ فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: أَنْتُمْ رُبُعُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ ثُلُثا أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ مُرْسَلِ مُجَاهِدٍ نَحْوَ حَدِيثِ الْكَلْبِيِّ، وَفِيهِ مَعَ إِرْسَالِهِ أَبُو حُذَيْفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ أَحَدُ
الْمَتْرُوكِينَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ: أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، أُمَّتِي مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًّا، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِنَحْوِهِ، وَأَتَمُّ مِنْهُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ الْكَلْبِيِّ، فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَا رَحْمَةَ رَبِّهِ أَنْ تَكُونَ أُمَّتُهُ نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَعْطَاهُ مَا ارْتَجَاهُ وَزَادَهُ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}
قَوْلُهُ: وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ مَا أَنْتُمْ فِيمَا سِوَاكُمْ مِنَ الْأُمَمِ.
قَوْلُهُ: كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ. كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، لَكِنْ قَدَّمَ السَّوْدَاءَ عَلَى الْبَيْضَاءِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ الْأَبْيَضِ بَدَلَ الْأَحْمَرِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الْأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَطْلَقَ الشَّعْرَةَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْوَحْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ ثَوْرٌ لَيْسَ فِي جِلْدِهِ غَيْرُ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ، وَالرَّقْمَةُ قِطْعَةٌ بَيْضَاءُ، تَكُونُ فِي بَاطِنِ عُضْوِ الْحِمَارِ وَالْفَرَسِ، وَتَكُونُ فِي قَوَائِمِ الشَّاةِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الرَّقْمَةُ شَيْءٌ مُسْتَدِيرٌ لَا شَعْرَ فِيهِ، سمعت بِهِ لِأَنَّهُ كَالرَّقْمِ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَخُوهُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ، وَثَوْرٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ الدِّيلِيُّ، وَأَبُو الْغَيْثِ هُوَ سَالِمٌ، وَالْكُلُّ مَدَنِيُّونَ، وَرِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَخِيهِ، مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ، وَكَذَا سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَوْرٍ، وَلَكِنَّ إِسْمَاعِيلَ أَصْغَرُ مِنْ أَخِيهِ، وَسُلَيْمَانُ أَصْغَرُ مِنْ ثَوْرٍ وَسَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ آدَمُ إِلَخْ يَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
46 - بَاب قَوْلِهِ عز وجل: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} ، {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} ، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}
6530 -
حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا، وَمِنْكُمْ رَجُلٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ: فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الْأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، أَوْ كالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ.
قَوْلُهُ: بَابُ {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ، وَالزَّلْزَلَةُ الِاضْطِرَابُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الزَّلَلِ، وَفِي تَكْرِيرِ الزَّايِ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى ذَلِكَ،
وَالسَّاعَةُ فِي الْأَصْلِ جُزْءٌ مِنَ الزَّمَانِ، وَاسْتُعِيرَتْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى السَّاعَةِ الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ يَقَعُ فِيهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ سَاعَةً لِوُقُوعِهَا بَغْتَةً، أَوْ لِطُولِهَا، أَوْ لِسُرْعَةِ الْحِسَابِ فِيهَا، أَوْ لِأَنَّهَا عِنْدَ اللَّهِ خَفِيفَةٌ مَعَ طُولِهَا عَلَى النَّاسِ.
قَوْلُهُ: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) هُوَ مِنَ الْأَزَفِ بِفَتْحِ الزَّايِ، وَهُوَ الْقُرْبُ، يُقَالُ: أَزِفَ كَذَا أَيْ قَرُبَ، وَسُمِّيَتِ السَّاعَةُ آزِفَةً لِقُرْبِهَا أَوْ لِضِيقِ وَقْتهَا، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَزِفَتِ اقْتَرَبَتْ أَوْ دَنَتْ.
قَوْلُهُ: جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ.
قَوْلُهُ: عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَجِّ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ وَهُوَ ذَكْوَانُ، وَأَبُو سَعِيدٍ هُوَ الْخُدْرِيُّ.
قَوْلُهُ: يَقُولُ اللَّهُ كَذَا وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ غَيْرَ مَرْفُوعٍ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِإِثْبَاتِ قَوْلِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا وَقَعَ لِمُسْلِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ بِسَنَدِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، وَحَفْصٍ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ خِطَابَ آدَمَ بِذَلِكَ أَوَّلُ شَيْءٍ يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَفْظُهُ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ آدَمُ عليه السلام فَتَرَاءَى ذُرِّيَّتُهُ بِمُثَنَّاةٍ وَاحِدَةٍ وَمَدٍّ ثُمَّ هَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ مُمَالَةٍ، وَأَصْلُهُ فَتَتَرَاءَى فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَرَاءَى الشَّخْصَانِ تَقَابَلَا بِحَيْثُ صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رُؤْيَةِ الْآخَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ ثَوْرٍ فَتَتَرَاءَى لَهُ ذُرِّيَّتُهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيُقَالُ هَذَا أَبُوكُمْ وَفِي رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ فَيَقُولُونَ: هَذَا أَبُوكُمْ.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْخَيْرِ نَوْعُ تَعْطِيفٍ وَرِعَايَةٌ لِلْأَدَبِ، وَإِلَّا فَالشَّرُّ أَيْضًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ كَالْخَيْرِ.
قَوْلُهُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْثَ جَهَنَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ نَصِيبَ بَدَلَ بَعْثَ وَالْبَعْثُ بِمَعْنَى الْمَبْعُوثِ، وَأَصْلُهَا فِي السَّرَايَا الَّتِي يَبْعَثُهَا الْأَمِيرُ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ لِلْحَرْبِ وَغَيْرِهَا، وَمَعْنَاهَا هُنَا مَيِّزْ أَهْلَ النَّارِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا خَصَّ بِذَلِكَ آدَمَ لِكَوْنِهِ وَالِدَ الْجَمِيعِ، وَلِكَوْنِهِ كَانَ قَدْ عَرَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ، فَقَدْ رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَعَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ شِمَالِهِ أَسْوِدَةٌ الْحَدِيثَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: يَا آدَمُ أَنْتَ الْيَوْمَ عَدْلٌ بَيْنِي وَبَيْنَ ذُرِّيَّتِكَ، قُمْ فَانْظُرْ مَا يُرْفَعُ إِلَيْكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
قَوْلُهُ: قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ أَيْ وَمَا مِقْدَارُ مَبْعُوثِ النَّارِ؟ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ كَمْ أُخْرِجُ.
قَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ وَكَذَا فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ ثَوْرٍ يَعْنِي رَاوِيهِ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَمًا.
قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ غَيْرَهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ نَحْوَهُ، وَفِي أَوَّلِهِ زِيَادَةٌ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَرَفَعَ صَوْتَهُ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} - إِلَى {شَدِيدٌ} فَحَثَّ أَصْحَابُهُ الْمَطِيَّ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ ذَاكَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ يُنَادِي اللَّهُ آدَمَ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَصَحَّحَهُ، وَكَذَا الْحَاكِمُ، وَهَذَا سِيَاقُ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ عَنْهُ، وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ: عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا وَنَقَلَ عَنِ الذُّهْلِيِّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى هِيَ الْمَحْفُوظَةُ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى ثَقِيلَةٌ عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ؟ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ رَفَعَهُ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ - إِلَى أَنْ قَالَ - ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ وَفِيهِ فَيُقَالُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، فَذَاكَ يَوْمٌ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبَا وَكَذَا رَأَيْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِمِثْلِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، رُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ طَلْحَةَ بْنِ الصَّقْرِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى نَحْوَهُ فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا
الْعَدَدِ، وَلَمْ يَسْتَحْضِرِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُتَابِعًا، وَقَدْ ظَفِرْتُ بِهِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ الْهِجْرِيِّ وَفِيهِ مَقَالٌ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ.
وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ، فَالتَّخْصِيصُ بِعَدَدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّائِدِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْعَدَدَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ تَقْلِيلُ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَكْثِيرُ عَدَدِ الْكَافِرِينَ.
قُلْتُ: وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ الْأَوَّلِ تقديم حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَةٍ، فَإِنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَدُلُّ عَلَى عَشَرَةٍ، فَالْحُكْمُ لِلزَّائِدِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ الْأَخِيرِ أَنْ لَا يُنْظَرَ إِلَى الْعَدَدِ أَصْلًا، بَلِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَقْلِيلِ الْعَدَدِ، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ أُخَرَ، وَهُوَ حَمْلُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ، وَحَمْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى مَنْ عَدَا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ عَشَرَةٌ، وَيُقَرِّبُ ذَلِكَ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ذَكَرُوا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ دُونَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَالثَّانِي بِخُصُوصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَيُقَرِّبُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا أُخِذَ مِنَّا لَكِنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا أُمَّتِي جُزْءٌ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَقَعَ الْقِسْمَةُ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ، وَمَرَّةً مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ فَقَطْ، فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ عَشَرَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِبَعْثِ النَّارِ الْكُفَّارَ، وَمَنْ يَدْخُلُهَا مِنَ الْعُصَاةِ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ كَافِرًا، وَمَنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ عَاصِيًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ وَسَاقَ إِلَى قَوْلِهِ: قوله شَدِيد ظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الْمَوْقِفِ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَا حَمْلَ فِيهِ، وَلَا وَضْعَ، وَلَا شَيْبَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَكِنَّ الْحَدِيثَ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّهْوِيلِ، وَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ النَّوَوِيُّ فَقَالَ فِيهِ وَجْهَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَذَكَرَهُمَا، وَقَالَ: التَّقْدِيرُ أَنَّ الْحَالَ يَنْتَهِي إلى أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ النِّسَاءُ حِينَئِذٍ حَوَامِلَ لَوَضَعَتْ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ أَصَابَنَا أَمْرٌ يَشِيبُ مِنْهُ الْوَلِيدُ، وَأَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، فَتُبْعَثُ الْحَامِلُ حَامِلًا، وَالْمُرْضِعُ مُرْضِعَةً، وَالطِّفْلُ طِفْلًا، فَإِذَا وَقَعَتْ زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ وَقِيلَ ذَلِكَ لِآدَمَ وَرَأَى النَّاسُ آدَمَ وَسَمِعُوا مَا قِيلَ لَهُ، وَقَعَ بِهِمْ مِنَ الْوَجَلِ مَا يَسْقُطُ مَعَهُ الْحَمْلُ، وَيَشِيبُ لَهُ الطِّفْلُ وَتَذْهَلُ بِهِ الْمُرْضِعَةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى، وَقَبْلَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَكُونُ خَاصًّا بِالْمَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَذَاكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْآيَةِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الْحَمْلِ مَا يُتَخَيَّلُ مِنْ طُولِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَاسْتِقْرَارِ النَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ وَنِدَاءِ آدَمَ لِتَمْيِيزِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ مُتَقَارِبًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} يَعْنِي أَرْضَ الْمَوْقِفِ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا *
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} وَالْحَاصِلُ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَعْدَ نَفْخَةِ الْبَعْثِ مِنْ أَهْوَالٍ وَزَلْزَلَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى آخِرِ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَقَرِيبٌ
مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِلَى أَنْ ذَكَرَ النَّفْخَ فِي الصُّورِ إِلَى أَنْ قَالَ: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ فَذَكَرَهُ قَالَ: فَذَاكَ يَوْمٌ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ وَغَيْرِهِ مَا يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ النَّفْخِ فِي الصُّورِ وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا وَتَشِيبُ الْوِلْدَانُ وَتَتَطَايَرُ الشَّيَاطِينُ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ، فَيَأْخُذُهُمْ لِذَلِكَ الْكَرْبُ وَالْهَوْلُ، ثُمَّ تَلَا الْآيَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الْحَجِّ الْحَدِيثَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ هَذَا الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ يَوْمُ الزَّلْزَلَةِ يَكُونُ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى، وَفِيهِ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ الْعَظِيمَةِ، وَمَنْ جُمْلَتِهَا مَا يُقَالُ لِآدَمَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى، بَلْ لَهُ مَحْمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ مَنُوطًا بِأَوَّلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ يُقَالُ لِآدَمَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ الَّذِي يَشِيبُ فِيهِ الْوِلْدَانُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ شَيْبُ الْوِلْدَانِ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى حَقِيقَةً وَالْقَوْلُ لِآدَمَ يَكُونُ وَصْفُهُ بِذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ شِدَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عَيْنُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ حِينَ يَقَعُ لَا يُهِمُّ كُلَّ أَحَدٍ إِلَّا نَفْسُهُ حَتَّى إِنَّ الْحَامِلَ تُسْقِطُ مِنْ مِثْلِهِ وَالْمُرْضِعَةُ إِلَخْ، وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْنَى أَنْ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُرْضِعَةٌ لَذَهَلَتْ، وَذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْيِيَ اللَّهُ حِينَئِذٍ كُلَّ حَمْلٍ كَانَ قَدْ تَمَّ خَلْقُهُ، وَنُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ، فَتَذْهَلُ الْأُمُّ حِينَئِذٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى إِرْضَاعِهِ إِذْ لَا غِذَاءَ هُنَاك وَلَا لَبَنَ، وَأَمَّا الْحَمْلُ الَّذِي لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنَّهُ إِذَا سَقَطَ لَمْ يَحْيَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ الْإِعَادَةِ، فَمَنْ لَمْ يَمُتْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَحْيَى فِي الْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْمِ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِمُ الْكَآبَةُ وَالْحُزْنُ، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْحَسَنِ فَأَنْشَأَ الْمُؤْمِنُونَ يَبْكُونَ وَمِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فَنُبِسَ الْقَوْمُ حَتَّى مَا أَبْدَوْا بِضَاحِكَةٍ وَنُبِسَ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ مَعْنَاهُ تَكَلَّمَ فَأَسْرَعَ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ، وَفِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ عَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَبْلَسُوا وَكَذَا لَهُ نَحْوُهُ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ عَنِ الْحَسَنِ.
قَوْلُهُ: وَأَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَكَانَ حَقَّ الْجَوَابِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ فُلَانٌ أَوْ مَنْ يَتَّصِفُ بِالصِّفَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْظَامًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ وَاسْتِشْعَارًا لِلْخَوْفِ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ أَبْشِرُوا وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا أُخِذَ مِنَّا مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَمَاذَا يَبْقَى وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَبَكَى أَصْحَابُهُ.
قَوْلُهُ: فَقَالَ أَبْشِرُوا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اعْمَلُوا وَأَبْشِرُوا، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ مِثْلَهُ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُدْعَانَ: قَارِبُوا وَسَدِّدُوا وَنَحْوَهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا وَمِنْكُمْ رَجُلٌ ظَاهِرُهُ زِيَادَةُ وَاحِدٍ عَمَّا ذَكَرَ مِنْ تَفْصِيلِ الْأَلْفِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَبْرِ الْكَسْرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، أَوْ أَلْفًا إِلَّا وَاحِدًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنْكُمْ رَجُلٌ تَقْدِيرُهُ وَالْمُخْرَجُ مِنْكُمْ أَوْ وَمِنْكُمْ رَجُلٌ مُخْرَجٌ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى الْمَفْعُولِ بِإِخْرَاجِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ، أَيْ فَإِنَّهُ يُخْرَجُ كَذَا، وَرَوَى بِالرَّفْعِ عَلَى خَبَرِ إِنَّ وَاسْمِهَا مُضْمَرٌ قَبْلَ الْمَجْرُورِ، أَيْ فَإِنَّ الْمُخْرَجَ مِنْكُمْ رَجُلٌ، قُلْتُ: وَالنَّصْبُ أَيْضًا عَلَى اسْمِ إِنَّ صَرِيحًا فِي الْأَوَّلِ، وَبِتَقْدِيرٍ فِي الثَّانِي، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الَّذِي قَالَهُ، فَإِنَّ فِيهِ تَكَلُّفًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِالرَّفْعِ فِي أَلْفٍ وَحْدَهُ، وَبِالنَّصْبِ فِي رَجُلًا، وَلِأَبِي ذَرٍّ بِالْعَكْسِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا
فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ وَالتَّقْدِيرُ فَإِنَّهُ، فَحَذَفَ الْهَاءَ وَهِيَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ كَثِيرًا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا أُمَّتِي جُزْءٌ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ دَاخِلُونَ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَالْوَعِيدِ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: رُبُعُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى أَنَّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ أَيْ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ كَانَ عَلَى الشِّرْكِ مِثْلَهُمْ وَقَوْلُهُ وَمِنْكُمْ رَجُلٌ يَعْنِي مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مِثْلَهُمْ.
قُلْتُ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ مِنْكُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ م سْعُودٍ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَعَتْ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، وَالْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَقَعَتْ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم سَائِرٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرِهِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَمِثْلُهُ فِي مُرْسَلِ مُجَاهِدٍ عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي الْمُبْهَمَاتِ كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي بَابُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ فِيهِ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَاهٍ، وَالصَّحِيحُ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمِنًى، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي قُبَّتِهِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عِمْرَانَ، بِأَنَّ تِلَاوَتَهُ الْآيَةَ وَجَوَابَهُ عَنْهَا اتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ وَهُوَ سَائِرٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: إِنِّي لَأَطْمَعُ إِلَخْ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ وَقَعَدَ بِالْقُبَّةِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الرُّبُعِ قَبْلَ الثُّلُثِ
فَحَفِظَهَا أَبُو سَعِيدٍ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَحْفَظِ الرُّبُعَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ سَائِرُ مَبَاحِثِهِ فِي الْحَدِيثِ الْخَامِسِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
47 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} قَالَ: الْوُصُلَاتُ فِي الدُّنْيَا.
6531 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ: يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ.
6532 -
حَدَّثَنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ فِي الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَيُوفُونَ الْكَيْلَ، فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُهُمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {يَوْمَ
يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ إِنَّ الْعَرَقَ لَيَبْلُغُ أَنْصَافَ آذَانِهِمْ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ أَشَارَ إِلَيْهِ، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَرْفُوعَ فِي مَعْنَاهُ، وَأَصْلُ الْبَعْثِ إِثَارَةُ الشَّيْءِ عَنْ جَفَاءٍ وَتَحْرِيكُهُ عَنْ سُكُونٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ وَخُرُوجُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَنَحْوُهَا إِلَى حُكْمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} قَالَ: الْوُصُلَاتُ فِي الدُّنْيَا بِضَمِّ الْوَاوِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَبِضَمِّهَا وَبِسُكُونِهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَسْبَابُ هِيَ الْوُصُلَاتُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَاصَلُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَاحِدَتُهَا وَصْلَةٌ، وَهَذَا الْأَثَرُ لَمْ أَظْفَرْ بِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَوَدَّةُ، وَهُوَ بِالْمَعْنَى. وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْمَنَازِلُ، وَمِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلُهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: يَعْنِي أَسْبَابُ النَّدَامَةِ، وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَسْبَابُ الْأَرْحَامُ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ.
وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ: تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَرْحَامُ، وَتَفَرَّقَتْ بِهِمُ الْمَنَازِلُ فِي النَّارِ. وَوَرَدَ بِلَفْظِ التَّوَاصُلِ وَالْمُوَاصَلَةِ أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تَوَاصُلُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تَوَاصُلٌ كَانَ بَيْنَهُمْ بِالْمَوَدَّةِ فِي الدُّنْيَا. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، وَلِعَبْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْأَسْبَابُ الْمُوَاصَلَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا يَتَوَاصَلُونَ بِهَا وَيَتَحَابُّونَ فَصَارَتْ عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هُوَ الْوَصْلُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَلِعَبْدٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: الْأَعْمَالُ، وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْأَسْبَابُ جَمْعُ سَبَبٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا يُتَسَبَّبُ بِهِ إِلَى طُلْبَةٍ وَحَاجَةٍ فَيُقَالُ لِلْحَبْلِ سَبَبٌ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْحَاجَةِ الَّتِي يُتَعَلَّقُ بِهِ إِلَيْهَا، وَلِلطَّرِيقِ سَبَبٌ لِلتَّسَبُّبِ بِرُكُوبِهِ إِلَى مَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِقَطْعِهِ، وَلِلْمُصَاهَرَةِ سَبَبٌ لِلْحُرْمَةِ، وَلِلْوَسِيلَةِ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ بِهَا إِلَى الْحَاجَةِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: السَّبَبُ: الْحَبْلُ، وَسُمِّيَ كُلُّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ سَبَبًا وَمِنْهُ:{لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أَيْ أَصِلُ إِلَى الْأَسْبَابِ الْحَادِثَةِ فِي السَّمَاءِ، فَأَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَدَّعِيهِ مُوسَى، وَيُسَمَّى الْعِمَامَةُ وَالْخِمَارُ وَالثَّوْبُ الطَّوِيلُ سَبَبًا تَشْبِيهًا بِالْحَبْلِ، وَكَذَا مَنْهَجُ الطَّرِيقِ لِشَبَهِهِ بِالْحَبْلِ، وَبِالثَّوْبِ الْمَمْدُودِ أَيْضًا، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ: يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَالرَّشْحُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهُمَا مُهْمَلَةٌ هُوَ الْعَرَقُ شُبِّهَ بِرَشْحِ الْإِنَاءِ لِكَوْنِهِ يَخْرُجُ مِنَ الْبَدَنِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعَرَقَ يَحْصُلُ لِكُلِّ شَخْصٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَرَقِهِ فَقَطْ، أَوْ مِنْ عَرَقِهِ وَعَرَقِ غَيْرِهِ، وَقَالَ
عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ عَرَقَ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ بِقَدْرِ خَوْفهِ مِمَّا يُشَاهِدُهُ مِنَ الْأَهْوَالِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ عَرَقَهُ وَعَرَقَ غَيْرِهِ فَيُشَدَّدُ عَلَى بَعْضٍ وَيُخَفَّفُ عَلَى بَعْضٍ، وَهَذَا كُلُّهُ بِتَزَاحُمِ النَّاسِ وَانْضِمَامِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى صَارَ الْعَرَقُ يَجْرِي سَائِحًا فِي وَجْهِ الْأَرْضِ كَالْمَاءِ فِي الْوَادِي بَعْدَ أَنْ شَرِبَتْ مِنْهُ الْأَرْضُ، وَغَاصَ فِيهَا سَبْعِينَ ذِرَاعًا.
قُلْتُ: وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا وَقَفُوا فِي الْمَاءِ الَّذِي عَلَى أَرْضٍ مُعْتَدِلَةٍ كَانَتْ تَغْطِيَةُ الْمَاءِ لَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ، لَكِنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ تَفَاوَتُوا فَكَيْفَ يَكُونُ الْكُلُّ إِلَى الْأُذُنِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْخَوَارِقِ الْوَاقِعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ
الْإِشَارَةُ بِمَنْ يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى أُذُنَيْهِ إِلَى غَايَةِ مَا يَصِلُ الْمَاءُ، وَلَا يَنْفِي أَنْ يَصِلَ الْمَاءُ لِبَعْضِهِمْ إِلَى دُونِ ذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَفَعَهُ تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ عَقِبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ نِصْفَ سَاقِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ رُكْبَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ فَخِذَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ خَاصِرَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ فَاهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَأَلْجَمَهَا فَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ، وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَلَيْسَ بِتَمَامِهِ وَفِيهِ: تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَتكُونُ النَّاسُ عَلَى مِقْدَارِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمْ يَسْتَوُونَ فِي وُصُولِ الْعَرَقِ إِلَيْهِمْ، وَيَتَفَاوَتُونَ فِي حُصُولِهِ فِيهِمْ.
وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ: مِقْدَارُ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَيَهُونُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَتَدَلِّي الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يُحْشَرُ النَّاسُ قِيَامًا أَرْبَعِينَ سَنَةً شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: يَعْرَقُ النَّاسُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ فِي الْمَاضِي.
قَوْلُهُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَان سَبْعِينَ بَاعَا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ ثَوْرٍ، وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ إِلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ أَوْ إِلَى آذَانِهِمْ شَكَّ ثَوْرٌ، وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ الَّذِي يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ الْكَافِرُ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْهُ قَالَ: يَشْتَدُّ كَرْبُ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى يُلْجِمَ الْكَافِرَ الْعَرَقُ، قِيلَ لَهُ: فَأَيْنَ الْمُؤْمِنُونَ؟ قَالَ: عَلَى الْكَرَاسِيِّ مِنْ ذَهَبٍ، وَيُظَلِّلُ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ. وَبِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: الشَّمْسُ فَوْقَ رُءُوسِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَعْمَالُهُمْ تُظِلُّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَاللَّفْظُ لَهُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: تُعْطَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَرَّ عَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ تُدْنَى مِنْ جَمَاجِمِ النَّاسِ حَتَّى تَكُونَ قَابَ قَوْسَيْنِ، فَيَعْرَقُونَ حَتَّى يَرْشَحَ الْعَرَقُ فِي الْأَرْضِ قَامَةً، ثُمَّ تَرْتَفِعُ حَتَّى يُغَرْغِرَ الرَّجُلُ. زَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي رِوَايَتِهِ وَلَا يَضُرُّ حَرُّهَا يَوْمَئِذٍ مُؤْمِنًا وَلَا مُؤْمِنَةً. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ مَنْ يَكُونُ كَامِلَ الْإِيمَانِ؛ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْمِقْدَادِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفِيضُ عَرَقًا حَتَّى يَسِيحَ فِي الْأَرْضِ قَامَةً، ثُمَّ يَرْتَفِعُ حَتَّى يَبْلُغَ أَنْفَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى وَصَحَّحَهَا ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُلْجِمُهُ الْعَرَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ: يَا رَبِّ، أَرِحْنِي وَلَوْ إِلَى النَّارِ. وَلِلْحَاكِمِ وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوَهُ، وَهُوَ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الْمَوْقِفِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ التَّفْصِيلَ الَّذِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ وَالْمِقْدَادِ يَقَعُ مِثْلُهُ لِمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ، فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حُجْزَتِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى حِقْوَيْهِ - وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذْهُ إِلَى عُنُقِهِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّارُ فِيهِ مَجَازًا عَنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ النَّاشِئِ عَنِ الْعَرَقِ فَيَتَّحِدُ الْمَوْرِدَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي حَقِّ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ. فَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ فِي التَّعْذِيبِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَإِنَّهُمْ فِي الْغَمَرَاتِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ تَعْمِيمُ النَّاسِ بِذَلِكَ وَلَكِنْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الْأُخْرَى عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْبَعْضِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ، وَيُسْتَثْنَى الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَشَدُّهُمْ فِي الْعَرَقِ الْكُفَّارُ، ثُمَّ أَصْحَابُ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ قَلِيلٌ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي حَدِيثِ بَعْثِ النَّارِ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّرَاعِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَعَارَفِ، وَقِيلَ: هُوَ الذِّرَاعُ الْمَلَكِيُّ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الْحَالَةَ الْمَذْكُورَةَ عَرَفَ عِظَمَ الْهَوْلِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ النَّارَ تَحُفُّ بِأَرْضِ الْمَوْقِفِ، وَتُدْنَى الشَّمْسُ مِنَ الرُّءُوسِ قَدْرَ مِيلٍ، فَكَيْفَ تَكُونُ حَرَارَةُ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَمَاذَا يَرْوِيهَا مِنَ الْعَرَقِ حَتَّى يَبْلُغَ مِنْهَا سَبْعِينَ ذِرَاعًا مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَجِدُ إِلَّا قَدْرَ مَوْضِعِ قَدَمِهِ، فَكَيْفَ تَكُونُ حَالَةُ هَؤُلَاءِ فِي عَرَقِهِمْ مَعَ تَنَوُّعِهِمْ فِيهِ، إِنَّ هَذَا لَمِمَّا يَبْهَرُ الْعُقُولَ وَيَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَيَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ أَنْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهَا مَجَالٌ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا بِعَقْلٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا عَادَةٍ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْقَبُولِ وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَمَنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ دَلَّ عَلَى خُسْرَانِهِ وَحِرْمَانِهِ.
وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ أَنْ يَتَنَبَّهَ السَّامِعُ فَيَأْخُذَ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي تُخَلِّصُهُ مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ، وَيُبَادِرَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ التَّبِعَاتِ، وَيَلْجَأَ إِلَى الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ فِي عَوْنِهِ عَلَى أَسْبَابِ السَّلَامَةِ، وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ فِي سَلَامَتِهِ مِنْ دَارِ الْهَوَانِ، وَإِدْخَالِهِ دَارَ الْكَرَامَةِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
48 - بَاب الْقِصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ الْحَاقَّةُ لِأَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ وَحَوَاقَّ الْأُمُورِ
الْحَقَّةُ وَالْحَاقَّةُ وَاحِدٌ وَالْقَارِعَةُ وَالْغَاشِيَةُ وَالصَّاخَّةُ وَالتَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ
6533 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ في الدِّمَاءِ.
[الحديث 6533 - طرفه في: 6864]
6534 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ"
6535 -
حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ "أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَاحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا"
قَوْلُهُ: بَابُ الْقِصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْقِصَاصُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَبِمُهْمَلَتَيْنِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَصِّ وَهُوَ الْقَطْعُ، أَوْ مِنِ اقْتِصَاصِ الْأَثَرِ وَهُوَ تَتَبُّعُهُ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَصَّ يَتَتَبَّعُ جِنَايَةَ الْجَانِي لِيَأْخُذَ مِثْلَهَا، يُقَالُ اقْتَصَّ مِنْ غَرِيمِهِ وَاقْتَصَّ الْحَاكِمُ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ.
قَوْلُهُ: وَهِيَ الْحَاقَّةُ الضَّمِيرُ لِلْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: لِأَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ؛ وَحَوَاقَّ الْأُمُورِ الْحَقَّةُ وَالْحَاقَّةُ وَاحِدٌ هَذَا أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ الْحَاقَّةُ الْقِيَامَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ فِيهَا
الثَّوَابَ وَحَوَاقَّ الْأُمُورِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقَّةُ وَالْحَاقَّةُ كِلَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ الطَّبَرِيُّ: سُمِّيَتِ الْحَاقَّةَ لِأَنَّ الْأُمُورَ تَحِقُّ فِيهَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ قَائِمٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سُمِّيَتِ الْحَاقَّةَ لِأَنَّهَا أَحَقَّتْ لِقَوْمٍ الْجَنَّةَ وَلِقَوْمٍ النَّارَ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا تُحَاقِقُ الْكُفَّارَ الَّذِينَ خَالَفُوا الْأَنْبِيَاءَ، يُقَالُ حَاقَقْتُهُ فَحَقَقْتُهُ أَيْ خَاصَمْتُهُ فَخَصَمْتُهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَالْقَارِعَةُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَاقَّةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِأَهْوَالِهَا.
قَوْلُهُ: (وَالْغَاشِيَةُ) سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَغْشَى النَّاسَ بِأَفْزَاعِهَا أَيْ تَعُمُّهُمْ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَالصَّاخَّةُ) قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَظُنُّهُ مِنْ صَخَّ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا أَصَمَّهُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ مُسْمِعَةٌ لِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَمُصِمَّةٌ عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَتُطْلَقُ الصَّاخَّةُ أَيْضًا عَلَى الدَّاهِيَةِ.
قَوْلُهُ: التَّغَابُنُ غَبَنَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ غَبَنَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا نُونٌ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَنْزِلُونَ مَنَازِلَ الْأَشْقِيَاءِ الَّتِي كَانَتْ أُعِدَّتْ لَهُمْ لَوْ كَانُوا سُعَدَاءَ، فَعَلَى هَذَا فَالتَّغَابُنُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَدِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَجَمَعَهَا الْغَزَالِيُّ ثُمَّ الْقُرْطُبِيُّ فَبَلَغَتْ نَحْوَ الثَّمَانِينَ اسْمًا، فَمِنْهَا يَوْمُ الْجَمْعِ، وَيَوْمُ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيَوْمُ التَّنَادِ، وَيَوْمُ الْوَعِيدِ، وَيَوْمُ الْحَسْرَةِ، وَيَوْمُ التَّلَاقِ، وَيَوْمُ الْمَآبِ، وَيَوْمُ الْفَصْلِ، وَيَوْمُ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ، وَيَوْمُ الْخُرُوجِ، وَيَوْمُ الْخُلُودِ، وَمِنْهَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَيَوْمٌ عَسِيرٌ، وَيَوْمٌ مَشْهُودٌ، وَيَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرِيرٌ، وَمِنْهَا يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَمِنْهَا يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا، وَيَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، وَيَوْمٌ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ، وَيَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَيَوْمَ لَا يَنْطِقُونَ، وَيَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، وَيَوْمَ لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، وَيَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ، وَيَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ، وَيَوْمٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَإِذَا ضُمَّتْ هَذِهِ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ اسْمًا مُعْظَمُهَا، وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِهِ، وَسَائِرُ الْأَسْمَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا أُخِذَتْ بِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ بِمَا وَرَدَ مَنْصُوصًا كَيَوْمِ الصَّدْرِ مِنْ قَوْلِهِ:{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} وَيَوْمِ الْجِدَالِ مِنْ قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} وَلَوْ تُتُبِّعَ مِثْلُ هَذَا مِنَ
الْقُرْآنِ زَادَ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:
أَحَدَهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالسَّنَدُ إِلَيْهِ كُوفِيُّونَ، وَشَقِيقٌ هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ أَبُو وَائِلٍ، مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، أَكْثَرَ مِنِ اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الدِّمَاءُ وَسَيَأْتِي كَالْأَوَّلِ فِي الدِّيَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَلِمُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَعْمَشِ: بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ أَيِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَوَّلُ الْقَضَايَا الْقَضَاءُ فِي الدِّمَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ الْأَمْرُ الْكَائِنُ فِي الدِّمَاءِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ.
الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَاتِ الْخَلْقِ، وَالثَّانِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعِبَادَةِ الْخَالِقِ، وَقَدْ جَمَعَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ وَلَفْظُهُ: أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ، وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَجِّ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ بِأَخَصَّ مِمَّا فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَهُوَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي هُوَ وَرَفِيقَاهُ حَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ وَخُصُومُهُمْ عُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فِيهِمْ نَزَلَتْ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الْآيَةَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ، وَيَأْتِي كُلُّ قَتِيلٍ قَدْ حَمَلَ رَأْسَهُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُعَلِّقًا رَأْسَهُ بِإِحْدَى
يَدَيْهِ مُلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا حَتَّى يَقِفَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ الْحَدِيثَ، وَنَحْوُهُ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْقِصَاصِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَيُعْلَمُ مِنَ الْحَدِيثِ الثَّانِي، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ نَحْنُ آخِرُ الْأُمَمِ وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ عِظَمُ أَمْرِ الدَّمِ، فَإِنَّ الْبُدَاءَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَهَمِّ وَالذَّنْبُ يَعْظُمُ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ، وَتَفْوِيتِ
الْمَصْلَحَةِ، وَإِعْدَامُ الْبِنْيَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ غَايَةٌ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّغْلِيظِ فِي أَمْرِ الْقَتْلِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَآثَارٌ شَهِيرَةٌ يَأْتِي بَعْضُهَا فِي أَوَّلِ الدِّيَاتِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
قَوْلُهُ: (مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ أَخِيهِ.
قَوْلُهُ: لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَاتِ الثَّوَابُ عَلَيْهَا، وَبِالسَّيِّئَاتِ الْعِقَابُ عَلَيْهَا، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ إِعْطَاءُ الثَّوَابِ وَهُوَ لَا يَتَنَاهَى فِي مُقَابَلَةِ الْعِقَابِ وَهُوَ مُتَنَاهٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُعْطَاهُ صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ أَصْلِ الثَّوَابِ مَا يُوَازِي الْعُقُوبَةَ عَنِ السَّيِّئَةِ، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَبْقَى لِصَاحِبِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: سَيِّئَاتُ الْمُؤْمِنِ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَنَاهِيَةُ الْجَزَاءِ، وَحَسَنَاتُهُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةِ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ مِنْ ثَوَابِهَا الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ، فَوَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ يُعْطَى خُصَمَاءُ الْمُؤْمِنَ الْمُسِيءِ مِنْ أَجْرِ حَسَنَاتِهِ مَا يُوَازِي عُقُوبَةَ سَيِّئَاتِهِ؛ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْ خَطَايَا خُصُومِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعَذَّبُ إِنْ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، فَإِذَا انْتَهَتْ عُقُوبَةُ تِلْكَ الْخَطَايَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ بِمَا كُتِبَ لَهُ مِنَ الْخُلُودِ فِيهَا بِإِيمَانِهِ، وَلَا يُعْطَى خُصَمَاؤُهُ مَا زَادَ مِنْ أَجْرِ حَسَنَاتِهِ عَلَى مَا قَابَلَ عُقُوبَةَ سَيِّئَاتِهِ يَعْنِي مِنَ الْمُضَاعَفَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ وَافَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُؤْمِنًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ فِي كِتَابِ الْمُوَازَنَةِ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ مَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ، فَالْأَوَّلُ فَائِزٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالثَّانِي يُقْتَضَى مِنْهُ بِمَا فَضَلَ مِنْ مَعَاصِيهِ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِنَ النَّفْخَةِ إِلَى آخِرِ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ بِمِقْدَارِ قِلَّةِ شَرِّهِ وَكَثْرَتِهِ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو طَالِبٍ عُقَيلُ بْنُ عَطِيَّةَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ فِيهِ بِأَنَّ حَقَّ الْعِبَارَةِ فِيهِ أَنْ يُقَيَّدَ بِمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ مِنْهُمْ، وَإِلَّا فَالْمُكَلَّفُ فِي الْمَشِيئَةِ، وَصَوَّبَ الثَّالِثَ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ أَهْلُ الْأَعْرَافِ قَالَ: وَهُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ فِيهِمْ. قُلْتُ: قَدْ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ أَيْضًا: وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ يُعَذَّبُ ثُمَّ يُخْرَجُ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ، وَمَنْ يُعْفَى عَنْهُ فَلَا يُعَذَّبُ أَصْلًا.
وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ، فَيُنْصَبُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَيُنَادِي مُنَادٍ: هَذَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فَلْيَأْتِ؛ فَيَأْتُونَ فَيَقُولُ الرَّبُّ: آتِ هَؤُلَاءِ حُقُوقَهُمْ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، فَنِيَتِ الدُّنْيَا فَمِنْ أَيْنَ أُوتِيهِمْ، فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: خُذُوا مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأَعْطُوا كُلَّ إِنْسَانٍ بِقَدْرِ طَلِبَتِهِ، فَإِنْ كَانَ نَاجِيًا وَفَضَلَ مِنْ حَسَنَاتِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ضَاعَفَهَا اللَّهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بِهَا الْجَنَّةَ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَاحِبُ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِبْرِيلُ، يَرُدُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا ذَهَبَ يَوْمَئِذٍ وَلَا فِضَّةَ، فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَرُدَّتْ عَلَى الظَّالِمِ. أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ رَفَعَهُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ حَتَّى أَقَصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةَ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ وَإِنَّمَا نُحْشَرُ حُفَاةً عُرَاةً؟ قَالَ: بِالسَّيِّئَاتِ وَالْحَسَنَاتِ، وَعَلَّقَ الْبُخَارِيُّ طَرَفًا مِنْهُ فِي التَّوْحِيدِ كَمَا سَيَأْتِي، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ فِي نَحْوِ حَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَا يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ الْحُمَيْدِيُّ صَاحِبُ الْجُمَعِ كِتَابًا لَطِيفًا، وَتَعَقَّبَ أَبُو طَالِبٍ عُقَيْلُ بْنُ عَطِيَّةَ أَكْثَرَهُ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ تَحْرِيرُ الْمَقَالِ فِي مُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَمَا بَعْدَهُ دَلَالَةٌ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ: يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ يَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ شَدَّادٌ أَبُو طَلْحَةَ، وَالْكَافِرُ لَا يُعَاقَبُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْلَ الْحَدِيثِ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بِلَفْظِ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هَذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَمَعَ ذَلِكَ فَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ: الْحَدِيثُ فِي الشَّفَاعَةِ أَصَحُّ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْفِدَاءُ فِي قَوْمٍ كَانَتْ ذُنُوبُهُمْ كُفِّرَتْ عَنْهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ، وَحَدِيثُ الشَّفَاعَةِ فِي قَوْمٍ لَمْ تُكَفَّرْ ذُنُوبُهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ فِي الْفِدَاءِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْفِدَاءُ مَجَازًا عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي أَوَاخِرِ بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ قَرِيبًا بِلَفْظِ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فِي مُقَابِلِهِ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْفِدَاءِ إِنْزَالُ الْمُؤْمِنِ فِي مَقْعَدِ الْكَافِرِ مِنَ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ أُعِدَّ لَهُ، وَإِنْزَالُ الْكَافِرِ فِي مَقْعَدِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي كَانَ أُعِدَّ لَهُ، وَقَدْ يُلَاحَظُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} وَبِذَلِكَ أَجَابَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ فَأَوَّلَهَا النَّوَوِيُّ أَيْضًا تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ تِلْكَ الذُّنُوبَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا سَقَطَتْ عَنْهُمْ وُضِعَتْ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِثْلُهَا بِكُفْرِهِمْ فَيُعَاقَبُونَ بِذُنُوبِهِمْ لَا بِذُنُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَيَضَعُهَا أَيْ يَضَعُ مِثْلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْقَطَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَبْقَى عَلَى الْكُفَّارِ سَيِّئَاتِهِمْ صَارُوا فِي مَعْنَى مَنْ حَمَلَ إِثْمَ الْفَرِيقَيْنِ؛ لِكَوْنِهِمُ انْفَرَدُوا بِحَمْلِ الْإِثْمِ الْبَاقِي وَهُوَ إِثْمُهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ آثَامًا كَانَتِ الْكُفَّارُ سَبَبًا فِيهَا بِأَنْ سَنُّوهَا، فَلَمَّا غُفِرَتْ سَيِّئَاتُ الْمُؤْمِنِينَ بَقِيَتْ سَيِّئَاتُ الَّذِي سَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ بَاقِيَةً لِكَوْنِ الْكَافِرِ لَا يُغْفَرُ لَهُ، فَيَكُونُ الْوَضْعُ كِنَايَةً عَنْ إِبْقَاءِ الذَّنْبِ الَّذِي لَحِقَ الْكَافِرَ بِمَا سَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ السَّيِّئِ، وَوَضَعَهُ عَنِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي فَعَلَهُ بِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ، سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ أَوْ بَعْدَ دُخُولِهَا، وَالْخُرُوجِ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ، وَهَذَا الثَّانِي أَقْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا تَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقُ، وَهُوَ الْخَارِكِيُّ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَكَافٍ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا يزيد بْنُ زُرَيْعٍ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ أَيْ قَرَأَ يَزِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَفَسَّرَهَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} قَالَ: يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ الْحَدِيثَ وَظَاهِرُهُ أَنَّ تِلَاوَةَ الْآيَةِ مَرْفُوعٌ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ رُوَاتِهِ تَلَا الْآيَةَ عِنْدَ إِيرَادِ الْحَدِيثِ، فَاخْتَصَرَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الصَّلْتِ مِمَّنْ فَوْقَ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَفَّانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَذَكَرَهَا قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ فَذَكَرَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ سَعِيدٍ فَلَمْ يَذْكُرِ الْآيَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي بِالنُّونِ اسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، وَرِجَالُ السَّنَدِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ،
وَصَرَّحَ قَتَادَةُ بِالتَّحْدِيثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةٍ مَضَتْ فِي الْمَظَالِمِ، وَكَذَا الرِّوَايَةُ الْمُعَلَّقَةُ لِيُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَوَصَلَهَا ابْنُ مَنْدَهْ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ، وَرِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ خَالِدٍ، وَعَفَّانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ.
قَوْلُهُ: إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ أَيْ نَجَوْا مِنَ السُّقُوطِ فِيهَا بَعْدَ مَا جَازُوا عَلَى الصِّرَاطِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَظَالِمِ: إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ جِسْرِ جَهَنَّمَ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ كَيْفِيَّةُ مُرُورِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْتَنْفِدُ حَسَنَاتِهِمْ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ مِنْهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْمُرَجَّحِ آنِفًا، وَخَرَجَ مِنْ هَذَا صِنْفَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ; وَمَنْ أَوْبَقَهُ عَمَلُهُ.
قَوْلُهُ: فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ سَيَأْتِي أَنَّ الصِّرَاطَ جِسْرٌ مَوْضُوعٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ وَرَاءَ ذَلِكَ، فَيَمُرُّ عَلَيْهِ النَّاسُ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ النَّاجِي وَهُوَ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، أَوِ اسْتَوَيَا أَوْ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنْهُمُ السَّاقِطُ وَهُوَ مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ إِلَّا مَنْ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، فَالسَّاقِطُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ يُعَذَّبُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا، وَالنَّاجِي قَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ تَبِعَاتٌ، وَلَهُ حَسَنَاتٌ تُوَازِيهَا، أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا يَعْدِلُ تَبِعَاتِهِ فَيَخْلُصُ مِنْهَا، وَاخْتُلِفَ فِي الْقَنْطَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فَقِيلَ: هِيَ مِنْ تَتِمَّةِ الصِّرَاطِ، وَهِيَ طَرَفُهُ الَّذِي يَلِي الْجَنَّةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا صِرَاطَانِ، وَبِهَذَا الثَّانِي جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَسَيَأْتِي صِفَةُ الصِّرَاطِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي فِي بَابُ الصِّرَاطُ جِسْرُ جَهَنَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ.
قَوْلُهُ: فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، فَتَكُونُ اللَّامُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ زَائِدَةً، أَوِ الْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ اللَّهُ أَوْ مَنْ أَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ: فَيَقْتَصُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
قَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا بِضَمِّ الْهَاءِ وَبِضَمِّ النُّونِ، وَهُمَا بِمَعْنَى التَّمْيِيزِ وَالتَّخْلِيصِ مِنَ التَّبِعَاتِ.
قَوْلُهُ: أَذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ كُلُّهُ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ عَفَّانَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، فَإِنَّهُ جَعَلَ هَذَا مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ قَالَ: وَقَالَ قَتَادَةُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى إِلَخْ وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِلَخْ، فَأَبْهَمَ الْقَائِلَ، فَعَلَى رِوَايَةِ عَفَّانَ يَكُونُ هُوَ قَتَادَةَ، وَعَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ يَكُونُ هُوَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ مَا يُشَبَّهُ بِهِمْ إِلَّا أَهْلُ الْجُمُعَةِ إِذَا انْصَرَفُوا مِنْ جُمُعَتِهِمْ. وَهَكَذَا عِنْدَ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَرَوْحٍ، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ خَالِدٍ وَعَفَّانَ جَمِيعًا عِنْدَ الطَّبَرِيِّ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ فَذَكَرَهُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَيُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالْقَائِلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ قَتَادَةُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْقَائِلِ.
قَوْلُهُ: لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا قَالَ الطِّيبِيُّ: أَهْدَى لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ بَلْ بِاللَّامِ أَوْ إِلَى، فَكَأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى اللُّصُوقِ بِمَنْزِلِهِ هَادِيًا إِلَيْهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} الْآيَةَ، فَإِنَّ الْمَعْنَى يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، فَأَقَامَ:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} إِلَى آخِرِهَا بَيَانًا وَتَفْسِيرًا؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِسَبَبِ السَّعَادَةِ كَالْوُصُولِ إِلَيْهَا.
قُلْتُ: وَلِأَصْلِ الْحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُحْبَسُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَا يَجُوزُونَ الصِّرَاطَ حَتَّى يُؤْخَذَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ظُلَامَاتُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَيْسَ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ غِلٌّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُحْبَسْ
بِالْقَنْطَرَةِ أَوْ عَلَى الْجَمِيعِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ ذَلِكَ لَهُمْ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَمَنْ دَخَلَ كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ بِمَنْزِلِهِ فِيهَا كَمَعْرِفَتِهِ بِمَنْزِلِهِ فِي الدُّنْيَا. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بَعْدَ الدُّخُولِ مُبَالَغَةً فِي التَّبْشِيرِ وَالتَّكْرِيمِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
49 - بَاب مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ
6536 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ. قَالَتْ: قُلْتُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَ: ذَلِكِ الْعَرْضُ. حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَأَيُّوبُ، وَصَالِحُ بْنُ رُسْتُمٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6537 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ "حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هَلَكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ عُذِّبَ"
6538 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ"
6539 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي خَيْثَمَةُ "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ ثُمَّ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"
6540 -
قَالَ الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي عَمْرٌو عَنْ خَيْثَمَةَ "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا النَّارَ" ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا النَّارَ" ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلَاثًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"
قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ، هُوَ مِنَ النَّقْشِ، وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الشَّوْكَةِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْجِهَادِ ; وَالْمُرَادُ بِالْمُنَاقَشَةِ الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ، وَتَرْكِ الْمُسَامَحَةِ يُقَالُ: انْتَقَشْتُ مِنْهُ حَقِّي أَيِ اسْتَقْصَيْتُهُ، وَذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ: عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَوَاهُ حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ فَقَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ وَقَوْلُهُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ زَادَ وَهُوَ حَافِظٌ مُتْقِنٌ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ، وَسَمِعَهُ مِنَ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، فَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ قُلْتُ: وَهَذَا مُجَرَّدُ احْتِمَالٍ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ لَهُ، عَنْ عَائِشَةَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا فِي السَّنَدِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَانْتَفَى التَّعْلِيلُ بِإِسْقَاطِ رَجُلٍ مِنَ السَّنَدِ، وَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ عَائِشَةَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْ بِالْعَكْسِ وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ فِي رِوَايَتِهِ بِالْوَاسِطَةِ مَا لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدًا، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ بِحَمْدِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: قَالَتْ: قُلْتُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ} فِي رِوَايَةِ عَبْدٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {حِسَابًا يَسِيرًا} وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ: اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ قَالَ: أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِهِ فَيَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْهُ ; إِنَّ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَا عَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ هَلَكَ.
قَوْلُهُ: فِي السَّنَدِ الثَّانِي مِثْلُهُ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ انْشَقَّتْ بِهَذَا السَّنَدِ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ أَيْضًا وَأَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَقَالَ مِثْلَ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ: تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَأَيُّوبُ، وَصَالِحُ بْنُ رُسْتُمَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قُلْتُ: مُتَابَعَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمٍ وَصَلَهُمَا أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمٍ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِهِ.
(تَنْبِيهَانِ): أَحَدُهُمَا: اخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ.
ثَانِيهِمَا: مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ هَذَا جَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ بِأَنَّهُ أَبُو عُثْمَانَ الْمَكِّيُّ، وَقَالَ: اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي الرِّقَاقِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمٍ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ أَبُو هِلَالٍ الرَّاسِبِيُّ، اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي التَّعْبِيرِ، وَأَمَّا الْمِزِّيُّ فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا عُثْمَانَ فِي التَّهْذِيبِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ أَبِي هِلَالٍ، وَعَلَّمَ عَلَامَةَ التَّعْلِيقِ عَلَى اسْمِهِ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَهُوَ الَّذِي هُنَا، وَعَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَهُوَ الَّذِي فِي التَّعْبِيرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ تَصْوِيبُ أَبِي عَلِيٍّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ أَبُو عُثْمَانَ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فَقَالَ: يروي عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَرَوَى عَنْهُ وَكِيعٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: رَوَى عَنْهُ أَبُو عَاصِمٍ وَنَقَلَ عَنِ اسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ قَالَ: هُوَ ثِقَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَالِحٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الثِّقَاتِ.
وَأَمَّا مُتَابَعَةُ أَيُّوبَ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنِ إسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، عَنْ سُلَيْمَانَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَلَفْظُهُ: مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيْنَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ؟ قَالَ: ذَاكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَيُّوبَ بِلَفْظِ مَنْ نُوقِشَ عُذِّبَ فَقَالَتْ: كَأَنَّهَا تُخَاصِمُهُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ
مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَمَّادٍ بِلَفْظِ ذَاكُمُ الْعَرْضُ بِزِيَادَةِ مِيمِ الْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ، وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الْخَزَّازُ بِمُعْجَمَاتٍ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمِهِ، فَوَصَلَهَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْخَزَّازِ، وَوَقَعَتْ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي الْمَحَامِلِيَّاتِ وَفِي لَفْظِهِ زِيَادَةٌ قَالَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ؟ فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَمَا هِيَ؟ قُلْتُ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَازَى بِأَسْوَأِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا يُصِيبُهُ الْمَرَضُ حَتَّى النَّكْبَةُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يُعَذِّبْهُ. قَالَتْ: قُلْتُ: أَلَيْسَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ.
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْخَزَّازِ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكُنْيَةُ حَاتِمٍ أَبُو يُونُسَ، وَاسْمُ أَبِي صَغِيرَةَ مُسْلِمٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ زَوْجُ أُمِّ أَبِي يُونُسَ، وَقِيلَ: جَدُّهُ لِأُمِّهِ.
قَوْلُهُ: لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ ثُمَّ قَالَ: أَخِيرًا وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا عُذِّبَ وَكِلَاهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحَاسَبَةِ تَحْرِيرُ الْحِسَابِ، فَيَسْتَلْزِمُ الْمُنَاقَشَةَ، وَمَنْ عُذِّبَ فَقَدْ هَلَكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ قَوْلُهُ: حُوسِبَ أَيْ حِسَابَ اسْتِقْصَاءٍ، وَقَوْلُهُ عُذِّبَ أَيْ فِي النَّارِ جَزَاءً عَلَى السَّيِّئَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا حِسَابُهُ، وَقَوْلُهُ هَلَكَ أَيْ بِالْعَذَابِ فِي النَّارِ. قَالَ: وَتَمَسَّكَتْ عَائِشَةُ بِظَاهِرِ لَفْظِ الْحِسَابِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ.
قَوْلُهُ: يُنَاقَشُ الْحِسَابَ بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَالتَّقْدِيرُ يُنَاقَشُ فِي الْحِسَابِ. قوْلُهُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:) تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ انْشَقَّتْ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ بِلَفْظِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاءَكَ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ فِي رِوَايَةِ الْقَطَّانِ قَالَ: ذَاكَ الْعَرْضُ تُعْرَضُونَ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدًا مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ. وَقَالَ غَرِيبٌ قُلْتُ: وَالرَّاوِي لَهُ عَنْ هَمَّامٍ عَلَيُّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ صَدُوقٌ، وَرُبَّمَا أَخْطَأَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ أَنَّ الْحِسَابَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ أَنْ تُعْرَضَ أَعْمَالُ الْمُؤْمِنِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْرِفَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي سَتْرِهَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي عَفْوِهِ عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّجْوَى قَالَ عِيَاضٌ: قَوْلُهُ عُذِّبَ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَفْسَ مُنَاقَشَةِ الْحِسَابِ وَعَرْضِ الذُّنُوبِ وَالتَّوْقِيفِ عَلَى قَبِيحِ مَا سَلَفَ وَالتَّوْبِيخِ تَعْذِيبٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ إِذْ لَا حَسَنَةَ لِلْعَبْدِ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِإِقْدَارِهِ عَلَيْهَا وَتَفْضِلِهِ عَلَيْهِ بِهَا، وَهِدَايَتِهِ لَهَا، وَلِأَنَّ الْخَالِصَ لِوَجْهِهِ قَلِيلٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الثَّانِيَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هَلَكَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: التَّأْوِيلُ الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ فَمَنِ اسْتُقْصِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَامَحْ هَلَكَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَجْهُ الْمُعَارَضَةِ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ عَامٌّ فِي تَعْذِيبِ كُلِّ مَنْ حُوسِبَ، وَلَفْظُ الْآيَةِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَا يُعَذَّبُ ; وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِسَابِ فِي الْآيَةِ الْعَرْضُ، وَهُوَ إِبْرَازُ الْأَعْمَالِ وَإِظْهَارُهَا فَيُعَرِّفُ صَاحِبَهَا بِذُنُوبِهِ ثُمَّ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَالطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ قَالَ: الرَّجُلُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ ذُنُوبُهُ، ثُمَّ يُتَجَاوَزُ لَهُ عَنْهَا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ. الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمِ: مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَذَاكَ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَذَاكَ الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ زَادَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَذَاكَ الَّذِي أَوْبَقَ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا الشَّفَاعَةُ فِي مِثْلِهِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّجْوَى، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ، وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ
هُودٍ، وَفِي التَّوْحِيدِ، وَفِيهِ: وَيَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: أَعَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، وَجَاءَ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَرْضِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ الرِّفَاعِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: تُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرْضَاتٍ: فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ، وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ الرِّفَاعِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى انْتَهَى.
وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَأَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: الْجِدَالُ لِلْكُفَّارِ يُجَادِلُونَ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِذَا جَادَلُوا نَجَوْا، وَالْمَعَاذِيرُ اعْتِذَارُ اللَّهِ لِآدَمَ وَأَنْبِيَائِهِ بِإِقَامَتِهِ الْحُجَّةَ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَالثَّالِثَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ الْعَرْضُ الْأَكْبَرُ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: لَا يُحَاسَبُ رَجُلٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَظَاهِرُهُ يُعَارِضُ حَدِيثَهَا الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ مَعًا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّعْذِيبِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُوَحِّدَ وَإِنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ أَوْ بِعُمُومِ الرَّحْمَةِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
حَدِيثُ أَنَسٍ: يُجَاءُ بِالْكَافِرِ ذَكَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، وَمِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، وَسَاقَهُ بِلَفْظِ سَعِيدٍ، وَأَمَّا لَفْظُ هِشَامٍ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: يُقَالُ لِلْكَافِرِ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِ يُجَاءُ، وَيُقَالُ: وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ فِي بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ لِلْكَافِرِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَفْظُهُ: يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ كَيْفَ وَجَدْتَ مَضْجَعَكَ؟ فَيَقُولُ: شَرَّ مَضْجَعٍ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ تَفْتَدِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ ذَهَبًا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَيُقَالُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَضْجَعِ هُنَا مَضْجَعُهُ فِي الْقَبْرِ، فَيَلْتَئِمُ مَعَ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى.
قَوْلُهُ: فَيُقَالُ لَهُ زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ كَذَبْتَ.
قَوْلُهُ: قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عِمْرَانَ فَيَقُولُ: أَرَد تُ مِنْكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا، وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أَنْ لَا تُشْرِكْ بي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ: قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ تَفْعَلْ فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ قَالَ عِيَاضٌ: يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الْآيَةَ فَهَذَا الْمِيثَاقُ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي صُلْبِ آدَمَ، فَمَنْ وَفَّى بِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ لَمْ يُوَفِّ بِهِ فَهُوَ الْكَافِرُ، فَمُرَادُ الْحَدِيثِ أَرَدْتُ مِنْكَ حِينَ أَخَذْتُ الْمِيثَاقَ، فَأَبَيْتَ إِذْ أَخْرَجْتُكَ إِلَى الدُّنْيَا إِلَّا الشِّرْكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ هُنَا الطَّلَبَ، وَالْمَعْنَى أَمَرْتُكَ فَلَمْ تَفْعَلْ؛ لِأَنَّهُ سبحانه وتعالى لَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يُرِيدُ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّهُ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يُرِيدُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ وَلَا مُسْتَحِيلٍ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَرَادَ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِ وَكُفْرَ الْكَافِرِ، وَلَوْ أَرَادَ مِنَ الْكَافِرِ الْإِيمَانَ لَآمَنَ يَعْنِي لَوْ قَدَّرَهُ عَلَيْهِ لَوَقَعَ، وَقَالَ أَهْلُ الِاعْتِزَالِ: بَلْ أَرَادَ مِنَ الْجَمِيعِ الْإِيمَانَ، فَأَجَابَ الْمُؤْمِنُ، وَامْتَنَعَ الْكَافِرُ، فَحَمَلُوا الْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ مُرِيدَ الشَّرِّ شِرِّيرٌ، وَالْكُفْرُ شَرٌّ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَهُ الْبَارِي، وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرَّ شَرٌّ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْخَالِقِ فَإِنَّهُ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ إِرَادَةُ الشَّرِّ شَرًّا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْهُ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ يَأْمُرُهُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُقَاسَ إِرَادَتُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَيْضًا فَالْمُرِيدُ لِفِعْلٍ مَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَا أَرَادَهُ آذَنَ ذَلِكَ بِعَجْزِهِ وَضَعْفِهِ، وَالْبَارِي - تَعَالَى - لَا يُوصَفُ بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ، فَلَوْ أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ وَلَمْ يُؤْمِنْ لَآذَنَ ذَلِكَ بِعَجْزٍ وَضَعْفٍ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وَأُجِيبُوا بِأَنَّهُ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ بِمَنْ قَضَى اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ، فَعِبَادُهُ عَلَى هَذَا الْمَلَائِكَةُ، وَمُؤْمِنُو الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْإِرَادَةُ غير الرِّضَا وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلا يَرْضَى} أَيْ لَا يَشْكُرُهُ لَهُمْ وَلَا يُثِيبُهُمْ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ، وَقِيلَ مَعْنَى الرِّضَا أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ دِينًا مَشْرُوعًا لَهُمْ، وَقِيلَ الرِّضَا صِفَةٌ وَرَاءَ الْإِرَادَةِ، وَقِيلَ: الْإِرَادَةُ تُطْلَقُ بِإِزَاءِ شَيْئَيْنِ إِرَادَةُ تَقْدِيرٍ، وَإِرَادَةُ رِضًا، وَالثَّانِيَةُ أَخَصُّ مِنَ الْأُولَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: الرِّضَا مِنَ اللَّهِ إِرَادَةُ الْخَيْرِ كَمَا أَنَّ السُّخْطَ إِرَادَةُ الشَّرِّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ فَيُقَالُ لَهُ كَذَبْتَ مَعْنَاهُ لَوْ رَدَدْنَاكَ إِلَى الدُّنْيَا لَمَا افْتَدَيْتَ؛ لِأَنَّكَ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ فَأَبَيْتَ، وَيَكُونُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وَبِهَذَا يَجْتَمِعُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ} قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ قَوْلِ الْإِنْسَانِ يَقُولُ اللَّهُ خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّمَا يَجُوزُ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: حَدَّثَنِي خَيْثَمَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمِنَ الْجُعْفِيُّ.
قَوْلُهُ: عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ هُوَ الطَّائِيُّ.
قَوْلُهُ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ظَاهِرُ الْخِطَابِ لِلصَّحَابَةِ، وَيُلْتَحَقُ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ سَابِقُهُمْ وَمُقَصِّرُهُمْ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ.
قَوْلُهُ: إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْد ابْنُ مَاجَهْ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ.
قَوْلُهُ: لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يَقُولُ، وَبَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ مُحِلِّ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الزَّكَاةِ بِلَفْظِ: ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ، وَلَا تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا؟ فَيَقُولُ: بَلَى الْحَدِيثَ، وَالتَّرْجُمَانُ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ فِي شَرْحِ قِصَّةِ هِرَقْلَ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى شيئا قُدَّامَهُ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ أَمَامَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي التَّوْحِيدِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِلَفْظِ: فَلَا يَرَى شَيْئًا إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُحِلِّ بْنِ خَلِيفَةَ: فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، وَيَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخْتَصَرَةٌ، وَرِوَايَةُ خَيْثَمَةَ مُفَسَّرَةٌ، فَهِيَ الْمُعْتَمَدَةُ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: أَيْمَنَ وَأَشْأَمَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ. قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: نَظَرُ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ هُنَا كَالْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا دَهَمَهُ أَمْرٌ أَنْ يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَشِمَالًا يَطْلُبُ الْغَوْثَ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الِالْتِفَاتِ أَنَّهُ يَتَرَجَّى أَنْ يَجِدَ طَرِيقًا يَذْهَبُ فِيهَا لِيَحْصُلَ لَهُ النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا يُفْضِي بِهِ إِلَى النَّارِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحِلِّ بْنِ خَلِيفَةَ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فِي رِوَايَةِ عِيسَى: وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدِيهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: يَنْظُرُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّارَ تَكُونُ فِي مَمَرِّهِ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحِيدَ عَنْهَا، إِذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ.
قَوْلُهُ: فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ
تَمْرَةٍ، زَادَ وَكِيعٌ فِي رِوَايَتِهِ: فَلْيَفْعَلْ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى: فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ أَيِ اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا وِقَايَةً مِنَ الصَّدَقَةِ، وَعَمَلِ الْبِرِّ، وَلَوْ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ.
قَوْلُهُ: قَالَ الْأَعْمَشُ هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَذَلِكَ، وَبَيَّنَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي زَادَهُ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ لِلْأَعْمَشِ فِي حَدِيثِهِ عَنْ خَيْثَمَةَ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، وَقَدْ مَضَى الْحَدِيثُ بِأَتَمَّ سِيَاقًا مِنْ هَذَا فِي رِوَايَةِ مُحِلِّ بْنِ خَلِيفَةَ فِي الزَّكَاةِ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنِي عَمْرُو هُوَ ابْنُ مُرَّةَ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ.
قَوْلُهُ: اتَّقُوا النَّارَ ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ أَظْهَرَ الْحَذَرَ مِنْهَا، وَقَالَ الْخَلِيلِيُّ: أَشَاحَ بِوَجْهِهِ عَنِ الشَّيْءِ نَحَّاهُ عَنْهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُشِيحُ الْحَذِرُ، وَالْجَادُّ فِي الْأَمْرِ، وَالْمُقْبِلُ فِي خِطَابِهِ، فَيَصِحُّ أَحَدُ هَذِهِ الْمَعَانِي أَوْ كُلُّهَا أَيْ حَذِرُ النَّارِ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا أَوْ جَدَّ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِاتِّقَائِهَا، أَوْ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي خِطَابِهِ بَعْدَ أَنْ أَعْرَضَ عَنِ النَّارِ لَمَّا ذَكَرَهَا، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ مَعْنَى أَشَاحَ صَدَّ وَانْكَمَشَ، وَقِيلَ: صَرَفَ وَجْهَهُ كَالْخَائِفِ أَنْ تَنَالَهُ.
قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ: أَعْرَضَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فِي أَوَّلِهِ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّارَ فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ.
قَوْلُهُ: ثَلَاثًا فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ وَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَابْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي حَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ؛ وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ الصَّدَقَةِ وَلَوْ قُلْتُ: وَقَدْ قُيِّدَتْ فِي الْحَدِيثِ بِالْكَسْبِ الطَّيِّبِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ احْتِقَارِ الْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِيهِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الزُّهْدِ حَيْثُ قَالُوا: الْمُلْتَفِتُ هَالِكٌ يُؤْخَذُ مِنْ أَنَّ نَظَرَ الْمَذْكُورِ، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فِيهِ صُورَةُ الِالْتِفَاتِ؛ فَلِذَا لَمَّا نَظَرَ أَمَامَهُ اسْتَقْبَلَتْهُ النَّارُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قُرْبِ النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهْ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ رَفَعَهُ: كَأَنِّي أَرَاكُمْ بِالْكَوَمِ جُثًى مِنْ دُونِ جَهَنَّمَ وَقَوْلُهُ: جُثًى بِضَمِّ الْجِيمِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ مَقْصُورٌ جَمْعُ جَاثٍ، وَالْكَوَمُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْوَاوِ السَّاكِنَةِ الْمَكَانُ الْعَالِي الَّذِي تَكُونُ عَلَيْهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى تَلٍّ عَالٍ، وَفِيهِ أَنَّ احْتِجَابَ اللَّهِ عَنْ عِبَادِهِ لَيْسَ بِحَائِلٍ حِسِّيٍّ، بَلْ بِأَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتِهِ، يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى قُدَّامَهُ شَيْئًا، وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ هُنَا يَدُلُّ عَلَى هُدًى أَوْ يُرَدُّ عَنْ رَدًى، أَوْ يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ يَفْصِلُ بَيْنَ مُتَنَازِعَيْنِ، أَوْ يَحُلُّ مُشْكِلًا أَوْ يَكْشِفُ غَامِضًا، أَوْ يَدْفَعُ ثَائِرًا أَوْ يُسَكِّنُ غَضَبًا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
50 - بَاب يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ
6541 -
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ ح. وَحَدَّثَنِي أَسِيدُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْأُمَّةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، هَؤُلَاءِ أُمَّتِي؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا
سَوَادٌ كَثِيرٌ قَالَ: هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، وَهَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانُوا لَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ فقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ
6542 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ" وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ"
6543 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ سَبْعُ مِائَةِ أَلْفٍ شَكَّ فِي أَحَدِهِمَا مُتَمَاسِكِينَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ الْجَنَّةَ وَوُجُوهُهُمْ عَلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ"
6544 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنَا نَافِعٌ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ يَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ خُلُودٌ"
[الحديث 6544 - طرفه في: 6548]
6545 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ "يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ وَلِأَهْلِ النَّارِ يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ"
قَوْلُهُ: (بَابٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وَرَاءَ التَّقْسِيمِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ أَمْرًا آخَرَ، وَأَنَّ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ مَنْ لَا يُحَاسَبُ أَصْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ، وَذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا أبو الْفُضَيْلِ هُوَ مُحَمَّدٌ، وَحُصَيْنٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمِنَ الْوَاسِطِيُّ.
قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْبُخَارِيُّ.
قَوْلُهُ: وَحَدَّثَنِي أَسِيدٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ الْجَمَّالُ بِالْجِيمِ كُوفِيٌّ حَدَّثَ بِبَغْدَادَ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، وَأَفْحَشَ ابْنُ مَعِينٍ فِيهِ الْقَوْلَ. وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ قَرَنَهُ فِيهِ بِغَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ عِنْدَهُ ثِقَةً قَالَهُ أَبُو مَسْعُودٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ خَبُرَ أَمْرَهُ كَمَا يَنْبَغِي، وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ، وَقَدْ
وَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ فِرَارًا مِنْ تَكْرِيرِ الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ السَّنَدَ الْأَوَّلَ فِي الطِّبِّ فِي بَابُ مَنِ اكْتَوَى ثُمَّ أَعَادَهُ هُنَا فَأَضَافَ إِلَيْهِ طَرِيقَ هُشَيْمٍ، وَتَقَدَّمَ لَهُ فِي الطِّبِّ أَيْضًا فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَرْقِ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ بَهْزٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَتَقَدَّمَ بِاخْتِصَارٍ قَرِيبًا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ زَادَ ابْنُ فُضَيْلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَامِرٍ وَهُوَ الشَّعْبِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ الْحَدِيثَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ الِاخْتِلَافَ فِي رَفْعِ حَدِيثِ عِمْرَانَ هَذَا، وَالِاخْتِلَافَ فِي سَنَدِهِ أَيْضًا فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَأَنَّ فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ زِيَادَةَ قِصَّةٍ وَقَعَتْ لِحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَعَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّقْيَةِ، وَذَكَرْتُ حُكْمَ الرُّقْيَةِ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (عُرِضَتْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ: عَلَيَّ بِالتَّشْدِيدِ، الْأُمَمُ بِالرَّفْعِ، وَقَدْ بَيَّنَ عَبْثَرُ بْنُ الْقَاسِمِ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ وَزْنَ جَعْفَرٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَلَفْظُهُ لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُعِلَ يُمَرُّ بِالنَّبِيِّ وَمَعَهُ الْوَاحِدُ الْحَدِيثَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى تَعَدُّدِ الْإِسْرَاءِ، وَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ أَيْضًا غَيْرَ الَّذِي وَقَعَ بِمَكَّةَ، فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ: أكربنا الْحَدِيثَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عُدْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأُمَمِهَا فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الثَّلَاثَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ أَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى نَامَ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَدِيثَ، وَالَّذِي يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِسْرَاءَ الَّذِي وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ لَيْسَ فِيهِ مَا وَقَعَ بِمَكَّةَ مِنِ اسْتِفْتَاحِ أَبْوَابِ السَّمَاوَاتِ بَابًا بَابًا، وَلَا مِنِ الْتِقَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ فِي سَمَاءٍ، وَلَا الْمُرَاجَعَةِ مَعَهُمْ، وَلَا الْمُرَاجَعَةِ مَعَ مُوسَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفَرْضِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا فِي طَلَبِ تَخْفِيفِهَا، وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَكَرَّرَتْ قَضَايَا كَثِيرَةٌ سِوَى ذَلِكَ رَآهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمِنْهَا بِمَكَّةَ الْبَعْضُ، وَمِنْهَا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ الْبَعْضُ، وَمُعْظَمُهَا فِي الْمَنَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَأَجِدُ) بِكَسْرِ الْجِيمِ بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لِتَحَقُّقِ صُورَةِ الْحَالِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَخَذَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي.
قَوْلُهُ: (النَّبِيَّ) بِالنَّصْبِ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ.
قَوْلُهُ: يَمُرُّ مَعَهُ الْأُمَّةُ أَيِ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ.
قَوْلُهُ: وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشْرُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ رَاءٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ زَادَ عَبْثَرٌ فِي رِوَايَتِهِ وَالشَّيْءُ وَفِي رِوَايَةِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ نَحْوُهُ لَكِنْ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا آنِفًا، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَالنَّبِيَّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ، وَالرَّهْطُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الثَّلَاثَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ. وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الرَّوِيَّاتِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَتَفَاوَتُونَ فِي عَدَدِ أَتْبَاعِهِمْ.
قَوْلُهُ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ فِي رِوَايَةِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ، وَالسَّوَادُ ضِدُّ الْبَيَاضِ هُوَ الشَّخْصُ الَّذِي يُرَى مِنْ بَعِيدٍ، وَصَفَهُ بِالْكَثِيرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الْجِنْسِ لَا الْوَاحِدِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ مَلَأَ الْأُفُقَ الْأُفُقُ النَّاحِيَةُ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا نَاحِيَةُ السَّمَاءِ.
قَوْلُهُ: قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، هَؤُلَاءِ أُمَّتِي؟ قَالَ: لَا، فِي رِوَايَةِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ: فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي، فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: حَتَّى
مَرَّ عَلَى مُوسَى فِي كَبْكَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَعْجَبَنِي فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ: هَذَا أَخُوكَ مُوسَى مَعَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَالْكَبْكَبَةُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ إِذَا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ.
قَوْلُهُ: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَظِيمٌ وَزَادَ فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ مِثْلُهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلَأَ الْأُفُقَ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَإِذَا الْأُفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: فَرَأَيْتُ أُمَّتِي قَدْ مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ، فَأَعْجَبَنِي كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئَتُهُمْ، فَقِيلَ: أَرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ كَوْنَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْرِفْ أُمَّتَهُ حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُمْ أُمَّةُ مُوسَى، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ تَرَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، وَفِي لَفْظٍ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمْ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْأَشْخَاصَ الَّتِي رَآهَا فِي الْأُفُقِ لَا يُدْرَكُ مِنْهَا إِلَّا الْكَثْرَةُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ لِأَعْيَانِهِمْ، وَأَمَّا مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا قَرُبُوا مِنْهُ، وَهَذَا كَمَا يَرَى الشَّخْصُ شَخْصًا عَلَى بُعْدٍ، فَيُكَلِّمُهُ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ أَخُوهُ، فَإِذَا صَارَ بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ عَرَفَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عِنْدَ وُرُودِهِمْ عَلَيْهِ الْحَوْضَ.
قَوْلُهُ: هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، وَهَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ، فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: مَعَهُمْ بَدَلَ قُدَّامَهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ: وَمَعَ هَؤُلَاءِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةُ، فَإِنَّ السَّبْعِينَ أَلْفًا الْمَذْكُورِينَ مِنْ جُمْلَةِ أُمَّتِهِ لَكِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي الَّذِينَ عُرِضُوا، إِذْ ذَاكَ فَأُرِيدَ الزِّيَادَةُ فِي تَكْثِيرِ أُمَّتِهِ بِإِضَافَةِ السَّبْعِينَ أَلْفًا إِلَيْهِمْ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ: وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْثَرِ بْنِ الْقَاسِمِ هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّتِكَ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى الْأُمَّةِ لَا إِلَى خُصُوصِ مَنْ عُرِضَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَعَ بِمَعْنَى مِنْ، فَتَأْتَلِفُ الرِّوَايَاتُ.
قَوْلُهُ: قُلْتُ: وَلِمَ؟ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا يَسْتَفْهِمُ بِهَا عَنِ السَّبَبِ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَشُرَيْحٍ، عَنْ هُشَيْمٍ: ثُمَّ نَهَضَ - أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَحَاصَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: هُمُ الَّذِينَ وَفِي رِوَايَةِ عَبْثَرٍ: فَدَخَلَ وَلَمْ يَسْأَلُوهُ، وَلَمْ يُفَسِّرْ لَهُمْ وَالْبَاقِي نَحْوُهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ فَأَفَاضَ الْقَوْمُ فَقَالُوا: نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَنَحْنُ هُمْ أَوْ أَوْلَادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّا وُلِدْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ فَقَالَ وَفِي رِوَايَةِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ: فَقَالُوا: أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا فِي الشِّرْكِ، وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ بَعْضُنَا: هُمُ الشُّهَدَاءُ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: مَنْ رَقَّ قَلْبُهُ لِلْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: كَانُوا لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ اتَّفَقَ عَلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْأَرْبَعِ مُعْظَمُ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْبَعْضِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ سَقَطَ: وَلَا يَتَطَيَّرُونَ هَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ اللَّذَيْنِ أَشَرْتُ إِلَيْهِمَا بِنَحْوِ الْأَرْبَعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَلَا يَرْقُونَ بَدَلَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَقَدْ أَنْكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَزَعَمَ أَنَّهَا غَلَطٌ مِنْ رَاوِيهَا، وَاعْتَلَّ بِأَنَّ الرَّاقِيَ يُحْسِنُ إِلَى الَّذِي يَرْقِيهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ رَقَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَرَقَى النَّبِيُّ أَصْحَابَهُ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الرُّقَى وَقَالَ:
مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ، وَالنَّفْعُ مَطْلُوبٌ قَالَ: وَأَمَّا الْمُسْتَرِقِي فَإِنَّهُ يَسْأَلُ غَيْرَهُ وَيَرْجُو نَفْعَهُ، وَتَمَامُ التَّوَكُّلِ يُنَافِي ذَلِكَ.
قَالَ: وَإِنَّمَا الْمُرَادُ وَصْفُ السَّبْعِينَ بِتَمَامِ التَّوَكُّلِ فَلَا يَسْأَلُونَ غَيْرَهُمْ أَنْ يَرْقِيَهُمْ، وَلَا يَكْوِيَهُمْ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ مِنْ شَيْءٍ، وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَافِظٌ، وَقَدِ اعْتَمَدَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَاعْتَمَدَ مُسْلِمٌ عَلَى رِوَايَتِهِ هَذِهِ، وَبِأَنَّ تَغْلِيطَ الرَّاوِي مَعَ إِمْكَانِ تَصْحِيحِ الزِّيَادَةِ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى التَّغْلِيطِ مَوْجُودٌ فِي الْمُسْتَرِقِي؛ لِأَنَّهُ اعْتَلَّ بِأَنَّ الَّذِي لَا يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَرْقِيَهُ تَامُّ التَّوَكُّلِ، فَكَذَا يُقَالُ لَهُ وَالَّذِي يَفْعَلُ غَيْرُهُ بِهِ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْهُ لِأَجْلِ تَمَامِ التَّوَكُّلِ، وَلَيْسَ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْ جِبْرِيلَ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُدَّعَى، وَلَا فِي فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ أَيْضًا دَلَالَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ، وَتَبَيينِ الْأَحْكَامِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا تَرَكَ الْمَذْكُورُونَ الرُّقَى وَالِاسْتِرْقَاءَ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ؛ لِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكِلَ نَفْسَهُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَالرُّقْيَةُ فِي ذَاتِهَا لَيْسَتْ مَمْنُوعَةً، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهَا مَا كَانَ شِرْكًا أَوِ احْتَمَلَهُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، وَلَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ شِرْكٌ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الطِّبِّ.
وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الرُّقَى وَالْكَيِّ قَادِحٌ فِي التَّوَكُّلِ بِخِلَافِ سَائِرِ أَنْوَاعِ الطِّبِّ، وَفُرِّقَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ بِأَنَّ الْبُرْءَ فِيهِمَا أَمْرٌ مَوْهُومٌ، وَمَا عَدَاهُمَا مُحَقَّقٌ عَادَةً كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَلَا يَقْدَحُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَكْثَرَ أَبْوَابِ الطِّبِّ مَوْهُومٌ، وَالثَّانِي أَنَّ الرُّقَى بِأَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - تَقْتَضِي التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالِالْتِجَاءَ إِلَيْهِ، وَالرَّغْبَةَ فِيمَا عِنْدَهُ، وَالتَّبَرُّكَ بِأَسْمَائِهِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي التَّوَكُّلِ لَقَدَحَ الدُّعَاءُ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَقَدْ رُقِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَقَى وَفَعَلَهُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ، فَلَوْ كَانَ مَانِعًا مِنَ اللَّحَاقِ بِالسَّبْعِينَ أَوْ قَادِحًا فِي التَّوَكُّلِ لَمْ يَقَعْ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ مِمَّنْ عَدَاهُمْ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى أَنَّ السَّبْعِينَ الْمَذْكُورِينَ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَجَوَّزَ أَبُو طَالِبِ بْنُ عَطِيَّةَ فِي مُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ أَنَّ السَّبْعِينَ الْمَذْكُورِينَ هُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ السَّابِقِينَ فَمُسَلَّمٌ وَإِلَّا فَلَا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ الْجُهَنِيِّ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ حَدِيثًا، وَفِيهِ وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا حَتَّى تَبَوَّءُوا أَنْتُمْ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَذُرِّيَّاتِكُمْ مَسَاكِنَ فِي الْجَنَّةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَزِيَّةَ السَّبْعِينَ بِالدُّخُولِ بِغَيْرِ حِسَابٍ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ فِيمَنْ يُحَاسَبُ فِي الْجُمْلَةِ مَنْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ، وَفِيمَنْ يَتَأَخَّرُ عَنِ الدُّخُولِ مِمَّنْ تَحَقَّقَتْ نَجَاتُهُ وَعُرِفَ مَقَامُهُ مِنَ الْجَنَّةِ يَشْفَعُ فِي غَيْرِهِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ، وَسَأَذْكُرُ بَعْدَ قَلِيلٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مُحْصَنٍ أَنَّ السَّبْعِينَ أَلْفًا مِمَّنْ يُحْشَرُ مِنْ مَقْبَرَةِ الْبَقِيعِ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ خُصُوصِيَّةٌ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: وَلَا يَتَطَيَّرُونَ تَقَدَّمَ بَيَانُ الطِّيرَةِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَتَشَاءَمُونَ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
قَوْلُهُ: وَعَلَى رَبِّهمْ يَتَوَكَّلُونَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْكِ الِاسْتِرْقَاءِ وَالِاكْتِوَاءِ وَالطِّيَرَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ صِفَةً وَاحِدَةً مِنْهَا صِفَةٌ خَاصَّةٌ مِنَ التَّوَكُّلِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي التَّوَكُّلِ فِي بَابُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قَرِيبًا وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ: لَا يَسْتَحِقُّ اسْمُ التَّوَكُّلِ إِلَّا مَنْ لَمْ يُخَالِطْ قَلْبَهُ خَوْفُ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - حَتَّى لَوْ هَجَمَ عَلَيْهِ الْأَسَدُ لَا يَنْزَعِجُ، وَحَتَّى لَا يَسْعَى فِي طَلَبِ الرِّزْقِ لِكَوْنِ اللَّهِ ضَمِنَهُ لَهُ وَأَبَى هَذَا الْجُمْهُورُ وَقَالُوا: يَحْصُلُ التَّوَكُّلُ بِأَنْ يَثِقَ بِوَعْدِ اللَّهِ وَيُوقِنَ بِأَنَّ قَضَاءَهُ وَاقِعٌ، وَلَا يَتْرُكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِي ابْتِغَاءِ الرِّزْقِ مِمَّا لَا بُدَّ
لَهُ مِنْهُ مِنْ مَطْعَمٍ وَمُشْرَبٍ وَتَحَرُّزٍ مِنْ عَدُوٍّ بِإِعْدَادِ السِّلَاحِ وَإِغْلَاقِ الْبَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَطْمَئِنُّ إِلَى الْأَسْبَابِ بِقَلْبِهِ، بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَا تَجْلِبُ بِذَاتِهَا نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ ضُرًّا، بَلِ السَّبَبُ وَالْمُسَبَّبُ فِعْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْكُلُّ بِمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا وَقَعَ مِنَ الْمَرْءِ رُكُونٌ إِلَى السَّبَبِ قَدَحَ فِي تَوَكُّلِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ وَاصِلٌ وَسَالِكٌ، فَالْأَوَّلُ صِفَةُ الْوَاصِلِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْأَسْبَابِ وَلَوْ تَعَاطَاهَا، وَأَمَّا السَّالِكُ فَيَقَعُ لَهُ الِالْتِفَاتُ إِلَى السَّبَبِ أَحْيَانًا إِلَّا أَنَّهُ يَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِالطُّرُقِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأَذْوَاقِ الْحَالِيَّةِ إِلَى أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَى مَقَامِ الْوَاصِلِ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ
الْقُشَيْرِيُّ: التَّوَكُّلُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَأَمَّا الْحَرَكَةُ الظَّاهِرَةُ فَلَا تُنَافِيهِ إِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، فَإِنْ تَيَسَّرَ شَيْءٌ فَبِتَيْسِيرِهِ، وَإِنْ تَعَسَّرَ فَبِتَقْدِيرِهِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاكْتِسَابِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: أَفْضَلُ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَانَ دَاوُدُ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: كَيْفَ تَطْلُبُ مَا لَا تَعْرِفُ مَكَانَهُ؟ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ السَّبَبَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِيمَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَتِهِ، فَيَشُقُّ الْأَرْضَ مَثَلًا، وَيُلْقِي الْحَبَّ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي إِنْبَاتِهِ، وَإِنْزَالِ الْغَيْثِ لَهُ، وَيُحَصِّلُ السِّلْعَةَ مَثَلًا وَيَنْقُلُهَا، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي إِلْقَاءِ الرَّغْبَةِ فِي قَلْبِ مَنْ يَطْلُبُهَا مِنْهُ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ التَّكَسُّبُ وَاجِبًا كَقَادِرٍ عَلَى الْكَسْبِ يَحْتَاجُ عِيَالُهُ لِلنَّفَقَةِ، فَمَتَى تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ عَاصِيًا.
وَسَلَكَ الْكَرْمَانِيُّ فِي الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ فَقَالَ: قَوْلُهُ: لَا يَكْتَوُونَ مَعْنَاهُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ الْكَيِّ، وَقَوْلُهُ: وَيَسْتَرْقُونَ مَعْنَاهُ بِالرُّقَى الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَرُقَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شِرْكٌ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يَتَطَيَّرُونَ أَيْ لَا يَتَشَاءَمُونَ بِشَيْءٍ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ أَعْمَالَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي عَقَائِدِهِمْ.
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَذَا أَكْثَرُ مِنَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، فَمَا وَجْهُ الْحَصْرِ فِيهِ؟ وَأَجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرَ لَا خُصُوصَ الْعَدَدِ قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَمَضَى فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ، وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مِنْهَا رِوَايَةُ أَبِي يُونُسَ، وَهَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ، وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا، لَا يُحَاسَبُونَ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أَنَّ مَعَ السَّبْعِينَ أَلْفًا زِيَادَةً عَلَيْهِمْ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي فَوَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَ سِيَاقِ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَزَادَ فَاسْتَزَدْتُ ربي فَزَادَنِي مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَعَنْ ثَوْبَانَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ، فَهَذِهِ طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَجَاءَ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أكثر مِنْ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ: وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعِينَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَلَا عَذَابَ، وَثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي.
وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا وَالطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ نَحْوُهُ بِلَفْظِ ثُمَّ يَشْفَعُ كُلُّ أَلْفٍ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يُحْثِي رَبِّي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ بِكَفَّيْهِ وَفِيهِ:
فَكَبَّرَ عُمَرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ السَّبْعِينَ أَلْفًا يُشَفِّعُهُمُ اللَّهُ فِي آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَدْنَى أُمَّتِي الْحَثَيَاتِ وَأَخْرَجَهُ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً قُلْتُ: عِلَّتُهُ الِاخْتِلَافُ فِي سَنَدِهِ، فَإِنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَامٍ، حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُتْبَةَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَامٍ أَيْضًا فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَنَّ قَيْسَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْأَنْمَارِيَّ حَدَّثَهُ فَذَكَرَهُ وَزَادَ: قَالَ قَيْسٌ: فَقُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: وَذَلِكَ يَسْتَوْعِبُ مُهَاجِرِي أُمَّتِي، وَيُوَفِّي اللَّهُ بَقِيَّتَهُمْ مِنْ أَعْرَابِنَا.
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَحَسَبْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَلَغَ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ وَتِسْعَمِائَةِ أَلْفٍ يَعْنِي مَنْ عَدَا الْحَثَيَاتِ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ نَحْوَ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ، وَزَادَ: وَالْخَبِيئَةُ - بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ وَهَمْزَةٍ وَزْنَ عَظِيمَةٍ - عِنْدَ رَبِّي، وَوَرَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَا يَزِيدُ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِي حَسَبَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْأَنْمَارِيُّ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَحْوُهُ بِلَفْظِ: أَعْطَانِي مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا سَبْعِينَ أَلْفًا، وَفِي سَنَدِهِ رَاوِيَانِ أَحَدُهُمَا ضَعِيفُ الْحِفْظِ وَالْآخَرُ لَمْ يُسَمَّ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مِثْلُهُ وَفِيهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِي سَنَدِهِ، وَفِي سِيَاقِ مَتْنِهِ، وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ نَحْوُهُ، وَعِنْدَ الْكَلَابَاذِيِّ فِي مَعَانِي الْأَخْبَارِ بِسَنَدٍ وَاهٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَاتَّبَعْتُهُ، فَإِذَا هُوَ فِي مَشْرُبَةٍ يُصَلِّي، فَرَأَيْتُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَةَ أَنْوَارٍ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: رَأَيْتِ الْأَنْوَارَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: إِنَّ آتِيًا أَتَانِي مِنْ رَبِّي فَبَشَّرَنِي أَنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، ثُمَّ أَتَانِي فَبَشَّرَنِي أَنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ مِنْ أُمَّتِي مَكَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، ثُمَّ أَتَانِي فَبَشَّرَنِي أَنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ مِنْ أُمَّتِي مَكَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا الْمُضَاعَفَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، لَا يَبْلُغُ هَذَا أُمَّتِي قَالَ: أُكَمِّلُهُمْ لَكَ مِنَ الْأَعْرَابِ مِمَّنْ لَا يَصُومُ وَلَا يُصَلِّي. قَالَ الْكَلَابَاذِيُّ: الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ أَوَّلًا أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، وَبِقَوْلِهِ آخِرًا أُمَّتِي أُمَّةُ الِاتِّبَاعِ، فَإِنَّ أُمَّتَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَخَصُّ مِنَ الْآخَرِ أُمَّةُ الِاتِّبَاعِ، ثُمَّ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، ثُمَّ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، فَالْأُولَى أَهْلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالثَّانِيَةُ مُطْلَقُ الْمُسْلِمِينَ، وَالثَّالِثَةُ مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ هُوَ مِقْدَارُ الْحَثَيَاتِ، فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: هَكَذَا، وَجَمَعَ كَفَّيْهِ فَقَالَ: زِدْنَا، فَقَالَ: وَهَكَذَا فَقَالَ عُمَرُ: حَسْبُكَ أَنَّ اللَّهَ إِنْ شَاءَ أَدْخَلَ خَلْقَهُ الْجَنَّةَ بِكَفٍّ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ عُمَرُ، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ لَكِنِ اخْتُلِفَ عَلَى قَتَادَةَ فِي سَنَدِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
قَوْلُهُ: فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا، يُقَالُ: عَكِشَ الشَّعْرُ وَيَعْكَشُ إِذَا الْتَوَى حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ مِنْ عَكَشَ الْقَوْمُ إِذَا حَمَلَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ الْعُكَاشَةُ بِالتَّخْفِيفِ الْعَنْكَبُوتُ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِبَيْتِ النَّمْلِ، وَمِحْصَنُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ نُونٌ آخِرُهُ هُوَ ابْنُ حُرْثَانَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَمِنْ حُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ. كَانَ عُكَّاشَةُ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ الرِّجَالِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو مِحْصَنٍ، وَهَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا، وَقَاتَلَ فِيهَا، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَيْرُ فَارِسٍ فِي الْعَرَبِ عُكَّاشَةُ، وَقَالَ أَيْضًا: قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى انْقَطَعَ سَيْفُهُ فِي يَدِهِ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَزْلًا مِنْ حَطَبٍ فَقَالَ: قَاتِلْ بِهَذَا، فَقَاتَلَ بِهِ فَصَارَ فِي يَدِهِ سَيْفًا طَوِيلًا شَدِيدَ الْمَتْنِ أَبْيَضَ فَقَاتَلَ بِهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ،
فَكَانَ ذَلِكَ السَّيْفُ عِنْدَهُ حَتَّى اسْتُشْهِدَ فِي قِتَالِ الرِّدَّةِ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ.
قَوْلُهُ: فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مِثْلُهُ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُ - وَسَاقَ مُسْلِمٌ سَنَدَهُ - قَالَ: فَدَعَا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ قَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ سَأَلَ الدُّعَاءَ أَوَّلًا فَدَعَا لَهُ ثُمَّ اسْتَفْهَمَ قِيلَ: أُجِبْتَ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ وَقَعَ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ هَلْ قَالَ: ادْعُ لِي أَوْ قَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا كَمَا وَقَعَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي بَعْدَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَجَاءَ مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ أَنَّهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حُذَيْفَةَ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ الْبُخَارِيِّ أَحَدِ الضُّعَفَاءِ مِنْ طَرِيقَيْنِ لَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ غَزَاةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَسَاقَ قِصَّةً طَوِيلَةً، وَفِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ; ثَمَانُونَ صَفًّا مِنْهَا أُمَّتِي، وَأَرْبَعُونَ صَفًّا سَائِرُ الْأُمَمِ، وَلِي مَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يدْخَلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، قِيلَ: مَنْ هُمْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عُكَّاشَةَ مِنْهُمْ، قال: فَاسْتُشْهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ قَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ الْحَدِيثَ، وَهَذَا مَعَ ضَعْفِهِ وَإِرْسَالِهِ يُسْتَبْعَدُ مِنْ جِهَةِ جَلَالَةِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّهُ آخَرُ بِاسْمِ سَيِّدِ الْخَزْرَجِ، وَاسْمِ أَبِيهِ، وَنِسْبَتِهِ، فَإِنَّ فِي الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ آخَرَ لَهُ فِي مُسْنَدِ بِقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ حَدِيثٌ وَفِي الصَّحَابَةِ سَعْدُ بْنُ عِمَارَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَلَعَلَّ اسْمَ أَبِيهِ تَحَرَّفَ.
قَوْلُهُ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ اتَّفَقَ جُمْهُورُ الرُّوَاةِ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَزَّارِ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، فَزَادَ: فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ، وَصَاحِبُهُ أَمَا لَوْ قُلْتُمْ لَقُلْتُ، وَلَوْ قُلْتُ لَوَجَبَتْ، وَفِي سَنَدِهِ عَطِيَّةُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَجْوِبَةُ الْعُلَمَاءِ فِي الْحِكْمَةِ في قَوْلُهُ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ فَأَخْرَجَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى الْمَعْرُوفَ بِثَعْلَبٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ مُنَافِقًا، وَكَذَا نَقَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ الْقَاضِي أَبِي الْعَبَّاسِ الْبِرْتِيِّ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ فَقَالَ: كَانَ الثَّانِي مُنَافِقًا، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يُسْأَلُ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَعْطَاهُ فَأَجَابَهُ بِذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَحْوَ قَوْلِ ثَعْلَبٍ، وَق الَ ابْنُ نَاصِرٍ: قَوْلُ ثَعْلَبٍ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ؛ لِأَنَّ سَنَدَهَا وَاهٍ، وَاسْتَبْعَدَ السُّهَيْلِيُّ قَوْلَ ثَعْلَبٍ بِمَا وَقَعَ فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ خِيَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِرِوَايَةِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ: سَبَقَكَ أَيْ إِلَى إِحْرَازِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهِيَ التَّوَكُّلُ وَعَدَمُ التَّطَيُّرِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: لَسْتَ مِنْهُمْ، أَوْ لَسْتَ عَلَى أَخْلَاقِهِمْ تَلَطُّفًا بِأَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم وَحُسْنَ أَدَبِهِ مَعَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْأَوَّلَ سَأَلَ عَنْ صِدْقِ قَلْبٍ فَأُجِيبَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ حَسْمُ الْمَادَّةِ، فَلَوْ قَالَ لِلثَّانِي: نَعَمْ لَأَوْشَكَ أَنْ يَقُومَ ثَالِثٌ وَرَابِعٌ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الثَّانِي مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ مَا كَانَ عِنْدَ عُكَّاشَةَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُجَبْ إِذْ لَوْ أَجَابَهُ لَجَازَ أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ حَاضِرًا، فَيَتَسَلْسَلُ فَسَدَّ الْبَابَ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: كَانَ مُنَافِقًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّحَابَةِ عَدَمُ النِّفَاقِ، فَلَا يَثْبُتُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَقْلٍ صَحِيحٍ، وَالثَّانِي أَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَصْدُرَ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ، وَيَقِينٍ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ وكَيْفَ يصَدر ذَلِكَ مِنْ مُنَافِقٍ؟ وَإِلَى هَذَا جَنَحَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِالْوَحْيِ أَنَّهُ يُجَابُ فِي عُكَّاشَةَ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: الَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا أَنَّهَا
كَانَتْ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، عَلِمَهَا صلى الله عليه وسلم وَاتَّفَقَ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ بَعْدَ مَا انْقَضَتْ، وَيُبَيِّنُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ثُمَّ جَلَسُوا سَاعَةً يَتَحَدَّثُونَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ بَعْدَ قَوْلِهِ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ وَبَرَدَتِ الدَّعْوَةُ أَيِ انْقَضَى وَقْتُهَا. قُلْتُ: فَتَحَصَّلَ لَنَا مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ عَلَى خَمْسَةِ أَجْوِبَةٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. ثُمَّ وَجَدْتُ لِقَوْلِ ثَعْلَبٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مُسْتَنَدًا وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَنْجَرٍ فِي مُسْنَدِهِ وَعُمَرُ بْنُ شَيْبَةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ مَوْلَى حَمْنَةَ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ، وَهِيَ أُخْتُ عُكَّاشَةَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْبَقِيعِ فَقَالَ: يُحْشَرُ مِنْ هَذِهِ الْمَقْبَرَةِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا؟ قَالَ: وَأَنْتَ. فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَنَا؟ قَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ قَالَ: قُلْتُ لَهَا: لِمَ لَمْ يَقُلْ لِلْآخَرِ؟ فَقَالَتْ: أَرَاهُ كَانَ مُنَافِقًا فَإِنْ كَانَ هَذَا أَصْل مَا جَزَمَ بِهِ مَنْ قَالَ: كَانَ مُنَافِقًا فَلَا يَدْفَع تَأْوِيل غَيْره إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الظَّنُّ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، لَكِنَّ مُعَاذَ بْنَ أَسَدٍ شَيْخَ الْبُخَارِيِّ فِيهِ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، لَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ بِضَمِّ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمِيمِ هِيَ الْجَمَاعَةُ إِذا كَانَ بَعْضُهُمْ إِثْرَ بَعْضٍ.
قَوْلُهُ: سَبْعُونَ أَلْفًا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَعُرِفَ مِنْ مَجْمُوعِ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ هَؤُلَاءِ السَّبْعُونَ الَّذِينَ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَعْنَى الْمَعِيَّةِ فِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَاضِيَةِ: مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَدْخُلُوا بِدُخُولِهِمْ تَبَعًا لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُ أَعْمَالِهِمْ كَمَا مَضَى حَدِيثُ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَعِيَّةِ مُجَرَّدُ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنْ دَخَلُوهَا فِي الزُّمْرَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ مَا بَعْدَهَا وَهَذِهِ أَوْلَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَذَاكَ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَذَاكَ الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَمَنْ أَوْبَقَ نَفْسَهُ فَهُوَ الَّذِي يُشْفَعُ فِيهِ بَعْدَ أَنْ يُعَذَّبَ وَفِي التَّقْييدِ بِقَوْلِهِ: أُمَّتِي إِخْرَاجُ غَيْرِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ دُخُولِ أَحَدٍ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ - مِنْ شِبْهِ الْقَمَرِ، وَمِنَ الْأَوَّلِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - كَالْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالصَّالِحِينَ، وَإِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ أُمِّ قَيْسٍ فَفِيهِ تَخْصِيصٌ آخَرُ بِمَنْ يُدْفَنُ فِي الْبَقِيعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهِيَ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِالصُّورَةِ الصِّفَةُ يَعْنِي أَنَّهُمْ فِي إِشْرَاقِ وُجُوهِهِمْ عَلَى صِفَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ تَمَامِهِ، وَهِيَ لَيْلَةُ أَرْبَعَةَ عَشْرَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ أَنْوَارَ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ قُلْتُ: وَكَذَا صِفَاتُهُمْ فِي الْجَمَالِ وَنَحْوِهِ.
قَوْلُهُ: يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ هِيَ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ كَالشَّمْلَةِ مُخَطَّطَةٌ بِسَوَادٍ وَبَيَاضٍ يَلْبَسُهَا الْأَعْرَابُ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: أَبُو غَسَّانَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثَقِيلَةٍ، أَبُو حَازِمٍ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ سَبْعمِائَةِ أَلْفٍ شَكَّ فِي أَحَدِهِمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ لَا يَدْرِي أَبُو حَازِمٍ أَيَّهُمَا قَالَ.
قَوْلُهُ: مُتَمَاسِكِينَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مُتَمَاسِكُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: كَذَا فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالنَّصْبِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: آخِذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
قَوْلُهُ: حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ هُوَ غَايَةٌ لِلتَّمَاسُكِ الْمَذْكُورِ، وَالْأَخْذِ بِالْأَيْدِي،
وَفِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَاضِيَةِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: لَا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ يَسْتَلْزِمُ الدَّوْرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ صَفًّا وَاحِدًا، فَيَدْخُلُ الْجَمِيعُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَوَصَفَهُمْ بِالْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ الَّتِي جَازُوا فِيهَا عَلَى الصِّرَاطِ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى سَعَةِ الْبَابِ الَّذِي يَدْخُلُونَ مِنْهُ الْجَنَّةَ قَالَ عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَوْنِهِمْ مُتَمَاسِكِينَ أَنَّهُمْ عَلَى صِفَةِ الْوَقَارِ، فَلَا يُسَابِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، بَلْ يَكُونُ دُخُولُهُمْ جَمِيعًا وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مُعْتَرِضِينَ صَفًّا وَاحِدًا، بَعْضُهُمْ بِجَنْبِ بَعْضٍ.
(تَنْبِيهٌ): هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَخُصُّ عُمُومَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رَفَعَهُ: لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ. وَلَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عُمُومُ الْحَدِيثِ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَبِمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} الْآيَةَ.
قُلْتُ: وَفِي سِيَاقِ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْخُصُوصِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كل أَحَد عِنْدَهُ عِلْمٌ يُسْأَلُ عَنْهُ، وَكَذَا الْمَالُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَهُ عِلْمٌ، وَبِمَنْ لَهُ مَالٌ دُونَ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَمَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الْجَسَدِ وَالْعُمُرِ فَعَامٌّ، وَيَخُصُّ مِنَ الْمَسْئُولِينَ مَنْ ذُكِرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الرابعُ:
قَوْلُهُ: يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَيِ ابْنُ سَعْدٍ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.
قَوْلُهُ: يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ: إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، أُتِيَ بِالْمَوْتِ. وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ: فَإِذَا أَدْخَلَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ أَتَى بِالْمَوْتِ مُلَبَّبًا، وَهُوَ بِمُوَحَّدَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ قبل هَذَا قِصَّةُ ذَبْحِ الْمَوْتِ وَلَفْظُهُ: ثُمَّ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ، لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْمُنَادِي.
قَوْلُهُ: يَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، خُلُودٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَا مَوْتَ فَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ فِيهِمَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: خُلُودٌ فَهَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلَيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَعْقُوبَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بِتَقْدِيمِ نِدَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ: لَا مَوْتَ فِيهِمَا، بَلْ قَالَ: كُلٌّ خَالِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ يَعْقُوبَ، وَضَبْطُ خُلُودٌ فِي الْبُخَارِيِّ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، أَيْ هَذَا الْحَالُ مُسْتَمِرٌّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ خَالِدٍ أَيْ أَنْتُمْ خَالِدُونَ فِي الْجَنَّةِ.
الْحَدِيثُ الخامسُ:
حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَوْلُهُ يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، سَقَطَ لِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ قَوْلُهُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَثَبَتَ لِلْجَمِيعِ فِي مُقَابِلِهِ: يَا أَهْلَ النَّارِ.
قَوْلُهُ: لَا مَوْتَ زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: لَا مَوْتَ فِيهِ، وَسَيَأْتِي فِي ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّ ذَلِكَ يُقَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ عِنْدَ ذَبْحِ الْمَوْتِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(تَنْبِيهٌ): مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ لِتَرْجَمَةِ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَخْلُدُ فِيهَا، فَيَكُونُ لِلسَّابِقِ إِلَى الدُّخُولِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
51 - بَاب صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ
عَدْنٌ: خُلْدٌ. عَدَنْتُ بِأَرْضٍ: أَقَمْتُ. وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ. {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} فِي مَنْبِتِ صِدْقٍ
6546 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ.
6547 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينَ وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ"
6548 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ"
6549 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا"
[الحديث 6549 - طرفه في: 7518]
6550 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ "وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ لَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ"
6551 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْ الْكَافِرِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ للرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ "
6552 -
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا"
6553 -
قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ "حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا"
6554 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ - أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ لَا يَدْرِي أَبُو حَازِمٍ أَيُّهُمَا قَالَ - مُتَمَاسِكُونَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ.
6555 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ سَهْلٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الْغُرَفَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ"
6556 -
قَالَ أَبِي فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ وَيَزِيدُ فِيهِ كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَارِبَ فِي الأُفُقِ الشَّرْقِيِّ وَالْغَرْبِيِّ"
6557 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تُشْرِكَ بِي"
6558 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو "عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ كَأَنَّهُمْ الثَّعَارِيرُ قُلْتُ مَا الثَّعَارِيرُ قَالَ الضَّغَابِيسُ وَكَانَ قَدْ سَقَطَ فَمُهُ فَقُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَبَا مُحَمَّدٍ سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ مِنْ النَّارِ قَالَ نَعَمْ"
6559 -
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ مِنْهَا سَفْعٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَهَنَّمِيِّينَ"
6560 -
حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيَخْرُجُونَ قَدْ امْتُحِشُوا وَعَادُوا حُمَمًا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا
تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ أَوْ قَالَ حَمِيَّةِ السَّيْلِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّهَا تَنْبُتُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً"
6561 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ "سَمِعْتُ النُّعْمَانَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ"
[الحديث 6561 - طرفه في: 6562]
6562 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ"
6563 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ خَيْثَمَةَ "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"
6564 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ"
6565 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ وَيَقُولُ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا عِيسَى فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ لِي ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ
ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ حَتَّى مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ عِنْدَ هَذَا أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ"
6566 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ "حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ"
6567 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ "عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ غَرْبُ سَهْمٍ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ وَإِلَا سَوْفَ تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ لَهَا "هَبِلْتِ أَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى"
6568 -
"وَقَالَ: "غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ لَاضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَاتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا يَعْنِي الْخِمَارَ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"
6569 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلاَّ أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلاَّ أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً"
6570 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ "لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ"
6571 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَاعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ كَبْوًا فَيَقُولُ اللَّهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا
مَلْأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ تَسْخَرُ مِنِّي أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي وَأَنْتَ الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَكَانَ يَقُولُ ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً"
[الحديث 6571 - طرفه في: 7511]
6572 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ "عَنْ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ"
قَوْلُهُ: بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ تَقَدَّمَ هَذَا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ فِي تَرْجَمَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَأَوْرَدَ فِيهِمَا أَحَادِيثَ فِي تَثْبِيتِ كَوْنِهِمَا مَوْجُودَتَيْنِ، وَأَحَادِيثَ فِي صِفَتِهِمَا أَعَادَ بَعْضَهَا فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا سَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: كَبِدُ الْحُوتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مُطَوَّلًا فِي بَابُ يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مَذْكُورٌ هُنَا بِالْمَعْنَى، وَتَقَدَّمَ بِلَفْظِهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ لَكِنْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي سُؤَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.
قَوْلُهُ: عَدْنٍ: خُلْدٍ؛ عَدَنْتُ بِأَرْضٍ أَقَمْتُ، تَقَدَّمَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ أَيِ الِاسْتِقْرَارُ، وَعَدَنَ بِمَكَانِ كَذَا إِذَا اسْتَقَرَّ بِهِ، وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ لِكَوْنِهِ مُسْتَقِرَّ الْجَوَاهِرِ.
قَوْلُهُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ فِي مَنْبِتِ صِدْقٍ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ فِي مَعْدِنٍ بَدَلَ مَقْعَدٍ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَكَأَنَّ سَبَبَ الْوَهْمِ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مِنْ أَوْصَافِهَا مَقْعَدَ صِدْقٍ كَمَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْقَمَرِ ظَنَّهُ هُنَا كَذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِلَفْظِ: مَعْدِنِ صِدْقٍ وَأَنْشَدَ لِلْأَعْشَى قَوْلَهُ:
فَإِنْ يَسْتَضِيفُوا إِلَى حِلْمِهِ
…
يُضَافُوا إِلَى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ
أَيْ أقَامَ وَاسْتَقَرَّ نَعَمْ قَوْلُهُ: مَقْعَدَ صِدْقٍ مَعْنَاهُ مَكَانَ الْقُعُودِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْمَعْدِنِ، وَلَمَحَ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِأَسْمَاءِ الْجَنَّةِ، وَهِيَ عَشَرَةٌ أَوْ تَزِيدُ؛ الْفِرْدَوْسُ، وَهُوَ أَعْلَاهَا، وَدَارُ السَّلَامِ، وَدَارُ الْخُلْدِ، وَدَارُ الْمُقَامَةِ، وَجَنَّةُ الْمَأْوَى، وَالنَّعِيمُ، وَالْمَقَامُ الْأَمِينُ، وَعَدْنُ، وَمَقْعَدُ صِدْقٍ، وَالْحُسْنَى، وَكُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} فَعَدَّ بَعْضُهُمْ فِي أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ دَارَ الْحَيَوَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَذَكَرَ فِي الْبَابِ مَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ حَدِيثًا.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي رَجَاءٍ هُوَ الْعُطَارِدِيُّ، وَعِمْرَانُ هُوَ ابْنُ حُصَيْنٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِهَذَا السَّنَدِ فِي آخِرِ بَابُ كُفْرَانِ الْعَشِيرِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ النِّكَاحِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابُ فَضْلِ الْفَقْرِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ عَلَى أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ فِي صَحَابِيِّهِ، وَتَقَدَّمَ بَحْثُ ابْنِ بَطَّالٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ فَضْلِ الْفَقْرِ، وَقَوْلُهُ: اطَّلَعْتُ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ أَشْرَفْتُ، وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي بَعْدَهُ: قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَوْ مَنَامًا، وَهُوَ غَيْرُ رُؤْيَتِهِ النَّارَ، وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَوَهِمَ مَنْ وَحَّدَهُمَا وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: رَأَى ذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، أَوْ حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ كَذَا قَالَ.
قَوْلُهُ: فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ: فَإِذَا
عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُطْلَقُ عَلَى الْآخَرِ، وَقَوْلُهُ: فَإِذَا أَكْثَرُ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا.
قَوْلُهُ: (بِكُفْرِهِنَّ) أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِهِنَّ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابُ كُفْرَانِ الْعَشِيرِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا كَانَ النِّسَاءُ أَقَلَّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ؛ لِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْهَوَى وَالْمَيْلِ إِلَى عَاجِلِ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ لِنَقْصِ عَقْلِهِنَّ، وَسُرْعَةِ انْخِدَاعِهِنَّ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
قَوْلُهُ: (إِسْمَاعِيلُ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ، وَأُسَامَةُ هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الصَّحَابِيُّ ابْنُ الصَّحَابِيِّ.
قَوْلُهُ: أَصْحَابُ الْجَدِّ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيِ الْغِنَى.
قَوْلُهُ: مَحْبُوسُونَ أَيْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَ الْفُقَرَاءِ مِنْ أَجْلِ الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الْمَالِ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَنْطَرَةِ الَّتِي يَتَقَاصُّونَ فِيهَا بَعْدَ الْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ.
(تَنْبِيهٌ): سَقَطَ هَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ، وَمَنْ مُسْتَخْرَجَيِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَلَا ذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ طَرِيقَ عُثْمَانَ بْنَ الْهَيْثَمِ، وَلَا طَرِيقَ مُسَدَّدٍ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَهُمَا ثَابِتَانِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ الثَّلَاثَةِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، أَيِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَصَارَ أَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ.
قَوْلُهُ: جِيءَ بِالْمَوْتِ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ مَرْيَمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قَالَ: خَلَقَ الْمَوْتَ فِي صُورَةِ كَبْشٍ لَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا مَاتَ، وَخَلَقَ الْحَيَاةَ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ لَا يَمُرُّ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا حَيِيَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْتِ هَكَذَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ حَصَلَ لَهُمُ الْفِدَاءُ لَهُ كَمَا فُدِيَ وَلَدُ إِبْرَاهِيمَ بِالْكَبْشِ، وَفِي الْأَمْلَحِ إِشَارَةٌ إِلَى صِفَتَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ لِأَنَّ الْأَمْلَحَ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ.
قَوْلُهُ: حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَقَعَ لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَيُوقَفُ عَلَى السُّورِ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يُذْبَحُ لَمْ يُسَمِّ مَنْ ذَبَحَهُ، وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الَّذِي يَذْبَحُهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِشَارَةً إِلَى دَوَامِ الْحَيَاةِ، وَعَنْ بَعْضِ التَّصَانِيفِ أَنَّهُ جِبْرِيلُ. قُلْتُ: هُوَ فِي تَفْسِيرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ الشَّامِيِّ أَحَدُ الضُّعَفَاءِ فِي آخِرِ حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ، فَقَالَ فِيهِ: فَيُحْيِي اللَّهُ - تَعَالَى - مَلَكَ الْمَوْتِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَيَجْعَلُ الْمَوْتَ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيَذْبَحُ جِبْرِيلُ الْكَبْشَ، وَهُوَ الْمَوْتُ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الذَّبْحَ يَقَعُ بَعْدَ النِّدَاءِ، وَالَّذِي هُنَا يَقْتَضِي أَنَّ النِّدَاءَ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ النِّدَاءَ الَّذِي قَبْلَ الذَّبْحِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْكَبْشِ، وَالَّذِي بَعْدَ الذَّبْحِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى إِعْدَامِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ.
قَوْلُهُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ زَادَ فِي الْبَابِ الْمَاضِي خُلُودٌ ووَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ وَعَرَفَهُ وَذَكَرَ فِي أَهْلِ النَّارِ مِثْلُهُ قَالَ: فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ - أَيِ الْمُنَادِي -: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا مَاتَ فَرَحًا لَمَاتَ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا مَاتَ حُزْنًا لَمَاتَ أَهْلُ النَّارِ وَقَوْلُهُ: فَيَشْرَئِبُّونَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَهْمُوزَةٌ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ ثَقِيلَةٌ، أَيْ يَمُدُّونَ أَعْنَاقَهُمْ وَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ لِلنَّظَرِ.
وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَيُوقَفُ عَلَى الصِّرَاطِ فَيُقَالُ:
يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَطَّلِعُونَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ يُقَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَاهُمَا: خُلُودٌ فِيمَا تَجِدُونَ لَا مَوْتَ فِيهِ أَبَدًا، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فَيُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: قَدْ عَرَفْنَاهُ هُوَ الْمَوْتُ الَّذِي وُكِّلَ بِنَا، فَيُضْجَعُ فَيُذْبَحُ ذَبْحًا عَلَى السُّورِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: اسْتُشْكِلَ هَذَا الْحَدِيثُ لِكَوْنِهِ يُخَالِفُ صَرِيحَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ لَا يَنْقَلِبُ جِسْمًا فَكَيْفَ يُذْبَحُ؟ فَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ هَذَا الْحَدِيثِ وَدَفَعَتْهُ وَتَأَوَّلَتْهُ طَائِفَةٌ فَقَالُوا: هَذَا تَمْثِيلٌ وَلَا ذَبْحَ هُنَاكَ حَقِيقَةً وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلِ الذَّبْحُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْمَذْبُوحُ مُتَوَلِّي الْمَوْتِ، وَكُلُّهُمْ يَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي تَوَلَّى قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ.
قُلْتُ: وَارْتَضَى هَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَحَمَلَ قَوْلَهُ: هُوَ الْمَوْتُ الَّذِي وُكِّلَ بِنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَلَكُ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَوِ اسْتَمَرَّ حَيًّا لَنَغَّصَ عَيْشَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا حُزْنَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُمْ يَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ، إِنَّمَا هُوَ تَوَهُّمٌ لَا يَسْتَقِرُّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ زِيَادَةِ الْفَرَحِ ثُبُوتُ الْحُزْنِ، بَلِ التَّعْبِيرُ بِالزِّيَادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفَرَحَ لَمْ يَزُلْ كَمَا أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَزْدَادُ حُزْنُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فَرَحٌ إِلَّا مُجَرَّدَ التَّوَهُّمِ الَّذِي لَمْ يَسْتَقِرَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابُ نَفْخِ الصُّورِ عِنْدَ نَقْلِ الْخِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِالْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ مِنْهُمْ، وَوَقَعَ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: رَبِّ، بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيتُ أَنَا فَيَقُولُ: أَنْتَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِي فَمُتْ، ثُمَّ لَا تَحْيَا، فَيَمُوتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ آخِرَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْخَلَائِقِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَيُقَالُ لَهُ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، مُتْ مَوْتًا لَا تَحْيَا بَعْدَهُ أَبَدًا.
فَهَذَا لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَكَانَ حُجَّةً فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الَّذِي يُذْبَحُ لِكَوْنِهِ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْتًا لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْمَوْتُ عِنْدَنَا عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَيْسَ بِمَعْنًى، وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَبْشًا وَلَا جِسْمًا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ - تَعَالَى - هَذَا الْجِسْمَ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُجْعَلُ مِثَالًا؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَطْرَأُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: الْمَوْتُ مَعْنًى، وَالْمَعَانِي لَا تَنْقَلِبُ جَوْهَرًا، وَإِنَّمَا يَخْلُقُ اللَّهُ أَشْخَاصًا مِنْ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ، وَكَذَا الْمَوْتُ يَخْلُقُ اللَّهُ كَبْشًا يُسَمِّيهِ الْمَوْتُ، وَيُلْقِي فِي قُلُوبِ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ هَذَا الْمَوْتَ يَكُونُ ذَبْحُهُ دَلِيلًا عَلَى الْخُلُودِ فِي الدَّارَيْنِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا مَانِعَ أَنْ يُنْشِئَ اللَّهُ مِنَ الْأَعْرَاضِ أَجْسَادًا يَجْعَلُهَا مَادَّةً لَهَا كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ: إِنَّ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ يَجِيئَانِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ خُلُودَ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا لَا إِلَى غَايَةِ أَمَدٍ وَإِقَامَتَهُمْ فِيهَا عَلَى الدَّوَامِ بِلَا مَوْتٍ وَلَا حَيَاةٍ نَافِعَةٍ وَلَا رَاحَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} قَالَ: فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَأَنَّهَا تَبْقَى خَالِيَةً أَوْ أَنَّهَا تَفْنَى وَتَزُولُ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ قُلْتُ: جَمَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَبْعَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا هَذَا الَّذِي نُقِلَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ، وَالثَّانِي يُعَذَّبُونَ فِيهَا إِلَى أَنْ تَنْقَلِبَ طَبِيعَتُهُمْ فَتَصِيرُ نَارِيَّةً حَتَّى يَتَلَذَّذُوا بِهَا لِمُوَافَقَةِ طَبْعِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى التَّصَوُّفِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، وَالثَّالِثُ يَدْخُلُهَا قَوْمٌ وَيَخْلُفُهُمْ
آخَرُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ الْيَهُودِ، وَقَدْ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} وَالرَّابِعُ يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَتَسْتَمِرُّ هِيَ عَلَى حَالِهَا، الْخَامِسُ تَفْنَى لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ، وَكُلُّ حَادِثٍ يَفْنَى، وَهُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ، وَالسَّادِسُ تَفْنَى حَرَكَاتُهُمْ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالسَّابِعُ يَزُولُ عَذَابُهَا، وَيَخْرُجُ أَهْلُهَا مِنْهَا جَاءَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ، عَنْ عُمَرَ قَوْلُهُ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَلَفْظُهُ: لَوْ لَبِثَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ لَكَانَ لَهُمْ يَوْمٌ يَخْرُجُونَ فِيهِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيَأْتِيَنَّ
عَلَيْهَا زَمَانٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ رَاوِيهِ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ يَعْنِي بِهِ الْمُوَحِّدِينَ. قُلْتُ: وَهَذَا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ لَوْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى الْمُوَحِّدِينَ، وَقَدْ مَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ السَّابِعِ وَنَصَرَهُ بِعِدَّةِ أَوْجُهٍ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ رَدِيءٌ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلهِ، وَقَدْ أَطْنَبَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ فِي بَيَانِ وَهَائِهِ، فَأَجَادَ.
الْحَدِيثُ الرابعُ:
قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ بِالْعَنْعَنَةِ.
قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي رِوَايَةِ الْحَبِيبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ عَند الْإِسْمَاعِيلِيِّ: يَطَّلِعُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ.
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُونَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي يَقُولُونَ بِحَذْفِ الْفَاءِ.
قَوْلُهُ: وَسَعْدَيْكَ زَادَ سَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْغَرَائِبِ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ، فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: وَهَلْ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِمَّا أَعْطَيْتَنَا.
قَوْلُهُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ: أَلَا أُعْطِيكُمْ.
قَوْلُهُ: (أُحِلُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ أُنْزِلُ.
قَوْلُهُ: رِضْوَانِي بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: رِضْوَانِي أَكْبَرُ وَفِيهِ تَلْمِيحٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} لِأَنَّ رِضَاهُ سَبَبُ كُلِّ فَوْزٍ وَسَعَادَةٍ، وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ سَيِّدَهُ رَاضٍ عَنْهُ كَانَ أَقَرَّ لَعَيْنِهِ، وَأَطْيَبَ لِقَلْبِهِ، مِنْ كُلِّ نَعِيمٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّعِيمَ الَّذِي حَصَلَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.
تَنْبِيهَانِ:
(الْأَوَّل): حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا كَأَنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمَاضِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَالْآتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ كِلَاهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهَذَا السَّنَدِ فِي صِفَةِ الْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَفِيهِ قِصَّةُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، وَفِي آخِرِهِ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ نَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ، لَكِنْ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَهُوَ لِلسَّابِقَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
(الثَّانِي): هَذَا الْخِطَابُ غَيْرُ الْخِطَابِ الَّذِي لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلِّهِمْ، وَهُوَ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ صُهَيْبٍ رَفَعَهُ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ مَوْعِدًا عِنْدَ اللَّهِ يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَفِيهِ: فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى مِنْ قَوْلِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا بِاخْتِصَارٍ.
الْحَدِيثُ الخامسُ:
قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو هُوَ الْأَزْدِيُّ يُعْرَفُ بِابْنِ الْكَرْمَانِيِّ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَبِوَاسِطَةٍ كَالَّذِي هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابُ فَضْلِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: أُصِيبَ حَارِثَةُ بِمُهْمَلَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ هُوَ ابْنُ سُرَاقَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيُّ لَهُ وَلِأَبَوَيْهِ صُحْبَةٌ، وَأُمُّهُ هِيَ الرُّبَيِّعُ بِالتَّشْدِيدِ بِنْتُ النَّضْرِ عَمَّةُ أَنَسٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الِاخْتِلَافَ فِي اسْمِهَا فِي بَابُ مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ، وَذَكَرْتُ شَرْحَ
الْحَدِيثِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَوْلُهُا هُنَا: وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى تَرَ مَا أَصْنَعُ كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْجَزْمِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَلِغَيْرِهِ تَرَى بِالْإِشْبَاعِ أَوْ بِحَذْفِ شَيْءٍ تقديره سَوْفَ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ وَإِلَّا سَوْفَ تَرَى وَالْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ صَنَعْتُ شَيْئًا مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْحُزْنِ مَشْهُورًا يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ.
قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَحَذَفَ الْكُشْمِيهَنِيُّ فِي رِوَايَتِهِ اللَّامَ وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: الْفِرْدَوْسُ مِنَ الْأَوْدِيَةِ مَا يُنْبِتُ ضُرُوبًا مِنَ النَّبَاتِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَغَيْرُهُ بُسْتَانٌ فِيهِ كُرُومٌ وَثَمَرَةٌ وَغَيْرُهَا وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَرْدَسَةِ، وَهِيَ السَّعَةُ وَقِيلَ: رُومِيٌّ نَقَلَتْهُ الْعَرَبُ وَقَالَ غَيْرُهُ: سُرْيَانِيٌّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَكَانٌ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ أَفْضَلِهَا.
الْحَدِيثُ السادسُ:
قَوْلُهُ: (الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى هُوَ السِّينَانِيُّ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَنُونَيْنِ الْمَرْوَزِيُّ.
قَوْلُهُ: أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ بِالتَّصْغِيرِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَنَسَبَهُ ابْنُ السَّكَنِ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ: الْفُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَنَسَبَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ فَقَالَ: الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، وَرَدَّهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ فَقَالَ: لَا رِوَايَةَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَلَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا أَدْرَكَهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ بِسَنَدِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ رَفَعَهُ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَقَالَةَ أَبِي عَلِيٍّ الْجَيَّانِيِّ.
قَوْلُهُ: مَنْكِبَيِ الْكَافِرِ بِكَسْرِ الْكَافِ تَثْنِيَةُ مَنْكِبٍ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ الْعَضُدِ وَالْكَتِفِ.
قَوْلُهُ: مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ عِيسَى، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى بِسَنَدِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ خَمْسَةُ أَيَّامٍ أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا: يَعْظُمُ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ حَتَّى إِنَّ بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِ أَحَدِهِمْ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَسِيرَةَ سَبْعِينَ خَرِيفًا وَلِابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ضِرْسُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ، يَعْظُمُونَ لِتَمْتَلِئَ مِنْهُمْ، وَلِيَذُوقُوا الْعَذَابَ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِهِ لَكِنْ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَوَّلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَزَادَ وَغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ: غِلَظُ جِلْدِ الْكَافِرِ، وَكَثَافَةُ جِلْدِهِ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، بِذِرَاعِ الْجَبَّارِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: أَرَادَ بِذَلِكَ التَّهْوِيلَ يَعْنِي بِلَفْظِ الْجَبَّارِ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُ جَبَّارًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ إِشَارَةً إِلَى عَزْمِ الذِّرَاعِ، وَجَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ لِمَا أَخْرَجَهُ فِي صَحِيحِهِ بِأَنَّ الْجَبَّارَ مَلِكٌ كَانَ بِالْيَمَنِ، وَفِي مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَكَثَافَةُ جِلْدِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ السَّبْعِينَ تُطْلَقُ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَفَخِذُهُ مِثْلُ وَرِقَانَ، وَمَقْعَدُهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالرَّبَذَةِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ: بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَوَرْقَانُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِالْحِجَازِ، وَالرَّبَذَةُ تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا قَرِيبًا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَكَأَنَّ اخْتِلَافَ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ تَعْذِيبِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: إِنَّمَا عَظُمَ خَلْقُ الْكَافِرِ فِي النَّارِ لِيَعْظُمَ عَذَابُهُ وَيُضَاعَفُ أَلَمُهُ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ: إِنَّ الْمُتَكَبِّرِينَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالُ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ، قَالَ: وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْعَذَابِ كما عُلِمَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ،
وَلِأَنَّ نَعْلَمُ عَلَى الْقَطْعِ أَنَّ عَذَابَ مَنْ قَتَلَ الْأَنْبِيَاءَ وَفَتَكَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ مُسَاوِيًا لِعَذَابِ مَنْ كَفَرَ فَقَطْ، وَأَحْسَنَ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ مَثَلًا.
قُلْتُ: أَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، على أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمُدَّعَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْحَشْرِ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْأُخْرَى فَمَحْمُولَةٌ عَلَى مَا بَعْدَ الِاسْتِقْرَارِ فِي النَّارِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: إِنَّ الْكَافِرَ لَيُسْحَبُ لِسَانُهُ الْفَرْسَخَ وَالْفَرْسَخَيْنِ يَتَوَطَّؤُهُ النَّاسُ، فَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَأَمَّا تَفَاوُتُ الْكُفَّارِ فِي الْعَذَابِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا الْحَدِيثُ فِي أَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا.
قَوْلُهُ: أَنْبَأَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنْبَأَنَا الْمَخْزُومِيُّ قُلْتُ: وَهُوَ الْمُغِيرَةُ الْمَذْكُورُ وَكُنْيَتُهُ أَبُو هِشَامٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، وَقَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ.
قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي حَازِمٍ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ بِخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ فَهُوَ سَلْمَانُ الْأَشْجَعِيُّ وَهُمَا مَدَنِيَّانِ تَابِعِيَّانِ ثِقَتَانِ، لَكِنَّ سَلَمَةَ أَصْغَرُ مِنْ سَلْمَانَ.
قَوْلُهُ: لَا يَقْطَعُهَا أَيْ لَا يَنْتَهِي إِلَى آخِرِ مَا يَمِيلُ مِنْ أَغْصَانِهَا.
قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو حَازِمٍ هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَالنُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ بِتَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ هُوَ الزُّرَقِيُّ وَوَقَعَ مَنْسُوبًا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ أَيْضًا مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ يُكَنَّى أَبَا سَلَمَةَ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الرَّاوِي عَنْهُ.
قَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَعِيدٍ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي.
قَوْلُهُ: (الْجَوَاد) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ هُوَ الْفَرَسُ يُقَالُ: جَادَ الْفَرَسُ إِذَا صَارَ فَائِقًا، وَالْجَمْعُ جِيَادٌ وَأَجْوَادٌ، وَسَيَجِيءُ فِي صِفَةِ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ أَجَاوِيدُ الْخَيْلِ وَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: أَوِ الْمُضَمَّرُ بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ وَقَوْلُهُ: السَّرِيعُ أَيْ فِي جَرْيِهِ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: الْجَوَادُ السَّرِيعُ وَلَمْ يَشُكَّ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: الْجَوَادُ الْمُضَمَّرُ السَّرِيعُ بِحَذْفِ أَوْ، وَالْجَوَادُ فِي رِوَايَتِنَا بِالرَّفْعِ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ صِفَةٌ لِلرَّاكِبِ، وَضُبِطَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَتْنُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ: يَسِيرُ الرَّاكِبُ وَزَادَ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وَالْمُرَادُ بِالظِّلِّ الرَّاحَةُ وَالنَّعِيمُ وَالْجِهَةُ كما يُقَالُ: عِزٌّ ظَلِيلٌ، وَأَنَا فِي ظِلِّكَ أَيْ كَنَفِكَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الظِّلُّ أَعَمُّ مِنَ الْفَيْءِ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ ظِلُّ اللَّيْلِ وَظِلُّ الْجَنَّةِ، وَلِكُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الشَّمْسُ، وَلَا يُقَالُ الْفَيْءُ إِلَّا لِمَا زَالَتْ عَنْهُ الشَّمْسُ قَالَ: وَيُعَبَّرُ بِالظِّلِّ عَنِ الْعِزِّ وَالْمَنَعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَالْحِرَاسَةِ وَيُقَالُ عَنْ غَضَارَةِ الْعَيْشِ ظِلٌّ ظَلِيلٌ.
قُلْتُ: وَقَعَ التَّعْبِيرُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ الْفَيْءِ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَلَفْظُهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّ الْفَيْءِ مِنْهَا مِائَةَ سَنَةٍ، أَوْ يَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا الرَّاكِبُ مِائَةَ سَنَةٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَعْيِينُ الشَّجَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: شَجَرَةُ طُوبَى مِائَةُ سَنَةٍ وَفِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ فِي عِظَمِ أَصْلِ شَجَرَةِ طُوبَى لَوِ ارْتَحَلَتْ جَذَعَةً مَا أَحَاطَتْ بِأَصْلِهَا حَتَّى تَنْكَسِرَ تَرْقُوَتُهَا هَرَمًا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالتَّرْقُوَةُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ
وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ مَضْمُومَةٌ وَوَاوٌ مَفْتُوحَةٌ هِيَ الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ ثُغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ، وَالْجَمْعُ تَرَاقٍ، وَلِكُلِّ شَخْصٍ تَرْقُوَتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ.
الْحَدِيثُ الثامنُ، الْحَدِيثُ التاسعُ:
قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ هُوَ الْقَعْنَبِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ الْمَذْكُورُ قَبْلُ، وَسَهْلٌ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ.
قَوْلُهُ: عَبْدُ الْعَزِيزِ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ. وَقَوْلُهُ: عَنْ أَبِي حَازِمٍ هُوَ أَبُوهُ، وَاسْمُهُ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ الْمَذْكُورُ قَبْلُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (الْغُرَف) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ غُرْفَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِفَتْحِهِ، جَاءَ فِي صِفَتِهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ الْإِشَارَةُ إِلَى مِثْلِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَزَادَ: مِنْ أَصْنَافِ الْجَوْهَرِ كُلِّهِ.
قَوْلُهُ: (الْكَوْكَب) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الدُّرِّيُّ.
قَوْلُهُ: قَالَ أَبِي الْقَائِلُ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ.
قَوْلُهُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ اللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ هُوَ الْخُدْرِيُّ.
قَوْلُهُ: يُحَدِّثُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يُحَدِّثُهُ أَيْ يُحَدِّثُ الْحَدِيثَ، يُقَالُ حَدَّثْتُ كَذَا وَحَدَّثْتُ بِكَذَا.
قَوْلُهُ: (الْغَارِب) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْغَابِرُ بِتَقْدِيمِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الرَّاءِ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِتَحْتَانِيَّةٍ مَهْمُوزَةٍ قَبْلَ الرَّاءِ قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ رُؤْيَةَ الرَّائِي فِي الْجَنَّةِ صَاحِبَ الْغُرْفَةِ بِرُؤْيَةِ الرَّائِي الْكَوْكَبَ الْمُضِيءَ النَّائِيَ فِي جَانِبِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي الِاسْتِضَاءَةِ مَعَ الْبُعْدِ، وَمَنْ رَوَاهُ الْغَائِرُ مِنَ الْغَوْرِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاقَ يَفُوتُ إِلَّا إِنْ قَدَرَ الْمُشْرِفُ عَلَى الْغَوْرِ، وَالْمَعْنَى إِذَا كَانَ طَالِعًا فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَغَائِرًا فِي الْمَغْرِبِ وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بَيَانُ الرِّفْعَةِ وَشِدَّةِ الْبُعْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبَابِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِيهِ شَيْءٌ مُدْرَجٌ بَيَّنْتُهُ هُنَاكَ، وَحَكَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْوَهْمِ، وَأَمَّا ابْنُ حِبَّانَ فَاغْتَرَّ بِثِقَةِ أَيُّوبَ عِنْدَهُ فَأَخْرَجَهُ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ مَعْلُولٌ بِمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَقَدْ قُسِّمُوا فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: إِلَى السَّابِقِينَ، وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُمْ مَنْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ وَمَنْ عَدَاهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَكُلٌّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ خَصَّ الْمُقَرَّبِينَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ.
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ:
حَدِيثُ أَنَسٍ يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ الْحَدِيثُ الْمَاضِي فِي بَابُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا.
الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
قَوْلُهُ: أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، وَحَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَجَابِرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ.
قَوْلُهُ: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ يَخْرُجُ قَوْمٌ وَكَذَا لِلْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَلَفْظُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ قَوْمًا مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرٌ مِثْلَهُ لَكِنْ قَالَ: نَاسٌ مِنَ النَّارِ فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو فِيهِ سَنَدٌ آخَرُ أَخْرَجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرٍو، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا وَزَادَ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ - يَعْنِي لِعَبِيدِ بْنِ عُمَيْرٍ - وَكَانَ الرَّجُلُ يُتَّهَمُ بِرَأْيِ الْخَوَارِجِ، وَيُقَالُ لَهُ هَارُونُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَاصِمٍ، مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُهُ بِهِ؟ فَقَالَ:
إِلَيْكَ عَنِّي لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ الْفَقِيرِ بِفَاءٍ ثُمَّ قَافٍ، وَزْنُ عَظِيمٍ، وَلُقِّبَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْكُو فَقَارَ ظَهْرِهِ، لَا أَنَّهُ ضِدُّ الْغِنَى قَالَ: خَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ، وَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ فَقُلْتُ لَهُ:
مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ بِهِ؟ وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وَ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} قَالَ: أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَسَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا، ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ وَمَدَّ النَّاسِ عَلَيْهِ قَالَ: فَرَجَعْنَا وَقُلْنَا: أَتَرَوْنَ هَذَا الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَوَاللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَوَارِجَ الطَّائِفَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمُبْتَدِعَةُ كَانُوا يُنْكِرُونَ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ يُنْكِرُونَ إِنْكَارَهُمْ، وَيُحَدِّثُونَ بِمَا سَمِعُوا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ: ذَكَرُوا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الشَّفَاعَةَ فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونَنا بِأَحَادِيثَ لَا نَجِدُ لَهَا فِي الْقُرْآنِ أَصْلًا، فَغَضِبَ وَذَكَرَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَدِيثَ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَنْ كَذَّبَ بِالشَّفَاعَةِ فَلَا نَصِيبَ لَهُ فِيهَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَطَبَ عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالدَّجَّالِ، وَيُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ، وَيُكَذِّبُونَ بِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ وَلَا نُكَذِّبُ بِهَا كَمَا يُكَذِّبُ بِهَا أَهْلُ حَرُورَاءَ يَعْنِي الْخَوَارِجُ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ الشَّفَاعَةَ فِي إِخْرَاجِ مَنْ أُدْخِلَ النَّارَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّهَا فِي الْكُفَّارِ، وَجَاءَتِ الْأَحَادِيثُ فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مُتَوَاتِرَةً، وَدَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّفَاعَةُ، وَبَالَغَ الْوَاحِدِيُّ فَنَقَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا جَاءَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَزَيَّفَهُ وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يَقُومُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُرِيحَهُمْ مِنْ كَرْبِ الْمَوْقِفِ، ثُمَّ أَخْرَجَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ في بَعْضِهَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَفِي بَعْضِهَا مُطْلَقُ الشَّفَاعَةِ، فَمِنْهَا حَدِيثُ سَلْمَانَ قَالَ: فَيُشَفِّعُهُ اللَّهُ فِي أُمَّتِهِ فَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ وَمِنْ طَرِيقِ رِشْدِينَ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الشَّفَاعَةُ وَمِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ يَزِيدَ الْأَوْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: سُئِلَ عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هِيَ الشَّفَاعَةُ، وَمِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَفَعَهُ: أَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ فَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ قَتَادَةَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ شَافِعٍ، وَكَانَ أَهْلُ
الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ.
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: إِنِّي لَأَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ إِذَا جِيءَ بِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً وَفِيهِ: ثُمَّ يَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً فَأَلْبَسُهَا فَأَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ مَقَامًا لَا يَقُومُهُ أَحَدٌ يَغْبِطُنِي بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الشَّفَاعَةُ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِثْلُهُ قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَالَ لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَقَامًا مَحْمُودًا} يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى عَرْشِهِ، ثُمَّ أَسْنَدَهُ وَقَالَ: الْأَوَّلُ أَوْلَى عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِمَدْفُوعٍ لَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ كَذَلِكَ إِذَا حُمِلَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَبَالَغَ الْوَاحِدِيُّ
فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَمَّا النَّقَّاشُ فَنَقَلَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ صَاحِبِ السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ مُتَّهَمٌ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الثَّعْلَبِيِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كُرْسِيِّ الرَّبِّ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ.
قُلْتُ: فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ، وَعَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الشَّفَاعَةُ، لَكِنَّ الشَّفَاعَةَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ الْعَامَّةُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي الشَّفَاعَةُ فِي إِخْرَاجِ الْمُذْنِبِينَ مِنَ النَّارِ. وَحَدِيثُ سَلْمَانَ الَّذِي ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَدِيثُ كَعْبٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ كما سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا مَضَى فِي الزَّكَاةِ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْهُ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ، فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ مُرْسَلُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. كَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، وَفِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ ; وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَفْظُهُ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ فَقَالَ: هُوَ الشَّفَاعَةُ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: اخْتُلِفَ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ الشَّفَاعَةُ وَالْإِجْلَاسُ، وَالثَّالِثُ إِعْطَاؤُهُ لِوَاءَ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا لَا يُغَايِرُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَأَثْبَتَ غَيْرُهُ رَابِعًا، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ أَحَدِ صِغَارِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ الْجَبَّارِ وَبَيْنَ جِبْرِيلَ، فَيَغْبِطُهُ بِمَقَامِهِ ذَلِكَ أَهْلُ الْجَمْعِ. قُلْتُ: وَخَامِسًا هُوَ مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ ثَنَاؤُهُ عَلَى رَبِّهِ، وَسَيَأْتِي سِيَاقُهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ السَّابِعَ عَشَرَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُغَايِرُ الْأَوَّلَ أَيْضًا، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ سَادِسًا: وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ قَالَ: يَشْفَعُ نَبِيُّكُمْ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ جِبْرِيلُ ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ مُوسَى أَوْ عِيسَى ثُمَّ نَبِيُّكُمْ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ فِي أَكْثَرَ مِمَّا يَشْفَعُ فِيهِ الْحَدِيثَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُصَرَّحْ بِرَفْعِهِ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ: الْمَشْهُورُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ. قُلْتُ: وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ، فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ مَعَ أَنَّهُ لَا يُغَايِرُ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ فِي الْمُذْنِبِينَ، وَجَوَّزَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ سَابِعًا، وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْمَاضِي ذِكْرُهُ فَقَالَ بَعْدَ أَنَّ أَوْرَدَهُ: هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ غَيْرُ الشَّفَاعَةِ ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأَقُولُ إِلَى الْمُرَاجَعَةِ فِي الشَّفَاعَةِ.
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَّجِهُ، وَيُمْكِنُ رَدُّ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا إِلَى الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ إِعْطَاءَهُ لِوَاءَ الْحَمْدِ وَثَنَاءَهُ عَلَى رَبِّهِ وَكَلَامِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجُلُوسِهِ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَقِيَامِهِ أَقْرَبَ مِنْ جِبْرِيلَ، كُلُّ ذَلِكَ صِفَاتٌ لِلْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَشْفَعُ فِيهِ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ، وَأَمَّا شَفَاعَتُهُ فِي إِخْرَاجِ الْمُذْنِبِينَ مِنَ النَّارِ فَمِنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ، وَاخْتُلِفَ فِي فَاعِلِ الْحَمْدِ مِنْ قَوْلِهِ: مَقَامًا مَحْمُودًا فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْمَوْقِفِ، وَقِيلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ أَنَّهُ هُوَ يَحْمَدُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْمَقَامِ بِتَهَجُّدِهِ فِي اللَّيْلِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَاضِي فِي الزَّكَاةِ بِلَفْظِ: مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ مَقَامًا يَحْمَدُهُ الْقَائِمُ فِيهِ، وَكُلُّ مَنْ عَرَفَهُ وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا يَجْلِبُ الْحَمْدَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ، وَاسْتَحْسَنَ هَذَا أَبُو حَيَّانَ وَأَيَّدَهُ بِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مَقَامًا
مَخْصُوصًا.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: سَلَّمَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وُقُوعَ الشَّفَاعَةِ لَكِنْ خَصَّهَا بِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ الَّذِي تَابَ مِنْهَا، وَبِصَاحِبِ الصَّغِيرَةِ الَّذِي مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ أَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ لَا يُعَذَّبُ، وَأَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، فَيَلْزَمُ قَائِلُهُ أَنْ يُخَالِفَ أَصْلَهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مُغَايَرَةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ لِلْفَرِيقَيْنِ إِنَّمَا حَصَلَ بِالشَّفَاعَةِ لَكِنْ يَحْتَاجُ مَنْ قَصَرَهَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى دَلِيلِ التَّخْصِيصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الدَّعَوَاتِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَدِيثِ: شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي، وَلَمْ يَخُصَّ بِذَلِكَ مَنْ تَابَ وَقَالَ عِيَاضٌ: أَثْبَتَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الشَّفَاعَةَ الْعَامَّةَ فِي الْإِرَاحَةِ مِنْ كَرْبِ الْمَوْقِفِ، وَهِيَ الْخَاصَّةُ بِنَبِيِّنَا، وَالشَّفَاعَةُ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَأَنْكَرَتْ مَا عَدَاهُمَا.
قُلْتُ: وَفِي تَسْلِيمِ الْمُعْتَزِلَةِ الثَّانِيَةُ نَظَرٌ وقَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: الشَّفَاعَةُ خَمْسٌ: فِي الْإِرَاحَةِ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ، وَفِي إِدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَفِي إِدْخَالِ قَوْمٍ حُوسِبُوا فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ أَنْ لَا يُعَذَّبُوا، وَفِي إِخْرَاجِ مَنْ أُدْخِلَ النَّارَ مِنَ الْعُصَاةِ، وَفِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَدَلِيلُ الْأُولَى سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ السَّابِعَ عَشَرَ، وَدَلِيلُ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي جَوَابِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أُمَّتِي أُمَّتِي، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ، كَذَا قِيلَ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ دَلِيلَهُ سُؤَالُهُ صلى الله عليه وسلم الزِّيَادَةَ عَلَى السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَأُجِيبَ وَقَدْ قَدَّمْتُ بَيَانَهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَدَلِيلُ الثَّالِثَةِ قَوْلُهُ: فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَنَبِيُّكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ، وَلَهُ شَوَاهِدُ سَأَذْكُرُهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ السَّابِعَ عَشَرَ، وَدَلِيلُ الرَّابِعَةِ ذَكَرْتُهُ فِيهِ أَيْضًا مَبْسُوطًا، وَدَلِيلُ الْخَامِسَةِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ، وَقَالَ: وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْجَنَّةَ ظَرْفًا لِشَفَاعَتِهِ قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنِّي سَأُبَيِّنُ أَنَّهَا ظَرْفٌ فِي شَفَاعَتِهِ الْأُولَى الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، وَالَّذِي يُطْلَبُ هُنَا أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ عَمَلُهُ دَرَجَةً عَالِيَةً أَنْ يَبْلُغَهَا بِشَفَاعَتِهِ.
وَأَشَارَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ مِنْ خَصَائِصِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مُسْتَنَدَهَا، وَأَشَارَ عِيَاضٌ إِلَى اسْتِدْرَاكِ شَفَاعَةٍ سَادِسَةٍ، وَهِيَ التَّخْفِيفُ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فِي الْعَذَابِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ شَفَاعَةً سَابِعَةً؛ وَهِيَ الشَّفَاعَةُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ لِحَدِيثِ سَعْدٍ رَفَعَهُ: لَا يَثْبُتُ عَلَى لَأْوَائِهَا أَحَدٌ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَفْعَلْ؛ فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، قُلْتُ: وَهَذِهِ غَيْرُ وَارِدَةٍ لِأَنَّ مُتَعَلَّقَهَا لَا يَخْرُجُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخَمْسِ الْأُوَلِ، وَلَوْ عُدَّ مِثْلُ ذَلِكَ لَعُدَّ حَدِيثُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبَّادٍ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَشْفَعُ لَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ أَهْلُ الطَّائِفِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: أَوَّلُ مَنْ أَشْفَعُ لَهُ أَهْلُ بَيْتِي، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، ثُمَّ سَائِرُ الْعَرَبِ، ثُمَّ الْأَعَاجِمُ، وَذَكَرَ الْقَزْوِينِيُّ فِي الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى شَفَاعَتَهُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الصُّلَحَاءِ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ تَقْصِيرِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْتَنَدَهَا، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهَا تَنْدَرِجُ فِي الْخَامِسَةِ، وَزَادَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ فِ دُخُولِ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ قَبْلَ النَّاسِ، وَهَذِهِ أَفْرَدَهَا النَّقَّاشُ بِالذِّكْرِ، وَهِيَ وَارِدَةٌ وَدَلِيلُهَا يَأْتِي فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ، وَزَادَ النَّقَّاشُ أَيْضًا شَفَاعَتَهُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَلَيْسَتْ وَارِدَةً لِأَنَّهَا
تَدْخُلُ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، وَظَهَرَ لِي بِالتَّتَبُّعِ شَفَاعَةً أُخْرَى، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ فِيمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ أَنْ يُدْخَلَ الْجَنَّةَ وَمُسْتَنَدُهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السَّابِقُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْمُقْتَصِدُ يَرْحَمُهُ اللَّهُ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَأَصْحَابُ الْأَعْرَافِ يَدْخُلُونَهَا بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ أَرْجَحَ الْأَقْوَالِ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، وَشَفَاعَةٌ أُخْرَى وَهِيَ شَفَاعَتُهُ
فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَمُسْتَنَدُهَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي شَرْحِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ عَدِّهَا قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ لِأَنَّ النَّفْيَ يَتَعَلَّقُ بِمُبَاشَرَةِ الْإِخْرَاجِ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ قَدْ صَدَرَتْ، وَقَبُولُهَا قَدْ وَقَعَ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَثَرُهَا، فَالْوَارِدُ عَلَى الْخَمْسَةِ أَرْبَعَةٌ، وَمَا عَدَاهَا لَا يُرَدُّ كَمَا تُرَدُّ الشَّفَاعَةُ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ صَاحِبَيِ الْقَبْرَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: كَأَنَّهُمُ الثَّعَارِيرُ بِمُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، وَاحِدُهَا ثُعْرُورٌ كَعُصْفُورٍ.
قَوْلُهُ: قُلْتُ: وَمَا الثَّعَارِيرُ سَقَطَتِ الْوَاوُ لِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ.
قَوْلُهُ: قَالَ: الضَّغَابِيسُ بِمُعْجَمَتَيْنِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، أَمَّا الثَّعَارِيرُ فَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هِيَ قِثَّاءٌ صِغَارٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِثْلُهُ وَزَادَ وَيُقَالُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَدَلَ الْمُثَلَّثَةِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي قَوْلِ الرَّاوِي، وَكَانَ عَمْرُو ذَهَبَ فَمُهُ - أَيْ سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ - فَنَطَقَ بِهَا ثَاءً مُثَلَّثَةً، وَهِيَ شِينٌ مُعْجَمَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ نَبْتٌ فِي أُصُولِ الثُّمَامِ، كَالْقُطْنِ يَنْبُتُ فِي الرَّمَلِ يَنْبَسِطُ عَلَيْهِ وَلَا يَطُولُ، وَوَقَعَ تَشْبِيهُهُمْ بِالطَّرَاثِيثِ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَهِيَ بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُثَلَّثَةِ هِيَ الثُّمَامُ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقِيلَ الثُّعْرُورُ الْأَقِطُ الرَّطْبُ، وَأَغْرَبَ الْقَابِسِيُّ فَقَالَ: هُوَ الصَّدَفُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ فِيهِ الْجَوْهَرُ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ أَلْفَاظَ التَّشْبِيهِ تَخْتَلِفُ، وَالْمَقْصُودُ الْوَصْفُ بِالْبَيَاضِ وَالدِّقَّةِ، وَأَمَّا الضَّغَابِيسُ فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: شَيْءٌ يَنْبُتُ فِي أُصُولِ التَّمَامِ يُشْبِهُ الْهِلْيُونَ، يُسْلَقُ ثُمَّ يُؤْكَلُ بِالزَّيْتِ وَالْخَلِّ، وَقِيلَ: يَنْبُتُ فِي أُصُولِ الشَّجَرِ، وَفِي الأذحر يَخْرُجُ قَدْرَ شِبْرٍ فِي دِقَّةِ الْأَصَابِعِ لَا وَرَقَ لَهُ، وَفِيهِ حُمُوضَةٌ، وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلْحَرْبِيِّ: الضُّغْبُوسُ شَجَرَةٌ عَلَى طُولِ الْإِصْبَعِ، وَشُبِّهَ بِهِ الرَّجُلُ الضَّعِيفُ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: هِيَ طُيُورٌ صِغَارٌ فَوْقَ الذُّبَابِ، وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ فِيمَا قَالَ.
تَنْبِيهٌ: هَذَا التَّشْبِيهُ لِصِفَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَنْبُتُوا، وَأَمَّا فِي أَوَّلِ خُرُوجِهِمْ مِنَ النَّارِ؛ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ كَالْفَحْمِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ، فَيَدْخُلُونَ نَهْرًا فَيَغْتَسِلُونَ فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ الْبِيضُ. وَالْمُرَادُ بَعِيدَانِ السَّمَاسِمِ مَا يَنْبُتُ فِيهِ السِّمْسِمُ، فَإِنَّهُ إِذَا جُمِعَ وَرُمِيَتِ الْعِيدَانُ تَصِيرُ سُودًا دِقَاقًا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّفْظَةَ مُحَرَّفَةٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ السَّاسَمُ بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ خَشَبٌ أَسْوَدُ، وَالثَّابِتُ فِي جَمِيعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِإِثْبَاتِ الْمِيمَيْنِ وَتَوْجِيهُهُ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ: فَقُلْتُ لِعَمْرٍو الْقَائِلُ حَمَّادٌ.
قَوْلُهُ: أَبَا مُحَمَّدٍ بِحَذْفِ أَدَاةِ النِّدَاءِ، وَثَبَتَ بِلَفْظِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَأَرَادَ الِاسْتِثْبَاتَ فِي سَمَاعِهِ لَهُ مِنْ جَابِرٍ وَسَمَاعِ جَابِرٍ لَهُ، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ رِوَايَةُ عَمْرٍو لَهُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا، وَقَدْ حَدَّثَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِالطَّرِيقَيْنِ كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ:
قَوْلُهُ: عَنْ أَنَسٍ سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ نَحْوَ هَذَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي الشَّفَاعَةِ بِلَفْظِ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ وَقَوْلُهُ: سَفْعٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، أَيْ سَوَادٌ فِيهِ زُرْقَةٌ أَوْ صُفْرَةٌ يُقَالُ: سَفَعَتْهُ النَّارُ إِذَا لَفَحَتْهُ فَغَيَّرَتْ لَوْنَ بَشَرَتِهِ، وَقَدْ وَقَعَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ: قَدِ امْتُحِشُوا وَيَأْتِي ضَبْطُهُ، وَفِي حَدِيثِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِنَّهُمْ يَصِيرُونَ فَحْمًا وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ حِمَمًا وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ.
قَوْلُهُ: فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَهَنَّمِيِّينَ، سَيَأْتِي فِي الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِلَفْظِ: يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ، وَثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّوْحِيدِ، وَزَادَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ، فَيُكْتَبُ فِي رِقَابِهِمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ، فَيُسَمَّوْنَ فِيهَا الْجَهَنَّمِيِّينَ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ. وَالنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: هَؤُلَاءِ
عُتَقَاءُ اللَّهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَزَادَ فَيَدْعُونَ اللَّهَ فَيُذْهِبُ عَنْهُمْ هَذَا الِاسْمَ وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْهُ قَالَ لَهُمُ الْجَهَنَّمِيُّونَ فَذَكَرَ لِي أَنَّهُمُ اسْتَعْفَوُا اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ فَأعْفَاهُمْ. وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ تَنْقِيصًا لَهُمْ، بَلْ لِلِاسْتِذْكَارِ لِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيَزْدَادُوا بِذَلِكَ شُكْرًا كَذَا قَالَ، وَسُؤَالُهُمْ إِذْهَابَ ذَلِكَ الِاسْمِ عَنْهُمْ يَخْدِشُ فِي ذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ:
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مُوسَى هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَوُهَيْبٌ هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ يَحْيَى الْمَازِنِيُّ، وَأَبُوهُ يَحْيَى هُوَ ابْنُ عِمَارَةَ بْنِ أَبِي حَسَنٍ الْمَازِنِيُّ.
قَوْلُهُ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ هَكَذَا رَوَى يَحْيَى بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ آخِرَ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَهُ، وَرَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مُطَوَّلًا وَأَوَّلُهُ الرُّؤْيَةُ وَكَشْفُ السَّاقِ وَالْعَرْضُ، وَنَصْبُ الصِّرَاطِ وَالْمُرُورُ عَلَيْهِ، وَسُقُوطُ مَنْ يَسْقُطُ وَشَفَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِخْوَانِهِمْ، وَقَوْلُ اللَّهِ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ صُورَتَهُ، وَفِيهِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ دِينَارٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَفِيهِ قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ صَارُوا حِمَمًا، وَقَدْ سَاقَ الْمُصَنِّفُ أَكْثَرَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَسَأَذْكُرُ فَوَائِدَهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الطَّرِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَتَقَدَّمَتْ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي بَابُ تَفَاضُلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ هُنَاكَ، وَاسْتَدَلَّ الْغَزَالِيُّ بِقَوْلِهِ: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ عَلَى نَجَاةِ مَنْ أَيْقَنَ بِذَلِكَ وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّطْقِ بِهِ الْمَوْتُ، وَقَالَ فِي حَقِّ مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَأَخَّرَ فَمَاتَ يَحْتَمِلُ أَنَّ يكون امْتِنَاعه عَنِ النُّطْقِ بِمَنْزِلَةِ امْتِنَاعِهِ عَنِ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ غَيْرَ مُخَلَّدٍ فِي النَّارِ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَرَجَّحَ غَيْرُهُ الثَّانِيَ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: فِي قَلْبِهِ فَيُقَدَّرُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مُنْضَمًّا إِلَى النُّطْقِ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ:
حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا أَعْلَى مِنَ الْآخَرِ لَكِنْ فِي الْعَالِي عَنْعَنَةُ أَبِي إِسْحَاقَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّبِيعِيِّ، وَفِي النَّازِلِ تَصْرِيحُهُ بِالسَّمَاعِ فَانْجَبَرَ مَا فَاتَهُ مِنَ الْعُلُوِّ الْحِسِّيِّ بِالْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ، وَإِسْرَائِيلُ فِي الطَّرِيقين هُوَ ابْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَذْكُورُ، وَالنُّعْمَانُ هُوَ ابْنُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَوَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ جَمِيعًا عَنْ غُنْدَرٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنِ إسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا) قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ. قُلْتُ: وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْمَبْعَثِ النَّبَوِيِّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ.
قَوْلُهُ: أَخْمَصَ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَصَادٍ مُهْمَلَةٍ وَزْنَ أَحْمَرَ، مَا لَا يَصِلُ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ بَاطِنِ الْقَدَمِ عِنْدَ الْمَشْيِ.
قَوْلُهُ: جَمْرَةً فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ جَمْرَتَانِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ: عَلَى أَخْمَصَ قَدَمِهِ جَمْرَتَانِ قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْجَمْرَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْأُخْرَى لِعِلْمِ السَّامِعِ بِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ قَدَمَيْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَهُ نَحْوَهُ وَقَالَ: يَغْلِي دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلِهِ.
قَوْلُهُ: مِنْهَا دِمَاغُهُ فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ مِنْهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ بِالْقُمْقُمِ زَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ: لَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ عَذَابًا مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا، وَالْمِرْجَلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ
الْجِيمِ بَعْدَهَا لَامٌ قِدْرٌ مِنْ نُحَاسٍ، وَيُقَالُ أَيْضًا: لِكُلِّ إِنَاءٍ يَغْلِي فِيهِ الْمَاءُ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ، وَالْقُمْقُمُ مَعْرُوفٌ مِنْ آنِيَّةِ الْعَطَّارِ، وَيُقَالُ: هُوَ إِنَاءٌ ضَيِّقُ الرَّأْسِ يُسَخَّنُ فِيهِ الْمَاءُ يَكُونُ مِنْ نُحَاسٍ وَغَيْرِهِ فَارِسِيٌّ، وَيُقَالُ: رُومِيٌّ وَهُوَ مُعَرَّبٌ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ فَيُقَالُ: قَمْقَمَةٌ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِي هَذَا التَّرْكِيبِ نَظَرٌ، وَقَالَ عِيَاضٌ: الصَّوَابُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ بِوَاوِ الْعَطْفِ لَا بِالْبَاءِ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ أَوِ الْقُمْقُمُ بِالشَّكِّ وتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا فِي آخِرِ بَابُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ.
الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ:
حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي ذِكْرِ أَبِي طَالِبٍ، تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ السَّنَدَ الْمَذْكُورَ هُنَا، وَاخْتَصَرَ الْمَتْنَ، وَيَزِيدُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ ابْنُ الْهَادِ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ، وَاسْمُ كُلٍّ مِنَ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ، والدَّرَاوَرْدِيِّ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُمَا مَدَنِيَّانِ مَشْهُورَانِ، وَكَذَا سَائِرُ رُوَاةِ هَذَا السَّنَدِ.
قَوْلُهُ: لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي ظَهَرَ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ وُقُوعُ هَذَا التَّرَجِّي، وَاسْتُشْكِلَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خُصَّ، وَلِذَلِكَ عَدُّوهُ فِي خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: مَعْنَى الْمَنْفَعَةِ فِي الْآيَةِ يُخَالِفُ مَعْنَى الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِهَا فِي الْآيَةِ الْإِخْرَاجُ مِنَ النَّارِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَنْفَعَةُ بِالتَّخْفِيفِ، وَبِهَذَا الْجَوَابِ جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ صِحَّةُ الرِّوَايَةِ فِي شَأْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَا مَعْنَى لِلْإِنْكَارِ مِنْ حَيْثُ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ، وَوَجْهُهُ عِنْدِي أَنَّ الشَّفَاعَةَ فِي الْكُفَّارِ إِنَّمَا امْتَنَعَتْ لِوُجُودِ الْخَبَرِ الصَّادِقِ فِي أَنَّهُ لَا يُشَفَّعُ فِيهِمْ أَحَدٌ، وَهُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ كَافِرٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ مَنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ بِتَخْصِيصِهِ، قَالَ: وَحَمَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ عَلَى أَنَّ جَزَاءَ الْكَافِرِ مِنَ الْعَذَابِ يَقَعُ عَلَى كُفْرِهِ وَعَلَى مَعَاصِيهِ، فَيَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ يَضَعُ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ بَعْضَ جَزَاءِ مَعَاصِيهِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ الشَّافِعِ، لَا ثَوَابًا لِلْكَافِرِ؛ لِأَنَّ حَسَنَاتِهِ صَارَتْ بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ هَبَاءً، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنْ أَنَسٍ: وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُعْطَى حَسَنَاتُهُ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الشَّفَاعَةِ، هَلْ هِيَ بِلِسَانٍ قَوْلِيٍّ أَوْ بِلِسَانٍ حَالِيٍّ؟ وَالْأَوَّلُ يُشْكِلُ بِالْآيَةِ وَجَوَابُهُ جَوَازُ التَّخْصِيصِ ; وَالثَّانِي يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا بَالَغَ فِي إِكْرَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالذَّبِّ عَنْهُ جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ، فَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ شَفَاعَةً لِكَوْنِهَا بِسَبَبِهِ قَالَ: وَيُجَابُ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْمُخَفَّفَ عَنْهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ أَثَرَ التَّخْفِيفِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنْ لَيْسَ فِي النَّارِ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ لَا تُطِيقُهُ الْجِبَالُ، فَالْمُعَذَّبُ لِاشْتِغَالِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ انْتِفَاعٌ بِالتَّخْفِيفِ.
قُلْتُ: وَقَدْ يُسَاعِدُ مَا سَبَقَ مَا تَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ: أَرْضَعَتْنِي وَإِيَّاهَا ثُوَيْبَةُ قَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ أَبَا لَهَبٍ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: لَمْ أَرَ بَعْدَكُمْ خَيْرًا، غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ، وَجَوَّزَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْمِيزَانِ، وَرَجَحَتْ كِفَّةُ سَيِّئَاتِهِ بِالْكُفْرِ اضْمَحَلَّتْ حَسَنَاتُهُ، فَدَخَلَ النَّارَ لَكِنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ مِنْهُمْ حَسَنَاتٌ مِنْ عِتْقٍ وَمُوَاسَاةِ مُسْلِمٍ لَيْسَ كَمَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجَازَى بِتَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ بِمِقْدَارِ مَا عَمِلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} قُلْتُ لَكِنْ هَذَا الْبَحْثُ النَّظَرِيُّ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وَحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: مَا أَحْسَنَ مُحْسِنٌ مِنْ
مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ إِلَّا أَثَابَهُ اللَّهُ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا إِثَابَةُ الْكَافِرِ؟ قَالَ: الْمَالُ وَالْوَلَدُ وَالصِّحَّةُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، قُلْنَا: وَمَا إِثَابَتُهُ فِي الْآخِرَةِ؟ قَالَ: عَذَابًا دُونَ الْعَذَابِ، ثُمَّ قَرَأَ {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّخْفِيفُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَذَابِ مَعَاصِيهِ بِخِلَافِ عَذَابِ الْكُفْرِ.
الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ:
حَدِيثُ أَنَسٍ الطَّوِيلُ فِي الشَّفَاعَةِ أَوْرَدَهُ هُنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، وَمَضَى فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، وَمِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ لِلْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِاخْتِصَارٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا مَضَى فِي التَّفْسِيرِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ عَنْهُ.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْهُ، ومِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مُخْتَصَرَةٌ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحُذَيْفَةَ مَعًا، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَمَضَى فِي الزَّكَاةِ فِي تَفْسِيرِ سُبْحَانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِاخْتِصَارٍ، وَعِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ، وَسَأَذْكُرُ مَا عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ فَائِدَةٍ مُسْتَوْعَبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي جَمَعَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَأَوَّلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عِمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زَرْعةَ فِيهِ: وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْ رُءُوسِهِمْ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ حَرُّهَا، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ دُنُوُّهَا، فَيَنْطَلِقُونَ مِنَ الضَّجَرِ وَالْجَزَعِ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ جَرِيرٍ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا، وَأَوَّلُ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ عُرِضَ عَلَيَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُفْظَعُ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَالْعَرَقُ كَادَ يُلَجِّمُهُمْ.
وَفِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرٍ: يَلْبَثُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْحَبْسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابُ {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ أَنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو حَتَّى تَصِيرَ مِنَ النَّاسِ قَدْرَ مِيلٍ، وَسَائِرُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَبَيَانُ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْعَرَقِ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ تُعْطِي الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَرَّ عَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ تَدْنُو مِنْ جَمَاجِمِ النَّاسِ، فَيَعْرَقُونَ حَتَّى يَرْشَحَ الْعَرَقُ فِي الْأَرْضِ قَامَةً، ثُمَّ يَرْتَفِعُ الرَّجُلُ حَتَّى يَقُولَ: عَقَّ عَقَّ، وَفِي رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ لِغَمِّ مَا هُمْ فِيهِ، وَالْخَلْقُ مُلَجَّمُونَ بِالْعَرَقِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ عَلَيْهِ كَالزُّكْمَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَغْشَاهُ الْمَوْتُ وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَفَعَهُ: إِنِّي لَسَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِغَيْرِ فَخْرٍ، وَمَا مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ هُوَ تَحْتَ لِوَائِي يَنْتَظِرُ الْفَرَجَ، وَإِنَّ مَعِي لِوَاءَ الْحَمْدِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، وَسَعِيدٍ، وَهَمَّامٍ: يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُونَ وَتَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالنَّاسِ أَرْجَحُ، لَكِنَّ الَّذِي يَطْلُبُ الشَّفَاعَةَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَيُلْهَمُونَ ذَلِكَ وَفِي لَفْظٍ فَيَهْتَمُّونَ بِذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ حَتَّى يُهْتَمُّوا بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: عَلَى رَبِّنَا فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، وَسَعِيدٍ إِلَى رَبِّنَا وَتَوَجَّهَ بِأَنَّهُ ضَمَّنَ مَعْنَى اسْتَشْفَعْنَا سَعَى؛ لِأَنَّ
الِاسْتِشْفَاعَ طَلَبُ الشَّفَاعَةِ وَهِيَ انْضِمَامُ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا يَرُومُهُ، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَعًا يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تَتَزَلَّفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ آدَمَ وَحَتَّى غَايَةٌ لِقِيَامِهِمُ الْمَذْكُورِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ طَلَبَهَمُ الشَّفَاعَةَ يَقَعُ حِينَ تَنزلفُ لَهُمُ الْجَنَّةُ، وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي مُسْلِمٍ رَفَعَهُ، أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَيَفْزَعُ النَّاسُ ثَلَاثَ فَزَعَاتٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ الْحَدِيثَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ إِذَا جِيءَ بِجَهَنَّمَ فَإِذَا زَفَرَتْ فَزِعَ النَّاسُ حِينَئِذٍ، وَجَثَوَا عَلَى رُكَبِهِمْ.
قَوْلُهُ: حَتَّى يُرِيحَنَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَيُرِيحَنَا وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُلَجِّمُهُ الْعَرَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ: يَا رَبِّ أَرِحْنِي وَلَوْ إِلَى النَّارِ، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ يَطُولُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ، فَلْيَشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا، وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ: فَإِذَا رَأَوْا مَا هُمْ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ائْتُوا أَبَاكُمْ آدَمَ.
قَوْلُهُ: حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا وَفِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ.
قَوْلُهُ: فَيَأْتُونَ آدَمَ فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ فَيَنْطَلِقُونَ حَتَّى يَأْتُوا آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَشَيْبَانَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا.
قَوْلُهُ: خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، وَأَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ.
قَوْلُهُ: فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عِنْدَ رَبِّكَ وَكَذَا لِشَيْبَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ وَزَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَّا تَرَى مَا بَلَغَنَا.
قَوْلُهُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ قَالَ عِيَاضٌ: قَوْلُهُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ مَنْزِلَتَهُ دُونَ الْمَنْزِلَةِ الْمَطْلُوبَةِ، قَالَهُ تَوَاضُعًا وَإِكْبَارًا لِمَا يَسْأَلُونَهُ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَيْسَ لِي، بَلْ لِغَيْرِي، قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الْمَوَاضِعِ وَفِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَاكَ وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْإِشَارَةَ الْمَذْكُورَةَ.
قَوْلُهُ: وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ زَادَ مُسْلِمٌ الَّتِي أَصَابَ، وَالرَّاجِع إلى الْمَوْصُولَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَصَابَهَا، زَادَ هَمَّامٌ فِي رِوَايَتِهِ أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا وَهُوَ بِنَصْبِ أَكْلَهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ خَطِيئَتَهُ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ فَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ فَيَسْتَحْيِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي قَدْ أُخْرِجْتُ بِخَطِيئَتِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: وَإِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَأُهْبِطْتُ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَفِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَعًا: هَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: إِنِّي أَخْطَأْتُ، وَأَنَا فِي الْفِرْدَوْسِ، فَإِنْ يُغْفَرْ لِيَ الْيَوْمَ حَسْبِي وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي.
قَوْلُهُ: ائْتُوا نُوحًا فَيَأْتُونَهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ انْطَلِقُوا إِلَى أَبِيكُمْ بَعْدَ أَبِيكُمْ إِلَى نُوحٍ، ائْتُوا عَبْدًا شَاكِرًا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى نُوحٍ فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكَ وَاسْتَجَابَ لَكَ فِي دُعَائِكَ، وَلَمْ يَدَعْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ آدَمَ
سَبَقَ إِلَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ، فَخَاطَبَهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ بِذَلِكَ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَتْ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةُ بِأَنَّ آدَمَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَكَذَا شِيثُ وَإِدْرِيسُ وَهُمْ قَبْلَ نُوحٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ: أُعْطِيتُ خَمْسًا فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ، وَفِيهِ: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً الْحَدِيثَ، وَمُحَصَّلُ الْأَجْوِبَةِ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِ: أَهْلِ الْأَرْضِ لِأَنَّ آدَمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ لَمْ يُرْسَلُوا إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ وَيُجَابُ بِأَنَّ بَعْثَتَهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ لِصِدْقِ أَنَّهُمْ قَوْمُهُ بِخِلَافِ عُمُومِ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِقَوْمِهِ وَلِغَيْرِ قَوْمِهِ، أَوِ الْأَوَّلِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ بِكَوْنِهِ أَهْلَكَ قَوْمَهُ، أَوْ أَنَّ الثَّلَاثَةَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَكُونُوا رُسُلًا.
وَإِلَى هَذَا جَنَحَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي حَقِّ آدَمَ وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِمَا صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ كَانَ مُرْسَلًا، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِإِنْزَالِ الصُّحُفِ عَلَى شِيثَ، وَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِرْسَالِ، وَأَمَّا إِدْرِيسُ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ إِلْيَاسُ وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنَ الْأَجْوِبَةِ أَنَّ رِسَالَةَ آدَمَ كَانَتْ إِلَى بَنِيهِ وَهُمْ مُوَحِّدُونَ لِيُعْلِمَهُمْ شَرِيعَتَهُ، وَنُوحٌ كَانَتْ رِسَالَتُهُ إِلَى قَوْمٍ كُفَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: وَيَذْكُرُ سُؤَالَ رَبِّهِ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَفِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ سُؤَالَ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ مِثْلُ جَوَابِ آدَمَ، لَكِنْ قَالَ: وَإِنَّهُ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَيَقُولُ: لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنِّي دَعَوْتُ بِدَعْوَةٍ أَغْرَقَتْ أَهْلَ الْأَرْضِ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ اعْتَذَرَ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا نَهْيُ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ شَفَاعَتُهُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنْ ذَلِكَ، ثَانِيهُمَا أَنَّ لَهُ دَعْوَةً وَاحِدَةً مُحَقَّقَةَ الْإِجَابَةِ، وَقَدِ اسْتَوْفَاهَا بِدُعَائِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَخَشِيَ أَنْ يَطْلُبَ فَلَا يُجَابَ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: كَانَ اللَّهُ وَعَدَ نُوحًا أَنْ يُنْجِيَهُ وَأَهْلَهُ، فَلَمَّا غَرِقَ ابْنُهُ ذَكَرَ لِرَبِّهِ مَا وَعَدَهُ فَقِيلَ لَهُ الْمُرَادُ مِنْ أَهْلِكَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، فَخَرَجَ ابْنُكَ مِنْهُمْ فَلَا تَسْأَلْ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.
تَنْبِيهَانِ:
(الْأَوَّل): سَقَطَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُذَيْفَةَ الْمَقْرُونِ بِأَبِي هُرَيْرَةَ ذِكْرُ نُوحٍ فَقَالَ فِي قِصَّةِ آدَمَ: اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ. وَكَذَا سَقَطَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْعُمْدَةُ عَلَى مَنْ حَفِظَ.
(الثَّانِي): ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كَشْفِ عُلُومِ الْآخِرَةِ أَنَّ بَيْنَ إِتْيَانِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ آدَمَ وَإِتْيَانِهِمْ نُوحًا أَلْفُ سَنَةٍ، وَكَذَا بَيْنَ كُلِّ نَبِيٍّ وَنَبِيٍّ إِلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَلَمْ أَقِفْ لِذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ، وَلَقَدْ أَكْثَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ إِيرَادِ أَحَادِيثَ لَا أُصُولَ لَهَا، فَلَا يُغْتَرَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا، وَفِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: فَيَأْتُونَهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ زَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِهِ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ قُمِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، وَذَكَرَ مِثْلَ مَا لِآدَمَ قَوْلًا وَجَوَابًا، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ وَذَكَرَهُنَّ.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ زَادَ مُسْلِمٌ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ: إِنِّي كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ زَادَ شَيْبَانُ فِي رِوَايَتِهِ: قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ وَقَوْلُهُ: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَقَوْلُهُ لِامْرَأَتِهِ: أَخْبِرِيهِ أَنِّي أَخُوكِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَيَقُولُ: إِنِّي كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْهَا كِذْبَةٌ إِلَّا مَا حَلَّ بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَمَا حَلَّ بِمُهْمَلَةٍ بِمَعْنَى جَادَلَ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ الْمَقْرُونَةِ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَاكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، وَضُبِطَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبِضَمِّهَا وَاخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ فِيهِمَا
قَالَ النَّوَوِيُّ: أَشْهَرُهُمَا الْفَتْحُ بِلَا تَنْوِينٍ وَيَجُوزُ بِنَاؤُهَا عَلَى الضَّمِّ، وَصَوَّبَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَالْكِنْدِيُّ، وَصَوَّبَ ابْنُ دِحْيَةَ الْفَتْحَ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ مُرَكَّبَةٌ مِثْلُ شَذَرَ مَذَرَ، وَإِنْ وَرَدَ مَنْصُوبًا مُنَوَّنًا جَازَ وَمَعْنَاهُ لَمْ أَكُنْ فِي التَّقْرِيبِ وَالْإِدْلَالِ بِمَنْزِلَةِ الْحَبِيبِ. قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ كَلِمَةٌ تُقَالُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ، أَيْ لَسْتُ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ.
قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ لِي فِيهِ مَعْنًى مَلِيحٌ وَهُوَ أَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي أَعْطَيْتُهُ كَانَ بِسِفَارَةِ جِبْرِيلَ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَكَرَّرَ وَرَاءَ إِشَارَةً إِلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ الرُّؤْيَةُ وَالسَّمَاعُ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنْ وَرَاءِ مُوسَى الَّذِي هُوَ مِنْ وَرَاءِ مُحَمَّدٍ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْحَقُّ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثَ إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ صُورَتُهَا صُورَةَ الْكَذِبِ أَشْفَقَ مِنْهَا اسْتِصْغَارًا لِنَفْسِهِ عَنِ الشَّفَاعَةِ مَعَ وُقُوعِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ بِاللَّهِ وَأَقْرَبَ إِلَيْهِ مَنْزِلَةً كَانَ أَعْظَمَ خَوْفًا.
قَوْلُهُ: ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى، وَزَادَ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ وَفِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَهُوَ كَلِيمُ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَبْدًا أَعْطَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، زَادَ هَمَّامٌ فِي رِوَايَتِهِ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا وَفِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ الْمَقْرُونَةِ اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى.
قَوْلُهُ: فَيَأْتُونَهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ اشْفَعْ لَنَا فَذَكَرَ مِثْلَ آدَمَ قَوْلًا وَجَوَابًا، لَكِنَّهُ قَالَ: إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، زَادَ مُسْلِمٌ فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ قَتْلَ النَّفْسِ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَإِنْ يُغْفَرْ لِي الْيَوْمَ حَسْبِي وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا وَذَكَرَ مِثْلَ مَا فِي آدَمَ.
قَوْلُهُ: ائْتُوا عِيسَى زَادَ مُسْلِمٌ رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ: فَإِنَّهُ كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى.
قَوْلُهُ: (فَيَأْتُونَهُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ مِثْلَ آدَمَ قَوْلًا وَجَوَابًا لَكِنْ قَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: إِنِّي عُبِدْتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي اتُّخِذْتُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ وَإِنْ يُغْفَرْ لِيَ الْيَوْمَ حَسْبِي.
قَوْلُهُ: ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: عَبْدٌ غُفِرَ لَهُ إِلَخْ زَادَ ثَابِتٌ مِنْ ذَنْبِهِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرٍ انْطَلِقُوا إِلَى مَنْ جَاءَ الْيَوْمَ مَغْفُورًا لَهُ، لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ أَيْضًا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ قَدْ حَضَرَ الْيَوْمَ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ مَتَاعٌ فِي وِعَاءٍ قَدْ خُتِمَ عَلَيْهِ، أَكَانَ يُقْدَرُ عَلَى مَا فِي الْوِعَاءِ حَتَّى يُفَضَّ الْخَاتَمُ، وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى آدَمَ فَيَقُولُ: أَرَأَيْتُمْ إِلَخْ وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَلَكِنِ انْطَلِقُوا إِلَى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ قَالَ عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فَقِيلَ: الْمُتَقَدِّمُ مَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَالْمُتَأَخِّرُ الْعِصْمَةُ، وَقِيلَ: مَا وَقَعَ عَنْ سَهْوٍ أَوْ تَأْوِيلٍ. وَقِيلَ: الْمُتَقَدِّمُ ذَنْبُ آدَمَ، وَالْمُتَأَخِّرُ ذَنْبُ أُمَّتِهِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ لَوْ وَقَعَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَاللَّائِقُ بِهَذَا الْمَقَامِ الْقَوْلُ الرَّابِعُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَا يَتَأَتَّى هُنَا، وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِ عِيسَى فِي حَقِّ نَبِيِّنَا هَذَا، وَمِنْ قَوْلِ مُوسَى
فِيمَا تَقَدَّمَ إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَإِنْ يُغْفَرْ لِيَ الْيَوْمَ حَسْبِي، مَعَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ وَمَنْ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ أَصْلًا، فَإِنَّ مُوسَى عليه السلام مَعَ وُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ لَهُ لَمْ يَرْتَفِعْ إِشْفَاقُهُ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَلِكَ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ تَقْصِيرًا عَنْ مَقَامِ الشَّفَاعَةِ، مَعَ وُجُودِ مَا صَدَرَ مِنْهُ بِخِلَافِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمِنْ ثَمَّ احْتَجَّ عِيسَى بِأَنَّهُ صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُهُ بِذَنْبٍ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ، وَهَذَا مِنَ النَّفَائِسِ الَّتِي فَتَحَ اللَّهُ بِهَا فِي فَتْحِ الْبَارِي، فَلَهُ الْحَمْدُ.
قَوْلُهُ: (فَيَأْتُونِي) فِي رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ أَنْتَظِرُ أُمَّتِي تَعْبُرُ الصِّرَاطَ إِذْ جَاءَ عِيسَى فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَدْ جَاءَتْكَ يَسْأَلُونَ لِتَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُفَرِّقَ جَمْعَ الْأُمَمِ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ، لِغَمِّ مَا هُمْ فِيهِ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَعْيِينَ مَوْقِفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ، وَأَنَّ هَذَا الَّذِي وُصِفَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ كُلِّهِ يَقَعُ عِنْدَ نَصْبِ الصِّرَاطِ بَعْدَ تَسَاقُطِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَأَنَّ عِيسَى عليه السلام هُوَ الَّذِي يُخَاطِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ جَمِيعًا يَسْأَلُونَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَفِيهِ، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ فِيهِ الْخَلْقُ حَتَّى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ: فَيَأْتُونِي فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا، زَادَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ: فَيَأْذَنُ اللَّهُ لِي فَأَقُومُ فَيَثُورُ مِنْ مَجْلِسِي أَطْيَبُ رِيحٍ شَمَّهَا أَحَدٌ، وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ يَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَنْتَ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ بِكَ وَخَتَمَ، وَغَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَجِئْتَ فِي هَذَا الْيَوْمِ آمِنًا، وَتَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَقُمْ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكُمْ، فَيَجُوشُ النَّاسُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرٍ: فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُهَا.
قَوْلُهُ: (فَأَسْتَأْذِنُ) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ
قَوْلُهُ: عَلَى رَبِّي زَادَ هَمَّامٌ فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي قَالَ عِيَاضٌ: أَيْ فِي الشَّفَاعَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ظَاهِرَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ اسْتِئْذَانَهُ الْأَوَّلَ، وَالْإِذْنَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَأُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ، وَمِنْهُ:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّلَامِ هُنَا الِاسْمُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى -، قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي انْتِقَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَانِهِ إِلَى دَارِ السَّلَامِ أَنَّ أَرْضَ الْمَوْقِفِ لَمَّا كَانَتْ مَقَامَ عَرْضٍ وَحِسَابٍ كَانَتْ مَكَانَ مَخَافَةٍ وَإِشْفَاقٍ، وَمَقَامُ الشَّافِعِ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانِ إِكْرَامٍ، وَمِنْ ثَمَّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُتَحَرَّى لِلدُّعَاءِ الْمَكَانُ الشَّرِيفُ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ أَقْرَبُ لِلْإِجَابَةِ قُلْتُ: وَتَقَدَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ سُؤَالِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ اسْتِفْتَاحَ بَابِ الْجَنَّةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فَآخُذُ حَلْقَةَ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ فَيُفْتَحُونَ لِي وَيُرَحِّبُونَ فَأَخُرُّ سَاجِدًا، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ أَنْ لَا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِمُحَمَّدٍ، وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ فَيَأْخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، وَهِيَ مِنْ ذَهَبٍ فَيَقْرَعُ الْبَابَ فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيُفْتَحُ لَهُ حَتَّى يَقُومَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَيَسْتَأْذِنُ فِي السُّجُودِ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَيَأْتِي جِبْرِيلُ رَبَّهُ فَيَقُولُ: ائْذَنْ لَهُ.
قَوْلُهُ: فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَنَسٍ، فَيَتَجَلَّى لَهُ الرَّبُّ، وَلَا يَتَجَلَّى لِشَيْءٍ قَبْلَهُ، وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى
رَفَعَهُ يُعَرِّفُنِي اللَّهُ نَفْسَهُ، فَأَسْجُدُ لَهُ سَجْدَةً يَرْضَى بِهَا عَنِّي، ثُمَّ أَمْتَدِحُهُ بِمَدْحَةٍ يَرْضَى بِهَا عَنِّي.
قَوْلُهُ: فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ زَادَ مُسْلِمٌ أَنْ يَدَعَنِي وَكَذَا فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا شَاكِرًا لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَيَنْطَلِقُ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ فَيَخِرُّ سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يُقَالُ لِيَ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ وَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ أَنِ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى يَقُولُ لِي عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ.
قَوْلُهُ: وَسَلْ تُعْطَهُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَسَقَطَ مِنْ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ: وَقُلْ يُسْمَعْ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى رَبِّهِ خَرَّ سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ، وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ فَيُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَادْعُ تُجَبْ.
قَوْلُهُ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ يُعَلِّمُنِيهِ وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ: بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ فَيَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ مَا لَمْ يَفْتَحْ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلَائِقِ وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُلْهَمُ التَّحْمِيدَ قَبْلَ سُجُودِهِ وَبَعْدَهُ وَفِيهِ وَيَكُونُ فِي كُلِّ مَكَانٍ مَا يَلِيقُ بِهِ وَقَدْ وَرَدَ مَا لَعَلَّهُ يُفَسَّرُ بِهِ بَعْضُ ذَلِكَ لَا جَمِيعُهُ فَفِي النَّسَائِيِّ وَمُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَفَعَهُ قَالَ: يُجْمَعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ، وَعَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَبِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، سُبْحَانَكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سُبْحَانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: هَذَا حَدِيثٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّةِ إِسْنَادِهِ وَثِقَةِ رُوَاتِهِ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ أَشْفَعُ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ فَأَقُولُ: رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي أُمَّتِي وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ.
قَوْلُهُ: فَيَحُدُّ لِي حَدًّا يُبَيِّنُ لِي فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الشَّفَاعَةِ حَدًّا أَقِفُ عِنْدَهُ، فَلَا أَتَعَدَّاهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: شَفَّعْتُكَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالْجَمَاعَةِ، ثُمَّ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ فِيمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ، ثُمَّ فِيمَنْ زَنَى، وَعَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ كَذَا حَكَاهُ الطِّيبِيُّ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْأَخْبَارِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَفْضِيلُ مَرَاتِبِ الْمُخْرَجِينَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ، وَسَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ فِي آخِرِهِ، وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ: مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ثُمَّ قَالَ: مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ. وَوَقَعَ فِي طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: فَشَفَعْتُ فِي أُمَّتِي أَنْ أُخْرِجَ مِنْ كُلِّ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا وَاحِدًا، فَمَا زِلْتُ أَتَرَدَّدُ عَلَى رَبِّي لَا أَقُومُ مِنْهُ مَقَامًا إِلَّا شُفِّعْتُ، وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ: فَيَشْفَعُ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ حِنْطَةٍ، ثُمَّ شَعِيرَةٍ، ثُمَّ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: كَأَنَّ رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ رَكَّبَ شَيْئًا عَلَى غَيْرِ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ ذَكَرَ الشَّفَاعَةَ فِي الْإِرَاحَةِ مِنْ كَرْبِ الْمَوْقِفِ، وَفِي آخِرِهِ ذَكَرَ الشَّفَاعَةَ فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ النَّارِ يَعْنِي، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّحَوُّلِ مِنَ الْمَوْقِفِ وَالْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ وَسُقُوطِ مَنْ يَسْقُطُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فِي النَّارِ ثُمَّ
يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّفَاعَةُ فِي الْإِخْرَاجِ، وَهُوَ إِشْكَالٌ قَوِيٌّ وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ عِيَاضٌ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الْمَقْرُونِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُومُ وَيُؤْذَنُ لَهُ أَيْ فِي الشَّفَاعَةِ وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَيَقُومَانِ جَنْبَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ الْحَدِيثَ. قَالَ عِيَاضٌ: فَبِهَذَا يَتَّصِلُ الْكَلَامُ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ الَّتِي لَجَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا هِيَ الْإِرَاحَةُ مِنْ كَرْبِ الْمَوْقِفِ ثُمَّ تَجِيءُ الشَّفَاعَةُ فِي الْإِخْرَاجِ وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَعْنِي الْآتِيَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْجَمْعِ فِي الْمَوْقِفِ - الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ كُلِّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، ثُمَّ تَمْيِيزُ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ حُلُولُ الشَّفَاعَةِ بَعْدَ وَضْعِ الصِّرَاطِ وَالْمُرُورِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ كُلِّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ هُوَ أَوَّلُ فَصْلِ الْقَضَاءِ وَالْإِرَاحَةِ مِنْ كَرْبِ الْمَوْقِفِ، قَالَ: وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ مُتُونُ الْأَحَادِيثِ وَتَتَرَتَّبُ مَعَانِيهَا.
قُلْتُ: فَكَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّتُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَفِيهِ حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا، وَفِي جَانِبَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ؛ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوشٌ فِي النَّارِ، فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ مَا يَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ وَأَنَّ الشَّفَاعَةَ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مِمَّنْ سَقَطَ تَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ اخْتَصَرَ فِي سِيَاقِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي سَاقَهُ أَنَسٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ مُطَوَّلًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ، فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَيَوْمئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى: ثُمَّ أَمْتَدِحُهُ بِمَدْحَةٍ يَرْضَى بِهَا عَنِّي، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ تَمُرُّ أُمَّتِي عَلَى الصِّرَاطِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ فَيَمُرُّونَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْهُ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَيَقُولُ عز وجل: يَا مُحَمَّدُ، مَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ فِي أُمَّتِكَ؟ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ عَجِّلْ حِسَابَهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى فَأَقُولُ أَنَا لَهَا حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ خَلْقِهِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَقَعُ فِي الْمَوْقِفِ قَبْلَ نَصْبِ الصِّرَاطِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَتَعَرَّضَ الطِّيبِيُّ لِلْجَوَابِ عَنِ الْإِشْكَالِ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّارِ الْحَبْسُ وَالْكَرْبُ وَالشِّدَّةُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْمَوْقِفِ فِيهَا مِنْ دُنُوِّ الشَّمْسِ إِلَى رُءُوسِهِمْ وَكَرْبِهِمْ بِحَرِّهَا وَسَفْعِهَا حَتَّى أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ، وَأَنْ يُرَادَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا خَلَاصُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا.
قُلْتُ: وَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَقَعُ إِخْرَاجَانِ وَقَعَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى اخْتِلَافِ طُرُقِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَلَاصُ مِنْ كَرْبِ الْمَوْقِفِ، وَالثَّانِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِيهِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ بَعْدَ تَمَامِ الْخَلَاصِ مِنَ الْمَوْقِفِ، وَنَصْبِ الصِّرَاطِ وَالْإِذْنِ فِي الْمُرُورِ عَلَيْهِ، وَيَقَعُ الْإِخْرَاجُ الثَّانِي لِمَنْ يَسْقُطُ فِي النَّارِ حَالَ الْمُرُورِ فَيَتَّحِدَا، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْعَرَقِ فِي بَابُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَصْلِ الْإِشْكَالِ بِأَنَّ فِي قَوْلِهِ آخِرَ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيُقَالُ: أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ وَلَا عَذَابَ، قَالَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُشَفَّعُ فِيمَا طَلَبَ مِنْ تَعْجِيلِ الْحِسَابِ، فَإِنَّهُ لِمَا أُذِنَ لَهُ فِي إِدْخَالِ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى تَأْخِيرِ مَنْ عَلَيْهِ حِسَابٌ
لِيُحَاسَبَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى فَأَقُولُ: يَا رَبِّ وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ فَشَفِّعْنِي فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ اللَّهُ: وَقَدْ شَفَّعْتُكَ فِيهِمْ، وَأَذِنْتُ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ قُلْتُ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْعَرْضَ وَالْمِيزَانَ وَتَطَايُرَ الصُّحُفِ يَقَعُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ثُمَّ يُنَادِي الْمُنَادِي لِيَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَنْ كَانَتْ تَعْبُدُ، فَيَسْقُطُ الْكُفَّارُ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُمَيَّزُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِالِامْتِحَانِ بِالسُّجُودِ عِنْدَ كَشْفِ السَّاقِ، ثُمَّ يُؤْذَنُ فِي نَصْبِ الصِّرَاطِ وَالْمُرُورِ عَلَيْهِ، فَيُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ فَيَسْقُطُونَ فِي النَّارِ أَيْضًا، وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ إِلَى الْجَنَّةِ فَمِنَ الْعُصَاةِ مَنْ يَسْقُطُ وَيُوقَفُ بَعْضُ مَنْ نَجَا عِنْدَ الْقَنْطَرَةِ لِلْمُقَاصَصَةِ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
ثُمَّ وَقَفْتُ فِي تَفْسِيرِ يَحْيَى بْنِ سَلَامٍ الْبَصْرِيِّ نَزِيلِ مِصْرَ ثُمَّ إِفْرِيقِيَةَ - وَهُوَ فِي طَبَقَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: صَدُوقٌ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: رُبَّمَا وَهِمَ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ مَعَ ضَعْفِهِ - فَنَقَلَ فِيهِ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، بَقِيَتْ زُمْرَةٌ مِنْ آخِرِ زُمَرِ الْجَنَّةِ إِذَا خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الصِّرَاطِ بِأَعْمَالِهِمْ فَيَقُولُ آخِرُ زُمْرَةٍ مِنْ زُمَرِ النَّارِ لَهُمْ، وَقَدْ بَلَغَتِ النَّارُ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ أَخَذْنَا بِمَا فِي قُلُوبِنَا مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ فَمَا نَفَعَكُمْ أَنْتُمْ تَوْحِيدُكُمْ؟ قَالَ: فَيَصْرُخُونَ عِنْدَ ذَلِكَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَيَسْمَعُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي إِتْيَانِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ الْمَذْكُورِينَ قَبْلُ وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَنْطَلِقُ فَيَأْتِي رَبَّ الْعِزَّةِ فَيَسْجُدُ لَهُ حَتَّى يَأْمُرَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ يَسْأَلُهُ مَا تُرِيدُ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ فَيَقُولُ: رَبِّ أُنَاسٌ مِنْ عِبَادِكَ أَصْحَابُ ذُنُوبٍ لَمْ يُشْرِكُوا بِكَ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِمْ، فَعَيَّرَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاكَ فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي لَأُخْرِجَنَّهُمْ فَيُخْرِجُهُمْ قَدِ احْتَرَقُوا فَيَنْضَحُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى يَنْبُتُوا ثُمَّ، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ، فَيَغْبِطُهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} .
قُلْتُ: فَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَرَفَعَ الْإِشْكَالَ، لَكِنَّ الْكَلْبِيَّ ضَعِيفٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُسْنِدْهُ، ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنْ سُؤَالَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَنْبِيَاءَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْمَوْقِفِ قَبْلَ دُخُولِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ مِنَ الْمُرْجِئَةِ بِالِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِمَا جَاءَ مِنْ أَنَّ النَّارَ تَسْفَعُهُمْ أَوْ تَلْفَحُهُمْ، وَمَا جَاءَ فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ النَّارِ جَمِيعُهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَقَعُ لَهُمْ مِنَ الْكَرْبِ فِي الْمَوْقِفِ، وَهُوَ تَمَسُّكٌ بَاطِلٌ وَأَقْوَى مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ: مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا مِنْهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، أَوْفَرَ مَا كَانَتْ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ ذِكْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى تَعْذِيبِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُصَاةِ بِالنَّارِ حَقِيقَةً زِيَادَةً عَلَى كَرْبِ الْمَوْقِفِ. وَوَرَدَ فِي سَبَبِ إِخْرَاجِ بَقِيَّةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقُولُونَ لَهُمْ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنْتُمْ مَعَنَا فَيَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ فَيُخْرِجُهُمْ، وَهُوَ مِمَّا يُرَدُّ بِهِ عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ الْمَذْكُورِينَ، وَسَأَذْكُرُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، فَأَحُدُّ لَهُمْ حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ ثَانِيًا فَأَسْتَأْذِنُ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَحُدُّ لَهُمْ حَدًّا ثَالِثًا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، وَلَمْ
يَشُكَّ بَلْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقَعُ فِي الرَّابِعَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ الْحَسَنَ حَدَّثَ مَعْبَدًا بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَأَقُومُ الرَّابِعَةَ وَفِيهِ قَوْلُ اللَّهِ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: حَبَسَهُ الْقُرْآنُ يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ وَبَعْضَ الْعُصَاةِ مِمَّنْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فِي حَقِّهِ التَّخْلِيدُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْعُصَاةُ فِي الْقَبْضَةِ، وَتَبْقَى الْكُفَّارُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالتَّخْلِيدِ فِي حَقِّ الْعُصَاةِ الْمَذْكُورِينَ الْبَقَاءَ فِي النَّارِ بَعْدَ إِخْرَاجِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ.
قَوْلُهُ: حَتَّى مَا يَبْقَى فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَا بَقِيَ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ بَعْدَ الثَّالِثَةِ حَتَّى أَرْجِعَ فَأَقُولَ.
قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ عِنْدَ هَذَا أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ: إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ؛ أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ كَذَا أَبْهَمَ قَائِلُ أَيْ وَجَبَ وَتَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ أَنَّهُ قَتَادَةُ، أَحَدُ رُوَاتِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، وَسَعِيدٍ: فَأَقُولُ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ وَعِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ مِثْلُ مَا ذَكَرْتُ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ مُدْرَجٌ فِي الْمَرْفُوعِ لِمَا تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ، فَسَّرَ بِهِ قَوْلَهُ: مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَيْ مَنْ أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ: إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ يَقُولُ: وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، وَقَالَ:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ قَالَ: فَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً الْحَدِيثَ، وَهُوَ الَّذِي فَصَّلَهُ هِشَامٌ مِنَ الْحَدِيثِ، وَسَبَقَ سِيَاقُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مُفْرَدًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ بَعْدَ رِوَايَتِهِ عَنْ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ثُمَّ أَقُومُ الرَّابِعَةَ
فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ، ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَقُولُ لِي: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ فِي إِخْرَاجِهِمْ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنَ الْعُصَاةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ، وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا فِي أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ ثَبَتَ تَخْصِيصُ الْمُوَحِّدِينَ بِالْإِخْرَاجِ، وَلَعَلَّ التَّأْيِيدَ فِي حَقِّ مَنْ يَتَأَخَّرُ بَعْدَ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ حَتَّى يَخْرُجُوا بِقَبْضَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، فَيَكُونُ التَّأْيِيدُ مُؤَقَّتًا، وَقَالَ عِيَاضٌ: اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ جَوَّزَ الْخَطَايَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كَقَوْلِ كُلِّ مَنْ ذُكِرَ فِيهِ مَا ذُكِرَ، وَأَجَابَ عَنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَكَذَا قَبْلَهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْكَبِيرَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، وَيُلْتَحَقُ بِهَا مَا يُزْرِي بِفَاعِلِهِ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا يَقْدَحُ فِي الْإِبْلَاغِ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْفِعْلِ، فَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ حَتَّى فِي النِّسْيَانِ، وَأَجَازَ الْجُمْهُورُ السَّهْوَ لَكِنْ لَا يَحْصُلُ التَّمَادِي، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الصَّغَائِرِ؛ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ إِلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْهَا مُطْلَقًا، وَأَوَّلُوا الْأَحَادِيثَ وَالْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ الصَّادِرَ عَنْهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَأْوِيلٍ مِنْ بَعْضِهِمْ، أَوْ بِسَهْوٍ، أَوْ
بِإِذْنٍ، لَكِنْ خَشُوا أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمَقَامِهِمْ، فَأَشْفَقُوا مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ أَوِ الْمُعَاتَبَةِ، قَالَ: وَهَذَا أَرْجَحُ الْمَقَالَاتِ، وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنْ قَالُوا بِعِصْمَتِهِمْ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ مَنْزَعَهُمْ فِي ذَلِكَ التَّكْفِيرُ بِالذُّنُوبِ مُطْلَقًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ الْكُفْرُ، وَمَنْزَعُنَا أَنَّ أُمَّةَ النَّبِيِّ مَأْمُورَةٌ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ، فَلَوْ جَازَ مِنْهُ وُقُوعُ الْمَعْصِيَةِ لَلَزِمَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ
الْوَاحِدِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ بَاطِلٌ. ثُمَّ قَالَ عِيَاضٌ: وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لَا يَخْرُجُ عَمَّا قُلْنَاهُ؛ لِأَنَّ أَكْلَ آدَمَ مِنَ الشَّجَرَةِ كَانَ عَنْ سَهْوٍ، وَطَلَبَ نُوحٍ نَجَاةَ وَلَدِهِ كَانَ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَمَقَالَاتِ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مَعَارِيضَ، وَأَرَادَ بِهَا الْخَيْرَ، وَقَتِيلَ مُوسَى كَانَ كَافِرًا كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ الْغَضَبِ عَلَى اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُظْهِرُ مِنِ انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ، وَمَا يُشَاهِدُهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ مِنَ الْأَهْوَالِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مِثَالُهَا وَلَا يَكُونُ، كَذَا قَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْغَضَبِ لَازِمُهُ، وَهُوَ إِرَادَةُ إِيصَالِ السُّوءِ لِلْبَعْضِ، وَقَوْلُ آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ: نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي أَيْ نَفْسِي هِيَ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ يُشْفَعَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ إِذَا كَانَا مُتَّحِدَيْنِ فَالْمُرَادُ بِهِ بَعْضُ اللَّوَازِمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَحْذُوفًا، وَفِيهِ تَفْضِيلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِمَّنْ سِوَاهُمْ، وَقَدْ ظَهَرَ فَضْلُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ نَفْسِي نَفْسِي وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي لَكَانَ كَافِيًا، وَفِيهِ تَفْضِيلُ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِيهِ عَلَى مَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ لِتَأَهُّلِهِمْ لِذَلِكَ الْمَقَامِ الْعَظِيمِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا اخْتُصَّ الْمَذْكُورُونَ بِذَلِكَ لِمَزَايَا أُخْرَى لَا تَتَعَلَّقُ بِالتَّفْضِيلِ، فَآدَمُ لِكَوْنِهِ وَالِدَ الْجَمِيعِ، وَنُوحٌ لِكَوْنِهِ الْأَبَ الثَّانِيَ، وَإِبْرَاهِيمُ لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ، وَمُوسَى لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا، وَعِيسَى لِأَنَّهُ أَوْلَى النَّاسِ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا اخْتُصُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ شَرَائِعَ عُمِلَ بِهَا مِنْ بَيْنِ مَنْ ذُكِرَ أَوَّلًا وَمَنْ بَعْدَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ أَنَّ مَنْ طَلَبَ مِنْ كَبِيرٍ أَمْرًا مُهِمًّا أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ سُؤَالِهِ وَصْفَ الْمَسْئُولِ بِأَحْسَنِ صِفَاتِهِ وَأَشْرَفِ مَزَايَاهُ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لِإِجَابَتِهِ لِسُؤَالِهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَسْئُولَ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَحْصِيلِ مَا سُئِلَ يَعْتَذِرُ بِمَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَكْمُلُ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ، فَالدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ، وَأَنَّهُ يُثْنِي عَلَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِأَوْصَافِهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِأَهْلِيَّتِهِ، وَيَكُونُ أَدْعَى لِقَبُولِ عُذْرِهِ فِي الِامْتِنَاعِ، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ ظَرْفِ الْمَكَانِ فِي الزَّمَانِ لِقَوْلِهِ: لَسْتُ هُنَاكُمْ؛ لِأَنَّ هُنَا ظَرْفَ مَكَانٍ، فَاسْتُعْمِلَتْ فِي ظَرْفِ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَسْتُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَرْفُ مَكَانٍ عَلَى بَابِهِ، لَكِنَّهُ الْمَعْنَوِيُّ لَا الْحِسِّيُّ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحِسِّيِّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُبَاشِرُ السُّؤَالَ بَعْدَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَسِّرُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ بِالْقُعُودِ عَلَى الْعَرْشِ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَفِيهِ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ أَخْذًا مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ فِي طَلَبِهِ نَجَاةَ ابْنِهِ، وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَرَى بِعَكْسِهِ، وَفِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْتَصْحِبُونَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّوَسُّلِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِي حَوَائِجِهِمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ، وَالْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ الْإِلْهَامُ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ.
وَفِيهِ: أَنَّهُمْ يَسْتَشِيرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُجْمِعُونَ عَلَى الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ، وَأَنَّهُمْ يُغَطَّى عَنْهُمْ بَعْضُ مَا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ فِي السَّائِلِينَ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَحْضِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ يَخْتَصُّ بِهِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم إِذْ لَوِ اسْتَحْضَرُوا ذَلِكَ لَسَأَلُوهُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَلَمَا احْتَاجُوا إِلَى التَّرَدُّدِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ، وَلَعَلَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْسَاهُمْ ذَلِكَ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِ فَضْلِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ حديثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.
قَوْلُهُ: يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدِ الْقَطَّانُ، وَالْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ هُوَ أَبُو سَلَمَةَ الْبَصْرِيُّ، تَكَلَّمَ فِيهِ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، لَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْهُ مَعَ تَعَنُّتِهِ فِي الرِّجَالِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَابَعَةٌ، وَفِي طَبَقَتِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ ذَكْوَانَ، وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ السِّينِ، وَآخِرُهُ نُونٌ بَصْرِيٌّ أَيْضًا يُعْرَفُ بِالْمُعَلِّمِ وَبِالْمُكْتِبِ، وَهُوَ أَوْثَقُ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ الْبَابِ فِي الْحَادِيَ عَشَرَ.
الْحَدِيثُ
التَّاسِعَ عَشَرَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أُمِّ حَارِثَةَ، تَقَدَّمَ فِي الخامس مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْهُ
وفِيهِ: وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ، وتَقَدَّمَ شَرْحُهُ، وَفِيهِ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ.
قَوْلُهُ: لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا) وَقَعَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ الْجُمَحِيِّ عِنْدَ الْبِرَازِ بِلَفْظِ: تُشْرِفُ عَلَى الْأَرْضِ لَذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
قَوْلُهُ: وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، أَيْ: طَيِّبَةً، وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ الْمَذْكُورِ: لَمَلَأَتِ الْأَرْضَ رِيحَ مِسْكٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ: وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
قَوْلُهُ: وَلَنَصِيفُهَا، بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ فَاءٌ، فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ بِالْخِمَارِ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ قُتَيْبَةَ؛ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ اسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ بِدُونِهِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: النَّصِيفُ الْخِمَارُ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِلْخَادِمِ. قُلْتُ: وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ جَزْمًا. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: وَلَتَاجُهَا عَلَى رَأْسِهَا، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ أَنَّ النَّصِيفَ الْمِعْجَرُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، وَهُوَ مَا تَلْوِيهِ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ كَالْعِصَابَةِ تَلُفُّهَا الْمَرْأَةُ عَلَى اسْتِدَارَةِ رَأْسِهَا، وَاعْتَجَرَ الرَّجُلُ بِعِمَامَتِهِ لَفَّهَا عَلَى رَأْسِهِ وَرَدَّ طَرَفَهَا عَلَى وَجْهِهِ، وَشَيْئًا مِنْهَا تَحْتَ ذَقْنِهِ، وَقِيلَ: الْمِعْجَرُ ثَوْبٌ تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ أَصْغَرُ مِنَ الرِّدَاءِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا: وَلَوْ أَخْرَجَتْ نَصِيفَهَا لَكَانَتِ الشَّمْسُ عِنْدَ حُسْنِهَا مِثْلَ الْفَتِيلَةِ مِنَ الشَّمْسِ لَا ضَوْءَ لَهَا، وَلَوْ أَطْلَعَتْ وَجْهَهَا لَأَضَاءَ حُسْنُهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَوْ أَخْرَجَتْ كَفَّهَا لَافْتُتِنَ الْخَلَائِقُ بِحُسْنِهَا.
الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ
قَوْلُهُ: (لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْقَبْرِ وَفِيهِ: فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاقَ اللَّهُ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَاضِي فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ: فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ: هَذَا بَيْتُكَ كَانَ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَكَ وَرَحِمَكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: كَانَ هَذَا مَنْزِلَكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ.
قَوْلُهُ: لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا، أَيْ: لَوْ كَانَ عَمِلَ عَمَلًا سَيِّئًا، وَهُوَ الْكُفْرُ فَصَارَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقَوْلُهُ: لِيَزْدَادَ شُكْرًا أَيْ فَرَحًا وَرِضًا، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَازِمِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاضِيَ بِالشَّيْءِ يَشْكُرُ مَنْ فَعَلَ لَهُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ) قَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْفَاعِلَ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا أُرِيَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ.
قَوْلُهُ: لَوْ أَحْسَنَ، أَيْ: لَوْ عَمِلَ عَمَلًا حَسَنًا؛ وَهُوَ الْإِسْلَامُ
قَوْلُهُ: لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً، أَيْ لِلزِّيَادَةِ فِي تَعْذِيبِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا وَأَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} الْآيَةَ: الْمُرَادُ أَرْضُ الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ النَّارِ لَوْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَرْضُ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا صَارَتْ خُبْزَةً فَأَكَلُوهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُسَمَّى الْحُصُولُ فِي الْجَنَّةِ وِرَاثَةً مِنْ حَيْثُ اخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ إِرْثٌ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: عَنْ عَمْرٍو، هُوَ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبَ، وَقَدْ وَقَعَ لَنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي نُسْخَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ:، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ، عَنِ اسْمَاعِيلَ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اسْمَ أَبِي عَمْرٍو وَالِدِ عَمْرٍو:
مَيْسَرَةُ.
قَوْلُهُ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ لَعَلَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ تَحْدِيثِهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سِيَاقُهُ وَبَيَانُ أَلْفَاظِهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ، وَمَنْ طُرُقِهِ: شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ الْبَابِ فِي بَابُ الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ، مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: قَالَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِيهِ: لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِي، وَشَفَاعَتِي لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا يُصَدِّقُ قَلْبُهُ لِسَانَهُ وَلِسَانُهُ قَلْبَهُ.
وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الشَّفَاعَةِ الْمَسْئُولُ عَنْهَا هُنَا بَعْضُ أَنْوَاعِ الشَّفَاعَةِ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لَهُ: أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ كَذَا مِنَ الْإِيمَانِ، فَأَسْعَدُ النَّاسِ بِهَذِهِ الشَّفَاعَةِ مَنْ يَكُونُ إِيمَانُهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ دُونَهُ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى فِي الْإِرَاحَةِ مِنْ كَرْبِ الْمَوْقِفِ، فَأَسْعَدُ النَّاسِ بِهَا مَنْ يَسْبِقُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَهُوَ مَنْ يَدْخُلُهَا بِغَيْرِ عَذَابٍ بَعْدَ أَنْ يُحَاسَبَ وَيَسْتَحِقَّ الْعَذَابَ، ثُمَّ مَنْ يُصِيبُهُ لَفْحٌ مِنَ النَّارِ وَلَا يَسْقُطُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَسْعَدُ إِشَارَةً إِلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ فِي السَّبَقِ إِلَى الدُّخُولِ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْإِخْلَاصِ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَلْبِهِ مَعَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، لَكِنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْجَارِحَةِ أَبْلَغُ فِي التَّأْكِيدِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: أَسْعَدُ، وَأَنَّهَا عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَوْلِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ: الْأَسْعَدُ عنا بِمَعْنَى السَّعِيدُ، لِكَوْنِ الْكُلِّ يَشْتَرِكُونَ فِي شَرْطِيَّةِ الْإِخْلَاصِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: يَشْتَرِكُونَ فِيهِ لَكِنَّ مَرَاتِبَهُمْ فِيهِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّحْمَةَ وَالْخَلَاصَ؛ لِأَنَّ احْتِيَاجَهُ إِلَى الشَّفَاعَةِ أَكْثَرُ وَانْتِفَاعَهُ بِهَا أَوْفَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعُبَيْدَةُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو، وَهَذَا السَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا فِيهَا) قَالَ عِيَاضٌ: جَاءَ نَحْوُ هَذَا فِي آخِرِ مَنْ يَجُوزُ عَلَى الصِّرَاطِ يَعْنِي كَمَا يَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ قَالَ: فَيحْتَمِلُ أَنَّهُمَا اثْنَانِ إِمَّا شَخْصَانِ وَإِمَّا نَوْعَانِ أَوْ جِنْسَانِ، وَعُبِّرَ فِيهِ بِالْوَاحِدِ عَنِ الْجَمَاعَةِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ هُنَا بِمَعْنَى الْوُرُودِ، وَهُوَ الْجَوَازُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَيَتَّحِدُ الْمَعْنَى إِمَّا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ.
قُلْتُ: وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ، وَلَفْظُهُ: آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ فَهُوَ يَمْشِي مَرَّةً وَيَكْبُو مَرَّةً وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَقْتَضِي الْجَمْعَ.
قَوْلُهُ: حَبْوًا بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ، أَيْ: زَحْفًا وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَوَقَعَ بِلَفْظِ: زَحْفًا فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهَا، أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشْرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا)، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ: فَيُقَالُ لَهُ: أَتَذْكُرُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ - أَيِ الدُّنْيَا - فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى.
قَوْلُهُ: أَتَسْخَرُ مِنِّي، أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي؟ وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ: أَتَسْخَرُ بِي وَلَمْ يَشُكَّ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا مُشْكِلٌ، وَتَفْسِيرُ الضَّحِكِ بِالرِّضَا لَا يَتَأَتَّى هُنَا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ عَادَةُ الْمُسْتَهْزِئِ أَنْ يَضْحَكَ مِنَ الَّذِي اسْتَهْزَأَ بِهِ ذَكَرَ مَعَهُ، وَأَمَّا نِسْبَةُ السُّخْرِيَةِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَهِيَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ لَفْظًا، لَكِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ عَاهَدَ مِرَارًا وَغَدَرَ حَلَّ فِعْلُهُ
مَحَلَّ الْمُسْتَهْزِئِ، وَظَنَّ أَنَّ فِي قَوْلِ اللَّهِ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وَتَرَدُّدِهِ إِلَيْهَا وَظَنِّهِ أَنَّهَا مَلَأَى نَوْعًا مِنَ السُّخْرِيَةِ بِهِ جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِ، فَسَمَّى الْجَزَاءَ عَلَى السُّخْرِيَةِ سُخْرِيَةً، وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَلِفَ أَتَسْخَرُ مِنِّي أَلِفُ النَّفْيِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى:{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، قَالَ: وَهُوَ كَلَامُ مُتَدَلِّلٍ عَلِمَ مَكَانَهُ مِنْ رَبِّهِ وَبَسْطَهُ لَهُ بِالْإِعْطَاءِ، وَجَوَّزَ عِيَاضٌ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ ضَابِطٍ لِمَا قَالَ، إِذْ وَلَهَ عَقْلُهُ مِنَ السُّرُورِ بِمَا لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَمَّا خَلَصَ مِنَ النَّارِ: لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: أَكْثَرُوا فِي تَأْوِيلِهِ، وَأَشْبَهَ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ اسْتَخَفَّهُ الْفَرَحُ وَأَدْهَشَهُ فَقَالَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ خَافَ أَنْ يُجَازَى عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ
التَّسَاهُلِ فِي الطَّاعَاتِ وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي كَفِعْلِ السَّاخِرِينَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَتُجَازِينِي عَلَى مَا كَانَ مِنِّي؟ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أَيْ يُنْزِلُ بِهِمْ جَزَاءَ سُخْرِيَتِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ فِي آخِرِ شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
قَوْلُهُ: ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) بِنُونٍ وَجِيمٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ جَمْعُ نَاجِذٍ، تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ فَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ الرَّجُلُ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي؟ قَالَ: لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: نِسْبَةُ الضَّحِكِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مَجَازٌ بِمَعْنَى الرِّضَا، وَضَحِكُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَضَحِكُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى سَبِيلِ التَّأَسِّي.
قَوْلُهُ: وَكَانَ يُقَالُ ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَيْسَ هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي نَقْلًا عَنِ الصَّحَابَةِ، أَوْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قُلْتُ: قَائِلُ وَكَانَ يُقَالُ هُوَ الرَّاوِي كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا قَائِلُ الْمَقَالَةِ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُهُ: أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ صَرَفَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، وَسَاقَ الْقِصَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ مُوسَى عليه السلام سَأَلَ رَبَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى وَيَتَمَنَّى، فَيُقَالُ: إِنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: عَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَنَوْفَلٌ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْعَبَّاسُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ عَمُّ جَدِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الرَّاوِي عَنْهُ، وَلِلْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَيُقَالُ: إِنَّ لِعَبْدِ اللَّهِ رُؤْيَةً، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُلَقَّبُ بَبَّةَ بِمُوَحَّدَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ الثَّانِيَةُ ثَقِيلَةٌ ثُمَّ هَاءِ تَأْنِيثٍ.
قَوْلُهُ: هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ؟ هَكَذَا ثَبَتَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِحَذْفِ الْجَوَابِ، وَهُوَ اخْتِصَارٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ بِتَمَامِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا بِلَفْظِ: فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ، قَالَ: نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُقَدَّمِيِّ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: الدَّرَكَةُ، بِزِيَادَةِ هَاءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَمَضَى أَيْضًا فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَبْعَثِ النَّبَوِيِّ لِمُسَدَّدٍ فِيهِ سَنَدٌ آخَرُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
52 - بَاب الصِّرَاطُ جَسْرُ جَهَنَّمَ
6573 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ، وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
أَخْبَرهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا أَتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَبِهِ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهَا لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ: مِنْهُمْ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ آثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدْ امْتُحِشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ فَيَقُولُ: لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا رَبِّ قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟ وَيْلَكَ يا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ. فَلَا يَزَالُ يَدْعُو، فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ تَسْأَلُنِي غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَيُعْطِي اللَّهَ ما شاء مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ، فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَوَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ.
فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا، فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا قِيلَ: تَمَنَّ مِنْ كَذَا فَيَتَمَنَّى، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: تَمَنَّ مِنْ كَذَا، فَيَتَمَنَّى، حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الْأَمَانِيُّ، فَيَقُولُ لَهُ: هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا.
6574 -
قَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يُغَيِّرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ "هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ" قَالَ أَبُو سَعِيدٍ "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَفِظْتُ مِثْلُهُ مَعَهُ"
قَوْلُهُ: بَابُ الصِّرَاطُ جِسْرُ جَهَنَّمَ، أَيِ الْجِسْرُ الْمَنْصُوبُ عَلَى جَهَنَّمَ لِعُبُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لَفْظُ الْجِسْرِ وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الْمَاضِيَةِ فِي بَابُ فَضْلِ السُّجُودِ بِلَفْظِ: ثُمَّ يُضْرَبُ الصِّرَاطُ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَعِيدٌ، وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا، فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ.
قَوْلُهُ: وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَسَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ مَعْمَرٍ، وَلَيْسَ فِي سَنَدِهِ ذِكْرُ سَعِيدٍ، وَكَذَا يَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ سَعِيدٍ، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: إِنَّ النَّاسَ قَالُوا، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ بِلَفْظِ: قُلْنَا.
قَوْلُهُ: هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِي التَّقْيِيدِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يَقَعْ عَنِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الرُّؤْيَةِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْبَحْثِ فِيهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَقَعَ عَلَى سَبَبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْحَشْرَ وَالْقَوْلُ: لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، وَقَوْلُ الْمُسْلِمِينَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى نَرَى رَبَّنَا. قَالُوا: وَهَلْ نَرَاهُ، فَذَكَرَهُ وَمَضَى فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ فَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ وَقَعَ عِنْدَ سُؤَالِهِمُ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: هَلْ تُضَارُّونَ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ مِنَ الضَّرَرِ، وَأَصْلُهُ: تُضَارِرُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِفَتْحِهَا، أَيْ: لَا تَضُرُّونَ أَحَدًا وَلَا يَضُرُّكُمْ بِمُنَازَعَةٍ وَلَا مُجَادَلَةٍ وَلَا مُضَايِقَةٍ، وَجَاءَ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ مِنَ الضَّيْرِ، وَهُوَ لُغَةٌ فِي الضُّرِّ أَيْ لَا يُخَالِفُ بَعْضٌ بَعْضًا، فَيُكَذِّبُهُ وَيُنَازِعُهُ فَيُضِيرُهُ بِذَلِكَ، يُقَالُ: ضَارَّهُ يُضِيرُهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَضَايَقُونَ، أَيْ: لَا تَزَاحَمُونَ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: لَا تُضَامُّونَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَحْجُبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَنِ الرُّؤْيَةِ فَيُضِرُّ بِهِ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ: ضَرَّنِي فُلَانٌ إِذَا دَنَا مِنِّي دُنُوًّا شَدِيدًا، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: فَالْمُرَادُ الْمُضَارَّةُ بِازْدِحَامٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَوَّلُهُ مَضْمُومٌ مُثَقَّلًا وَمُخَفَّفًا، قَالَ: وَرَوَى تَضَامُّونَ بِالتَّشْدِيدِ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَهُوَ مِنَ الضَّمِّ، وَبِالتَّخْفِيفِ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الضَّيْمِ، وَالْمُرَادُ الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ، قَالَ: وَقَالَ عِيَاضٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الَّذِي بِالرَّاءِ وَبِالْمِيمِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا، وَكُلُّهُ صَحِيحٌ ظَاهِرُ الْمَعْنَى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: لَا تُضَامُونَ أَوْ تُضَاهُونَ، بِالشَّكِّ كَمَا مَضَى فِي فَضْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمَعْنَى الَّذِي بِالْهَاءِ: لَا يَشْتِبَهُ عَلَيْكُمْ، وَلَا تَرْتَابُونَ فِيهِ فَيُعَارِضُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمَعْنَى الضَّيْمِ الْغَلَبَةُ عَلَى الْحَقِّ وَالِاسْتِبْدَادُ بِهِ، أَيْ: لَا يَظْلِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَتَقَدَّمَ فِي بَابُ فَضْلِ السُّجُودِ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ:
هَلْ تُمَارُونَ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، أَيْ: تُجَادِلُونَ فِي ذَلِكَ، أَوْ يَدْخُلُكُمْ فِيهِ شَكٌّ مِنَ الْمِرْيَةِ وَهُوَ الشَّكُّ، وَجَاءَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ: تَتَمَارَوْنَ
بِإِثْبَاتِهِمَا.
قَوْلُهُ: تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ) الْمُرَادُ تَشْبِيهُ الرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْوُضُوحِ، وَزَوَالِ الشَّكِّ وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَالِاخْتِلَافِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الطَّيِّبِ الصُّعْلُوكِيَّ يَقُولُ: تُضَامُّونَ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ يُرِيدُ: لَا تَجْتَمِعُونَ لِرُؤْيَتِهِ فِي جِهَةٍ وَلَا يَنْضَمُّ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَإِنَّهُ لَا يُرَى فِي جِهَةٍ، وَمَعْنَاهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ: لَا تَتَضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ بِالِاجْتِمَاعِ فِي جِهَةٍ، وَهُوَ بِغَيْرِ تَشْدِيدٍ مِنَ الضَّيْمِ، مَعْنَاهُ: لَا تُظْلَمُونَ فِيهِ بِرُؤْيَةِ بَعْضِكُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ فِي جِهَاتِكُمْ كُلِّهَا، وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الْجِهَةِ، قَالَ: وَالتَّشْبِيهُ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ لِتَعْيِينِ الرُّؤْيَةِ دُونَ تَشْبِيهِ الْمَرْئِيِّ سبحانه وتعالى، وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا خَصَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ رُؤْيَةَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ سَحَابٍ أَكْبَرُ آيَةٍ وَأَعْظَمُ خَلْقًا مِنْ مُجَرَّدِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؛ لِمَا خُصَّا بِهِ مِنْ عَظِيمِ النُّورِ وَالضِّيَاءِ، بِحَيْثُ صَارَ التَّشْبِيهُ بِهِمَا فِيمَنْ يُوصَفُ بِالْجَمَالِ وَالْكَمَالِ سَائِغًا شَائِعًا فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: قَدْ يَتَخَيَّلُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْكَافَ كَافُ التَّشْبِيهِ لِلْمَرْئِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا هِيَ كَافُ التَّشْبِيهِ لِلرُّؤْيَةِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّائِي، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ رُؤْيَةٌ مُزَاحٌ عَنْهَا الشَّكُّ مِثْلُ رُؤْيَتِكُمُ الْقَمَرَ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ: فِي الِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ الْقَمَرِ قَبْلَ الشَّمْسِ مُتَابَعَةً لِلْخَلِيلِ، فَكَمَا أُمِرَ بِاتِّبَاعِهِ فِي الْمِلَّةِ اتَّبَعَهُ فِي الدَّلِيلِ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْخَلِيلُ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْحَبِيبُ عَلَى إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ، فَاسْتَدَلَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمُقْتَضَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْخُلَّةَ تَصِحُّ بِمُجَرَّدِ الْوُجُودِ، وَالْمَحَبَّةِ لَا تَقَعُ غَالِبًا إِلَّا بِالرُّؤْيَةِ، وَفِي عَطْفِ الشَّمْسِ عَلَى الْقَمَرِ مَعَ أَنَّ تَحْصِيلَ الرُّؤْيَةِ بِذِكْرِهِ كَافٍ؛ لِأَنَّ الْقَمَرَ لَا يُدْرِكَ وَصْفَهُ الْأَعْمَى حِسًّا بَلْ تَقْلِيدًا، وَالشَّمْسُ يُدْرِكُهَا الْأَعْمَى حِسًّا بِوُجُودِ حَرِّهَا إِذَا قَابَلَهَا وَقْتَ الظَّهِيرَةِ مَثَلًا، فَحَسُنَ التَّأْكِيدُ بِهَا، قَالَ: وَالتَّمْثِيلُ وَاقِعٌ فِي تَحْقِيقِ الرُّؤْيَةِ لَا فِي الْكَيْفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مُتَحَيِّزَانِ، وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَلَيْسَ فِي عَطْفِ الشَّمْسِ عَلَى الْقَمَرِ إِبْطَالٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جَرِيرٍ: الْحِكْمَةُ فِي التَّمْثِيلِ بِالْقَمَرِ أَنَّهُ تَتَيَسَّرُ رُؤْيَتُهُ لِلرَّائِي بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَحْدِيقٍ يَضُرُّ بِالْبَصَرِ، بِخِلَافِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهَا حِكْمَةُ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُرُودَ ذِكْرِ الشَّمْسِ بَعْدَهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَجْلِسَ وَاحِدٌ خُدِشَ فِي ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا تُمَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِ تِلْكَ السَّاعَةَ، ثُمَّ يَتَوَارَى، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ رُؤْيَةَ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ مُمْكِنَةٌ وَنَفَتْهَا الْمُبْتَدِعَةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ، وَهُوَ جَهْلٌ مِنْهُمْ؛ فَقَدْ تَضَافَرَتِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَجَابَ الْأَئِمَّةُ عَنِ اعْتِرَاضَاتِ الْمُبْتَدِعَةِ بِأَجْوِبَةٍ مَشْهُورَةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الرُّؤْيَةِ تَقَابُلُ الْأَشِعَّةِ وَلَا مُقَابَلَةُ الْمَرْئِيِّ، وَإِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاعْتَرَضَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى رِوَايَةِ الْعَلَاءِ، وَأَنْكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ الْوَاقِعَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ تَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الْوَاسِطَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ الْكُفَّارَ وَلَا يَرَوْنَهُ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا يَرَوْنَهُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ: يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ، فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: يَحْشُرُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَقَوْلُهُ: فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: فِي مَكَانٍ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ: فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ الْمُسْتَوِيَةُ، وَيَنْفُذُهُمْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْفَاءِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ؛ أَيْ: يَخْرِقُهُمْ بِمُعْجَمَةٍ وَقَافٍ حَتَّى يُجَوِّزُهُمْ، وَقِيلَ: بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ يَسْتَوْعِبُهُمْ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ يَنْفُذُهُمْ بَصَرُ الرَّحْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بَصَرُ النَّاظِرِينَ وَهُوَ أَوْلَى، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُجْمَعُونَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى مِنْهُمْ أَحَدٌ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى مِنْهُمْ أَحَدٌ لَوْ دَعَاهُمْ دَاعٍ لَسَمِعُوهُ، وَلَوْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ نَاظِرٌ لَأَدْرَكَهُمْ،
قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالدَّاعِي هُنَا مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ لِقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَالِ الْمَوْقِفِ فِي بَابُ الْحَشْرِ، وَزَادَ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي رِوَايَتِهِ: فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمْ يَزَلِ اللَّهُ مُطَّلِعًا عَلَى خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إِعْلَامُهُ بِاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ وَأَصْلُهُ فِي النَّسَائِيِّ: إِذَا حُشِرَ النَّاسُ قَامُوا
أَرْبَعِينَ عَامًا شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَالشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِهِمْ، حَتَّى يُلْجِمَ الْعَرَقُ كُلَّ بَرٍّ مِنْهُمْ وَفَاجِرٍ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ: يُخَفَّفُ الْوُقُوفُ عَنِ الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ كَصَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَلِأَبِي يَعْلَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَتَدَلِّي الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: وَيَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَقْصَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ.
قَوْلُهُ: فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ. قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِي التَّنْصِيصِ عَلَى ذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَعَ دُخُولِهِمَا فِيمَنْ عُبِدَ دُونَ اللَّهِ التَّنْوِيهُ بِذِكْرِهِمَا لِعِظَمِ خَلْقِهِمَا، وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَيّهَا النَّاسُ أَلَيْسَ عَدْل مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَصَوَّرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ غَيْرَهُ أَنْ يُوَلِّيَ كُلَّ عَبْدٍ مِنْكُمْ مَا كَانَ تَوَلَّى؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: بَلَى، ثُمَّ يَقُولُ: لِتَنْطَلِقْ كُلُّ أُمَّةٍ إِلَى مَنْ كَانَتْ تَعْبُدُ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَلَا لِيَتْبَعْ كُلُّ إِنْسَانٍ مَا كَانَ يَعْبُدُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَيَلْقَى الْعَبْدُ فَيَقُولُ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا. فَيَقُولُ: إِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَيَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ: آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرَسُولِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ، فَيَقُولُ: أَلَا نَبْعَثُ عَلَيْكَ شَاهِدًا؟ فَيَخْتِمُ عَلَى فِيهِ وَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: أَلَا لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ.
قَوْلُهُ: وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ: الطَّوَاغِيتُ: جَمْعُ طَاغُوتٍ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ وَالصَّنَمُ، وَيَكُونُ جَمْعًا وَمُفْرَدًا وَمُذَكَّرًا وَمُؤَنَّثًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ كُلُّ طَاغٍ طَغَى عَلَى اللَّهِ يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ إِمَّا بِقَهْرٍ مِنْهُ لِمَنْ عَبَدَ، وَإِمَّا بِطَاعَةٍ مِمَّنْ عَبَدَ إِنْسَانًا كَانَ أَوْ شَيْطَانًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ جَمَادًا، قَالَ: فَاتِّبَاعُهُمْ لَهُمْ حِينَئِذٍ بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الِاعْتِقَادِ فِيهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتْبَعُوهُمْ بِأَنْ يُسَاقُوا إِلَى النَّارِ قَهْرًا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي فِي التَّوْحِيدِ: فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأَصْحَابُ كُلِّ الْأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ، وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَنَحْوَهُ مِمَّنْ يَرْضَى بِذَلِكَ، أَوِ الْجَمَادَ وَالْحَيَوَانَ دَالُّونَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مَنْ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ فَلَا، لَكِنْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيَنْطَلِقُونَ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَيَتَمَثَّلُ لِصَاحِبِ الصَّلِيبِ صَلِيبُهُ وَلِصَاحِبِ التَّصَاوِيرِ تَصَاوِيرُهُ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَعْمِيمَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ إِلَّا مَنْ سَيُذْكَرُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّهُ يُخَصُّ مِنْ عُمُومِ ذَلِكَ بِدَلِيلِهِ الْآتِي ذِكْرُهُ.
وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِالتَّمْثِيلِ فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّمْثِيلُ تَلْبِيسًا عَلَيْهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّمْثِيلُ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْذِيبَ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ فَيُحْضَرُونَ حَقِيقَةً لِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}
قَوْلُهُ: وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ حَتَّى مِنَ الْجِنِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ. قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ أَيْضًا
مِنْ قَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ؛ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَهُ يُجِيزُونَ أُمَمَهُمْ.
قَوْلُهُ: فِيهَا مُنَافِقُوهَا، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: فِيهَا شَافِعُوهَا أَوْ مُنَافِقُوهَا شَكَّ إِبْرَاهِيمُ، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَغُبَرُ، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ غَابِرٍ، أَوِ الْغُبَّرَاتُ جَمْعٌ وَغُبَرٌ جَمْعُ غَابِرٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَغْبَارٍ، وَغُبْرُ الشَّيْءِ بَقِيَّتُهُ، وَجَاءَ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ كَانَ يُوَحِّدُ اللَّهَ مِنْهُمْ، وَصَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فِي مُسْلِمٍ بِالتَّحْتَانِيَّةِ بِلَفْظِ الَّتِي بالِاسْتِثْنَاءِ وَجَزَمَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ وَهْمٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: لَمْ يَذْكُرْ فِي الْخَبَرِ مَآلَ الْمَذْكُورِينَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الطَّوَاغِيتِ فِي النَّارِ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا قَرِيبًا: فَتَتْبَعُ الشَّيَاطِينَ وَالصَّلِيبَ أَوْلِيَاؤُهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ - بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ - فَيُقَالُ الْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ ذِكْرُ النَّصَارَى وَفِيهِ: فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ مَنْدَهْ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ: فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ صَنَمًا وَلَا وَثَنًا وَلَا صُورَةً إِلَّا ذَهَبُوا حَتَّى يَتَسَاقَطُوا فِي النَّارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَيُطْرَحُ مِنْهُمْ فِيهَا فَوْجٌ، وَيُقَالُ: هَلِ امْتَلَأْتِ؟ فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، الْحَدِيثَ، وَكَانَ الْيَهُودُ وَكَذَا النَّصَارَى مِمَّنْ كَانَ لَا يَعْبُدُ الصُّلْبَانَ لَمَّا كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ تَعَالَى تَأَخَّرُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا حَقَّقُوا عَلَى عِبَادَةِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أُلْحِقُوا بِأَصْحَابِ الْأَوْثَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} الْآيَةَ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِدِينِهِ الْأَصْلِيِّ فَخَرَجَ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا، وَعَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ يَبْقَى أَيْضًا مَنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ مِنْ مُخْلِصٍ وَمُنَافِقٍ.
قَوْلُهُ: فَتَدَّعِي الْيَهُودُ) قُدِّمُوا بِسَبَبِ تَقَدُّمِ مِلَّتِهِمْ عَلَى مِلَّةِ النَّصَارَى.
قَوْلُهُ: فَيُقَالُ لَهُمْ، لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ قَائِلِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ هَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْيَهُودِ وَأَكْثَرُهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيُمْكِنُ أَن يُجَابَ بِأَنَّ خُصُوصَ هَذَا الْخِطَابِ لِمَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ، وَمَنْ عَدَاهُمْ يَكُونُ جَوَابُهُمْ ذِكْرَ مَنْ كَفَرُوا بِهِ، كَمَا وَقَعَ فِي النَّصَارَى؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِالْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ بِزَعْمِهِ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَهُمُ الِاتِّحَادِيَّةُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.
قَوْلُهُ: فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ لَا يَرْجِعَانِ إِلَى الْحُكْمِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، فَإِذَا قِيلَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو بِكَذَا، فَمَنْ كَذَّبَهُ أَنْكَرَ مَجِيئَهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَا أَنَّهُ ابْنُ عَمْرٍو، وَهُنَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ عَبَّدُوا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، قَالَ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ فِيهِ نَفْيَ اللَّازِمِ وَهُوَ كَوْنُهُ ابْنَ اللَّهِ، لِيَلْزَمَ نَفْيُ الْمَلْزُومِ، وَهُوَ عِبَادَةُ ابْنِ اللَّهِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَتَحْصُلُ قَرِينَةٌ بِحَسَبِ الْمَقَامِ تَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا، أَوْ إِلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ فَقَطْ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أنَّ الْمُنَافِقِينَ يَتَأَخَّرُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، رَجَاءَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ فِي الدُّنْيَا، فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَمِرُّ لَهُمْ فَمَيَّزَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ؛ إِذْ لَا غُرَّةَ لِلْمُنَافِقِ وَلَا تَحْجِيلَ.
قُلْتُ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْغُرَّةَ وَالتَّحْجِيلَ خَاصٌّ بِالْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَتَمَيَّزُونَ بِعَدَمِ السُّجُودِ وَبِإِطْفَاءِ نُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ حَصَلَ لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ، ثُمَّ يُسْلَبَانِ عِنْدَ إِطْفَاءِ النُّورِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَنَّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ تَسَتُّرَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا كَانَ يَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا جَهْلًا مِنْهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا حُشِرُوا مَعَهُمْ، لِمَا كَانُوا يُظْهَرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ حَتَّى مَيَّزَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا: لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَنْ كَانَتْ تَعْبُدُ، وَالْمُنَافِقُ لَمْ يَكُنْ يَعْبُدُ شَيْئًا بَقِيَ حَائِرًا حَتَّى مُيِّزَ، قُلْتُ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِمُنَافِقٍ كَانَ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا، وَأَكْثَرُ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ وَثَنٍ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي فِي التَّوْحِيدِ: فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: ثُمَّ يَتَبَدَّى لَنَا اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَيْنَاهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ: وَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّنَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ هُنَا: فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، وَرَجَّحَ عِيَاضٌ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الضَّمِيرُ لِلَّهِ، وَالْمَعْنَى: فَارَقْنَا النَّاسَ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ أَحْوَجُ لِرَبِّنَا، أَيْ: إِنَّا مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: بَلْ أَحْوَجُ عَلَى بَابِهَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَحْوَجُ إِلَيْهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْكَارُهُ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ مُعْتَرَضٌ، بَلْ مَعْنَاهُ: التَّضَرُّعُ إِلَى اللَّهِ فِي كَشْفِ الشِّدَّةِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَزِمُوا طَاعَتَهُ، وَفَارَقُوا فِي الدُّنْيَا مَنْ زَاغَ عَنْ طَاعَتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِمْ، مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ، كَمَا جَرَى لِمُؤْمِنِي الصَّحَابَةِ حِينَ قَاطَعُوا مِنْ أَقَارِبِهِمْ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ وَالِارْتِفَاقِ بِهِمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا شَكَّ فِي حُسْنِهِ، وَأَمَّا نِسْبَةُ الْإِتْيَانِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ كُلَّ مَنْ غَابَ عَنْ غَيْرِهِ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ إِلَّا بِالْمَجِيءِ إِلَيْهِ، فَعَبَّرَ عَنِ الرُّؤْيَةِ بِالْإِتْيَانِ مَجَازًا، وَقِيلَ: الْإِتْيَانُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ - تَعَالَى - يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مَعَ تَنْزِيهِهِ سبحانه وتعالى عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: يَأْتِيهِمْ بَعْضُ مَلَائِكَةِ اللَّهِ، وَرَجَّحَهُ عِيَاضٌ، قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا الْمَلَكَ جَاءَهُمْ فِي صُورَةٍ أَنْكَرُوهَا لَمَّا رَأَوْا فِيهَا مِنْ سِمَةِ الْحُدُوثِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْمَلَكِ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا رَابِعًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى يَأْتِيهِمُ اللَّهُ بِصُورَةٍ - أَيْ بِصِفَةٍ - تَظْهَرُ لَهُمْ مِنَ الصُّوَرِ الْمَخْلُوقَةِ الَّتِي لَا تُشْبِهُ صِفَةَ الْإِلَهِ؛ لِيَخْتَبِرَهُمْ بِذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ لَهُمْ هَذَا الْمَلَكُ: أَنَا رَبُّكُمْ وَرَأَوْا عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَةِ الْمَخْلُوقِينَ مَا يَعْلَمُونَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ رَبَّهُمُ اسْتَعَاذُوا مِنْهُ لِذَلِكَ.
انْتَهَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا: فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ يُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا، فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الصِّفَةُ، وَالْمَعْنَى فَيَتَجَلَّى اللَّهُ لَهُمْ بِالصِّفَةِ الَّتِي يَعْلَمُونَهُ بِهَا، وَإِنَّمَا عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَقَدَّمَتْ لَهُمْ رُؤْيَتُهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ حِينَئِذٍ شَيْئًا لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقِينَ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، وَعَبَّرَ عَنِ الصِّفَةِ بِالصُّورَةِ لِمُجَانَسَةِ الْكَلَامِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الصُّورَةِ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ صَدَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ بِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي صَحِيحٌ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ مُصَرِّحٌ بِهِ أَوْ ظَاهِرٌ فِيهِ. انْتَهَى.
وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ وَقَالَ: إِنَّهُ مِنَ الِامْتِحَانِ الثَّانِي يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ يَنْقَلِبُ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا اسْتَعَاذُوا مِنْهُ أَوَّلًا لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ اسْتِدْرَاجٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَمِنَ الْفَحْشَاءِ اتِّبَاعُ الْبَاطِلِ وَأَهْلِهِ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ: فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَةٍ - أَيْ بِصُورَةٍ - لَا يَعْرِفُونَهَا، وَهِيَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ أَهْلِ الْبَاطِلِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: إِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، أَيْ إِذَا جَاءَنَا بِمَا عَهِدْنَاهُ مِنْهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَعْنَى الْخَبَرِ: يَأْتِيهِمُ اللَّهُ بِأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ صُوَرِ الْمَلَائِكَةِ بِمَا لَمْ يَعْهَدُوا مِثْلَهُ فِي الدُّنْيَا فَيَسْتَعِيذُونَ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ وَيَقُولُونَ:
إِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، أَيْ: إِذَا أَتَانَا بِمَا نَعْرِفُهُ مِنْ لُطْفِهِ، وَهِيَ الصُّورَةُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، أَيْ عَنْ شِدَّةٍ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ مَقَامٌ هَائِلٌ يَمْتَحِنُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ لِيُمَيِّزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ الْمُنَافِقُونَ مُخْتَلِطِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ ظَانِّينَ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا جَازَ فِي الدُّنْيَا امْتَحَنَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ أَتَاهُمْ بِصُورَةٍ هَائِلَةٍ قَالَتْ لِلْجَمِيعِ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَأَجَابَهُ الْمُؤْمِنُونَ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ؛ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلِهَذَا قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ يَنْقَلِبُ أَيْ يَزِلُّ فَيُوَافِقُ الْمُنَافِقِينَ.
قَالَ: وَهَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رُسُوخٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا الْحَقَّ وَحَوَّمُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ عَلَامَةٌ؟ قُلْتُ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: آيَةٌ تَعْرِفُونَهَا؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدُ فَيَصِيرُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا، أَيْ: يَسْتَوِي فَقَارُ ظَهْرِهِ، فَلَا يَنْثَنِي لِلسُّجُودِ وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ لَهُ فِي السُّجُودِ، أَيْ: سَهَّلَ لَهُ وَهَوَّنَ عَلَيْهِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ لِقَفَاهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ لَكِنْ قَالَ: فَيَقُولُونَ: إِنِ اعْتَرَفَ لَنَا عَرَفْنَاهُ، قَالَ: فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَيَقَعُونَ سُجُودًا، وَتَبْقَى أَصْلَابُ الْمُنَافِقِينَ كَأَنَّهَا صَيَاصِي الْبَقَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزَّعْرَاءِ عَنْهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ: وَتَبْقَى ظُهُورُ الْمُنَافِقِينَ طَبَقًا وَاحِدًا كَأَنَّمَا فِيهَا السَّفَافِيدُ، وَهِيَ بِمُهْمَلَةٍ وَفَاءَيْنِ جَمْعُ: سَفُّودٍ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يُدْخَلُ فِي الشَّاةِ إِذَا أُرِيدَ أَنْ تُشْوَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ: فَيُوضَعُ الصِّرَاطُ، وَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ رَبُّهُمْ.
فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ: إِذَا تَعَرَّفَ لَنَا عَرَفْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ يَطْلُعُ عز وجل عَلَيْهِمْ، فَيُعَرِّفُهُمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّبِعُونِي، فَيَتْبَعُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَيُعَرِّفُهُمْ نَفْسَهُ، أَيْ يُلْقِي فِي قُلُوبِهِمْ عِلْمًا قَطْعِيًّا يَعْرِفُونَ بِهِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ سبحانه وتعالى. وَقَالَ الْكَلَابَاذِيُّ فِي مَعَانِي الْأَخْبَارِ: عَرَفُوهُ بِأَنْ أَحْدَثَ فِيهِمْ لَطَائِفَ عَرَّفَهُمْ بِهَا نَفْسَهُ، وَمَعْنَى كَشْفِ السَّاقِ زَوَالُ الْخَوْفِ وَالْهَوْلِ الَّذِي غَيَّرَهُمْ حَتَّى غَابُوا عَنْ رُؤْيَةِ عَوْرَاتِهِمْ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: ثُمَّ نَرْفَعُ رُءُوسَنَا وَقَدْ عَادَ لَنَا فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَيْنَاهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَنَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ رَبُّنَا، وَهَذَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ فِي أَوَّلِ مَا حُشِرُوا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ الرُّؤْيَةُ غَيْرُ الَّتِي تَقَعُ فِي الْجَنَّةِ إِكْرَامًا لَهُمْ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لِلِامْتِحَانِ، وَتِلْكَ لِزِيَادَةِ الْإِكْرَامِ كَمَا فُسِّرَتْ بِهِ:{الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، قَالَ: وَلَا إِشْكَالَ فِي حُصُولِ الِامْتِحَانِ فِي الْمَوْقِفِ؛ لِأَنَّ آثَارَ التَّكَالِيفِ لَا تَنْقَطِعُ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا حَجَبَ عَنْهُمْ تَحَقُّقَ رُؤْيَتِهِ أَوَّلًا لِمَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ رُؤْيَتَهُ، فَلَمَّا تَمَيَّزُوا رَفَعَ الْحِجَابَ فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ: أَنْتَ رَبُّنَا.
قُلْتُ: وَإِذَا لُوحِظَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا تَعَرَّفَ لَنَا عَرَفْنَاهُ، وَمَا ذَكَرْتُ مِنْ تَأْوِيلِهِ ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَالْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ أَنْ لَا يَقَعَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا يُخَصُّ بِالْأُخْرَى، فَإِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ الِابْتِلَاءُ وَالْفِتْنَةُ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّكْلِيفَ خَاصٌّ بِالدُّنْيَا، وَمَا يَقَعُ فِي الْقَبْرِ وَفِي الْمَوْقِفِ هِيَ آثَارُ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الزِّيَادَةِ ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُسْلِمِينَ:
ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ إِلَى نُورِكُمْ بِقَدْرِ أَعْمَالِكُمْ. وَفِي لَفْظٍ: فَيُعْطَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ وَدُونَ ذَلِكَ، وَمِثْلَ النَّخْلَةِ وَدُونَ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ: وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ نُورًا - إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يُطْفئ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ: فَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ نُورًا، ثُمَّ يُوَجَّهُونَ إِلَى الصِّرَاطِ فَمَا كَانَ مِنْ مُنَافِقٍ طُفِئَ نُورُهُ، وَفِي لَفْظِ: فَإِذَا اسْتَوَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللَّهُ نُورَ الْمُنَافِقِينَ فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الْآيَةَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: وَإِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَوَاطِنَ حَتَّى يَغْشَى النَّاسَ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَتَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، فَتَغْشَى النَّاسَ الظُّلْمَةُ، فَيُقْسَمُ النُّورُ، فَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنُ، وَلَا يُعْطَى الْكَافِرُ وَلَا الْمُنَافِقُ مِنْهُ شَيْئًا، فَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الْآيَةَ. فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قُسِمَ فِيهِ النُّورُ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا، فَيُضْرَبُ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ.
قَوْلُهُ (فَيَتْبَعُونَهُ) قَالَ عِيَاضٌ: أَيْ فَيَتْبَعُونَ أَمْرَهُ، أَوْ مَلَائِكَتَهُ الَّذِينَ وُكِّلُوا بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ، فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ.
(تَنْبِيهٌ): حَذَفَ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي ذِكْرِ الشَّفَاعَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، كَمَا حَذَفَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَا ثَبَتَ هُنَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْمَوْقِفِ، فَيَنْتَظِمُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُمْ إِذَا حُشِرُوا وَقَعَ مَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ تَسَاقُطِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، وَيَبْقَى مَنْ عَدَاهُمْ فِي كَرْبِ الْمَوْقِفِ فَيَسْتَشْفِعُونَ، فَيَقَعُ الْإِذْنُ بِنَصْبِ الصِّرَاطِ فَيَقَعُ الِامْتِحَانُ بِالسُّجُودِ لِيَتَمَيَّزَ الْمُنَافِقُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، ثُمَّ يَجُوزُونَ عَلَى الصِّرَاطِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هُنَا: ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ.
قَوْلُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: يَجُوزُ بِأُمَّتِهِ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: يُجِيزُهَا، وَالضَّمِيرُ لِجَهَنَّمَ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: جَازَ الْوَادِيَ: مَشَى فِيهِ، وَأَجَازَهُ: قَطَعَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: جَازَ وَأَجَازَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْنَى: أَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يَمْضِي عَلَى الصِّرَاطِ وَيَقْطَعُهُ، يَقُولُ: جَازَ الْوَادِيَ وَأَجَازَهُ إِذَا قَطَعَهُ وَخَلَّفَهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ هُنَا لِلتَّعَدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هُوَ وَأُمَّتُهُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ عَلَى الصِّرَاطِ، لَزِمَ تَأْخِيرُ غَيْرِهِمْ عَنْهُمْ، حَتَّى يَجُوزَ، فَإِذَا جَازَ هُوَ وَأُمَّتُهُ فَكَأَنَّهُ أَجَازَ بَقِيَّةَ النَّاسِ. انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ: ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: أَيْنَ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ؟ فَيَقُومُ فَتَتْبَعُهُ أُمَّتُهُ بَرُّهَا وَفَاجِرُهَا، فَيَأْخُذُونَ الْجِسْرَ، فَيَطْمِسُ اللَّهُ أَبْصَارَ أَعْدَائِهِ، فَيَتَهَافَتُونَ مِنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، وَيَنْجُو النَّبِيُّ وَالصَّالِحُونَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ: نَحْنُ آخِرُ الْأُمَمِ وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ، وَفِيهِ: فَتُفْرَجُ لَنَا الْأُمَمُ عَنْ طَرِيقِنَا فَنَمُرُّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الطُّهُورِ، فَتَقُولُ الْأُمَمُ: كَادَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ.
قَوْلُهُ: وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: وَلَا يُكَلِّمُهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ: وَقَوْلُهُمُ اللَّهُمَّ: سَلِّمْ سَلِّمْ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ: شِعَارُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الصِّرَاطِ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَالضَّمِيرُ فِي الْأَوَّلِ لِلرُّسُلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْكَلَامِ شِعَارَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْطِقُوا بِهِ، بَلْ تَنْطِقُ بِهِ الرُّسُلُ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالسَّلَامَةِ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ شِعَارًا لَهُمْ، فَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الْأَخْبَارُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ: فَعِنْدَ ذَلِكَ حَلَّتِ الشَّفَاعَةُ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ والرِّكَابِ، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَعًا: فَيَمُرُّ أَوَّلُهُمْ كَمَرِّ الْبَرْقِ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّحَالِ
تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَيُوضَعُ الصِّرَاطُ، فَيَمُرُّ عَلَيْهِ مِثْلُ جِيَادِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ثُمَّ يُقَالُ لَهُمُ: انْجُوا عَلَى قَدْرِ نُورِكُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، ثُمَّ كَالْبَرْقِ، ثُمَّ كَالسَّحَابِ، ثُمَّ كَانْقِضَاضِ الْكَوْكَبِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، ثُمَّ كَشَدِّ الْفَرَسِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّحْلِ، حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ الَّذِي أُعْطِيَ نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ، يَحْبُو عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، يَجُرُّ بِيَدٍ وَيَعْلَقُ يَدٌ، وَيَجُرُّ بِرِجْلٍ وَيَعْلَقُ رِجْلٌ،
وَتَضْرِبُ جَوَانِبَهُ النَّارُ، حَتَّى يَخْلُصَ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزَّعْرَاءِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَمَرِّ الْبَرْقِ، ثُمَّ الرِّيحِ، ثُمَّ الطَّيْرِ، ثُمَّ أَجْوَدِ الْخَيْلِ، ثُمَّ أَجْوَدِ الْإِبِلِ، ثُمَّ كَعَدْوِ الرَّجُلِ، حَتَّى إِنَّ آخِرَهُمْ رَجُلٌ نُورُهُ عَلَى مَوْضِعِ إِبْهَامَيْ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ يَتَكَفَّأُ بِهِ الصِّرَاطُ، وَعِنْدَ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: بَعْدَ الرِّيحِ، ثُمَّ كَأَسْرَعِ الْبَهَائِمِ، حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ سَعْيًا، ثُمَّ مَشْيًا، ثُمَّ آخِرُهُمْ يَتَلَبَّطُ عَلَى بَطْنِهِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لِمَ أَبْطَأْتَ بِي؟ فَيَقُولُ: أَبْطَأَ بِكَ عَمَلُكَ، وَلِابْنِ الْمُبَارَكَ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ: فَيَجُوزُ الرَّجُلُ كَالطَّرْفِ وَكَالسَّهْمِ، وَكَالطَّائِرِ السَّرِيعِ. وَكَالْفَرَسِ الْجَوَادِ الْمُضَمَّرِ. وَيَجُوزُ الرَّجُلُ يَعْدُو عَدْوًا وَيَمْشِي مَشْيًا حَتَّى يَكُونَ آخِرُ مَنْ يَنْجُو يَحْبُو.
قَوْلُهُ: وَبِهِ كَلَالِيبُ: الضَّمِيرُ لِلصِّرَاطِ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ، وَفِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَعًا: وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، وَفِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ: وَعَلَيْهِ كَلَالِيبُ النَّارِ، وَكَلَالِيبُ جَمْعُ كَلُّوبٍ بِالتَّشْدِيدِ وَتَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَبَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْكَلَالِيبُ هِيَ الشَّهَوَاتُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي: حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، قَالَ: فَالشَّهَوَاتُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَوَانِبِهَا، فَمَنِ اقْتَحَمَ الشَّهْوَةَ سَقَطَ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّهَا خَطَاطِيفُهَا، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَيَقُومَانِ جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، أَيْ: يَقِفَانِ فِي نَاحِيَتَيِ الصِّرَاطِ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالنُّونِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَيَجُوزُ سُكُونُ النُّونِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَمَانَةَ وَالرَّحِمَ لِعِظَمِ شَأْنِهِمَا وَفَخَامَةِ مَا يَلْزَمُ الْعِبَادُ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّهِمَا يُوقَفَانِ هُنَاكَ لِلْأَمِينِ وَالْخَائِنِ وَالْمُوَاصِلِ وَالْقَاطِعِ، فَيُحَاجَّانِ عَنِ الْمُحِقِّ، وَيَشْهَدَانِ عَلَى الْمُبْطِلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ مَا فِي قَوْلِهِ: - تَعَالَى -: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الْآيَةَ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ مَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} فَيَدْخُلُ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُمَا اكْتَنَفَتَا جَنْبَتَيِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَفُطْرَتَيِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ.
قَوْلُهُ: مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ بِالسِّينِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَالسَّعْدَانُ جَمْعُ سَعْدَانَةٍ، وَهُوَ نَبَاتٌ ذُو شَوْكٍ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي طِيبِ مَرْعَاهُ قَالُوا: مَرْعًى وَلَا كَالسَّعْدَانِ.
قَوْلُهُ: أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ هُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: غَيْرَ أَنَّهَا لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، أَيِ الشَّوْكَةِ، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: غَيْرَ أَنَّهُ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَيَّدْنَاهُ - أَيْ لَفْظَ قَدْرٍ - عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا بِضَمِّ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ اسْتِفْهَامًا، وَقَدْرُ مُبْتَدَأٌ، وَبِنَصْبِهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا زَائِدَةً، وَقَدْرُ مَفْعُولَ يَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: فَتَخْطِفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، بِكَسْرِ الطَّاءِ وَبِفَتْحِهَا، قَالَ ثَعْلَبٌ فِي الْفَصِيحِ: خَطِفَ بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي، وَبِالْفَتْحِ فِي الْمُضَارِعِ، وَحَكَى الْقَزَّازُ عَكْسَهُ، وَالْكَسْرُ فِي الْمُضَارِعِ أَفْصَحُ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: تَشْبِيهُ الْكَلَالِيبِ بِشَوْكِ السَّعْدَانِ خَاصٌّ بِسُرْعَةِ اخْتِطَافِهَا وَكَثْرَةِ الِانْتِشَابِ فِيهَا، مَعَ التَّحَرُّزِ وَالتَّصَوُّنِ تَمْثِيلًا لَهُمْ بِمَا عَرَفُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَلِفُوهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى إِشَارَةً إِلَى أَنَّ التَّشْبِيهَ لَمْ يَقَعْ فِي مِقْدَارِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ السُّدِّيِّ: وَبِحَافَتَيْهِ مَلَائِكَةٌ مَعَهُمْ كَلَالِيبُ مِنْ نَارٍ، يَخْتَطِفُونَ بِهَا النَّاسَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: قُلْنَا وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، أَيْ:
زَلِقٌ تَزْلَقُ فِيهِ الْأَقْدَامُ، وَيَأْتِي ضَبْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الصِّرَاطَ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْدَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ: بَلَغَنِي، وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَجْزُومًا بِهِ، وَفِي سَنَدِهِ لِينٌ، وَلِابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: إِنَّ الصِّرَاطَ مِثْلُ السَّيْفِ وَبِجَنْبَتَيْهِ كَلَالِيبُ، إِنَّهُ لَيُؤْخَذُ بِالْكَلُّوبِ الْوَاحِدِ أَكْثَرَ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِيهِ: وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى جَنْبَتَيْهِ يَقُولُونَ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَجَاءَ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الصِّرَاطَ مَسِيرَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَنَةٍ، خَمْسةُ آلَافٍ صُعُودٌ وَخَمْسَةُ آلَافٍ هُبُوطٌ وَخَمْسَةُ آلَافٍ مُسْتَوَى، أَدَقُّ مِنَ
الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ إِلَّا ضَامِرٌ مَهْزُولٌ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَهَذَا مُعْضَلٌ لَا يَثْبُتُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الصِّرَاطَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَلِبَعْضِ النَّاسِ مِثْلُ الْوَادِي الْوَاسِعِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ: تُمَثَّلُ النَّارُ لِلنَّاسِ ثُمَّ يُنَادِيهَا مُنَادٍ: أَمْسِكِي أَصْحَابَكِ وَدَعِي أَصْحَابِي، فَتَخْسِفُ بِكُلِّ وَلِيٍّ لَهَا، فَهِيَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنَ الرَّجُلِ بِوَلَدِهِ، وَيَخْرُجُ الْمُؤْمِنُونَ نَدِيَّةً ثِيَابُهُمْ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَعَ كَوْنِهِ مَقْطُوعًا.
قَوْلُهُ: مِنْهُمُ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ، فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: مَنْ يُوبَقُ، وَهُمَا بِالْمُوَحَّدَةِ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ، وَلِبَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ: الْمُوثَقُ، بِالْمُثَلَّثَةِ مِنَ: الْوَثَائِقِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ رِوَايَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الْآتِيَةَ فِي التَّوْحِيدِ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ - بِكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ - بَقِيَ بِعَمَلِهِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَكَسْرِ الْقَافِ، مِنَ الْوِقَايَةِ أَيْ يَسْتُرُهُ عَمَلُهُ، وَفِي لَفْظِ بَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ: يَعْنِي بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ نُونٍ مَكْسُورَةٍ، بَدَلُ بَقِيَ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ: وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ هُنَا بِالْجِيمِ، وَكَذَا لِأَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَوَهَّاهُ عِيَاضٌ، وَالدَّالُ مُهْمَلَةٌ لِلْجَمِيعِ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ فِيهِ إِعْجَامَ الذَّالِ، وَرَجَّحَ ابْنُ قُرْقُولٍ الْخَاءَ الْمُعْجَمَةَ، وَالدَّالَ الْمُهْمَلَةَ، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ كَلَالِيبَ النَّارِ تَقْطَعُهُ فَيَهْوِي فِي النَّارِ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي بَانَتْ سُعَادُ قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ:
يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا
…
لَحْمٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
فَقَوْلُهُ: مَعْفُورٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ أَيْ وَاقِعٌ فِي التُّرَابِ، وَخَرَادِيلُ أَيْ هُوَ قِطَعٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَرْدَلِ، أَيْ: جُعِلَتْ أَعْضَاؤُهُ كَالْخَرْدَلِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَقْطَعُهُمْ عَنْ لُحُوقِهِمْ بِمَنْ نَجَا، وَقِيلَ: الْمُخَرْدَلُ الْمَصْرُوعُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: هُوَ أَنْسَبُ لِسِيَاقِ الْخَبَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ: فَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ أَوِ الْمُجَازَى أَوْ نَحْوُهُ، وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ: الْمُجَازَى، بِغَيْرِ شَكٍّ، وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ مِنَ الْجَزَاءِ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يَنْجُو) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: ثُمَّ يَنْجَلِي، بِالْجِيمِ، أَيْ: يَتَبَيَّنُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: يُخَلَّى عَنْهُ فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى يَنْجُو، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِي جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ أَحَدُهُمْ فَيُسْحَبُ سَحْبًا، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمَارِّينَ عَلَى الصِّرَاطِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: نَاجٍ بِلَا خُدُوشٍ، وَهَالِكٌ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَمُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا يُصَابُ، ثُمَّ يَنْجُو، وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْهَا يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا تُعْرَفُ بِقَوْلِهِ: بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ مَكْدُوسٍ؛ فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِالْمُهْمَلَةِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْمُعْجَمَةِ، وَمَعْنَاهُ: السُّوقُ الشَّدِيدُ، وَمَعْنَى الَّذِي بِالْمُهْمَلَةِ الرَّاكِبُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَقِيلَ: مُكَرْدَسٌ، وَالْمُكَرْدَسُ فَقَارُ الظَّهْرِ وَكَرْدَسَ الرَّجُلُ خَيْلَهُ: جَعَلَهَا كَرَادِيسَ، أَيْ فَرَّقَهَا، وَالْمُرَادُ
أَنَّهُ يَنْكَفِئُ فِي قَعْرِهَا. وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخِرَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: يُوضَعُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، عَلَى حَسَكٍ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ، ثُمَّ يَسْتَجِيزُ النَّاسُ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ بِهِ، ثُمَّ نَاجٍ وَمُحْتَبَسٌ بِهِ، وَمَنْكُوسٌ فِيهَا.
قَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ، كَذَا لِمَعْمَرٍ هُنَا، وَوَقَعَ لِغَيْرِهِ بَعْدَ هَذَا، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْفَرَاغُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى اللَّهِ مَعْنَاهُ الْقَضَاءُ وَحُلُولُهُ بِالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ: إِخْرَاجُ الْمُوَحِّدِينَ وَإِدْخَالُهُمُ الْجَنَّةَ وَاسْتِقْرَارُ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَعْنَى يَفْرُغُ اللَّهُ أَيْ مِنَ الْقَضَاءِ بِعَذَابِ مَنْ يَفْرُغُ عَذَابُهُ، وَمَنْ لَا يَفْرُغُ، فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْفَرَاغِ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَهَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: مَعْنَاهُ: وَصْلُ الْوَقْتِ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَرْحَمُهُمْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْمَاضِي فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ: أَنَّ الْإِخْرَاجَ يَقَعُ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبَّاهُ حَرَقْتَ بَنِيَّ فَيَقُولُ: أَخْرِجُوا، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ آدَمُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ قَدْ يَتَبَيَّنُ لَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ إِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا.
الْحَدِيثَ، هَكَذَا فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ الْآتِيَةِ فِي التَّوْحِيدِ، وَوَقَعَ فِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ بْنِ مَيْسَرَةَ اخْتِلَافٌ فِي سِيَاقِهِ، سَأُبَيِّنُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ شَفَعُوا، وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ رَفَعَهُ: يَدْخُلُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ النَّارَ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدُهُمْ إِلَّا اللَّهُ بِمَا عَصَوُا اللَّهَ وَاجْتَرَءُوا عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَخَالَفُوا طَاعَتَهُ، فَيُؤْذَنُ لِي فِي الشَّفَاعَةِ، فَأُثْنِي عَلَى اللَّهِ سَاجِدًا كَمَا أُثْنِي عَلَيْهِ قَائِمًا، فَيُقَالُ لِي: ارْفَعْ رَأْسَكَ، الْحَدِيثَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ تَشْفَعُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ ذِكْرُ سَبَبٍ آخَرَ لِإِخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ، وَلَفْظُهُ: وَفَرَغَ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ، وَأَدْخَلَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أُمَّتِي النَّارَ، مَعَ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُ أَهْلُ النَّارِ: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ اللَّهَ لَا تُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: فَبِعِزَّتِي لَأُعْتِقَنَّهُمْ مِنَ النَّارِ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ فَيُخْرَجُونَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَالْبَزَّارِ رَفَعَهُ وَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ وَمَعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يَقُولُ لَهُمُ الْكُفَّارُ: أَلَمْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ؟ قَالُوا: بَلَى.
قَالُوا: فَمَا أَغْنَى عَنْكُمْ إِسْلَامُكُمْ، وَقَدْ صِرْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ؟ فَقَالُوا: كَانَتْ لَنَا ذُنُوبٌ، فَأُخِذْنَا بِهَا، فَيَأْمُرُ اللَّهُ: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَأُخْرِجُوا، فَقَالَ الْكُفَّارُ يَا لَيْتَنَا كُنَّا مُسْلِمِينَ، وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: ثُمَّ يُقَالُ: ادْعُوا الْأَنْبِيَاءَ، فَيَشْفَعُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: ادْعُوا الصِّدِّيقِينَ، فَيَشْفَعُونَ، ثُمَّ يُقَالُ ادْعُوا الشُّهَدَاءَ، فَيَشْفَعُونَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ مَرْفُوعًا: يُحْمَلُ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَيُنْجِي اللَّهُ مَنْ شَاءَ بِرَحْمَتِهِ، ثُمَّ يُؤْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ لِلْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ، فَيَشْفَعُونَ وَيَخْرُجُونَ.
قَوْلُهُ: مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمْ يَذْكُرِ الرِّسَالَةَ إِمَّا لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَلَازَمَا فِي النُّطْقِ غَالِبًا وَشَرْطًا اكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَوْلَى، أَوْ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَغَيْرُهَا، وَلَوْ ذُكِرَتِ الرِّسَالَةُ لَكَثُرَ تَعْدَادُ الرُّسُلِ قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيُعَكِّرُ عَلَى الثَّانِي أَنَّهُ يُكْتَفَى بِلَفْظٍ جَامِعٍ، كَأَنْ يَقُولَ مَثَلًا: وَنُؤْمِنُ بِرُسُلِهِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِهِ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ لَمْ يُؤْمِنْ بِغَيْرِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ مَنْ جَحَدَ الرِّسَالَةَ
كَذَّبَ اللَّهَ، وَمَنْ كَذَّبَ اللَّهَ لَمْ يُوَحِّدْهُ.
قَوْلُهُ: أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الشَّفَاعَةِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ: فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجهُمْ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤْمَرُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ بِذَلِكَ، فَالَّذِينَ يُبَاشِرُونَ الْإِخْرَاجَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَوَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا بَعْدَ قَوْلِهِ: ذَرَّةٌ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا وَفِيهِ: فَيَقُولُ اللَّهُ: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، وَفِي حَدِيثِ مَعْبَدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي وَجِبْرِيَائِي لَأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي التَّوْحِيدِ.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا أُخْرِجُ بِعِلْمِي وَبِرَحْمَتِي، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَدْخِلُوا جَنَّتِي مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ كُلَّ مَا قُدِّرَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمِقْدَارِ شَعِيرَةٍ ثُمَّ حَبَّةٍ ثُمَّ خَرْدَلَةٍ ثُمَّ ذَرَّةٍ غَيْر الْإِيمَانِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ، بَلْ هُوَ مَا يُوجَدُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ازْدِيَادُ الْيَقِينِ وَطُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ لِأَنَّ تَضَافُرَ الْأَدِلَّةِ أَقْوَى لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَأَثْبَتُ لِعَدَمِهِ، وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ الْعَمَلُ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِالْعَمَلِ، وَيَنْصُرُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَقَوْلُهُ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، أَيْ أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِاسْمِي، وَإِجْلَالًا لِتَوْحِيدِي، وَهُوَ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي: أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى عُمُومِهِ، وَيُحْمَلَ عَلَى حَالٍ وَمَقَامٍ آخَرَ قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا فَسَّرْنَا مَا يَخْتَصُّ بِاللَّهِ بِالتَّصْدِيقِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الثَّمَرَةِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِرَسُولِهِ هُوَ الْإِيمَانُ مَعَ الثَّمَرَةِ مِنِ ازْدِيَادِ الْيَقِينِ أَوِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ حَصَلَ الْجَمْعُ قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ مُبَاشَرَةُ الْإِخْرَاجِ لَا أَصْلَ الشَّفَاعَةِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الشَّفَاعَةُ الْأَخِيرَةُ وَقَعَتْ فِي إِخْرَاجِ الْمَذْكُورِينَ، فَأُجِيبَ إِلَى أَصْلِ الْإِخْرَاجِ، وَمُنِعَ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ، فَنُسِبَتْ إِلَى شَفَاعَتِهِ فِي حَدِيثِ: أَسْعَدُ
النَّاسِ لِكَوْنِهِ ابتداء بِطَلَبِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. وَقَدْ مَضَى شَرْحُ حَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مُسْتَوْفًى.
قَوْلُهُ: فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ آثَارِ السُّجُودِ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: تُعْرَفُ صِفَةُ هَذَا الْأَثَرِ مِمَّا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} لِأَنَّ وُجُوهَهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا النَّارُ فَتَبْقَى صِفَتُهَا بَاقِيَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ يَعْرِفُونَهُمْ بِالْغُرَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهَذِهِ الْأَمَةِ، وَالَّذِينَ يُخْرَجُونَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ
قَوْلُهُ: (وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ) هُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: كَيْفَ يَعْرِفُونَ أَثَرَ السُّجُودِ مَعَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أَذِنَ اللَّهُ بِالشَّفَاعَةِ، فَإِذَا صَارُوا فَحْمًا كَيْفَ يَتَمَيَّزُ مَحَلُّ السُّجُودِ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى يُعْرَفَ أَثَرُهُ؟ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ تَخْصِيصُ أَعْضَاءِ السُّجُودِ مِنْ عُمُومِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ مَنَعَ النَّارَ أَنْ تُحْرِقَ أَثَرَ السُّجُودِ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَهَلِ الْمُرَادُ بِأَثَرِ السُّجُودِ نَفْسُ الْعُضْوِ الَّذِي يَسْجُدُ أَوِ الْمُرَادُ مَنْ سَجَدَ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ؛ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُذْنِبِينَ مُخَالِفٌ لِعَذَابِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهَا لَا تَأْتِي عَلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهِمْ إِمَّا إِكْرَامًا لِمَوْضِعِ السُّجُودِ وَعِظَمِ مَكَانِهِمْ مِنَ الْخُضُوعِ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَوْ لِكَرَامَةِ تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي خُلِقَ آدَمُ وَالْبَشَرُ عَلَيْهَا وَفُضِّلُوا بِهَا عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ.
قُلْتُ: الْأَوَّلُ مَنْصُوصٌ وَالثَّانِي مُحْتَمَلٌ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصُّورَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْمُؤْمِنِينَ؛ فَلَوْ كَانَ الْإِكْرَامُ لِأَجْلِهَا لَشَارَكَهُمُ الْكُفَّارُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ جَمِيعَ أَعْضَاءِ السُّجُودِ السَّبْعَةِ، وَهِيَ الْجَبْهَةُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ، وَبِهَذَا جَزَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: ذِكْرُ الصُّورَةِ وَدَارَاتِ الْوُجُوهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَثَرِ السُّجُودِ الْوَجْهُ خَاصَّةً، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يَشْمَلُ الْأَعْضَاءَ السَّبْعَةَ، وَيُؤَيِّدُ اخْتِصَاصَ الْوَجْهِ أَنَّ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ.
أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَفِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: وَإِلَى حِقْوِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَا أَنْكَرَهُ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي مُسْلِمٍ: إِنَّ قَوْمًا يُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ يَحْتَرِقُونَ فِيهَا إِلَّا دَارَاتُ وُجُوهِهِمْ؛ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ خَاصًّا بِهِمْ وَغَيْرُهُ عَامًّا فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا مَا خُصَّ مِنْهُ.
قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يُخَصُّونَ بِأَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ وُجُوهَهُمْ كُلَّهَا وَأَنَّ غَيْرَهُمْ لَا تَأْكُلُ مِنْهُمْ مَحَلَّ السُّجُودِ خَاصَّةً وَهُوَ الْجَبْهَةُ سَلِمَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ، وَإِلَّا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ مَا قَالَ الْقَاضِي فِي حَقِّ الْجَمِيعِ إِلَّا هَؤُلَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَامَتُهُمُ الْغُرَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَمَّنْ قَالَهُ، وَمَا تَعَقَّبَهُ بِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَيُضَافُ إِلَيْهَا التَّحْجِيلُ، وَهُوَ فِي الْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ مِمَّا يَصِلُ إِلَيْهِ الْوُضُوءُ، فَيَكُونُ أَشْمَلَ مِمَّا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ جِهَةِ دُخُولِ جَمِيعِ الْيَدَيْنِ وَالرَّجُلَيْنِ، لَا تَخْصِيصِ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَلَكِنْ يَنْقُصُ مِنْهُ الرُّكْبَتَانِ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَاضِي مِنْ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ لَا يَمْنَعُ سَلَامَةَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مَعَ الِانْغِمَارِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ الْأُخْرَوِيَّةَ خَارِجَةٌ عَلَى قِيَاسِ أَحْوَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَدَلَّ التَّنْصِيصُ عَلَى دَارَاتِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْوَجْهَ كُلَّهُ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النَّارُ إِكْرَامًا لِمَحَلِّ السُّجُودِ، وَيُحْمَلُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا عَلَى التَّنْوِيهِ بِهَا لِشَرَفِهَا، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا وَلَكِنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي لَا يَخْرُجُ إِذْ لَا عَلَامَةَ لَهُ، لَكِنْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ يُخْرَجُ فِي الْقَبْضَةِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي فِي التَّوْحِيدِ، وَهَلِ الْمُرَادُ بِمَنْ يُسْلَمُ مِنَ الْإِحْرَاقِ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ أَوْ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ؟ الثَّانِي أَظْهَرُ لِيَدْخُلَ فِيهِ مَنْ أَسْلَمَ مَثَلًا وَأَخْلَصَ فَبَغَتَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، وَوَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي رحمه الله تَعَالَى - وَلَمْ
أَسْمَعْهُ مِنْهُ مِنْ نَظْمِهِ مَا يُوَافِقُ مُخْتَارَ النَّوَوِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
يَا رَبِّ أَعْضَاءَ السُّجُودِ عَتَقْتَهَا
…
مِنْ عَبْدِكَ الْجَانِي وَأَنْتَ الْوَاقِي
وَالْعِتْقُ يَسْرِي بِالْغَنِي يَا ذَا الْغِنَى
…
فَامْنُنْ عَلَى الْفَانِي بِعِتْقِ الْبَاقِي
قَوْلُهُ: فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتَحَشُوا، هَكَذَا وَقَعَ هُنَا، وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي التَّوْحِيدِ عَنْ يَحْيَى بْنِ، بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ بِسَنَدِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِلْحَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ: فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا لَيْسَ فِيهِ: قَدِ امْتَحَشُوا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: فَيَقْبِضُ قَبْضَةً، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ مِنْ رِوَايَةِ رَوْحٍ بْنِ الْفَرَجِ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي أَيُّوبَ الْعَلَّافِ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الِامْتِحَاشَ يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْقَبْضَةِ، وَالتَّحْرِيمُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ صُورَةَ الْخَارِجِينَ أَوَّلًا قَبْلَهُمْ مِمَّنْ عَمِلَ الْخَيْرَ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ ضَبْطُ: امْتَحَشُوا وَأَنَّهُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، أَيِ: احْتَرَقُوا وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَالْمَحْشُ احْتِرَاقُ الْجِلْدِ وَظُهُورُ الْعَظْمِ، قَالَ عِيَاضٌ: ضَبَطْنَاهُ عَنْ مُتْقِنِي شُيُوخِنَا وَهُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ امْتَشَحَهُ مُتَعَدِّيًا، وَإِنَّمَا سُمِعَ لَازِمًا مُطَاوِعَ مَحَشْتُهُ، يُقَالُ: مَحَشْتُهُ، وَأَمْحَشْتُهُ، وَأَنْكَرَ يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ الثُّلَاثِيَّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَمْحَشْتُهُ فَامْتُحِشَ، وَأَمْحَشَهُ الْحَرُّ أَحْرَقَهُ، وَالنَّارُ أَحْرَقَتْهُ،
وَامْتَحَشَ هُوَ غَضَبًا، وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ: وَالِامْتِحَاشُ: الِاحْتِرَاقُ.
قَوْلُهُ: فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، وَالْأَفْوَاهُ جَمْعُ فَوْهَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَوَائِلُ، وَتَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ أَوِ الْحَيَاءِ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: عَلَى نَهَرٍ يُقَالُ لَهُ: الْحَيَوَانُ أَوِ الْحَيَاةُ، وَفِي أُخْرَى لَهُ: فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الْحَيَاةِ، وَفِي تَسْمِيَةِ ذَلِكَ النَّهَرِ بِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَحْصُلُ لَهُمُ الْفَنَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ، بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَنَّهَا بُزُورُ الصَّحْرَاءِ، وَالْجَمْعُ حِبَبٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مِثْلُهَا، وَأَمَّا الْحَبَّةُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ مَا يَزْرَعُهُ النَّاسُ فَجَمْعُهَا: حُبُوبٌ بِضَمَّتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَّتَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: كَمَا تَنْبُتُ الْغُثَاءَةُ، بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ هَمْزَةٌ، ثُمَّ هَاءُ تَأْنِيثٍ، هُوَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَا حَمَلَهُ السَّيْلُ مِنْ عِيدَانٍ وَوَرَقٍ وَبُزُورٍ وَغَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا حَمَلَهُ مِنَ الْبُزورِ خَاصَّةً.
قَوْلُهُ: فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ، أَيْ: مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ الْمُشَارِ إِلَيْهَا: إِلَى جَانِبِ السَّيْلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْغُثَاءَ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ السَّيْلُ يَكُونُ فِيهِ الْحِبَّةُ فَيَقَعُ فِي جَانِبِ الْوَادِي فَتُصْبِحُ مِنْ يَوْمِهَا نَابِتَةً، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فِي حَمِئَةِ السَّيْلِ، بَعْدَ الْمِيمِ هَمْزَةٌ ثُمَّ هَاءٌ، وَقَدْ تُشْبَعُ الْمِيمُ فَيَصِيرُ بِوَزْنِ عَظِيمَةٍ، وَهُوَ مَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ مِنَ الطِّينِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ النَّبْتُ غَالِبًا. قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سُرْعَةِ نَبَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَبَّةَ أَسْرَعُ فِي النَّبَاتِ مِنْ غَيْرِهَا، وَفِي السَّيْلِ أَسْرَعُ؛ لِمَا يَجْتَمِعُ فِيهِ مِنَ الطِّينِ الرَّخْوِ الْحَادِثِ مَعَ الْمَاءِ مَعَ مَا خَالَطَهُ مِنْ حَرَارَةِ الزِّبْلِ الْمَجْذُوبِ مَعَهُ، قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَارِفًا بِجَمِيعِ أُمُورِ الدُّنْيَا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اقْتَصَرَ الْمَازِرِيُّ عَلَى أَنَّ مَوْقِعَ التَّشْبِيهِ السُّرْعَةُ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ نَوْعٌ آخَرُ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: أَلَّا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ مَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الشَّمْسِ أَصْفَرُ وَأَخْضَرُ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا يَكُونُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَلِي الْجَنَّةَ يَسْبِقُ إِلَيْهِ الْبَيَاضُ الْمُسْتَحْسَنُ، وَمَا يَكُونُ مِنْهُمْ إِلَى جِهَةِ النَّارِ يَتَأَخَّرُ النُّصُوعُ عَنْهُ، فَيَبْقَى أُصَيْفِرَ وَأُخَيْضِرَ إِلَى أَنْ يَتَلَاحَقَ الْبَيَاضُ وَيَسْتَوِيَ الْحُسْنُ وَالنُّورُ وَنَضَارَةُ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُبَاشِرُ الْمَاءَ يَعْنِي الَّذِي يُرَشُّ عَلَيْهِمْ يُسْرِعُ نَصُوعُهُ، وَإنَّ غَيْرَهُ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ النُّصُوعُ، لَكِنَّهُ يُسْرِعُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: وَيَبْقَى رَجُلٌ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ، هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي آخِرِ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَوَقَعَ فِي وَصْفِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ كَانَ نَبَّاشًا، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: أَحْرِقُونِي
…
الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: كَانَ نَبَّاشًا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي عَوَانَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَفِيهِ: ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: انْظُرُوا هَلْ بَقِيَ فِي النَّارِ أَحَدٌ عَمِلَ خَيْرًا قَطُّ؟ فَيَجِدُونَ رَجُلًا فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُسَامِحُ النَّاسَ فِي الْبَيْعِ، الْحَدِيثَ وَفِيهِ: ثُمَّ يُخْرِجُونَ مِنَ النَّارِ رَجُلًا آخَرَ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا غَيْرَ أَنِّي أَمَرْتُ وَلَدِي إِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي. الْحَدِيثَ.
وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ: كَانَ يَسْأَلُه اللَّهَ أَنْ يُجِيرَهُ مِنَ النَّارِ، وَلَا يَقُولُ: أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، أَخْرَجَهُ الْحُسَيْنُ الْمَرْوَزِيُّ فِي زِيَادَاتِ الزُّهْدِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ الْأَشْجَعِيِّ رَفَعَهُ: قَدْ عَلِمْتُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ رَجُلٌ كَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُجِيرَهُ مِنَ النَّارِ، وَلَا يَقُولُ: أَدْخِلْنِي
الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ بَقِيَ بَيْنَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَرِّبْنِي مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ أَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَجِدُ مِنْ رِيحِهَا، فَيُقَرِّبُهُ، فَيَرَى شَجَرَةً
…
الْحَدِيثَ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا. وَهَذَا يُقَوِّي التَّعَدُّدَ، لَكِنَّ الْإِسْنَادَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ ذَكَرْتُ عَنْ عِيَاضٍ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ السَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ هَلْ هُوَ آخِرُ مَنْ يَبْقَى عَلَى الصِّرَاطِ أَوْ هُوَ غَيْرُهُ، وَإِنِ اشْتَرَكَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي أَنَّهُ آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَوَقَعَ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ لِلتِّرْمِذِيِّ الْحَكِيمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَطْوَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا مُكْثًا مَنْ يَمْكُثُ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ، وَسَنَدُ هَذَا الْحَدِيثِ وَاهٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَشَارَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ إِلَى الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ آخِرِ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ الْمَاضِي، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهَا حَقِيقَةً وَبَيْنَ آخِرِ مَنْ يَخْرُجُ مِمَّنْ يَبْقَى مَارًّا عَلَى الصِّرَاطِ فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ النَّارِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَهُ مِنْ حَرِّهَا وَكَرْبِهَا مَا يُشَارِكُ بِهِ بَعْضَ مَنْ دَخَلَهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَكَمِ وَهُوَ وَاهٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: إِنَّ آخِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ يُقَالُ لَهُ جُهَيْنَةُ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: عِنْدَ جُهَيْنَةَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ جَاءَ أَنَّ اسْمَهُ هَنَّادٌ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَالْآخَرُ لِلْآخَرِ.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُ يَا رَبِّ، فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فِي التَّوْحِيدِ: أَيْ رَبِّ.
قَوْلُهُ: قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، بِقَافٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ مُخَفَّفًا - وَحُكِيَ التَّشْدِيدُ - ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَشَبَهُ الدُّخَانُ إِذَا مَلَأَ خَيَاشِيمَهُ وَأَخَذَ يَكْظِمُهُ، وَأَصْلُ الْقَشْبِ خَلْطُ السَّمِّ بِالطَّعَامِ، يُقَالُ: قَشَبَهُ إِذَا سَمَّهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِيمَا إِذَا بَلَغَ الدُّخَانُ وَالرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ مِنْهُ غَايَتَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى قَشَبَنِي: سَمَّنِي وَآذَانِي وَأَهْلَكَنِي، هَكَذَا قَالَهُ جَمَاهِيرُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ: غَيَّرَ جِلْدِي وَصُورَتِي. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى حُسْنُ قَوْلِ الْخَطَّابِيِّ، وَأَمَّا الدَّاوُدِيُّ فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُ الْأَلْفَاظَ الْغَرِيبَةَ بِلَوَازِمِهَا، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى أُصُولِ مَعَانِيهَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: إِذَا فَسَّرْنَا الْقَشْبَ بِالنَّتِنِ وَالْمُسْتَقْذَرِ كَانَتْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى طِيبِ رِيحِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ نَعِيمِهَا، وَعَكْسُهَا النَّارُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: قَشَبَ الشَّيْءَ خَلَطَهُ بِمَا يُفْسِدُهُ مِنْ سَمٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَشَبَ الْإِنْسَانَ لَطَّخَهُ بِسُوءٍ كَاغْتَابَهُ وَعَابَهُ، وَأَصْلُهُ السَّمُّ فَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى أَصَابَهُ الْمَكْرُوهَ إِذَا أَهْلَكَهُ أَوْ أَفْسَدَهُ أَوْ غَيَّرَهُ أَوْ أَزَالَ عَقْلَهُ، أَوْ تَقَذَّرَهُ هُوَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ: وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا) كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ هُنَا بِالْمَدِّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ ذَكَاهَا بِالْقَصْرِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: يُقَالُ: ذَكَتِ النَّارُ تَذْكُو ذَكًا بِالْقَصْرِ وَذُكُوًّا بِالضَّمِّ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ كَثُرَ لَهَبُهَا وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُهَا وَوَهَجُهَا، وَأَمَّا ذَكَا الْغُلَامُ ذَكَاءً بِالْمَدِّ فَمَعْنَاهُ: أَسْرَعَتْ فِطْنَتُهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَدُّ وَالْقَصْرُ لُغَتَانِ ذَكَرَهُ جِمَاعةٌ فِيهَا، وَتَعَقَّبَهُ مُغَلْطَايْ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّارِحِينَ لِدَوَاوِينِ الْعَرَبِ حِكَايَةُ الْمَدِّ إِلَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيِّ رَأْيُ فِي كِتَابِ النَّبَاتِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا ضَرَبَ الْعَرَبُ الْمَثَلَ بِجَمْرِ الْغَضَا لِذَكَائِهِ، قَالَ: وَتَعَقَّبَهُ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ فَقَالَ: ذَكَا النَّارُ مَقْصُورٌ وَيُكْتَبُ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ وَاوِيٌّ يُقَالُ: ذَكَتِ النَّارُ تَذْكُو ذَكَوًا وَذَكَاءً النَّارُ وَذُكْوُ النَّارِ بِمَعْنًى وَهُوَ الْتِهَابُهَا، وَالْمَصْدَرُ ذَكَاءٌ وَذَكْوٌ وَذُكُوٌّ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ، فَأَمَّا الذَّكَاءُ بِالْمَدِّ فَلَمْ يَأْتِ عَنْهُمْ فِي النَّارِ وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْفَهْمِ، وَقَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ فِي الْمَطَالِعِ: وَعَلَيْهِ يَعْتَمِدُ الشَّيْخُ، وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ: فَقَدْ أَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا بِالْمَدِّ وَالْمَعْرُوفُ فِي شِدَّةِ حَرِّ النَّارِ الْقَصْرُ إِلَّا أَنَّ الدِّينَوَرِيَّ ذَكَرَ فِيهِ الْمَدَّ وَخَطَّأَهُ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ، فَقَالَ: ذَكَتِ النَّارُ ذَكًا وَذُكُوًّا، وَمِنْهُ طِيبٌ ذَكِيٌّ مُنْتَشِرُ الرِّيحِ، وَأَمَّا الذَّكَاءُ بِالْمَدِّ فَمَعْنَاهُ تَمَامُ الشَّيْءِ وَمِنْهُ ذَكَاءُ الْقَلْبِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْأَفْعَالِ: ذَكَا
الْغُلَامُ وَالْعَقْلُ أَسْرَعَ فِي الْفِطْنَةِ،
وَذَكَا الرَّجُلُ ذَكَاءً مِنْ حِدَّةِ فِكْرِهِ، وَذَكَتِ النَّارُ ذَكًا بِالْقَصْرِ: تَوَقَّدَتْ.
قَوْلُهُ: فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، قَدِ اسْتُشْكِلَ كَوْنُ وَجْهِهِ إِلَى جِهَةِ النَّارِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ طَالِبًا إِلَى الْجَنَّةِ فَوَجْهُهُ إِلَى الْجَنَّةِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَبْلُ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ عَلَى الصِّرَاطِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، فَكَأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ انْتَهَى إِلَى آخِرِهِ فَصَادَفَ أَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مِنْ قِبَلِ النَّارِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَرْفِهِ عَنْهَا بِاخْتِيَارِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: فَيُصْرَفُ وَجْهُهُ عَنِ النَّارِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: فَيَصْرِفُ اللَّهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ نَحْوَهُ أَنَّهُ: يَرْفَعُ لَهُ شَجَرَةً فَيَقُولُ: رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، فَيَقُولُ اللَّهُ: لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَدْنُو مِنْهَا وَأَنَّهُ يُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ أُخْرَى أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، وَيَقُولُ فِي الثَّالِثَةِ: ائْذَنْ لِي فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ عَنْهُ رَفَعَهُ: آخِرُ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ. وَنَحْوُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ صَرَفَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ قِبَلَ الْجَنَّةِ، وَمُثِّلَتْ لَهُ شَجَرَةٌ. وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هُنَا ذِكْرُ الشَّجَرَاتِ كَمَا سَقَطَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ طَلَبِ الْقُرْبِ مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا رَبِّ قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُ: أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ؟
قَوْلُهُ: لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ، فِي رِوَايَةِ التَّوْحِيدِ: فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ بِكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟ أَمَّا عَسَيْتُ فَفِي سِينِهَا الْوَجْهَانِ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ، وَجُمْلَةُ: أَنْ تَسْأَلَنِي هِيَ خَبَرُ عَسَى، وَالْمَعْنَى: هَلْ يُتَوَقَّعُ مِنْكَ سُؤَالُ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَادَةُ بَنِي آدَمَ، وَالتَّرَجِّي رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطَبِ لَا إِلَى الرَّبِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِرْخَاءِ الْعَنَانِ إِلَى الْخَصْمِ لِيَبْعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِهِ وَالْإِنْصَافِ مِنْ نَفْسِهِ.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ فَيُعْطِي اللَّهَ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ شَاءَ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ أَوِ اللَّهَ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: إِنَّمَا بَادَرَ لِلْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ لِمَا وَقَعَ لَهُ مِنْ قُوَّةِ الْفَرَحِ بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ فَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ لَا يَطْلُبَ مَزِيدًا وَأَكَّدَهُ بِالْحَلِفِ.
قَوْلُهُ: فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ، فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا وَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: مِنَ الْحَبْرَةِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَلِمُسْلِمٍ: الْخَيْرِ بِمُعْجَمَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ بِلَا هَاءٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَرَى مَا فِيهَا مِنْ خَارِجِهَا إِمَّا لِأَنَّ جِدَارَهَا شَفَّافٌ فَيَرَى بَاطِنَهَا مِنْ ظَاهِرِهَا كَمَا جَاءَ فِي وَصْفِ الْغُرَفِ، وَإِمَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ مِنْ سُطُوعِ رَائِحَتِهَا الطَّيِّبَةِ وَأَنْوَارِهَا الْمُضِيئَةِ كَمَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ أَذَى لَفْحِ النَّارِ وَهُوَ خَارِجُهَا.
قَوْلُهُ: ثُمَّ قَالَ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: ثُمَّ يَقُولُ.
قَوْلُهُ: (وَيْلَك) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: وَيْحَكَ.
قَوْلُهُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ، الْمُرَادُ بِالْخَلْقِ هُنَا مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ إِذَا اسْتَمَرَّ خَارِجًا عَنِ الْجَنَّةِ أَشْقَاهُمْ، وَكَوْنُهُ أَشْقَاهُمْ ظَاهِرٌ لَوِ اسْتَمَرَّ خَارِجَ الْجَنَّةِ، وَهُمْ مِنْ دَاخِلِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ: يَا رَبِّ قَدْ أَعْطَيْتُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، وَلَكِنْ تَفَكَّرْتُ فِي كَرَمِكَ وَرَحْمَتِكَ فَسَأَلْتُ، ووَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ، وَلِلْقَابِسِيِّ: لَأَكُونَنَّ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمَعْنَى لَئِنْ أَبْقَيْتَنِي عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَمْ تُدْخِلْنِي الْجَنَّةَ لَأَكُونَنَّ، وَالْأَلِفُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى زَائِدَةٌ، وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ لَا أَكُونُ كَافِرًا. قُلْتُ: هَذَا أَقْرَبُ
مِمَّا قَالَ ابْنُ التِّينِ، وَلَوِ اسْتَحْضَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الَّتِي هُنَا مَا احْتَاجَ إِلَى التَّكَلُّفِ الَّذِي أَبَدَاهُ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَا أَكُونُ لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الطَّلَبُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَا تَجْعَلْنِي وَوَجْهُ كَوْنِهِ أَشْقَى أَنَّ الَّذِي يُشَاهِدُ مَا يُشَاهِدُهُ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ يَصِيرُ أَشَدَّ حَسْرَةً مِمَّنْ لَا يُشَاهِدُ، وَقَوْلُهُ: خَلْقِكَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
قَوْلُهُ: فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ، تَقَدَّمَ مَعْنَى الضَّحِكِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَاضِي قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: تَمَنَّ مِنْ كَذَا فَيَتَمَنَّى، فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَيَسْأَلُ وَيَتَمَنَّى مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَفِي رِوَايَةِ التَّوْحِيدِ: حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ مِنْ كَذَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: وَيُلَقِّنُهُ اللَّهُ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ.
قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) هُوَ مَوْصُولُ السَّنَدِ الْمَذْكُورِ
قَوْلُهُ: وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا) سَقَطَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ. وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ هُنَا، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَرَّتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا هُنَا وَالْأُخْرَى فِي أَوَّلِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ.
قَوْلُهُ: قَالَ عَطَاءٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ، أَيِ الْخُدْرِيُّ، وَالْقَائِلُ هُوَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ بَيَّنَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ.
قَوْلُهُ: لَا يُغَيِّرُ عَلَيْهِ شَيْئًا، فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ: يُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: انْظُرْ إِلَى مُلْكِ أَعْظَمِ مَلِكٍ؛ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَهُ وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ، فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟ وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ جَمِيعًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَمِثْلَهُ مَعَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: حَدِّثْ بِمَا سَمِعْتَ وَأُحَدِّثُ بِمَا سَمِعْتُ، وَهَذَا مَقْلُوبٌ؛ فَإِنَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ أَحْمَدُ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الصَّحِيحِ، نَعَمْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الطَّوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ بَعْدَ ذِكْرِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، فَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمِثْلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعُ أَنْ يَكُونَ عَشَرَةُ الْأَمْثَالِ إِنَّمَا سَمِعَهُ أَبُو سَعِيدٍ فِي حَقِّ آخِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا، وَالْمَذْكُورُ هُنَا فِي حَقِّ جَمِيعِ مَنْ يَخْرُجُ بِالْقَبْضَةِ، وَجَمَعَ عِيَاضٌ بَيْنَ حَدِيثَيْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعَ أَوَّلًا قَوْلَهُ: وَمِثْلَهُ مَعَهُ، فَحَدَّثَ بِهِ ثُمَّ حَدَّثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالزِّيَادَةِ، فَسَمِعَهُ أَبُو سَعِيدٍ، وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ: سَمِعَهُ أَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ مَعًا أَوَّلًا ثُمَّ سَمِعَ أَبُو سَعِيدٍ الزِّيَادَةَ بَعْدُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَبَّهْتُ عَلَى أَكْثَرِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، أَنَّ الْعَشَرَةَ زَائِدَةٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَكَ الَّذِي تَمَنَّيْتَ وَعَشَرَةُ أَضْعَافِ الدُّنْيَا، وَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ الدُّنْيَا فَيُطَابِقُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَكَ مِثْلُ الدُّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْكَلَابَاذِيُّ: إِمْسَاكُهُ أَوَّلًا عَنِ السُّؤَالِ حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ؛ لِأَنَّهُ يُحِبُّ صَوْتَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُبَاسِطُهُ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا: لَعَلَّكَ إِنْ أُعْطِيتَ هَذَا تَسْأَلُ غَيْرَهُ، وَهَذِهِ حَالَةُ الْمُقَصِّرِ، فَكَيْفَ حَالَةُ الْمُطِيعِ، وَلَيْسَ نَقْضُ هَذَا الْعَبْدِ عَهْدَهُ وَتَرْكُهُ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ جَهْلًا مِنْهُ وَلَا قِلَّةَ مُبَالَاةٍ، بَلْ عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّ نَقْضَ هَذَا الْعَهْدِ أَوْلَى مِنَ الْوَفَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّ سُؤَالَهُ رَبَّهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِ السُّؤَالِ مُرَاعَاةً لِلْقَسَمِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَلَى يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ، فَعَمِلَ هَذَا الْعَبْدُ عَلَى وَفْقِ هَذَا الْخَبَرِ، وَالتَّكْفِيرُ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ مُخَاطَبَةِ الشَّخْصِ بِمَا لَا تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ، وَجَوَازُ التَّعْبِيرِ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَفْهَمُهُ، وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ لَا تُشَبَّهُ بِمَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا فِي الْأَسْمَاءِ، وَالْأَصْلِ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَفَاوُتِ الصِّفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالنَّظَرِيِّ، وَأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ يَأْتِي الْمُتَكَلِّمُ بِشَيْءٍ يَتَخَصَّصُ بِهِ مُرَادُهُ عِنْدَ السَّامِعِ، وَأَنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَنْقَطِعُ إِلَّا بِالِاسْتِقْرَارِ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَأَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ فِي الْمَوْقِفِ يَقَعُ بِالِاضْطِرَارِ.
وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَلَبَّسَ بِهِ الْمُنَافِقُ ظَاهِرًا بَقِيَتْ عَلَيْهِ حُرْمَتُهُ إِلَى أَنْ وَقَعَ التَّمْيِيزُ بِإِطْفَاءِ النُّورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الصِّرَاطَ مَعَ دِقَّتِهِ وَحِدَّتِهِ يَسَعُ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ مُنْذُ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَفِيهِ أَنَّ النَّارَ مَعَ عِظَمِهَا وَشِدَّتِهَا لَا تَتَجَاوَزُ الْحَدَّ الَّذِي أُمِرَتْ بِإِحْرَاقِهِ، وَالْآدَمِيُّ مَعَ حَقَارَةِ جِرْمِهِ يُقْدِمُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، فَفِيهِ مَعْنًى شَدِيدٌ مِنَ التَّوْبِيخِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ:{غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَوْبِيخِ الطُّغَاةِ وَالْعُصَاةِ، وَفِيهِ فَضْلُ الدُّعَاءِ وَقُوَّةُ الرَّجَاءِ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الدَّاعِي أَهْلًا لِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ لَكِنَّ فَضْلَ الْكَرِيمِ وَاسِعٌ، وَفِي قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: مَا أَغْدَرَكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّخْصَ لَا يُوصَفُ بِالْفِعْلِ الذَّمِيمِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْيَوْمِ عَلَى جُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْأَصْلِ يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الْيَوْمِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ سُؤَالِ الشَّفَاعَةِ، خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ مُحْتَجًّا بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا لِمُذْنِبٍ. قَالَ عِيَاضٌ: وَفَاتَ هَذَا الْقَائِلَ أَنَّهَا قَدْ تَقَعُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، مَعَ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الْعَفْوِ عَنْ تَقْصِيرِهِ، وَكَذَا كُلُّ عَامِلٍ يَخْشَى أَنْ لَا يُقْبَلَ عَمَلُهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى الشَّفَاعَةِ فِي قَبُولِهِ.
قَالَ: وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلُ أَنْ لَا يَدْعُوَ بِالْمَغْفِرَةِ وَلَا بِالرَّحْمَةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فِي أَدْعِيَتِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُؤْمَرُونَ بِالسُّجُودِ وَقَدْ مُنِعُوا مِنْهُ، كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ حِينَئِذٍ لِلتَّعْجِيزِ وَالتَّبْكِيتِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ رُؤْيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ وَوَكَلَ عِلْمَ حَقِيقَتِهَا إِلَى اللَّهِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَكَذَا قَوْلُ مَنْ فَسَّرَ الْإِتْيَانَ بِالتَّجَلِّي هُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَهُ قَوْلُهُ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؟ وَزِيدَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ وَتَأْكِيدِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَدْفَعُ الْمَجَازَ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ السَّالِمِيَّةِ وَنَحْوُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَبَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَرَوْنَ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ سبحانه وتعالى بَعْدَ رَفْعِ رُءُوسِهِمْ مِنَ السُّجُودِ، وَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، وَلَا يَقَعُ ذَلِكَ لِلْمُنَافِقَيْنِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ، وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ الَّتِي اشْتَرَكَ فِيهَا الْجَمِيعُ قَبْلُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ صُورَةُ الْمَلَكِ وَغَيْرِهِ. قُلْتُ: وَلَا مَدْخَلَ أَيْضًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُمْ مِمَّنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَأَنَّهُمْ يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ.
وَفِيهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ مُذْنِبِي هَذِهِ الْأُمَّةِ يُعَذَّبُونَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَالرَّحْمَةِ، خِلَافًا لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَتَأَوَّلَ مَا وَرَدَ بِضُرُوبٍ مُتَكَلِّفَةٍ، وَالنُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ مُتَضَافِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ بِثُبُوتِ ذَلِكَ، وَأَنَّ تَعْذِيبَ الْمُوَحِّدِينَ بِخِلَافِ تَعْذِيبِ الْكُفَّارِ، لِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ مِنْ أَخْذِ النَّارِ بَعْضَهُمْ إِلَى سَاقِهِ، وَأَنَّهَا لَا تَأْكُلُ أَثَرَ السُّجُودِ، وَأَنَّهُمْ يَمُوتُونَ فَيَكُونُ عَذَابُهُمْ إِحْرَاقَهُمْ وَحَبْسَهُمْ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ سَرِيعًا كَالْمَسْجُونِينَ، بِخِلَافِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَمُوتُونَ أَصْلًا؛ لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ وَلَا يَحْيَوْنَ حَيَاةً يَسْتَرِيحُونَ بِهَا، عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوَّلَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ قَوْلِهِ:
يَمُوتُونَ فِيهَا إِمَاتَةً بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ الْمَوْتُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْبَةِ إِحْسَاسِهِمْ، وَذَلِكَ لِلرِّفْقِ بِهِمْ، أَوْ كَنَّى عَنِ النَّوْمِ بِالْمَوْتِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ النَّوْمَ وَفَاةً، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ مَاتُوا، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِخْرَاجَهُمْ أَمَسَّهُمْ أَلَمَ الْعَذَابِ تِلْكَ السَّاعَةَ، قَالَ: وَفِيهِ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ الْآدَمِيُّ مِنْ قُوَّةِ الطَّمَعِ وَجَوْدَةِ الْحِيلَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، فَطَلَبَ أَوَّلًا أَنْ يُبْعَدَ مِنَ النَّارِ لِيَحْصُلَ لَهُ نِسْبَةٌ لَطِيفَةٌ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ طَلَبَ الدُّنُوَّ مِنْهُمْ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ طَلَبَ الدُّنُوَّ مِنْ شَجَرَةٍ بَعْدَ شَجَرَةٍ إِلَى أَنْ طَلَبَ الدُّخُولَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ صِفَاتِ الْآدَمِيِّ الَّتِي شُرِّفَ بِهَا عَلَى الْحَيَوَانِ تَعُودُ لَهُ كُلُّهَا بَعْدَ بَعْثَتِهِ كَالْفِكْرِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِهِمَا
…
انْتَهَى مُلَخَّصًا مَعَ زِيَادَاتٍ فِي غُضُونِ كَلَامِهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
53 - بَاب فِي الْحَوْضِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ.
6575 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ شَقِيقٍ:، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ.
[الحديث 6575 - طرفاه في 6576، 7049]
6576 -
و حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ وَلَيُرْفَعَنَّ مَعِي رِجَالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ"
تَابَعَهُ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَقَالَ حُصَيْنٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
6577 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَمَامَكُمْ حَوْضٌ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ"
6578 -
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ قَالَ أَبُو بِشْرٍ قُلْتُ لِسَعِيدٍ إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ"
6579 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا"
6580 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ "حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنْ الْيَمَنِ وَإِنَّ فِيهِ مِنْ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ"
6581 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح و حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ قُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ فَإِذَا طِينُهُ أَوْ طِيبُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ شَكَّ هُدْبَةُ"
6582 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ حَتَّى عَرَفْتُهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ أَصْحَابِي فَيَقُولُ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ"
6583 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ"
[الحديث 6583 - طرفه في: 7050]
6584 -
قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَزِيدُ فِيهَا فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّي فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ "سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي"
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سُحْقًا بُعْدًا يُقَالُ سَحِيقٌ بَعِيدٌ سَحَقَهُ وَأَسْحَقَهُ أَبْعَدَهُ
[الحديث 6584 - طرفه في: 7051]
6585 -
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَبَطِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّئُونَ عَنْ الْحَوْضِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى"
[الحديث 6585 طرفه: 6586]
6586 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ
أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ "عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّئُونَ عَنْهُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى"
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُجْلَوْنَ وَقَالَ عُقَيْلٌ فَيُحَلَّئُونَ.
وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6587 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ فَقُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ قُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ مَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى فَلَا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ"
6588 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي"
6589 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ "سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ"
6590 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ "عَنْ عُقْبَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ "إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَانْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا"
6591 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ الْحَوْضَ فَقَالَ "كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ"
6592 -
وَزَادَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ "عَنْ حَارِثَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ الأَوَانِي قَالَ لَا قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ تُرَى فِيهِ الْآنِيَةُ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ"
6593 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ تَرْجِعُونَ عَلَى الْعَقِبِ"
[الحديث 6593 - طرفه في: 7048]
قَوْلُهُ: بَابٌ فِي الْحَوْضِ، أَيْ: حَوْضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَمْعُ الْحَوْضِ: حِيَاضٌ وَأَحْوَاضٌ، وَهُوَ مَجْمَعُ الْمَاءِ، وَإِيرَادُ الْبُخَارِيِّ لِأَحَادِيثِ الْحَوْضِ بَعْدَ أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَبَعْدَ نَصْبِ الصِّرَاطِ إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْوُرُودَ عَلَى الْحَوْضِ يَكُونُ بَعْدَ نَصْبِ الصِّرَاطِ وَالْمُرُورِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْفَعَ لِي، فَقَالَ: أَنَا فَاعِلٌ، فَقُلْتُ: أَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ؟ قَالَ: أَنَا عِنْدَ الْمِيزَانِ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ؟ قَالَ: أَنَا عِنْدَ الْحَوْضِ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ كَوْنُ الْحَوْضِ بَعْدَ الصِّرَاطِ بِمَا سَيَأْتِي فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ جَمَاعَةً يُدْفَعُونَ عَنِ الْحَوْضِ بَعْدَ أَنْ يَكَادُوا يَرِدُونَ وَيُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ الَّذِي يَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى الْحَوْضِ يَكُونُ قَدْ نَجَا مِنَ النَّارِ فَكَيْفَ يُرَدُّ إِلَيْهَا؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُمْ يُقَرَّبُونَ مِنَ الْحَوْضِ بِحَيْثُ يَرَوْنَهُ وَيَرَوْنَ النَّارَ فَيُدْفَعُونَ إِلَى النَّارِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُصُوا مِنْ بَقِيَّةِ الصِّرَاطِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: ذَهَبَ صَاحِبُ الْقُوتِ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْحَوْضَ يَكُونُ بَعْدَ الصِّرَاطِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْعَكْسِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَوْضَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الْمَوْقِفِ قَبْلَ الصِّرَاطِ، وَالْآخَرُ دَاخِلَ الْجَنَّةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى كَوْثَرًا، قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْكَوْثَرَ نَهَرٌ دَاخِلَ الْجَنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي، وَمَاؤُهُ يُصَبُّ فِي الْحَوْضِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَوْضِ كَوْثَرٌ لِكَوْنِهِ يُمَدُّ مِنْهُ، فَغَايَةُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ الْحَوْضَ يَكُونُ قَبْلَ الصِّرَاطِ فَإِنَّ النَّاسَ يَرِدُونَ الْمَوْقِفَ عَطَاشَى فَيَرِدُ الْمُؤْمِنُونَ الْحَوْضَ وَتَتَسَاقَطُ الْكُفَّارُ فِي النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَقُولَوا: رَبَّنَا عَطِشْنَا، فَتُرْفَعُ لَهُمْ جَهَنَّمُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ: أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيَظُنُّونَهَا مَاءً فَيَتَسَاقَطُونَ فِيهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ الْحَوْضَ يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْقُرْطُبِيِّ لَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصِّرَاطَ جِسْرُ جَهَنَّمَ، وَأَنَّهُ بَيْنَ الْمَوْقِفِ وَالْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَلَوْ كَانَ الْحَوْضُ دُونَهُ لَحَالَتِ النَّارُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ الَّذِي يُصَبُّ مِنَ الْكَوْثَرِ فِي الْحَوْضِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَوْضَ بِجَانِبِ الْجَنَّةِ لِيَنْصَبَّ فِيهِ الْمَاءُ مِنَ النَّهَرِ الَّذِي دَاخِلُهَا، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَيُفْتَحُ نَهَرُ الْكَوْثَرِ إِلَى الْحَوْضِ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْحَوْضِ: مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ مِنْهُ يَقَعُ بَعْدَ الْحِسَابِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ مَنْ لَا يَظْمَأُ أَنْ لَا يُعَذَّبَ بِالنَّارِ، وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنَّ مَنْ قُدِّرَ عَلَيْهِ التَّعْذِيبُ مِنْهُمْ أَنْ لَا يُعَذَّبَ فِيهَا بِالظَّمَأِ بَلْ بِغَيْرِهِ. قُلْتُ: وَيَدْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ: وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ لَمْ يُرْوَ أَبَدًا، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ عَنْ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ: وَفَدَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَنَهِيكُ بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ عِنْدَ انْسِلَاخِ رَجَبٍ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ.
الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالْبَعْثِ، وَفِيهِ: تُعْرَضُونَ عَلَيْهِ بَادِيَةً لَهُ صِفَاحُكُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَيَأْخُذُ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَيَنْضَحُ بِهَا قِبَلَكُمْ، فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا يُخْطِئُ وَجْهَ أَحَدِكُمْ قَطْرَةٌ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَتَدَعُ وَجْهَهُ مِثْلَ الرَّيْطَةِ الْبَيْضَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَخْطِمُهُ مِثْلَ الْخِطَامِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ نَبِيُّكُمْ وَيَنْصَرِفُ عَلَى أَثَرِهِ الصَّالِحُونَ، فَيَسْلُكُونَ جِسْرًا مِنَ النَّارِ، يَطَأُ أَحَدُكُمُ الْجَمْرَةَ فَيَقُولُ: حَسِّ، فَيَقُولُ رَبُّكَ أَوَانُهُ إِلَا، فَيَطَّلِعُونَ عَلَى حَوْضِ الرَّسُولِ عَلَى أَظِمَاءٍ وَاللَّهِ نَاهِلَةٌ رَأَيْتُهَا أَبَدًا
(1)
مَا يَبْسُطُ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدَهُ إِلَّا وَقَعَ عَلَى قَدَحٍ
…
الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَوْضَ قَبْلَ الصِّرَاطِ.
قَوْلُهُ: وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَوْثَرِ النَّهَرُ الَّذِي يَصُبُّ فِي الْحَوْضِ، فَهُوَ مَادَّةُ الْحَوْضِ كَمَا جَاءَ صَرِيحًا فِي سَابِعِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَمَضَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ، مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ نَحْوُهُ مَعَ زِيَادَةِ بَيَانٍ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْكَوْثَرَ هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَجَاءَ إِطْلَاقُ الْكَوْثَرِ عَلَى الْحَوْضِ فِي حَدِيثِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي ذِكْرِ الْكَوْثَرِ: هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي. وَقَدِ اشْتُهِرَ اخْتِصَاصُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم بِالْحَوْضِ لَكِنْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَأَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ.
قُلْتُ: وَالْمُرْسَلُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى حَوْضِهِ بِيَدِهِ عَصًا يَدْعُو مَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّتِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ تَبَعًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَبَعًا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَمُرَةَ مَوْصُولًا مَرْفُوعًا مِثْلَهُ، وَفِي سَنَدِهِ لِينٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: وَكُلُّ نَبِيٍّ يَدْعُو أُمَّتَهُ، وَلِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيهِ الْفِئَامُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيهِ الْعُصْبَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيهِ الْوَاحِدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيهِ الِاثْنَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ، وَإِنِّي لَأَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي إِسْنَادِهِ لِينٌ، وَإِنْ ثَبَتَ فَالْمُخْتَصُّ بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم الْكَوْثَرُ الَّذِي يُصَبُّ مِنْ مَائِهِ فِي حَوْضِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ نَظِيرُهُ لِغَيْرِهِ، وَوَقَعَ الِامْتِنَانُ عَلَيْهِ بِهِ فِي السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ تَبَعًا لِلْقَاضِي عِيَاضٍ فِي غَالِبِهِ: مِمَّا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَهُ وَيُصَدِّقَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَدْ خَصَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَوْضِ الْمُصَرَّحِ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ وَشَرَابِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الشَّهِيرَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِمَجْمُوعِهَا الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ؛ إِذْ رَوَى ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّحَابَةِ نَيِّفٌ عَلَى الثَّلَاثِينَ؛ مِنْهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يُنِيفُ عَلَى الْعِشْرِينَ، وَفِي غَيْرِهِمَا بَقِيَّةُ ذَلِكَ مِمَّا
صَحَّ نَقْلُهُ وَاشْتُهِرَتْ رُوَاتُهُ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنِ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِينَ مِنَ التَّابِعِينَ أَمْثَالُهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِهِمْ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَأَجْمَعَ عَلَى إِثْبَاتِهِ السَّلَفُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الْخَلَفِ، وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ وَأَحَالُوهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَغَلَوْا فِي تَأْوِيلِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحَالَةٍ عَقْلِيَّةٍ وَلَا عَادِيَّةٍ تَلْزَمُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى تَأْوِيلِهِ، فَخَرَقَ مَنْ حَرَّفَهُ إِجْمَاعَ السَّلَفِ وَفَارَقَ مَذْهَبَ أَئِمَّةِ الْخَلَفِ، قُلْتُ: أَنْكَرَهُ الْخَوَارِجُ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِمَّنْ كَانَ يُنْكِرُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ أَحَدُ أُمَرَاءِ الْعِرَاقِ لِمُعَاوِيَةَ وَوَلَدِهِ؛ فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: شَهِدْتُ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَحَدَّثَنِي فُلَانٌ - وَكَانَ فِي السِّمَاطِ - فَذَكَرَ قِصَّةً فِيهَا أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ ذَكَرَ الْحَوْضَ فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ فِيهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: نَعَمْ، لَا مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثًا وَلَا أَرْبَعًا وَلَا خَمْسًا؛ فَمَنْ كَذَبَ بِهِ فَلَا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ
(1)
كذا الأصل، ولعل في بعض الكلمات تصحيفا.
مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ حِبَّانَ التَّيْمِيِّ: شَهِدْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ فَقَالَ: مَا أَحَادِيثُ تَبْلُغُنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَوْضًا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حَدَّثَنَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي سَبْرَةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ: مَا أُصَدِّقُ بِالْحَوْضِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَهُ أَبُو بَرْزَةَ، وَالْبَرَاءُ، وَعَائِذُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ لَهُ أَبُو سَبْرَةَ: بَعَثَنِي أَبُوكَ فِي مَالٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَقِيَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، فَحَدَّثَنِي، وَكَتَبْتُهُ بِيَدِي مِنْ فِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَوْعِدُكُمْ حَوْضِي. الْحَدِيثَ. فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ حِينَئِذٍ: أَشْهَدُ أَنَّ الْحَوْضَ حَقٌّ، وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ وَهُمْ يَذْكُرُونَ الْحَوْضَ فَقَالَ هَذَا أَنَسٌ، فَقُلْتُ: لَقَدْ كَانَتْ عَجَائِزُ بِالْمَدِينَةِ كَثِيرًا مَا يَسْأَلْنَ رَبَّهُنَّ أَنْ يَسْقِيَهُنَّ مِنْ حَوْضِ نَبِيِّهِنَّ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَرُوِّينَا فِي فَوَائِدِ الْعِيسَوِيِّ وَهُوَ فِي الْبَعْثِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ وَفِيهِ: مَا حَسِبْتُ أَنْ أَعِيشَ حَتَّى أَرَى مِثْلَكُمْ يُنْكِرُ الْحَوْضَ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ: وَسَيَأْتِيهِ قَوْمٌ ذَابِلَةٌ شِفَاهُهُمْ لَا يُطْعَمُونَ مِنْهُ قَطْرَةً، مَنْ كَذَّبَ بِهِ الْيَوْمَ لَمْ يُصِبِ الشُّرْبَ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ. وَيَزِيدُ ضَعِيفٌ لَكِنْ يُقَوِّيهِ مَا مَضَى، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْأَخِيرُ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ.
قَالَ عِيَاضٌ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَحَادِيثَ الْحَوْضِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَجُنْدُبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَحَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ، وَالْمُسْتَوْرِدِ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَثَوْبَانَ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: وَرَوَاهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَخَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَسُوَيْدِ بْنِ جَبَلَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ كَلَامِهِ مُسْتَدْرِكًا عَلَيْهِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ، وَعَائِذِ بْنِ عَمْرٍو، وَآخَرِينَ، وَجَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ بِأَسَانِيدِهِ وَطُرُقِهِ الْمُتَكَاثِرَةِ.
قُلْتُ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَصبَ عِيَاضٌ، لِمُسْلِمٍ تَخْرِيجَهُ عَنْهُمْ إِلَّا أُمَّ سَلَمَةَ وَثَوْبَانَ، وَجَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، وَأَبَا ذَرٍّ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْهُمَا أَيْضًا، وَأَغْفَلَهُمَا عِيَاضٌ، وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَأَغْفَلَ عِيَاضٌ أَيْضًا نِسْبَةَ الْأَحَادِيثِ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي عَوَانَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ، وَحَدِيثُ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ جَبَلَةَ فَأَخْرَجَهُ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ، وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ، وَجَزَمَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِأَنَّ حَدِيثَهُ مُرْسَلٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، فَغَلِطَ عِيَاضٌ فِي اسْمِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ الصُّنَابِحُ بْنُ الْأَعْسَرِ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَلَفْظُهُ: إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ.
الْحَدِيثَ، فَإِنْ كَانَ كَمَا ظَنَنْتُ، وَكَانَ ضَبْطُ اسْمِ الصَّحَابِيِّ وَأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَتَزِيدُ الْعِدَّةُ وَاحِدًا، لَكِنْ مَا عَرَفْتُ مَنْ خَرَّجَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ آخَرُ غَيْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الصُّنَابِحِيِّ التَّابِعِيِّ الْمَشْهُورِ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: إِنَّ الْبَيْهَقِيَّ اسْتَوْعَبَ طُرُقَهُ يُوهِمُ أَنَّهُ أَخْرَجَ زِيَادَةً عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا؛ حَيْثُ قَالَ: وَآخَرِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْ حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَلَا سُوَيْدٍ وَلَا الصُّنَابِحِيِّ وَلَا خَوْلَةَ وَلَا الْبَرَاءِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَنْ عُمَرَ، وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ، وَلَمْ أَرَ عِنْدَهُ زِيَادَةً إِلَّا مِنْ مُرْسَلِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ - تَعَالَى:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} وَقَدْ جَاءَ فِيهِ عَمَّنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ جَمِيعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ، وَمِنْ حَدِيثِ
كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَعَنْ بُرَيْدَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَمِنْ حَدِيثِ أَخِي زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ ثَابِتٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ.
وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ، وَمِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ، وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى أَيْضًا، وَأَبِي بَكْرَةَ، وَخَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ، كُلُّهَا عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ وَمِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَبْدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَوْفَى، وَكُلُّهَا فِي الطَّبَرَانِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَمِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ وَلَفْظُهُ: يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ أَطْوَلُكُنَّ يَدًا
…
الْحَدِيثَ.
وَمِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي نِهَايَتِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْحَاوِي، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ، وَأَظُنُّهُ عَنْ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَجَمِيعُ مَنْ ذَكَرَهُمْ عِيَاضٌ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ نَفْسًا، وَزَادَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ ثَلَاثَةً، وَزِدْتُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ قَدْرَ مَا ذَكَرُوهُ سَوَاءً، فَزَادَتِ الْعِدَّةُ عَلَى الْخَمْسِينَ، وَلِكَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ كَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَحَادِيثُهُمْ بَعْضُهَا فِي مُطْلَقِ ذِكْرِ الْحَوْضِ وَفِي صِفَتِهِ بَعْضُهَا، وَفِيمَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، وَفِيمَنْ يُدْفَعُ عَنْهُ بَعْضُهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَجُمْلَةُ طُرُقِهَا تِسْعَةَ عَشَرَ طَرِيقًا، وَبَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَصَلَهَا إِلَى رِوَايَةِ ثَمَانِينَ صَحَابِيًّا.
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يزيد هُوَ ابْنُ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ.
قَوْلُهُ: اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ، هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَفِيهِ كَلَامُ الْأَنْصَارِ؛ لَمَّا قُسِمَتْ غَنَائِمُ حَنِينٍ فِي غَيْرِهِمْ وَفِيهِ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا، الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.
تَابَعَهُ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَقَالَ حُصَيْنٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ: عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْصُولًا، وَعَنْ حُذَيْفَةَ مُعَلَّقًا.
قَوْلُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ، هُوَ الْأَعْمَشُ، وَشَقِيقٌ هُوَ أَبُو وَائِلٍ الْمَذْكُورُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ، وَوَقَعَ صَرِيحًا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِيهِمَا، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي الْأَوَّلِ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْمُغِيرَةُ في الطريق الثانية هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ الْكُوفِيُّ.
قَوْلُهُ: وَلَيُرْفَعَنَّ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ، أَيْ: يُظْهِرُهُمُ اللَّهُ لِي حَتَّى أَرَاهُمْ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ، بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَاللَّامِ وَضَمِّ الْجِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ ثَقِيلَةٌ، أَيْ: يُنْزَعُونَ أَوْ يُجْذَبُونَ مِنِّي، يُقَالُ: اخْتَلَجَهُ مِنْهُ إِذَا نَزَعَهُ مِنْهُ، أَوْ جَذَبَهُ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةٌ فِي إِيضَاحِهِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ التَّاسِعِ وَمَا بَعْدَهُ وَالتَّاسِعَ عَشَرَ.
قَوْلُهُ: تَابَعَهُ عَاصِمٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي النَّجُودِ قَارِئُ الْكُوفَةِ، وَالضَّمِيرُ لِلْأَعْمَشِ، أَيْ أَنَّ عَاصِمًا رَوَاهُ كَمَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَدْ وَصَلَهَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمٍ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ حُصَيْنٌ أَيِ: ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمِنَ الْوَاسِطِيُّ.
قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ) أَيْ أَنَّهُ خَالَفَ الْأَعْمَشَ، وَعَاصِمًا، فَقَالَ: عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنٍ، وَصَنِيعُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ حُذَيْفَةَ مَعًا، وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، لِكَوْنِهِ سَاقَهَا مَوْصُولَةً وَعَلَّقَ الْأُخْرَى.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ قَوْلُهُ: يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدِ الْقَطَّانُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.
قَوْلُهُ: أَمَامَكُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ
قُدَّامَكُمْ، (حَوْض) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ: حَوْضِي، بِزِيَادَةِ يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي عِنْدَ كُلِّ مَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ كَمُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ، أَمَّا جَرْبَاءُ فَهِيَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ بِلَفْظِ تَأْنِيثِ أَجْرَبَ، قَالَ عِيَاضٌ: جَاءَتْ فِي الْبُخَارِيِّ مَمْدُودَةً، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الصَّوَابُ أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ، وَكَذَا ذَكَرَهَا الْحَازِمِيُّ وَالْجُمْهُورُ، قَالَ: وَالْمَدُّ خَطَأٌ، وَأَثْبَتَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ الْمَدَّ وَجَوَّزَ الْقَصْرَ، وَيُؤَيِّدُ الْمَدَّ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ الْبَكْرِيِّ: هِيَ تَأْنِيثُ أَجْرَبَ، وَأَمَّا أَذْرُحُ فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا لِلْجُمْهُورِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعُذْرِيِّ فِي مُسْلِمٍ بِالْجِيمِ وَهُوَ وَهَمٌ. قُلْتُ: وَسَأَذْكُرُ الْخِلَافَ فِي تَعْيِينِ مَكَانَيْ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى الحديث السادس إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ. وَقَوْلُهُ هُنَا: هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ، بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ مَكْسُورَةٌ، ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ، ثُمَّ هَاءُ تَأْنِيثٍ، وَاسْمُ أَبِي وَحْشِيَّةَ: إِيَاسٌ.
قَوْلُهُ: وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ) هُوَ الْمُحَدِّثُ الْمَشْهُورُ كُوفِيٌّ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، صَدُوقٌ اخْتُلِطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَسَمَاعُ هُشَيْمٍ مِنْهُ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ، وَلِذَلِكَ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ مَقْرُونًا بِأَبِي بِشْرٍ، وَمَا لَهُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَقَدْ مَضَى فِي تَفْسِيرِ الْكَوْثَرِ، مِنْ جِهَةِ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ وَحْدَهُ، وَلِعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فِي ذِكْرِ الْكَوْثَرِ سَنَدٌ آخَرُ، عَنْ شَيْخٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْكَوْثَرِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَ لِي مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: مَا كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَقُولُ فِي الْكَوْثَرِ؟ قُلْتُ: كَانَ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، فَقَالَ مُحَارِبٌ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ
…
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَزَادَ فَقَالَ مُحَارِبٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَقَلَّ مَا يَسْقُطُ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ (نَافِعٌ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ الْمَكِّيُّ.
قَوْلُهُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ بِسَنَدِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَدْ خَالَفَ نَافِعُ بْنُ عُمَرَ فِي صَحَابِيِّهِ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، فَقَالَ: عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَنَافِعُ بْنُ عُمَرَ أَحْفَظُ مِنِ ابْنِ خُثَيْمٍ.
قَوْلُهُ: حَوْضِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ) زَادَ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَدْفَعُ تَأْوِيلَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْأَحَادِيثِ فِي تَقْدِيرِ مَسَافَةِ الْحَوْضِ عَلَى اخْتِلَافِ الْعَرْضِ وَالطُّولِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي بَعْدَهُ: كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ، وَأَيْلَةُ مَدِينَةٌ كَانَتْ عَامِرَةً وَهِيَ بِطَرَفِ بَحْرِ الْقُلْزُمِ مِنْ طَرَفِ الشَّامِ وَهِيَ الْآنَ خَرَابٌ يَمُرُّ بِهَا الْحَاجُّ مِنْ مِصْرَ، فَتَكُونُ شَمَالِيَّهُمْ، وَيَمُرُّ بِهَا الْحَاجُّ مِنْ غَزَّةَ وَغَيْرِهَا فَتَكُونُ أَمَامَهُمْ، وَيَجْلِبُونَ إِلَيْهَا الْمِيرَةَ مِنَ الْكُرْكِ وَالشَّوْبَكِ وَغَيْرِهِمَا يَتَلَقَّوْنَ بِهَا الْحَاجَّ ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَإِلَيْهَا تُنْسَبُ الْعَقَبَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ نَحْوَ الشَّهْرِ بِسَيْرِ الْأَثْقَالِ إِنِ اقْتَصَرُوا كُلَّ يَوْمٍ عَلَى مَرْحَلَةٍ، وَإِلَّا فَدُونَ ذَلِكَ، وَهِيَ مِنْ مِصْرَ عَلَى أَكْثَرِ مِنَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِمَّا بَيْنَ مِصْرَ وَمَكَّةَ، بَلْ هِيَ دُونَ الثُّلُثِ؛ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى مِصْرَ.
وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَيْلَةَ شِعْبٌ مِنْ جَبَلِ رَضْوَى الَّذِي فِي يَنْبُعَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ اسْمٌ وَافَقَ اسْمًا، وَالْمُرَادُ بِأَيْلَةَ فِي الْخَبَرِ هِيَ الْمَدِينَةُ الْمَوْصُوفَةُ آنِفًا، وَقَدْ ثَبَتَ ذِكْرُهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفِيهِ: أَنَّ صَاحِبَ أَيْلَةَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَصَالَحَهُ، وَتَقَدَّمَ لَهَا ذِكْرٌ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا صَنْعَاءُ فَإِنَّمَا قُيِّدَتْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالْيَمَنِ احْتِرَازًا مِنْ صَنْعَاءَ الَّتِي بِالشَّامِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا صَنْعَاءُ الْيَمَنِ لَمَّا هَاجَرَ أَهْلُ الْيَمَنِ فِي زَمَنِ عُمَرَ عِنْدَ فُتُوحِ الشَّامِ نَزَلَ أَهْلُ صَنْعَاءَ فِي مَكَانٍ مِنْ دِمَشْقَ، فَسُمِّيَ بِاسْمِ بَلَدِهِمْ، فَعَلَى هَذَا فَمِنْ فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْيَمَنِ: إِنْ كَانَتِ ابْتِدَائِيَّةً، فَيَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مَرْفُوعًا، وَإِنْ كَانَتْ بَيَانِيَّةً، فَيَكُونُ مُدْرَجًا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الزُّهْرِيُّ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَيْضًا: كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مِثْلُهُ، لَكِنْ قَالَ: عَدَنَ بَدَلَ صَنْعَاءَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَبْعَدَ مِنْ أَيْلَةَ إِلَى عَدَنَ، وَعَدَنُ بِفَتْحَتَيْنِ بَلَدٌ مَشْهُورٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فِي أَوَاخِرِ سَوَاحِلِ الْيَمَنِ وَأَوَائِلِ سَوَاحِلِ الْهِنْدِ، وَهِيَ تُسَامِتُ صَنْعَاءَ، وَصَنْعَاءُ فِي جِهَةِ الْجِبَالِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: مَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى أَيْلَةَ، وَعُمَانُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ بَلَدٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَقَارِبَةٌ؛ لِأَنَّهَا كُلُّهَا نَحْوَ شَهْرٍ أَوْ تَزِيدُ أَوْ تَنْقُصُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى التَّحْدِيدُ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ؛ فَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى الْجُحْفَةِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: مَا بَيْنَ عَدَنَ وَعَمَّانَ الْبَلْقَاءَ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. وَعَمَّانُ هَذِهِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ لِلْأَكْثَرِ، وَحُكِيَ تَخْفِيفُهَا، وَتُنْسَبُ إِلَى الْبَلْقَاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا.
وَالْبَلْقَاءُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا قَافٌ وَبِالْمَدِّ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ فِلَسْطِينَ، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: مَا بَيْنَ بُصْرَى إِلَى صَنْعَاءَ أَوْ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ، وَبُصْرَى بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ بِطَرَفِ الشَّامِ مِنْ جِهَةِ الْحِجَازِ، تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ أَحْمَدَ: بُعْدَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَأَيْلَةَ، وَفِي لَفْظٍ: مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَعَمَّانَ، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ: مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى بُصْرَى، وَمِثْلُهُ لِابْنِ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ إِلَى أَيْلَةَ أَوْ بَيْنَ صَنْعَاءَ وَمَكَّةَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنِ مَاجَهْ: مَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: كَمَا بَيْنَ الْبَيْضَاءِ إِلَى بُصْرَى، وَالْبَيْضَاءُ بِالْقُرْبِ مِنَ الرَّبَذَةِ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَهَذِهِ الْمَسَافَاتُ مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى نَحْوِ نِصْفِ شَهْرٍ أَوْ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا أَوْ تَنْقُصُ، وَأَقَلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِسَنَدِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَزَادَ قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَسَأَلْتُهُ قَالَ: قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَنَحْوُهُ لَهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، لَكِنْ قَالَ: ثَلَاثَ لَيَالٍ.
وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ؛ فَقَالَ عِيَاضٌ: هَذَا مِنِ اخْتِلَافِ التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، فَيُعَدُّ اضْطِرَابًا مِنَ الرُّوَاةِ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، سَمِعُوهُ فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَضْرِبُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَثَلًا لِبُعْدِ أَقْطَارِ الْحَوْضِ وَسَعَتُهُ بِمَا يَسْنَحُ لَهُ مِنَ الْعِبَارَةِ ويقرب ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِبُعْدِ بَيْنَ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ لَا عَلَى إِرَادَةِ الْمَسَافَةِ الْمُحَقَّقَةِ، قَالَ: فَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ وَالتَّقْدِيرِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَقَارَبُ، وَأَمَّا هَذَا الِاخْتِلَافُ الْمُتَبَاعِدُ الَّذِي يَزِيدُ تَارَةً عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَيَنْقُصُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَنَّ بَعْضُ الْقَاصِرِينَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي قَدْرِ الْحَوْضِ اضْطِرَابٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ نَقَلَ كَلَامَ عِيَاضٍ وَزَادَ: وَلَيْسَ اخْتِلَافًا بَلْ كُلُّهَا تُفِيدُ أَنَّهُ كَبِيرٌ مُتَّسِعٌ مُتَبَاعِدُ الْجَوَانِبِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّ ذِكْرَهُ لِلْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَسَبِ مَنْ حَضَرَهُ مِمَّنْ يَعْرِفُ تِلْكَ الْجِهَةَ فَيُخَاطِبُ كُلَّ قَوْمٍ بِالْجِهَةِ
الَّتِي يَعْرِفُونَهَا، وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ الْمَسَافَةِ الْقَلِيلَةِ مَا يَدْفَعُ الْمَسَافَةَ الْكَثِيرَةَ؛ فَالْأَكْثَرُ ثَابِتٌ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ؛ فَلَا مُعَارَضَةَ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ أَوَّلًا بِالْمَسَافَةِ الْيَسِيرَةِ، ثُمَّ أُعْلِمَ بِالْمَسَافَةِ الطَّوِيلَةِ، فَأَخْبَرَهُ بِهَا كَأَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِاتِّسَاعِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَيَكُونُ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَطْوَلِهَا مَسَافَةً، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ جَمَعَ الِاخْتِلَافَ بِتَفَاوُتِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَرَدَّهُ بِمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: زَوَايَاهُ سَوَاءٌ.
وَوَقَعَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي بَرْزَةَ، وَأَبِي ذَرٍّ: طُولُهُ وَعَرْضُهُ سَوَاءٌ، وَجَمَعَ غَيْرُهُ بَيْنَ الِاخْتِلَافَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِاخْتِلَافِ السَّيْرِ الْبَطِيءِ، وَهُوَ سَيْرُ الْأَثْقَالِ، وَالسَّيْرِ السَّرِيعِ وَهُوَ سَيْرُ الرَّاكِبِ الْمُخِفِّ، وَيُحْمَلُ رِوَايَةُ أَقَلِّهَا وَهُوَ الثَّلَاثُ عَلَى سَيْرِ الْبَرِيدِ؛ فَقَدْ عُهِدَ مِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ مَسَافَةَ الشَّهْرِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ كَانَ نَادِرًا جِدًّا، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ عَنِ الْمَسَافَةِ الْأَخِيرَةِ نَظَرٌ، وَهُوَ فِيمَا قَبْلَهُ مُسَلَّمٌ، وَهُوَ أَوْلَى مَا يُجْمَعُ بِهِ، وَأَمَّا مَسَافَةُ الثَّلَاثِ فَإِنَّ الْحَافِظَ ضِيَاءَ الدِّينِ الْمَقْدِسِيَّ ذَكَرَ فِي الْجُزْءِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الْحَوْضِ أَنَّ فِي سِيَاقِ لَفْظِهَا غَلَطًا، وَذَلِكَ الِاخْتِصَارُ وَقَعَ فِي سِيَاقِهِ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ: فَوَائِدِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْهَيْثَمِ الدَّيْرَعَاقُولِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ، فَقَالَ فِيهِ: عَرْضُهُ مِثْلُ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرَحَ، قَالَ الضِّيَاءُ: فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ كَمَا بَيْنَ مَقَامِي وَبَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرَحَ فَسَقَطَ مَقَامِي وَبَيْنَ. وَقَالَ الْحَافِظُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ بَعْدَ أَنْ حَكَى قَوْلَ ابْنِ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: هُمَا قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ بَيْنَهُمَا مَس يرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ غَلَّطَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: لَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ بَيْنَهُمَا غَلْوَةَ سَهْمٍ، وَهُمَا مَعْرُوفَتَانِ بَيْنَ الْقُدْسِ وَالْكَرْكِ، قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ الْقَدْرُ الْمَحْذُوفُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَجَرْبَاءَ وَأَذْرَحَ.
قُلْتُ: وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: كَمَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُ جَرْبَاءَ وَأَذْرَحَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَفِيهِ: وَافَى أَهْلُ جَرْبَاءَ وَأَذْرَحَ بِحَرَسِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْعَلَائِيِّ أَنَّهُمَا مُتَقَارِبَتَانِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ رَجَعَ جَمِيعُ الْمُخْتَلِفِ إِلَى أَنَّهُ لِاخْتِلَافِ السَّيْرِ الْبَطِيءِ وَالسَّيْرِ السَّرِيعِ، وَسَأَحْكِي كَلَامَ ابْنِ التِّينِ فِي تَقْدِيرِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرَحَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ السَّادِسَ عَشَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ) قَالَ الْمَازِرِيُّ: مُقْتَضَى كَلَامِ النُّحَاةِ أَنْ يُقَالَ: أَشَدُّ بَيَاضًا، وَلَا يُقَالَ: أَبْيَضُ مِنْ كَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ فِي الشِّعْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ بِقِلَّةٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ، قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ؛ فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَكَذَا لِابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَكَذَا لِأَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ.
قَوْلُهُ: وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكَ) فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: أَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكَ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: رَائِحَةً، وَزَادَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَثَوْبَانَ: وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَمِثْلُهُ لِأَحْمَدَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَلَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: وَأَحْلَى مَذَاقًا مِنَ الْعَسَلِ، وَزَادَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ، وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ رِوَايَةِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَمَاؤُهُ أَشَدُّ بَرْدًا مِنَ الثَّلْجِ.
قَوْلُهُ: وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي بَعْدَهُ: وَفِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ كَعِدَّةِ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ: أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَفِي حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ: فِيهِ الْآنِيَةُ مِثْلُ الْكَوَاكِبِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ فِيهِ أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ.
قَوْلُهُ: مَنْ شَرِبَ مِنْهَا، أَيْ مِنَ الْكِيزَانِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَنْ شَرِبَ مِنْهُ، أَيْ مِنَ الْحَوْضِ، فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا، فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْآتِي قَرِيبًا: مَنْ مَرَّ عَلِيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا. وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَهَذَا يُفَسِّرُ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَنْ مَرَّ بِهِ شَرِبَ، أَيْ مَنْ مَرَّ بِهِ فَمُكِّنَ مِنْ شُرْبِهِ فَشَرِبَ لَا يَظْمَأُ، أَوْ مَنْ مُكِّنَ مِنَ الْمُرُورِ بِهِ شَرِبَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: وَلَمْ يَسْوَدَّ وَجْهُهُ أَبَدًا، وَزَادَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: مَنْ صُرِفَ عَنْهُ لَمْ يُرْوَ أَبَدًا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا: أَوَّلُ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ مَنْ يَسْقِي كُلَّ عَطْشَانَ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ، قَوْلُهُ: يُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ) هَذَا يَدْفَعُ تَعْلِيلَ مَنْ أَعَلَّهُ بِأَنَّ ابْنَ شِهَابٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَنَسٍ؛ لِأَنَّ أَبَا أُوَيْسٍ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ بْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ أَنَسٍ، ثُمَّ سَمِعَهُ، عَنْ أَنَسٍ؛ فَإِنَّ بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ اخْتِلَافًا ; وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ أَسْمَاءَ مَنْ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَزَادُوا عَلَى عَشْرَةٍ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْكَوْثَرِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، وَفِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي أَوَائِلِ التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَظَنَّ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَوْضَ الَّذِي يُدْفَعُ عَنْهُ أَقْوَامٌ غَيْرُ النَّهَرِ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، أَوْ يَكُونُ يَرَاهُمْ وَهُوَ دَاخِلَ الْجَنَّةِ وَهُمْ مِنْ خَارِجِهَا، فَيُنَادِيهِمْ فَيَصْرِفُونَ عَنْهُ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ عَجِيبٌ، يُغْنِي عَنْهُ أَنَّ الْحَوْضَ الَّذِي هُوَ خَارِجَ الْجَنَّةِ يُمَدُّ مِنَ النَّهَرِ الَّذِي هُوَ دَاخِلَ الْجَنَّةِ، فَلَا إِشْكَالَ أَصْلًا، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: طِيبُهُ أَوْ طِينُهُ، شَكَّ هُدْبَةُ هَلْ هُوَ بِمُوَحَّدَةٍ مِنَ الطِّيبِ، أَوْ بِنُونٍ مِنَ الطِّينِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْوَلِيدِ لَمْ يَشُكَّ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ بِالنُّونِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ: فَأَهْوَى الْمَلَكُ بِيَدِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْ طِينِهِ مِسْكًا أَذْفَرَ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: تُرَابُهُ مِسْكٌ.
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ حَدِيثُ أَنَسٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: أُصَيْحَابِي بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَصْحَابِي بِغَيْرِ تَصْغِيرٍ.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، فَيُقَالُ: وَقَدْ ذُكِرَ شَرْحُ مَا تَضَمَّنَهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُحْقًا بُعْدًا، يُقَالُ: سَحِيقٌ بَعِيدٌ، سَحَقَهُ وَأَسْحَقَهُ: أَبْعَدَهُ.
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ وَالْحَادِي عَشَرَ: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ، وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا بِسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فِيهِمَا، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، وَمَعْنَاهُ: بُعْدًا بُعْدًا، وَنُصِبَ بِتَقْدِيرِ أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُحْقًا: بُعْدًا، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ بِلَفْظِهِ.
قَوْلُهُ: يُقَالُ: سَحِيقٌ بَعِيدٌ، هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} السَّحِيقُ: الْبَعِيدُ، وَالنَّخْلَةُ السَّحُوقُ الطَّوِيلَةُ.
قَوْلُهُ: سَحَقَهُ وَأَسْحَقهُ أَبْعَدَهُ، ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، قَالَ: يُقَالُ: سَحَقَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقهُ، أَيْ: أَبْعَدَهُ، وَيُقَالُ: بَعُدَ وَسُحِقَ إِذَا دَعَوْا عَلَيْهِ، وَسَحَقَتْهُ الرِّيحُ أَيْ طَرَدَتْهُ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: يُقَالُ: سَحَقَهُ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَفَتَنَهُ وَأَسْحَقَهُ أَبْعَدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا فِي بَابُ كَيْفَ الْحَشْرُ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ
…
إِلَخْ، وَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْمَيْمُونِيِّ قَالَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ بِهِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، نَسَبَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي رِوَايَتِهِ هَذِهِ، وَكَذَا
أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيُجْلَوْنَ، وَقَالَ عُقَيْلٌ: فَيُحَلَّئُونَ، وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ قَوْلُهُ (فَيُجْلَوْنَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ، أَيْ: يُصْرَفُونَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَضْمُومَةٌ قَبْلَ الْوَاوِ، وَكَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَمَعْنَاهُ يُطْرَدُونَ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَهُ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ قَالَ: وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَهْمُوزٌ، فَكَأَنَّهُ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ.
قَوْلُهُ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا هَذَا يُوَافِقُ تَفْسِيرَ قَبِيصَةَ الْمَاضِي فِي بَابُ كَيْفَ الْحَشْرُ.
قَوْلُهُ: عَلَى أَعْقَابِهِمْ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: عَلَى أَدْبَارِهِمْ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ شُعَيْبٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، يَعْنِي بِسَنَدِهِ، وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ، وَهُوَ بِسُكُونِ الْجِيمِ أَيْضًا، وَقِيلَ: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا لَامٌ ثَقِيلَةٌ وَوَاوٌ سَاكِنَةٌ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ عُقَيْلٌ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، يَعْنِي: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِسَنَدِهِ: يُحَلَّئُونَ، يَعْنِي بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْهَمْزَةِ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ شَيْخُ، الزُّهْرِيِّ فِيهِ هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَشَيْخُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ، عَنِ الْمَرْوَزِيِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ خَطَأٌ، وَفِي السَّنَدِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مَدَنِيُّونَ فِي نَسَقٍ؛ فَالزُّهْرِيُّ، وَالْبَاقِرُ قَرِينَانِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْهُمَا، وَطَرِيقُ الزُّبَيْدِيِّ الْمُشَارُ إِلَيْهَا وَصَلَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنْهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ مِثْلَ رِوَايَةِ شَبِيبٍ، عَنْ يُونُسَ، لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ أَبَا هُرَيْرَةَ، بَلْ قَالَ: عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ، وَشَبِيبَ بْنَ سَعِيدٍ اتَّفَقَا فِي رِوَايَتِهِمَا، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ ابْنُ سَعِيدٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا لَا يَضُرُّ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ زِيَادَةً عَلَى مَا يقْتَضِيهِ رِوَايَةُ ابْنِ سَعِيدٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عُقَيْلٍ، وَشُعَيْبٍ فَإِنَّمَا تَخَالَفَتَا فِي بَعْضِ اللَّفْظِ، وَخَالَفَ الْجَمِيعَ الزُّبَيْدِيُّ فِي السَّنَدِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدَيْنِ؛ فَإِنَّهُ حَافِظٌ، وَصَاحِبُ حَدِيثٍ، وَدَلَّتْ
رِوَايَةُ الزُّبَيْدِيِّ عَلَى أَنَّ شُبَيْبَ بْنَ سَعِيدٍ حَفِظَ فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ. وَقَدْ أَعْرَضَ مُسْلِمٌ عَنْ هَذِهِ الطُّرُقِ كُلِّهَا، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ: إِنِّي لَأَذُودُ عَنْ حَوْضِي رِجَالًا كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ عَنِ الْإِبِلِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ مَعَ كَثْرَةِ مَا أَخْرَجَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الذَّوْدِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ أَنَّهُ يُرْشِدُ كُلَّ أَحَدٍ إِلَى حَوْضِ نَبِيِّهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَأَنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ بِكَثْرَةِ مَنْ يَتْبَعُهُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ إِنْصَافِهِ وَرِعَايَةِ إِخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ، لَا أَنَّهُ يَطْرُدُهُمْ بُخْلًا عَلَيْهِمْ بِالْمَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَطْرُدُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّرْبَ مِنَ الْحَوْضِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضا، أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْهُ، وَرِجَالُ سَنَدِهِ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ، وَقَدْ ضَاقَ مَخْرَجُهُ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ وَسَائِرِ مَنِ اسْتَخْرَجَ عَلَى الصَّحِيحِ؛ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، كَذَا بِالنُّونِ لِلْأَكْثَرِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ: قَائِمٌ بِالْقَافِ، وَهُوَ أَوْجَهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ قِيَامُهُ عَلَى الْحَوْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتُوَجَّهُ الْأُولَى بِأَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ فِي الدُّنْيَا مَا سَيَقَعُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهُمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ الْمُرَادُ بِالرَّجُلِ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا الْقَهْقَرَى، أَيْ رَجَعُوا إِلَى خَلْفٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى رَجَعَ الرُّجُوعَ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، وَهُوَ رُجُوعٌ مَخْصُوصٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْعَدْوُ الشَّدِيدُ.
قَوْلُهُ: فَلَا أَرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلَ هَمَلِ النَّعَمِ يَعْنِي مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَنَوْا مِنَ الْحَوْضِ،
وَكَادُوا يَرِدُونَهُ، فَصُدُّوا عَنْهُ، وَالْهَمَلُ بِفَتْحَتَيْنِ الْإِبِلُ بِلَا رَاعٍ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْهَمَلُ مَا لَا يَرْعَى وَلَا يُسْتَعْمَلُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الضَّوَالِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَرِدُهُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ؛ لِأَنَّ الْهَمَلَ فِي الْإِبِلِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضا: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي، وَفِيهِ: وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ، وَالْمُرَادُ بِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ رَوْضَةً: أَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ تُنْقَلُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَتَكُونُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِهَا، أَوْ أَنَّهُ عَلَى الْمَجَازِ؛ لِكَوْنِ الْعِبَادَةِ فِيهِ تَئُولُ إِلَى دُخُولِ الْعَابِدِ رَوْضَةَ الْجَنَّةِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ إِذْ لَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَالْخَبَرُ مَسُوقٌ لِمَزِيدِ شَرَفِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَقِيلَ: فِيهِ تَشْبِيهٌ مَحْذُوفُ الْأَدَاةِ، أَيْ: هُوَ كَرَوْضَةٍ؛ لِأَنَّ مَنْ يَقْعُدُ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمُؤْمِنِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُكْثِرُونَ الذِّكْرَ وَسَائِرَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ التَّرْغِيبُ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ، وَأَنَّ مَنْ لَازَمَ ذِكْرَ اللَّهِ فِي مَسْجِدِهَا آلَ بِهِ إِلَى رَوْضَةِ الْجَنَّةِ، وَسُقِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْحَوْضِ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ حَدِيثُ جُنْدَبٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ رَاوِيهِ عَنْهُ هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ الْكُوفِيُّ، وَالْفَرَطُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ السَّابِقُ.
الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ قَوْلُهُ: يَزِيدُ هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَأَبُو الْخَيْرِ هُوَ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيُّ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ هُوَ الْجُهَنِيُّ، وَقَدْ مَرَّ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الشُّهَدَاءِ، وَفِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمُنَافِسَةِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الرِّقَاقِ هَذَا.
قَوْلُهُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كُشِفَ لَهُ عَنْهُ؛ لَمَّا خَطَبَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُ رُؤْيَةَ الْقَلْبِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: النُّكْتَةُ فِي ذِكْرِهِ عَقِبَ التَّحْذِيرِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى تَحْذِيرِهِمْ مِنْ فِعْلِ مَا يَقْتَضِي إِبْعَادَهُمْ عَنِ الْحَوْضِ، وَفِي الْحَدِيثِ عِدَّةُ أَعْلَامٍ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ كَمَا سَبَقَ.
الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ (مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ) هُوَ الْجَدَلِيُّ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُهْمَلَةِ مِنْ ثِقَاتِ الْكُوفِيِّينَ، وَلَهُمْ مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ اثْنَانِ غَيْرُهُ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنْهُ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ جُهَنِيُّ، وَالْآخَرُ أَصْغَرُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ مَجْهُولٌ.
قَوْلُهُ: حَارِثَةُ بْنُ وَهْبٍ، هُوَ الْخُزَاعِيُّ، صَحَابِيٌّ نَزَلَ الْكُوفَةَ، لَهُ أَحَادِيثُ، وَكَانَ أَخَا عُبَيْدِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِأُمِّهِ.
قَوْلُهُ: كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ صَنْعَاءَ الشَّامِ. قُلْتُ: وَلَا بُعْدَ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْمُتَبَادِرِ، هُوَ صَنْعَاءُ الْيَمَنِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْخَامِسِ التَّقْيِيدُ بِصَنْعَاءَ الْيَمَنِ، فَلْيُحْمَلِ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ الشَّامِ قَدْرَ مَا بَيْنَهَا وَصَنْعَاءَ الْيَمَنِ وَقَدْرَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَيْلَةَ وَقَدْرَ مَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرَحَ
…
انْتَهَى، وَهُوَ احْتِمَالٌ مَرْدُودٌ؛ فَإِنَّهَا مُتَفَاوِتَةٌ إِلَّا مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ وَبَيْنَهَا وَصَنْعَاءَ الْأُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: وَزَادَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو عَدِيٍّ جَدُّهُ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَيُقَالُ: بَلْ هِيَ كُنْيَةُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ كَثِيرُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حَوْضُهُ، كَذَا لَهُمْ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: حَوْضِي.
قَوْلُهُ: فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ رَاءٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ، هُوَ ابْنُ شَدَّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حِسْلٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَإِهْمَالِهِمَا ثُمَّ لَامٍ، الْقُرَشِيُّ الْفِهْرِيُّ، صَحَابِيٌّ ابْنُ صَحَابِيٍّ، شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَسَكَنَ الْكُوفَةَ، وَيُقَالُ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَحَدِيثُهُ مَرْفُوعٌ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيمَا زَادَهُ مِنْ ذِكْرِ الْأَوَانِي. في شرح الحديث السادس عشر.
الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ قَوْلُهُ: عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) جَمَعَ مُسْلِمٌ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَحَدِيثِهِ عَنْ أَسْمَاءَ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي صِفَةِ الْحَوْضِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا قَالَ: وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ
أَبِي بَكْرٍ
…
فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي، هُوَ مُبَيِّنٌ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ: ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، وَأَنَّ الْمُرَادَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي، فِيهِ دَفْعٌ لِقَوْلِ مَنْ حَمَلَهُمْ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
قَوْلُهُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ؟ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَشْخَاصَهُمْ بِأَعْيَانِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْعَلَامَةِ.
قَوْلُهُ: مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، أَيْ: يَرْتَدُّونَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْآخَرِينَ.
قَوْلُهُ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: قَالَ: فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: قَوْلُهُ: أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا) أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الرُّجُوعَ عَلَى الْعَقِبِ كِنَايَةٌ عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الَّذِي تَكُونُ الْفِتْنَةُ سَبَبَهُ؛ فَاسْتَعَاذَ مِنْهُمَا جَمِيعًا.
قَوْلُهُ: عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ تَرْجِعُونَ عَلَى الْعَقِبِ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ لِلْآيَةِ، وَزَادَ: نَكَصَ رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ.
(تنبيه): أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَقِبَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَهُوَ اَلْخَامِسُ، وَكَأَنَّ اَلْبُخَارِيَّ أَخَّرَ حَدِيثَ أَسْمَاءَ إِلَى آخَرِ اَلْبَابِ؛ لِمَا فِي آخِرِهِ مِنَ الْإِشَارَةِ الْآخَرِيَّةِ اَلدَّالَّةِ عَلَى اَلْفَرَاغِ كَمَا جَرَى بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُخْتَمَ كُلُّ كِتَابٍ بِالْحَدِيثِ اَلَّذِي تَكُونُ فِيهِ اَلْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ بِأَيِّ لَفْظٍ اتَّفَقَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(خاتمة): اشْتَمَلَ كِتَابُ اَلرِّقَاقِ مِنَ الْأَحَادِيثِ اَلْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَتِسْعِينَ حَدِيثًا، اَلْمُعَلَّقُ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ طَرِيقًا، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، اَلْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَالْخَالِصُ تِسْعَةٌ وَخَمْسُونَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا، سِوَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: كُنْ فِي اَلدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي اَلْخَالِطِ، وَكَذَا حَدِيثِ أَنَسٍ فِيهِ، وَحَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي نُزُولِ:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَعْذَرَ اَللَّهُ إِلَى امْرِئٍ، وَحَدِيثِهِ اَلْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ، وَحَدِيثِهِ مَا لِعَبْدِي اَلْمُؤْمِنِ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلزُّبَيْرِ: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: مَنْ يَضْمَنُ لِي، وَحَدِيثِ أَنَسٍ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا، وَحَدِيثِهِ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَحَدِيثٍ فِي بَعْثِ اَلنَّارِ، وَحَدِيثِ عُمْرَانَ فِي اَلْجَهَنَّمِيِّينِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ اَلْجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ، وَحَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فِيمَنْ يُدْفَعُ عَنِ اَلْحَوْضِ؛ فَإِنَّ فِيهِ زِيَادَاتٍ لَيْسَتْ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ اَلصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَثَرًا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
82 - كِتَاب الْقَدَرِ
1 - بَاب
6594 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ: بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثم ينفخ فيه الروح، فوالله إِنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ الرَّجُلَ ليَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، قَالَ آدَمُ. إِلَّا ذِرَاعٌ.
6595 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ"
قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْقَدَرِ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي: بَابٌ فِي الْقَدَرِ، وَكَذَا لِلْأَكْثَرِ دُونَ قَوْلِهِ: كِتَابُ الْقَدَرِ. وَالْقَدَرُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمُهْمَلَةِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قَالَ الرَّاغِبُ: الْقَدَرُ بِوَضْعِهِ يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَعَلَى الْمَقْدُورِ الْكَائِنِ بِالْعِلْمِ، وَيَتَضَمَّنُ الْإِرَادَةَ عَقْلًا وَالْقَوْلَ نَقْلًا، وَحَاصِلُهُ وُجُودُ شَيْءٍ فِي وَقْتٍ وَعَلَى حَالٍ بِوَفْقِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقَوْلِ وَقَدَّرَ اللَّهُ الشَّيْءَ بِالتَّشْدِيدِ قَضَاهُ، وَيَجُوزُ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: قَدَّرَ اللَّهُ الشَّيْءَ جَعَلَهُ بِقَدَرٍ وَالرِّزْقَ صَنَعَهُ وَعَلَى الشَّيْءِ: مَلَكَهُ.
وَمَضَى فِي بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ مَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْقَدَرِ: حُكْمُ اللَّهِ، وَقَالُوا - أَيِ الْعُلَمَاءُ - الْقَضَاءُ هُوَ الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ الْإِجْمَالِيُّ فِي الْأَزَلِ، وَالْقَدَرُ جُزْئِيَّاتُ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَتَفَاصِيلُهُ، وَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ: سَبِيلُ مَعْرِفَةِ هَذَا الْبَابِ التَّوْقِيفُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَالْعَقْلِ، فَمَنْ عَدَلَ عَنِ التَّوْقِيفِ فِيهِ ضَلَّ وَتَاهَ فِي بِحَارِ الْحِيرَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْ شِفَاءَ الْعَيْنِ، وَلَا مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ؛ لِأَنَّ الْقَدَرَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ - تَعَالَى - اخْتُصَّ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ بِهِ، وَضَرَبَ دُونَهُ الْأَسْتَارَ، وَحَجَبَهُ عَنْ عُقُولِ الْخَلْقِ وَمَعَارِفِهِمْ؛ لِمَا عَلِمَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَلَمْ يَعْلَمْهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَقِيلَ: إِنَّ سِرَّ الْقَدَرِ يَنْكَشِفُ لَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَلَا يَنْكَشِفُ لَهُمْ قَبْلَ دُخُولِهَا. انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: إِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزَ وَالْكَيْسَ.
قُلْتُ: وَالْكَيْسُ بِفَتْحِ الْكَافِ ضِدَّ الْعَجْزِ، وَمَعْنَاهُ الْحِذْقُ فِي الْأُمُورِ، وَيَتَنَاوَلُ أُمُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَقَدْ سَبَقَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَمَشِيئَتُهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُمَا فِي الْحَدِيثِ غَايَةً لِذَلِكَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَفْعَالَنَا وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً لَنَا وَمُرَادَةً مِنَّا فَلَا تَقَعُ مَعَ ذَلِكَ مِنَّا إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ طَاوُسٌ - مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا - مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُقَدِّرُهُ، وَهُوَ أَنَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وَاشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْقَدَرِيَّةِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُؤَالِ جِبْرِيلَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، وَذَكَرَ هُنَاكَ بَيَانَ مَقَالَةِ الْقَدَرِيَّةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ قَاطِبَةً أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ - تَعَالَى، كَمَا قَالَ - تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَيْنِ.
(الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ) سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، مِنْ رِوَايَةِ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ التَّحْدِيثَ وَالْإِنْبَاءَ عِنْدَ شُعْبَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَيَظْهَرُ بِهِ غَلَطُ مَنْ نَقَلَ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْإِنْبَاءَ فِي الْإِجَازَةِ، لِكَوْنِهِ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَلِثُبُوتِ النَّقْلِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْإِجَازَةَ وَلَا يَرْوِي بِهَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضِيَّةً وَهُوَ أَوْلَى؛ لِتَعُمَّ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِهِ وَعَادَتِهِ، وَالصَّادِقُ مَعْنَاهُ الْمُخْبِرُ بِالْقَوْلِ الْحَقِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ يُقَالُ: صَدَقَ الْقِتَالُ وَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ، وَالْمَصْدُوقُ مَعْنَاهُ الَّذِي يُصْدَقُ لَهُ فِي الْقَوْلِ، يُقَالُ: صَدَقْتُهُ الْحَدِيثَ إِذَا أَخْبَرْتُهُ بِهِ إِخْبَارًا جَازِمًا أَوْ مَعْنَاهُ الَّذِي صَدَقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَعْدَهُ، وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَمَّا كَانَ مَضْمُونُ الْخَبَرِ أَمْرًا مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى بُطْلَانِ مَا ادَّعَوْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَلَذُّذًا بِهِ وَتَبَرُّكًا وَافْتِخَارًا، وَيُؤَيِّدُهُ وُقُوعُ هَذَا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ لَيْسَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بُطْلَانِ شَيْءٍ يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ، وَمَضَى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: هَلَاكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ أُغَيْلِمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ اشْتُهِرَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ: كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْأَعْمَشَ تَفَرَّدَ بِهِ حَتَّى وَجَدْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ.
قُلْتُ: وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَرَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَيْضًا، وَقَعَ لَنَا فِي الْحِلْيَةِ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ زَيْدٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بَلْ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَلْقَمَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَأَبُو وَائِلٍ فِي فَوَائِدِ تَمَّامٍ، وَمُخَارِقِ بْنِ سُلَيْمٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، كِلَاهُمَا عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ طَارِقٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مُخْتَصَرًا، وَكَذَا لِأَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَنَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ فِي فَوَائِدِ الْعِيسَوِيِّ، وَخَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ الْخَطَّابِيِّ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ; وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، مِنْهُمْ أَنَسٌ، وَقَدْ ذُكِرَ عَقِبَ هَذَا، وَحُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي القَدْرِ لِابْنِ
وَهْبٍ، وَفِي أَفْرَادِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ، وَالْفِرْيَابِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَائِشَةُ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَأَبُو ذَرٍّ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ، وَمَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَرَبَاحٌ اللَّخْمِيُّ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي فَوَائِدِ الْمُخْلِصِ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ، وَعَلِيٌّ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ،
وَالْعُرْسُ بْنُ عَمِيرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَأَكْثَمُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَابْنُ مَنْدَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَجَابِرٌ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ، وَقَدْ أَشَارَ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ فَقَطْ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ بِضْعٍ وَعِشْرِينَ نَفْسًا مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ مِنْهُمْ مِنْ أَقْرَانِهِ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ، وَمِنْ طَبَقَتِهِ شُعْبَةُ، الثَّوْرِيُّ، وَزَائِدَةُ، وَعَمَّارُ بْنُ زُرَيْقٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَمِمَّا لَمْ يَقَعْ لِأَبِي عَوَانَةَ رِوَايَةُ شَرِيكٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، وَرِوَايَةُ وَرْقَاءَ بْنِ عُمَرَ، وَيَزِيدَ بْنِ عَطَاءٍ، وَدَاوُدَ بْنِ عِيسَى، أَخْرَجَهَا تَمَّامٌ، وَكُنْتُ خَرَّجْتُهُ فِي جُزْءٍ مِنْ طُرُقٍ نَحْوَ الْأَرْبَعِينَ نَفْسًا عَنِ الْأَعْمَشِ فَغَابَ عَنِّي الْآنَ، وَلَوْ أَمْعَنْتُ التَّتَبُّعَ لَزَادُوا عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (إنَّ أَحَدَكُمْ) قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي إِعْرَابِ الْمُسْنَدِ: لَا يَجُوزُ فِي أَنَّ إِلَّا الْفَتْحُ؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولُ حَدَّثَنَا، فَلَوْ كُسِرَ لَكَانَ مُنْقَطِعًا عَنْ قَوْلِهِ: حَدَّثَنَا، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ بِالْكَسْرِ عَلَى الْحِكَايَةِ وَجَوَّزَ الْفَتْحَ، وَحُجَّةُ أَبِي الْبَقَاءِ أَنَّ الْكَسْرَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَّا لِمَانِعٍ، وَلَوْ جَازَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ النَّقْلُ لَجَازَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى أَنَّهَا بِالْفَتْحِ، وَتَعَقَّبَهُ الْخُوبِيُّ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ جَاءَتْ بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ؛ فَلَا مَعْنَى لِلرَّدِّ، قُلْتُ: وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّهُ فِي الرِّوَايَةِ بِالْكَسْرِ فَقَطْ، قَالَ الْخُوبِيُّ: وَلَوْ لَمْ تَجِئْ بِهِ الرِّوَايَةُ لَمَا امْتَنَعَ جَوَازًا عَلَى طَرِيقِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، وَأَجَابَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْوَعْدَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ بِخُصُوصِ لَفْظِهَا، فَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى الْفَتْحِ، فَأَمَّا هُنَا فَالتَّحْدِيثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِهِ وَبِمَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ: (يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ شَيْخَيْهِ، وَلَهُ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ آدَمَ فِي التَّوْحِيدِ، وَكَذَا لِلْأَكْثَرِ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْهُ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَكَذَا لِأَبِي مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٍ، وَابْنِ نُمَيْرٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: إِنَّهُ يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَفِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ مِثْلُ آدَمَ لَكِنْ قَالَ: ابْنِ آدَمَ، بَدَلَ: أَحَدِكُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ ضَمُّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ بَعْدَ الِانْتِشَارِ، وَفِي قَوْلِهِ: خَلْقُ تَعْبِيرٌ بِالْمَصْدَرِ عَنِ الْجُثَّةِ، وَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِمْ: هَذَا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ مَضْرُوبُهُ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مَا يَقُومُ بِهِ خَلْقُ أَحَدِكُمْ، أَوْ أُطْلِقَ مُبَالَغَةً كَقَوْلِهِ: وَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ، جَعَلَهَا نَفْسَ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنِيَّ يَقَعُ فِي الرَّحِمِ حِينَ انْزِعَاجِهِ بِالْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ الدَّافِعَةِ مَبْثُوثًا مُتَفَرِّقًا، فَيَجْمَعُهُ اللَّهُ فِي مَحَلِّ الْوِلَادَةِ مِنَ الرَّحِمِ.
قَوْلُهُ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا) زَادَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ: أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَكَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَنْ شُعْبَةَ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَوَكِيعٍ، وَجَرِيرٍ، وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِغَيْرِ شَكٍّ، وَفِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بِغَيْرِ شَكٍّ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: يَوْمٌ بِلَيْلَتِهِ أَوْ لَيْلَةٌ بِيَوْمِهَا، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ آدَمَ، لَكِنْ زَادَ: نُطْفَةً بَيْنَ قَوْلِهِ: أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَرْبَعِينَ، فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي يُجْمَعُ هُوَ النُّطْفَةُ وَالْمُرَادُ بِالنُّطْفَةِ الْمَنِيُّ، وَأَصْلُهُ الْمَاءُ الصَّافِي الْقَلِيلُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ إِذَا لَاقَى مَاءَ الْمَرْأَةِ بِالْجِمَاعِ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ
يَخْلُقَ مِنْ ذَلِكَ جَنِينًا، هَيَّأَ أَسْبَابَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ قُوَّتَيْنِ قُوَّةَ انْبِسَاطٍ عِنْدَ وُرُودِ مَنِيِّ الرَّجُلِ حَتَّى يَنْتَشِرَ فِي جَسَدِ الْمَرْأَةِ، وَقُوَّةَ انْقِبَاضٍ بِحَيْثُ لَا يَسِيلُ مِنْ فَرْجِهَا مَعَ كَوْنِهِ مَنْكُوسًا وَمَعَ كَوْنِ الْمَنِيِّ ثَقِيلًا بِطَبْعِهِ، وَفِي مَنِيِّ الرَّجُلِ قُوَّةُ الْفِعْلِ، وَفِي مَنِيِّ الْمَرْأَةِ قُوَّةُ الِانْفِعَالِ، فَعِنْدَ الِامْتِزَاجِ يَصِيرُ مَنِيُّ الرَّجُلِ كَالْإِنْفَحَةِ لِلَّبَنِ، وَقِيلَ: فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قُوَّةُ فِعْلٍ وَانْفِعَالٍ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ فِي الرَّجُلِ أَكْثَرُ وَبِالْعَكْسِ فِي الْمَرْأَةِ، وَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّشْرِيحِ أَنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْوَلَدِ إِلَّا فِي عَقْدِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تُبْطِلُ ذَلِكَ، وَمَا ذُكِرَ أَوَّلًا أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجَمْعِ مُكْثُ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ، أَيْ: تَمْكُثُ النُّطْفَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تُخَمَّرُ فِيهِ حَتَّى تَتَهَيَّأَ لِلتَّصْوِيرِ، ثُمَّ تُخْلَقُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَّرَهُ بِأَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْهَا بَشَرًا طَارَتْ فِي جَسَدِ الْمَرْأَةِ تَحْتَ كُلِّ ظُفُرٍ وَشَعْرٍ، ثُمَّ تَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَنْزِلُ دَمًا فِي الرَّحِمِ، فَذَلِكَ جَمْعُهَا.
قُلْتُ: هَذَا التَّفْسِيرُ ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا، عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَوْلُهُ: فَذَلِكَ جَمْعُهَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ أَوْ تَفْسِيرُ بَعْضِ رُوَاةِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَأَظُنُّهُ الْأَعْمَشَ، فَظَنَّ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ تَتِمَّةُ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَأَدْرَجَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةِ خَيْثَمَةَ ذِكْرُ الْجَمْعِ، حَتَّى يُفَسِّرَهُ، وَقَدْ رَجَّحَ الطِّيبِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ، فَقَالَ: الصَّحَابِيُّ أَعْلَمُ بِتَفْسِيرِ مَا سَمِعَ وَأَحَقُّ بِتَأْوِيلِهِ وَأَوْلَى بِقَبُولِ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ وَأَكْثَرُ احْتِيَاطًا فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُ أَنْ يَتَعَقَّبَ كَلَامَهُ، قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَفَعَهُ مَا ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ، وَلَفْظُهُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ عَبْدٍ فَجَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عِرْقٍ وَعُضْوٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ جَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ كُلُّ عِرْقٍ لَهُ دُونَ آدَمَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَهُ، وَفِي لَفْظِ: ثُمَّ تَلَا: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ يَوْمِ السَّابِعِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي هَذَا زِيَادَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّبَهَ يَحْصُلُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَأَنَّ فِيهِ ابْتِدَاءَ جَمْعِ الْمَنِيِّ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ جَمْعِهِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْأَرْبَعِينَ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النُّطْفَةَ الَّتِي تُقْضَى مِنْهَا النَّفْسُ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَحَادَرَتْ دَمًا فَكَانَتْ عَلَقَةً. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً أَذِنَ اللَّهُ فِي خَلْقِهَا. وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْهُ، أَنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ. وَعِنْدَهُ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ: إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ، وَفِي نُسْخَةٍ: ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ، وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا، قَالَ مِثْلَ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَفِي رِوَايَةِ رَبِيعَةَ بْنِ كُلْثُومٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا يَأْذَنُ لَهُ لِبِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ: يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنْ عَمْرٍو فَقَالَ: خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَجَزَمَ بِذَلِكَ فَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذِكْرِ الْأَرْبَعِينَ، وَكَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَغَالِبُهَا كَحَدِيثِ أَنَسٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ لَا تَحْدِيدَ فِيهِ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ نَقَلَتِهِ؛ فَبَعْضُهُمْ
جَزَمَ بِالْأَرْبَعِينَ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبَعْضُهُمْ زَادَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ بِضْعًا، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَدَّدَ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى وَابْتِدَاءِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، بَلْ أَطْلَقَ الْأَرْبَعِينَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي أَوَائِلِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَدَدِ الزَّائِدِ عَلَى أَنَّهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَجِنَّةِ، وَهُوَ جَيِّدٌ لَوْ كَانَتْ مَخَارِجُ الْحَدِيثِ مُخْتَلِفَةً، لَكِنَّهَا مُتَّحِدَةٌ وَرَاجِعَةٌ إِلَى أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَضْبِطِ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَالْخَطْبُ فِيهِ سَهْلٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَدْفَعُ الزِّيَادَةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ فِي إِحْضَارِ الشَّبَهِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَأَنَّ فِيهِ يُبْتَدَأُ الْجَمْعُ بَعْدَ الِانْتِشَارِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: إِنَّهُ حَدِيثٌ
مُتَّصِلٌ عَلَى شَرْطِ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ بِكَوْنِهِ فِي الْبَطْنِ وَبِكَوْنِهِ فِي الرَّحِمِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الرَّحِمِ حَقِيقَةً، وَالرَّحِمُ فِي الْبَطْنِ، وَقَدْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ - تَعَالَى:{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} بِأَنَّ الْمُرَادَ ظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْبَطْنِ، فَالْمَشِيمَةُ فِي الرَّحِمِ، وَالرَّحِمُ فِي الْبَطْنِ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلُ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ آدَمَ: ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً مِثْلُ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ثُمَّ تَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَكُونُ هُنَا بِمَعْنَى تَصِيرُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَكُونُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ مُدَّةَ الْأَرْبَعِينَ، ثُمَّ تَنْقَلِبُ إِلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: تَصَيُّرَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيُخَالِطُ الدَّمُ النُّطْفَةَ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى بَعْدَ انْعِقَادِهَا وَامْتِدَادِهَا، وَتَجْرِي فِي أَجْزَائِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى تَتَكَامَلَ عَلَقَةً فِي أَثْنَاءِ الْأَرْبَعِينَ، ثُمَّ يُخَالِطُهَا اللَّحْمُ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ تَشْتَدَّ فَتَصِيرَ مُضْغَةً، وَلَا تُسَمَّى عَلَقَةً قَبْلَ ذَلِكَ، مَا دَامَتْ نُطْفَةً، وَكَذَا مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ زَمَانِ الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَفَعَهُ: إِنَّ النُّطْفَةَ تَكُونُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، عَلَى حَالِهَا لَا تَتَغَيَّرُ، فَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا حُمِلَ نَفْيُ التَّغَيُّرِ عَلَى تَمَامِهِ، أَيْ: لَا تَنْتَقِلُ إِلَى وَصْفِ الْعَلَقَةِ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَنْفِي أَنَّ الْمَنِيَّ يَسْتَحِيلُ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى دَمًا إِلَى أَنْ يَصِيرَ عَلَقَةً انْتَهَى، وَقَدْ نَقَلَ الْفَاضِلُ عَلِيُّ بْنُ الْمُهَذَّبِ الْحَمَوِيُّ الطَّبِيبُ اتِّفَاقَ الْأَطِبَّاءِ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ يَكُونُ فِي نَحْوِ الْأَرْبَعِينَ، وَفِيهَا تَتَمَيَّزُ أَعْضَاءُ الذَّكَرِ دُونَ الْأُنْثَى لِحَرَارَةِ مِزَاجِهِ وَقُوَاهُ وَأَعْبَدُ إِلَى قِوَامِ الْمَنِيِّ الَّذِي تَتَكَوَّنُ أَعْضَاؤُهُ مِنْهُ وَنُضْجُهُ، فَيَكُونُ أَقْبَلَ لِلشَّكْلِ وَالتَّصْوِيرِ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلُ ذَلِكَ وَالْعَلَقَةُ قِطْعَةُ دَمٍ جَامِدٍ، قَالُوا:
وَتَكُونُ حَرَكَةُ الْجَنِينِ فِي ضِعْفِ الْمُدَّةِ الَّتِي يُخْلَقُ فِيهَا ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلُ ذَلِكَ، أَيْ: لَحْمَةً صَغِيرَةً، وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ الثَّالِثَةُ فَتَتَحَرَّكُ، قَالَ: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ نَفْخَ الرُّوحِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ دَاخِلَ الرَّحِمِ خَشِنٌ كالسفنج وَجُعِلَ فِيهِ قَبُولًا لِلْمَنِيِّ كَطَلَبِ الْأَرْضِ الْعَطْشَى لِلْمَاءِ، فَجَعَلَهُ طَالِبًا مُشْتَاقًا إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ، فَلِذَلِكَ يُمْسِكُهُ وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزْلِقُهُ، بَلْ يَنْضَمُّ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يُفْسِدَهُ الْهَوَاءُ، فَيَأْذَنُ اللَّهُ لِمَلَكِ الرَّحِمِ فِي عَقْدِهِ وَطَبْخِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَفِي تِلْكَ الْأَرْبَعِينَ يُجْمَعُ خَلْقُهُ.
قَالُوا: إِنَّ الْمَنِيَّ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الرَّحِمُ وَلَمْ يَقْذِفْهُ اسْتَدَارَ عَلَى نَفْسِهِ وَاشْتَدَّ إِلَى تَمَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَيَنْقُطُ فِيهِ ثَلَاثَ نُقَطٍ فِي مَوَاضِعِ الْقَلْبِ وَالدِّمَاغِ وَالْكَبِدِ، ثُمَّ يَظْهَرُ فِيمَا بَيْنَ تِلْكَ النُّقَطِ خُطُوطٌ خَمْسَةٌ إِلَى تَمَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَنْفُذُ الدَّمَوِيَّةُ فِيهِ إِلَى تَمَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَتَتَمَيَّزُ الْأَعْضَاءُ الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ تَمْتَدُّ رُطُوبَةُ النُّخَاعِ إِلَى تَمَامِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ يَنْفَصِلُ الرَّأْسُ عَنِ الْمَنْكِبَيْنِ وَالْأَطْرَافُ عَنِ الضُّلُوعِ وَالْبَطْنُ عَنِ الْجَنِينِ فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَتِمُّ هَذَا التَّمْيِيزُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ لِلْحِسِّ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَيُكْمِلُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَفِيهِ تَفْصِيلُ مَا أُجْمِلَ فِيهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَلَقَةَ وَإِنْ كَانَتْ قِطْعَةَ دَمٍ لَكِنَّهَا فِي هَذِهِ
الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ تَنْتَقِلُ عَنْ صُورَةِ الْمَنِيِّ، وَيَظْهَرُ التَّخْطِيطُ فِيهَا ظُهُورًا خَفِيًّا عَلَى التَّدْرِيجِ، ثُمَّ يَتَصَلَّبُ فِي الْأَرْبَعِينَ يَوْمًا بِتَزَايُدِ ذَلِكَ التَّخْلِيقِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَصِيرَ مُضْغَةً مُخَلَّقَةً وَيَظْهَرُ لِلْحِسِّ ظُهُورًا لَا خَفَاءَ بِهِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ وَالطَّعْنِ فِي الْأَرْبَعِينَ الرَّابِعَةِ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِالْوَحْيِ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ فُضَلَاءِ الْأَطِبَّاءِ وَحُذَّاقِ الْفَلَاسِفَةِ: إِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّوَهُّمِ وَالظَّنِّ الْبَعِيدِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي النُّقْطَةِ الْأُولَى أَيُّهَا أَسْبَقُ وَالْأَكْثَرُ نَقْطُ الْقَلْبِ، وَقَالَ: قَوْمٌ أَوَّلُ مَا يُخْلَقُ مِنْهُ السُّرَّةُ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مِنَ الْغِذَاءِ أَشَدُّ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى آلَاتِ قُوَاهُ؛ فَإِنَّ مِنَ السُّرَّةِ يَنْبَعِثُ الْغِذَاءُ، وَالْحُجُبُ الَّتِي عَلَى الْجَنِينِ فِي السُّرَّةِ كَأَنَّهَا مَرْبُوطٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَالسُّرَّةُ فِي وَسَطِهَا، وَمِنْهَا يَتَنَفَّسُ الْجَنِينُ، وَيَتَرَبَّى، وَيَنْجَذِبُ غِذَاؤُهُ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ: مِثْلُهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَمَا قَالَ فِي الْعَلَقَةِ، وَالْمُرَادُ مِثْلُ مُدَّةِ الزَّمَانِ الْمَذْكُورِ فِي الِاسْتِحَالَةِ وَالْعَلَقَةُ الدَّمُ الْجَامِدُ الْغَلِيظُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِلرُّطُوبَةِ الَّتِي فِيهِ وَتَعَلُّقِهِ بِمَا مَرَّ بِهِ، وَالْمُضْغَةُ قِطْعَةُ اللَّحْمِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا قَدْرُ مَا يَمْضُغُ الْمَاضِغُ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ مَلَكٌ، وَفِي رِوَايَةِ آدَمَ، كَالْكُشْمِيهَنِيِّ، لَكِنْ قَالَ: الْمَلَكُ، وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ بِلَفْظِ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَهْدٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ جِنْسُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْأَرْحَامِ كَمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ بْنِ كُلْثُومٍ أَنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالرَّحِمِ وَمِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ: ثُمَّ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ الَّذِي يُخَلِّقُهَا، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ: أَتَى مَلَكُ الْأَرْحَامِ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَكِنْ بِلَفْظِ: بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ النُّطْفَةَ قَالَ مَلَكُ الْأَرْحَامِ، وَفِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، عَنْ أَنَسٍ: وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلَكِ مَنْ جُعِلَ إِلَيْهِ أَمْرُ تِلْكَ الرَّحِمِ فَكَيْفَ يُبْعَثُ أَوْ يُرْسَلُ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الَّذِي يُبْعَثُ بِالْكَلِمَاتِ غَيْرُ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالرَّحِمِ الَّذِي يَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ
…
إِلَخْ، ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَعْثِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِذَلِكَ، قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا الْمَلَكُ بِكَفِّهِ، فَقَالَ: أَيْ، رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: فَيُقَالُ انْطَلِقْ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ فَإِنَّكَ تَجِدُ قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، فَيَنْطَلِقُ فَيَجِدُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ الْإِرْسَالُ الْمَذْكُورُ بِذَلِكَ، وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَا يَتَشَكَّلُ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَنِينِ، فَقِيلَ: قَلْبُهُ؛ لِأَنَّهُ الْأَسَاسُ، وَهُوَ مَعْدِنُ الْحَرَكَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَقِيلَ: الدِّمَاغُ؛ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ، وَمِنْهُ يَنْبَعِثُ، وَقِيلَ: الْكَبِدُ؛ لِأَنَّ فِيهِ النُّمُوَّ وَالِاغْتِذَاءَ الَّذِي هُوَ قِوَامُ الْبَدَنِ، وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مُقْتَضَى النِّظَامِ الطَّبِيعِيِّ؛ لِأَنَّ النُّمُوَّ هُوَ الْمَطْلُوبُ أَوَّلًا، وَلَا حَاجَةَ لَهُ حِينَئِذٍ إِلَى حِسٍّ وَلَا حَرَكَةٍ إِرَادِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ النَّبَاتِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ قُوَّةُ الْحِسِّ وَالْإِرَادَةِ عِنْدَ تَعَلُّقِ النَّفْسِ بِهِ، فَيُقَدَّمُ الْكَبِدُ ثُمَّ الْقَلْبُ ثُمَّ الدِّمَاغُ.
قَوْلُهُ: (فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعَةٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِأَرْبَعٍ، وَالْمَعْدُودُ إِذَا أُبْهِمَ جَازَ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِكَتْبِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ الْجَنِينِ، وَفِي رِوَايَةِ آدَمَ: فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَكَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ الْقَضَايَا الْمُقَدَّرَةُ، وَكُلُّ قَضِيَّةٍ تُسَمَّى كَلِمَةً.
قَوْلُهُ: (بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَنَقَصَ مِنْهَا ذِكْرُ الْعَمَلِ، وَبِهِ تَتِمُّ الْأَرْبَعُ، وَثَبَتَ قَوْلُهُ: وَعَمَلُهُ، فِي رِوَايَةِ آدَمَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ الْأَعْمَشِ: فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ، فَذَكَرَ الْأَرْبَعَ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ وَالْأَكْثَرُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بكتب رِزْقُهُ
…
إِلَخْ، وَضُبِطَ بِكَتْبِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَكَافٍ مَفْتُوحَةٍ
وَمُثَنَّاةٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَالْآخَرُ بِتَحْتَانِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَهُوَ أَوْجَهُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ: فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَتَكَلَّفَ الْخَوْبِيُّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ يُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ مِنْهَا ثَلَاثًا، وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَكْتُبُ لِكُلِّ أَحَدٍ إِمَّا السَّعَادَةَ وَإِمَّا الشَّقَاءَ وَلَا يَكْتُبُهُمَا لِوَاحِدٍ مَعًا، وَإِنْ أَمْكَنَ وُجُودُهُمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا اجْتَمَعَا لِلْأَغْلَبِ، وَإِذَا تَرَتَّبَا فَلِلْخَاتِمَةِ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى أَرْبَعٍ، وَإِلَّا لَقَالَ: خَمْسٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ كِتَابَةِ الرِّزْقِ تَقْدِيرُهُ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَصِفَتُهُ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا، وَبِالْأَجَلِ هَلْ هُوَ طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ، وَبِالْعَمَلِ هُوَ صَالِحٌ أَوْ فَاسِدٌ، وَوَقَعَ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، وَالثَّوْرِيِّ جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ: ثُمَّ يَكْتُبُ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ أَنَّ الْمَلَكَ يَكْتُبُ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ، كَأَنْ يَكْتُبَ مَثَلًا: أَجَلَ هَذَا الْجَنِينِ كَذَا، وَرِزْقَهُ كَذَا وَعَمَلَهُ كَذَا، وَهُوَ شَقِيٌّ بِاعْتِبَارِ مَا يُخْتَمُ لَهُ، وَسَعِيدٌ بِاعْتِبَارِ مَا يُخْتَمُ لَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْخَبَرِ، وَكَانَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ: وَيَكْتُبُ شَقَاوَتَهُ وَسَعَادَتَهُ، لَكِنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ إِلَيْهِمَا، وَالتَّفْصِيلُ وَارِدٌ عَلَيْهِمَا، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطِّيبِيُّ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ: إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: إِذَا مَكَثَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاءَهَا مَلَكٌ فَقَالَ: اخْلُقْ يَا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، فَيَقْضِي اللَّهُ مَا شَاءَ، ثُمَّ يَدْفَعُ إِلَى الْمَلَكِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَسِقْطٌ أَمْ تَامٌّ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ ثُمَّ يَقُولُ: أَوَاحِدٌ أَمْ تَوْأَمٌ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ: فَيَقُولُ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَاقِصُ الْأَجَلِ أَمْ تَامُّ الْأَجَلِ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، ثُمَّ يَقْطَعُ لَهُ رِزْقَهُ مَعَ خَلْقِهِ فَيَهْبِطُ بِهِمَا، وَوَقَعَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا زِيَادَةٌ عَلَى الْأَرْبَعِ؛ فَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَيَقُولُ اكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَثَرَهُ وَخَلْقَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ.
وَفِي رِوَايَةِ خَصِيفٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: أَيْ رَبِّ مُصِيبَتُهُ، فَيَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْفِرْيَابِيِّ: فَرَغَ اللَّهُ إِلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ عَمَلِهِ، وَأَجَلِهِ، وَرِزْقِهِ، وَأَثَرِهِ، وَمَضْجَعِهِ، وَأَمَّا صِفَةُ الْكِتَابَةِ فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا الْكِتَابَةُ الْمَعْهُودَةُ فِي صَحِيفَتِهِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ: ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ، وَفِي رِوَايَةِ الْفِرْيَابِيِّ: ثُمَّ تُطْوَى تِلْكَ الصَّحِيفَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: فَيَقْضِي اللَّهُ مَا هُوَ قَاضٍ، فَيَكْتُبُ مَا هُوَ لَاقٍ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَتَلَا أَبُو ذَرٍّ خَمْسَ آيَاتٍ مِنْ فَاتِحَةِ سُورَةِ التَّغَابُنِ: وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ دُونَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ، وَزَادَ: حَتَّى النَّكْبَةَ يُنْكَبُهَا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ الْمُفْرَدِ قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِكِتَابَتِهِ الْأَرْبَعُ الْمَأْمُورُ بِهَا، وَيَحْتَمِلُ غَيْرُهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِمَا بَيَّنَتْهُ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِجَمِيعِ طُرُقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ يَتَقَلَّبُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْوَارٍ كُلُّ طَوْرٍ مِنْهَا فِي أَرْبَعِينَ، ثُمَّ بَعْدَ تَكْمِلَتِهَا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الْأَطْوَارَ الثَّلَاثَةَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ؛ مِنْهَا فِي الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فِي بَابُ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ
الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ التَّخْلِيقَ يَكُونُ لِلْمُضْغَةِ، وَبَيَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِيهَا إِذَا تَكَامَلَتِ الْأَرْبَعِينَ، وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي إِذَا انْتَهَتْ سُمِّيَتْ مُضْغَةً، وَذَكَرَ اللَّهُ النُّطْفَة، ثُمَّ الْعَلَقَةَ، ثُمَّ الْمُضْغَةَ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَزَادَ فِي سُورَةِ {قَدْ أَفْلَحَ} بَعْدَ الْمُضْغَةِ:{فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} الْآيَةَ.
وَيُؤْخَذُ مِنْهَا وَمِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنْ تَصِيرَ الْمُضْغَةُ عِظَامًا بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ، وَوَقَعَ فِي آخِرِ رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا قَرِيبًا بَعْدَ
ذِكْرِ الْمُضْغَةِ: ثُمَّ تَكُونُ عِظَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكْسُو اللَّهُ الْعِظَامَ لَحْمًا، وَقَدْ رَتَّبَ الْأَطْوَارَ فِي الْآيَةِ بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَ الطَّوْرَيْنِ طَوْرٌ آخَرُ، وَرَتَّبَهَا فِي الْحَدِيثِ بِـ ثُمَّ إِشَارَةً إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي تَتَخَلَّلُ بَيْنَ الطَّوْرَيْنِ، لِيَتَكَامَلَ فِيهَا الطَّوْرُ، وَإِنَّمَا أَتَى بِـ ثُمَّ بَيْنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ؛ لِأَنَّ النُّطْفَةَ قَدْ لَا تَتَكَوَّنُ إِنْسَانًا، وَأَتَى بِـ ثُمَّ فِي آخِرِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} ؛ لِيَدُلَّ عَلَى مَا يَتَجَدَّدُ لَهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ؛ وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِـ ثُمَّ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ بَيْنَ السُّلَالَةِ وَالنُّطْفَةِ، فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَخَلَّلَ بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ وَخَلْقِ وَلَدِهِ، وَوَقَعَ في حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَا ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَفْظُهُ: إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ، وَفِي نُسْخَةٍ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ - لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعَظْمَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَجَلُهُ. الْحَدِيثَ.
هَذِهِ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ فِي مُسْلِمٍ، وَنَسَبَهَا عِيَاضٌ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَإِنَّمَا لِابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَوَّلِ الرِّوَايَةِ ذِكْرٌ فِي قَوْلِهِ: الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، فَقَطْ، وَبَقِيَّةُ الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ، مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، قَالَ: فَيَجِيءُ مَلَكُ الرَّحِمِ، فَيَدْخُلُ فَيُصَوِّرُ لَهُ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ وَشَعْرَهُ وَبَشَرَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى. الْحَدِيثَ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَحَمْلُ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّصْوِيرَ بِأَثَرِ النُّطْفَةِ وَأَوَّلِ الْعَلَقَةِ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَا مَعْهُودٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّصْوِيرُ فِي آخِرِ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} الْآيَةَ، قَالَ: فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَصَوَّرَهَا إِلَخْ أَيْ كَتَبَ ذَلِكَ ثُمَّ يَفْعَلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ: أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى قَالَ: وَخَلْقُهُ جَمِيعَ الْأَعْضَاءِ وَالذُّكُورِيَّةَ وَالْأُنُوثِيَّةَ يَقَعُ فِي وَقْتٍ مُتَّفَقٍ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ فِيمَا يُوجَدُ مِنْ أَجِنَّةِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْخِلْقَةُ وَاسْتِوَاءُ الصُّورَةِ، ثُمَّ يَكُونُ لِلْمَلَكِ فِيهِ تَصَوُّرٌ آخَرُ، وَهُوَ وَقْتُ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ حِينَ يَكْمُلُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ نَفْخَ الرُّوحِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَقَدْ بَسَطَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: أَعْرَضَ الْبُخَارِيُّ عَنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ؛ إِمَّا لِكَوْنِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْهُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَرَهُ مُلْتَئِمًا مَعَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَأَخْرَجَهُمَا مَعًا فَاحْتَجْنَا إِلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ يُحْمَلَ إِرْسَالُ الْمَلَكِ عَلَى التَّعَدُّدِ؛ فَمَرَّةً فِي ابْتِدَاءِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، وَأُخْرَى فِي انْتِهَاءِ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ لِنَفْخِ الرُّوحِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ: فَصَوَّرَهَا، فَإِنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ التَّصْوِيرَ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ مُضْغَةً، فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُصَوِّرُهَا لَفْظًا وَكَتْبًا لَا فِعْلًا، أَيْ يَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ تَصْوِيرِهَا وَيَكْتُبُهَا، بِدَلِيلِ أَنَّ جَعْلَهَا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُضْغَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ نُوزِعَ فِي أَنَّ التَّصْوِيرَ - حَقِيقَةً - إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ بِأَنَّهُ شُوهِدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَجِنَّةِ التَّصْوِيرُ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، وَتَمْيِيزُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، فَعَلَى هَذَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: أَوَّلُ مَا يَبْتَدِي بِهِ الْمَلَكَ تَصْوِيرُ ذَلِكَ لَفْظًا وَكَتْبًا، ثُمَّ يَشْرَعُ فِيهِ فِعْلًا عِنْدَ اسْتِكْمَالِ الْعَلَقَةِ، فَفِي بَعْضِ الْأَجِنَّةِ يَتَقَدَّمُ ذَلِكَ، وَفِي بَعْضِهَا يَتَأَخَّرُ، وَلَكِنْ بَقِيَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ أَنَّهُ ذَكَرَ الْعَظْمَ وَاللَّحْمَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِينَ الْعَلَقَةِ فَيَقْوَى مَا قَالَ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ.
قُلْتُ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَلَكُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى يَقْسِمُ النُّطْفَةَ إِذَا صَارَتْ عَلَقَةً إِلَى
أَجْزَاءٍ بِحَسَبِ الْأَعْضَاءِ، أَوْ يَقْسِمُ بَعْضَهَا إِلَى جِلْدٍ، وَبَعْضَهَا إِلَى لَحْمٍ، وَبَعْضَهَا إِلَى عَظْمٍ، فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ وُجُودِهِ ثُمَّ يَتَهَيَّأُ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، وَيَتَكَامَلُ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النُّطْفَةَ يَغْلِبُ عَلَيْهَا وَصْفُ الْمَنِيِّ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى، وَوَصْفُ الْعَلَقَةِ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، وَوَصْفُ الْمُضْغَةِ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَتَقَدَّمَ تَصْوِيرُهُ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ التَّصْوِيرَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} قَالَ: عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَذَكَرَ أَسَانِيدَ أُخْرَى - قَالُوا: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ طَارَتْ فِي الْجَسَدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهَا، بَعَثَ مَلَكًا فَصَوَّرَهَا كَمَا يُؤْمَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ؛ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ النُّطْفَةِ ثُمَّ الْعَلَقَةُ ثُمَّ الْمُضْغَةُ: فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ الْحَدِيثَ.
وَمَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَى الْأَخْذِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، مِنْ أَنَّ التَّصْوِيرَ وَالتَّخْلِيقَ يَقَعُ فِي أَوَاخِرِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ حَقِيقَةً، قَالَ: وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَدْفَعُهُ، وَاسْتَنَدَ إِلَى قَوْلِ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ: أَنَّ الْمَنِيَّ إِذَا حَصَلَ فِي الرَّحِمِ حَصَلَ لَهُ زُبْدِيَّةٌ وَرَغْوَةٌ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِمْدَادٍ مِنَ الرَّحِمِ، ثُمَّ يَسْتَمِدُّ مِنَ الرَّحِمِ، وَيَبْتَدِئُ فِيهِ الْخُطُوطُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ نَحْوِهَا، ثُمَّ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ، يَنْفُذُ الدَّمُ إِلَى الْجَمِيعِ، فَيَصِيرُ عَلَقَةً ثُمَّ تَتَمَيَّزُ الْأَعْضَاءُ، وَتَمْتَدُّ رُطُوبَةُ النُّخَاعِ، وَيَنْفَصِلُ الرَّأْسُ عَنِ الْمَنْكِبَيْنِ، وَالْأَطْرَافُ عَنِ الْأَصَابِعِ تَمْيِيزًا يَظْهَرُ فِي بَعْضٍ، وَيَخْفَى فِي بَعْضٍ، وَيَنْتَهِي ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا فِي الْأَقَلِّ وَخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ فِي الْأَكْثَرِ، لَكِنْ لَا يُوجَدُ سِقْطٌ ذَكَرٌ قَبْلَ ثَلَاثِينَ وَلَا أُنْثَى قَبْلَ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ، قَالَ: فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَيَكْتُبُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: يُجْمَعُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلُ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَطْوَارِ الثَّلَاثَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ، لَا مِنْ تَرْتِيبِ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ بِرِوَايَاتِهِمْ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُونَهُ كَذَا قَالَ، وَالْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِ الْأَخْبَارِ أَوْلَى، وَغَالِبُ مَا نُقِلَ عَنْ هَؤُلَاءِ دَعَاوَى لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ الْمَلَكِ يَكْتُبُ ذَلِكَ كَوْنُهُ قَابِلًا لِلنَّسْخِ وَالْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ، بِخِلَافِ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، كَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ فِي التَّوْحِيدِ، وَسَقَطَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ: ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَظَاهِرُهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ رِوَايَةَ آدَمَ صَرِيحَةٌ فِي تَأْخِيرِ النَّفْخِ لِلتَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مُحْتَمِلَةٌ، فَتُرَدُّ إِلَى الصَّرِيحَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُرَتِّبُ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَأَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، أَيْ: يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ، وَيُؤْمَرُ الْمَلَكُ بِالْكَتْبِ، وَتَوَسَّطَ قَوْلُهُ: يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ بَيْنَ الْجُمَلِ، فَيَكُونُ مِنْ تَرْتِيبِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ، لَا مِنْ تَرْتِيبِ الْأَفْعَالِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا.
وَنَقَلَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، عَنِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا عَبَّرَتْ عَنْ أَمْرٍ بَعْدَهُ أُمُورٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَلِبَعْضِهَا تَعَلُّقٌ بِالْأَوَّلِ حَسُنَ تَقْدِيمُهُ لَفْظًا عَلَى الْبَقِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ وُجُودًا، وَحَسُنَ هُنَا لِأَنَّ الْقَصْدَ تَرْتِيبُ الْخَلْقِ الَّذِي سَبَقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَوَاضِعَ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ أَنَّ نَفْخَ الرُّوحِ فِيهِ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَذَلِكَ تَمَامُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَدُخُولُهُ فِي الْخَامِسِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَعَلَيْهِ يُعَوَّلُ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي الِاسْتِلْحَاقِ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِحَرَكَةِ الْجَنِينِ فِي الْجَوْفِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الْحِكْمَةُ فِي عِدَّةِ الْمَرْأَةِ مِنَ
الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْر، وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْخَامِسِ، وَزِيَادَةُ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ الْمَلَكَ لَا يَأْتِي لِرَأْسِ الْأَرْبَعِينَ، بَلْ بَعْدَهَا، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ مَكَثَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهَا الرُّوحُ، وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ جَاءَ صَرِيحًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا بَالُ الْعَشَرَةِ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؟ فَقَالَ: يُنْفَخُ فِيهَا الرُّوحُ.
وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ كَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ: إِنَّ عِدَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ مِثْلُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ وَهُوَ قَوِيٌّ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ، فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، أَيْ لِتَصْوِيرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَكِتَابَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ إِثْرَ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: إِذَا تَمَّتْ لِلنُّطْفَةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا، فَيَنْفُخُ فِيهَا الرُّوحَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} ، وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ، وَهَذَا لَا يُنَافِي التَّقْيِيدَ بِالْعَشَرَةِ الزَّائِدَةِ، وَمَعْنَى إِسْنَادِ النَّفْخِ لِلْمَلَكِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَالنَّفْخُ فِي الْأَصْلِ إِخْرَاجُ رِيحٍ مِنْ جَوْفِ النَّافِخِ؛ لِيَدْخُلَ فِي الْمَنْفُوخِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقَعُ مَرَّتَيْنِ، فَالْكِتَابَةُ الْأُولَى فِي السَّمَاءِ، وَالثَّانِيَةُ فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا فِي صَحِيفَةٍ وَالْأُخْرَى عَلَى جَبِينِ الْمَوْلُودِ، وَقِيلَ: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجِنَّةِ، فَبَعْضُهَا كَذَا، وَبَعْضُهَا كَذَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ، فِي رِوَايَةِ آدَمَ: فَإِنَّ أَحَدَكُمْ، وَمِثْلُهُ لِأَبِي دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ جَمِيعًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ: فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ دُونَ قَوْلِهِ: مِنْكُمْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا: فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَهَذِهِ مُحْتَمِلَةٌ لِأَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ الْخَبَرُ كُلُّهُ مَرْفُوعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، لَكِنَّ الْإِدْرَاجَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ يَقْتَضِي الرَّفْعَ، إِلَّا رِوَايَةَ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، فَبَعِيدَةٌ مِنَ الْإِدْرَاجِ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَاكْتُبْهُ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ، كَذَا وَقَعَ مُفَصَّلًا فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، مِنْهُمُ الْمَسْعُودِيُّ، وَزَائِدَةُ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَآخَرُونَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ أَصْلَ الْحَدِيثِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَكَذَا أَبُو وَائِلٍ وَعَلْقَمَةُ وَغَيْرُهُمَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَا اقْتَصَرَ حَبِيبُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، وَكَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَمِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ كَأَنَسٍ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ وَحُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَكَذَا اقْتَصَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُمَيْدٍ الرُّؤَاسِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ.
نَعَمْ، وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مَرْفُوعَةً فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْآتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْعُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ فِي الْبَزَّارِ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَكْثَمَ بْنِ أَبِي الْجَوْنِ فِي الطَّبَرَانِيِّ، لَكِنْ وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَوِيٍّ مُفْرَدَةً، مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْهُ، وَمِنَ الرُّوَاةِ مَنْ حَذَفَ الْحَسَنَ بَيْنَ حُمَيْدٍ، وَأَنَسٍ، فَكَأَنَّهُ كَانَ تَامًّا عِنْدَ أَنَسٍ، فَحَدَّثَ بِهِ مُفَرَّقًا، فَحَفِظَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ عَنْهُ، فَيَقْوَى عَلَى
هَذَا أَنَّ الْجَمِيعَ مَرْفُوعٌ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَحِينَئِذٍ تُحْمَلُ رِوَايَةُ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لِتَحَقُّقِ الْخَبَرِ فِي نَفْسِهِ أَقْسَمَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ الْإِدْرَاجُ فِي الْقَسَمِ لَا فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَهَذَا غَايَةُ التَّحْقِيقِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيُؤَيِّدُ الرَّفْعَ أَيْضًا أَنَّهُ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ وَوَصْفِ الْمُقْسَمِ بِهِ وَبِأَنَّ وَبِاللَّامِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّأْكِيدِ أَنَّهُ يَكُونُ لِمُخَاطَبَةِ الْمُنْكِرِ أَوِ الْمُسْتَبْعِدِ أَوْ مَنْ يُتَوَهَّمُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ; وَهُنَا لَمَّا كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَبْعَدًا وَهُوَ دُخُولُ مَنْ عَمِلَ الطَّاعَةَ طُولَ عُمُرِهِ النَّارَ وَبِالْعَكْسِ حَسُنَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (أَحَدَكُمْ أَوِ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ: فَإِنَّ أَحَدَكُمْ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْجَنَّةِ عَلَى النَّارِ، وَكَذَا وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ كَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: فَإِنَّ الرَّجُلَ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ النَّارِ، وَعَكَسَ أَبُو الْأَحْوَصِ، وَلَفْظُهُ: فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ.
قَوْلُهُ: بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْأَصْلُ: يَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَمَلَ، إِمَّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَإِمَّا مَفْعُولٌ بِهِ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَغْنٍ عَنِ الْحَرْفِ، فَكَانَ زِيَادَةُ الْبَاءِ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ ضُمِّنَ يَعْمَلُ مَعْنَى يَتَلَبَّسُ فِي عَمَلِهِ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِذَلِكَ حَقِيقَةً، وَيُخْتَمُ لَهُ بِعَكْسِهِ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ سَهْلٍ بِلَفْظِ: لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُنَافِقِ وَالْمُرَائِي، بِخِلَافِ حَدِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ.
قَوْلُهُ: غَيْرَ ذِرَاعٍ أَوْ بَاعٍ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: غَيْرَ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ: إِلَّا ذِرَاعٌ، وَلَمْ يَشُكَّ، وَقَدْ عَلَّقَهَا الْمُصَنِّفُ لِآدَمَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَصَلَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ فِي التَّوْحِيدِ عَنْهُ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالذِّرَاعِ تَمْثِيلٌ بِقُرْبِ حَالِهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَيُحَالُ مِنْ بَيْنِهِ وَبَيْنَ الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ بِمِقْدَارِ ذِرَاعٍ أَوْ بَاعٍ مِنَ الْمَسَافَةِ، وَضَابِطُ ذَلِكَ الْحِسِّيِّ الْغَرْغَرَةُ الَّتِي جُعِلَتْ عَلَامَةً لِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَهْلُ الْخَيْرِ صِرْفًا، وَأَهْلُ الشَّرِّ صِرْفًا إِلَى الْمَوْتِ، وَلَا ذِكْرَ لِلَّذِينَ خَلَطُوا وَمَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ فِي الْحَدِيثِ تَعْمِيمَ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنَّمَا سِيقَ لِبَيَانِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْخَاتِمَةِ.
قَوْلُهُ: بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، يَعْنِي: مِنَ الطَّاعَاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْحَفَظَةَ تَكْتُبُ ذَلِكَ، وَيُقْبَلُ بَعْضُهَا، وَيُرَدُّ بَعْضُهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَقَعَ الْكِتَابَةُ ثُمَّ تُمْحَى، وَأَمَّا الْقَبُولُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْخَاتِمَةِ.
قَوْلُهُ: حَتَّى مَا يَكُونَ قَالَ الطِّيبِيُّ حَتَّى هُنَا النَّاصِبَةُ، وَمَا نَافِيَةٌ، وَلَمْ تَكُفَّ يَكُونُ عَنِ الْعَمَلِ؛ فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ بِحَتَّى، وَأَجَازَ غَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ: حَتَّى ابْتِدَائِيَّةً، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا بِالرَّفْعِ، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ: كِتَابُهُ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَيَسْبِقُ، إِشَارَةً إِلَى تَعْقِيبِ ذَلِكَ بِلَا مُهْلَةٍ، وَضُمِّنَ يَسْبِقُ مَعْنَى يَغْلِبُ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَسْبِقُ الْمَكْتُوبُ وَاقِعًا عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ: ثُمَّ يُدْرِكُهُ الشَّقَاءُ، وَقَالَ: ثُمَّ تُدْرِكُهُ السَّعَادَةُ، وَالْمُرَادُ بِسَبْقِ الْكِتَابِ سَبْقُ مَا تَضَمَّنَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوِ الْمُرَادُ الْمَكْتُوبُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَعَارَضُ عَمَلُهُ فِي اقْتِضَاءِ السَّعَادَةِ، وَالْمَكْتُوبُ فِي اقْتِضَاءِ الشَّقَاوَةِ، فَيَتَحَقَّقُ مُقْتَضَى الْمَكْتُوبِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالسَّبْقِ؛ لِأَنَّ السَّابِقَ يَحْصُلُ مُرَادُهُ دُونَ الْمَسْبُوقِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَمَثَّلَ الْعَمَلُ وَالْكِتَابُ شَخْصَيْنِ سَاعِيَيْنِ، لَظَفِرَ شَخْصُ الْكِتَابِ، وَغَلَبَ شَخْصَ الْعَمَلِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، زَادَ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَبْعِينَ سَنَةً، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِعَمَلِ أَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمُرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ، فَيَعْمَلُ عَمَلًا
سَيِّئًا. الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ تَحَوَّلَ، فَعَمِلَ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فَمَاتَ فَدَخَلَهَا.
الْحَدِيثَ، وَلِأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ. الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ: وَزَادَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ مَخْتُومٌ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَقَدْ يُسْلَكُ بِأَهْلِ السَّعَادَةِ طَرِيقَ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، حَتَّى يقال: مَا أَشْبَهَهُمْ بِهِمْ، بَلْ هُمْ مِنْهُمْ وَتُدْرِكُهُمُ السَّعَادَةُ فَتَسْتَنْقِذُهُمْ. الْحَدِيثَ. وَنَحْوُهُ لِلْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَفِي آخِرِهِ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَمِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ نَحْوُهُ، وَفِي آخِرِ حَدِيثِ عَلِيٍّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَبْلُ الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ خَلْقَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ يَقَعُ وَالْجَنِينُ دَاخِلَ بَطْنِ أُمِّهِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُعْطَى ذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُرَتِّبُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ خَلْقَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مَحْمُولٌ جَزْمًا عَلَى الْأَعْضَاءِ، ثُمَّ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ وَالسَّامِعَةِ؛ لِأَنَّهَا مُودَعَةٌ فِيهَا، وَأَمَّا الْإِدْرَاكُ بِالْفِعْلِ فَهُوَ مَوْضِعُ النِّزَاعِ، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ يُتَوَقَّفُ عَلَى زَوَالِ الْحِجَابِ الْمَانِعِ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ حَسَنَهَا وَسَيِّئَهَا أَمَارَاتٌ، وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَاتٍ، وَأَنَّ مَصِيرَ الْأُمُورِ فِي الْعَاقِبَةِ إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ، وَجَرَى بِهِ الْقَدَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ.
وَفِيهِ الْقَسَمُ عَلَى الْخَبَرِ الصِّدْقِ تَأْكِيدًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَحَالِهِ فِي الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ، وَفِيهِ عِدَّةُ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْحِكْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ السَّعِيدَ قَدْ يَشْقَى وَأَنَّ الشَّقِيَّ قَدْ يَسْعَدُ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَتَغَيَّرُ، وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْخَاتِمَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ: هَذِهِ الَّتِي قَطَعَتْ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ بِمَاذَا يُخْتَمُ لَهُمْ، وَفِيهِ أَنَّ عُمُومَ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} الْآيَةَ، مَخْصُوصٌ بِمَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ عَمِلَ السَّعَادَةَ وَخُتِمَ لَهُ بِالشَّقَاءِ فَهُوَ فِي طُولِ عُمُرِهِ عِنْدَ اللَّهِ شَقِيٌّ، وَبِالْعَكْسِ، وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُخَالِفُهُ يَؤُولُ إِلَى أَنْ يَؤُولَ إِلَى هَذَا، وَقَدِ اشْتُهِرَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَتَمَسَّكَ الْأَشَاعِرَةُ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَتَمَسَّكَ الْحَنَفِيَّةُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وَأَكْثَرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الِاحْتِجَاجَ لِقَوْلِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، وَأَنَّ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَأَنَّ الَّذِي يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ مَا يَبْدُو لِلنَّاسِ مِنْ عَمَلِ الْعَامِلِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِمَا فِي عِلْمِ الْحَفَظَةِ وَالْمُوَكَّلِينَ بِالْآدَمِيِّ، فَيَقَعُ فِيهِ
الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ كَالزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ وَالنَّقْصِ، وَأَمَّا مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إِثْبَاتَ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى صِدْقِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الشَّخْصِ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى الْعَلَقَةِ، ثُمَّ إِلَى الْمُضْغَةِ، ثُمَّ يَنْفُخُ الرُّوحَ فِيهِ قَادِرٌ عَلَى نَفْخِ الرُّوحِ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ تُرَابًا، وَيَجْمَعُ أَجْزَاءَهُ بَعْدَ أَنْ يُفَرِّقَهَا، وَلَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَكِنِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ بِنَقْلِهِ فِي الْأَطْوَارِ رِفْقًا بِالْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُعْتَادَةً، فَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ تَعْظُمُ عَلَيْهَا، فَهَيَّأَهُ فِي بَطْنِهَا بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ تَكَامَلَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ أَصْلَ خَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَتَنَقُّلَهُ فِي
تِلْكَ الْأَطْوَارِ إِلَى أَنْ صَارَ إِنْسَانًا جَمِيلَ الصُّورَةِ مُفَضَّلًا بِالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَالنُّطْقِ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ مَنْ أَنْشَأَهُ، وَهَيَّأَهُ وَيَعْبُدَهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَيُطِيعَهُ وَلَا يَعْصِيَهُ، وَفِيهِ: أَنَّ فِي تَقْدِيرِ الْأَعْمَالِ مَا هُوَ سَابِقٌ وَلَاحِقٌ؛ فَالسَّابِقُ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَاللَّاحِقُ مَا يُقَدَّرُ عَلَى الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، كَمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ النَّسْخَ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى كِتَابَةِ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى وَفْقِ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ السِّقْطَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ وَقْتُ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَهُوَ
مَنْقُولٌ عَنِ الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَعَنْ أَحْمَدَ: إِذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَفِي تِلْكَ الْعَشْرِ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الرُّوحِ، وَهُوَ الْجَدِيدُ، وَقَدْ قَالُوا: فَإِذَا بَكَى أَوِ اخْتَلَجَ أَوْ تَنَفَّسَ ثُمَّ بَطَلَ ذَلِكَ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: إِذَا اسْتُهِلَّ الصَّبِيُّ وَرِثَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَ الْحُفَّاظِ وَقْفُهُ، وَعَلَى طَرِيقِ الْفُقَهَاءِ لَا أَثَرَ لِلتَّعْلِيلِ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلرَّفْعِ لِزِيَادَتِهِ، قَالُوا: وَإِذَا بَلَغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَدُفِنَ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُشْرَعُ لَهُ غُسْلٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّخْلِيقَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، فَأَقَلُّ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ خَلْقَ الْوَلَدِ أَحَدٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا، وَهِيَ ابْتِدَاءُ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ لَا يَتَبَيَّنُ إِلَّا فِي آخِرِهَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالْوَضْعِ إِلَّا بِبُلُوغِهَا، وَفِيهِ خِلَافٌ، وَلَا يَثْبُتُ لِلْأَمَةِ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَتَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَأَدَارُوا الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ عَلَى كُلِّ سِقْطٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِالتَّخْطِيطِ، وَلَوْ كَانَ خَفِيًّا، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَحُجَّتُهُمْ مَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ النُّطْفَةَ
إِذَا لَمْ يُقَدَّرْ تَخْلِيقُهَا لَا تَصِيرُ عَلَقَةً، وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا تَتَخَلَّقُ تَصِيرُ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً إِلَخْ، فَمَتَى وُضِعَتْ عَلَقَةً عُرِفَ أَنَّ النُّطْفَةَ خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا نُطْفَةً، وَاسْتَحَالَتْ إِلَى أَوَّلِ أَحْوَالِ الْوَلَدِ. وَفِيهِ أَنَّ كُلًّا مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ قَدْ يَقَعُ بِلَا عَمَلٍ وَلَا عُمُرٍ، وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، وَسَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَفِيهِ الْحَثُّ الْقَوِيُّ عَلَى الْقَنَاعَةِ وَالزَّجْرُ الشَّدِيدُ عَنِ الْحِرْصِ ; لِأَنَّ الرِّزْقَ إِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ تَقْدِيرُهُ لَمْ يُغْنِ التَّعَنِّي فِي طَلَبِهِ وَإِنَّمَا شُرِعَ الِاكْتِسَابُ ; لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ سَبَبُ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ حَدِيثَ: لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي شَرْحِهِ فِي بَابُ الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ.
وَفِيهِ أَنَّ مَنْ كُتِبَ شَقِيًّا لَا يُعْلَمُ حَالُهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَا عَكْسُهُ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ بِمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، الْحَدِيثَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَصْلًا وَرَأْسًا فَمَرْدُودٌ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يُعْلَمُ بِطَرِيقِ الْعَلَامَةِ الْمُثْبِتَةِ لِلظَّنِّ الْغَالِبِ فَنَعَمْ، وَيَقْوَى ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنِ اشْتُهِرَ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَاضِي فِي الْجَنَائِزِ: أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يُعْلَمُ قَطْعًا لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَأَطْلَعَ مَنْ شَاءَ مِمَّنِ ارْتَضَى مِنْ رُسُلِهِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، وَقَدْ عَمِلَ بِهِ جَمْعٌ جَمٌّ مِنَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْخَلَفِ، وَأَمَّا مَا قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي كِتَابِ الْعَاقِبَةِ: إِنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ لَا يَقَعُ لِمَنِ اسْتَقَامَ بَاطِنُهُ وَصَلُحَ ظَاهِرُهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ لِمَنْ فِي طَوِيَّتِهِ فَسَادٌ أَوِ ارْتِيَابٌ وَيَكْثُرُ وُقُوعُهُ لِلْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالْمُجْتَرِئِ عَلَى الْعَظَائِمِ، فَيَهْجُمُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ بَغْتَةً، فَيَصْطَلِمُهُ
الشَّيْطَانُ عِنْدَ تِلْكَ الصَّدْمَةِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِسُوءِ الْخَاتِمَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ.
وَفِيهِ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يُوجِبُهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْجِمَاعَ عِلَّةً لِلْوَلَدِ ; لِأَنَّ الْجِمَاعَ قَدْ يَحْصُلُ وَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ حَتَّى يَشَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ الشَّيْءَ الْكَثِيفَ يَحْتَاجُ إِلَى طُولِ الزَّمَانِ بِخِلَافِ اللَّطِيفِ، وَلِذَلِكَ طَالَتِ الْمُدَّةُ فِي أَطْوَارِ الْجَنِينِ حَتَّى حَصَلَ تَخْلِيقُهُ، بِخِلَافِ نَفْخِ الرُّوحِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ أَوَّلًا عَمَدَ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهَا، وَتَرَكَ الْأَرْضَ لِكَثَافَتِهَا بِغَيْرِ فَتْقٍ، ثُمَّ فُتِقَتَا مَعًا، وَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ فَصَوَّرَهُ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ تَرَكَهُ مُدَّةً ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَاسْتَدَلَّ الدَّاوُدِيُّ بِقَوْلِهِ: فَتَدْخُلُ النَّارَ، عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُحْبِطُهُ إِلَّا الْكُفْرُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لِلْإِحْبَاطِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَوْلَى، فَيَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَ حَتَّى يُخْتَمَ لَهُ بِعَمَلِ الْكَافِرِ مَثَلًا، فَيَرْتَدُّ فَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ، فَتَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَنَاوَلُ الْمُطِيعَ حَتَّى يُخْتَمَ لَهُ بِعَمَلِ الْعَاصِي، فَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ دُخُولِ النَّارِ، أَنَّهُ يُخَلَّدُ فِيهَا أَبَدًا، بَلْ مُجَرَّدُ الدُّخُولِ صَادِقٌ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاسْتُدِلَّ لَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِهِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَذْهَبُ جَمِيعُ عُمُرِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِالْكُفْرِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، فَلَوْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ لَمْ يَحْبَطْ جَمِيعُ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ طَالَ عُمُرُهُ وَقَرُبَ مَوْتُهُ مِنْ كُفْرِهِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَهَا لِتَرَتُّبِ دُخُولِهَا فِي الْخَبَرِ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الشَّيْءِ يُشْعِرُ بِعِلِّيَّتِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَامَةٌ لَا عِلَّةٌ، وَالْعَلَامَةُ قَدْ تَتَخَلَّفُ سَلَّمْنَا أَنَّهُ عِلَّةٌ، لَكِنَّهُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا الْعُصَاةُ فَخَرَجُوا بِدَلِيلِ:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَشِيئَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأَشْعَرِيُّ فِي تَجْوِيزِهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ؛ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ بِالْإِيمَانِ مَعَ أَنَّهُ قَدَّرَ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ يَثْبُتْ وُقُوعُهَا إِلَّا فِي الْإِيمَانِ خَاصَّةً، وَمَا عَدَاهُ لَا تُوجَدُ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ عَلَى وُقُوعِهِ، وَأَمَّا مُطْلَقُ الْجَوَازِ فَحَاصِلٌ، وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ كَمَا يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ، لِتَصْرِيحِ الْخَبَرِ بِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِكِتَابَةِ أَحْوَالِ الشَّخْصِ مُفَصَّلَةً، وَفِيهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُهَا وَمُقَدِّرُهَا، لَا أَنَّهُ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا، وَفِيهِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيجَادِهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ وَالْجَبْرِيَّةُ، فَذَهَبَتِ الْقَدَرِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَنَسَبَ إِلَى اللَّهِ الْخَيْرَ، وَنَفَى عَنْهُ خَلْقَ الشَّرِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتُهِرَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هَذَا رَأْيُ الْمَجُوسِ، وَذَهَبَتِ الْجَبْرِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكُلَّ فِعْلُ اللَّهِ، وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ فِيهِ تَأْثِيرٌ أَصْلًا، وَتَوَسَّطَ أَهْلُ السُّنَّةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَصْلُ الْفِعْلِ خَلَقَهُ اللَّهُ، وَلِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْمَقْدُورِ، وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا لَكِنَّهُ يُسَمَّى كَسْبًا، وَبَسْطُ أَدِلَّتِهِمْ يَطُولُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُبَادَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَقُلْتُ: أَوْصِنِي؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَطْعَمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَنْ تَبْلُغَ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بِاللَّهِ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَهُوَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ. الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: وَإِنْ مُتَّ وَلَسْتَ عَلَى ذَلِكَ دَخَلْتَ النَّارَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا مُقْتَصِرًا، عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَبْلُغُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ; وَسَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ
الْأَقْدَارَ غَالِبَةٌ وَالْعَاقِبَةُ غَائِبَةٌ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ الْحَالِ، وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَ الدُّعَاءُ بِالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ وَبِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الْآتِي بَعْدَ بَابَيْنِ سُؤَالُ الصَّحَابَةِ عَنْ فَائِدَةِ الْعَمَلِ مَعَ تَقَدُّمِ التَّقْدِيرِ وَالْجَوَابِ عَنْهُ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَظَاهِرُهُ قَدْ يُعَارِضُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَمْلُ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ، وَحَمْلُ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى الْأَقَلِّ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ جَائِزًا تَعَيَّنَ طَلَبُ الثَّبَاتِ.
وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ عُمُرَهُ الطَّاعَةَ ثُمَّ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ انْتَهَى، وَتَوَقَّفَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَظَهَرَ لِي أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ عَنْهُ حُمِلَ عَلَى أَنَّ رَاوِيَهُ حَذَفَ مِنْهُ قَوْلَهُ فِي آخِرِهِ: فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، أَوْ أَكْمَلَ الرَّاوِي لَكِنِ اسْتَبْعَدَ عُمَرُ وُقُوعَهُ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، وَيَكُونُ إِيرَادُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْوِيفِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَنَسٍ، قَوْلُهُ:(حَمَّاد) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَيِ ابْنُ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ: رَبِّ نُطْفَةً، أَيْ رَبِّ عَلَقَةً
…
إِلَخْ، أَيْ يَقُولُ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَصِيرُ فِيهِ كَذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِيهِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ نُطْفَةً النَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَسْتَفْهِمُ هَلْ يَتَكَوَّنُ مِنْهَا أَوْ لَا؟ وَقَوْلُهُ: أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا أَيْ يَأْذَنَ فِيهِ.
2 - بَاب جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ، وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{لَهَا سَابِقُونَ} سَبَقَتْ لَهُمْ السَّعَادَةُ.
6596 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرِّشْكُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ.
[الحديث 6596 - طرفه في 7551]
قَوْلُهُ: بَابُ بِالتَّنْوِينِ، جَفَّ الْقَلَمُ: أَيْ فَرَغَتِ الْكِتَابَةُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْفَرَاغِ مِنَ الْكِتَابَةِ ; لِأَنَّ الصَّحِيفَةَ حَالَ كِتَابَتِهَا تَكُونُ رَطْبَةً أَوْ بَعْضَهَا، وَكَذَلِكَ الْقَلَمُ، فَإِذَا انْتَهَتِ الْكِتَابَةُ جَفَّتِ الْكِتَابَةُ وَالْقَلَمُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ ; لِأَنَّ الْفَرَاغَ مِنَ الْكِتَابَةِ يَسْتَلْزِمُ جَفَافَ الْقَلَمِ عِنْدَ مِدَادِهِ، قُلْتُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كِتَابَةَ ذَلِكَ انْقَضَتْ مِنْ أَمَدٍ بَعِيدٍ، وَقَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَى جَفَّ الْقَلَمُ، أَيْ: لَمْ يَكْتُبْ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، وَكِتَابُ اللَّهِ وَلَوْحُهُ وَقَلَمُهُ مِنْ غَيْبِهِ وَمِنْ عِلْمِهِ الَّذِي يَلْزَمُنَا الْإِيمَانُ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُنَا مَعْرِفَةُ صِفَتِهِ، وَإِنَّمَا خُوطِبْنَا بِمَا عَهِدْنَا فِيمَا فَرَغْنَا مِنْ كِتَابَتِهِ أَنَّ الْقَلَمَ يَصِيرُ جَافًّا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (عَلَى عِلْمِ اللَّهِ) أَيْ عَلَى حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ مَعْلُومَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ، فَعِلْمُهُ بِمَعْلُومٍ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِوُقُوعِهِ، وَهَذَا لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ نُورِهِ يَوْمَئِذٍ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ
أَقُولُ: جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي الدَّيْلَمِيِّ نَحْوَهُ، وَفِي آخِرِهِ أَنَّ الْقَائِلَ فَلِذَلِكَ أَقُولُ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَلَفْظُهُ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّ الْقَلَمَ قَدْ جَفَّ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ - فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ. وَيُقَالُ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ أَمِيرَ خُرَاسَانَ لِلْمَأْمُونِ سَأَلَ الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَجَابَ: هِيَ شُئُونٌ يُبْدِيهَا لَا شُئُونَ يَبْتَدِيهَا ; فَقَامَ إِلَيْهِ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ، هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ ذَكَرَ أَصْلَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ، فَسَكَتَ عَنِّي الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ، أَخْرَجَهُ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ فَقَالَ: قَالَ أَصْبَغٌ - يَعْنِي ابْنُ الْفَرَجِ - أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَوَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْجَوْزَقِيُّ، وَالْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَصْبَغٍ بِهِ، وَقَالُوا كُلُّهُمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: الْعَنَتَ، فَأَذِنَ لِي أَنْ أَخْتَصِيَ، وَوَقَعَ لَفْظُ: جَفَّ الْقَلَمُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: قَالَ سُرَاقَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَ الْعَمَلُ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، الْحَدِيثَ، وَفِي آخَرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي فِيهِ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ فَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ جَفَّتِ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي حَدِيثِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلَيٍّ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ: رُفِعَ الْكِتَابُ وَجَفَّ الْقَلَمُ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَهَا سَابِقُونَ، سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى:{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} قَالَ: سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَارَعُوا إِلَى الْخَيْرَاتِ بِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ اللَّامَ فِي لَهَا بِمَعْنَى الْبَاءِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ سَابِقُونَ بِهَا، فَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: وَتَأَوَّلَهَا بَعْضُهُمْ - أَيِ اللَّامَ - بِأَنَّهَا بِمَعْنَى إِلَى وَبَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَعْنَى: وَهُمْ مِنْ أَجْلِهَا، وَنَقَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْخَيْرَاتِ، وَأَجَازَ غَيْرُهُ أَن لِلسَّعَادَةِ، وَالَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّ السَّعَادَةَ سَابِقَةٌ، وَأَنَّ أَهْلَهَا سَبَقُوا إِلَيْهَا لَا أَنَّهُمْ سَبَقُوهَا.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرِّشْكِ، بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، بَعْدَهَا كَافٌ كُنْيَتُهُ أَبُو الْأَزْهَرِ، وَحَكَى الْكَلَابَاذِيُّ أَنَّ اسْمَ وَالِدِهِ سِنَانٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَنُونَيْنِ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، قِيلَ: كَانَ كَبِيرَ اللِّحْيَةِ، فَلُقِّبَ الرِّشْكُ. وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ كَمَا زَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْكَبِيرُ اللِّحْيَةِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: كَانَ غَيُورًا فَقِيلَ لَهُ: إِرْشَكَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَمَضَى عَلَيْهِ الرِّشْكُ، وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: بَلِ الرِّشْكُ بِالْفَارِسِيَّةِ الْقَمْلُ الصَّغِيرُ الْمُلْتَصِقُ بِأُصُولِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، وَذَكَرَ الْكَلَابَاذِيُّ أَنَّ الرِّشْكَ الْقَسَّامُ. قُلْتُ: بَلْ كَانَ يَزِيدُ يَتَعَانَى مَسَّاحَةَ الْأَرْضِ فَقِيلَ لَهُ: الْقَسَّامُ، وَكَانَ يُلَقَّبُ الرِّشْكُ لَا أَنَّ مَدْلُولَ الرِّشْكِ الْقَسَّامُ، بَلْ هُمَا لَقَبٌ وَنِسْبَةٌ إِلَى صَنْعَةٍ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي أَمْرِهِ مَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَمَا لِيَزِيدَ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، أَوْرَدَهُ هُنَا وَفِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ.
قَوْلُهُ: قَالَ رَجُلٌ، هُوَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَاوِي الْخَبَرِ، بَيَّنَهُ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَهُ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ آخَرُونَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ فِيهِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: أَعُلِمَ، بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ مَعْرِفَةُ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ; وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْعَامِلِ
أَوْ مَنْ شَاهَدَهُ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالْعَمَلِ.
قَوْلُهُ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ، فِي رِوَايَاتِ حَمَّادٍ: فَفِيمَ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ، وَالْمَعْنَى إِذَا سَبَقَ الْقَلَمُ بِذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ الْعَامِلُ إِلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ سَيَصِيرُ إِلَى مَا قُدِّرَ لَهُ.
قَوْلُهُ: قَالَ كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَوْ لِمَا يُيَسَّرُ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يُسِّرَ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا: قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ الْأَخِيرُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ يَزِيدُونَ عَلَى الْعَشَرَةِ سَأُشِيرُ إِلَيْهَا فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِي الَّذِي يَلِيهِ، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِلَفْظِ: كُلُّ امْرِئٍ مُهَيَّأٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَآلَ مَحْجُوبٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي عَمَلِ مَا أُمِرَ بِهِ، فَإِنَّ عَمَلَهُ أَمَارَةٌ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ غَالِبًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ يُخْتَمُ لَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ جَهْدَهُ وَيُجَاهِدَ نَفْسَهُ فِي عَمَلِ الطَّاعَةِ لَا يَتْرُكَ وُكُولًا إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ، فَيُلَامَ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ، وَيَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ، وَقَدْ تَرْجَمَ ابْنُ حِبَّانَ بِحَدِيثِ الْبَابِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ مِنَ التَّشْمِيرِ فِي الطَّاعَاتِ وَإِنْ جَرَى قَبْلَهَا مَا يَكْرَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عِمْرَانَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وَفِيهِ قِصَّةٌ
لِأَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ مَعَ عِمْرَانَ، وَفِيهِ قَوْلُهُ لَهُ: أَيَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا؟ فَقَالَ: لَا كُلُّ شَيْءٍ خَلْقُ اللَّهِ وَمِلْكُ يَدِهِ فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. قَالَ عِيَاضٌ: أَوْرَدَ عِمْرَانُ عَلَى أَبِي الْأَسْوَدِ شُبْهَةَ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ تَحَكُّمِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَدُخُولِهِمْ بِآرَائِهِمْ فِي حُكْمِهِ، فَلَمَّا أَجَابَهُ بِمَا دَلَّ عَلَى ثَبَاتِهِ فِي الدِّينِ قَوَّاهُ بِذِكْرِ الْآيَةِ، وَهِيَ حَدٌّ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَوْلُهُ: كُلٌّ خَلْقُ اللَّهِ وَمُلْكُهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَالِكَ الْأَعْلَى الْخَالِقُ الْآمِرُ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ إِذَا تَصَرَّفَ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَإِنَّمَا يُعْتَرَضُ عَلَى الْمَخْلُوقِ الْمَأْمُورِ.
3 - بَاب اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
6597 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.
6598 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ "سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"
6599 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا"
6600 -
"قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ قَالَ "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"
قَوْلُهُ: بَابُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، الضَّمِيرُ لِأَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي السُّؤَالِ، وَذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ مُخْتَصَرًا، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ بَابُ: مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعْدَهُ: بَابُ مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَكَرَ فِي الثَّانِي الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُنَا مِنْ مَخْرَجَيْهِمَا، وَذَكَرَ الثَّالِثَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ) الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ حَدَّثَ قَبْلَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ثُمَّ حَدَّثَ بِحَدِيثِ عَطَاءٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، وَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ.
قَوْلُهُ في أَوَّلِ الْحَدِيثِ الثَّالِثِ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ.
4 - بَاب {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}
6601 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا.
6602 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ وَعِنْدَهُ سَعْدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذٌ أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا "لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى كُلٌّ بِأَجَلٍ فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ"
6603 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ الجُمَحِيُّ "أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا وَنُحِبُّ الْمَالَ كَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلاَّ هِيَ كَائِنَةٌ"
6604 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ لَقَدْ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ ذَكَرَهُ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ إِنْ كُنْتُ لَارَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتُ فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ"
6605 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ "عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ وَقَالَ "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَلَا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ"
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} أَيْ حُكْمًا مَقْطُوعًا بِوُقُوعِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ وَاحِدُ الْأُمُورِ الْمُقَدَّرَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدَ الْأَوَامِرِ؛ لِأَنَّ كل مَوْجُودٌ بِكُنْ، ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ.
الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا - إِلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي بَابُ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي النِّكَاحِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ السُّلُوكُ فِي مَجَارِي الْقَدَرِ، وَذَلِكَ لَا يُنَاقِضُ الْعَمَلَ فِي الطَّاعَاتِ، وَلَا يَمْنَعُ التَّحَرُّفَ فِي الِاكْتِسَابِ، وَالنَّظَرَ لِقُوتِ غَدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَبْلُغُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحْسَنِ أَحَادِيثِ الْقَدَرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَجَابَهَا وَطَلَّقَ مَنْ تَظُنُّ أَنَّهَا تُزَاحِمُهَا فِي رِزْقِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهَا سَوَاءً أَجَابَهَا أَوْ لَمْ يُجِبْهَا، وَهُوَ كَقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أُسَامَةَ، وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ قَوْلُهُ: عَاصِمٍ هُوَ الْأَحْوَلُ، وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ.
قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ سَعْدٌ هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذٌ هُوَ ابْنُ جَبَلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَمَا قِيلَ فِي تَسْمِيَةِ الِابْنِ الْمَذْكُورِ وَبَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ ابْنَتَهَا.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَفِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَأَلْنَا، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ، وَأَبَا صِرْمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمْ أَصَابُوا سَبَايَا، قَالَ: فَتَرَاجَعْنَا فِي الْعَزْلِ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَعَلَّ أَبَا سَعِيدٍ بَاشَرَ السُّؤَالَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ تَرَاجَعُوا فِي ذَلِكَ جَمَاعَةً وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنِ السَّكَنِ وَغَيْرِهِ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ حَدِيثِ مَجْدِي الضَّمْرِيِّ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعَزْلِ الْحَدِيثَ، وَأَبُو صِرْمَةَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو صِرْمَةَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَزْلِ؟ الْحَدِيثَ، وَالثَّابِتُ أَنَّ أَبَا صِرْمَةَ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، إِنَّمَا سَأَلَ أَبَا سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي النِّكَاحِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: وَلَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا هِيَ كَائِنَةٌ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ هُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: لَقَدْ خَطَبَنَا فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا.
قَوْلُهُ: إِلَّا ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: إِلَّا حَدَّثَ بِهِ.
قَوْلُهُ: عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ وَزَادَ قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ أَيْ عَلِمُوا وُقُوعَ ذَلِكَ الْمَقَامِ وَمَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَقَدْ سَمَّيْتُ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ مَنْ رَوَى نَحْوَ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ هَذَا مِنَ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ، وَأَبِي زَيْدِ بْنِ أَخْطَبَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، قَالَ وَغَيْرُهُمْ فَلَعَلَّ حُذَيْفَةَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى بَعْضِهِمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ كُلَّ فِتْنَةٍ كَائِنَةٍ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ السَّاعَةِ، وَمَا بِي أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسَرَّ إِلَىَّ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ يُحَدِّثُ بِهِ غَيْرِي وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَذَهَبَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ غَيْرِي وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ، بَلْ يُجْمَعُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَجْلِسَيْنِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ أَعَمُّ مِنَ الْمُرَادِ بِالثَّانِي.
قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُ لَأَرَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتُ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِإِثْبَاتِهِ، وَلَفْظُهُ نَسِيتُهُ
قَوْلُهُ: فَأَعْرِفُهُ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ
الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ غَابَ عَنْهُ ثُمَّ رَآهُ فَعَرَفَهُ قَالَ عِيَاضٌ: فِي هَذَا الْكَلَامِ تَلْفِيقٌ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: وَأَنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ، فَأَرَاهُ، فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ قَالَ: وَالصَّوَابُ كَمَا يَنْسَى الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ - أَوْ كَمَا لَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ - إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ، قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الرِّوَايَةَ فِي الْأَصْلَيْنِ مُسْتَقِيمَةٌ، وَتَقْدِيرُ مَا فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ أَنَّهُ يَرَى الشَّيْءَ الَّذِي كَانَ نَسِيَهُ، فَإِذَا رَآهُ عَرَفَهُ، وَقَوْلُهُ: كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ غَابَ عَنْهُ، أَيِ الَّذِي كَانَ غَابَ عَنْهُ، فَنَسِيَ صُورَتَهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهَ عَرَفَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ: إِنِّي لَأَرَى الشَّيْءَ نَسِيتُهُ فَأَعْرِفُهُ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِلَخْ.
(تَنْبِيهٌ): أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدِهِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ، ثُمَّ قَالَ حُذَيْفَةُ: مَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَصْحَابِي أَمْ تَنَاسَوْهُ، وَاللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَائِدِ فِتْنَةٍ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا يَبْلُغُ مَنْ مَعَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ إِلَّا قَدْ سَمَّاهُ لَنَا، قُلْتُ: وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ آخَرَ مُسْتَقِلٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ عَلِيٍّ قَوْلُهُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ) بِمُهْمَلَةٍ وَزَايٍ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ السُّكَّرِيُّ.
قَوْلُهُ: عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، بِضَمِّ الْعَيْنِ، هُوَ السُّلَمِيُّ الْكُوفِيُّ، يُكَنَّى أَبَا حَمْزَةَ، وَكَانَ صِهْرَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْخِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ وَأَبُو عَبْدُ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَوَقَعَ مُسَمًّى فِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ.
قَوْله (عَنْ عَلِيٍّ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْبُطَيْنِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ. أَخَذَ بِيَدِي عَلِيٌّ فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي حَتَّى جَلَسْنَا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا.
قَوْلُهُ: كُنَّا جُلُوسًا. فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ: كُنَّا قُعُودًا وَزَادَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ - بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ - فِي جِنَازَةٍ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا شَهِدُوا الْجِنَازَةَ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ سَبَقُوا بِالْجِنَازَةِ، وَأَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ.
قَوْلُهُ: وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: وَبِيَدِهِ عُودٌ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ: وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - هِيَ عَصًا أَوْ قَضِيبٌ يُمْسِكُهُ الرَّئِيسُ لِيَتَوَكَّأَ عَلَيْهِ، وَيَدْفَعُ بِهِ عَنْهُ، وَيُشِيرُ بِهِ لِمَا يُرِيدُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُحْمَلُ تَحْتَ الْخِصْرِ غَالِبًا لِلِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا، وَفِي اللُّغَةِ اخْتَصَرَ الرَّجُلُ إِذَا أَمْسَكَ الْمِخْصَرَةَ.
قَوْلُهُ: فَنَكَّسَ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ أَطْرَقَ.
قَوْلُهُ: فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، زَادَ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ: مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، أَيْ مَصْنُوعَةٍ مَخْلُوقَةٍ، وَاقْتَصَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ، وَالثَّوْرِيِّ عَلَى الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: إِلَّا قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ مَا قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَلَفْظُهُ: إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مَقْعَدَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ: إِلَّا كُتِبَ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَزَادَ فِيهَا: وَإِلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، وَإِعَادَةُ إِلَّا، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا مِنْ نَفْسٍ بَدَلَ مَا مِنْكُمْ، وَإِلَّا الثَّانِيَةُ بَدَلًا مِنَ الْأُولَى، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، فَيَكُونُ فِيهِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَالثَّانِي فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ أَشَارَ إِلَيْهِ الْكَرْمَانِيُّ.
قَوْلُهُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، وَشُعْبَةَ فَقَالُوا.
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، وَلَفْظُهُ: جَاءَ سُرَاقَةُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَعْمَلُ الْيَوْمَ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟ قَالَ: بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، فَقَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ نَحْوَهُ، وَزَادَ، وَقَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} - إِلَى قَوْلِهِ - {لِلْعُسْرَى} ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ نَفْسِهِ، لَكِنْ دُونَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ.
وَوَقَعَ هَذَا السُّؤَالُ وَجَوَابُهُ سِوَى تِلَاوَةِ الْآيَةِ لِشُرَيْحِ بْنِ عَامِرٍ الْكِلَابِيِّ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَلَفْظُهُ: قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذًا؟ قَالَ: اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا نَعْمَلُ فِيهِ أَمْرٌ مُبْتَدَعٌ أَوْ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ قَالَ: فِيمَا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالْفِرْيَابِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَعْمَلُ عَلَى مَا فُرِغَ مِنْهُ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا تَعَدُّدُ السَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، وَلَفْظُهُ فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِنْ كَانَ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ.
قَوْلُهُ: أَلَا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ أَفَلَا، وَالْفَاءُ مُعَقِّبَةٌ لِشَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَفَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَفَلَا نَتَّكِلُ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ أَيْ نَعْتَمِدُ عَلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْنَا، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ: فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ: اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، زَادَ شُعْبَةُ: لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ. الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ. الْحَدِيثَ. وَحَاصِلُ السُّؤَالِ: أَلَا نَتْرُكُ مَشَقَّةَ الْعَمَلِ، فَإِنَّا سَنَصِيرُ إِلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْنَا، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ لَا مَشَقَّةَ ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَهُوَ يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَوَابُ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ مَنَعَهُمْ عَنْ تَرْكِ الْعَمَلِ وَأَمَرَهُمْ بِالْتِزَامِ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَزَجَرَهُمْ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ، فَلَا يَجْعَلُوا الْعِبَادَةَ وَتَرْكَهَا سَبَبًا مُسْتَقِلًّا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، بَلْ هِيَ عَلَامَاتٌ فَقَطْ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، وَوَكِيعٍ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ:{لِلْعُسْرَى} وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ نَحْوَ حَدِيثِ عُمَرَ، وَفِي آخِرِهِ: قَالَ: اعْمَلْ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، وَفِي آخِرِهِ عِنْدَ الْبَزَّارِ: فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: فَالْجِدُّ إِذًا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي آخِرِ حَدِيثِ سُرَاقَةَ وَلَفْظُهُ: فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ، قَالَ: الْآنَ الْجِدُّ الْآنَ الْجِدُّ وَفِي آخِرِ حَدِيثِ عُمَرَ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ: فَقَالَ عُمَرُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إذًا؟ قَالَ: كُلٌّ لَا يَنَالُ إِلَّا بِالْعَمَلِ، قَالَ عُمَرُ: إذًا نَجْتَهِدُ، وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى بَشِيرِ بْنِ كَعْبٍ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، قَالَ: سَأَلَ غُلَامَانِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِيمَ الْعَمَلُ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ شَيْءٌ نَسْتَأْنِفُهُ؟ قَالَ: بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، قَالَا: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا هُوَ عَامِلٌ، قَالَا: فَالْجِدُّ الْآنَ، وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْقُعُودِ عِنْدَ الْقُبُورِ، وَالتَّحَدُّثِ عِنْدَهَا بِالْعِلْمِ وَالْمَوْعِظَةِ.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: نَكْتُهُ الْأَرْضَ بِالْمِخْصَرَةِ أَصْلٌ فِي تَحْرِيكِ الْأُصْبُعِ فِي التَّشَهُّدِ، نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَإِنَّمَا هِيَ عَادَةٌ لِمَنْ يَتَفَكَّرُ فِي شَيْءٍ يَسْتَحْضِرُ مَعَانِيَهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَفَكُّرًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ بِقَرِينَةِ حُضُورِ الْجِنَازَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا
أَبَدَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ مِنَ الْحِكَمِ الْمَذْكُورَةِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْقِصَّةِ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى التَّسْلِيَةِ عَنِ الْمَيِّتِ بِأَنَّهُ مَاتَ بِفَرَاغِ أَجَلِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاءَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الْقَدِيمِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ ; لِأَنَّ التَّيْسِيرَ ضِدُّ الْجَبْرِ ; لِأَنَّ الْجَبْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ كُرْهٍ، وَلَا يَأْتِي الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ إِلَّا وَهُوَ غَيْرُ كَارِهٍ لَهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ الشَّقِيِّ مِنَ السَّعِيدِ فِي الدُّنْيَا كَمَنِ اشْتُهِرَ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ وَعَكْسُهُ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ أَمَارَةٌ عَلَى الْجَزَاءِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ، وَرُدَّ بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الظَّاهِرَ قَدْ يَنْقَلِبُ لِعَكْسِهِ عَلَى وَفْقِ مَا قُدِّرَ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ، فَيُحْكَمُ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَأَمْرُ الْبَاطِنِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمَّا أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَبْقِ الْكَائِنَاتِ رَامَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْقَدَرِ أَنْ يَتَّخِذَهُ حُجَّةً فِي تَرْكِ الْعَمَلِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ هُنَا أَمْرَيْنِ لَا يَبْطُلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ بَاطِنٌ وَهُوَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ فِي حُكْمِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَظَاهِرٌ وَهُوَ الْعَلَامَةُ اللَّازِمَةُ فِي حَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَمَارَةٌ مُخَيَّلَةٌ فِي مُطَالَعَةِ عِلْمِ الْعَوَاقِبِ غَيْرُ مُفِيدَةٍ حَقِيقَةً، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَأَنَّ عَمَلَهُ فِي الْعَاجِلِ دَلِيلٌ عَلَى مَصِيرِهِ فِي الْآجِلِ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بِالْآيَاتِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ الرِّزْقُ مَعَ الْأَمْرِ بِالْكَسْبِ، وَالْأَجَلُ مَعَ الْإِذْنِ فِي الْمُعَالَجَةِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هَذَا الْحَدِيثُ إِذَا تَأَمَّلْتَهُ وَجَدْتَ فِيهِ الشِّفَاءَ مِمَّا يُتَخَالَجُ فِي الضَّمِيرِ مِنْ أَمْرِ الْقَدَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ: أَفَلَا نَتَّكِلُ، وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا يَدْخُلُ فِي أَبْوَابِ الْمُطَالَبَاتِ وَالْأَسْئِلَةِ إِلَّا وَقَدْ طَالَبَ بِهِ، وَسَأَلَ عَنْهُ فَأَعْلَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْقِيَاسَ فِي هَذَا الْبَابِ مَتْرُوكٌ، وَالْمُطَالَبَةَ سَاقِطَةٌ، وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْأُمُورَ الَّتِي عُقِلَتْ مَعَانِيهَا وَجَرَتْ مُعَامَلَةُ الْبَشَرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَيْهَا، بَلْ طَوَى اللَّهُ عِلْمَ الْغَيْبِ عَنْ خَلْقِهِ، وَحَجَبَهُمْ عَنْ دَرْكِهِ، كَمَا أَخْفَى عَنْهُمْ أَمْرَ السَّاعَةِ، فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَى حِينُ قِيَامِهَا. انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فِي نَحْوِ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْقَدَرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَجْهُ الِانْفِصَالِ عَنْ شُبْهَةِ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِالْعَمَلِ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا الِامْتِثَالَ، وَغَيَّبَ عَنَّا الْمَقَادِيرَ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ، وَنَصَبَ الْأَعْمَالَ عَلَامَةً عَلَى مَا سَبَقَ فِي مَشِيئَتِهِ، فَمَنْ عَدَلَ عَنْهُ ضَلَّ وَتَاهَ ; لِأَنَّ الْقَدَرَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ، فَإِذَا أَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ كَشَفَ لَهُمْ عَنْهُ حِينَئِذٍ، وَفِي أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَإِنْ صَدَرَتْ عَنْهُمْ، لَكِنَّهَا قَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ بِوُقُوعِهَا بِتَقْدِيرِهِ، فَفِيهَا بُطْلَانُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ صَرِيحًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
5 - بَاب الْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ
6606 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ وَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ، فَأَثْبَتَتْهُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الَّذِي تَحَدَّثْتَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ، فَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَرْتَابُ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحِ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا فَانْتَحَرَ بِهَا، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ قَدْ
انْتَحَرَ فُلَانٌ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ.
6607 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رجُل مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا، فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَجَعَلَ ذُبَابَةَ سَيْفِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْرِعًا، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قُلْتَ لِفُلَانٍ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَعْظَمنَا غَنَاءً عَنْ الْمُسْلِمِينَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا جُرِحَ اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ.
(قَوْلُهُ: بَابُ الْعَمَلِ بِالْخَوَاتِيمِ) لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ حَدِيثِ عَلِيٍّ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ أَرْدَفَهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْخَاتِمَةِ وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ الَّذِي نَحَرَ نَفْسَهُ فِي الْقِتَالِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ الِاخْتِلَافَ فِي اسْمِ الْمَذْكُورِ، وَهَلِ الْقِصَّتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ فِي مَوْطِنَيْنِ لِرَجُلَيْنِ أَوْ هُمَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُطَوَّلًا، وَأَوَّلُهُ: لَا تَعْجَبُوا لِعَمَلِ عَامِلٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مُخْتَصَرًا، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثًا فِيهِ ذِكْرُ الْكِتَابَيْنِ، وَفِي آخِرِهِ الْعَمَلُ بِخَوَاتِيمِهِ الْعَمَلُ بِخَوَاتِيمِهِ.
6 - بَاب إِلْقَاءِ العبد النذر إِلَى الْقَدَرِ
6608 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ النَّذْرِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ.
[الحديث 6608 - طرفاه في: 6692، 6693]
6609 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرْتُهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ الْقَدَرُ، وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ، أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ.
[الحديث 6609 - طرفه في: 6694]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِلْقَاءِ الْعَبْدِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِلْقَاءُ النَّذْرِ الْعَبْدَ وَفِي الْأولى النَّذْرُ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ الْفَاعِلُ، وَالْإِلْقَاءُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْعَبْدُ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْعَبْدَ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ، وَالْإِلْقَاءُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ النَّذْرُ، وَسَيَأْتِي فِي بَابُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى وَفْقِ رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، وَسَيَأْتِيَانِ فِي بَابُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مَعَ شَرْحِهِمَا، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي التَّرْجَمَةِ، لَكِنَّ لَفْظَهُ: وَلَكِنْ يُلْقِيهِ الْقَدَرُ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ: يُلْقِيهِ النَّذْرُ، بِنُونٍ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ، وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَلَى الْبُخَارِيِّ، فَقَالَ: لَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ الْمَرْوِيَّيْنِ عَنْهُ فِي التَّرْجَمَةِ مُطَابَقَةٌ لِلْحَدِيثِ، وَالْمُطَابِقُ أَنْ يَقُولَ: إِلْقَاءُ الْقَدَرِ الْعَبْدَ إِلَى النَّذْرِ بِتَقْدِيمِ الْقَدَرِ بِالْقَافِ عَلَى النَّذْرِ بِالنُّونِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْخَبَرِ: يُلْقِيهِ الْقَدَرُ، بِالْقَافِ كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِرِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ التَّرْجَمَةَ مَعَ عَدَمِ مُطَابَقَتِهَا لِلْخَبَرِ لَيْسَ الْمَعْنَى فِيهَا صَحِيحًا. انْتَهَى. وَمَا نَفَاهُ مَرْدُودٌ، بَلِ الْمَعْنَى بَيِّنٌ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَكَأَنَّهُ اسْتَبْعَدَ نِسْبَةَ الْإِلْقَاءِ إِلَى النَّذْرِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ النِّسْبَةَ مَجَازِيَّةٌ، وَسَوَّغَ ذَلِكَ كَوْنُهُ سَبَبًا إِلَى الْإِلْقَاءِ، فَنَسَبَ الْإِلْقَاءَ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ.
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّرْجَمَةَ مَقْلُوبَةٌ؛ إِذِ الْقَدَرُ هُوَ الَّذِي يُلْقِي إِلَى النَّذْرِ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ: يُلْقِيهِ الْقَدَرُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا صَادِقَانِ؛ إِذِ الَّذِي يُلْقِي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْقَدَرُ وَهُوَ الْمُوصِلُ، وَبِالظَّاهِرِ هُوَ النَّذْرُ، قَالَ: وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: يُلْقِيهِ الْقَدَرُ إِلَى النَّذْرِ، لِيُطَابِقَ الْحَدِيثَ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، وَكَأَنَّهُ أَيْضًا مَا نَظَرَ إِلَى رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَأَيْضًا فَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْبُخَارِيِّ، أَنَّهُ يُتَرْجِمُ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ لَمْ يَسُقْ ذَلِكَ اللَّفْظَ بِعَيْنِهِ؛ لِيَبْعَثَ ذَلِكَ النَّاظِرَ فِي كِتَابِهِ عَلَى تَتَبُّعِ الطُّرُقِ، وَلِيَقْدَحَ الْفِكْرَ فِي التَّطْبِيقِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي فَاقَ بِهَا غَيْرَهُ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ كَمَا تَقَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ بِلَفْظِ: أَنَّهُ - أَيِ النَّذْرُ - لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَهُوَ يُعْطِي مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَقَوْلُهُ هُنَا: مَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ يَأْتِي فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُرَّةَ وَهُوَ الْهَمْدَانِيُّ بِسُكُونِ الْمِيمِ الْخَارِفِيُّ، بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ مَكْسُورَةٍ، ثُمَّ فَاءٍ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وَلَهُمْ كُوفِيٌّ شَيْخٌ آخَرُ فِي طَبَقَتِهِ، يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُرَّةَ الزَّوْفِيُّ، بِزَايٍ وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ فَاءٍ - مِصْرِيٌّ، وَيُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُرَّةَ، وَهُوَ بِهَا أَشْهَرُ.
7 - بَاب لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
6610 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَجَعَلْنَا لَا نَصْعَدُ شَرَفًا وَلَا نَعْلُو شَرَفًا وَلَا نَهْبِطُ فِي وَادٍ إِلَّا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ: فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
قَوْلُهُ (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) تَرْجَمَ فِي أَوَاخِرِ الدَّعَوَاتِ بَابٌ قَوْلُ لَا حَوْلَ بِالْإِضَافَةِ، وَاقْتَصَرَ هُنَا عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ، وَاسْتَغْنَى بِهِ لِظُهُورِهِ فِي أَبْوَابِ الْقَدَرِ ; لِأَنَّ مَعْنَى لَا حَوْلَ: لَا تَحْوِيلَ لِلْعَبْدِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ،
إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ وَلَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى لَا حَوْلَ: لَا حِيلَةَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ كَلِمَةُ اسْتِسْلَامٍ وَتَفْوِيضٍ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلَا قُوَّةٌ فِي جَلْبِ خَيْرٍ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى.
وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الدَّعَوَاتِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ فِيهِ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بَدَلَ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ لِعَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - فِيهِ شَيْخَيْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُوَيْدِ بْنِ نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ) تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي بَيَانٌ أَنَّهَا غَزْوَةُ خَيْبَرَ.
قَوْلُهُ: إِلَّا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ الْمَذْكُورَةِ: فَلَمَّا عَلَا عَلَيْهَا رَجُلٌ نَادَى فَرَفَعَ صَوْتَهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْكُلَّ كَبَّرُوا، وَزَادَ هَذَا عَلَيْهِمْ بِالتَّهْلِيلِ، وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّكْبِيرِ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ.
قَوْلُهُ: (اِرْبَعُوا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيِ: ارْفُقُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَائِلِ الدُّعَاءِ، قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ: رَبَعَ الرَّجُلُ يَرْبَعُ إِذَا رَفَقَ وَكَفَّ، وَكَذَا بَقِيَّةُ أَلْفَاظِهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَانَ عليه السلام مُعَلِّمًا لِأُمَّتِهِ، فَلَا يَرَاهُمْ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا أَحَبَّ لَهُمُ الزِّيَادَةَ، فَأَحَبَّ لِلَّذِينَ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَالتَّكْبِيرِ أَنْ يُضِيفُوا إِلَيْهَا التَّبَرِّيَ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، فَيَجْمَعُوا بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ اللَّهُ: أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ لِي: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: تَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فَيَقُولُ اللَّهُ: أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ. وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَلَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا مِنْ ذَخَائِرِ الْجَنَّةِ أَوْ مُحَصِّلَاتِ نَفَائِسِ الْجَنَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهُا يُحَصِّلُ ثَوَابًا نَفِيسًا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَى نَبِيَّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أُمَّتَكَ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ، قَالَ: وَمَا غِرَاسُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
قَوْلُهُ: (لَا تَدْعُونَ) كَذَا أَطْلَقَ عَلَى التَّكْبِيرِ وَنَحْوِهِ دُعَاءً مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ بِمَعْنَى النِّدَاءِ، لِكَوْنِ الذَّاكِرِ يُرِيدُ إِسْمَاعَ مَنْ ذَكَرَهُ وَالشَّهَادَةَ لَهُ.
8 - بَاب الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ
عَاصِمٌ: مَانِعٌ
قَالَ مُجَاهِدٌ: سَدًّا عَنْ الْحَقِّ: يَتَرَدَّدُونَ فِي الضَّلَالَةِ، {دَسَّاهَا} أَغْوَاهَا
6611 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلَّا لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ.
[الحديث 6611 - طرفه في: 7198]
قَوْلُهُ (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ) أَيْ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِأَنْ حَمَاهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْهَلَاكِ أَوْ مَا يَجُرُّ إِلَيْهِ، يُقَالُ: عَصَمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ: وَقَاهُ وَحَفِظَهُ، وَاعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ لَجَأْتُ إِلَيْهِ، وَعِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِفْظُهُمْ مِنَ النَّقَائِصِ وَتَخْصِيصُهُمْ بِالْكِمَالَاتِ النَّفِيسَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالثَّبَاتِ فِي الْأُمُورِ وَإِنْزَالِ السَّكِينَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي حَقِّهِمْ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ الْجَوَازِ.
قَوْلُهُ: (عَاصِمٌ مَانِعٌ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَابْنِهِ: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ} وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ عِكْرِمَةُ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عَنْهُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ:{لا عَاصِمَ الْيَوْمَ} أَيْ لَا شَيْءَ يَعْصِمُ مِنْهُ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْصُومٍ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ الْعَاصِمَ بِمَعْنَى الْمَعْصُومِ، وَإِنَّمَا نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، فَأَيُّهُمَا حَصَلَ حَصَلَ الْآخَرُ.
قَوْلُهُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: سَدًّا عَنِ الْحَقِّ يَتَرَدَّدُونَ فِي الضَّلَالَةِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ: سَدًّا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ نَجِيحٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} قَالَ: عَنِ الْحَقِّ، وَوَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:(سَدًّا) قَالَ: عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ يَتَرَدَّدُونَ، وَرَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ: سُدًى بِتَخْفِيفِ الدَّالِ مَقْصُورَةً، وَعَلَيْهَا شَرْحُ الْكَرْمَانِيِّ، فَزَعَمَ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا:{أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} أَيْ مُهْمَلًا مُتَرَدِّدًا فِي الضَّلَالَةِ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ إِلَّا اللَّفْظَ الَّذِي أَوْرَدْتُهُ قَالَ مُجَاهِدٌ: سَدًّا
…
إِلَخْ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ الَّتِي تُسَاقُ بِالْأَسَانِيدِ لِمُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} كَلَامًا، وَلَمْ أَرَ قَوْلَهُ: فِي الضَّلَالَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّقُولِ بِالسَّنَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: لِضَلَالَةٍ بَدَلَ قَوْلِهِ: فِي الضَّلَالَةِ.
قَوْلُهُ: (دَسَّاهَا: أَغْوَاهَا) قَالَ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} قَالَ مَنْ أَغْوَاهَا، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ:{دَسَّاهَا} قَالَ: قَالَ أَحَدُه مَا: أَغْوَاهَا، وَقَالَ الْآخَرُ: أَضَلَّهَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:{دَسَّاهَا} أَصْلُهُ: دَسَسْتُ، لَكِنَّ الْعَرَبَ تَقْلِبُ الْحَرْفَ الْمُضَاعَفَ إِلَى الْيَاءِ، مِثْلَ: تَظَنَّنَتْ مِنَ الظَّنِّ، فَتَقُولُ: تَظَنَّيْتُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَ النُّونِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذَا التَّفْسِيرِ لِلتَّرْجَمَةِ تُؤْخَذُ مِنَ الْمُرَادِ بِفَاعِلِ دَسَّاهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ اللَّهُ، أَيْ: قَدْ أَفْلَحَ صَاحِبُ النَّفْسِ الَّتِي زَكَّاهَا اللَّهُ، وَخَابَ صَاحِبُ النَّفْسِ الَّتِي أَغْوَاهَا اللَّهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ صَاحِبُ النَّفْسِ إِذَا فَعَلَ الطَّاعَاتِ، فَقَدْ زَكَّاهَا، وَإِذَا فَعَلَ الْمَعَاصِيَ فَقَدْ أَغْوَاهَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلتَّرْجَمَةِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: مُنَاسَبَةُ التَّفْسِيرَيْنِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللَّهُ كَانَ سُدًى، وَكَانَ مُغْوًى.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: مَا اسْتُخْلِفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَالْبِطَانَةُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ: اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ، وَالْمُرَادُ: مَنْ يَطَّلِعُ عَلَى بَاطِنِ حَالِ الْكَبِيرِ مِنْ أَتْبَاعِهِ.
9 - بَاب وَحِرْمٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ
{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ}
{وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَحِرْمٌ بِالْحَبَشِيَّةِ وَجَبَ.
6612 -
حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ
مِنْ الزِّنَا: أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ. وَقَالَ شَبَابَةُ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَوْلُهُ: بَابُ وَحِرْمٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: وَحَرَامٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَزِيَادَةِ الْأَلْفِ وَزَادُوا بَقِيَّةَ الْآيَةِ، وَالْقِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ بِفَتْحَتَيْنِ وَأَلِفٍ، وَهُمَا بِمَعْنًى كَالْحَلَالِ وَالْحِلِّ، وَجَاءَ فِي الشَّوَاذِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِرَاءَاتٌ أُخْرَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَثْلِيثِ الرَّاءِ، وَبِالضَّمِّ أَشْهَرُ، وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} هُوَ تَحْرِيمُ تَسْخِيرٍ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ}
قَوْلُهُ: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} ، {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} كَذَا جَمَعَ بَيْنَ بَعْضِ كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ، وَهُمَا مِنْ سُورَتَيْنِ إِشَارَةً إِلَى مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: مَا قَالَ نُوحٌ {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} - إِلَى قَوْلِهِ - {كَفَّارًا} إِلَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} قُلْتُ: وَدُخُولُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْقَدَرِ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي سَبْقَ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا يَقَعُ مِنْ عَبِيدِهِ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ النُّعْمَانِ: هُوَ الْيَشْكُرِيُّ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْكَافِ بَصْرِيٌّ سَكَنَ مَرْوَ ثُمَّ بُخَارَى، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الصَّوَابَ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَحِرْمٌ بِالْحَبَشِيَّةِ: وَجَبَ، لَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا التَّعْلِيقِ مَوْصُولًا، وَقَرَأَتُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا: أَخْرَجَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ قَهْزَادَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْهُ. قُلْتُ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ أَبِي جَعْفَرٍ، الطَّبَرِيِّ، وَإِنَّمَا فِيهِ وَفِي تَفْسِيرِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ جَمِيعًا مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: وَحِرْمٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا، قَالَ: وَجَبَ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حِرْمٌ: عَزَمَ، وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: وَحِرْمٌ وَجَبَ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَبِالسَّنَدِ الْأَوَّلِ قَالَ: وَقَوْلُهُ {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أَيْ: لَا يَتُوبُ مِنْهُمْ تَائِبٌ، قَالَ الطَّبَرِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا بِالطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْكُفْرِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْكَفَرَةِ الْهَالِكِينَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ، وَقِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ اسْتِيعَابِهَا، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى، وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالتَّرْجَمَةِ وَالْمُطَابِقُ لِمَا ذَكَرَ مَعَهُ مِنَ الْآثَارِ وَالْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ (مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ
قَوْلُهُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ شَبَابَةُ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَأَنَّ طَاوُسًا سَمِعَ الْقِصَّةَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بَعْدَ أَنْ سَمِعَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَبَيَّنْتُ الِاخْتِلَافَ فِي رَفْعِ الْحَدِيثِ وَوَقْفِهِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى رِوَايَةِ شَبَابَةَ هَذِهِ مَوْصُولَةً، وَكُنْتُ قَرَأَتُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ وَصَلَهَا فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُنَادِي عَنْهُ، وَقَلَّدْتُهُمَا فِي ذَلِكَ فِي تَغْلِيقِ التَّعْلِيقِ، ثُمَّ رَاجَعْتُ الْمُعْجَمَ الْأَوْسَطَ فَلَمْ أَجِدْهَا.
قَوْلُهُ: بِاللَّمَمِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْمِيمِ، هُوَ مَا يُلِمُّ بِهِ الشَّخْصُ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ، وَقِيلَ: هُوَ مُقَارَفَةُ الذُّنُوبِ الصِّغَارِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ:
اللَّمَمُ مُقَارَفَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ، وَمُحَصَّلُ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَخْصِيصُهُ بِبَعْضِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ اللَّمَمِ أَوْ فِي حُكْمِ اللَّمَمِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ) أَيْ قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَوْ أَمَرَ الْمَلَكَ بِكِتَابَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَاضِي قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَعْمَلُهُ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كُلُّ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْآدَمِيِّ فَهُوَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يُلَامُ إِذَا وَاقَعَ مَا نُهِيَ عَنْهُ بِحَجْبِ ذَلِكَ عَنْهُ وَتَمْكِينِهِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالطَّاعَةِ، فَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُجْبِرَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَهِيَ بِخِلَافِ الْمُلْجَأِ.
قَوْلُهُ: حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا، إِطْلَاقُ الزِّنَا عَلَى اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ وَغَيْرِهِمَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ.
قَوْلُهُ: فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، أَيْ: إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لِلنَّاظِرِ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: النُّطْقُ، بِضَمِّ النُّونِ بِغَيْرِ مِيمٍ فِي أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَالنَّفْسُ تَمَنَّى) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْأَصْلُ تَتَمَنَّى.
قَوْلُهُ: وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْحُكْمُ بِمُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ، وَالتَّكْذِيبَ عَكْسُهُ، فَكَانَ الْفَرْجُ هُوَ الْمُوقِعُ أَوِ الْوَاقِعُ، فَيَكُونُ تَشْبِيهًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْإِيقَاعَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِهَا عَادَةً، فَيَكُونُ كِنَايَةً، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِاللَّمَمِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} وَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّمَمَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَأَنَّهُ يُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ: مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فِي وَسَطِ كِتَابِ الرِّقَاقِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِغُفْرَانِ اللَّمَمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْفَرْجِ تَصْدِيقٌ بِهَا، فَإِذَا صَدَّقَهَا الْفَرْجُ كَانَ ذَلِكَ كَبِيرَةً. وَنَقَلَ الْفَرَّاءُ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: إِلَّا صَغَائِرَ الذُّنُوبِ فَإِنَّهَا تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ كِبَارِهَا، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا زِنًا لِأَنَّهَا مِنْ دَوَاعِيهِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ مَجَازًا.
وَفِي قَوْلِهِ: وَالنَّفْسُ تَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ أَوْ يُكَذِّبُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ الزِّنَا مَثَلًا وَيَشْتَهِيهِ فَلَا يُطَاوِعُهُ الْعُضْوُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَزْنِيَ بِهِ، وَيُعْجِزُهُ الْحِيلَةُ فِيهِ وَلَا يَدْرِي لِذَلِكَ سَبَبًا، وَلَوْ كَانَ خَالِقًا لِفِعْلِهِ لَمَا عَجَزَ عَنْ فِعْلِ مَا يُرِيدُهُ مَعَ وُجُودِ الطَّوَاعِيَةِ وَاسْتِحْكَامِ الشَّهْوَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ يُقَدِّرُهَا إِذَا شَاءَ وَيُعَطِّلُهَا إِذَا شَاءَ.
10 - بَاب {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}
6613 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ.
قَوْلُهُ: بَابُ {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سُبْحَانَ مُسْتَوْفًى، وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي أَبْوَابِ الْقَدَرِ مِنْ ذِكْرِ الْفِتْنَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا وَقَدْ قَالَ مُوسَى عليه السلام:{إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ،
ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا أَخْرَجَهُ الِاخْتِبَارُ إِلَى الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي الْمَكْرُوهِ، فَتَارَةً فِي الْكُفْرِ كَقَوْلِهِ:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} وَتَارَةً فِي الْإِثْمِ كَقَوْلِهِ: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} وَتَارَةً فِي الْإِحْرَاقِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} وَتَارَةً فِي الْإِزَالَةِ عَنِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} وَتَارَةً فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْمُرَادُ بِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الِاخْتِبَارُ عَلَى بَابِهَا الْأَصْلِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَجْهُ دُخُولِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ التَّكْذِيبَ لِرُؤْيَا نَبِيِّهِ الصَّادِقِ، فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي طُغْيَانِهِمْ حَيْثُ قَالُوا: كَيْفَ يَسِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا؟ وَكَذَلِكَ جَعَلَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ زِيَادَةً فِي طُغْيَانِهِمْ حَيْثُ قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ فِي النَّارِ شَجَرَةٌ وَالنَّارُ تَحْرِقُ الشَّجَرَ؟ وَفِيهِ خَلْقُ اللَّهِ الْكُفْرَ وَدَوَاعِي الْكُفْرِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةً فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْجَوَابُ عَنْ شُبْهَتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الشَّجَرَةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ جَوْهَرٍ لَا تَأْكُلُهُ النَّارُ، وَمِنْهَا سَلَاسِلُ أَهْلِ النَّارِ وَأَغْلَالُهُمْ وَخَزَنَةُ النَّارِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَحَيَّاتُهَا وَعَقَارِبُهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا فِي الدُّنْيَا، وَأَكْثَرُ مَا وَقَعَ الْغَلَطُ لِمَنْ قَاسَ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ - تَعَالَى - الْمُوَفِّقُ. قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ.
11 - بَاب تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ
6614 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا، خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنْ الْجَنَّةِ. قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. ثَلَاثًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ) أَمَّا تَحَاجَّ فَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ، وَأَصْلُهُ تَحَاجَجَ بِجِيمَيْنِ، وَلَفْظُ قَوْلِهِ عِنْدَ اللَّهِ فَزَعَمَ بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ مِنْهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ رَدَّهُ بِمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ أَرِنَا آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَرَاهُ اللَّهُ آدَمَ فَقَالَ: أَنْتَ أَبُونَا الْحَدِيثَ، قَالَ: وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الدُّنْيَا، انْتَهَى.
وَفِيهِ نَظَرٌ فَلَيْسَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ: عِنْدَ اللَّهِ صَرِيحًا فِي أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ الْعِنْدِيَّةَ عِنْدِيَّةُ اخْتِصَاصٍ وَتَشْرِيفٍ لَا عِنْدِيَّةُ مَكَانٍ، فَيَحْتَمِلُ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي كُلٍّ مِنَ الدَّارَيْنِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْعِنْدِيَّةُ فِي الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} وَفِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ أَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَ الْمَتْنِ، وَالَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمَحَ فِي التَّرْجَمَةِ بِمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو) يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ، وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ
الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ طَاوُسٍ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ طَاوُسًا، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْخَرَّازِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعْتُ طَاوُسًا.
قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ (وَقَالَ سُفْيَانُ:، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ) هُوَ مَوْصُولٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَهِيَ أَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ، وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ مُعَلَّقَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مُنْفَرِدَةً بَعْدَ أَنْ سَاقَ طَرِيقَ طَاوُسٍ عَنْ جَمَاعَةٍ، عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ: أَخْبَرَنِيهِ الْقَاسِمُ - يَعْنِي ابْنَ زَكَرِيَّا - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ حَاتِمٍ الْعَلَّافُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو مِثْلُهُ سَوَاءٌ، وَزَادَ: قَالَ: وَحَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ، رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ.
قُلْتُ: وَقَعَ لَنَا مِنْ طَرِيقِ عَشَرَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مِنْهُمْ طَاوُسٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْأَعْرَجُ كَمَا ذَكَرْتُهُ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي الذُّبَابِ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْرَجِ، وَأَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْهُ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْهُ، وَمِنْهُمْ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ، وَقِيلَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ النَّجَّارِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ طَهَ، وَمِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي عَوَانَةَ، وَجَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ فِي الْقَدَرِ، وَمِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ.
وَمِنْهُمْ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ كَمَا مَضَى فِي تَفْسِيرِ طَهَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَمِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَمِنْهُمْ هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَمِنْهُمْ عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمَنْ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عُمَرُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَأَبِي عَوَانَةَ، وَجُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَبُو سَعِيدٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْحَارِثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ التِّرْمِذِيُّ.
قَوْلُهُ: (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَمَالِكٍ تَحَاجَّ كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ وَهِيَ أَوْضَحُ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ النَّجَّارِ، وَيَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ حَجَّ آدَمُ وَمُوسَى وَعَلَيْهَا شَرَحَ الطِّيبِيُّ، فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: حَجَّ آدَمُ وَمُوسَى غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ إِلَخْ تَوْضِيحٌ لِذَلِكَ وَتَفْسِيرٌ لِمَا أُجْمِلَ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى تَقْرِيرٌ لِمَا سَبَقَ وَتَأْكِيدٌ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ رَبِّهِمَا وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى وَفِي رِوَايَةِ عَمَّارٍ، وَالشَّعْبِيِّ لَقِيَ آدَمُ مُوسَى وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ لَقِيَ مُوسَى آدَمَ كَذَا عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَأَمَّا أَبُو دَاوُدَ فَلَفْظُهُ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ أَرِنِي آدَمَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ هَذَا اللَّفْظِ فَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ فِي زَمَانِ مُوسَى فَأَحْيَا اللَّهُ لَهُ آدَمَ مُعْجِزَةً لَهُ، فَكَلَّمَهُ أَوْ كَشَفَ لَهُ عَنْ قَبْرِهِ فَتَحَدَّثَا، أَوْ أَرَاهُ اللَّهُ رُوحَهُ كَمَا أَرَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ أَرَاهُ اللَّهُ لَهُ فِي الْمَنَامِ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ. وَلَوْ كَانَ يَقَعُ فِي بَعْضِهَا مَا يَقْبَلُ التَّعْبِيرَ كَمَا فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ مُوسَى فَالْتَقَيَا فِي الْبَرْزَخِ أَوَّلَ مَا مَاتَ مُوسَى فَالْتَقَتْ أَرْوَاحُهُمَا فِي السَّمَاءِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْقَابِسِيُّ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ لَمَّا قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ قَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ
وُقُوعِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ احْتِمَالَ الْتِقَائِهِمَا فِي الْبَرْزَخِ، وَاحْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ضَرْبَ مَثَلٍ، وَالْمَعْنَى لَوِ اجْتَمَعَا لَقَالَا ذَلِكَ، وَخُصَّ مُوسَى بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ نَبِيٍّ بُعِثَ بِالتَّكَالِيفِ الشَّدِيدَةِ، قَالَ: وَهَذَا وَإِنِ احْتُمِلَ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى، قَالَ: وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ لِثُبُوتِهِ عَنْ خَبَرِ الصَّادِقِ، وَإِنْ لَمْ يُطَّلَعْ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْحَالِ، وَلَيْسَ هُوَ بِأَوَّلِ مَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ كَعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ، وَمَتَى ضَاقَتِ الْحِيَلُ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلَاتِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّسْلِيمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مِثْلُ هَذَا عِنْدِي يَجِبُ فِيهِ التَّسْلِيمُ، وَلَا يُوقَفُ فِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ ; لِأَنَّا لَمْ نُؤْتَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
قَوْلُهُ: (أَنْتَ أَبُونَا) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنْتَ النَّاسِ وَكَذَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ.
قَوْلُهُ: (خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ) فِي رِوَايَةِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ هَكَذَا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْهُ، وَفِي التَّوْحِيدِ أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ أَنْتَ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ. وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَشْقَيْتَ بَدَلَ أَغْوَيْتَ وَمَعْنَى أَغْوَيْتَ كُنْتَ سَبَبًا لِغِوَايَةِ مَنْ غَوَى مِنْهُمْ، وَهُوَ سَبَبٌ بَعِيدٌ ; إِذْ لَوْ لَمْ يَقَعِ الْأَكْلُ مِنَ الشَّجَرَةِ لَمْ يَقَعِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَقَعِ الْإِخْرَاجُ مَا تَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الشَّهَوَاتُ وَالشَّيْطَانُ الْمُسَبَّبُ عَنْهُمَا الْإِغْوَاءُ، وَالْغَيُّ ضِدَّ الرُّشْدِ وَهُوَ الِانْهِمَاكُ فِي غَيْرِ الطَّاعَةِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مُجَرَّدِ الْخَطَأِ يُقَالُ: غَوَى أَيْ أَخَطَأَ صَوَابَ مَا أُمِرَ بِهِ.
وَفِي تَفْسِيرِ طَهَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِهِ أَنْتَ الَّذِي أَدْخَلْتَ ذُرِّيَّتَكَ النَّارَ وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي أَغْوَيْتَ، وَزَادَ هَمَّامٌ إِلَى الْأَرْضِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ فَأَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الْأَرْضِ وَأَوَّلُهُ عِنْدَهُ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ لَكِنْ قَالَ: وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَلَمْ يَقُلْ: وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، وَزَادَ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَزَادَ ثُمَّ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْأَعْرَجِ يَا آدَمُ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ قَالَ لَكَ: كُنْ فَكُنْتَ، ثُمَّ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، ثُمَّ قَالَ لَكَ:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فَنَهَاكَ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَصَيْتَ. وَزَادَ الْفِرْيَابِيُّ وَأَكَلْتَ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَكَ إِلَى قَوْلِهِ: أَنْتَ وَالْأَكْثَرُ عَوْدُهُ إِلَى الْمَوْصُولِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: خَلَقَهُ اللَّهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْتَ آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْتَ الَّذِي نَفَخَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَعَلَّمَكَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلِمَ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي عَوَانَةَ فَوَاللَّهِ لَوْلَا مَا فَعَلْتَ مَا دَخَلَ أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ النَّارَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَأَهْلَكْتَنَا وَأَغْوَيْتَنَا وَذَكَرَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَذْكُرَ مِنْ هَذَا، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مَحْفُوظٌ، وَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ.
وَقَوْلُهُ: أَنْتَ آدَمُ؟ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَإِضَافَةُ اللَّهِ خَلْقَ آدَمَ إِلَى يَدِهِ فِي الْآيَةِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، وَكَذَا إِضَافَةُ رُوحِهِ إِلَى اللَّهِ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ رُوحِهِ زَائِدَةٌ عَلَى رَأْيٍ، وَالنَّفْخُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ أَيْ: خَلَقَ فِيكَ الرُّوحَ، وَمَعْنَى قَوْلِه: أَخْرَجْتَنَا كُنْتَ سَبَبًا لِإِخْرَاجِنَا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَقَوْلُهُ: أَغْوَيْتَنَا وَأَهْلَكْتَنَا مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ بِخِلَافِ أَخْرَجْتَنَا فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَخْطَأْتَ وَعَصَيْتَ وَنَحْوُهُمَا
فَعَلْتَ خِلَافَ مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: خَيَّبْتَنَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْخَيْبَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْحِرْمَانُ، وَقِيلَ: هِيَ كَأَغْوَيْتَنَا مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ، وَالْمُرَادُ مَنْ يَجُوزُ مِنْهُ وُقُوعُ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، وَلَوِ اسْتَمَرَّ فِيهَا لَوُلِدَ لَهُ فِيهَا، وَكَانَ وَلَدُهُ سُكَّانَ الْجَنَّةِ عَلَى الدَّوَامِ، فَلَمَّا وَقَعَ الْإِخْرَاجُ فَاتَ أَهْلَ الطَّاعَةِ مِنْ وَلَدِهِ اسْتِمْرَارُ الدَّوَامِ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا إِلَيْهَا يَنْتَقِلُونَ، وَفَاتَ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ تَأَخُّرُ الْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ مُدَّةَ الدُّنْيَا، وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ مُدَّةِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، إِمَّا مُؤَقَّتًا فِي حَقِّ الْمُوَحِّدِينَ، وَإِمَّا مُسْتَمِرًّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَهُوَ حِرْمَانٌ نِسْبِيٌّ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ، وَاصْطَفَاكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ نَحْوُهُ لَكِنْ بِلَفْظِ اصْطَفَاهُ وَأَعْطَاهُ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ فَقَالَ نَعَمْ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: قَالَ: أَنَا مُوسَى قَالَ: نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْتَ الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ
قَوْلُهُ: (أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَ اللَّهُ عَلِيَّ) كَذَا لِلسَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَلِلْبَاقِينَ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ.
قَوْلُهُ: (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فَكَيْفَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ أَوْ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُدَّةَ، وَثَبَتَ ذِكْرُهَا فِي رِوَايَةِ طَاوُسٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَلَفْظُهُ: فَكَمْ تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَيَّ الْعَمَلَ الَّذِي عَمِلْتُهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ: بِأَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالَ فَكَيْفَ تَلُومُنِي عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ نَحْوُهُ، وَزَادَ فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ: نَعَمْ وَكَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ قَدْ يُوهِمُ تَفَرُّدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِزِيَادَتِهَا، لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِأَبِي الزِّنَادِ وَإِلَّا فَقَدْ ذَكَرَ التَّقْيِيدَ بِالْأَرْبَعِينَ غَيْرُ ابْنِ عُيَيْنَةَ كَمَا تَرَى، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا - يَعْنِي الْأَلْوَاحَ أَوِ التَّوْرَاةَ - أَنِّي أُهْبَطُ وَفِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ: أَفَلَيْسَ تَجِدُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ أَنَّهُ سَيُخْرِجُنِي مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَنِيهَا؟ قَالَ: بَلَى وَفِي رِوَايَةِ عَمَّارِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ أَنَا أَقْدَمُ أَمِ الذِّكْرُ؟ قَالَ: بَلِ الذِّكْرُ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْأَعْرَجِ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ هَذَا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ فَوَجَدْتَهُ كَتَبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ فَتَلُومُنِي فِي شَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ خَلْقِي وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ قَالَ: فَلِمَ تَلُومُنِي عَلَى شَيْءٍ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِيهِ الْقَضَاءُ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً حَمْلُهَا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابَةِ، وَحَمْلُ الْأُخْرَى عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَرْبَعِينَ سَنَةً مَا بَيْنَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} إِلَى نَفْخِ الرُّوحِ فِي آدَمَ، وَأَجَابَ غَيْرُهُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ وَقْتَ الْكِتَابَةِ فِي الْأَلْوَاحِ وَآخِرَهَا ابْتِدَاءُ خَلْقِ آدَمَ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَعْلُومَاتُ كُلُّهَا قَدْ أَحَاطَ بِهَا عِلْمُ اللَّهِ الْقَدِيمُ قَبْلَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّ كِتَابَتَهَا وَقَعَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ يَعْنِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ آدَمَ بِخُصُوصِهَا كُتِبَتْ قَبْلَ خَلْقِهِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مُدَّةَ لُبْثِهِ طِينًا إِلَى أَنْ نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ بَيْنَ تَصْوِيرِهِ طِينًا وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَانَ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كِتَابَةَ الْمَقَادِيرِ
عُمُومًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَتَبَهُ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِأَرْبَعِينَ عَامًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَظْهَرَهُ لِلْمَلَائِكَةِ أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مَا أَضَافَ إِلَيْهِ هَذَا التَّارِيخَ وَإِلَّا فَمَشِيئَةُ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ قَدِيمٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَيْ كَتَبَهُ فِي التَّوْرَاةِ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا قَبْلُ: فَكَمْ وَجَدْتَهُ كَتَبَ فِي التَّوْرَاةِ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِتَقْدِيرِهَا كَتْبُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ فِي التَّوْرَاةِ أَوْ فِي الْأَلْوَاحِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَصْلُ الْقَدَرِ ; لِأَنَّهُ أَزَلِيٌّ وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - تَعَالَى - مُرِيدًا لِمَا يَقَعُ مِنْ خَلْقِهِ. وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَزْعُمُ أَنَّ الْمُرَادَ إِظْهَارُ ذَلِكَ عِنْدَ تَصْوِيرِ آدَمَ طِينًا، فَإِنَّ آدَمَ أَقَامَ فِي طِينَتِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا بِخَلْقِهِ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ. قُلْتُ: وَقَدْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَكِنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِيهِ: كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَدَّرَهُ أَوْ عَلَى تَعَدُّدِ الْكِتَابَةِ لِتَعَدُّدِ الْمَكْتُوبِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ: (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلَاثًا) كَذَا فِي هَذِهِ الطُّرُقِ، وَلَمْ يُكَرَّرْ فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ النَّجَّارِ كَالَّذِي هُنَا لَكِنْ بِدُونِ قَوْلِهِ: ثَلَاثًا وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ، كَذَا فِي حَدِيثِ جُنْدَبٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بِلَفْظِ فَاحْتَجَّا إِلَى اللَّهِ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْأَعْرَجِ لَقَدْ حَجَّ آدَمُ مُوسَى، لَقَدْ حَجَّ آدَمُ مُوسَى، لَقَدْ حَجَّ آدَمُ مُوسَى وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْحَارِثِ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلَاثًا وَفِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فَخَصَمَ آدَمُ مُوسَى، فَخَصَمَ آدَمُ مُوسَى. وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ وَالنَّقَلَةُ وَالشُّرَّاحُ عَلَى أَنَّ آدَمَ بِالرَّفْعِ وَهُوَ الْفَاعِلُ، وَشَذَّ بَعْضُ النَّاسِ فَقَرَأَهُ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ، وَمُوسَى فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ. نَقَلَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْخَاصِّيَّةِ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ نَاصِرٍ السَّجْزِيٍّ الْحَافِظِ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَحَجَّ آدَمَ بِالنَّصْبِ قَالَ: وَكَانَ قَدَرِيًّا. قُلْتُ: هُوَ مَحْجُوجٌ بِالِاتِّفَاقِ قَبْلَهُ عَلَى أَنَّ آدَمَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ فَحَجَّهُ آدَمُ.
وَهَذَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ فَإِنَّ رُوَاتَهُ أَئِمَّةٌ حُفَّاظٌ، وَالزُّهْرِيُّ مِنْ كِبَارِ الْفُقَهَاءِ الْحُفَّاظِ، فَرِوَايَتُهُ هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ فِي ذَلِكَ، وَمَعْنَى حَجَّهُ غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ، يُقَالُ: حَاجَجْتُ فُلَانًا فَحَجَجْتُهُ مِثْلَ خَاصَمْتُهُ فَخَصَمْتُهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ جَسِيمٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَضَى أَعْمَالَ الْعِبَادِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَصِيرُ لِمَا قُدِّرَ لَهُ بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ. قَالَ: وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِلْجَبْرِيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ يُسَاعِدُهُمْ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ: يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ مَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ يَسْتَلْزِمُ الْجَبْرَ وَقَهْرَ الْعَبْدِ، وَيُتَوَهَّمُ أَنَّ غَلَبَةَ آدَمَ كَانَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ إِثْبَاتِ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصُدُورِهَا عَنْ تَقْدِيرٍ سَابِقٍ مِنْهُ، فَإِنَّ الْقَدَرَ اسْمٌ لِمَا صَدَرَ عَنْ فِعْلِ الْقَادِرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ نَفَى عَنْهُمْ مِنْ وَرَاءِ عِلْمِ اللَّهِ أَفْعَالَهُمْ وَأَكْسَابَهُمْ وَمُبَاشَرَتَهُمْ تِلْكَ الْأُمُورَ عَنْ قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ وَاخْتِيَارٍ، فَالْحُجَّةُ إِنَّمَا نُلْزِمُهُمْ بِهَا وَاللَّائِمَةُ إِنَّمَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا، وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا أَمْرَانِ لَا يُبَدَّلُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ: أَحَدُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَسَاسِ، وَالْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ وَنَقْضِهِ، وَإِنَّمَا جِهَةُ حُجَّةِ آدَمَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِنَ الشَّجَرَةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا خُلِقَ لِلْأَرْضِ، وَأَنَّهُ لَا يُتْرَكُ فِي الْجَنَّةِ بَلْ يُنْقَلُ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ فَكَانَ تَنَاوُلُهُ مِنَ الشَّجَرَةِ سَبَبًا لِإِهْبَاطِهِ وَاسْتِخْلَافِهِ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - قَبْلَ خَلْقِهِ:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قَالَ: فَلَمَّا لَامَهُ مُوسَى عَنْ نَفْسِهِ قَالَ لَهُ: أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ؟ فَاللَّوْمُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِكَ سَاقِطٌ عَنِّي إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَيِّرَ أَحَدًا بِذَنْبٍ كَانَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ
سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ اللُّوَّمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ سبحانه وتعالى إِذْ كَانَ نَهَاهُ فَبَاشَرَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ.
قَالَ: وَقَوْلُ مُوسَى وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْسِ مِنْهُ شُبْهَةٌ، وَفِي ظَاهِرِهِ تَعَلُّقٌ لِاحْتِجَاجِهِ بِالسَّبَبِ لَكِنَّ تَعَلُّقَ آدَمَ بِالْقَدَرِ أَرْجَحُ، فَلِهَذَا غَلَبَهُ. وَالْغَلَبَةُ تَقَعُ مَعَ الْمُعَارَضَةِ كَمَا تَقَعُ مَعَ الْبُرْهَانِ انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَالَ فِي أَعْلَامِ الْحَدِيثِ نَحْوَهُ مُلَخَّصًا وَزَادَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى دَفَعَ حُجَّتَهُ الَّتِي أَلْزَمَهُ اللَّوْمَ بِهَا. قَالَ: وَلَمْ يَقَعْ مِنْ آدَمَ إِنْكَارٌ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ، بَلْ عَارَضَهُ بِأَمْرٍ دَفَعَ بِهِ عَنْهُ اللُّوَّمَ. قُلْتُ: وَلَمْ يَتَلَخَّصْ مِنْ كَلَامِهِ مَعَ تَطْوِيلِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ دَفْعٌ لِلشُّبْهَةِ إِلَّا فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْآدَمِيِّ أَنْ يَلُومَ آخَرَ مِثْلَهُ عَلَى فِعْلٍ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلَّهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ وَنَهَاهُ. وَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: وَمَا الْمَانِعُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ أَنْ يُبَاشِرَهُ مَنْ تَلَقَّى عَنِ اللَّهِ مِنْ رَسُولِهِ، وَمَنْ تَلَقَّى عَنْ رُسُلِهِ مِمَّنْ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُمْ؟
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِ فَكَانَ لَوْمُهُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ نَوْعَ جَفَاءٍ، كَمَا يُقَالُ: ذِكْرُ الْجَفَاءِ بَعْدَ حُصُولِ الصَّفَاءِ جَفَاءٌ، وَلِأَنَّ أَثَرَ الْمُخَالَفَةِ بَعْدَ الصَّفْحِ يَنْمَحِي حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَلَا يُصَادِفُ اللَّوْمَ مِنَ اللَّائِمِ حِينَئِذٍ مَحَلًّا انْتَهَى. وَهُوَ مُحَصَّلُ مَا أَجَابَ بِهِ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْقَدَرِيَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ السَّابِقِ، وَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِآدَمَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَشَهَادَتِهِ بِأَنَّهُ غَلَبَ مُوسَى فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ مُوسَى لَا يَلُومُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ صَاحِبُهُ، وَقَدْ قَتَلَ هُوَ نَفْسًا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ فَكَيْفَ يَلُومُ آدَمَ عَلَى أَمْرٍ قَدْ غُفِرَ لَهُ؟ ثَانِيهَا لَوْ سَاغَ اللَّوْمُ عَلَى الذَّنْبِ بِالْقَدَرِ الَّذِي فُرِغَ مِنْ كِتَابَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ لَا يَصِحُّ هَذَا لَكَانَ مَنْ عُوتِبَ عَلَى مَعْصِيَةٍ قَدِ ارْتَكَبَهَا فَيَحْتَجُ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ، وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَانْسَدَّ بَابُ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ، وَلَاحْتَجَّ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى مَا يَرْتَكِبُهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَهَذَا يُفْضِي إِلَى لَوَازِمَ قَطْعِيَّةٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ آدَمَ إِنَّمَا احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا الْمُخَالَفَةِ، فَإِنَّ مُحَصَّلَ لَوْمِ مُوسَى إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِخْرَاجِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا لَمْ أُخْرِجْكُمْ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَكُمُ الَّذِي رَتَّبَ الْإِخْرَاجَ عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرةِ، وَالَّذِي رَتَّبَ ذَلِكَ قَدَّرَهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ فَكَيْفَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ لَيْسَ لِي فِيهِ نِسْبَةٌ إِلَّا الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْإِخْرَاجُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِي. قُلْتُ: وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَدْفَعُ شُبْهَةَ الْجَبْرِيَّةِ.
ثَانِيهَا: إِنَّمَا حَكَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِآدَمَ بِالْحُجَّةِ فِي مَعْنَى خَاصٍّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ فِي الْمَعْنَى الْعَامِّ لَمَا تَقَدَّمَ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لَوْمُهُ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} وَلَا أَخَذَهُ بِذَلِكَ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَلَكِنْ لَمَّا أَخَذَ مُوسَى فِي لَوْمِهِ، وَقَدَّمَ قَوْلَهُ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَنْتَ وَأَنْتَ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ عَارَضَهُ آدَمُ بِقَوْلِهِ: أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ وَأَنْتَ وَأَنْتَ. وَحَاصِلُ جَوَابِهِ إِذَا كُنْتَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ كَيْفَ يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّهُ لَا مَحِيدَ مِنَ الْقَدَرِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْغَلَبَةُ لِآدَمَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَلُومَ مَخْلُوقًا فِي وُقُوعِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَيَكُونُ الشَّارِعُ هُوَ اللَّائِمُ، فَلَمَّا أَخَذَ مُوسَى فِي لَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي ذَلِكَ عَارَضَهُ بِالْقَدَرِ فَأَسْكَتَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ آدَمُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْقَدَرُ وَالْكَسْبُ، وَالتَّوْبَةُ تَمْحُو أَثَرَ الْكَسْبِ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَابَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَدَرُ، وَالْقَدَرُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ لَوْمٌ لِأَنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ.
ثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا عِنْدِي مَخْصُوصٌ بِآدَمَ لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ بَيْنَهُمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ قَطْعًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} فَحَسُنَ مِنْهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مُوسَى لَوْمَهُ عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تِيبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ لَامَهُ عَلَى ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ كَمَا لَوْ قَتَلَ أَوْ زَنَا أَوْ سَرَقَ: هَذَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَلُومَنِي عَلَيْهِ، فَإِنَّ
الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِ لَوْمِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلْ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ مَحْمَدَةِ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الطَّاعَةِ.
قَالَ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ وَهْبٍ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ آدَمَ بَعْدَ أَنْ تِيبَ عَلَيْهِ.
رَابِعُهَا: إِنَّمَا تَوَجَّهَتِ الْحُجَّةُ لِآدَمَ لِأَنَّ مُوسَى لَامَهُ بَعْدَ أَنْ مَاتَ، وَاللَّوْمُ إِنَّمَا يُتَوَجَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَا دَامَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ حِينَئِذٍ جَارِيَةٌ عَلَيْهِمْ، فَيُلَامُ الْعَاصِي وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ وَلَا تَذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ لِأَنَّ مَرْجِعَ أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُثَنِّي الْعُقُوبَةَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، بَلْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ التَّثْرِيبِ عَلَى الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْمُ مُوسَى لِآدَمَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ انْتِقَالِهِ عَنْ دَارِ التَّكْلِيفِ، وَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِ فَسَقَطَ عَنْهُ اللَّوْمُ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ غَلَبَ مُوسَى بِالْحُجَّةِ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ صَارَ ذِكْرُ مَا صَدَرَ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ كَالْبَحْثِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ الْقَضَاءُ السَّابِقُ، فَلِذَلِكَ غَلَبَ بِالْحُجَّةِ.
قَالَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا قَامَتْ حُجَّةُ آدَمَ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ لِيَجْعَلَهُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فَلَمْ يَحْتَجَّ آدَم فِي أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ بِسَابِقِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ كَانَ عَنِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِالْقَدَرِ لِخُرُوجِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ آدَمَ أَبٌ وَمُوسَى ابْنٌ وَلَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يَلُومَ أَبَاهُ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّ آدَمَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بَلْ يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَلُومَ أَبَاهُ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا غَلَبَهُ لِأَنَّهُمَا فِي شَرِيعَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ أَنَّ الْمُخَالِفَ يَحْتَجُّ بِسَابِقِ الْقَدَرِ، وَفِي شَرِيعَةِ مُوسَى أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ أَوْ أَنَّهُ يُتَوَجَّهُ لَهُ اللَّوْمُ عَلَى الْمُخَالِفِ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَأَصَحُّ الْأَجْوِبَةِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَمْتَزِجَ مِنْهُمَا جَوَابٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّائِبَ لَا يُلَامُ عَلَى مَا تِيبَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَلَا سِيَّمَا إِذَا انْتَقَلَ عَنْ دَارِ التَّكْلِيفِ.
وَقَدْ سَلَكَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْمَسْلَكَ فَقَالَ: مَعْنَى كَلَامِ آدَمَ أَنَّكَ يَا مُوسَى تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، وَلَوْ حَرَصْتُ أَنَا وَالْخَلْقُ أَجْمَعُونَ عَلَى رَدِّ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْهُ لَمْ نَقْدِرْ فَلَا تَلُمْنِي فَإِنَّ اللَّوْمَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ شَرْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ، وَإِذَا تَابَ اللَّهُ عَلَيَّ وَغَفَرَ لِي زَالَ اللَّوْمُ فَمَنْ لَامَنِي كَانَ مَحْجُوجًا بِالشَّرْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْعَاصِي الْيَوْمَ لَوْ قَالَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ قُدِّرَتْ عَلَيَّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ عَنِّي اللَّوْمُ قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ هَذَا الْعَاصِي بَاقٍ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَاللَّوْمِ، وَفِي ذَلِكَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ زَجْرٌ وَعِظَةٌ، فَأَمَّا آدَمُ فَمَيِّتٌ خَارِجٌ عَنْ دَارِ التَّكْلِيفِ مُسْتَغْنٍ عَنِ الزَّجْرِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلَوْمِهِ فَائِدَةٌ، بَلْ فِيهِ إِيذَاءٌ وَتَخْجِيلٌ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْغَلَبَةُ لَهُ.
وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ أَلْزَمَنِي بِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَثْبَتَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ، وَحَكَمَ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمُحَاجَجَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ عِنْدَ مُلْتَقَى الْأَرْوَاحِ وَلَمْ تَقَعْ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَالَمَ الْأَسْبَابِ لَا يَجُوزُ قَطْعُ النَّظَرِ فِيهِ عَنِ الْوَسَائِطِ وَالِاكْتِسَابِ بِخِلَافِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ بَعْدَ انْقِطَاعِ مُوجِبِ الْكَسْبِ وَارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَلِذَلِكَ احْتَجَّ آدَمُ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ.
قُلْتُ: وَهُوَ مُحَصَّلُ بَعْضِ الْأَجْوِبَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ التَّعْرِيضِ بِصِيغَةِ الْمَدْحِ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ آدَمَ لِمُوسَى: أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ إِلَى آخِرِ مَا خَاطَبَهُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى عُذْرِهِ وَعَرَفَهُ بِالْوَحْيِ، فَلَوِ اسْتَحْضَرَ ذَلِكَ مَا لَامَهُ مَعَ وُضُوحِ عُذْرِهِ، وَأَيْضًا فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لِمُوسَى فِيهِ اخْتِصَاصٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ لَمْ يَقَعْ إِخْرَاجِي الَّذِي رُتِّبَ عَلَى أَكْلِي مِنَ الشَّجَرَةِ مَا حَصَلَتْ لَكَ هَذِهِ الْمَنَاقِبُ لِأَنِّي لَوْ بَقِيتُ فِي الْجَنَّةِ، وَاسْتَمَرَّ نَسْلِي فِيهَا
مَا وُجِدَ مَنْ تَجَاهَرَ بِالْكُفْرِ الشَّنِيعِ بِمَا جَاهَرَ بِهِ فِرْعَوْنُ حَتَّى أُرْسِلْتَ أَنْتَ إِلَيْهِ وَأُعْطِيتَ مَا أُعْطِيتَ، فَإِذَا كُنْتُ أَنَا السَّبَبَ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْفَضَائِلِ لَكَ فَكَيْفَ يَسُوغُ لَكَ أَنْ تَلُومَنِي.
قَالَ الطِّيبِيُّ: مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ إِثْبَاتُ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ وَنَفْيُهَا عَنِ الْعَبْدِ أَصْلًا، وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ بِخِلَافِهِ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَالطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ الْقَصْدُ، فَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ كَلَامِ مُوسَى يَؤُولُ إِلَى الثَّانِي بِأَنْ صَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِحَرْفِ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَصَرَّحَ بِاسْمِ آدَمَ وَوَصَفَهُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ فِي عِلِّيَّةِ عَدَمِ ارْتِكَابِهِ الْمُخَالَفَةَ، ثُمَّ أَسْنَدَ الْإِهْبَاطَ إِلَيْهِ، وَنَفْسُ الْإِهْبَاطِ مَنْزِلَةٌ دُونَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا أَبْعَدَ هَذَا الِانْحِطَاطُ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاصِبِ الْعَالِيَةِ، فَأَجَابَ آدَمُ بِمَا يُقَابِلُهَا بَلْ أَبْلَغَ فَصَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِهَمْزَةِ الْإِنْكَارِ أَيْضًا، وَصَرَّحَ بِاسْمِ مُوسَى وَوَصَفَهُ بِصِفَاتٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ فِي عِلِّيَّةِ عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَتَّبَ الْعِلْمَ الْأَزَلِيَّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى بِهَمْزَةِ الْإِنْكَارِ بَدَلَ كَلِمَةِ الِاسْتِبْعَادِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ هَذَا ثُمَّ تَلُومُنِي.
قَالَ: وَفِي هَذَا التَّقْرِيرِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحَرِّي قَصْدِ الْأُمُورِ. قَالَ: وَخَتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ بِقَوْلِهِ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ بَعْضَ أُمَّتِهِ كَالْمُعْتَزِلَةِ يُنْكِرُونَ الْقَدَرَ فَاهْتَمَّ لِذَلِكَ وَبَالَغَ فِي الْإِرْشَادِ. قُلْتُ: وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ. فَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ اكْتَفَى بِهِ مُعْرِضًا عَمَّا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ مِنْ تَقْوِيَةِ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرِينَ بِالذَّنْبِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ دَفْعِهِ فِي مَكَانِهِ، فَكَذَلِكَ هُنَا لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ سَبْقَ الْقَدَرِ اكْتَفَى بِهِ مُعْرِضًا عَمَّا يُوهِمُهُ ظَاهِرُهُ مِنْ تَقْوِيَةِ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ دَفْعِهِ فِي مَكَانِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عِدَّةٌ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فَفِيهِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أُخْرِجَ مِنْهَا آدَمُ هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وَيَدْخُلُونَهَا فِي الْآخِرَةِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّهَا جَنَّةٌ أُخْرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَزَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ. وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْعُمُومِ وَإِرَادَةُ الْخُصُوصِ فِي قَوْلِهِ: أَعْطَاكَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْمُرَادُ بِهِ كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ وَكُلُّ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ ; وَلَيْسَ الْمُرَادُ عُمُومُهُ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ الْخَضِرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ. وَقَدْ مَضَى وَاضِحًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْحُجَجِ فِي الْمُنَاظَرَةِ لِإِظْهَارِ طَلَبِ الْحَقِّ، وَإِبَاحَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّعْرِيضِ فِي أَثْنَاءِ الْحِجَاجِ لِيُتَوَصَّلَ إِلَى ظُهُورِ الْحُجَّةِ، وَأَنَّ اللَّوْمَ عَلَى مَنْ أَيْقَنَ وَعَلِمَ أَشَدُّ مِنَ اللَّوْمِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ. وَفِيهِ مُنَاظَرَةُ الْعَالِمِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَالِابْنِ أَبَاهُ، وَمَحَلُّ مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ أَوِ الِازْدِيَادِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْوُقُوفِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ.
وَفِيهِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ وَخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ لِلشَّخْصِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي بَعْضٍ كَحَالَةِ الْغَضَبِ وَالْأَسَفِ، وَخُصُوصًا مِمَّنْ طُبِعَ عَلَى حِدَّةِ الْخُلُقِ وَشِدَّةِ الْغَضَبِ، فَإِنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا غَلَبَتْ عَلَيْهِ حَالَةُ الْإِنْكَارِ فِي الْمُنَاظَرَةِ خَاطَبَ آدَمَ مَعَ كَوْنِهِ وَالِدَهُ بِاسْمِهِ مُجَرَّدًا، وَخَاطَبَهُ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ لِيُخَاطِبَ بِهَا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَلَ إِلَى مُعَارَضَتِهِ فِيمَا أَبَدَاهُ مِنَ الْحُجَّةِ فِي دَفْعِ شُبْهَتِهِ.
12 - بَاب لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ
6615 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ: اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: خَلْفَ الصَّلَاةِ، فَأَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ
قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ خَلْفَ الصَّلَاةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ أَنَّ وَرَّادًا أَخْبَرَهُ بِهَذَا. ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ) هَذَا اللَّفْظُ مُنْتَزَعٌ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ، وَأَمَّا لَفْظُهُ فَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ. وَلَمَحَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ بَعْضُ حَدِيثِ الْبَابِ كَمَا قَدَّمْتُهُ عِنْدَ شَرْحِهِ فِي آخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَثْبَتَ الْمُغِيرَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ. وَقَوْلُهُ: وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ زَادَ فِيهِ مِسْعَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَرَّادٍ وَلَا رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، وَذَكَرْتُ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ طَرِيقًا أُخْرَى هُنَاكَ، وَكَذَا رُوِّينَاهَا فِي فَوَائِدِ أَبِي سَعْدٍ الْكَنْجَرُوذِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْغَرَضُ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ وَرَّادًا أَخْبَرَ بِهِ عَبْدَةَ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِالْعَنْعَنَةِ.
13 - بَاب مَنْ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}
6616 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ دَرْكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ) تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الدَّعَوَاتِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} يُشِيرُ بِذِكْرِ الْآيَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السُّوءُ الْمَأْمُورُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ مِنْهُ مُخْتَرَعًا لِفَاعِلِهِ لَمَا كَانَ لِلِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ مِنْهُ مَعْنًى، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّعَوُّذُ إِلَّا بِمَنْ قَدَرَ عَلَى إِزَالَةِ مَا اسْتُعِيذَ بِهِ مِنْهُ.
وَالْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - فَاعِلُ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، وَالْمُرَادُ بِسُوءِ الْقَضَاءِ سُوءُ الْمَقْضِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ الدَّعَوَاتِ.
14 - بَاب {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}
6617 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَثِيرًا مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ: لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ.
[الحديث 6617 - طرفاه في: 6628، 7391]
6618 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، وَبِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ صَيَّادٍ: خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئَا. قَالَ: الدُّخُّ. قَالَ: اخْسَأْ
فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. قَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ: دَعْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَا تُطِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى تَفْسِيرِ الْحَيْلُولَةِ الَّتِي فِي الْآيَةِ بِالتَّقَلُّبِ الَّذِي فِي الْخَبَرِ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الرَّاغِبُ، وَقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يُلْقِي فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ مُرَادِهِ لِحِكْمَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَوَرَدَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَيَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْهُدَى.
والْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فِي الْبَابِ سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ: عَنْ سَالِمٍ هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَكَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَشَذَّ النُّفَيْلِيُّ، فَقَالَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: عَنْ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ بَدَلَ سَالِمٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ دَاسَةَ.
والْحَدِيثُ الثَّانِي مَضَى فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ، وَيَأْتِي مُسْتَوْعَبًا فِي الْفِتَنِ.
وَقَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ تَرْجَمَةَ عَلِيِّ بْنِ حَفْصٍ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجِهَادِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَكُنْهُ بِهَاءِ ضَمِيرٍ لِلْأَكْثَرِ، وَكَذَا فِي إِنْ لَمْ يَكُنْهُ وَوَقَعَ فِيهِمَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِلَفْظِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ بِالْفَصْلِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَمَنَعَ الْأَوَّلَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَا حَاصِلُهُ: مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْآيَةَ نَصٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ، وَأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ قَلْبِ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ فَلَا يُكْسِبُهُ إِنْ لَمْ يُقْدِرْهُ عَلَيْهِ، بَلْ أَقْدَرَهُ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَكَذَا فِي الْمُؤْمِنِ بِعَكْسِهِ، فَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَنَّهُ خَالِقُ جَمِيعِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ تَقْلِيبُ قَلْبِ عَبْدِهِ عَنْ إِيثَارِ الْإِيمَانِ إِلَى إِيثَارِ الْكُفْرِ وَعَكْسُهُ، قَالَ: وَكُلُّ فِعْلِ اللَّهِ عَدْلٌ فِيمَنْ أَضَلَّهُ وَخَذَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ حَقًّا وَجَبَ لَهُمْ عَلَيْهِ. قَالَ: وَمُنَاسَبَةُ الثَّانِي لِلتَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ: إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَا تُطِيقُهُ يُرِيدُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَخْرُجُ وَيَفْعَلُ فَإِنَّهُ لَا يُقْدِرُكَ عَلَى قَتْلِ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ سَيَجِيءُ إِلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ ; إِذْ لَوْ أَقْدَرَكَ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ انْقِلَابُ عِلْمِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ.
15 - بَاب {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} قَضَى
قَالَ مُجَاهِدٌ: {بِفَاتِنِينَ} بِمُضِلِّينَ. إِلَّا مَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ
{قَدَّرَ فَهَدَى} قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا
6619 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الطَّاعُونِ فَقَالَ: كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِيهِ وَيَمْكُثُ فِيهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْبَلَدِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} : قَضَى فَسَّرَ كَتَبَ بِقَضَى وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهَا، وَبِهِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَيُعَبَّرُ بِالْكِتَابَةِ عَنِ الْقَضَاءِ الْمُمْضَى كَقَوْلِهِ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} أَيْ فِيمَا قَدَّرَهُ، وَمِنْهُ {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وَقَوْلُهُ:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} يَعْنِي مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ،
قَالَ: وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ لَنَا وَلَمْ يُعَبِّرْ بِقَوْلِهِ عَلَيْنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الَّذِي يُصِيبُنَا نَعُدُّهُ نِعْمَةً لَا نِقْمَةً، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْآيَةَ الَّتِي تَلِيهَا حَيْثُ قَالَ: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْفَتْحُ أَوِ الشَّهَادَةُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا نِعْمَةٌ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِيمَا أَصَابَ الْعِبَادَ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا دُونَ خَلْقِهِ وَلَمْ يُقْدِرْهُمْ عَلَى كَسْبِهَا دُونَ مَا أَصَابُوهُ مُكْتَسِبِينَ لَهُ مُخْتَارِينَ. قُلْتُ: وَالصَّوَابُ التَّعْمِيمُ، وَأَنَّ مَا يُصِيبُهُمْ بِاكْتِسَابِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ هُوَ مَقْدُورٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَعَنْ إِرَادَتِهِ وَقَعَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مُجَاهِدٌ بِفَاتِنِينَ بِمُضِلِّينَ، إِلَّا مَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} قَالَ: لَا يُفْتَنُونَ إِلَّا مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، وَوَصَلَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِهِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ: لَا تَضِلُّونَ أَنْتُمْ وَلَا أُضِلُّ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ قَضَيْتُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَالِ الْجَحِيمَ وَمِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ سَأَلْتُ الْحَسَنَ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِمُضِلِّينَ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَصْلَى الْجَحِيمَ وَمِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّكُمْ وَالْآلِهَةُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا لَسْتُمْ بِالَّذِي تُفْتَنُونَ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ قَضَيْتُ أَنَّهُ سَيَصْلَى الْجَحِيمَ.
قَوْلُهُ: {قَدَّرَ فَهَدَى} قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} قَدَّرَ لِلْإِنْسَانِ الشِّقْوَةَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا، وَتَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ هَذَا لِلْمَعْنَى لَا لِلَّفْظِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}
قَالَ الرَّاغِبُ: هِدَايَةُ اللَّهِ لِلْخَلْقِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ الْعَامَّةُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ احْتِمَالِهِ، وَإِلَيْهَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ:{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وَالثَّانِي الدُّعَاءُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِلَيْهَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} وَالثَّالِثُ التَّوْفِيقُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ مَنِ اهْتَدَى، وَإِلَيْهَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} وَالرَّابِعُ الْهِدَايَاتُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِلَيْهَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ:{وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}
قَالَ: وَهَذِهِ الْهِدَايَاتُ الْأَرْبَعُ مُرَتَّبَةٌ فَإِنَّهُ مَنْ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْأُولَى لَا تَحْصُلُ لَهُ الثَّانِيَةُ، وَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الثَّانِيَةُ لَا تَحْصُلُ لَهُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ، وَلَا تَحْصُلُ الرَّابِعَةُ إِلَّا لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ الثَّالِثَةُ، وَلَا تَحْصُلُ الثَّالِثَةُ إِلَّا لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ اللَّتَانِ قَبْلَهَا، وَقَدْ تَحْصُلُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَالثَّانِيَةُ دُونَ الثَّالِثَةِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَهْدِي أَحَدًا إِلَّا بِالدُّعَاءِ وَتَعْرِيفِ الطُّرُقِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَإِلَى بَقِيَّةِ الْهِدَايَاتِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي الطَّاعُونِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَالْغَرَضُ مِنْ قَوْلِهِ فِيهِ: يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ.
(تَنْبِيهٌ): سَنَدُ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا مِنِ ابْتِدَائِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ مَرَاوِزَةَ، وَقَدْ سَكَنَ يَحْيَى الْمَذْكُورُ مَرْوَ مُدَّةً فَلَمْ يَبْقَ مِنْ رِجَالِ السَّنَدِ مَنْ لَيْسَ مَرْوَزِيًّا إِلَّا طَرَفَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَائِشَةُ.
16 - بَاب {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} ، {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
6620 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ، وَهُوَ يَقُولُ:
وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا
…
وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
…
وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
…
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا قَوْلُهُ: (بَابُ {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} - {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} كَذَا ذَكَرَ بَعْضَ كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ، وَالْهِدَايَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا هِيَ الرَّابِعَةُ عَلَى مَا ذَكَرَ الرَّاغِبُ، وَالْمَذْكُورَةُ ثَانِيًا هِيَ الثَّالِثَةُ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ فِي قَوْلِهِ:
وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا
الْأَبْيَاتَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَقَوْلُهُ هُنَا:
وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
كَذَا وَقَعَ مَزْحُوفًا، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظِ وَلَا تَصَدَّقْنَا بَدَلَ وَلَا صُمْنَا وَبِهِ يَحْصُلُ الْوَزْنُ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْقَدَرِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَالْخَالِصُ سَبْعَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَا اسْتُخْلِفَ مِنْ خَلِيفَةٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ خَمْسَةُ آثَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
83 - كِتَاب الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ
قَوْلُه: (كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ) الْأَيْمَانُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ يَمِينٍ، وَأَصْلُ الْيَمِينِ فِي اللُّغَةِ الْيَدُ، وَأُطْلِقَتْ عَلَى الْحَلِفِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَحَالَفُوا أَخَذَ كُلٌّ بِيَمِينِ صَاحِبِهِ وَقِيلَ: لِأَنَّ الْيَدَ الْيُمْنَى مِنْ شَأْنِهَا حِفْظُ الشَّيْءِ فَسُمِّيَ الْحَلِفُ بِذَلِكَ لِحِفْظِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَسُمِّيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا لِتَلَبُّسِهِ بِهَا. وَيُجْمَعُ الْيَمِينُ أَيْضًا عَلَى أَيْمُنٍ كَرَغِيفٍ وَأَرْغُفٍ. وَعُرِّفَتْ شَرْعًا بِأَنَّهَا تَوْكِيدُ الشَّيْءِ بِذِكْرِ اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ لِلَّهِ، وَهَذَا أَخْصَرُ التَّعَارِيفِ وَأَقْرَبُهَا. وَالنُّذُورُ جَمْعُ نَذْرٍ وَأَصْلُهُ الْإِنْذَارُ بِمَعْنَى التَّخْوِيفِ. وَعَرَّفَهُ الرَّاغِبُ بِأَنَّهُ إِيجَابُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِحُدُوثِ أَمْرٍ.
1 - بَاب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
6621 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمْ يَكُنْ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ قَطُّ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَقَالَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي.
6622 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا. وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
[الحديث 6622 - أطرافه في: 6772، 7146، 7147]
6623 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ "وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ قَالَ ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ نَلْبَثَ ثُمَّ أُتِيَ بِثَلَاثِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى فَحَمَلَنَا عَلَيْهَا فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا أَوْ قَالَ بَعْضُنَا وَاللَّهِ لَا يُبَارَكُ لَنَا أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا ثُمَّ حَمَلَنَا فَارْجِعُوا بِنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنُذَكِّرُهُ فَأَتَيْنَاهُ فَقَالَ مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ بَلْ اللَّهُ حَمَلَكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ أَوْ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي"
6624 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ "هَذَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
6625 -
وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ لَانْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ"
[الحديث 6625 - طرفه في: 6626]
6626 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اسْتَلَجَّ فِي أَهْلِهِ بِيَمِينٍ فَهُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا لِيَبَرَّ يَعْنِي الْكَفَّارَةَ"
قَوْلُهُ: قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ لَفْظِ بَابُ وَهُوَ مُقَدَّرٌ، وَثَبَتَ لِبَعْضِهِمْ كَالْإِسْمَاعِيلِيِّ.
قَوْلُهُ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الْآيَةَ وَفِي نُسْخَةٍ بَدَلَ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ تَشْكُرُونَ وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ كُلَّهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ الْمَذْكُورَ مِنَ الْآيَةِ هُنَا إِلَى قَوْلِهِ:{بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْآيَةِ فَقَدْ تَرْجَمَ بِهِ فِي أَوَّلِ كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ، فَقَالَ: لِقَوْلِهِ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} نَعَمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَاقَ الْآيَةَ كُلَّهَا أَوَّلًا، ثُمَّ سَاقَ بَعْضَهَا حَيْثُ احْتَاجَ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: {بِاللَّغْوِ} قَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ فِي الْأَصْلِ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْأَيْمَانِ مَا يُورَدُ عَنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ فَيَجْرِي مَجْرَى اللِّغَاءِ وَهُوَ صَوْتُ الْعَصَافِيرِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ.
قَوْلُهُ: (عَقَّدْتُمْ) قُرِئَ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِهَا، وَأَصْلُهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ أَطْرَافِ الشَّيْءِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَجْسَامِ وَيُسْتَعَارُ لِلْمَعَانِي نَحْوَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْمُعَاهَدَةِ، قَالَ عَطَاءٌ:
مَعْنَى قَوْلِهِ {عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} أَكَّدْتُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:
الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ كَانَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ عَنْ أَبِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ ذِكْرُ مَنْ رَوَاهُ مَرْفُوعًا، وَقَدْ ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ الْمُفْرَدِ وَقَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا يَعْنِي الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا خَطَأٌ وَالصَّحِيحُ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُفْيَانُ، وَوَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَكُنْ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ قَطُّ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ إِلَخْ) قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ عِنْدَ حَلِفِهِ أَنْ لَا يَصِلَ مِسْطَحًا بِشَيْءٍ فَنَزَلَتْ {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} الْآيَةَ، فَعَادَ إِلَى مِسْطَحٍ مَا كَانَ يَنْفَعُهُ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْإِفْكِ فِي تَفْسِيرِ النُّورِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى النَّقْلِ الْمَذْكُورِ مُسْنَدًا، ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ نَقْلًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ لِخَوْضِهِ فِي الْإِفْكِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ) وَافَقَهُ وَكِيعٌ، وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ وَوَافَقَهُ سُفْيَانُ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ مِنْ كِتَابِ كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: الْحَسَنُ هُوَ ابْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ يَعْنِي ابْنَ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَقِيلَ: بَيْنَ حَبِيبٍ، وَعَبْدِ شَمْسٍ رَبِيعَةُ، وَكُنْيَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو سَعِيدٍ وَهُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَبْدَ كُلَالٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَدْ شَهِدَ فَتُوحَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ فَتْحُ سِجِسْتَانَ عَلَى يَدَيْهِ، أَرْسَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ لِعُثْمَانَ عَلَى السَّرِيَّةِ فَفَتَحَهَا وَفَتَحَ غَيْرَهَا. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيِ الْوِلَايَةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ) يَأْتِي شَرْحُهُ أَيْضًا فِي بَابُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (غَيْلَانُ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ هُوَ ابْنُ جَرِيرٍ الْأَزْدِيُّ الْكُوفِيُّ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَأَبُو بُرْدَةَ هُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ أَيْضًا فِي بَابُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ.
الحديث الرَّابِعُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ.
قَوْلُهُ: (هَذَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ لَأَنْ يَلِجَ) هَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ فَقَالَ بِالْفَاءِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ.
وَقَوْلُهُ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجُمُعَةِ، لَكِنْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ كَرَّرَ الْبُخَارِيُّ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَخْرَجَهَا مِنْ صَحِيفَةِ هَمَّامٍ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْهُ ; وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ حَدِيثَ نَحْنُ الْآخِرُونَ هُوَ أَوَّلُ حَدِيثٍ فِي النُّسْخَةِ وَكَانَ هَمَّامٌ يَعْطِفُ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ الْأَحَادِيثِ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَكَ فِي ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مَسْلَكَيْنِ أَحَدُهُمَا هَذَا وَالثَّانِي مَسْلَكُ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ بَعْدَ قَوْلِ هَمَّامٍ هَذَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فَذَكَرَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ مِنْهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ هَذِهِ النُّسْخَةِ وَهُوَ مَسْلَكٌ وَاضِحٌ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَلَمْ يَطَّرِدْ لَهُ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ النُّسْخَةِ فِي الطَّهَارَةِ وَفِي الْبُيُوعِ وَفِي النَّفَقَاتِ وَفِي الشَّهَادَاتِ وَفِي الصُّلْحِ وَقِصَّةِ مُوسَى وَالتَّفْسِيرِ وَخَلْقِ آدَمَ وَالِاسْتِئْذَانِ، وَفِي الْجِهَادِ فِي مَوَاضِعَ، وَفِي الطِّبِّ وَاللِّبَاسِ
وَغَيْرِهِمَا فَلَمْ يُصَدِّرْ شَيْئًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ جَوَازَ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ فَحَدَّثَ بِهِمَا جَمِيعًا كَمَا سَمِعَهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَادِيثَ فِي أَوَائِلِهِمَا ذَكَرَهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي سَمِعَهُ. قُلْتُ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْوُضُوءِ وَفِي أَوَائِلِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ لَأَنْ يَلِجَّ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ اللَّامُ الْمُؤَكِّدَةُ لِلْقَسَمِ، وَيَلِجَّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا بَعْدَهَا جِيمٌ مِنَ اللَّجَاجِ، وَهُوَ أَنْ يَتَمَادَى فِي الْأَمْرِ وَلَوْ تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ، وَأَصْلُ اللَّجَاجِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ مُطْلَقًا، يُقَالُ: لَجِجْتُ أَلَجُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ.
قَوْلُهُ: أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ سَقَطَ قَوْلُهُ: فِي أَهْلِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْمَعْمَرِيِّ، عَنْ مَعْمَرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ.
قَوْلُهُ: (آثَمُ) بِالْمَدِّ أَيْ أَشَدُّ إِثْمًا.
قَوْلُهُ: (مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا تَتَعَلَّقُ بِأَهْلِهِ بِحَيْثُ يَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ حِنْثِهِ فِيهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ فَيَفْعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنْ قَالَ: لَا أَحْنَثُ بَلْ أَتَوَرَّعُ عَنِ ارْتِكَابِ الْحِنْثِ خَشْيَةَ الْإِثْمِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بِهَذَا الْقَوْلِ، بَلِ اسْتِمْرَارُهُ عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ وَإِقَامَةِ الضَّرَرِ لِأَهْلِهِ أَكْثَرُ إِثْمًا مِنَ الْحِنْثِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَنْزِيلِهِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحِنْثُ لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: آثَمُ بِصِيغَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فَهُوَ لِقَصْدِ مُقَابَلَةِ اللَّفْظِ عَلَى زَعْمِ الْحَالِفِ أَوْ تَوَهُّمِهِ فَإِنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمًا فِي الْحِنْثِ مَعَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: الْإِثْمُ فِي اللَّجَاجِ أَكْثَرُ مِنَ الْإِثْمِ فِي الْحِنْثِ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِهِ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ كَانَ أَدْخَلَ فِي الْوِزْرِ، وَأَفْضَى إِلَى الْإِثْمِ مِنَ الْحِنْثِ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: وَآثَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ وَأَصْلُهُ أَنْ يُطْلَقَ لِلَّاجِ فِي الْإِثْمِ، فَأُطْلِقَ لِمَنْ يَلِجُّ فِي مُوجِبِ الْإِثْمِ اتِّسَاعًا قَالَ: وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنَ الْحِنْثِ خَشْيَةَ الْإِثْمِ وَيَرَى ذَلِكَ، فَاللَّجَاجُ أَيْضًا إِثْمٌ عَلَى زَعْمِهِ وَحُسْبَانِهِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ تَخْرُجَ أَفْعَلُ عَنْ بَابِهَا كَقَوْلِهِمُ الصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِثْمَ فِي اللَّجَاجِ فِي بَابِهِ أَبْلَغُ مِنْ ثَوَابِ إِعْطَاءِ الْكَفَّارَةِ فِي بَابِهِ، قَالَ: وَفَائِدَةُ ذِكْرِ أَهْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِلْمُبَالَغَةِ وَهِيَ مَزِيدُ الشَّفَاعَةِ لِاسْتِهْجَانِ اللَّجَاجِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَهْلِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِهِمْ مُسْتَهْجَنًا فَفِي حَقِّهِمْ أَشَدَّ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحَانِثِ فَرْضٌ قَالَ: وَمَعْنَى يَلِجُّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى تَرْكِ الْكَفَّارَةِ كَذَا قَالَ، وَالصَّوَابُ عَلَى تَرْكِ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَقَعُ التَّمَادِي عَلَى حُكْمِ الْيَمِينِ، وَبِهِ يَقَعُ الضَّرَرُ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) جَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ بِأَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَصَنِيعُ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ، وَيَحْيَى بْنُ صَالِحٍ هُوَ الْوُحَاظِيُّ بِتَخْفِيفِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ الْأَلِفِ ظَاءٌ مُشَالَةٌ مُعْجَمَةٌ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ بِلَا وَاسِطَةٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَبِوَاسِطَةٍ فِي الْحَجِّ، وَشَيْخُهُ مُعَاوِيَةُ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَعِكْرِمَةُ هُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَا أَسْنَدَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، وَخَالَفَهُ مَعْمَرٌ فَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، فَأَرْسَلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ لَكِنَّهُ سَاقَهُ بِلَفْظِ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ مَعْمَرٍ، وَإِذَا كَانَ لَمْ يَضْبِطِ الْمَتْنَ فَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَضْبِطِ الْإِسْنَادَ.
قَوْلُهُ: (مَنِ اسْتَلَجَّ) اسْتَفْعَلَ مِنَ اللَّجَاجِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ اسْتَلْجَجَ بِإِظْهَارِ الْإِدْغَامِ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ.
قَوْلُهُ: (فَهُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا لِيَبَرَّ يَعْنِي الْكَفَّارَةَ) وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، وَكَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِلَامٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ، ثُمَّ رَاءٌ مُشَدَّدَةٌ وَاللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ بِلَفْظِ أَمْرِ الْغَائِبِ مِنَ الْبِرِّ أَوِ الْإِبْرَارِ، وَيَعْنِي بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ تَفْسِيرُ الْبِرِّ، وَالتَّقْدِيرُ لِيَتْرُكَ اللَّجَاجَ وَيَبَرَّ، ثُمَّ فَسَّرَ الْبِرَّ بِالْكَفَّارَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَتْرُكُ اللَّجَاجَ فِيمَا حَلَفَ وَيَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، وَيَحْصُلُ لَهُ الْبِرُّ بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْيَمِينِ الَّذِي حَلَفَهُ إِذَا حَنِثَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي أَهْلِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ تَصْوِيرِهِ بِأَنْ يَحْلِفَ أَنْ يَضُرَّ أَهْلَهُ مَثَلًا فَيَلِجُّ فِي ذَلِكَ الْيَمِينِ، وَيَقْصِدُ إِيقَاعَ الْإِضْرَارِ بِهِمْ لِتَنْحَلَّ يَمِينُهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: دَعِ اللَّجَاجَ فِي ذَلِكَ وَاحْنَثْ فِي هَذَا الْيَمِينِ، وَاتْرُكْ إِضْرَارَهُمْ وَيَحْصُلُ لَكَ الْبِرُّ، فَإِنَّكَ إِنْ أَصْرَرْتَ عَلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنْ حِنْثِكَ فِي الْيَمِينِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ لَيْسَ تُغْنِي الْكَفَّارَةُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ، وَتُغْنِي بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَالْكَفَّارَةُ بِالرَّفْعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تُغْنِي عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُرَادِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَوْضَحُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ وَجَّهَ الثَّانِيَةَ بِأَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الِاسْتِيلَاجَ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنَ الْحِنْثِ وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِثْمَ لَا تُغْنِي عَنْهُ كَفَّارَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ، وَفِيهِ إِذَا اسْتَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّهُ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ اسْتَفْعَلَ مِنَ اللَّجَاجِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ، وَيَرَى أَنَّ غَيْرَهُ خَيْرٌ مِنْهُ فَيُقِيمُ عَلَى يَمِينِهِ وَلَا يَحْنَثُ فَيُكَفِّرُ فَذَلِكَ آثَمُ لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهَا مُصِيبٌ فَيَلِجُّ وَلَا يُكَفِّرُهَا انْتَهَى. وَانْتُزِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ.
وَقَدْ قُيِّدَ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ بِالْأَهْلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّوَوِيُّ مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى وَهُوَ مُنْتَزَعٌ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ عِيَاضٍ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ ضُبِطَ فِي بَعْضِ الْأُمَّهَاتِ تُغْنِي بِالتَّاءِ الْمَضْمُومَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَفِي الْأَصْلِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ بِالتَّاءِ الْفَوْقَانِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَعَلَيْهِ عَلَامَةُ الْأَصِيلِيِّ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَوَجَدْنَاهُ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَهُوَ أَقْرَبُ، وَعِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ يَعْنِي لَيْسَ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ عِنْدِي أَشْبَهُهَا إِذَا كَانَتْ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً بِمَعْنَى إِلَّا أَيْ إِذَا لَجَّ فِي يَمِينِهِ كَانَ أَعْظَمَ إِثْمًا إِلَّا أَنْ يُكَفِّرَ.
قُلْتُ: وَهَذَا أَحْسَنُ لَوْ سَاعَدَتْهُ الرِّوَايَةُ، إِنَّمَا الَّذِي فِي النُّسَخِ كُلِّهَا بِتَقْدِيمِ لَيْسَ عَلَى يَعْنِي، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ بِحَذْفِ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَآخِرُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ فَهُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا جَائِزَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْيَمِينِ الْغَمُوسِ ; لِأَنَّ الْحَالِفَ بِهَا لَا يُسَمَّى مُسْتَلِجًّا فِي أَهْلِهِ، بَلْ صُورَتُهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ يُحْسِنَ إِلَى أَهْلِهِ وَلَا يَضُرَّهُمْ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَحْنَثَ وَيَلِجَّ فِي ذَلِكَ فَيَضُرَّهُمْ وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ، فَهَذَا مُسْتَلِجٌّ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثِمٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا تُغْنِي الْكَفَّارَةُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَحُطُّ عَنْهُ إِثْمَ إِسَاءَتِهِ إِلَى أَهْلِهِ وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْيَمِينِ الَّتِي حَلَفَهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَوْلُهُ: لَيْسَ تُغْنِي الْكَفَّارَةُ كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ إِثْمَهُ فِي قَصْدِهِ أَنْ لَا يَبَرَّ وَلَا يَفْعَلَ الْخَيْرَ، فَلَوْ كَفَّرَ لَمْ تَرْفَعِ الْكَفَّارَةُ سَبْقَ ذَلِكَ الْقَصْدِ، وَبَعْضُهُمْ ضَبَطَهُ بِفَتْحِ نُونِ يُغْنِي وَهُوَ بِمَعْنَى يَتْرُكُ أَيْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ: لَيْسَ تُغْنِي الْكَفَّارَةُ بِالْمُعْجَمَةِ يَعْنِي مَعَ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي الْأَيْمَانِ، قَالَ: وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ كَذَا قَالَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ يَعْنِي الْقَابِسِيَّ لَيْسَ يَعْنِي الْكَفَّارَةَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِتَأْوِيلِ الْخَطَّابِيِّ أَنَّهُ يَسْتَدِيمُ عَلَى لَجَاجِهِ، وَيَمْتَنِعُ مِنَ الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانَتْ خَيْرًا مِنَ التَّمَادِي.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَادِي إِذَا كَانَ فِي الْحِنْثِ مَصْلَحَةٌ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ حَرَامٍ فَيَمِينُهُ
طَاعَةٌ وَالتَّمَادِي وَاجِبٌ وَالْحِنْثُ مَعْصِيَةٌ وَعَكْسُهُ بِالْعَكْسِ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْلٍ فَيَمِينُهُ أَيْضًا طَاعَةٌ وَالتَّمَادِي مُسْتَحَبٌّ وَالْحِنْثُ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكَ مَنْدُوبٍ فَبِعَكْسِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ فَإِنْ كَانَ يَتَجَاذَبُهُ رُجْحَانُ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَيِّبًا وَلَا يَلْبَسُ نَاعِمًا فَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَصَوَّبَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ فَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّمَادِيَ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ ذِكْرَ الْأَهْلِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْأَهْلِ إِذَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُرِفَ مَعْنَى الْحَدِيثِ فَمُطَابَقَتُهُ بَعْدَ تَمْهِيدِ تَقْسِيمِ أَحْوَالِ الْحَالِفِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْيَمِينَ كَأَنْ لَا يَقْصِدَهَا أَوْ يَقْصِدَهَا لَكِنْ يَنْسَى أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَا إِثْمَ، وَإِنْ قَصَدَهَا وَانْعَقَدَتْ ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْيَمِينِ فَلْيَحْنَثْ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ تَخَيَّلَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَرْفَعُ عَنْهُ إِثْمَ الْحِنْثِ فَهُوَ تَخَيُّلٌ مَرْدُودٌ، سَلَّمْنَا لَكِنَّ الْحِنْثَ أَكْثَرُ إِثْمًا مِنَ اللَّجَاجِ فِي تَرْكِ فِعْلِ ذَلِكَ الْخَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلِلْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ الْتِفَاتٌ إِلَى الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} وَالْمُرَادُ لَا تَجْعَلِ الْيَمِينَ الَّذِي حَلَفْتَ أَنْ لَا تَفْعَلَ خَيْرًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلٍ أَوْ تَرْكٍ سَبَبًا يُعْتَذَرُ بِهِ عَنِ الرُّجُوعِ عَمَّا حَلَفْتَ عَلَيْهِ خَشْيَةً مِنَ الْإِثْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الْحِنْثِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِثْمًا حَقِيقَةً لَكَانَ عَمَلُ ذَلِكَ الْخَيْرِ رَافِعًا لَهُ بِالْكَفَّارَةِ الْمَشْرُوعَةِ، ثُمَّ يَبْقَى ثَوَابُ الْبِرِّ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ، وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ الَّذِي قَبْلَهُ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ لِوُرُودِ الْأَمْرِ فِيهِ بِفِعْلِ الْخَيْرِ وَكَذَا الْكَفَّارَةِ.
2 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَايْمُ اللَّهِ
6627 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَايْمُ اللَّهِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِفَتْحِهَا وَالْمِيمُ مَضْمُومَةٌ، وَحَكَى الْأَخْفَشُ كَسْرَهَا مَعَ كَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ اسْمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَحَرْفٌ عِنْدَ الزَّجَّاجِ، وَهَمْزَتُهُ هَمْزَةُ وَصْلٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَهَمْزَةُ قَطْعٍ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ جَمْعُ يَمِينٍ، وَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ، وَاحْتَجُّوا بِجَوَازِ كَسْرِ هَمْزَتِهِ وَفَتْحِ مِيمِهِ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فَلَوْ كَانَ جَمْعًا لَمْ تُحْذَفْ هَمْزَتُهُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا أُصِيبَ بِوَلَدِهِ وَرِجْلِهِ لَيْمُنُكَ لَئِنِ ابْتَلَيْتَ لَقَدْ عَافَيْتَ قَالَ: فَلَوْ كَانَ جَمْعًا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ بِحَذْفِ بَعْضِهِ، قَالَ: وَفِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ لُغَةً جَمَعْتُهَا فِي بَيْتَيْنِ وَهُمَا:
هَمْزُ ايْمٍ وَايْمُنُ فَافْتَحْ وَاكْسِرْ أَوْ أَمِ قُلْ
…
أَوْ قُلْ مِ أَوْ مَنْ بِالتَّثْلِيثِ قَدْ شُكِلَا
وَايْمُنُ اخْتِمْ بِهِ وَاللَّهِ كُلًّا أَضِفْ
…
إِليْهِ فِي قَسَمٍ تَسْتَوْفِ مَا نُقِلَا
قَالَ ابْنُ أَبِي الْفَتْحِ تِلْمِيذُ ابْنِ مَالِكٍ: فَاتَهُ أَمِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهَيْمِ بِالْهَاءِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، وَقَدْ حَكَاهَا الْقَاسِمُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُعَلِّمُ
الْأَنْدَلُسِيُّ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي أَوَائِلِ هَذَا الشَّرْحِ فِي آخِرِ التَّيَمُّمِ لُغَاتٍ فِي هَذَا فَبَلَغَتْ عِشْرِينَ، وَإِذَا حُصِرَ مَا ذُكِرَ هُنَا زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَصْلُهُ يَمِينُ اللَّهِ وَيُجْمَعُ أَيْمُنًا فَيُقَالُ: وَأَيْمُنُ اللَّهِ حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَنْشَدَ لِزُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
فَتُجْمَعُ أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ
…
بِمَقْسَمَةٍ تَمُورُ بِهَا الدِّمَاءُ
وَقَالُوا عِنْدَ الْقَسَمِ: وَأَيْمُنُ اللَّهِ، ثُمَّ كَثُرَ فَحَذَفُوا النُّونَ كَمَا حَذَفُوهَا مِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَالُوا لَمْ يَكُ، ثُمَّ حَذَفُوا الْيَاءَ فَقَالُوا: أَمِ اللَّهِ ثُمَّ حَذَفُوا الْأَلْفَ فَاقْتَصَرُوا عَلَى الْمِيمِ مَفْتُوحَةً وَمَضْمُومَةً وَمَكْسُورَةً، وَقَالُوا أَيْضًا: مُنُ اللَّهِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا، وَأَجَازُوا فِي أَيْمُنِ فَتْحَ الْمِيمِ وَضَمَّهَا وَكَذَا فِي أَيْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَصَلَ الْأَلِفَ وَجَعْلَ الْهَمْزَةَ زَائِدَةً أَوْ مُسَهَّلَةً، وَعَلَى هَذَا تَبْلُغُ لُغَاتُهَا عِشْرِينَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالُوا: أَيْمُ اللَّهِ وَرُبَّمَا حَذَفُوا الْيَاءَ فَقَالُوا: أَمِ اللَّهِ، وَرُبَّمَا أَبْقَوُا الْمِيمَ وَحْدَهَا مَضْمُومَةً فَقَالُوا: مُ اللَّهِ وَرُبَّمَا كَسَرُوهَا لِأَنَّهَا صَارَتْ حَرْفًا وَاحِدًا فَشَبَّهُوهَا بِالْبَاءِ قَالُوا: وَأَلِفُهَا أَلِفُ وَصْلٍ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ، وَلَمْ يَجِئْ أَلِفُ وَصْلٍ مَفْتُوحَةً غَيْرُهَا، وَقَدْ تَدْخُلُ اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ فَيُقَالُ: لَيْمُنُ اللَّهِ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَقَالَ فَرِيقُ الْقَوْمِ لَمَّا نَشَدْتُهُمْ
…
نَعَمْ وَفَرِيقٌ لَيْمُنُ اللَّهِ مَا نَدْرِي
وَذَهَبَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ إِلَى أَنَّ أَلِفَهَا أَلِفُ قَطْعٍ، وَإِنَّمَا خُفِّفَتْ هَمْزَتُهَا وَطُرِحَتْ فِي الْوَصْلِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: ايْمُ اللَّهِ مَعْنَاهُ اسْمُ اللَّهِ أُبْدِلَ السِّينُ يَاءً، وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ السِّينَ لَا تُبْدَلُ يَاءً، وَذَهَبَ الْمُبَرِّدُ إِلَى أَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ وَاوِ الْقَسَمِ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَايْمُ اللَّهِ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ. وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ يَمِينَ اللَّهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا
…
وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَمِينٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ نَوَى الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَ الْيَمِينِ لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينًا، وَإِنْ أَطْلَقَ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا إِنْ نَوَى، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا الِانْعِقَادُ، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي مَعْنَاهُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: تَاللَّهِ، وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَفَرَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّ لَعَمْرُ اللَّهِ شَاعَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ عُرْفًا بِخِلَافِ أَيْمُ اللَّهِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالِانْعِقَادِ مُطْلَقًا بِأَنَّ مَعْنَاهُ يَمِينُ اللَّهِ وَيَمِينُ اللَّهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَةٌ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّ قَوْلَ وَايْمُ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: وَحَقِّ اللَّهِ وَقَالَ: إِنَّهُ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَقَدِ اسْتَغْرَبُوهُ. وَوَقَعَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مَا يُقَوِّيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالِانْعِقَادِ مُطْلَقًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ إِلَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ وَحَقِّ اللَّهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي بَعْثِ أُسَامَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي آخِرِ الْمَغَازِي وَفِي الْمَنَاقِبِ، وَضُبِطَ قَوْلُهُ فِيهِ وَأَيْمُ اللَّهِ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3 - بَاب كَيْفَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟
وَقَالَ سَعْدٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَاهَا اللَّهِ إِذًا. يُقَالُ: وَاللَّهِ وَبِاللَّهِ وَتَاللَّهِ
6628 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ"
6629 -
حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ "عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
6630 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
6631 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا"
6632 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَانْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ" فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَانْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي" فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْآنَ يَا عُمَرُ"
6633 -
6634 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ تَكَلَّمْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالْعَسِيفُ الأَجِيرُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ لِي ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَاقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا وَأُمِرَ أُنَيْسٌ الأَسْلَمِيُّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا"
6635 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ تَمِيمٍ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ خَابُوا وَخَسِرُوا قَالُوا نَعَمْ فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ"
6636 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ عَامِلًا فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَالَ لَهُ "أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لَا ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ فَقَدْ بَلَّغْتُ فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ وَقَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مَعِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَلُوهُ"
6637 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا"
6638 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ "عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ يَقُولُ "هُمْ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ" قُلْتُ مَا شَأْنِي أَيُرَى فِيَّ شَيْءٌ مَا شَأْنِي فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَسْكُتَ وَتَغَشَّانِي مَا شَاءَ اللَّهُ فَقُلْتُ مَنْ هُمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "الأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا"
6639 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ سُلَيْمَانُ لَاطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ"
6640 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ أُهْدِيَ إِلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَرَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيَعْجَبُونَ مِنْ حُسْنِهَا وَلِينِهَا
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْجَبُونَ مِنْهَا" قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا" لَمْ يَقُلْ شُعْبَةُ وَإِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ"
6641 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ إِنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ مِمَّا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ أَوْ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ أَوْ خِبَائِكَ شَكَّ يَحْيَى ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَهْلُ أَخْبَاءٍ أَوْ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ أَوْ خِبَائِكَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ قَالَ "لَا إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ"
6642 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ قَالَ "حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضِيفٌ ظَهْرَهُ إِلَى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ يَمَانٍ إِذْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا بَلَى قَالَ أَفَلَمْ تَرْضَوْا أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا بَلَى قَالَ "فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لَارْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"
6643 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"
6644 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَارَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إِذَا مَا رَكَعْتُمْ وَإِذَا مَا سَجَدْتُمْ"
6645 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا أَوْلَادٌ لَهَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَاحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ"
قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ) صلى الله عليه وسلم أَيِ الَّتِي كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى الْقَسَمِ بِهَا أَوْ يُكْثِرُ، وَجُمْلَةُ مَا ذُكِرَ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ: أَحَدُهَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَكَذَا نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، فَبَعْضُهَا مُصَدَّرٌ بِلَفْظِ لَا وَبَعْضُهَا بِلَفْظِ أَمَا وَبَعْضُهَا بِلَفْظِ أَيْمُ، ثَانِيهَا لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، ثَالِثُهَا وَاللَّهِ، رَابِعُهَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّتُهُ مِنْ تَقْرِيرِهِ لَا مِنْ لَفْظِهِ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُهَا وُرُودًا، وَفِي سِيَاقِ الثَّانِي إِشْعَارٌ بِكَثْرَتِهِ أَيْضًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ عَرَابَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيِّ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَلَفَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ شُمَيْخٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ: لَا وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا أَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ.
وَدَلَّ مَا سِوَى الثَّالِثِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا يُرَادُ بِهِ اخْتِصَاصُ لَفْظِ الْجَلَالَةِ بِذَلِكَ، بَلْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ اسْمٍ وَصِفَةٍ تَخْتَصُّ بِهِ سبحانه وتعالى، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَكَذَا الصِّفَاتِ صَرِيحٌ فِي الْيَمِينِ تَنْعَقِدُ بِهِ وَتَجِبُ لِمُخَالِفَتِهِ الْكَفَّارَةَ، وَهُوَ وَجْهٌ غَرِيبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَهُمْ وَجْهٌ أَغْرَبُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ صَرِيحٌ إِلَّا لَفْظَ الْجَلَالَةِ وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَرُدُّهُ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ كَالرَّحْمَنِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقِ الْخَلْقِ فَهُوَ صَرِيحٌ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ سَوَاءً قَصَدَ اللَّهَ أَوْ أَطْلَقَ.
ثَانِيهَا مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَقَدْ يُقَالُ لِغَيْرِهِ لَكِنْ بِقَيْدٍ كَالرَّبِّ وَالْحَقِّ، فَتَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ إِلَّا إِنْ قَصَدَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ.
ثَالِثُهَا مَا يُطْلَقُ عَلَى السَّوَاءِ كَالْحَيِّ وَالْمَوْجُودِ وَالْمُؤْمِنِ، فَإِنْ نَوَى غَيْرَ اللَّهِ أَوْ أَطْلَقَ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ نَوَى بِهِ اللَّهَ انْعَقَدَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمِثْلُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِلَّهِ جَزْمًا، فَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَهُ كَمَلَكِ الْمَوْتِ مَثَلًا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الصَّرَاحَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهِ وَجْهٌ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَيُلْتَحَقُ بِهِ وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ. وَأَمَّا مِثْلُ وَالَّذِي أَعْبُدُهُ، أَوْ أَسْجُدُ لَهُ، أَوْ أُصَلِّي لَهُ فَصَرِيحٌ جَزْمًا، وَجُمْلَةُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ عِشْرُونَ حَدِيثًا.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعْدٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ مَضَى الْحَدِيثُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ فِي حَدِيثٍ أَوَّلُهُ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ الْحَدِيثَ وَفِيهِ إِيهًا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ. وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَاهَا اللَّهِ إِذًا) وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مَوْصُولٍ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَقَدْ بَسَطْتُ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ: وَاللَّهِ وَبِاللَّهِ وَتَاللَّهِ) يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ حُرُوفُ الْقَسَمِ، فَفِي الْقُرْآنِ الْقَسَمُ بِالْوَاوِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ فِي عِدَّةِ أَشْيَاءَ، وَبِالْمُثَنَّاةِ فِي قَوْلِهِ:{تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} وَ {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَنُقِلَ قَوْلٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَسَمَ بِالْمُثَنَّاةِ لَيْسَ صَرِيحًا ; لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهَا، وَالْأَيْمَانُ مُخْتَصَّةٌ بِالْعُرْفِ، وَتَأَوَّلَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ. نَعَمْ تَفْتَرِقُ الثَّلَاثَةُ بِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ يَدْخُلَانِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلَا تَدْخُلُ الْمُثَنَّاةُ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِإِيرَادِ هَذَا الْكَلَامِ هُنَا عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ إِلَى أَنَّ أَصْلَ لَاهَا اللَّهِ لَا وَاللَّهِ فَالْهَاءُ عِوَضٌ عَنِ الْوَاوِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَقِيلَ: الْهَاءُ نَفْسُهَا أَيْضًا حَرْفُ قَسَمٍ بِالْأَصَالَةِ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ أَصْلَ أَحْرُفِ الْقَسَمِ الْوَاوُ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةُ ثُمَّ الْمُثَنَّاةُ. وَنَقَلَ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُوَحَّدَةَ هِيَ الْأَصْلُ، وَأَنَّ الْوَاوَ بَدَلٌ مِنْهَا، وَأَنَّ الْمُثَنَّاةَ بَدَلٌ
مِنَ الْوَاوِ، وَقَوَّاهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْبَاءَ تَعْمَلُ فِي الضَّمِيرِ بِخِلَافِ الْوَاوِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَهُوَ الْبِيكَنْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ الَّتِي يَحْلِفُ عَلَيْهَا وَفِي أُخْرَى لَهُ يَحْلِفُ بِهَا.
قَوْلُهُ: (لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ) تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْقَدَرِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِلَفْظِ كَثِيرًا مَا كَانَ وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ أَكْثَرَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ فَذَكَرَهُ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ كَانَ أَكْثَرُ أَيْمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا وَمُصَرِّفِ الْقُلُوبِ وَقَوْلُهُ: لَا نَفْيٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ هُوَ الْمُقْسَمُ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِتَقْلِيبِ الْقُلُوبِ تَقْلِيبُ أَعْرَاضِهَا وَأَحْوَالِهَا لَا تَقْلِيبَ ذَاتِ الْقَلْبِ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْقَلْبِ مِنَ الْإِرَادَاتِ وَالدَّوَاعِي وَسَائِرِ الْأَعْرَاضِ بِخَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَفِيهِ جَوَازُ تَسْمِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِمَا ثَبَتَ مِنْ صِفَاتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَحَنِثَ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَصْلِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَيِّ صِفَةٍ تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ كَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْحَلِفِ بِأَفْعَالِ اللَّهِ إِذَا وُصِفَ بِهَا وَلَمْ يُذْكَرِ اسْمُهُ، قَالَ: وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَقَالُوا: إِنْ حَلَفَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، وَإِنْ حَلَفَ بِعِلْمِ اللَّهِ لَمْ تَنْعَقِدْ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمَعْلُومِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ هُنَا مَجَازٌ إِنْ سَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَعْلُومُ، وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ. قَالَ الرَّاغِبُ: تَقْلِيبُ اللَّهِ الْقُلُوبَ وَالْأَبْصَارَ صَرْفُهَا عَنْ رَأْيٍ إِلَى رَأْيٍ، وَالتَّقَلُّبُ التَّصَرُّفُ قَالَ - تَعَالَى -:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} قَالَ: وَسُمِّيَ قَلْبُ الْإِنْسَانِ لِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهِ. وَيُعَبَّرُ بِالْقَلْبِ عَنِ الْمَعَانِي الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الرُّوحِ وَالْعِلْمِ وَالشُّجَاعَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أَيِ الْأَرْوَاحُ، وَقَوْلُهُ: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَيْ عِلْمٌ وَفَهْمٌ، وَقَوْلُهُ:{وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} أَيْ تَثْبُتَ بِهِ شُجَاعَتُكُمْ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: الْقَلْبُ جُزْءٌ مِنَ الْبَدَنِ خَلَقَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ لِلْإِنْسَانِ مَحَلَّ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْبَاطِنَةِ، وَجَعَلَ ظَاهِرَ الْبَدَنِ مَحَلَّ التَّصَرُّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ، وَوَكَّلَ بِهَا مَلَكًا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَشَيْطَانًا يَأْمُرُ بِالشَّرِّ، فَالْعَقْلُ بِنُورِهِ يَهْدِيهِ، وَالْهَوَى بِظُلْمَتِهِ يُغْوِيهِ، وَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ مُسَيْطِرٌ عَلَى الْكُلِّ، وَالْقَلْبُ يَنْقَلِبُ بَيْنَ الْخَوَاطِرِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَاللَّمَّةُ مِنَ الْمَلَكِ تَارَةً وَمِنَ الشَّيْطَانِ أُخْرَى، وَالْمَحْفُوظُ مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ - تَعَالَى -.
الْحَدِيثُ الرَّابَعُ والْخَامِسُ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا هَلَكَ كِسْرَى وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا فِي أَوَاخِرِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُمَا قَوْلُهُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَاقْتَصَرَ هُنَا عَلَى آخِرِهِ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ وَمُحَمَّدٌ فِي أَوَّلِ هَذَا السَّنَدِ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَعَبْدَةُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِمَعَارِفَ بَصَرِيَّةٍ وَقَلْبِيَّةٍ، وَقَدْ يُطْلِعُ اللَّهُ عَلَيْهَا غَيْرَهُ مِنَ الْمُخْلَصِينَ مِنْ أُمَّتِهِ لَكِنْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُهَا فَاخْتُصَّ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ، مَعَ الْخَشْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ وَاسْتِحْضَارِ الْعَظَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي فِي
كِتَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ لَأَنَا.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ أَيِ ابْنِ زُهْرَةَ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ مِنْ رَهْطِ الصِّدِّيقِ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) تَقَدَّمَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِهَذَا السَّنَدِ فِي آخِرِ مَنَاقِبِ عُمَرَ، فَذَكَرْتُ هُنَاكَ نَسَبَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ وَبَعْضَ حَالِهِ، وَتَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الشَّرِكَةِ وَالدَّعَوَاتِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا نَفْسِي) اللَّامُ لِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَنْتَ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ) أَيْ لَا يَكْفِي ذَلِكَ لِبُلُوغِ الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا حَتَّى يُضَافَ إِلَيْهِ مَا ذُكِرَ. وَعَنْ بَعْضِ الزُّهَّادِ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَا تَصْدُقُ فِي حُبِّي حَتَّى تُؤْثِرَ رِضَايَ عَلَى هَوَاكَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْهَلَاكُ. وَقَدْ قَدَّمْتُ تَقْرِيرَ هَذَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْآنَ يَا عُمَرُ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: وُقُوفُ عُمَرَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَاسْتِثْنَاؤُهُ نَفْسَهُ إِنَّمَا اتَّفَقَ حَتَّى لَا يَبْلُغَ ذَلِكَ مِنْهُ فَيَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا، فَلَمَّا قَالَ لَهُ مَا قَالَ تَقَرَّرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ فَحَلَفَ كَذَا قَالَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: حُبُّ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ طَبْعٌ، وَحُبُّ غَيْرِهِ اخْتِيَارٌ بِتَوَسُّطِ الْأَسْبَابِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عليه الصلاة والسلام حُبَّ الِاخْتِيَارِ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى قَلْبِ الطِّبَاعِ وَتَغْيِيرِهَا عَمَّا جُبِلَتْ عَلَيْهِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا فَجَوَابُ عُمَرَ أَوَّلًا كَانَ بِحَسَبِ الطَّبْعِ، ثُمَّ تَأَمَّلَ فَعَرَفَ بِالِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ السَّبَبَ فِي نَجَاتِهَا مِنَ الْمُهْلِكَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى فَأَخْبَرَ بِمَا اقْتَضَاهُ الِاخْتِيَارُ، وَلِذَلِكَ حَصَلَ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: الْآنَ يَا عُمَرُ أَيِ الْآنَ عَرَفْتَ فَنَطَقْتَ بِمَا يَجِبُ.
وَأَمَّا تَقْرِيرُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ الْآنَ صَارَ إِيمَانُكَ مُعْتَدًّا بِهِ، إِذِ الْمَرْءُ لَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ حَتَّى يَقْتَضِيَ عَقْلُهُ تَرْجِيحَ جَانِبِ الرَّسُولِ، فَفِيهِ سُوءُ أَدَبٍ فِي الْعِبَارَةِ، وَمَا أَكْثَرَ مَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ الْكِبَارِ عِنْدَ عَدَمِ التَّأَمُّلِ وَالتَّحَرُّزِ لِاسْتِغْرَاقِ الْفِكْرِ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَنْبَغِي التَّشْدِيدُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ يُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إِلَى الرَّدِّ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِ لِئَلَّا يَقَعَ الْمُنْكَرُ فِي نَحْوِ مِمَّا أَنْكَرَهُ.
6633، 6634 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ. قَالَ: تَكَلَّمْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا - قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ - زَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَتَيْ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ لِي. ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْسًا الْأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا. الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْحُدُودِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ وَسَقَطَتْ أَمَا وَهِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ لِلِافْتِتَاحِ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ.
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْجُعْفِيُّ وَفِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، لَكِنَّهُ لَمْ يُسَمِّ أَبَاهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَخْرَجَهَا إِمَّا يُكَنِّيهِ وَيُكَنِّي أَبَاهُ، أَوْ يُسَمِّيهِ وَيُكَنِّي أَبَاهُ، بِخِلَافِ الْجُعْفِيِّ فَإِنَّهُ يَنْسُبُهُ تَارَةً وَأُخْرَى لَا يَنْسُبُهُ كَهَذَا الْمَوْضِعِ، وَوَهْبٌ هُوَ ابْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ الضَّبِّيُّ، وَأَبُو بَكْرةَ هُوَ الثَّقَفِيُّ، وَالْإِسْنَادُ مِنْ وَهْبٍ فَصَاعِدًا بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ أَسْلَمَ) أَيْ أَخْبِرُونِي، وَالْمُرَادُ بِأَسْلَمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهَا قَبَائِلُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَائِلِ الْمَبْعَثِ النَّبَوِيِّ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَالْمُرَادُ خَيْرِيَّةُ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَفْضُولِينَ فَرْدٌ أَفْضَلَ مِنْ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْضَلِينَ.
الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ قَوْلُهُ: اسْتَعْمَلَ عَامِلًا هُوَ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، ثُمَّ يَاءِ النَّسَبِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَشَيْءٌ مِنْ شَرْحِهِ فِي الْهِبَةِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: وَقَدْ سَمِعَ مَعِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَلُوهُ، قَدْ فَتَّشْتُ مُسْنَدَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَلَمْ أَجِدْ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِيهِ ذِكْرًا.
الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ الْحَدِيثُ مُخْتَصَرًا،
تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ السَّادِسِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الرِّقَاقِ، وَسَاقَ بِهَذَا السَّنَدِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ الْمَتْنَ بِتَمَامِهِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: قَالَ سُلَيْمَانُ أَيِ ابْنُ دَاوُدَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْسُوبًا فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ مِنْ كِتَابِ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِقَوْلِهِ فِيهِ: وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْحَدِيثَ، هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَفِي سَائِرِ الطُّرُقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَاسْتُدِلَّ بِمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ ايْمُ إِلَى غَيْرِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ نَادِرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَيْمُنُكَ لَئِنِ ابْتَلَيْتَ فَقَدْ عَافَيْتَ فَأَضَافَهَا إِلَى الضَّمِيرِ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي ذِكْرِ مَنَادِيلِ سَعْدٍ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَنَاقِبِ وَفِي اللِّبَاسِ، قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ لَمْ يَقُلْ شُعْبَةُ، وَإِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَعْنِي أَنَّهُمَا رَوَيَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو الْأَحْوَصِ، وَأَنَّ أَبَا الْأَحْوَصِ انْفَرَدَ عَنْهُمَا بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ شُعْبَةَ فِي الْمَنَاقِبِ، وَحَدِيثُ إِسْرَائِيلَ فِي اللِّبَاسِ مَوْصُولًا، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَكَذَا رَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، كَذَا قَالَ أَبُو عَاصِمٍ أَحْمَدُ ابْنُ جَوَّاسٍ - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ - عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَقَالَ: هُوَ مِنَ الْمُتَخَصِّصِينَ بِأَبِي الْأَحْوَصِ. قُلْتُ: وَشَيْخُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي زَادَهَا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، وَقَدْ وَافَقَهُ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ.
الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ قَوْلُهُ: يُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (مَا كَانَ مِمَّا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ أَوْ خِبَاءٍ) كَذَا فِيهِ بِالشَّكِّ هَلْ هُوَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَوِ الْإِفْرَادِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّكَّ مِنْ يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النَّفَقَاتِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ بِلَفْظِ أَهْلُ خِبَاءٍ بِالْإِفْرَادِ وَلَمْ يَشُكَّ، وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَنْبَسَةَ، عَنْ يُونُسَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي أَوَاخِرِ الْمَنَاقِبِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ هُوَ ابْنُ حَرْبٍ وَالِدُ مُعَاوِيَةَ، وَقَوْلُهُ رَجُلٌ مِسِّيكٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَبِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ، وَقَوْلُهُ: لَا بِالْمَعْرُوفِ الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِنْفَاقِ لَا بِالنَّفْيِ، وَقَدْ مَضَى فِي الْمَنَاقِبِ بِلَفْظِ فَقَالَ: لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ وَهِيَ أَوْضَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ) هُوَ الْأَوْدِيُّ وَشُرَيْحٌ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ أَيِ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، فَأَبُو إِسْحَاقَ جَدُّ يُوسُفَ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ، وَمَضَى شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ.
الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَحَبَّانُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ.
الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا، وَلَا عَلَى أَسْمَاءِ أَوْلَادِهَا.
قَوْلُهُ: (مَعَهَا أَوْلَادُهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْلَادٌ لَهَا.
قَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ - تَعَالَى - وَقَالَ قَوْمٌ: يُكْرَهُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا، وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ فِي طَاعَةٍ أَوْ دَعَتْ إِلَيْهَا حَاجَةٌ كَتَأْكِيدِ أَمْرٍ أَوْ تَعْظِيمِ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ أَوْ كَانَ فِي دَعْوَى عِنْدَ الْحَاكِمِ وَكَانَ صَادِقًا.
4 - بَاب لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ
6646 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ، يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ.
6647 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ سَالِمٌ "قَالَ ابْنُ عُمَرَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ" قَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا قَالَ مُجَاهِدٌ أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ يَأْثُرُ عِلْمًا تَابَعَهُ عُقَيْلٌ وَالزُّبَيْدِيُّ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ"
6648 -
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار "قال سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تحلفوا بآبائكم"
6649 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ "كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ وَبَيْنَ الأَشْعَرِيِّينَ وُدٌّ وَإِخَاءٌ فَكُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مِنْ الْمَوَالِي فَدَعَاهُ إِلَى الطَّعَامِ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ أَنْ لَا آكُلَهُ فَقَالَ قُمْ فَلَاحَدِّثَنَّكَ عَنْ ذَاكَ إِنِّي أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ "وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ" فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ فَسَأَلَ عَنَّا فَقَالَ "أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ" فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا مَا صَنَعْنَا حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَحْمِلُنَا وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا ثُمَّ حَمَلَنَا تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ وَاللَّهِ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا لَهُ إِنَّا أَتَيْنَاكَ لِتَحْمِلَنَا فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا وَمَا عِنْدَكَ مَا تَحْمِلُنَا فَقَالَ "إِنِّي لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"
قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَابِ لَكِنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ عَلَى مَا سَأُبَيِّنُهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ دَاسَةَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ بِزِيَادَةٍ، وَلَفْظُهُ: لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ. الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ) هَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّ الْخَبَرَ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ أَرَ عَنْ نَافِعٍ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا إِلَّا مَا حَكَى يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ الْعُمَرِيَّ الضَّعِيفَ الْمُكَبَّرَ رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ، فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ الْمُصَغَّرُ الثِّقَةُ عَنْ نَافِعٍ، فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ: عَنْ عُمَرَ وَهَكَذَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ نَافِعٍ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ فِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ فَذَكَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ نَافِعٍ بِمُوَافَقَةِ مَالِكٍ، وَوَقَعَ لِلْمِزِّيِّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ، وَهُوَ مُعْتَرَضٌ فَإِنَّ مُسْلِمًا سَاقَ أَسَانِيدَهُ فِيهِ إِلَى سَبْعَةِ أَنْفُسٍ مِنْ أَصْحَابِ نَافِعٍ مِنْهُمْ عَبْدُ الْكَرِيمِ، ثُمَّ قَالَ سَبْعَتُهُمْ: عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْمِزِّيُ طُرُقَ السِّتَّةِ الْآخَرِينَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الصَّوَابِ، وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ كَمَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَيْهِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (فِي رَكْبٍ) فِي مُسْنَدِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بَيْنَا أَنَا رَاكِبٌ أَسِيرُ فِي غَزَاةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (يَحْلِفُ بِأَبِيهِ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ عُمَرَ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، وَهُوَ يَقُولُ: وَأَبِي وَأَبِي وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الزِّيَادَةِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَقَعَ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: حَدَّثْتُ قَوْمًا حَدِيثًا فَقُلْتُ: لَا وَأَبِي، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي: لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ حَلَفَ بِالْمَسِيحِ هَلَكَ وَالْمَسِيحُ خَيْرٌ مِنْ آبَائِكُمْ وَهَذَا مُرْسَلٌ يَتَقَوَّى بِشَوَاهِدِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَا وَالْكَعْبَةِ، فَقَالَ: لَا تَحْلِفْ بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَالتَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: السِّرُّ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ أَنَّ الْحَلِفَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ، وَالْعَظَمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ تَخْصِيصُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ خَاصَّةً، لَكِنْ قَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ بِاللَّهِ وَذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِهَا بِبَعْضِ الصِّفَاتِ كَمَا سَبَقَ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بِاللَّهِ الذَّاتُ لَا خُصُوصُ لَفْظِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ الْمَنْعُ فِيهَا، وَهَلِ الْمَنْعُ لِلتَّحْرِيمِ؟ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمُ الْكَرَاهَةُ، وَالْخِلَافُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَكِنِ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمُ التَّحْرِيمُ، وَبِهِ جَزَمَ الظَّاهِرِيَّةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمُرَادُهُ بِنَفْيِ الْجَوَازِ الْكَرَاهَةُ أَعَمُّ مِنَ التَّحْرِيمِ وَالتَّنْزِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْحَلِفُ بِهَا، وَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مَعْصِيَةٌ، فَأَشْعَرَ بِالتَّرَدُّدِ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ عَلَى أَنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْكَرَاهَةِ، وَجَزَمَ غَيْرُهُ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنِ اعْتَقَدَ فِي الْمَحْلُوفِ فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي اللَّهِ حَرُمَ الْحَلِفُ بِهِ، وَكَانَ بِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ كَافِرًا، وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لِاعْتِقَادِهِ تَعْظِيمَ الْمَحْلُوفِ بِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ فَلَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَلِّفَ أَحَدًا بِغَيْرِ اللَّهِ لَا بِطَلَاقٍ وَلَا عَتَاقٍ وَلَا نَذْرٍ، وَإِذَا حَلَّفَ الْحَاكِمُ أَحَدًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَزْلُهُ لِجَهْلِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ، فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِهَذَا السَّنَدِ عَنْ عُمَرَ سَمِعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَحْلِفُ بِأَبِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ هَكَذَا.
قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ يَنْهَى عَنْهَا.
قَوْلُهُ: ذَاكِرًا أَيْ عَامِدًا.
قَوْلُهُ: وَلَا آثِرًا بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ حَاكِيًا عَنِ الْغَيْرِ، أَيْ مَا حَلَفْتُ بِهَا وَلَا حَكَيْتُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهَا، وَلَا تَكَلَّمْتُ بِهَا وَقَدِ اسْتُشْكِلَ هَذَا التَّفْسِيرُ لِتَصْدِيرِ الْكَلَامِ بِحَلَفْتُ وَالْحَاكِي عَنْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى حَالِفًا، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفًا أَيْ: وَلَا ذَكَرْتُهَا آثِرًا عَنْ غَيْرِي، أَوْ يَكُونَ ضَمَّنَ حَلَفْتُ مَعْنَى تَكَلَّمْتُ وَيُقَوِّيهِ رِوَايَةُ عُقَيْلٍ.
وَجَوَّزَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ لِقَوْلِهِ آثِرًا مَعْنًى آخَرَ أَيْ مُخْتَارًا، يُقَالُ: آثَرَ الشَّيْءَ إِذَا اخْتَارَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا حَلَفْتُ بِهَا مُؤْثِرًا لَهَا عَلَى غَيْرِهَا، قَالَ شَيْخُنَا: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ قَوْلُهُ آثِرًا إِلَى مَعْنَى التَّفَاخُرِ بِالْآبَاءِ فِي الْإِكْرَامِ لَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مَأْثُرَةٌ وَمَآثِرُ وَهُوَ مَا يُرْوَى مِنَ الْمَفَاخِرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا حَلَفْتُ بِآبَائِي ذَاكِرًا لِمَآثِرِهِمْ. وَجَوَّزَ فِي قَوْلِهِ: ذَاكِرًا أَنْ يَكُونَ مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ كَأَنَّهُ احْتَرَزَ عَنْ أَنْ يَكُونَ يَنْطِقُ بِهَا نَاسِيًا، وَهُوَ يُنَاسِبُ تَفْسِيرَ آثِرًا بِالِاخْتِيَارِ كَأَنَّهُ قَالَ لَا عَامِدًا وَلَا مُخْتَارًا.
وَجَزَمَ ابْنُ التِّينِ فِي شَرْحِهِ بِأَنَّهُ مِنَ الذِّكْرِ بِالْكَسْرِ لَا بِالضَّمِّ، قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ لَمْ أَقُلْهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي وَلَا حَدَّثْتُ بِهِ عَنْ غَيْرِي أَنَّهُ حَلَفَ بِهِ، قَالَ: وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُرِيدُ مَا حَلَفْتُ بِهَا وَلَا ذَكَرْتُ حَلِفَ غَيْرِي بِهَا كَقَوْلِهِ: إِنَّ فُلَانًا قَالَ: وَحَقِّ أَبِي مَثَلًا، وَاسْتُشْكِلَ أَيْضًا أَنَّ كَلَامَ عُمَرَ الْمَذْكُورَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَوَرَّعَ عَنِ النُّطْقِ بِذَلِكَ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ نَطَقَ بِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اغْتُفِرَ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ التَّبْلِيغِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مُجَاهِدٌ أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ يَأْثُرُ عِلْمًا) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ يَأْثُرُ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قَالَ: أَحَدٌ يَأْثُرُ عِلْمًا، فَكَأَنَّهُ سَقَطَ أَحَدٌ مِنْ أَصْلِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْأَحْقَافِ النَّقْلُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِ فِي بَيَانِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَالِاخْتِلَافِ فِي قِرَاءَتِهَا وَمَعْنَاهَا، وَذَكَرَ الصَّغَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قُرِئَ أَيْضًا إِثَارَةٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَأَثَرَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ وَمَعَ كَسْرِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَشَكَّ فِي رَفْعِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مَوْقُوفًا وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَفِي رِوَايَةِ جَوْدَةِ الْخَطِّ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} وَقُرِئَ أَوْ أَثَرَةٍ يَعْنِي بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ مَا يُرْوَى أَيْ يُكْتَبُ فَيَبْقَى لَهُ أَثَرٌ، تَقُولُ: أَثَرْتُ الْعِلْمَ رَوَيْتُهُ آثُرُهُ أَثَرًا وَأَثَارَةً وَأَثَرَةً، وَالْأَصْلُ فِي أَثَرِ الشَّيْءِ حُصُولُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ، وَمُحَصَّلُ مَا ذَكَرُوهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا الْبَقِيَّةُ، وَأَصْلُهُ أَثَرْتُ الشَّيْءَ أُثِيرُهُ إِثَارَةً كَأَنَّهَا بَقِيَّةٌ تُسْتَخْرَجُ فَتُثَارُ، الثَّانِي مِنَ الْأَثَرِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ، الثَّالِثُ مِنَ الْأَثَرِ وَهُوَ الْعَلَامَةُ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عُقَيْلٌ، وَالزُّبَيْدِيُّ، وَإِسْحَاقُ، الْكَلْبِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) أَمَّا مُتَابَعَةُ عُقَيْلٍ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهَا، وَلِلَّيْثِ فِيهِ سَنَدٌ آخَرُ، رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهِ، وَقَدْ مَضَى فِي الْأَدَبِ. وَأَمَّا مُتَابَعَةُ الزُّبَيْدِيِّ فَوَصَلَهَا النَّسَائِيُّ مُخْتَصَرَةً مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ
تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا.
وَأَمَّا مُتَابَعَةُ إِسْحَاقَ الْكَلْبِيِّ وَهُوَ ابْنُ يَحْيَى الْحِمْصِيِّ فَوَقَعَتْ لَنَا مَوْصُولَةً فِي نُسْخَتِهِ الْمَرْوِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ مُوسَى الْحِمْصِيِّ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ الْوُحَاظِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ وَلَفْظُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فَذَكَرَ مِثْلَ رِوَايَةِ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، لَكِنْ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَنْهَى عَنْهَا: وَلَا تَكَلَّمْتُ بِهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا، فَجَمَعَ بَيْنَ لَفْظِ يُونُسَ وَلَفْظِ عُقَيْلٍ. وَقَدْ صَرَّحَ مُسْلِمٌ بِأَنَّ عُقَيْلًا لَمْ يَقُلْ فِي رِوَايَتِهِ ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ) أَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَوَصَلَهَا الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ بِهَذَا السِّيَاقِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمِنَ الْمَخْزُومِيُّ بِهَذَا السَّنَدِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ سَمِعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَعَلَى مَعْمَرٍ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَهُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ قَالَ: وَقَالَ عَمْرٌو النَّاقِدُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سُفْيَانَ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ عُمَرَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ مَعْمَرٍ فَوَصَلَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ. وَأَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ.
قُلْتُ: وَصَنِيعُ مُسْلِمٍ يَقْتَضِي أَنَّ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ صَدَّرَ بِرِوَايَةِ يُونُسَ، ثُمَّ سَاقَهُ إِلَى عُقَيْلٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهَا: وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٍ ثُمَّ قَالَ كِلَاهُمَا: عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَيِ الْإِسْنَادِ الَّذِي سَاقَهُ لِيُونُسَ مِثْلُهُ، أَيْ مِثْلُ الْمَتْنِ الَّذِي سَاقَهُ لَهُ.
قَالَ: غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عُقَيْلٍ وَلَا تَكَلَّمْتُ بِهَا لَكِنْ حَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ كَرِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عُمَرَ سَمِعَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْلِفُ وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْأَعْلَى رَوَاهُ عَنْ مَعْمَرٍ فَلَمْ يَقُلْ فِي السَّنَدِ عَنْ عُمَرَ كَرِوَايَةِ أَحْمَدَ.
قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ: رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَقُلْ عَنْ عُمَرَ، قُلْتُ: فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، وَهُوَ مُتْقِنٌ صَاحِبُ حَدِيثٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ سَمِعَ الْمَتْنَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْقِصَّةُ الَّتِي وَقَعَتْ لِعُمَرَ مِنْهُ فَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ الزَّجْرُ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بِالْآبَاءِ لِوُرُودِهِ عَلَى سَبَبِهِ الْمَذْكُورِ، أَوْ خُصَّ لِكَوْنِهِ كَانَ غَالِبًا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا وَيَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ قَوْلُهُ: مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفْ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ فِيهِ حَذْفًا وَالتَّقْدِيرُ وَرَبِّ الشَّمْسِ وَنَحْوِهِ، وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِاللَّهِ، فَإِذَا أَرَادَ تَعْظِيمَ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ أَقْسَمَ بِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْأَعْرَابِيِّ: أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الشَّرْحِ فِي بَابُ الزَّكَاةُ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ فِيهِمْ مَنْ طَعَنَ فِي صِحَّةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ، وَقَدْ جَاءَتْ عَنْ رَاوِيهَا وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ بِلَفْظِ أَفْلَحَ وَاللَّهِ إِنْ صَدَقَ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى عَنْهُ بِلَفْظِ أَفْلَحَ وَأَبِيهِ لِأَنَّهَا لَفْظَةٌ مُنْكَرَةٌ تَرُدُّهَا الْآثَارُ الصِّحَاحُ. وَلَمْ تَقَعْ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ أَصْلًا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ عَنْهُ صَحَّفَ قَوْلَهُ:
وَأَبِيهِ مِنْ قَوْلِهِ وَاللَّهِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَقَدْ ثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي قِصَّةِ السَّارِقِ الَّذِي سَرَقَ حُلِيَّ ابْنَتِهِ فَقَالَ فِي حَقِّهِ: وَأَبِيكَ مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ أَخْرَجَهُ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ وَرَدَ نَحْوُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَرْفُوعٌ قَالَ لِلَّذِي سَأَلَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ فَقَالَ: وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَيُجَابُ بِأَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَانَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدُوا بِهِ الْقَسَمَ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَقِّ مَنْ قَصَدَ حَقِيقَةَ الْحَلِفِ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الْجَوَابُ الْمَرَضِيُّ. الثَّانِي أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِلتَّعْظِيمِ وَالْآخَرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا وَقَعَ عَنِ الْأَوَّلِ فَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلتَّعْظِيمِ قَوْلُ الشَّاعِرِ
لَعَمْرُ أَبِي الْوَاشِينَ إِنِّي أُحِبُّهَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
فَإِنْ تَكُ لَيْلَى اسْتَوْدَعَتْنِي أَمَانَةً
…
فَلَا وَأَبِي أَعْدَائِهَا لَا أُذِيعُهَا
فَلَا يُظَنُّ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ قَصَدَ تَعْظِيمَ وَالِدِ أَعْدَائِهَا، كَمَا لَمْ يَقْصِدِ الْآخَرُ تَعْظِيمَ وَالِدِ مَنْ وَشَى بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ بِذَلِكَ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ لَا التَّعْظِيمُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هَذَا اللَّفْظُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُزَادُ فِي الْكَلَامِ لِمُجَرَّدِ التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْقَسَمُ، كَمَا تُزَادُ صِيغَةُ النِّدَاءِ لِمُجَرَّدِ الِاخْتِصَاصِ دُونَ الْقَصْدِ إِلَى النِّدَاءِ، وَقَدْ تُعُقِّبَ الْجَوَابُ بِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ حَدِيثِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُهُ لِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا وَأَبِي لَا وَأَبِي، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَحْلِفُوا، فَلَوْلَا أَنَّهُ أَتَى بِصِيغَةِ الْحَلِفِ مَا صَادَفَ النَّهْيُ مَحَلًّا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الْجَوَابُ الثَّالِثُ: إِنَّ هَذَا كَانَ جَائِزًا ثُمَّ نُسِخَ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ حَتَّى نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ: وَتَرْجَمَةُ أَبِي دَاوُدَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ يَعْنِي قَوْلَهُ: بَابُ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ ثُمَّ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ الَّذِي فِيهِ أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا يُقْسِمُ بِكَافِرٍ، تَاللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَبَعِيدٌ مِنْ شِيمَتِهِ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: دَعْوَى النَّسْخِ ضَعِيفَةٌ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ وَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ التَّارِيخِ.
وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ أَنَّ فِي الْجَوَابِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ أَفْلَحَ وَرَبِّ أَبِيهِ قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الْخَامِسُ أَنَّهُ لِلتَّعَجُّبِ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِلَفْظِ أَبِي وَإِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ وَأَبِيهِ أَوْ وَأَبِيكَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا.
السَّادِسُ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالشَّارِعِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْخَصَائِصَ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ مُطْلَقًا لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ سَوَاءً كَانَ الْمَحْلُوفُ بِهِ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ لِمَعْنًى غَيْرِ الْعِبَادَةِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ وَالْكَعْبَةِ، أَوْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ كَالْآحَادِ، أَوْ يَسْتَحِقُّ التَّحْقِيرَ وَالْإِذْلَالَ كَالشَّيَاطِينِ وَالْأَصْنَامِ وَسَائِرِ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ ذَلِكَ الْحَلِفُ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فَاعْتَلَّ بِكَوْنِهِ أَحَدُ رُكْنَيِ الشَّهَادَةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ.
وَأَطْلَقَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ نِسْبَتَهُ لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، فَيَلْزَمُهُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِالصَّلَاةِ أَنْ تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إِذَا حَنِثَ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ إِيرَادِهِ وَالِانْفِصَالُ عَمَّا أَلْزَمَهُمْ بِهِ، وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ يَمِينًا وَمَتَى فَعَلَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْخَبَرِ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاللَّهِ وَلَا بِمَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ بَعْدُ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ قَالَ: أَقْسَمْتُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا ; وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكُونُ يَمِينًا، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَنْوِيَ بِذَلِكَ الْحَلِفَ بِاللَّهِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ قَالَ عَلَيَّ
أَمَانَةُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَأَرَادَ الْيَمِينَ أَنَّهُ يَمِينٌ وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ خَاصٌّ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَحْلِفُونَ بِهِ تَعْظِيمًا لِغَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَالْآبَاءِ، فَهَذِهِ يَأْثَمُ الْحَالِفُ بِهَا وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَأَمَّا مَا كَانَ يَؤُولُ إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ وَحَقِّ النَّبِيِّ وَالْإِسْلَامِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْهَدْيِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ وَالْقُرْبَةُ إِلَيْهِ فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ لَقِينَاهُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ إِيجَابِهِمْ عَلَى الْحَالِفِ بِالْعِتْقِ وَالْهَدْيِ وَالصَّدَقَةِ مَا أَوْجَبُوهُ مَعَ كَوْنِهِمْ رَأَوُا النَّهْيَ الْمَذْكُورَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ ; إِذْ لَوْ كَانَ عَامًّا لَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجِبُوا فِيهِ شَيْئًا انْتَهَى
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَتْ بِصُورَةِ الْحَلِفِ فَلَيْسَتْ يَمِينًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ عَنِ الِاتِّسَاعِ، وَلَا يَمِينَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بِاللَّهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا وَآلِهَتِهَا، فَأَرَادَ اللَّهُ نَسْخَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِيُنْسِيَهُمْ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ وَيَبْقَى ذِكْرُهُ ; لِأَنَّهُ الْحَقُّ الْمَعْبُودُ فَلَا يَكُونُ الْيَمِينُ إِلَّا بِهِ، وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ فِي حُكْمِ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - يَعْنِي حَدِيثَ الْبَابِ -: إِنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِاللَّهِ وَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أَوْ آدَمَ أَوْ جِبْرِيلَ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَلَزِمَهُ الِاسْتِغْفَارُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ وَلَا كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقَسَمِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: فَالْخَالِقُ يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَالْمَخْلُوقُ لَا يُقْسِمُ إِلَّا بِالْخَالِقِ، قَالَ: وَلَأَنْ أُقْسِمَ بِاللَّهِ فَأَحْنَثَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقْسِمَ بِغَيْرِهِ فَأَبَرَّ. وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِيُعْجِبَ بِهَا الْمَخْلُوقِينَ وَيُعَرِّفَهُمْ قُدْرَتَهُ لِعِظَمِ شَأْنِهَا عِنْدَهُمْ وَلِدَلَالَتِهَا عَلَى خَالِقِهَا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ لَهُ يَمِينٌ عَلَى آخَرَ فِي حَقٍّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ لَهُ إِلَّا بِاللَّهِ، فَلَوْ حَلَفَ لَهُ بِغَيْرِهِ وَقَالَ: نَوَيْتُ رَبَّ الْمَحْلُوفِ بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يَمِينًا.
وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ مُنْعَقِدَةٌ بِاللَّهِ وَبِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَبِجَمِيعِ صِفَاتِ ذَاتِهِ كَعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ وَعِلْمِهِ وَقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ عِلْمَ اللَّهِ فَلَمْ يَرَهُ يَمِينًا وَكَذَا حَقَّ اللَّهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْلَفُ بِمُعَظَّمٍ غَيْرِ اللَّهِ كَالنَّبِيِّ، وَانْفَرَدَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: تَنْعَقِدُ، وَقَالَ عِيَاضٌ: لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْحَلِفَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَازِمٌ إِلَّا مَا جَاءَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنِ اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْيَمِينِ فِي الْحَلِفِ بِالصِّفَاتِ، وَإِلَّا فَلَا كَفَّارَةَ، وَتُعُقِّبَ إِطْلَاقُهُ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ عِنْدَهُ مَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ سبحانه وتعالى وَعَلَى غَيْرِهِ.
وَأَمَّا مَا لَا يُطْلَقُ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ شَرْعًا إِلَّا عَلَيْهِ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ إِذَا حَنِثَ كَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَخَالِقِ الْخَلْقِ وَرَازِقِ كُلِّ حَيٍّ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ وَفَالِقِ الْحَبِّ وَبَارِئِ النَّسَمَةِ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الصَّرِيحِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ، وَفِي وَجْهٍ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الصَّرِيحَ اللَّهُ فَقَطْ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ قَالَ قَصَدْتُ غَيْرَ اللَّهِ هَلْ يَنْفَعُهُ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَفْصِيلٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ فِي بَابِ الْحَلِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ التَّعْمِيمُ، وَعَنْ أَشْهَبَ التَّفْصِيلُ فِي مِثْلِ وَعِزَّةِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ الَّتِي جَعَلَهَا بَيْنَ عِبَادِهِ فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَقِيَاسُهُ أَنْ يَطَّرِدَ فِي كُلِّ مَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ سَحْنُونٍ مِنْهُمْ فِي عِزَّةِ اللَّهِ.
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ لَا تَنْعَقِدُ، وَاسْتَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ ثُمَّ أَوَّلَهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِذَا أَرَادَ جِسْمَ الْمُصْحَفِ، وَالتَّعْمِيمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ الْمَعْلُومَ وَالْمَقْدُورَ انْعَقَدَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ أَخْرَجَهَا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ:
لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى فِي قِصَّةِ الَّذِي حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ الدَّجَاجَ، وَفِيهِ قِصَّةُ أَبِي مُوسَى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اسْتَحْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَشْعَرِيِّينَ، وَفِيهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّجَاجِ، وَبِمَا وَقَعَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ مِنْ قِصَّةِ الرَّجُلِ الْجَرْمِيِّ وَتَسْمِيَتِهِ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَيَأْتِي شَرْحُ قِصَّتِهِ فِي كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ ; وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ عَبْدُ الْوَهَّابِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَأَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَالْقَاسِمُ التَّيْمِيُّ هُوَ ابْنُ عَاصِمٍ بَصْرِيٌّ تَابِعِيٌّ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ أَيُّوبَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَحَادِيثُ الْبَابِ مُطَابِقَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ إِلَّا حَدِيثَ أَبِي مُوسَى، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ عَنْ أَيْمَانِهِ أَنَّهَا تَقْتَضِي الْكَفَّارَةَ، وَالَّذِي يَشْرَحُ تَكْفِيرَهُ مَا كَانَ الْحَلِفُ فِيهِ بِاللَّهِ - تَعَالَى - فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْلِفُ إِلَّا بِاللَّهِ - تَعَالَى -.
5 - بَاب لَا يُحْلَفُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ
6650 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُحْلَفُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ) أَمَّا الْحَلِفُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَذُكِرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ، وَأَمَّا الطَّوَاغِيتُ فَوَقَعَ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِيتِ وَلَا بِآبَائِكُمْ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَابْنِ مَاجَهْ بِالطَّوَاغِي وَهُوَ جَمْعُ طَاغِيَةٍ وَالْمُرَادُ الصَّنَمُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ طَاغِيَةُ دَوْسٍ أَيْ صَنَمُهُمْ، سُمِّيَ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ لِطُغْيَانِ الْكُفَّارِ بِعِبَادَتِهِ لِكَوْنِهِ السَّبَبَ فِي طُغْيَانِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ جَاوَزَ الْحَدَّ فِي تَعْظِيمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ طَغَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} وَأَمَّا الطَّوَاغِيتُ فَهُوَ جَمْعُ طَاغُوتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّوَاغِي مُرَخَّمًا مِنَ الطَّوَاغِيتِ بِدُونِ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَى أَحَدِ الْآرَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَجِيءُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ مَوْضِعَ الْآخَرِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى لَفْظِ الطَّوَاغِيتِ لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ وَعَطَفَهُ عَلَى اللَّاتِ وَالْعُزَّى لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِي الْمَعْنَى ; وَإِنَّمَا أُمِرَ الْحَالِفُ بِذَلِكَ بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِكَوْنِهِ تَعَاطَى صُورَةَ تَعْظِيمِ الصَّنَمِ حَيْثُ حَلَفَ بِهِ، قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَصْنَامِ أَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ، وَعَلَيْهِ
أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إِلَّا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: أَنَا مُبْتَدِعٌ أَوْ بَرِيءٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَاحْتُجَّ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُظَاهِرِ مَعَ أَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَالْحَلِفُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُنْكَرٌ، وَتُعُقِّبَ بِهَذَا الْخَبَرِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إِلَّا الْأَمْرَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ كَفَّارَةً، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا حَتَّى يُقَامَ الدَّلِيلُ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الظِّهَارِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُوجِبُوا فِيهِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، وَاسْتَثْنَوْا أَشْيَاءَ لَمْ يُوجِبُوا فِيهَا كَفَّارَةً أَصْلًا مَعَ أَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: الْحَلِفُ بِمَا ذُكِرَ حَرَامٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِوُجُوبِ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ
وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ دِرْبَاسٍ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ تَبَعًا لِلْخَطَّابِيِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ أَثِمَ بِهِ، لَكِنْ تَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ عُقُوبَتَهُ تَخْتَصُّ بِذَنْبِهِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالتَّوْحِيدِ ; لِأَنَّ الْحَلِفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى يُضَاهِي الْكُفَّارَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَدَارَكَ بِالتَّوْحِيدِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْقِمَارِ بَعْدَ الْحَلِفِ بِاللَّاتِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَافَقَ الْكُفَّارَ فِي حَلِفِهِمْ فَأُمِرَ بِالتَّوْحِيدِ، وَمَنْ دَعَا إِلَى الْمُقَامَرَةِ وَافَقَهُمْ فِي لَعِبِهِمْ فَأُمِرَ بِكَفَّارَةِ ذَلِكَ بِالتَّصَدُّقِ.
قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّعِبِ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَعِبَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ حَتَّى اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ أَوْ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ تَكْتُبُهُ عَلَيْهِ الْحَفَظَةُ. كَذَا قَالَ، وَفِي أَخْذِ هَذَا الْحُكْمِ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ وَقْفَةٌ.
6 - بَاب مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يُحَلَّفْ
6651 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ يَلْبَسُهُ، فَيَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ، فَصَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ. ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ، فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يُحَلَّفْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابُ كَيْفَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ لِذَلِكَ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ.
وَأَوْرَدَ هُنَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي لُبْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَ الذَّهَبِ وَفِيهِ فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ اللِّبَاسِ. وَقَدْ أَطْلَقَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اسْتِحْلَافٍ تُكْرَهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ طَاعَةً، وَالْأَوْلَى أَنْ يُعَبَّرَ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ أَنْ يُخْرِجَ مِثْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} يَعْنِي عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِيهَا لِئَلَّا يُتَخَيَّلَ أَنَّ الْحَالِفَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ يَرْتَكِبُ النَّهْيَ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ يَخْتَصُّ بِمَا لَيْسَ فِيهِ قَصْدٌ صَحِيحٌ كَتَأْكِيدِ الْحُكْمِ، كَالَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ مَنْعِ لُبْسِ خَاتَمِ الذَّهَبِ.
7 - بَاب مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ
وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الْكُفْرِ
6652 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ. وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ. وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ) الْمِلَّةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الدِّينُ وَالشَّرِيعَةُ، وَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ جَمِيعَ الْمِلَلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَمَنْ لَحِقَ بِهِمْ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ وَالصَّابِئَةِ وَأَهْلِ الْأَوْثَانِ
وَالدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَعَبَدَةِ الشَّيَاطِينِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَلَمْ يَجْزِمِ الْمُصَنِّفُ بِالْحُكْمِ هَلْ يَكْفُرُ الْحَالِفُ بِذَلِكَ أَوْ لَا، لَكِنَّ تَصَرُّفَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكْفُرَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ حَدِيثَ مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الْكُفْرِ. وَتَمَامِ الِاحْتِجَاجِ أَنْ يَقُولَ: لِكَوْنِهِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْكُفْرَ لَأَمَرَهُ بِتَمَامِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ الْآتِي، وَقَدْ وَصَلَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَوْرَدَهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ فِي بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ إِكْفَارَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا أَوْ جَاهِلًا وَقَدَّمْتُ الْكَلَامَ عَلَيْهِ هُنَاكَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتُلِفَ فِيمَنْ قَالَ أَكْفُرُ بِاللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ إِنْ فَعَلْتُ ثُمَّ فَعَلَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ كَافِرًا إِلَّا إِنْ أَضْمَرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: هُوَ يَمِينٌ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ: مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً زَادَ غَيْرُهُ: وَلِذَا قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ فَأَرَادَ التَّغْلِيظَ فِي ذَلِكَ حَتَّى لَا يَجْتَرِئَ أَحَدٌ عَلَيْهِ. وَنَقَلَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمُ احْتَجُّوا لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِأَنَّ فِي الْيَمِينِ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْفِعْلِ، وَتَضَمَّنَ كَلَامُهُ بِمَا ذُكِرَ تَعْظِيمًا لِلْإِسْلَامِ، وَتُعُقِّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ قَالَ وَحَقِّ الْإِسْلَامِ إِذَا حَنِثَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً فَأَسْقَطُوا الْكَفَّارَةَ إِذَا صَرَّحَ بِتَعْظِيمِ الْإِسْلَامِ وَأَثْبَتُوهَا إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ) تَقَدَّمَ فِي بَابُ مَنْ أَكْفَرَ أَخَاهُ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ وُهَيْبٍ كَالَّذِي هُنَا، وَقِيلَ ذَلِكَ فِي بَابُ مَا يُنْهَى مِنَ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِسَنَدِهِ بِزِيَادَةٍ وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ مِنْ سِيَاقِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ مَدَارَهُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَيُّوبُ فَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ فَاقْتَصَرَ عَلَى خَصْلَتَيْنِ: الْأُولَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ خَالِدٍ، وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَيُّوبَ كَذَلِكَ، وَأَشَرْتُ إِلَى رِوَايَةِ عَلَيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، وَأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَ خِصَالٍ، الْأَرْبَعُ الْمَذْكُورَاتُ فِي الْبَابِ وَالْخَامِسَةُ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى فَذَكَرَ خَصْلَةَ النَّذْرِ وَلَعْنِ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْخَصْلَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ، وَزَادَ بَدَلَهُمَا وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ، وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا قِلَّةً. فَإِذَا ضُمَّ بَعْضُ هَذِهِ الْخِصَالِ إِلَى بَعْضٍ اجْتَمَعَ مِنْهَا تِسْعَةٌ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ هُنَاكَ، وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ فِي بَابُ مَنْ أَكْفَرَ أَخَاهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ وَمَنْ قَذَفَ بَدَلَ رَمَى وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرَ الْإِسْلَامِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْحَلِفُ بِالشَّيْءِ حَقِيقَةً هُوَ الْقَسَمُ بِهِ، وَإِدْخَالُ بَعْضِ حُرُوفِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ وَالرَّحْمَنِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى التَّعْلِيقِ بِالشَّيْءِ يَمِينٌ كَقَوْلِهِمْ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، فَالْمُرَادُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الْحَلِفُ لِمُشَابَهَتِهِ بِالْيَمِينِ فِي اقْتِضَاءِ الْحِنْثِ وَالْمَنْعِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَعْنَى الثَّانِي لِقَوْلِهِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا وَالْكَذِبُ يَدْخُلُ الْقَضِيَّةَ الْإِخْبَارِيَّةَ الَّتِي يَقَعُ مُقْتَضَاهَا تَارَةً وَلَا يَقَعُ أُخْرَى، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِنَا وَاللَّهِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَلَيْسَ الْإِخْبَارُ بِهَا عَنْ أَمْرٍ
خَارِجِيٍّ، بَلْ هِيَ لِإِنْشَاءِ الْقَسَمِ فَتَكُونُ صُورَةَ الْحَلِفِ هُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ: إِنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ، وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي كَقَوْلِهِ: إِنْ كَانَ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا مَنْ لَمْ يَرَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ كَفَّارَةً، بَلْ جَعَلَ الْمُرَتَّبَ عَلَى كَذِبِهِ قَوْلُهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَا يَكْفُرُ فِي صُورَةِ الْمَاضِي إِلَّا إِنْ قَصَدَ التَّعْظِيمَ، وَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِكَوْنِهِ يَتَخَيَّرُ مَعْنًى فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ لَمْ يَكْفُرْ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحِنْثِ بِهِ كَفَرَ لِكَوْنِهِ رَضِيَ بِالْكُفْرِ حِينَ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ إِذَا كَانَ كَاذِبًا، وَالتَّحْقِيقُ التَّفْصِيلُ فَإِنِ اعْتَقَدَ تَعْظِيمَ مَا ذَكَرَ كَفَرَ، وَإِنْ قَصَدَ حَقِيقَةَ التَّعْلِيقِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ كَفَرَ ; لِأَنَّ إِرَادَةَ الْكُفْرِ كُفْرٌ، وَإِنْ أَرَادَ الْبُعْدَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَكْفُرْ، لَكِنْ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا؟ الثَّانِي هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَوْلُهُ: كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا.
قَالَ عِيَاضٌ: تَفَرَّدَ بِزِيَادَتِهَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَهِيَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ يُسْتَفَادُ مِنْهَا أَنَّ الْحَالِفَ الْمُتَعَمِّدَ إِنْ كَانَ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي تَعْظِيمِ مَا لَا يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَهُ لَمْ يَكْفُرْ، وَإِنْ قَالَهُ مُعْتَقِدًا لِلْيَمِينِ بِتِلْكَ الْمِلَّةِ لِكَوْنِهَا حَقًّا كَفَرَ، وَإِنْ قَالَهَا لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ لَهَا احْتَمَلَ. قُلْتُ: وَيَنْقَدِحُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنْ أَرَادَ تَعْظِيمَهَا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَتْ قَبْلَ النَّسْخِ لَمْ يَكْفُرْ أَيْضًا.
وَدَعْوَاهُ أَنَّ سُفْيَانَ تَفَرَّدَ بِهَا إِنْ أَرَادَ بِالنِّسْبَةِ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَعَسَى، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَسُفْيَانَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ جَمِيعًا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ مُتَعَمِّدًا لِسُفْيَانَ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا سُفْيَانُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ ذُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ خَالِدٍ، وَلِهَذِهِ الْخَصْلَةُ فِي حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ مَنْ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا يَعْنِي إِذَا حَلَفَ بِذَلِكَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ التَّفْصِيلَ الْمَاضِيَ، وَيُخَصَّصُ بِهَذَا عُمُومُ الْحَدِيثِ الْمَاضِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ التَّهْدِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْوَعِيدِ لَا الْحُكْمُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ مِثْلَ عَذَابِ مَنِ اعْتَقَدَ مَا قَالَ، وَنَظِيرُهُ: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ أَيِ اسْتَوْجَبَ عُقُوبَةَ مَنْ كَفَرَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْكُفْرِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَاذِبٌ كَكَذِبِ الْمُعَظِّمِ لِتِلْكَ الْجِهَةِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ: وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ بِشَيْءٍ أَعَمُّ مِمَّا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِحَدِيدَةٍ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا مِنْ بَابِ مُجَانَسَةِ الْعُقُوبَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ لِلْجِنَايَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ فِي الْإِثْمِ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ مُطْلَقًا، بَلْ هِيَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا الْأَيْمَانُ بِمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ. قِيلَ: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقِصَاصِ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّصَهُ بِالْمُحَدَّدِ، وَرَدَّهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ لَا تُقَاسُ بِأَفْعَالِهِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ فِي الْآخِرَةِ يُشْرَعُ لِعِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا كَالتَّحْرِيقِ بِالنَّارِ مَثَلًا وَسَقْيِ الْحَمِيمِ الَّذِي يُقَطَّعُ بِهِ الْأَمْعَاءُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ لِلْمُمَاثِلَةِ فِي الْقِصَاصِ بِغَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
8 - بَاب لَا يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ. وَهَلْ يَقُولُ أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ؟
6653 -
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ مَلَكًا فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ: تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فَلَا بَلَاغَ لِي إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَهَلْ يَقُولُ أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ)؟ هَكَذَا بَتَّ الْحُكْمَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَتَوَقَّفْتُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَسَبَبُهُ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَاقَهُ مُطَوَّلًا فِيمَا مَضَى لَكِنْ إِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَكِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ لِلْمَقُولِ لَهُ فَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ الِاحْتِمَالُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ وَسَاقَهُ بِطُولِهِ. وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ يُطْلِقُ قَالَ لِبَعْضِ شُيُوخِهِ فِيمَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ، كَأَنَّهُ أَشَارَ بِالصُّورَةِ الْأُولَى إِلَى مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُهْمَلَةٍ عَنْ قُتَيْلَةَ بِقَافٍ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ وَالتَّصْغِيرِ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَتَقُولُونَ وَالْكَعْبَةِ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَأَنْ يَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا وَأَحَمَدُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ. وَفِي أَوَّلِ حَدِيثِ النَّسَائِيِّ قِصَّةٌ وَهِيَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَلَفْظُهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ لَهُ: أَجَعَلْتَنِي وَاللَّهَ عَدْلًا، لَا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَأَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَنَّ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ هُوَ حُذَيْفَةُ الرَّاوِي، هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ:، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَخِي عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، وَهَكَذَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَشُعْبَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الْحُفَّاظُ وَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ وَهِمَ فِي قَوْلِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ نَهْيٌ عَنِ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الَّذِي قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ لَيْسَ بِظَاهِرٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ تَشْرِيكٌ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ أَغْنَاهُمْ وَأَنَّ رَسُولَهُ أَغْنَاهُمْ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ حَقِيقَةً ; لِأَنَّهُ الَّذِي قَدَّرَ ذَلِكَ وَمِنَ الرَّسُولِ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ تَعَاطِي الْفِعْلِ، وَكَذَا الْإِنْعَامُ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى زَيْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعِتْقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَشِيئَةِ فَإِنَّهَا مُنْصَرِفَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِذَا نُسِبَتْ لِغَيْرِهِ فَبِطَرِيقِ الْمَجَازِ.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ جَائِزٌ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا جَازَ بِدُخُولِ ثُمَّ لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ سَابِقَةٌ عَلَى مَشِيئَةِ خَلْقِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَلَى شَرْطِهِ اسْتَنْبَطَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَى شَرْطِهِ مَا يُوَافِقُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُولَ: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ وَكَانَ يَكْرَهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَبِكَ وَيُجِيزُ أَعُوذُ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَشَرْتُ إِلَيْهِ.
(تَنْبِيهٌ): مُنَاسَبَةُ إِدْخَالِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ الْحَلِفِ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرْتُ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُتَخَيَّلُ جَوَازُ الْيَمِينِ بِاللَّهِ ثُمَّ بِغَيْرِهِ عَلَى وِزَانِ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ ثَبَتَ عَنِ التَّشْرِيكِ وَوَرَدَ بِصُورَةِ التَّرْتِيبِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ وَذَلِكَ فِيمَا عَدَا الْأَيْمَانَ، أَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا صَرِيحًا فَلَا يُلْحَقُ بِهَا مَا وَرَدَ فِي غَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
9 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ فِي الرُّؤْيَا. قَالَ: لَا تُقْسِمْ
6654 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنْ الْبَرَاءِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ.
6655 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أُسَامَةَ أَنَّ ابْنَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعْدٌ وَأَبِي، أَوْ أُبَيٌّ أَنَّ ابْنِي قَدْ احْتُضِرَ فَاشْهَدْنَا. فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَتَحْتَسِبْ. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ، فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا قَعَدَ رُفِعَ إِلَيْهِ فَأَقْعَدَهُ فِي حَجْرِهِ وَنَفْسُ الصَّبِيِّ تَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ يَضَعُهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.
6656 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ"
6657 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ "سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَابَرَّهُ وَأَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ"
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} قَالَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ: الْقَسَمُ بِفَتْحَتَيْنِ الْحَلِفُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَسَامَةِ وَهِيَ الْأَيْمَانُ الَّتِي عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ حَلِفٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَمَعْنَى جَهْدَ أَيْمَانِكُمْ أَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِي حَلِفِهِمْ فَأَتَوْا بِهِ عَلَى أَبْلَغِ مَا فِي وُسْعِهِمُ انْتَهَى، وَهَذَا يَدْفَعُ مَا فَهِمَهُ الْمُهَلَّبُ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْهُ
مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِاللَّهِ أَكْبَرُ الْأَيْمَانِ لِأَنَّ الْجَهْدَ أَكْبَرُ الْمَشَقَّةِ، فَفَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أَنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ غَايَةُ الْجَهْدِ، وَالَّذِي قَالَهُ الرَّاغِبُ أَظْهَرُ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إِنَّ الْقَسَامَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثُنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ فِي الرُّؤْيَا، قَالَ: لَا تُقْسِمْ) هَذَا طَرَفٌ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْآتِي فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطِفُ مِنَ السَّمْنِ وَالْعَسَلِ الْحَدِيثَ وَفِيهِ تَعْبِيرُ أَبِي بَكْرٍ لَهَا وَقَوْلُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ قَالَ: أَصَبْتَ بَعْضًا أَوْ أَخْطَأْتَ بَعْضًا، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِلَخْ فَقَوْلُهُ هُنَا فِي الرُّؤْيَا مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إِشَارَةً إِلَى مَا اخْتَصَرَهُ مِنَ الْحَدِيثِ ; وَتَقْدِيرُهُ فِي قِصَّةِ الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الرَّجُلُ وَقَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَبَّرَهَا أَبُو بَكْرٍ إِلَخْ ; وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ لَا تُقْسِمْ مَوْضِعَ قَوْلِهِ: لَا تَحْلِفْ فَأَشَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ مَنْ قَالَ: أَقْسَمْتُ انْعَقَدَتْ يَمِينًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ بَدَلَ أَقْسَمْتُ حَلَفْتُ لَمْ تَنْعَقِدِ اتِّفَاقًا إِلَّا إِنْ نَوَى الْيَمِينَ أَوْ قَصَدَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُ حَلِفٌ، وَأَيْضًا فَقَدْ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ، فَلَوْ كَانَ أَقْسَمْتُ يَمِينًا لَأَبَرَّ أَبَا بَكْرٍ حِينَ قَالَهَا، وَمِنْ ثَمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ عَقِبَهُ، وَلِهَذَا أَوْرَدَ حَدِيثَ حَارِثَةَ آخِرَ الْبَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ يَمِينًا لَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَحَقَّ بِأَنْ يَبَرَّ قَسَمَهُ
لِأَنَّهُ رَأْسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا أَقْسَمَتْ حَقِيقَةً، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ بِلَفْظِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتُلِفَ فِيمَنْ قَالَ: أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ أَوْ أَقْسَمْتُ مُجَرَّدَةً، فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ يَمِينٌ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ، وَمِمَّنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا تَكُونُ يَمِينًا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ يَمِينًا وَأَقْسَمْتُ مُجَرَّدَةً لَا تَكُونُ يَمِينًا إِلَّا أَنْ نَوَى، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: الْمُجَرَّدَةُ لَا تَكُونُ يَمِينًا أَصْلًا وَلَوْ نَوَى، وَأَقْسَمْتُ بِاللَّهِ إِنْ نَوَى تَكُونُ يَمِينًا. وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا تَكُونُ يَمِينًا أَصْلًا. وَعَنْ أَحْمَدَ كَالْأَوَّلِ، وَعَنْهُ كَالثَّانِي، وَعَنْهُ إِنْ قَالَ قَسَمًا بِاللَّهِ فَيَمِينٌ جَزْمًا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ قَسَمًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَلِيَّةٌ بِاللَّهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: مَقْصُودُ الْبُخَارِيِّ الرَّدُّ عَلَى مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْقَسَمَ بِصِيغَةِ أَقْسَمْتُ يَمِينًا: قَالَ: فَذَكَرَ الْآيَةَ وَقَدْ قَرَنَ فِيهَا الْقَسَمَ بِاللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الِاقْتِرَانَ لَيْسَ شَرْطًا بِالْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ فِيهَا أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ بِمُجَرَّدِهَا تَكُونُ يَمِينًا تَتَّصِفُ بِالْبِرِّ وَبِالنَّدْبِ إِلَى إِبْرَارِهَا مِنْ غَيْرِ الْحَلِفِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ قَالَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ فَقَالَ: نَعَمْ هَلْ يَلْزَمُهُ يَمِينٌ بِقَوْلِهِ نَعَمْ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ. انْتَهَى وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ أَنْ يُقَيِّدَ مَا أُطْلِقَ فِي الْأَحَادِيثِ بِمَا قُيِّدَ بِهِ فِي الْآيَةِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. ثُمَّ ذَكَرَ بعدَ هَذا الْحَدِيثِ الْمَعَلَّقِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ الْبَرَاءِ.
قَوْلُهُ: (بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ) أَيْ بِفِعْلِ مَا أَرَادَهُ الْحَالِفُ لِيَصِيرَ بِذَلِكَ بَارًّا، وَهَذَا أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا فِي مَوَاضِعَ بَيَّنْتُهَا، وَذَكَرْتُ كَيْفِيَّةَ مَا أَخْرَجَهَا فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَفِي أَوَّلِ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ السِّينِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا بِالْكَسْرِ وَضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا أَيِ الْإِقْسَامُ، وَالْمَصْدَرُ قَدْ يَأْتِي لِلْمَفْعُولِ مِثْلَ أَدْخَلْتُهُ مُدْخَلًا بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ وَكَذَا أَخْرَجْتُهُ. وَأَشْعَثُ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ، وَسُفْيَانُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى هُوَ الثَّوْرِيُّ.
ثَانِيهَا حَدِيثُ أُسَامَةَ وَهُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الصَّحَابِيُّ ابْنُ الصَّحَابِيِّ مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو عُثْمَانَ
الرَّاوِي عَنْهُ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلٍّ النَّهْدِيُّ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ ابْنَةَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِنَّ بِنْتًا وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْمُهَا فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.
قَوْلُهُ: (وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةُ) فِيهِ تَجْرِيدٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَقُولَ وَأَنَا مَعَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطِّبِّ بِلَفْظِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعَهُ.
قَوْلُهُ: (وَسَعْد) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أُسَامَةَ، وَمَضَى فِي الْجَنَائِزِ بِلَفْظِ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ.
قَوْلُهُ: (وَأَبِي أَوْ أُبَيٌّ) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَحَدُهُمَا بِلَفْظِ الْمُضَافِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ وَالْآخَرُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ يُرِيدُ ابْنَ كَعْبٍ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْمُضَافِ مُكَرَّرًا كَأَنَّهُ قَالَ وَمَعَهُ سَعْدٌ وَأَبِي أَوْ أُبَيٌّ فَقَطْ.
قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالثَّانِي وَإِنِ احْتُمِلَ لَكِنَّهُ خِلَافُ الْوَاقِعِ. فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ بِلَفْظِ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ. وَالَّذِي تَحَرَّرَ لِي أَنَّ الشَّكَّ فِي هَذَا مِنْ شُعْبَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ عَاصِمٍ.
قَوْلُهُ: (تَقَعْقَعُ) أَيْ تَضْطَرِبُ وَتَتَحَرَّكُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُلَّمَا صَارَ إِلَى حَالٍ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَصِيرَ إِلَى غَيْرِهَا وَتِلْكَ حَالَةُ الْمُحْتَضَرِ.
قَوْلُهُ: (مَا هَذَا) قِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْحُكْمِ لَا لِلْإِنْكَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ سَائِرُ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ تَحْلِيلَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّارَ لَا تَمَسُّ مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَصَبَرَ إِلَّا بِقَدْرِ الْوُرُودِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ: وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَسَمَ فِيهِ مُقَدَّرٌ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مَذْكُورٌ عَطْفًا عَلَى مَا بَعْدَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَوَرَبِّكَ} وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ أَيْضًا مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ، وَهُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ.
قَوْلُهُ: (أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَخْ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الصِّنْفَيْنِ فِي مَحَلِّهِ الْمَذْكُورِ لَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الدَّارَيْنِ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَ الصِّنْفَيْنِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلُّ ضَعِيفٍ فِي الْجَنَّةِ وَكُلِّ جَوَّاظٍ فِي النَّارِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا غَيْرُهُمَا.
قَوْلُهُ: (كُلُّ ضَعِيفٍ) قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: كُلُّ بِالرَّفْعِ لَا غَيْرُ، وَالتَّقْدِيرُ هُمْ كُلُّ ضَعِيفٍ إِلَخْ، وَالْمُرَادُ بِالضَّعِيفِ الْفَقِيرُ وَالْمُسْتَضْعَفُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَغَلِطَ مَنْ كَسَرَهَا ; لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ النَّاسَ يَسْتَضْعِفُونَهُ وَيَقْهَرُونَهُ وَيُحَقِّرُونَهُ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ سُئِلَ مَنِ الْمُرَادُ بِالضَّعِيفِ هُنَا؟ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُبَرِّئُ نَفْسَهُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ فِي الْيَوْمِ عِشْرِينَ مَرَّةً إِلَى خَمْسِينَ مَرَّةً. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: يَجُوزُ الْكَسْرُ، وَيُرَادُ بِهِ الْمُتَوَاضِعُ الْمُتَذَلِّلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ن، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْجَوَّاظَ هُوَ الْكَثِيرُ اللَّحْمِ الْغَلِيظُ الرَّقَبَةِ. وَقَوْلُهُ: لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ أَيْ لَوْ حَلَفَ يَمِينًا عَلَى شَيْءٍ أَنْ يَقَعَ طَمَعًا فِي كَرَمِ اللَّهِ بِإِبْرَارِهِ لَأَبَرَّهُ وَأَوْقَعَهُ لِأَجْلِهِ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ.
10 - بَاب إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَوْ شَهِدْتُ بِاللَّهِ
6658 -
حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَوْ شَهِدْتُ بِاللَّهِ) أَيْ هَلْ يَكُونُ حَالِفًا؟ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: نَعَمْ وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِاللَّهِ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ،
وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَكُونُ يَمِينًا إِلَّا إِنْ أَضَافَ إِلَيْهِ بِاللَّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْقَصْدِ وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَشْهَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ مَالِكٍ كَالرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَطْلَقَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ فِي الْأَيْمَانِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ثُمَّ قَالَ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَعْمَلُوا ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ، وَكَذَا ثَبَتَ فِي اللِّعَانِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِاللِّعَانِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ صَرِيحًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ حَلَفُوا مَعَ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ عَوَانَةَ كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا أَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ ضَعِيفًا وَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْعَانِيُّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَسِيَاقُهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَجْمُوعَ ذَلِكَ يَمِينٌ لَا يَمِينَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الشَّاهِدُ يَمِينُ الْحَالِفِ، فَمَنْ قَالَ: أَشْهَدُ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَمَنْ قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ، وَقَدْ قَرَأَ الضَّحَّاكُ اتَّخَذُوا إِيمَانَهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ تَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ حَمَلَ الشَّهَادَةَ عَلَى الْيَمِينِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ أَوْرَدَ حَدِيثَ الْبَابِ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْحَلِفِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَشَيْبَانُ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَبِيدَةُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ) قَالَ الطَّحَاوِيُّ: أَيْ يُكْثِرُونَ الْأَيْمَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَصِيرَ لَهُمْ عَادَةً فَيَحْلِفُ أَحَدُهُمْ حَيْثُ لَا يُرَادُ مِنْهُ الْيَمِينُ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَحْلَفَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ يَحْلِفُ عَلَى تَصْدِيقِ شَهَادَتِهِ قَبْلَ أَدَائِهَا أَوْ بَعْدَهُ، وَهَذَا إِذَا صَدَرَ مِنَ الشَّاهِدِ قَبْلَ الْحُكْمِ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّسَرُّعُ إِلَى الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَالْحِرْصُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَدْرِي بِأَيِّهِمَا يَبْدَأُ لِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) هُوَ النَّخَعِيُّ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمُتَقَدِّمِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَصْحَابُنَا) يَعْنِي مَشَايِخُهُ وَمَنْ يَصْلُحُ مِنْهُ اتِّبَاعُ قَوْلِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ بِلَفْظِ يَضْرِبُونَنَا بَدَلَ يَنْهَوْنَا.
قَوْلُهُ (أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ) أَيْ أَنْ يَقُولَ أَحَدُنَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَوْ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ.
11 - بَاب عَهْدِ اللَّهِ عز وجل
6659 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، وَمَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَوْ قَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}
6660 -
قَالَ سُلَيْمَانُ فِي حَدِيثِهِ: فَمَرَّ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ قَالُوا لَهُ. فَقَالَ الْأَشْعَثُ: نَزَلَتْ فِيَّ وَفِي صَاحِبٍ لِي فِي بِئْرٍ كَانَتْ بَيْنَنَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ عَهْدِ اللَّهِ عز وجل أَيْ قَوْلُ الْقَائِلِ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. قَالَ الرَّاغِبُ: الْعَهْدُ حِفْظُ الشَّيْءِ وَمُرَاعَاتُهُ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لِلْوَثِيقَةِ عُهْدَةٌ. وَيُطْلَقُ عَهْدُ اللَّهِ عَلَى مَا فَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ، وَيُرَادُ بِهِ أَيْضًا مَا أَمَرَ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُؤَكَّدًا، وَمَا الْتَزَمَهُ الْمَرْءُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ كَالنَّذْرِ. قُلْتُ: وَلِلْعَهْدِ مَعَانٍ
أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ: كَالْأَمَانِ وَالْوَفَاءِ، وَالْوَصِيَّةِ وَالْيَمِينِ وَرِعَايَةِ الْحُرْمَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ وَاللِّقَاءِ عَنْ قُرْبٍ، وَالزَّمَانِ وَالذِّمَّةِ، وَبَعْضُهَا قَدْ يَتَدَاخَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: مَنْ حَلَفَ بِالْعَهْدِ فَحَنِثَ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ سَوَاءً نَوَى أَمْ لَا عِنْدَ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَطَاوُسٌ وَغَيْرُهُمْ.
قُلْتُ: وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: لَا تَكُونُ يَمِينًا إِلَّا إِنْ نَوَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ النَّقْلُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ قَالَ أَمَانَةُ اللَّهِ مِثْلُهُ، وَأَغْرَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَادَّعَى اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْخِلَافُ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ كَمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَاحْتَجَّ لِلْمَذْهَبِ بِأَنَّ عَهْدَ اللَّهِ يُسْتَعْمَلُ فِي وَصِيَّتِهِ لِعِبَادِهِ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْيَمِينِ إِلَّا بِالْقَصْدِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ مَعْهُودَهُ وَهُوَ وَصِيَّتُهُ فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ فَرْضُ اللَّهِ أَيْ: مَفْرُوضُهُ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا ; لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ بِمُحْدَثٍ، فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ عَهْدُ اللَّهِ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} فَمَنْ قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ صَدَقَ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَخَذَ عَلَيْنَا الْعَهْدَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ يَمِينًا إِلَّا إِنْ نَوَاهُ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الْعُرْفَ قَدْ صَارَ جَارِيًا بِهِ فَحُمِلَ عَلَى الْيَمِينِ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ، وَالثَّانِي وَعَهْدِ اللَّهِ، الثَّالِثُ عَهْدِ اللَّهِ، الرَّابِعُ أُعَاهِدُ اللَّهَ، الْخَامِسُ عَلَيَّ الْعَهْدُ. وَقَدْ طَرَدَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ، وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ إِلَّا إِنْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَنَحْوَهَا، وَإِلَّا فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} وَسُلَيْمَانُ فِي السَّنَدِ هُوَ الْأَعْمَشُ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
12 - بَاب الْحَلِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ، لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ. وَقَالَ أَيُّوبُ: وَعِزَّتِكَ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ.
6661 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ. رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَلِفُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَفِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَالْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الصِّفَاتِ أَعَمُّ مِنَ الْعِزَّةِ وَالْكَلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي آخِرِ بَابُ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ إِلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ تَنْقَسِمُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ وَمُتَرَدِّدٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الصِّفَاتُ، وَأَنَّهُ اخْتُلِفَ هَلْ يَلْتَحِقُ بِالصَّرِيحِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَصْدٍ أَوْ لَا فَيَحْتَاجُ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ مِنْهَا يَلْتَحِقُ بِالصَّرِيحِ فَلَا تَنْفَعُ مَعَهَا التَّوْرِيَةُ
إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ وَصِفَاتُ الْفِعْلِ تَلْتَحِقُ بِالْكِنَايَةِ، فَعِزَّةُ اللَّهِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَكَذَا جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: مَنْ قَالَ: وَحَقِّ اللَّهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِ اللَّهِ وَقُدْرَةِ اللَّهِ يُرِيدُ الْيَمِينَ أَوْ لَا يُرِيدُهُ فَهِيَ يَمِينٌ انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَالْقُدْرَةُ تَحْتَمِلُ صِفَةَ الذَّاتِ فَتَكُونُ الْيَمِينُ صَرِيحَةً، وَتَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْمَقْدُورِ فَتَكُونُ كِنَايَةً كَقَوْلِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنَ الشَّيْءِ: انْظُرْ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَكَذَا الْعِلْمُ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا أَيْ مَعْلُومَكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْحَلِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الدُّعَاءِ لَكِنَّهُ لَا يُسْتَعَاذُ إِلَّا بِاللَّهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَخَفِيَ هَذَا عَلَى ابْنِ التِّينِ فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ بِالصِّفَةِ كَمَا بَوبَ عَلَيْهِ. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ الْمُنِيرِ مَا نَصُّهُ، قَوْلُهُ أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ دُعَاءٌ وَلَيْسَ بِقَسَمٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُقَرَّرُ أَنَّهُ لَا يُسْتَعَاذُ إِلَّا بِالْقَدِيمِ ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْعِزَّةَ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ لَا مِنْ صِفَةِ الْفِعْلِ فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَخْ) وَفِيهِ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْحَشْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا قَوْلُ الرَّجُلِ لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ ذَلِكَ مُقَرِّرًا لَهُ، فَيَكُونُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَيُّوبُ) عليه السلام (وَعِزَّتِكَ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَا غَنَاءَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْمَدِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ مَعْنَى الْغَنَاءِ بِالْمَدِّ الْكِفَايَةُ يُقَالُ: مَا عِنْدَ فُلَانٍ غَنَاءٌ أَيْ لَا يُغْتَنَى بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَوَّلُهُ أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ يَغْتَسِلُ فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ الْحَدِيثَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ أَيُّوبَ عليه السلام لَا يَحْلِفُ إِلَّا بِاللَّهِ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ.
قَوْلُهُ: (شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ق وَالْقَوْلُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ، وَحَكَى الدَّاوُدِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ جَهَنَّمَ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي مَزِيدٍ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَحَدِيثُ الْبَابِ يَرُدُّ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ) وَصَلَ رِوَايَتُهُ فِي تَفْسِيرِ ق، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمَوْصُولَةَ عَنْ أَنَسٍ بِالْعَنْعَنَةِ، لَكِنَّ شُعْبَةَ مَا كَانَ يَأْخُذُ عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ ذَكَرَ عَنْهُمُ التَّدْلِيسَ إِلَّا مَا صَرَّحُوا فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ.
(تَنْبِيهٌ): لَمَحَ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى رَدِّ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ الْحَلِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ، فَفِي تَرْجَمَةِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ مِنْ الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ عَوْنٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا تَحْلِفُوا بِحَلِفِ الشَّيْطَانِ أَنْ يَقُولَ أَحَدُكُمْ وَعِزَّةِ اللَّهِ، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {رَبِّ الْعِزَّةِ} انْتَهَى. وَفِي الْمَسْعُودِيِّ ضَعْفٌ، وَعَوْنٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مُنْقَطِعٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْعِزَّةِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
13 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ: لَعَمْرُ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَعَمْرُكَ} لَعَيْشُكَ
6662 -
حَدَّثَنَا الْأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح. وَحَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ،
وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لَعَمْرُ اللَّهِ) أَيْ: هَلْ يَكُونُ يَمِينًا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ لَعَمْرِ وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَثَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ وَأَنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ وَصَلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - لَعَمْرُكَ أَيْ حَيَاتُكَ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْعُمْرُ بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ خُصَّ الْحَلِفُ بِالثَّانِي قَالَ الشَّاعِرُ: عَمْرُكَ اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ أَيْ: سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُطِيلَ عُمُرَكَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجُ: الْعُمْرُ الْحَيَاةُ، فَمَنْ قَالَ لَعَمْرُ اللَّهِ كَأَنَّهُ حَلَفَ بِبَقَاءِ اللَّهِ، وَاللَّامُ لِلتَّوْكِيدِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا أُقْسِمُ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ ; لِأَنَّ بَقَاءَ اللَّهِ مِنْ صِفَةِ ذَاتِهِ. وَعَنْ مَالِكٍ لَا يُعْجِبُنِي الْحَلِفُ بِذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ لَعَمْرِي.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ: لَا تَكُونُ يَمِينًا إِلَّا بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْعِلْمِ وَعَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ يُرَادُ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومُ وَبِالْحَقِّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَالرَّاجِحُ عَنْهُ كَالشَّافِعِيِّ.
وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ لِلَّهِ أَنْ يُقْسِمَ مِنْ خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ وَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُمْ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَدْ عَدَّ الْأَئِمَّةُ ذَلِكَ فِي فَضَائِلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ مِنْ أَدَوَاتِ الْقَسَمِ لِأَنَّهَا مَحْصُورَةٌ فِي الْوَاوِ وَالْبَاءِ وَالتَّاءِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابُ كَيْفَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ وَقَدْ مَضَى شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ النُّورِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ مِنْ رِوَايَةِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَعَمْرُ إِلَهِكَ وَكَرَّرَهَا، وَهُوَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ.
6663 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَ: قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِي قَوْلِهِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ بَدَلَ قَوْلِهِ الْآيَةِ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ آيَةُ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَضَى هُنَاكَ تَفْسِيرُ اللَّغْوِ، وَتَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ لِكَوْنِهَا شَهِدَتِ التَّنْزِيلَ فَهِيَ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهَا بِالْمُرَادِ، وَقَدْ جَزَمَتْ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْلِهِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَرْفُوعًا فِي قِصَّةِ الرُّمَاةِ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا رَمَى حَلَفَ أَنَّهُ أَصَابَ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَخْطَأَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيْمَانُ الرُّمَاةِ لَغْوٌ لَا كَفَّارَةَ لَهَا وَلَا عُقُوبَةَ.
وَهَذَا لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْتَمِدُونَ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَجَمَاعَةٍ: لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ يَظُنُّهُ، ثُمَّ يَظْهَرُ خِلَافُهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمَاضِي، وَقِيلَ: يَدْخُلُ أَيْضًا فِي الْمُسْتَقْبِلِ بِأَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ ظَنًّا مِنْهُ، ثُمَّ يَظْهَرُ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ، وَبِهِ قَالَ
رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَمَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنِ الْقَاسِمِ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ نَحْوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ لُغَةٌ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ لَا يُرَادُ بِهَا الْيَمِينُ وَهِيَ مِنْ صِلَةِ الْكَلَامِ، وَنَقَلَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، عَنْ طَاوُسٍ لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ وَهُوَ غَضْبَانُ، وَذَكَرَ أَقْوَالًا أُخْرَى عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَجُمْلَةُ مَا يَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ مِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَفْعَلُهُ، ثُمَّ يَنْسَى فَيَفْعَلُهُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ، وَعَنْهُ هُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَكَذَا، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ صَادِقٌ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يَحْلِفَ وَهُوَ غَضْبَانُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، وَهَذَا يُعَارِضُهُ الْخَبَرُ الثَّابِتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ فَعَلَ كَذَا ثُمَّ يَفْعَلُهُ، وَهَذَا هُوَ يَمِينُ الْمَعْصِيَةِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْقَوْلُ بِأَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ هُوَ الْمَعْصِيَةُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عِبَادَةً، وَالْحَالِفُ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَيُقَالُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ أَثِمَ وَبَرَّ فِي يَمِينِهِ.
قُلْتُ: الَّذِي قَالَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّهَا فِي الثَّانِيَةِ لَا تَنْعَقِدُ أَصْلًا فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّهَا لَغْوٌ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا يَمِينُ الْغَضَبِ يَرُدُّهُ مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ يَعْنِي مِمَّا ذُكِرَ فِي الْبَابِ وَغَيْرِهَا، وَمَنْ قَالَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ فَعَلَ كَذَا أَوْ لَمْ يَفْعَلْ فَاللَّغْوُ إِنَّمَا هُوَ فِي طَرِيقِ الْكَفَّارَةِ وَهِيَ تَنْعَقِدُ، وَقَدْ يُؤَاخَذُ بِهَا لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ دُعَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا الْيَمِينُ الَّتِي تُكَفَّرُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنِ اللَّغْوِ مُطْلَقًا فَلَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ، فَكَيْفَ يُفَسَّرُ اللَّغْوُ بِمَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَثُبُوتُ الْكَفَّارَةِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمُؤَاخَذَةِ حَتَّى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَخَالَفَ عُوقِبَ.
قَوْلُهُ: يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تَفَرَّدَ يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنْ هِشَامٍ بِذِكْرِ السَّبَبِ فِي نُزُولِ الْآيَةِ. قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِرَفْعِهِ عَنْ عَائِشَةَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ كَلَّا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ.
وَأَشَارَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى عَطَاءٍ وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، وَابْنِ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ يُونُسَ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: لَغْوُ الْيَمِينِ مَا كَانَ فِي الْمِرَاءِ وَالْهَزْلِ، وَالْمُرَاجَعَةُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ، وَهَذَا مَوْقُوفٌ. وَرِوَايَةُ يُونُسَ تُقَارِبُ الزُّبَيْدِيَّ، وَلَفْظُ مَعْمَرٍ أَنَّهُ الْقَوْمُ يَتَدَارَءُونَّ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ وَكَلَّا وَاللَّهِ وَلَا يَقْصِدُ الْحَلِفَ، وَلَيْسَ مُخَالِفًا لِلْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الثِّقَةِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ هُوَ الَّذِي يَحْلِفُ عَلَى الشَّيْءِ لَا يُرِيدُ بِهِ إِلَّا الصِّدْقَ، فَيَكُونُ عَلَى غَيْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُوَافِقُ الْقَوْلَ الثَّانِي، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْمُبْهَمِ شَاذٌّ لِمُخَالَفَةِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُ وَأَكْثَرُ عَدَدًا.
15 - بَاب إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا فِي الْأَيْمَانِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وَقَالَ: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}
6664 -
حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ
قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ.
6665 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ يَوْمَئِذٍ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ"
6666 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ "لَا حَرَجَ" قَالَ آخَرُ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ "لَا حَرَجَ" قَالَ آخَرُ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ" لَا حَرَجَ"
6667 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ سَلَّمَ فَقَالَ وَعَلَيْكَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ فَأَعْلِمْنِي قَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا"
6668 -
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ فَصَرَخَ إِبْلِيسُ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ فَقَالَ أَبِي أَبِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا انْحَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ عُرْوَةُ فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"
6669 -
حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْفٌ عَنْ خِلَاسٍ وَمُحَمَّدٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ"
6670 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ انْتَظَرَ النَّاسُ
تَسْلِيمَهُ فَكَبَّرَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَسَلَّمَ"
6671 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ "عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا قَالَ مَنْصُورٌ لَا أَدْرِي إِبْرَاهِيمُ وَهِمَ أَمْ عَلْقَمَةُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ قَالَ "وَمَا ذَاكَ" قَالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ "هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ لِمَنْ لَا يَدْرِي زَادَ فِي صَلَاتِهِ أَمْ نَقَصَ فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ فَيُتِمُّ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ"
6672 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ "حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا قَالَ كَانَتْ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا"
6673 -
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ "قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَكَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ لَهُمْ فَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ لِيَأْكُلَ ضَيْفُهُمْ فَذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الذَّبْحَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي عَنَاقٌ جَذَعٌ عَنَاقُ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَكَانَ ابْنُ عَوْنٍ يَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ وَيُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَيَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَيَقُولُ لَا أَدْرِي أَبَلَغَتْ الرُّخْصَةُ غَيْرَهُ أَمْ لَا رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
6674 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ "سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ عِيدٍ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ قَالَ "مَنْ ذَبَحَ فَلْيُبَدِّلْ مَكَانَهَا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا فِي الْأَيْمَانِ) أَيْ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَوْ لَا؟
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ وَلَيْسَ بِثُبُوتِ الْوَاوِ فِي أَوَّلِهِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ حِنْثِ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ فِعْلُهُ إِلَيْهِ شَرْعًا لِرَفْعِ حُكْمِهِ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ.
قَوْلُهُ: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} قَالَ الْمُهَلَّبُ: حَاوَلَ الْبُخَارِيُّ فِي إِثْبَاتِ الْعُذْرِ بِالْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ لِيُسْقِطَ الْكَفَّارَةَ، وَالَّذِي يُلَائِمُ مَقْصُودَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ الْأَوَّلِ وَحَدِيثِ مَنْ أَكْلَ نَاسِيًا وَحَدِيثِ نِسْيَانِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَقِصَّةِ مُوسَى فَإِنَّ الْخَضِرَ عَذَرَهُ بِالنِّسْيَانِ وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْمُسَامَحَةِ، قَالَ: وَأَمَّا
بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ فَفِي مُسَاعَدَتِهَا عَلَى مُرَادِهِ نَظَرٌ.
قُلْتُ: وَيُسَاعِدُهُ أَيْضًا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ النُّسُكِ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِالْإِعَادَةِ بَلْ عَذَرَ فَاعِلَهُ بِجَهْلِ الْحُكْمِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ أَحَادِيثَ الْبَابِ عَلَى الِاخْتِلَافِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا أُصُولُ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ لِيَسْتَنْبِطَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهَا مَا يُوَافِقُ مَذْهَبُهُ كَمَا صَنَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ جَمَلِهِ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ الطُّرُقَ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَيَّنَ فِي الْآخِرِ أَنَّ إِسْنَادَ الِاشْتِرَاطِ أَصَحُّ، وَكَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ ; وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ فَقَالَ: أَوْرَدَ الْأَحَادِيثَ الْمُتَجَاذِبَةَ لِيُفِيدَ النَّاظِرَ مَظَانَّ النَّظَرِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَذْكُرِ الْحُكْمَ فِي التَّرْجَمَةِ، بَلْ أَفَادَ مُرَادَ الْحُكْمِ وَالْأُصُولِ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَكْثَرُ إِفَادَةً مِنْ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ أَيْضًا انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ بِعَدَمِ الْكَفَّارَةِ مُطْلَقًا، وَتَوْجِيهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَاقَهَا مُمْكِنٌ. وَأَمَّا مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ ذَلِكَ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مُمْكِنٌ: فَمِنْهَا الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، وَلَوْلَا أَنَّ حُذَيْفَةَ أَسْقَطَهَا لَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا، وَالْجَوَابُ أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَمِنْهَا إِبْدَالُ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي ذُبِحَتْ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْذُرْهُ بِالْجَهْلِ لَمَا أَقَرَّهُ عَلَى إِتْمَامِ الصَّلَاةِ الْمُخْتَلَّةِ، لَكِنَّهُ لَمَّا رَجَا أَنَّهُ يَتَفَطَّنُ لِمَا عَابَهُ عَلَيْهِ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ بِالْحُكْمِ عَلَّمَهُ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ، وَأَيْضًا فَالصَّلَاةُ إِنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْأَرْكَانِ فَكُلُّ رُكْنٍ اخْتَلَّ مِنْهَا اخْتَلَّتْ بِهِ مَا لَمْ يُتَدَارَكْ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُنَاسِبُ مَا لَوْ فَعَلَ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ بَعْدَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبَابِ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَجْرَى الْبُخَارِيُّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ فِي قِصَّةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ مَا إِذَا قَالَ الرَّجُلُ يَا بُنَيَّ وَلَيْسَ هُوَ ابْنَهُ، وَقِيلَ: إِذَا أَتَى امْرَأَتَهُ حَائِضًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ التَّعْمِيمِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَتَلَ خَطَأً تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ، وَإِذَا أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ خَطَأً فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ انْتَهَى.
وَانْفَصَلَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْمُتْلَفَاتِ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ مَا يَدْخُلُ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَا ذُكِرَ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِعُمُومِهَا، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِعُمُومِهَا فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ ثَالِثُهَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَتَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مَعَ الْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَيْمَانِ فَلَا تَجِبُ، وَهَذَا قَوْلٌ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَعَنِ الْحَنَابِلَةِ عَكْسُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانَ أَحْمَدُ يُوقِعُ الْحِنْثَ فِي النِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ حَسْبُ وَيَقِفُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَالْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ اثْنَا عَشَرَ حَدِيثًا:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (زُرَارَةَ بْنَ أَبِي أَوْفَى) هُوَ قَاضِي الْبَصْرَةِ مَاتَ وَهُوَ سَاجِدٌ، أَوْرَدَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ) سَبَقَ فِي الْعِتْقِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ مِسْعَرٍ بِلَفْظٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَدَلَ قَوْلِهِ هُنَا يَرْفَعُهُ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ. وَلِلنَّسَائِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ كِلَاهُمَا عَنْ مِسْعَرٍ بِلَفْظِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إِنَّمَا قَالَ يَرْفَعُهُ لِيَكُونَ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ سَمِعَهُ مِنْهُ. قُلْتُ: وَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ بَلْ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ قَالَ وَعَنْ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ الِاحْتِمَالُ إِذَا قَالَ: سَمِعْتُ وَنَحْوَهَا، وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ وَكِيعًا رَوَاهُ عَنْ مِسْعَرٍ فَلَمْ يَرْفَعْهُ قَالَ: وَالَّذِي رَفَعَهُ ثِقَةٌ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى التَّصْرِيحِ بِسَمَاعِ زُرَارَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنَّهُ لَمْ
يُوصَفْ بِالتَّدْلِيسِ فَيُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ. وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ الْفُرَاتَ بْنَ خَالِدٍ أَدْخَلَ بَيْنَ زُرَارَةَ وَبَيْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَهُوَ خَطَأٌ فَإِنَّ زُرَارَةَ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَكَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ عَنْ زُرَارَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَظَنَّهُ آخَرَ أُبْهِمَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (لِأُمَّتِي) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي.
قَوْلُهُ: (عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا وَلَمْ يَتَرَدَّدْ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَأَبِي عَوَانَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مَا وَسْوَسَتْ بِهَا صُدُورُهَا وَلَمْ يَتَرَدَّدْ أَيْضًا، وَضَبْطُ أَنْفُسِهَا بِالنَّصْبِ لِلْأَكْثَرِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالرَّفْعِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ بِالثَّانِي وَبِهِ جَزَمَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُرِيدُونَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}
قَوْلُهُ: (مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ النِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ مَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ الْإِنْسَانِ. قُلْتُ: مُرَادُ الْبُخَارِيِّ إِلْحَاقُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّسْيَانِ بِالتَّجَاوُزِ ; لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ عَمَلِ الْقَلْبِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قَاسَ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ عَلَى الْوَسْوَسَةِ، فَكَمَا أَنَّهَا لَا اعْتِبَارَ لَهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّوَطُّنِ فَكَذَا النَّاسِي وَالْمُخْطِئُ لَا تَوْطِينَ لَهُمَا.
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مُنْكَرَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَدِيثُ عِنْدَ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ الْوَلِيدِ فَلَعَلَّهُ دَخَلَ لَهُ بَعْضُ حَدِيثٍ فِي حَدِيثٍ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، الْحُمَيْدِيُّ وَهُوَ أَعْرَفُ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِحَدِيثِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْعِتْقِ عَنْهُ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، وَابْنِ الْمُقْرِي، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمِنَ الْمَخْزُومِيِّ، كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ.
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْوُجُودَ الذِّهْنِيَّ لَا أَثَرَ لَهُ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْوُجُودِ الْقَوْلِيِّ فِي الْقَوْلِيَّاتِ وَالْعَمَلِيِّ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى الْمُؤَاخَذَةَ بِمَا وَقَعَ فِي النَّفْسِ وَلَوْ عَزَمَ عَلَيْهِ، وَانْفَصَلَ مَنْ قَالَ يُؤَاخَذُ بِالْعَزْمِ بِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعَمَلِ يَعْنِي عَمَلَ الْقَلْبِ. قُلْتُ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمَلِ عَمَلُ الْجَوَارِحِ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ مَا لَمْ يَعْمَلْ يُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي الصَّدْرِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ سَوَاءٌ تَوَطَّنَ بِهِ أَمْ لَمْ يَتَوَطَّنْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى عَظِيمِ قَدْرِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لِأَجْلِ نَبِيِّهَا صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ: تَجَاوَزَ لِي وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِاخْتِصَاصِهَا بِذَلِكَ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ حُكْمَ النَّاسِي كَالْعَامِدِ فِي الْإِثْمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْإِصْرِ الَّذِي كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي شَكْوَاهُمْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ: تُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا مِثْلَ مَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فَقَالُوهَا فَنَزَلَتْ {آمَنَ الرَّسُولُ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَفِيهِ قَوْلُهُ:{لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ نَعَمْ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ قَالَ قَدْ فَعَلْتُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ) وَقَعَ مِثْلُ هَذَا فِي بَابُ الذَّرِيرَةِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْهَيْثَمِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَحْسَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِنِّي كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا.
قَوْلُهُ (لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثُ) قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ ذَلِكَ خَاصًّا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّ
الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ فَإِنَّهُ فِيهِ الْحَلْقُ وَالنَّحْرُ وَالرَّمْيُ، لَكِنْ وَجَدْتُهُ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِالْإِبْهَامِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلُ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ الْهَيْثَمِ سَوَاءٌ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ بَكْرٍ لَمْ يَقُلْ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ وَمِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، وَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ الْمَذْكُورَةَ مِنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ شَيْخِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِيهِ مُفَسَّرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مَعَ شَرْحِهِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) هُوَ الْعُمَرِيُّ وَسَعِيدٌ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ بِهَذَا السَّنَدِ سَوَاءً لَكِنْ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ بَدَلَ أَبِي أُسَامَةَ، وَفِي بَعْضِ سِيَاقِهِمَا اخْتِلَافٌ بَيَّنْتُهُ هُنَاكَ، فَكَأَنَّ لِإِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَحْدَهُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ جَمِيعًا، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ هَذَيْنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي قِصَّةِ قَتْلِ أَبِيهِ الْيَمَانِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْمَنَاقِبِ وَفِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ بَقِيَّةُ خَيْرٍ بِالْإِضَافَةِ لِلْأَكْثَرِ أَيِ اسْتَمَرَّ الْخَيْرُ فِيهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَقِيَّةٌ بِالتَّنْوِينِ وَسَقَطَ عِنْدَهُ لَفْظُ خَيْرٍ وَعَلَيْهَا شَرْحُ الْكَرْمَانِيِّ فَقَالَ: أَيْ بَقِيَّةُ حُزْنٍ وَتَحَسُّرٍ مِنْ قَتْلِ أَبِيهِ بِذَلِكَ الْوَجْهِ، وَهُوَ وَهْمٌ سَبَقَهُ غَيْرُهُ إِلَيْهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ خَيْرٌ بِقَوْلِهِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَبَاهُ خَطَأً عَفَا اللَّهُ عَنْكُمْ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ الْخَيْرُ فِيهِ إِلَى أَنْ مَاتَ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ الْحَدِيثَ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابُ الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا مِنْ كِتَابِ الصِّيَامِ، وَعَوْفٌ فِي السَّنَدِ هُوَ الْأَعْرَابِيُّ وَخِلَاسٌ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالْبُخَارِيُّ لَا يُخَرِّجُ لِخِلَاسٍ إِلَّا مَقْرُونًا. وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ هُنَا أَنَّ الْمِزِّيَّ فِي الْأَطْرَافِ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ خِلَاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ خِلَاسٌ فِي الصِّيَامِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى فَوَهِمَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَلَمْ يُورِدْهُ فِي الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ خِلَاسٍ أَصْلًا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: أَوْجَبَ مَالِكٌ الْحِنْثَ عَلَى النَّاسِي، وَلَمْ يُخَالِفْ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ إِلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيَصُومَنَّ غَدًا فَأَكَلَ نَاسِيًا بَعْدَ أَنْ بَيَّتَ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَاخْتُلِفَ عَنْهُ فَقِيلَ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا حِنْثَ وَلَا قَضَاءَ وَهُوَ الرَّاجِحُ، أَمَّا عَدَمُ الْقَضَاءِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِبْطَالَ الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْحِنْثِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الصَّوْمِ ; لِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَحَّحَ الشَّارِعُ صَوْمَهُ، فَإِذَا صَحَّ صَوْمُهُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ حِنْثٌ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ لِتَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ سُجُودِ السَّهْوِ مِنْ أَوَاخِرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ مَعَ شَرْحِهِ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ لِزِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا هُنَاكَ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ وَقَوْلُهُ هُنَا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهْوَيْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ مُسْنَدِهِ، وَقَوْلُهُ سَمِعَ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَيْ إِنَّهُ سَمِعَ وَلَفْظَةُ إِنَّهُ يُسْقِطُونَهَا فِي الْخَطِّ أَحْيَانًا، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَذْكُورِ هُوَ الْعَمِّيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّثْقِيلِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَلْقَمَةُ هُوَ ابْنُ
قَيْسٍ.
وَقَوْلُهُ فِيهِ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ قَالَ مَنْصُورٌ: لَا أَدْرِي إِبْرَاهِيمُ وَهِمَ أَمْ عَلْقَمَةُ كَذَا أَطْلَقَ وَهِمَ مَوْضِعَ شَكَّ وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ الشَّكَّ يَنْشَأُ عَنِ النِّسْيَانِ ; إِذْ لَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَمَا وَقَعَ لَهُ التَّرَدُّدُ، يُقَالُ: وَهِمَ فِي كَذَا إِذَا غَلِطَ فِيهِ وَوَهِمَ إِلَى كَذَا إِذَا ذَهَبَ وَهْمُهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ فَجَزَمَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي تَرَدَّدَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْصُورًا حِينَ حَدَّثَ عَبْدَ الْعَزِيزِ كَانَ مُتَرَدِّدًا هَلْ عَلْقَمَةُ قَالَ ذَلِكَ أَمْ إِبْرَاهِيمُ، وَحِينَ حَدَّثَ جَرِيرًا كَانَ جَازِمًا بِإِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَفْظُ أَقَصُرَتْ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ نَقَصَ، وَلَكِنَّهُ وَهْمٌ مِنَ الرَّاوِي وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ بِلَفْظِ أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مُبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَاكَ أَيْضًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا يَسِيرًا مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ. وَقَوْلُهُ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ هَكَذَا حَذَفَ مَقُولَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ الْكَهْفِ بِلَفْظِ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ فَذَكَرَ قِصَّةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَادًّا عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَخْ فَحَذَفَهَا الْبُخَارِيُّ هُنَا كَمَا حَذَفَ أَكْثَرَ الْحَدِيثِ، إِلَى أَنْ قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي.
قَوْلُهُ (إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: يَقُولُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي} إِلَخْ.
قَوْلُهُ (كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا) يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ إِنْكَارِهِ خَرْقَ السَّفِينَةِ كَانَ نَاسِيًا لِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ الْخَضِرُ فِي قَوْلِهِ: {فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} فَإِنْ قِيلَ تَرْكُ مُؤَاخَذَتِهِ بِالنِّسْيَانِ مُتَّجِهٌ وَكَيْفَ وَأَخَذَهُ؟ قُلْنَا: عَمَلًا بِعُمُومِ شَرْطِهِ الَّذِي الْتَزَمَهُ، فَلَمَّا اعْتَذَرَ لَهُ بِالنِّسْيَانِ عَلِمَ أَنَّهُ خَارِجٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ مِنْ عُمُومِ الشَّرْطِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَّجِهُ إِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا عَمْدًا فَمَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى خَلْفِ الشَّرْطِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ فِي الْأُولَى كَانَ يَتَوَقَّعُ هَلَاكَ أَهْلِ السَّفِينَةِ فَبَادَرَ لِلْإِنْكَارِ فَكَانَ مَا كَانَ، وَاعْتَذَرَ بِالنِّسْيَانِ وَقَدَّرَ اللَّهُ سَلَامَتَهُمْ، وَفِي الثَّانِيَةِ كَانَ قَتْلُ الْغُلَامِ فِيهَا مُحَقَّقًا فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ فَأَنْكَرَ ذَاكِرًا لِلشَّرْطِ عَامِدًا لِإِخْلَافِهِ تَقْدِيمًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَذِرْ بِالنِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُجَرِّبَ نَفْسَهُ فِي الثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا الْحَدُّ الْمُبَيِّنُ غَالِبًا لِمَا يَخْفَى مِنَ الْأُمُورِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ كَانَتِ الثَّالِثَةُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا؟ قُلْنَا: يَظْهَرُ أَنَّهَا كَانَتْ نِسْيَانًا، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ صَاحِبُهُ بِشَرْطِهِ الَّذِي شَرَطَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمُفَارَقَةِ فِي الثَّالِثَةِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ التِّينِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ إِنَّهَا كَانَتْ عَمْدًا اسْتِبْعَادًا لِأَنْ يَقَعَ مِنْ مُوسَى عليه السلام إِنْكَارُ أَمْرٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ الْإِحْسَانُ لِمَنْ أَسَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ، وحديثُ أنسٍ فِي تَقْدِيمِ صَلَاةِ الْعِيدِ عَلَى الذَّبْحِ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُمَا مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ.
قَوْلُهُ (كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) لَمْ تَقَعْ هَذِهِ الصِّيغَةُ لِلْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ مَشَايِخِهِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ أَخْرَجَ بِصِيغَةِ الْمُكَاتَبَةِ فِيهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَكِنْ مِنْ رِوَايَةِ التَّابِعِيِّ عَنِ الصَّحَابِيِّ، أَوْ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ التَّابِعِيِّ، عَنِ التَّابِعِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ بِبُنْدَارٍ، وَقَدْ أَكْثَرَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَرَوَاهُ عَنْهُ بِالْمُكَاتَبَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْلَ الْحَدِيثِ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ أُخْرَى مَوْصُولَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى بُنْدَارٍ فَذَكَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ.
قَوْلُهُ (قَالَ: قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَكَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ لِلْبَرَاءِ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهَا وَقَعَتْ لِخَالِهِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ مِنْ طَرِيقِ
زُبَيْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَقَدْ ذَبَحَ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً الْحَدِيثَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَهُمْ وَالْمُرَادُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الذِّبْحَ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: رُوِّينَاهُ بِكَسْرِ الذَّالِ وَهُوَ مَا يُذْبَحُ، وَبِالْفَتْحِ وَهُوَ مَصْدَرُ ذَبَحْتُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَ الْبَرَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ لِلْبَرَاءِ، فَلَوْلَا اتِّحَادُ الْمَخْرَجِ لَأَمْكَنَ التَّعَدُّدُ، لَكِنَّ الْقِصَّةَ مُتَّحِدَةٌ وَالسَّنَدَ مُتَّحِدٌ مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ وَالِاخْتِلَافَ مِنَ الرُّوَاةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اخْتِصَارٌ وَحَذْفٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبَرَاءُ شَارَكَ خَالَهُ فِي سُؤَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقِصَّةِ فَنُسِبَتْ كُلُّهَا إِلَيْهِ تَجَوُّزًا، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كَانَ الْبَرَاءُ وَخَالُهُ أَبُو بُرْدَةَ أَهْلَ بَيْتٍ وَاحِدٍ فَنَسَبَ الْقِصَّةَ تَارَةً لِخَالِهِ وَتَارَةً لِنَفْسِهِ انْتَهَى، وَالْمُتَكَلِّمُ فِي الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ أَحَدُهُمَا فَتَكُونُ نِسْبَةُ الْقَوْلِ لِلْآخَرِ مَجَازِيَّةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عَوْنٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (يَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ) أَيْ يَتْرُكُ تَكْمِلَتَهُ.
قَوْلُهُ: (وَيُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) أَيْ عَنْ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ) أَيْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَيَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ) أَيْ فِي حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَيَقُولُ لَا أَدْرِي إِلَخْ) يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ الْأَضَاحِيِّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بِهَذَا السَّنَدِ، وَلَفْظُهُ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ - وَذَكَرَ جِيرَانَهُ - وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا أَدْرِي أَبَلَغَتِ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لَا وَهَذَا ظَاهِرُهُ فِي أَنَّ الْكُلَّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ حَدِيثُ جُنْدَبٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ.
قَوْلُهُ: (خَطَبَ ثُمَّ قَالَ مَنْ ذَبَحَ فَلْيُبَدِّلْ مَكَانَهَا) تَقَدَّمَ فِي الْأَضَاحِيِّ عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا السَّنَدِ بِلَفْظِ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدِ. الْحَدِيثَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ أَيْضًا. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَمُنَاسَبَةُ حَدِيثَيِ الْبَرَاءِ وَجُنْدُبٍ لِلتَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجَاهِلِ بِالْحُكْمِ وَالنَّاسِي.
16 - بَاب الْيَمِينِ الْغَمُوسِ
{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} دَخَلًا: مَكْرًا وَخِيَانَةً.
6675 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا فِرَاسٌ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ.
[الحديث 6675 - طرفاه في 6870، 6920]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ الْخَفِيفَةِ وَآخِرَهُ مُهْمَلَةٌ، قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ ثُمَّ فِي النَّارِ، فَهِيَ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَعَاهَدُوا
أَحْضَرُوا جَفْنَةً فَجَعَلُوا فِيهَا طِيبًا أَوْ دَمًا أَوْ رَمَادًا، ثُمَّ يَحْلِفُونَ عِنْدَمَا يُدْخِلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهَا لِيَتِمَّ لَهُمْ بِذَلِكَ الْمُرَادُ مِنْ تَأْكِيدِ مَا أَرَادُوا. فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْيَمِينُ إِذَا غَدَرَ صَاحِبُهَا غَمُوسًا لِكَوْنِهِ بَالَغَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ، وَكَأَنَّهَا عَلَى هَذَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْيَدِ الْمَغْمُوسَةِ، فَيَكُونُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الَّتِي يَنْغَمِسُ صَاحِبُهَا فِي الْإِثْمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} وَهَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ ; لِأَنَّ الْمُنْعَقِدَ مَا يُمْكِنُ حَلُّهُ، وَلَا يَتَأَتَّى فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ الْبِرُّ أَصْلًا.
قَوْلُهُ: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى عَظِيمٍ.
قَوْلُهُ: (دَخَلًا مَكْرًا وَخِيَانَةً) هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ قَتَادَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: خِيَانَةً وَغَدْرًا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: يَعْنِي مَكْرًا وَخَدِيعَةً، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي خِيَانَةً، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الدَّخَلُ كُلُّ أَمْرٍ كَانَ عَلَى فَسَادٍ ; وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا تَجْعَلُوا أَيْمَانَكُمُ الَّتِي تَحْلِفُونَ بِهَا عَلَى أَنَّكُمْ تُوفُونَ بِالْعَهْدِ لِمَنْ عَاهَدْتُمُوهُ دَخَلًا أَيْ خَدِيعَةً وَغَدْرًا لِيَطْمَئِنُّوا إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ تُضْمِرُونَ لَهُمُ الْغَدْرَ انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِلْيَمِينِ الْغَمُوسِ وُرُودُ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ حَلَفَ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا.
(قَوْلُهُ: النَّضْرُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ، وَوَقَعَ مَنْسُوبًا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ وَكَأَنَّ لِابْنِ مُقَاتِلٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ إِنْ كَانَ حَفِظَهُ، وَفِرَاسٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَآخِرَهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ ابْنِ الْعَاصِ.
قَوْلُهُ: (الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ، عَنْ فِرَاسٍ فِي أَوَّلِهِ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ فَذَكَرَهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ.
قَوْلُهُ: (الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ إِلَخْ) ذَكَرَ هُنَا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءٍ بَعْدَ الشِّرْكِ وَهُوَ الْعُقُوقُ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَرَوَاهُ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ قَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ شَكَّ شُعْبَةُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ هَكَذَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ الدِّيَاتِ وَالتِّرْمِذِيُّ جَمِيعًا عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَاكَ، وَوَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ قَالَ قَتْلُ النَّفْسِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَلَمْ يَذْكُرْ قَتْلَ النَّفْسِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: الَّتِي تَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَذِبٌ وَالْقَائِلُ قُلْتُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَاوِي الْخَبَرِ، وَالْمُجِيبُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مَنْ دُونَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْمُجِيبُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ مَنْ دُونَهُ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ مَرْفُوعًا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْأَشْعَثُ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى تَعْيِينِ الْقَائِلِ قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَعَلَى تَعْيِينِ الْمَسْئُولِ فَوَجَدْتُ الْحَدِيثَ فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَهُوَ قِسْمُ النَّوَاهِي.
وَأَخْرَجَهُ عَنِ النَّضْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعِجْلِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بِالسَّنَدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ الْبُخَارِيُّ، فَقَالَ فِي آخِرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ ثُمَّ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ: قُلْتُ لِعَامِرٍ: مَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ إِلَخْ فَظَهَرَ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ فِرَاسٌ وَالْمَسْئُولُ الشَّعْبِيُّ وَهُوَ عَامِرٌ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَنْعَمَ ثُمَّ لِلَّهِ الْحَمْدُ ثُمَّ لِلَّهِ الْحَمْدُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ تَحَرَّرَ لَهُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرَّاحِ، حَتَّى إِنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ، وَأَبَا نُعَيْمٍ لَمْ يُخْرِجَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ شَيْبَانَ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى رِوَايَةِ شُعْبَةَ، وَسَيَأْتِي عَدُّ الْكَبَائِرِ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ
الْحُدُودِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنْتُ ضَابِطَ الْكَبِيرَةِ وَالْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا وَأَكْبَرَ، فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَدَبِ، وَذَكَرْتُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبَائِرِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ لَهُ شَاهِدًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، وَذَكَرَ فِيهِ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ أَيْضًا.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ وَالْعُقُوقَ وَالْقَتْلَ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَفَّارَتُهَا التَّوْبَةُ مِنْهَا، وَالتَّمْكِينُ مِنَ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ حُكْمُهَا حُكْمُ مَا ذُكِرَتْ مَعَهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْأَحْكَامِ جَائِزٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: - {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ وَالْأَكْلُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شَاهِينَ بِسَنَدِهِ إِلَى خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ صَبْرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَظَاهِرُ سَنَدِهِ الصِّحَّةُ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ ; لِأَنَّ فِيهِ عَنْعَنَةَ بَقِيَّةَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَقَالَ فِي هَذَا السَّنَدِ عَنِ الْمُتَوَكِّلِ أَوْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ النَّاجِيَ الثِّقَةَ بَلْ آخَرُ مَجْهُولٌ، وَأَيْضًا فَالْمَتْنُ مُخْتَصَرٌ وَلَفْظُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ: مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَخَمْسٌ لَيْسَ لَهَا كَفَّارَةٌ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَذَكَرَ فِي آخِرِهَا: وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اتِّفَاقَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَرَوَى آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي مُسْنَدِ شُعْبَةَ، وَإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
كُنَّا نَعُدُّ الذَّنْبَ الَّذِي لَا كَفَّارَةَ لَهُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى مَالِ أَخِيهِ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَهُ قَالَ: وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِالْكَفَّارَةِ كَالْحَكَمِ وَعَطَاءٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَعْمَرٍ، وَالشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ أَحْوَجُ لِلْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَزِيدُهُ إِلَّا خَيْرًا، وَالَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ وَرَدُّ الْمَظْلِمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَكَفَّرَ فَالْكَفَّارَةُ لَا تَرْفَعُ عَنْهُ حُكْمَ التَّعَدِّي بَلْ تَنْفَعُهُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ طَعَنَ ابْنُ حَزْمٍ فِي صِحَّةِ الْأَثَرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَاحْتَجَّ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِيمَنْ تَعَمَّدَ الْجِمَاعَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَفِيمَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ، قَالَ: وَلَعَلَّهُمَا أَعْظَمُ إِثْمًا مِنْ بَعْضِ مَنْ حَلَفَ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَزْنِيَ ثُمَّ زَنَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ حُجَّةِ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ: فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ فَأَمَرَ مَنْ تَعَمَّدَ الْحِنْثَ أَنْ يُكَفِّرَ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ الْكَفَّارَةِ لِمَنْ حَلَفَ حَانِثًا.
17 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا}
6676 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
6677 -
"فَدَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالُوا كَذَا وَكَذَا قَالَ فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ قُلْتُ إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ "لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ الْعَهْدِ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْعَهْدَ غَيْرُ الْيَمِينِ لِعَطْفِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ احْتَجَّ بِهَا بِأَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْعُرْفَ جَرَى عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَالْكَفَالَةَ وَالْأَمَانَةَ أَيْمَانٌ ; لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ خَصَّ الْعَهْدَ بِالتَّقْدِمَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَيْمَانِ فَدَلَّ عَلَى تَأَكُّدِ الْحَلِفِ بِهِ ; لِأَنَّ عَهْدَ اللَّهِ مَا أَخَذَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا أَعْطَاهُ عِبَادُهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الْآيَةَ لِأَنَّهُ قُدِّمَ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِهِ.
قَوْلُهُ: وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ: اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ فَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لَا تُكْثِرُوا الْحَلِفَ بِاللَّهِ وَإِنْ كُنْتُمْ بَرَرَةً، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْهَيْبَةِ فِي الْقُلُوبِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ:{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ} وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَصِلَ رَحِمَهُ مَثَلًا فَيُقَالُ لَهُ صِلْ، فَيَقُولُ: قَدْ حَلَفْتُ وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنْ تَبَرُّوا كَرَاهَةَ أَنْ تَبَرُّوا فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَيُكَفِّرَ انْتَهَى.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ لَا تَجْعَلِ اللَّهَ عُرْضَةً لِيَمِينِكَ أَنْ لَا تَصْنَعَ الْخَيْرَ وَلَكِنْ كَفِّرْ وَاصْنَعِ الْخَيْرَ وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ يَفْعَلَ نَوْعًا مِنَ الْخَيْرِ تَأْكِيدًا لَهُ بِيَمِينِهِ فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَهُوَ شَبِيهُ النَّهْيِ عَنِ النَّذْرِ كَمَا سَيَأْتِي نَظِيرُهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ لَا، قَالَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ: الْعُرْضَةُ مَا يُجْعَلُ مُعَرَّضًا لِشَيْءٍ آخَرَ كَمَا قَالُوا بَعِيرٌ عُرْضَةٌ لِلسَّفَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ
وَلَا تَجْعَلُنِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ
وَيَقُولُونَ فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ أَيْ يَقَعُونَ فِيهِ، وَفُلَانَةٌ عُرْضَةٌ لِلنِّكَاحِ إِذَا صَلُحَتْ لَهُ وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ، وَجَعَلْتُ فُلَانًا عُرْضَةً فِي كَذَا أَيْ أَقَمْتُهُ فِيهِ، وَتُطْلَقُ الْعُرْضَةُ أَيْضًا عَلَى الْهِمَّةِ كَقَوْلِ حَسَّانَ
هِيَ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
قَوْلُهُ: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ ذَلِكَ لِجَمِيعِهِمْ، وَوَقَعَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالصَّوَابُ قَوْلُهُ:{وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ {عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} مَا نَصُّهُ وَقَوْلُهُ: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} الْآيَةَ وَقَدْ مَشَى شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ
بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وَلَمْ يَتَقَدَّمْ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَهْدِ فَعُلِمَ أَنَّهُ يَمِينٌ.
ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ أَرَادَ مَا وَقَعَ قَبْلَ قَوْلِهِ: {وَلا تَنْقُضُوا} وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَطْفِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعَهْدِ أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ يَمِينًا بَلْ هُوَ كَالْآيَةِ السَّابِقَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} فَالْآيَاتُ كُلُّهَا دَالَّاتٌ عَلَى تَأْكِيدِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ يَمِينًا فَشَيْءٌ آخَرُ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ مَنْ حَلَفَ بِعَهْدِ اللَّهِ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَقَوْلُهُ:{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} أَيْ شَهِيدًا فِي الْعَهْدِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَعْنِي وَكِيلًا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا ; لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَهَا بِأَنَّ الرَّجُلَ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَصِلَ قَرَابَتَهُ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا فِي التَّكْفِيرِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصِلَ قَرَابَتَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِحَالِفِ الْغَمُوسِ مَخْرَجًا كَذَا قَالَ، وَتَعَقَّبَهُ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، بَلْ قَدْ يَدُلُّ لِمَشْرُوعِيَّتِهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ التَّبُوذَكِيُّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) هُوَ الْوَضَّاحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ مُوسَى هَذَا بَعْضُ هَذَا الْحَدِيثِ بِدُونِ قِصَّةِ الْأَشْعَثِ فِي الشَّهَادَاتِ لَكِنْ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ بَدَلَ أَبِي عَوَانَةَ فَالْحَدِيثُ عِنْدَ مُوسَى الْمَذْكُورُ عَنْهُمَا جَمِيعًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) هُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الشُّرْبِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ وَهُوَ السُّكَّرِيُّ، وَفِي الْأَشْخَاصِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ وَهُوَ الْأَعْمَشُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ مِمَّا لَمْ يُدَلِّسْ فِيهِ الْأَعْمَشُ فَلَا يَضُرُّ مَجِيئُهُ عَنْهُ بِالْعَنْعَنَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِهَذَا السَّنَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) كَذَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالرَّفْعِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ الْمَاضِيَةِ فِي الشَّهَادَاتِ وَفِي الرَّهْنِ، وَوَقَعَ مَرْفُوعًا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْمَاضِيَةِ قَرِيبًا عَنْ مَنْصُورٍ، وَالْأَعْمَشِ جَمِيعًا.
قَوْلُهُ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَيَمِينُ الصَّبْرِ هِيَ الَّتِي تَلْزَمُ وَيُجْبَرُ عَلَيْهَا حَالِفُهَا يُقَالُ أَصَبَرَهُ الْيَمِينُ أَحْلَفَهُ بِهَا فِي مقَاطَعِ الْحَقِّ، زَادَ أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ هُوَ بِهَا فَاجِرٌ وَكَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ وَكَأَنَّ فِيهَا حَذْفًا تَقْدِيرُهُ هُوَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، وَالْمُرَادُ بِالْفُجُورِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْكَذِبُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ.
قَوْلُهُ: (يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا بِزِيَادَةِ لَامِ تَعْلِيلٍ وَيَقْتَطِعُ يَفْتَعِلُ مِنَ الْقَطْعِ كَأَنَّهُ قَطَعَهُ عَنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَخْذَ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ بِالْحَلِفِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) فِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ وَفِي رِوَايَةِ كُرْدُوسٍ، عَنِ الْأَشْعَثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} كَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَمَنْصُورٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَعْيَنَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا جَمِيعًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَوْلَا التَّصْرِيحُ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ لَكَانَ ظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ كَاذِبًا، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَعَلَّ الْآيَةَ لَمْ تَبْلُغِ ابْنَ أَبِي أَوْفَى إِلَّا عِنْدَ إِقَامَتِهِ السِّلْعَةَ، فَظَنَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، أَوْ أَنَّ الْقِصَّتَيْنِ وَقَعَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَاللَّفْظُ عَامٌّ مُتَنَاوِلٌ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا.
قَوْلُهُ: (فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ)؟ كَذَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ هِيَ كُنْيَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ فِي الرَّهْنِ ثُمَّ إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَانٍ كَانَ فِيهِ فَدَخَلَ الْمَكَانَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَمَنْصُورٍ جَمِيعًا - كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ - فَجَاءَ الْأَشْعَثُ، وَعَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُهُمْ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ وَقَعَ وَعَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُهُمْ، فَلَعَلَّ الْأَشْعَثَ تَشَاغَلَ بِشَيْءٍ فَلَمْ يُدْرِكْ تَحْدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ عَمَّا حَدَّثَهُمْ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالُوا كَذَا وَكَذَا) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ فَحَدَّثْنَاهُ وَبَيَّنَ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ الَّذِي حَدَّثَهُ بِمَا حَدَّثَهُمْ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ أَبُو وَائِلٍ الرَّاوِي، وَلَفْظُهُ فِي الْأَشْخَاصِ قَالَ: فَلَقِيَنِي الْأَشْعَثُ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ عَبْدُ اللَّهِ الْيَوْمَ؟ قُلْتُ: كَذَا وَكَذَا وَلَيْسَ بَيْنَ قَوْلِهِ فَلَقِيَنِي، وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ مُنَافَاةٌ، وَإِنَّمَا انْفَرَدَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِكَوْنِهِ الْمُجِيبَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ فِيَّ أُنْزِلَتْ) رِوَايَةُ جَرِيرٍ قَالَ: فَقَالَ: صَدَقَ، لَفِيَّ وَاللَّهِ أُنْزِلَتْ وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ دَخَلْتْ عَلَى فِيَّ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبِ خُصُومَتِهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ وَزَادَ جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ صَدَقَ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: لَفِيَّ وَاللَّهِ نَزَلَتْ شَاهِدٌ عَلَى جَوَازِ تَوَسُّطِ الْقَسَمِ بَيْنَ جُزْأَيِ الْجَوَابِ، وَعَلَى أَنَّ اللَّامَ يَجِبُ وَصْلُهَا بِمَعْمُولَيِ الْفِعْلِ الْجَوَابِيِّ الْمُتَقَدِّمِ لَا بِالْفِعْلِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ لِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ كَانَتْ.
قَوْلُهُ: (بِئْرٌ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ أَرْضٌ وَادَّعَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي الشُّرْبِ أَنَّ أَبَا حَمْزَةَ تَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ: فِي بِئْرٍ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَقَدْ وَافَقَهُ أَبُو عَوَانَةَ كَمَا تَرَى، وَكَذَا يَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَمَنْصُورٍ جَمِيعًا، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْمَاضِيَةِ قَرِيبًا عَنْهُمْ لَكِنْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ وَحْدَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ فِي شَيْءٍ وَلِبَعْضِهِمْ فِي بِئْرٍ وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ شَقِيقٍ أَيْضًا فِي بِئْرٍ.
قَوْلُهُ: (فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ أَنَّ الْخُصُومَةَ كَانَتْ فِي بِئْرٍ يَدَّعِيهَا الْأَشْعَثُ فِي أَرْضٍ لِخَصْمِهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَرْضُ الْبِئْرِ لَا جَمِيعَ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ أَرْضُ الْبِئْرِ وَالْبِئْرُ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِهِ ابْنُ عَمٍّ لِي، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: مِنَ الْيَهُودِ ; لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَمَنِ كَانُوا تَهَوَّدُوا لَمَّا غَلَبَ يُوسُفُ ذُو نُوَاسٍ عَلَى الْيَمَنِ فَطَرَدَ عَنْهَا الْحَبَشَةَ فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ مَبْسُوطًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الشُّرْبِ أَنَّ اسْمَ ابْنِ عَمِّهِ الْمَذْكُورِ الْخَفْشِيشُ بْنُ مَعْدَانَ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ، وَبَيَّنْتُ الْخِلَافَ فِي ضَبْطِ الْخَفْشِيشِ وَأَنَّهُ لَقَبٌ وَاسْمُهُ جَرِيرٌ، وَقِيلَ: مُعَدَّانُ حَكَاهُ ابْنُ طَاهِرٍ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ اسْمُ وَكَنْيَتُهُ أَبُو الْخَيْرِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْأَشْعَثِ قَالَ: خَاصَمَ رَجُلٌ مِنَ الْحَضْرَمِيِّينَ رَجُلًا مِنَّا يُقَالُ لَهُ الْخَفْشِيشُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضٍ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ جِئْ بِشُهُودِكَ عَلَى حَقِّكَ وَإِلَّا حَلَفَ لَكَ الْحَدِيثَ.
قُلْتُ: وَهَذَا يُخَالِفُ السِّيَاقَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا حُمِلَ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: خَاصَمَ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ يُقَالُ لَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ الْكِنْدِيُّ رَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ فِي أَرْضٍ فَذَكَرَ نَحْوَ قِصَّةِ الْأَشْعَثِ، وَفِيهِ: إِنْ مَكَّنْتُهُ مِنَ الْيَمِينِ ذَهَبَتْ أَرْضِي، وَقَالَ: مَنْ حَلَفَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَتَلَا الْآيَةَ، وَمَعْدِ يكَرِبَ جَدُّ الْخَفْشِيشِ وَهُوَ جَدُّ
الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ حَقِيقَةً.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ كُرْدُوسٍ، عَنِ الْأَشْعَثِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ وَرَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضٍ مِنَ الْيَمَنِ فَذَكَرَ قِصَّةً تُشْبِهُ قِصَّةَ الْبَابِ إِلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافًا فِي السِّيَاقِ، وَأَظُنُّهَا قِصَّةً أُخْرَى فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: إِنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لِأَبِي وَإِنَّمَا جَوَّزْتُ التَّعَدُّدَ ; لِأَنَّ الْحَضْرَمِيَّ يُغَايِرُ الْكِنْدِيَّ ; لِأَنَّ الْمُدَّعِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ هُوَ الْأَشْعَثُ وَهُوَ الْكِنْدِيُّ جَزْمًا، وَالْمُدَّعِي فِي حَدِيثِ وَائِلٍ هُوَ الْحَضْرَمِيُّ فَافْتَرَقَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَضْرَمِيُّ: نُسِبَ إِلَى الْبَلَدِ لَا إِلَى الْقَبِيلَةِ فَإِنَّ أَصْلَ نِسْبَةِ الْقَبِيلَةِ كَانَتْ إِلَى الْبَلَدِ، ثُمَّ اشْتُهِرَتِ النِّسْبَةُ إِلَى الْقَبِيلَةِ، فَلَعَلَّ الْكِنْدِيَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانَ يَسْكُنُ حَضْرَمَوْتَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا، وَالْكِنْدِيُّ لَمْ يَسْكُنْهَا فَاسْتَمَرَّ عَلَى نِسْبَتِهِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا الْخَفْشِيشَ فِي الصَّحَابَةِ، وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِقَوْلِهِ فِي الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ قَرِيبًا إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَسْلَمَ.
قُلْتُ: وَتَمَامُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا وَصَفَهُ الْأَشْعَثُ بِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَيُؤَيِّدُ إِسْلَامَهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كُرْدُوسٍ، عَنِ الْأَشْعَثِ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ قَالَ: هِيَ أَرْضُهُ، فَتَرَكَ الْيَمِينَ تَوَرُّعًا، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِإِسْلَامِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَهُودِيًّا مَا بَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَى ذَلِكَ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْهُمْ {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أَيْ حَرَجٌ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ مُسْلِمًا أَيْضًا رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ الْآتِيَةُ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ خَاصَمْتُهُ وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ فَقَالَ لِي: شُهُودُكَ. قُلْتُ: مَا لِي شُهُودٌ. قَالَ: فَيَمِينُهُ وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَلَكَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ وَتَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ تَوْجِيهُ الرَّفْعِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ النَّصْبُ، وَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي لَفْظِ رِوَايَةِ الْبَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْجِيهُ الرَّفْعِ: لَكَ إِقَامَةُ شَاهِدَيْكَ أَوْ طَلَبُ يَمِينِهِ، فَحُذِفَ فِيهِمَا الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامُهُ فَرُفِعَ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ الْمُثْبَتُ لَكَ مَا تَدَّعِيهِ شَاهِدَاكَ، وَتَأْوِيلُهُ الْمُثْبَتُ لَكَ هُوَ شَهَادَةُ شَاهِدَيْكَ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ يَحْلِفُ وَتَقَدَّمَ فِي الشُّرْبِ أَنْ يَحْلِفَ بِالنَّصِّ لِوُجُودِ شَرَائِطِهِ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ الرَّفْعُ وَذَكَرَ فِيهِ تَوْجِيهَ ذَلِكَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ إِذًا يَحْلِفُ وَيَذْهَبُ بِمَالِي وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ وَائِلٍ مِنَ الزِّيَادَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ، قَالَ: إِنَّهُ فَاجِرٌ لَيْسَ يُبَالِي مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ
الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْأَشْعَثِ قَالَ: أَرْضِي أَعْظَمُ شَأْنًا أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: إِنَّ يَمِينَ الْمُسْلِمِ يُدْرَأُ بِهَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ حَلَفَ) فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ سَوَاءً وَزَادَ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ وَقَدْ بَيَّنْتُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي حَمْزَةَ وَغَيْرِهِ، وَزَادَ أَبُو حَمْزَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ أَيْ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ حَدِيثُ مَنْ حَلَفَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَشْعَثِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَسَاقَ الْآيَةَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كُرْدُوسٍ، عَنِ الْأَشْعَثِ فَتَهَيَّأَ الْكِنْدِيُّ لِلْيَمِينِ وَفِي حَدِيثِ وَائِلٍ فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْأَشْعَثِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنْ هُوَ حَلَفَ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ. فَذَهَبَ الْأَشْعَثُ فَأَخْبَرَهُ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: أَصْلِحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، قَالَ: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ: فَقَالَ لَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ: مَا لِمَنْ تَرَكَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي قَدْ تَرَكْتُهَا لَهُ كُلَّهَا وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنْ تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ سَمَاعُ الْحَاكِمِ الدَّعْوَى فِيمَا لَمْ يَرَهُ إِذَا وُصِفَ وَحُدِّدَ وَعَرَفَهُ الْمُتَدَاعِيَانِ، لَكِنْ لَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِوَصْفٍ وَلَا تَحْدِيدٍ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ وَالتَّحْدِيدَ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِذَاتِهِ بَلْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى تَمْيِيزُ الْمُدَّعَى بِهِ تَمْيِيزًا يَنْضَبِطُ بِهِ.
قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ ذِكْرِ التَّحْدِيدِ وَالْوَصْفِ فِي الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ، وَلَا يُسْتَدَلُّ بِسُكُوتِ الرَّاوِي عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَلْ يُطَالَبُ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا بِدَلِيلِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاوِي. وَفِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَسْأَلُ الْمُدَّعِي هَلْ لَهُ بَيِّنَةٌ؟ وَقَدْ تَرْجَمَ بِذَلِكَ فِي الشَّهَادَاتِ وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِمَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مَنْ رَضِيَ بِيَمِينِ غَرِيمِهِ، ثُمَّ أَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ حَلِفِهِ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ إِلَّا إِنْ أَتَى بِعُذْرٍ يَتَوَجَّهُ لَهُ فِي تَرْكِ إِقَامَتِهَا قَبْلَ اسْتِحْلَافِهِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَوَجْهُهُ أَنَّ أَوْ تَقْتَضِي أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ. فَلَوْ جَازَ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ لَكَانَ لَهُ الْأَمْرَانِ مَعًا، وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا أَحَدَهُمَا.
قَالَ: وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ نَفْيُ طَرِيقٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ فَيَعُودُ الْمَعْنَى إِلَى حَصْرِ الْحُجَّةِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَى اعْتِبَارِ مَقَاصِدِ الْكَلَامِ وَفَهْمِهِ يُضْعِفُ هَذَا الْجَوَابَ، قَالَ: وَقَدْ يَسْتَدِلُّ الْحَنَفِيَّةُ بِهِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ.
قُلْتُ: وَالْجَوَابُ عَنْهُ بَعْدَ ثُبُوتِ دَلِيلِ الْعَمَلِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَنَّهَا زِيَادَةٌ صَحِيحَةٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لِثُبُوتِ ذَلِكَ بِالْمَنْطُوقِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ نَفْيُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِالْمَفْهُومِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَوْجِيهِ الْيَمِينِ فِي الدَّعَاوِي كُلِّهَا عَلَى مَنْ لَيْسَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ. وَفِيهِ بِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُبْطِلًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُبِيحُ لِلْإِنْسَانِ مَا لَمْ يَكُنْ حَلَالًا لَهُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ كَذَا أَطْلَقَهُ النَّوَوِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يُحِلُّ حَرَامًا فِي الْبَاطِنِ فِي الْأَمْوَالِ.
قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي حِلِّ عِصْمَةِ نِكَاحِ مَنْ عُقِدَ عَلَيْهَا بِظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَهِيَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْفُرُوجُ كَالْأَمْوَالِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ الْفُرُوجِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ اللِّعَانُ انْتَهَى. وَقَدْ طَرَدَ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ فِي الْأَمْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ التَّشْدِيدُ عَلَى مَنْ حَلَفَ بَاطِلًا لِيَأْخُذَ حَقَّ مُسْلِمٍ، وَهُوَ عِنْدَ الْجَمِيعِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ تَوْبَةٍ صَحِيحَةٍ، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِرَارًا وَآخِرُهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ عَلَيْهِ النَّظَرَ، مَجَازٌ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُهُ، وَالْمُرَادُ بِتَرْكِ التَّزْكِيَةِ تَرْكُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَبِالْغَضَبِ إِيصَالُ الشَّرِّ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ أَوْلَى بِالْمُدَّعَى فِيهِ. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى صُورَةِ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ; لِأَنَّهُ بَدَأَ بِالطَّالِبِ، فَقَالَ: لَيْسَ لَكَ إِلَّا يَمِينُ الْآخَرِ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ، بَلْ إِنَّمَا جَعَلَ الْيَمِينَ تَصْرِفُ دَعْوَى الْمُدَّعِي لَا غَيْرُ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إِذَا حَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْكُمَ لَهُ بِمِلْكِ الْمُدَّعَى فِيهِ وَلَا بِحِيَازَتِهِ، بَلْ يُقِرُّهُ عَلَى حُكْمِ يَمِينِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا اخْتِلَاطٌ أَوْ يَكُونَا مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِذَلِكَ وَيَلِيقُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُنَا بِالْحَلِفِ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ الدَّعْوَى وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ حَالِهِمَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ قَالَ بِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ مِنْ حَالِهِ مَا أَغْنَاهُ عَنِ السُّؤَالِ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ خَصْمُهُ عَنْهُ: إِنَّهُ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي وَلَا يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ بَرِيئًا مِمَّا قَالَ لَبَادَرَ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، بَلْ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَصْبَ الْمُدَّعَى بِهِ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمِثْلُ ذَلِكَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِيَمِينِهِ فِيهِ عِنْدَهُمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ يَمِينَ الْفَاجِرِ تُسْقِطُ عَنْهُ الدَّعْوَى، وَأَنَّ فُجُورَهُ فِي دِينِهِ لَا يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ وَلَا إِبْطَالَ إِقْرَارِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْيَمِينِ مَعْنًى، وَأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ أَقَرَّ أَنَّ أَصْلَ الْمُدَّعِي لِغَيْرِهِ لَا يُكَلَّفُ لِبَيَانِ وَجْهِ مَصِيرِهِ إِلَيْهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ إِنْكَارُهُ لِذَلِكَ يَعْنِي تَسْلِيمَ الْمَطْلُوبِ لَهُ مَا قَالَ، قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ قُضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنِ الْبَيِّنَةِ دُونَ مَا يَجِبُ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الْيَمِينُ مِنْ تَمَامِ الْحُكْمِ لَهُ لَقَالَ لَهُ: بَيِّنَتُكَ وَيَمِينُكَ عَلَى صِدْقِهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَحْلِفُ مَعَ بَيِّنَتِهِ عَلَى صِدْقِهَا فِيمَا شَهِدَتْ أَنَّ الْحُكْمَ لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ عَلَى حَلِفِهِ بِأَنَّهُ مَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ وَلَا وَهَبَهُ مَثَلًا وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَنْفِيهِ، بَلْ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ الْخَصْمَ اعْتَرَفَ وَسَلَّمَ الْمُدَّعَى بِهِ لِلْمُدَّعِي فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ طَلَبِهِ يَمِينَهُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ لَهُ فَلَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ إِلَّا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَطْ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا الْبُدَاءَةُ بِالسَّمَاعِ مِنَ الطَّالِبِ، ثُمَّ مِنَ الْمَطْلُوبِ هَلْ يُقِرُّ أَوْ يُنْكِرُ، ثُمَّ طَلَبُ الْبَيِّنَةِ مِنَ الطَّالِبِ إِنْ أَنْكَرَ الْمَطْلُوبُ، ثُمَّ تَوْجِيهُ الْيَمِينِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ، وَأَنَّ الطَّالِبَ إِذَا ادَّعَى أَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ فَاعْتَرَفَ اسْتَغْنَى عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّ يَدَ الْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ مِنْ تَسَابٍّ بِخِيَانَةٍ وَفُجُورٍ هَدَرٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَسَبَهُ إِلَى الْغَصْبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِلَى الْفُجُورِ وَعَدَمِ التَّوَقِّي فِي الْأَيْمَانِ فِي حَالِ الْيَهُودِيَّةِ فَلَا يَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ. وَفِيهِ مَوْعِظَةُ الْحَاكِمِ الْمَطْلُوبَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَحْلِفَ بَاطِلًا فَيَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ بِالْمَوْعِظَةِ.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي سُؤَالِ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرَيْنَ صَاحِبَهُ عَنْ مَذْهَبِهِ فَيَقُولُ لَهُ: أَلَكَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ سَأَلَهُ عَنْهُ وَلَا يَقُولُ لَهُ ابْتِدَاءً مَا دَلِيلُكَ عَلَى ذَلِكَ؟ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلطَّالِبِ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ. وَلَمْ يَقُلْ لَهُ قَرِّبْ بَيِّنَتَكَ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْيَمِينِ مَكَانًا يَخْتَصُّ بِهِ لِقَوْلِهِ: فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ وَقَدْ عَهِدَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم الْحَلِفَ عِنْدَ مِنْبَرِهِ، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: كَانَتِ الْمُحَاكَمَةُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ فَانْطَلَقَ الْمَطْلُوبُ لِيَحْلِفَ فَلَمْ يَكُنِ انْطِلَاقُهُ إِلَّا إِلَى الْمِنْبَرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ انْطِلَاقُهُ إِلَى مَوْضِعٍ أَخَصَّ مِنْهُ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَالِفَ يَحْلِفُ قَائِمًا لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَامَ لِيَحْلِفَ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ قَامَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ انْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ وَبِيَدِهِ مَالٌ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَالِكِهِ إِذَا أَثْبَتَهُ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ اخْتِصَاصُهُ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَالُ لِكَافِرٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ وَأَسْلَمَ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ فَإِنَّهُ يُقَرُّ بِيَدِهِ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَزَلَتْ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ، وَأَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا ; لِأَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ كَذَا قَالَ، وَغَايَتُهُ أَنَّهَا دَلَالَةُ اقْتِرَانٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالسِّرْجِينِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَكَذَا سَائِرُ الْحُقُوقِ كَنَصِيبِ الزَّوْجَةِ بِالْقَسْمِ، وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِالْمُسْلِمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ حَقِّ الذِّمِّيِّ بَلْ هُوَ حَرَامٌ أَيْضًا، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ هَذِهِ الْعُقُوبَةُ الْعَظِيمَةُ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ لَكِنْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ حَقِّ الذِّمِّيِّ بَلْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ
لَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِي الْأَمْرِ فِيهِمَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهَا، وَفِي أَخْذِ حَقِّهِمَا بَاطِلًا، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ قَدْرُ الْعُقُوبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا، قَالَ: وَفِيهِ غِلَظُ تَحْرِيمِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْحَقِّ وَكَثِيرِهِ فِي ذَلِكَ، وَكَأَنَّ مُرَادَهُ عَدَمُ الْفَرْقِ فِي غِلَظِ التَّحْرِيمِ لَا فِي مَرَاتِبِ الْغِلَظِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَكَذَا بَيْنَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَثِيرُ الْمَفْسَدَةِ وَحَقِيرُهَا، وَقَدْ وَرَدَ الْوَعِيدُ فِي الْحَالِفِ الْكَاذِبِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ مُطْلَقًا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ الْحَدِيثُ، وَفِيهِ: وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَتِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا.
18 - بَاب الْيَمِينِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَفِي الْمَعْصِيَةِ، وَفِي الْغَضَبِ
6678 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ الْحُمْلَانَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ: انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ: إِنَّ اللَّهَ أَوْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُكُمْ.
6679 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي بَرَاءَتِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَاحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا"
6680 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ "كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"
قَوْلُهُ: (بَابُ الْيَمِينِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَفِي الْمَعْصِيَةِ وَالْغَضَبِ) ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ يُؤْخَذُ مِنْهَا حُكْمُ مَا فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَقَدْ تُؤْخَذُ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا وَلَوْ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ عَلَى غَيْرِ
شَرْطِهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: لَا نَذْرَ وَلَا يَمِينَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَرُوَاتُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي سَنَدِهِ عَلَى عَمْرٍو، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَلَا فِي مَعْصِيَةٍ وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ لَا يَمِينَ فِي غَضَبٍ الْحَدِيثَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِي قِصَّةِ طَلَبِهِمُ الْحُمْلَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، اقْتَصَرَ مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ، وَفِيهِ فَقَالَ: لَا أَحْمِلُكُمْ وَقَدْ سَاقَهُ تَامًّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَفِيهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: فِيمَا لَا يَمْلِكُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ وَقَدْ أَحَلْتُ بِشَرْحِ الْحَدِيثِ عَلَى الْبَابِ الْمَذْكُورِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فَهِمَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ نَحَا بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِجِهَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ قَبْلَ مِلْكِ الْعِصْمَةِ أَوِ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، فَنَقَلَ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِيهِ وَالْحُجَجَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ غَيْرَ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ، فَلَمَّا حَمَلَهُمْ رَاجَعُوهُ فِي يَمِينِهِ فَقَالَ: مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ، فَبَيَّنَ أَنَّ يَمِينَهُ إِنَّمَا انْعَقَدَتْ فِيمَا يَمْلِكُ فَلَوْ حَمَلَهُمْ عَلَى مَا يَمْلِكُ لَحَنِثَ وَكَفَّرَ، وَلَكِنَّهُ حَمَلَهُمْ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُهُ مِلْكًا خَاصًّا، وَهُوَ مَالُ اللَّهِ وَبِهَذَا لَا يَكُونُ قَدْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَقِبَ ذَلِكَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَهُوَ تَأْسِيسُ قَاعِدَةٍ مُبْتَدَأَةٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَلَوْ كُنْتُ حَلَفْتُ ثُمَّ رَأَيْتُ تَرْكَ مَا حَلَفْتُ عَلَيْهِ خَيْرًا مِنْهُ لَأَحْنَثْتُ نَفْسِي وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، قَالَ: وَهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوهُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ ظَنًّا أَنَّهُ يَمْلِكُ حُمْلَانًا فَحَلَفَ لَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى شَيْءٍ يَمْلِكُهُ لِكَوْنِهِ كَانَ حِينَئِذٍ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ فِعْلًا مُعَلَّقًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ مِثْلُ قَوْلِهِ وَاللَّهِ لَإِنْ رَكِبْتَ مَثَلًا هَذَا الْبَعِيرَ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا لِبَعِيرٍ لَا يَمْلِكُهُ أَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ وَرَكِبَهُ حَنِثَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْيَمِينِ عَلَى الْمِلْكِ.
قُلْتُ: وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا بِبَعِيدٍ بَلْ هُوَ أَظْهَرُ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ سَأَلُوا الْحُمْلَانَ فَهِمُوا أَنَّهُ حَلَفَ وَأَنَّهُ فَعَلَ خِلَافَ مَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، فَلِذَلِكَ لَمَّا أَمَرَ لَهُمْ بِالْحُمْلَانِ بَعْدُ قَالُوا تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ وَظَنُّوا أَنَّهُ نَسِيَ حَلِفَهُ الْمَاضِيَ، فَأَجَابَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَنْسَ وَلَكِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ خَيْرٌ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِذَا حَلَفَ فَرَأَى خَيْرًا مِنْ يَمِينِهِ فَعَلَ الَّذِي حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَسَيَأْتِي وَاضِحًا فِي بَابُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَيَأْتِي مَزِيدٌ لِمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ فِي بَابُ النَّذْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
الْحَدِيثُ الثَّانِي ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَحَجَّاجٌ شَيْخُهُ فِي السَّنَدِ الثَّانِي هُوَ ابْنُ الْمِنْهَالِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِطُولِهِ فِي الْمَغَازِي، وَأَوْرَدَ عَنْ حَجَّاجٍ بِهَذَا السَّنَدِ أَيْضًا مِنْهُ قِطْعَةً فِي الشَّهَادَاتِ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِ بَرِيرَةَ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا وَقِطْعَةً فِي الْجِهَادِ فِيمَنْ أَرَادَ سَفَرًا فَأَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَقِطْعَةً فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ مَقْرُونًا أَيْضًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قَوْلِ يَعْقُوبَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} وَقِطْعَةً فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي قِصَّةِ أُمِّ مِسْطَحٍ وَقَوْلِ عَائِشَةَ لَهَا تَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا وَقِطْعَةً فِي التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى وَمَجْمُوعُ مَا أَوْرَدَهُ عَنْهُ لَا يَجِيءُ قَدْرَ عُشْرِ الْحَدِيثِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِتَرْكِ الْيَمِينِ فِي الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُ حَلَفَ أَنْ لَا يَنْفَعَ مِسْطَحًا لِكَلَامِهِ فِي عَائِشَةَ، فَكَانَ حَالِفًا عَلَى تَرْكِ طَاعَةٍ فَنَهَى عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنِ الْحَلِفِ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ عِنْدَ الْحَلِفِ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَضِبَ عَلَى مِسْطَحٍ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ الَّذِي قَالَهُ.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَا مُنَاسَبَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِالْجُزْأَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَاسَهُمَا عَلَى الْغَضَبِ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَفِي الْمَعْصِيَةِ وَفِي شَأْنِ الْمَعْصِيَةِ ; لِأَنَّ الصِّدِّيقَ حَلَفَ بِسَبَبِ إِفْكِ مِسْطَحٍ وَالْإِفْكُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ ; وَكَذَا كُلُّ مَا لَا يَمْلِكُ الشَّخْصُ فَالْحَلِفُ عَلَيْهِ مُوجِبٌ لِلتَّصَرُّفِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَيْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ شَرْعًا انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَبَرٍ فِي الْبَابِ يُطَابِقُ جَمِيعَ مَا فِي التَّرْجَمَةِ. ثُمَّ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ النَّقَلَةِ مِنْ أَصْلِ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ مَاتَ وَفِيهِ مَوَاضِعُ مُبَيَّضَةٌ مِنْ تَرَاجِمَ بِلَا حَدِيثٍ، وَأَحَادِيثَ بِلَا تَرْجَمَةٍ فَأَضَافُوا بَعْضًا إِلَى بَعْضٍ. قُلْتُ: وَهَذَا إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ تَتَّجِهُ الْمُنَاسَبَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَوْجِيهَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ، قَوْلُهُ:(حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَأَيُّوبُ وَهُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَالْقَاسِمُ هُوَ ابْنُ عَاصِمٍ، وَزَهْدَمٌ هُوَ ابْنُ مِضْرَبٍ الْجَرْمِيُّ وَالْجَمِيعُ بَصْرِيُّونَ، وَقَوْلُهُ: فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ مُطَابِقٌ لِبَعْضِ التَّرْجَمَةِ، وَفِي الْقِصَّةِ نَحْوُ مَا فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ طَاعَةٍ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَهُوَ أَنَّ حَلِفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَافَقَ أَنْ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ حَلِفِ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ حَلَفَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ مَا يُنَاسِبُ تَرْجَمَةَ الْيَمِينِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِيَمِينِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى قَطِيعَةِ مِسْطَحٍ وَلَيْسَتْ بِقَطِيعَةٍ بَلْ هِيَ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بِالْقَذْفِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ حَلَفَ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى، فَإِذَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَحْنَثَ نَفْسَهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، فَمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ يَكُونُ أَوْلَى. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأَرَى خَيْرًا مِنْهَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحِنْثَ لِفِعْلِ مَا هُوَ الْأَوْلَى يَقْتَضِي الْحِنْثَ لِتَرْكِ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، قَالَ: وَلِهَذَا يُقْضَى بِحِنْثِ مَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلَهَا انْتَهَى. وَالْقَضَاءُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي بَابُ النَّذْرِ فِي الْمَعْصِيَةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ يَمِينَ الْغَضْبَانِ لَغْوٌ.
19 - بَاب إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ فَصَلَّى أَوْ قَرَأَ أَوْ سَبَّحَ أَوْ كَبَّرَ أَوْ حَمِدَ أَوْ هَلَّلَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ،
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَلِمَةُ التَّقْوَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
6681 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ "قُلْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"
6682 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ"
6683 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى "مَنْ مَاتَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ النَّارَ" وَقُلْتُ أُخْرَى "مَنْ مَاتَ لَا يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ فَصَلَّى أَوْ قَرَأَ أَوْ سَبَّحَ - إِلَى أَنْ قَالَ - فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ) أَيْ إِنْ أَرَادَ إِدْخَالَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ حَنِثَ إِذَا قَرَأَ أَوْ ذَكَرَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِذَا أَطْلَقَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ يَحْنَثُ، وَفَرَّقَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ الْقُرْآنِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ وَيَحْنَثُ بِالذِّكْرِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعُرْفِ يَنْصَرِفُ إِلَى كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ خَارِجَهَا، وَمِنَ الْحُجَّةِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي عِنْدَ مُسْلِمٍ إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقُرَّاءَةُ الْقُرْآنِ فَحَكَمَ لِلذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ حُكْمِ كَلَامِ النَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَعْنَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ هُوَ عَلَى نِيَّتِهِ أَيِ الْعُرْفِيَّةِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ إِلَّا إِنْ نَوَى إِدْخَالَهُ فِي نِيَّتِهِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُ الْإِطْلَاقِ ; قَالَ: وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ لَوْ حَلَفَ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا وَلَا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَصَلَّى خَلْفَهُ فَسَلَّمَ الْإِمَامُ وَسَلَّمَ الْمَأْمُومُ التَّسْلِيمَةَ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا مِنَ الصَّلَاةِ فَلَا يَحْنَثُ بِهَا جَزْمًا بِخِلَافِ التَّسْلِيمَةِ الَّتِي يَرُدُّ بِهَا عَلَى الْإِمَامِ فَلَا يَحْنَثُ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَنْوِيهِ النَّاسُ عُرْفًا، وَفِيهِ الْخِلَافُ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَيَأْتِي نَظِيرُهُ عِنْدَنَا فِي التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا كَانَ مَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَحْنَثُ إِلَّا إِنْ قَصَدَ الرَّدَّ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَرْبَعٌ سُبْحَانَ اللَّهِ إِلَخْ) هَذَا مِنَ الْأَحَادِيث الَّتِي لَمْ يَصِلْهَا الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ضِرَارِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ لَكِنْ بِلَفْظِ أَحَبُّ بَدَلَ أَفْضَلَ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ بِلَفْظِ أَفْضَلَ وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهَا ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: خَيْرِ الْكَلَامِ أَرْبَعٌ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ فَذَكَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَأَبْهَمَ الصَّحَابِيَّ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ السَّلُولِيِّ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ مِنْ قَوْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ فِي بَابُ فَضْلِ التَّسْبِيحِ مِنْ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} هَذَا طَرَفٌ ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ، وَقَدْ شَرَحْتُهُ بِطُولِهِ فِي أَوَّلِ الصَّحِيحِ وَفِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ وَمِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِي الْبَابِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ وَإِطْلَاقَ كَلِمَةٍ عَلَى مِثْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَلِمَةُ التَّقْوَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا مَوْقُوفًا عَلَى مُجَاهِدٍ، وَقَدْ جَاءَ مَرْفُوعًا مِنْ أَحَادِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، وَابْنُ عُمَرَ أَخْرَجَهَا كُلَّهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَحَدِيثُ أُبَيٍّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا زُرْعَةَ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُرَيْقِيُّ فِي جُزْئِهِ الْمَشْهُورِ مَوْقُوفًا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:
حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ وَشَرْحِهِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ، وَأَصْلُهُ
أُحَاجِجُ، وَالْمُرَادُ أُظْهِرُ لَكَ بِهَا الْحُجَّةَ.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الدَّعَوَاتِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي آخِرِ الْكِتَابِ.
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى الْحَدِيثَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَذَكَرْتُ مَا وَقَعَ لِلنَّوَوِيِّ فِيهِ، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ الْكَلِمَةِ الْمَرْفُوعَةِ مِنَ الْكَلِمَةِ الْمَوْقُوفَةِ ; قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْمُتَّجِهُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ مَاتَ لَا يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا لَا يَدْخُلُ النَّارَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ دُخُولُ الْجَنَّةِ مُحَقَّقًا لِلْمُوَحِّدِ جَزَمَ بِهِ وَلَوْ كَانَ آخِرًا.
20 - بَاب مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ شَهْرًا، وَكَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ
6684 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ.
قَوْلُهُ بَابُ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ شَهْرًا وَكَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، أَيْ: ثُمَّ دَخَلَ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ، هَذَا يُتَصَوَّرُ إِذَا وَقَعَ الْحَلِفُ أَوَّلَ جُزْءٍ مِنَ الشَّهْرِ اتِّفَاقًا، فَإِنْ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ وَنَقَصَ، هَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يُلَفِّقَ ثَلَاثِينَ أَوْ يَكْتَفِيَ بِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ؟ فَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِالثَّانِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي آخِرِ شَرْحِ حَدِيثِ عُمَرَ الطَّوِيلِ فِي آخِرِ النِّكَاحِ، وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِيلَاءِ وَعَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ فِي بَابِ الْإِيلَاءِ، وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لِلْجُمْهُورِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَاضِي فِي الصِّيَامِ بِلَفْظِ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِذَا غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ. قَالَ: فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إِذَا أُغْمِيَ ثَلَاثِينَ وَجَعَلَهُ عَلَى الْكَمَالِ حَتَّى يَرَوُا الْهِلَالَ قَبْلَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَهَذَا إِنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ يَمِينُهُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ الَّذِي حَلَفَ فِيهِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ، وَقَدْ نَقَلَ هُوَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ قَوْمٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ فَإِنَّمَا يَصْلُحُ تَعَقُّبُهُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، وَإِنَّمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُ قَالَ حِينَ هَجَرَنَا لَأَهْجُرَنَّكُنَّ شَهْرًا، ثُمَّ جَاءَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: إِنَّ شَهْرَنَا هَذَا كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: يُعْرَفُ بِذَلِكَ أَنَّ يَمِينَهُ كَانَتْ مَعَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
21 - بَاب إِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ نَبِيذًا فَشَرِبَ طِلَاءً أَوْ سَكَرًا أَوْ عَصِيرًا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَنْبِذَةٍ عِنْدَهُ
6685 -
حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، سَمِعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي حَازِمٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَسَ فَدَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِعُرْسِهِ، فَكَانَتْ الْعَرُوسُ خَادِمَهُمْ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: هَلْ تَدْرُونَ مَا سَقَتْهُ؟ قَالَ: أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِي تَوْرٍ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ.
6686 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا.
قَوْلُهُ: بَابُ إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ نَبِيذًا فَشَرِبَ طِلَاءً) فِي رِوَايَةٍ: الطِّلَاءَ بِزِيَادَةِ لَامٍ
قَوْلُهُ: أَوْ سَكَرًا بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ
قَوْلُهُ: أَوْ عَصِيرًا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَنْبِذَةٍ عِنْدَهُ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَلَيْسَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الطِّلَاءِ وَالسَّكَرِ وَالنَّبِيذِ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ النَّبِيذَ بِعَيْنِهِ لَا يَحْنَثُ بِشُرْبِ غَيْرِهِ، وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ نَبِيذًا لِمَا يَخْشَى مِنَ السُّكْرِ بِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِكُلِّ مَا يَشْرَبُهُ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ؛ فَإِنَّ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ مِنَ الطَّبِيخِ وَالْعَصِيرِ تُسَمَّى نَبِيذًا لِمُشَابَهَتِهَا لَهُ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ شَرَابًا وَأَطْلَقَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِكُلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَرَابٍ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِبَعْضِ النَّاسِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الطِّلَاءَ وَالْعَصِيرَ لَيْسَ بِنَبِيذٍ ; لِأَنَّ النَّبِيذَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا نُبِذَ فِي الْمَاءِ وَنُقِعَ فِيهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَنْبُوذُ مَنْبُوذًا ; لِأَنَّهُ نُبِذَ أَيْ طُرِحَ، فَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ وَتَوْجِيهُهُ مِنْ حَدِيثَيِ الْبَابِ أَنَّ حَدِيثَ سَهْلٍ يَقْتَضِي تَسْمِيَةَ مَا قَرُبَ عَهْدُهُ بِالِانْتِبَاذِ نَبِيذًا، وَإِنْ حَلَّ شُرْبُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنْبَذُ لَهُ لَيْلًا فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً، وَيُنْبَذُ لَهُ غُدْوَةً فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً، وَحَدِيثُ سَوْدَةَ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُمْ صَارُوا يَنْتَبِذُونَ فِي جِلْدِ الشَّاةِ الَّتِي مَاتَتْ، وَمَا كَانُوا يَنْبِذُونَ إِلَّا مَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمَ نَبِيذٍ، فَالنَّقِيعُ فِي حُكْمِ النَّبِيذِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ السُّكْرِ وَالْعَصِيرُ مِنَ الْعِنَبِ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ السُّكْرِ فِي مَعْنَى النَّبِيذِ مِنَ التَّمْرِ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ السُّكْرِ، وَزَعَمَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ أَنَّ الشَّارِحَ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَقْصُودِ الْبُخَارِيِّ هُنَا، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ تَصْوِيبَ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: لَمْ يَحْنَثْ وَلَا يَضُرُّهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فِي قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ خِلَافَهُ لَتَرْجَمَ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ، وكَيْفَ يُتَرْجِمُ عَلَى وَفْقِ مَذْهَبٍ ثُمَّ يُخَالِفُهُ انْتَهَى. وَالَّذِي فَهِمَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَوْجَهُ وَأَقْرَبُ إِلَى مُرَادِ الْبُخَارِيِّ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ نَبِيذًا يَحْنَثُ بِهِ إِلَّا إِنْ نَوَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ، وَالطِّلَاءُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَطْبُوخِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهَذَا قَدْ يَنْعَقِدُ فَيَكُونُ دِبْسًا وَرُبًّا فَلَا يُسَمَّى نَبِيذًا أَصْلًا، وَقَدْ يَسْتَمِرُّ مَائِعًا وَيُسْكِرُ كَثِيرُهُ، فَيُسَمَّى فِي الْعُرْفِ نَبِيذًا، بَلْ نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ التِّينِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الطِّلَاءَ جِنْسٌ مِنَ الشَّرَابِ، وَعَنِ ابْنِ فَارِسٍ أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، وَكَذَلِكَ السَّكَرُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَصِيرِ قَبْلَ أَنْ يَتَخَمَّرَ، وَقِيلَ: هُوَ مَا أَسْكَرَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَنَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ وَالْعَصِيرِ مَا يُعْصَرُ مِنَ الْعِنَبِ، فَيُسَمَّى بِذَلِكَ وَلَوْ تَخَمَّرَ. وَقَدْ مَضَى شَرْحُ حَدِيثِ سَهْلٍ فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ، وَعَلِيٌّ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَوْدَةَ فَهِيَ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْعَامِرِيَّةُ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ الْقُرَشِيَّةِ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَدَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ
قَوْلُهُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ
قَوْلُهُ: فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالْمُهْمَلَةِ، أَيْ: جِلْدَهَا
قَوْلُهُ: حَتَّى صَارَ شَنًّا، بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، أَيْ: بَالِيًا، وَالشَّنَّةُ الْقِرْبَةُ الْعَتِيقَةُ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا فِي دِبَاغِ جِلْدِ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ غَيْرَ هَذَا، وَأَشَارَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ لِرِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ الَّتِي فِي الْبَابِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا حَدِيثَانِ مُتَغَايِرَانِ فِي السِّيَاقِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِوَايَةِ مُغِيرَةَ هَذِهِ تُوَافِقُ لَفْظَ
رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِغَيْرِ ذِكْرِ مَيْمُونَةَ، وَلَا ذَكَرَ الدِّبَاغَ فِيهِ، وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِي حَدِيثِ سَوْدَةَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الزُّهْدَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْخُرُوجِ عَنْ جَمِيعِ مَا يُتَمَلَّكُ ; لِأَنَّ مَوْتَ الشَّاةِ يَتَضَمَّنُ سَبْقَ مِلْكِهَا وَاقْتِنَائِهَا، وَفِيهِ جَوَازُ تَنْمِيَةِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا جِلْدَ الْمَيْتَةِ فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَطْرُوحًا، وَفِيهِ جَوَازُ تَنَاوُلِ مَا يَهْضِمُ الطَّعَامَ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِانْتِبَاذُ، وَفِيهِ إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَالِكِ، وَإِنْ بَاشَرَهُ غَيْرُهُ كَالْخَادِمِ، اهـ. مُلَخَّصًا
22 - بَاب إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْتَدِمَ فَأَكَلَ تَمْرًا بِخُبْزٍ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْأُدْمِ
6687 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ بِهَذَا.
6688 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ "سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَتْ نَعَمْ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبْتُ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أأَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ" فَقُلْتُ نَعَمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِمَنْ مَعَهُ "قُومُوا فَانْطَلَقُوا" وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو طَلْحَةَ حَتَّى دَخَلَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ" فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا"
قَوْلُهُ: بَابُ إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْتَدِمَ فَأَكَلَ تَمْرًا بِخُبْزٍ)، أَيْ: هَلْ يَكُونُ مُؤْتَدِمًا فَيَحْنَثُ أَمْ لَا؟
قَوْلُهُ: وَمَا يَكُونُ مِنْهُ الْأُدْمُ، هِيَ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ: وَبَابُ بَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِائْتِدَامُ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:
حَدِيثُ عَائِشَةَ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مَضَى فِي الْأَطْعِمَةِ بِتَمَامِهِ، وَكَذَا التَّعْلِيقُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ مَضَى ذِكْرُ مَنْ وَصَلَهُ عَنْهُ. وَعَابِسٌ بِمُهْمَلَةٍ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ، وَقَوْلُهُ
فِي آخِرِهِ: قَالَ لِعَائِشَةَ بِهَذَا. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَيْ رَوَى عَنْهَا، أَوْ قَالَ لَهَا مُسْتَفْهِمًا: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَالْوَاقِعُ خِلَافُ هَذَا التَّقْدِيرِ ; وَهُوَ بَيِّنٌ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ عَابِسًا قَالَ لِعَائِشَةَ: أَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي آخِرِهِ: مَا شَبِعَ إِلَخْ، وَالنُّكْتَةُ فِي إِيرَادِهِ طَرِيقَ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ عَابِسًا لَقِيَ عَائِشَةَ وَسَأَلَهَا لِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ فِي الْعَنْعَنَةِ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنَ الِانْقِطَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.
قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا.
وَالثَّانِي حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أَقْرَاصِ الشَّعِيرِ وَأَكْلِ الْقَوْمِ وَهُمْ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا حَتَّى شَبِعُوا، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَالْقَصْدُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَأَمَرَ بِالْخُبْزِ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عَكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ، أَيْ: خَلَطَتْ مَا حَصَلَ مِنَ السَّمْنِ بِالْخُبْزِ الْمَفْتُوتِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ: مَقْصُودُ الْبُخَارِيِّ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ: ائْتَدَمَ إِلَّا إِذَا أَكَلَ بِمَا اصْطَبَغَ بِهِ، قَالَ: وَمُنَاسَبَتُهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّهَا أَرَادَتْ نَفْيَ الْإِدَامِ مُطْلَقًا بِقَرِينَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ شَظَفِ عَيْشِهِمْ، فَدَخَلَ فِيهِ التَّمْرُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ التَّمْرَ لَمَّا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَهُمْ وَهُوَ غَالِبُ أَقْوَاتِهِمْ وَكَانُوا شَبَاعَى مِنْهُ عُلِمَ أَنَّ أَكْلَ الْخُبْزِ بِهِ لَيْسَ ائْتِدَامًا، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَهُوَ لَفْظُ الْمَأْدُومِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا عَلَى شَرْطِهِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْ تَصَرُّفِ النَّقَلَةِ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ مُبَايِنٌ لِمُرَادِ الْبُخَارِيِّ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ، لَكِنْ بِأَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَالثَّالِثُ بَعِيدٌ جِدًّا.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَأَمَّا قِصَّةُ أُمُّ سُلَيْمٍ فَظَاهِرَةُ الْمُنَاسَبَةِ ; لِأَنَّ السَّمِنَ الْيَسِيرَ الَّذِي فَضَلَ فِي قَعْرِ الْعَكَّةِ لَا يُصْطَبَغُ بِهِ الْأَقْرَاصُ الَّتِي فَتَّتْهَا، وَإِنَّمَا غَابتُهُ أَنْ يَصِيرَ فِي الْخُبْزِ مِنْ طَعْمِ السَّمْنِ فَأَشْبَهَ مَا إِذَا خَالَطَ التَّمْرَ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُسَمَّى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِدَامًا، فَإِنَّ الْحَالِفَ أَنْ لَا يَأْتَدِمَ يَحْنَثُ إِذَا أَكَلَهُ مَعَ الْخُبْزِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، سَوَاءً كَانَ يُصْطَبَغُ بِهِ أَمْ لَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْنَثُ إِذَا ائْتَدَمَ بِالْجُبْنِ وَالْبَيْضِ، وَخَالَفَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ مِمَّا الْغَالِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَاللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ وَالْجُبْنِ أُدْمٌ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ يَحْنَثُ بِكُلِّ مَا هُوَ عِنْدَ الْحَالِفِ أُدْمٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ عَادَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى الْمِلْحَ جَرِيشًا كَانَ أَوْ مُطَيَّبًا
(تَنْبِيهٌ): مِنْ حُجَّةِ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بُرَيْدَةَ: فَدَعَا بِالْغَدَاءِ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَإِدَامٍ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي مَكَانِهِ، وَتَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَطْعِمَةِ: بَابُ الْأُدْمُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْبَيْتِ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالِائْتِدَامِ بِهِ يُسَمَّى أُدْمًا مَائِعًا كَانَ أَوْ جَامِدًا. وَكَذَا حَدِيثُ: تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، وَإِدَامُهُمْ زَائِدَةُ كَبِدِ الْحُوتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَفِي خُصُوصِ الْيَمِينِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّرْجَمَةِ حَدِيثُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ كِسْرَةً مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ، فَوَضَعَ عَلَيْهَا تَمْرَةً، وَقَالَ: هَذِهِ إِدَامُ هَذِهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ. قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ خُبْزًا بِلَحْمٍ مَشْوِيٍّ أَنَّهُ ائْتَدَمَ بِهِ، فَلَوْ قَالَ: أَكَلْتُ خُبْزًا بِلَا إِدَامٍ كَذَبَ، وَإِنْ قَالَ: أَكَلْتُ خُبْزًا بِإِدَامٍ صَدَقَ، وَأَمَّا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ: الْإِدَامُ اسْمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُسْتَهْلَكَ الْخُبْزَ فِيهِ بِحَيْثُ يَكُونُ تَابِعًا لَهُ، بِأَنْ تَتَدَاخَلَ أَجْزَاؤُهُ فِي أَجْزَائِهِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَا يُصْطَبَغُ بِهِ، فَقَدْ أَجَابَ مَنْ خَالَفَهُمْ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ دَعْوَى التَّدَاخُلِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّنَاوُلِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْجَمْعُ ثُمَّ الِاسْتِهْلَاكُ بِالْأَكْلِ فَيَتَدَاخَلَانِ حِينَئِذٍ
23 - بَاب النِّيَّةِ فِي الْأَيْمَانِ
6689 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: بَابُ النِّيَّةِ فِي الْأَيْمَانِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ لِلْجَمِيعِ وَحَكَى الْكَرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ مَذْهَبَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ، قُلْتُ: وَقَرِينَةُ تَرْجَمَةِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ كَافِيَةٌ فِي تَوْهِينِ الْكَسْرِ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ التَّيْمِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ الْأَعْمَالِ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْوَحْيِ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْيَمِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَخْصِيصِ الْأَلْفَاظِ بِالنِّيَّةِ زَمَانًا وَمَكَانًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، كَمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارَ زَيْدٍ وَأَرَادَ فِي شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ مَثَلًا أَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ زَيْدًا مَثَلًا، وَأَرَادَ فِي مَنْزِلِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يَحْنَثُ إِذَا دَخَلَ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ فِي الْأُولَى، وَلَا إِذَا كَلَّمَهُ فِي دَارٍ أُخْرَى فِي الثَّانِيَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى عَدَدًا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِهِ، وَكَذَا مَنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ بَائِنٌ إِنْ نَوَى ثَلَاثًا بَانَتْ، وَإِنْ نَوَى مَا دُونَهَا وَقَعَ مَا نَوَى رَجْعِيًّا، وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةَ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ لَكِنْ فِيمَا عَدَا حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَهِيَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِالتَّوْرِيَةِ فِي ذَلِكَ إِذَا اقْتَطَعَ بِهَا حَقًّا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا إِذَا تَحَاكَمَا وَمَا فِي غَيْرِ الْمُحَاكَمَةِ، فَقَالَ: الْأَكْثَرُ نِيَّةُ الْحَالِفِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ: نِيَّةُ الْمَحْلُوفِ لَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَنِ ادَّعَى حَقًّا عَلَى رَجُلٍ فَأَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَاهُ الْحَاكِمُ وَلَا تَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ اتِّفَاقًا فَإِنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اسْتِحْلَافِ الْحَاكِمِ نَفَعَتِ التَّوْرِيَةُ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ أَبْطَلَ بِهَا حَقًّا أَثِمَ وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا حَلَفَ بِاللَّهِ فَإِنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوِ الْعَتَاقِ نَفَعَتْهُ التَّوْرِيَةُ وَلَوْ حَلَّفَهُ الْحَاكِمُ ; لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ بِذَلِكَ كَذَا أَطْلَقَ، وَيَنْبَغِي فِيمَا إِذَا كَانَ الْحَاكِمُ يَرَى جَوَازَ التَّحْلِيفِ بِذَلِكَ أَنْ لَا تَنْفَعَهُ التَّوْرِيَةُ
24 - بَاب إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَالتَّوْبَةِ
6690 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ بن مالك، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} فَقَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ.
قَوْلُهُ: بَابُ إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَالتَّوْبَةِ)، كَذَا للْجَمِيعُ إِلَّا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَعِنْدَهُ الْقُرْبَةُ بَدَلُ التَّوْبَةِ، وَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَقَوْلُهُ أَهْدَى أَيْ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ أَوْ جَعَلَهُ هَدِيَّةً لِلْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْبَابُ هُوَ أَوَّلُ أَبْوَابِ النُّذُورِ، وَالنَّذْرُ فِي اللُّغَةِ الْتِزَامُ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَفِي الشَّرْعِ الْتِزَامُ الْمُكَلَّفِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا، وَهُوَ قِسْمَانِ: نَذْرُ تَبَرُّرٍ وَنَذْرُ لَجَاجٍ، وَنَذْرُ التَّبَرُّرِ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ ابْتِدَاءً كَـ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ كَذَا، وَيُلْتَحَقُ بِهِ مَا إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ كَذَا شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيَّ مِنْ شِفَاءِ مَرِيضِي مَثَلًا، وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُهُمُ الِاتِّفَاقَ عَلَى صِحَّتِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ.
وَالثَّانِي: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مُعَلَّقًا بِشَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ إِذَا حَصَلَ لَهُ كَإِنْ قَدِمَ غَائِبِي أَوْ كَفَانِي شَرَّ عَدُوِّي فَعَلَيَّ صَوْمُ كَذَا مَثَلًا. وَالْمُعَلَّقُ لَازِمٌ اتِّفَاقًا وَكَذَا الْمُنَجَّزُ فِي الرَّاجِحِ.
وَنَذْرُ اللَّجَاجِ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُعَلِّقُهُ عَلَى فِعْلِ حَرَامٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، فَلَا يَنْعَقِدُ فِي الرَّاجِحِ إِلَّا إِنْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ أَوْ كَانَ فِي فِعْلِهِ مَشَقَّةٌ فَيَلْزَمُهُ وَيُلْتَحَقُ بِهِ مَا يُعَلِّقُهُ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ.
وَالثَّانِي: مَا يُعَلِّقُهُ عَلَى فِعْلِ خِلَافِ الْأُولَى أَوْ مُبَاحٍ أَوْ تَرْكِ مُسْتَحَبٍّ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ: الْوَفَاءُ أَوْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوِ التَّخَيُّيرُ بَيْنَهُمَا، وَاخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَجَزَمَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي الْجَمِيعِ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا
قَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ)، هُوَ وَالِدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّاوِي عَنْهُ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ سُورَةِ بَرَاءَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ
قَوْلُهُ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ فِي حَدِيثِهِ: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، أَيِ: الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ تَخَلُّفِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ رَفِيقَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِطُولِهِ مَعَ شَرْحِهِ فِي الْمَغَازِي لَكِنْ بِوَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
قَوْلُهُ: فَقَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ، بِنُونٍ وَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ، أَيْ: أَعْرَى مِنْ مَالِي كَمَا يَعْرَى الْإِنْسَانُ إِذَا خَلَعَ ثَوْبَهُ
قَوْلُهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. زَادَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ بِهَذَا السَّنَدِ: فَقُلْتُ: إِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ مَالِي كُلَّهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَدَقَةً، قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَنِصْفَهُ، قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَثُلُثَهُ. قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: وَإِنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي كُلِّهُ صَدَقَةً، قَالَ: يُجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى عَشَرَةِ مَذَاهِبَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الثُّلُثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَنُوزِعَ فِي أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ النَّذْرِ وَلَا بِمَعْنَاهُ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَجَّزَ النَّذْرَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَهُ فَاسْتَأْذَنَ، وَالِانْخِلَاعُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِي صُدُورِ النَّذْرِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّدَ أَمْرَ تَوْبَتِهِ بِالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ: كَانَ الْأَوْلَى لكَعْبٍ أَنْ يَسْتَشِيرَ وَلَا يَسْتَبِدَّ بِرَأْيِهِ، لَكِنْ كَأَنَّهُ قَامَتْ عِنْدَهُ حَالٌ لِفَرَحِهِ بِتَوْبَتِهِ ظَهَرَ لَهُ فِيهَا أَنَّ التَّصَدُّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِي الشُّكْرِ، فَأَوْرَدَ الِاسْتِشَارَةَ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ فِي كَوْنِهِ جَزَمَ بِأَنَّ مِنْ تَوْبَتِهِ أَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ إِلَّا، أَنَّهُ نَجَّزَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَبُتَّ كَعْبٌ الِانْخِلَاعَ بَلِ اسْتَشَارَ هَلْ يَفْعَلُ أَوْ لَا؟ قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَفْهَمَ وَحُذِفَتْ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْكَثِيرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وُجُوبَ الْوَفَاءِ لِمَنِ الْتَزَمَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْقُرْبَةِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مَلِيًّا لَزِمَهُ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ وَوَافَقَهُ ابْنُ وَهْبٍ،
وَزَادَ: وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا يُخْرِجُ قَدْرَ زَكَاةِ مَالِهِ، وَالْأَخِيرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لُبَابَةَ لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ أَصْلًا، وَعَنْ قَتَادَةَ يَلْزَمُ الْغَنِيَّ الْعُشْرُ وَالْمُتَوَسِّطَ السُّبُعُ وَالْمُمْلَقَ الْخُمُسُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُ الْكُلُّ إِلَّا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ، فَكَفَّارَتُهُ يَمِينٌ، وَعَنْ سَحْنُونٍ يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ، وَعَنِ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَجَمَاعَةٍ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ يَلْزَمُهُ الْكُلُّ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمُنَاسَبَةُ حَدِيثِ كَعْبٍ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ مَعْنَى التَّرْجَمَةِ أَنَّ مَنْ أَهْدَى أَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ إِذَا تَابَ مِنْ ذَنْبٍ أَوْ إِذَا نَذَرَ هَلْ يَنْفُذُ ذَلِكَ إِذَا نَجَّزَهُ أَوْ عَلَّقَهُ؟ وَقِصَّةُ كَعْبٍ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّنْجِيزُ، لَكِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ تَنْجِيزٌ كَمَا تَقَرَّرَ، وَإِنَّمَا اسْتَشَارَ فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِإِمْسَاكِ الْبَعْضِ، فَيَكُونُ الْأَوْلَى لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُنَجِّزَ التَّصَدُّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، أَوْ يُعَلِّقَهُ أَنْ يُمْسِكَ بَعْضَهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ نَجَّزَهُ لَمْ يَنْفُذْ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ إِلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ بِجَمِيعِ الْمَالِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَمَنْ كَانَ قَوِيًّا عَلَى ذَلِكَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ لَمْ يُمْنَعْ وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَإِيثَارُ الْأَنْصَارِ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَفِي لَفْظِ: أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي حَدِيثِ كَعْبٍ أَنَّ لِلصَّدَقَةِ أَثَرًا فِي مَحْوِ الذُّنُوبِ، وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَتِ الْكَفَّارَةُ الْمَالِيَّةُ، وَنَازَعَهُ الْفَاكِهَانِيُّ فَقَالَ: التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا وَظَاهِرُ حَالِ كَعْبٍ أَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الشُّكْرِ. قُلْتُ: مُرَادُ الشَّيْخِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ كَعْبٍ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي إِلَخْ أَنَّ لِلصَّدَقَةِ أَثَرًا فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِحُصُولِهَا مَحْوُ الذُّنُوبِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ
25 - بَاب إِذَا حَرَّمَ طَعَامَهُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَقَوْلُهُ: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
6691 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، فَنَزَلَتْ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لِعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، عَنْ هِشَامٍ: وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ، فَلَا تُخْبِرِي بِذَلِكِ أَحَدًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا حَرَّمَ طَعَامًا). فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: طَعَامَهُ، وَهَذَا مِنْ أَمْثِلَةِ نَذْرِ اللَّجَاجِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: طَعَامُ كَذَا أَوْ شَرَابُ كَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ: نَذَرْتُ، أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا آكُلَ كَذَا، أَوْ لَا أَشْرَبَ كَذَا، وَالرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا إِنْ قَرَنَهُ بِحَلِفٍ فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
قَوْلُهُ: وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}. وَزَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ: إِلَى قَوْلِهِ: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَهَلْ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ أَوْ فِي تَحْرِيمِ شُرْبِ الْعَسَلِ، وَإِلَى الثَّانِي أَشَارَ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ سَاقَهُ فِي الْبَابِ. وَيُؤْخَذُ حُكْمُ الطَّعَامِ مِنْ حُكْمِ الشَّرَابِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتُلِفَ فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا يَحِلُّ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَبِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إِلَّا إِنْ حَلَفَ، وَإِلَى تَرْجِيحِ هَذَا الْقَوْلِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِإِيرَادِ الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ: وَقَدْ حَلَفْتُ وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، لَكِنِ اسْتَثْنَى مَالِكٌ الْمَرْأَةَ، فَقَالَ: تَطْلُقُ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْأَمَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتِي عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ فِرَاقٌ الْتَزَمَهُ فَتَطْلُقُ، وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْلِفَ فَإِنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ فَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَمَتُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقَعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِذَا لَمْ يَحْلِفْ إِلَّا إِذَا نَوَى الطَّلَاقَ فَتَطْلُقُ أَوِ الْعِتْقَ فَتُعْتَقُ وَعَنْهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
قَوْلُهُ: وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ جِيءَ عِنْدَهُ بِطَعَامٍ فَتَنَحَّى رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُهُ أَنْ لَا آكُلَهُ، فَقَالَ: إِذَنْ فَكُلْ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: لَا تَعْتَدُوا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ بِمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الْجَرْمِيِّ وَالدَّجَاجِ، وَتِلْكَ رِوَايَةٌ مُخْتَصَرَةٌ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: حَلَفْتُ أَنْ لَا آكُلَهُ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هُوَ الزَّعْفَرَانِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْمِصِّيصِيُّ.
قَوْلُهُ: (زَعَمَ عَطَاءٌ)، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ الْمَذْكُورَةِ فِي آخِرِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: فِي آخِرِ الْبَابِ: فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} - {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} - لِعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ. {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا، قُلْتُ: أَشْكَلَ هَذَا السِّيَاقُ عَلَى بَعْضِ مَنْ لَمْ يُمَارِسْ طَرِيقَةَ الْبُخَارِيِّ فِي الِاخْتِصَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْأَصْلِ عِنْدَهُ بِتَمَامِهِ كَمَا تَقَدَّمَ [فِي التَّفْسِيرِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ]، فَلَمَّا أَرَادَ اخْتِصَارَهُ هُنَا اقْتَصَرَ مِنْهُ عَلَى الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْيَمِينِ مِنَ الْآيَاتِ مُضِيفًا لَهَا تَسْمِيَةَ مَنْ أُبْهِمَ فِيهَا مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ:{إِنْ تَتُوبَا} فَسَّرَهُمَا بِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَلَمَّا ذَكَرَ: أَسَرَّ حَدِيثًا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ: قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ بِلَفْظِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى
قَوْلُهُ: عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ يُوسُفَ وَصَرَّحَ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدِ اخْتَصَرَ هُنَا بَعْضَ السَّنَدِ وَمُرَادُهُ أَنَّ هِشَامًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَالْمَتْنُ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَنْ أَعُودَ، فَزَادَ لَهُ: وَقَدْ حَلَفْتُ فَلَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا
26 - بَاب الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَقَوْلِهِ:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}
6692 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ النَّذْرِ؟ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ.
6693 -
حَدَّثَنَا خَلَادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُرَّةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ "إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ"
6694 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ)، أَيْ: حُكْمُهُ أَوْ فَضْلُهُ
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْوَفَاءَ بِهِ قُرْبَةٌ لِلثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِنَذْرِ الطَّاعَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قَالَ: إِذَا نَذَرُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: النَّذْرُ مِنَ الْعُقُودِ الْمَأْمُورِ بِالْوَفَاءِ بِهَا الْمُثْنَى عَلَى فَاعِلِهَا، وَأَعْلَى أَنْوَاعِهِ مَا كَانَ غَيْرَ مُعَلَّقٍ عَلَى شَيْءٍ كَمَنْ يُعَافَى مِنْ مَرَضٍ، فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ كَذَا أَوْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَلِيهِ الْمُعَلَّقُ عَلَى فِعْلِ طَاعَةٍ، كَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي صُمْتُ كَذَا أَوْ صَلَّيْتُ كَذَا، وَمَا عَدَا هَذَا مِنْ أَنْوَاعِهِ كَنَذْرِ اللَّجَاجِ كَمَنْ يَسْتَثْقِلُ عَبْدَهُ فَيَنْذُرُ أَنْ يُعْتِقَهُ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ صُحْبَتِهِ فَلَا يَقْصِدُ الْقُرْبَةَ بِذَلِكَ، أَوْ يَحْمِلُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَنْذُرُ صَلَاةً كَثِيرَةً أَوْ صَوْمًا مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَيَتَضَرَّرُ بِفِعْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُكْرَهُ، وَقَدْ يَبْلُغُ بَعْضُهُ التَّحْرِيمَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ) هُوَ الْوُحَاظِيُّ بِضَمِّ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ ظَاءٌ مُعْجَمَةٌ.
قَوْلُهُ (سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ.
قَوْلُهُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنِ النَّذْرِ؟ كَذَا فِيهِ، وَكَأَنَّهُ اخْتَصَرَ السُّؤَالَ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْجَوَابِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، مِنْ طَرِيقِ الْمُعَافَى بْنِ سُلَيْمَانَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَا: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَأَتَاهُ مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ كَعْبٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ ابْنِي كَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ بِأَرْضِ فَارِسٍ فَوَقَعَ فِيهَا وَبَاءٌ وَطَاعُونٌ شَدِيدٌ، فَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي، لَئِنْ سَلَّمَ اللَّهُ ابْنِي لَيَمْشِيَنَّ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَدِمَ عَلَيْنَا وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ فَمَا تَقُولُ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَوَلَمْ تُنْهَوْا عَنِ النَّذْرِ؟ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ، وَزَادَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ. وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّمَا نَذَرْتُ أَنْ يَمْشِيَ ابْنِي، فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ: فَقُلْتُ لَهُ: أَتَعْرِفُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لَهُ: اذْهَبْ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَخْبِرْنِي مَا قَالَ لَكَ، قَالَ: فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَالَ لَهُ: امْشِ عَنِ ابْنِكَ. قُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، وَتَرَى ذَلِكَ مَقْبُولًا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى ابْنِكَ دَيْنٌ لَا قَضَاءَ لَهُ فَقَضَيْتَهُ أَكَانَ ذَلِكَ مَقْبُولًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَذَا مِثْلُ هَذَا انْتَهَى.
وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ كُنْيَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي النَّوْعِ السَّادِسِ وَالسِّتِّينَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ مُتَابِعًا لِفُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ بِتَمَامِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يُسَمِّ الرَّجُلَ، وَفِيهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا قَالَ لَهُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ. قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنَّمَا نَذَرْتُ أَنْ يَمْشِيَ ابْنِي وَإِنَّ ابْنِي قَدْ مَاتَ، فَقَالَ لَهُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ، كَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ تُنْهَوْا عَنِ النَّذْرِ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ. قَالَ سَعِيدٌ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسِيَاقُ الْحَاكِمِ نَحْوُهُ وَأَخْصَرُ مِنْهُ
وَقَدْ وَهِمَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ كَمَا تَرَى لَكِنِ اخْتَصَرَ الْقِصَّةَ لِكَوْنِهَا مَوْقُوفَةً. وَهَذَا الْفَرْعُ غَرِيبٌ، وَهُوَ أَنْ يَنْذُرَ عَنْ غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ الْغَيْرَ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا تَعَذَّرَ لَزِمَ النَّاذِرُ.
وَقَدْ كُنْتُ أَسْتَشْكِلُ ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الِابْنَ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَالْتَزَمَ بِهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ أَمَرَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدٌ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِهِ كَمَا يَفْعَلُ سَائِرَ الْقُرَبِ عَنْهُ كَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا عِنْدَهُمَا بِمَا يَقَعُ مِنَ الْوَالِدِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ فَيُعْقَدُ لِوُجُوبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، وَفِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَوَلَمْ تُنْهَوْا عَنِ النَّذْرِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمَرْفُوعَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالنَّهْيِ، لَكِنْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ التَّصْرِيحُ، فَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، وَهُوَ الْهَمْدَانِيُّ بِسُكُونِ الْمِيمِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّذْرِ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنِ النَّذْرِ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ الصَّرِيحَةِ فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: لَا تَنْذُرُوا.
قَوْلُهُ: لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ: لَا يَرُدُّ شَيْئًا. وَهِيَ أَعَمُّ وَنَحْوُهَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا: فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا. وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ: لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَهُ: لَا يُقَرِّبُ مِنِ ابْنِ آدَمَ شَيْئًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ قَدَّرَهُ لَهُ، وَمَعَانِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ مُتَقَارِبَةٌ، وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى تَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنِ النَّذْرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا النَّهْيِ: فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: تَكَرَّرَ النَّهْيُ عَنِ النَّذْرِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِأَمْرِهِ وَتَحْذِيرٌ عَنِ التَّهَاوُنِ بِهِ بَعْدَ إِيجَابِهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الزَّجْرَ عَنْهُ حَتَّى لَا يَفْعَلَ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إِبْطَالُ حُكْمِهِ وَإِسْقَاطُ لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذْ كَانَ بِالنَّهْيِ يَصِيرُ مَعْصِيَةً فَلَا يَلْزَمُ، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجُرُّ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ نَفْعًا وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُمْ ضُرًّا وَلَا يُغَيِّرُ قَضَاءً، فَقَالَ: لَا تَنْذُرُوا عَلَى أَنَّكُمْ تُدْرِكُونَ بِالنَّذْرِ شَيْئًا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ لَكُمْ، أَوْ تَصْرِفُوا بِهِ عَنْكُمْ مَا قَدَّرَهُ عَلَيْكُمْ، فَإِذَا نَذَرْتُمْ فَاخْرُجُوا بِالْوَفَاءِ؛ فَإِنَّ الَّذِي نَذَرْتُمُوهُ لَازِمٌ لَكُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَنَسَبَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ لِلْخَطَّابِيِّ، وَأَصْلُهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ: كَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ: وَجْهُ النَّهْيِ عَنِ النَّذْرِ وَالتَّشْدِيدِ فِيهِ لَيْسَ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَأْثَمًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُوَفَّى بِهِ وَلَا حَمِدَ فَاعِلَهُ، وَلَكِنَّ وَجْهَهُ عِنْدِي تَعْظِيمُ شَأْنِ النَّذْرِ وَتَغْلِيظُ أَمْرِهِ لِئَلَّا يُتَهَاوَنَ بِهِ، فَيُفَرَّطَ فِي الْوَفَاءِ بِهِ وَيُتْرَكَ الْقِيَامُ بِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْحَثِّ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْمَازِرِيُّ بِقَوْلِهِ: ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا إِلَى أَنَّ الْغَرَضَ بِهَذَا الْحَدِيثِ التَّحَفُّظُ فِي النَّذْرِ وَالْحَضُّ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاذِرَ يَأْتِي بِالْقُرْبَةِ مُسْتَثْقِلًا لَهَا لَمَّا صَارَتْ عَلَيْهِ ضَرْبَةَ لَازِبٍ، وَكُلُّ مَلْزُومٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْشَطُ لِلْفِعْلِ نَشَاطَ مُطْلَقِ الِاخْتِيَارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ أَنَّ النَّاذِرَ لَمَّا لَمْ يَنْذُرِ الْقُرْبَةَ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَفْعَلَ لَهُ مَا يُرِيدُ صَارَ كَالْمُعَاوَضَةِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي نِيَّةِ الْمُتَقَرِّبِ. قَالَ: وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنِ ابْنِ آدَمَ شَيْئًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ قَدَّرَهُ لَهُ، وَهَذَا كَالنَّصِّ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ، اهـ. وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ يَعُمُّ أَنْوَاعَ النَّذْرِ، وَالثَّانِي يَخُصُّ نَوْعَ الْمَجَازَاتِ.
وَزَادَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيُقَالُ: إِنَّ الْإِخْبَارَ بِذَلِكَ وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْلَامِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُغَالِبُ الْقَدَرَ، وَلَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِسَبَبِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ اعْتِقَادِ خِلَافِ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي ظَنِّ بَعْضِ الْجَهَلَةِ. قَالَ: وَمُحَصَّلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ مُبَاحٌ إِلَّا إِذَا كَانَ مُؤَبَّدًا لِتَكَرُّرِهِ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتٍ، فَقَدْ يَثْقُلُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَيَفْعَلُهُ بِالتَّكَلُّفِ مِنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ
وَغَيْرِ خَالِصِ النِّيَّةِ فَحِينَئِذٍ يُكْرَهُ. قَالَ: وَهَذَا أَحَدُ مُحْتَمَلَاتِ قَوْلِهِ: لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، أَيْ: إِنَّ عُقْبَاهُ لَا تُحْمَدُ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِخَيْرٍ لَمْ يُقَدَّرْ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ صَدَّرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ كَلَامَهُ فَقَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَأْتِي بِسَبَبِ خَيْرٍ فِي نَفْسِ النَّاذِرِ وَطَبْعِهِ فِي طَلَبِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَحْصُلُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خَيْرٌ وَهُوَ فِعْلُ الطَّاعَةِ الَّتِي نَذَرَهَا، لَكِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْخَيْرِ حُصُولُ غَرَضِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، أَنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ كَمَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَاتُ الْأُخْرَى.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: لَا يَأْتِي، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَا يَأْتِ بِغَيْرِ يَاءٍ وَلَيْسَ بِلَحْنٍ ; لِأَنَّهُ قَدْ سُمِعَ نَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْأَعْلَامِ: هَذَا بَابٌ مِنَ الْعِلْمِ غَرِيبٌ، وَهُوَ أَنْ يُنْهَى عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فُعِلَ كَانَ وَاجِبًا، وَقَدْ ذَكَرَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ - وَنَقَلَهُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ النَّذْرَ مَكْرُوهٌ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَجَزَمَ بِهِ عَنْهُمُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَأَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى الْخِلَافِ عَنْهُمْ وَالْجَزْمِ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ بِالْكَرَاهَةِ، قَالَ: وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَيْسَ طَاعَةً مَحْضَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ خَالِصُ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يَنْفَعَ نَفْسَهُ أَوْ يَدْفَعَ عَنْهَا ضَرَرًا بِمَا الْتَزَمَهُ وَجَزَمَ الْحَنَابِلَةُ بِالْكَرَاهَةِ، وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ فِي أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي صِحَّتِهَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ تَرْجَمَ كَرَاهَةَ النَّذْرِ وَأَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ، كَرِهُوا النَّذْرَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَعْنَى الْكَرَاهَةِ فِي النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ وَفِي الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ نَذَرَ الرَّجُلُ فِي الطَّاعَةِ فَوَفَّى بِهِ فَلَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَيُكْرَهُ لَهُ النَّذْرُ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَفِيهِ إِشْكَالٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّ الْوَسِيلَةَ إِلَى الطَّاعَةِ طَاعَةٌ، كَمَا أَنَّ الْوَسِيلَةَ إِلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، وَالنَّذْرُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً إِلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى الْكَرَاهَةِ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ نَذْرِ الْمُجَازَاةِ، فَحَمَلَ النَّهْيَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ نَذْرِ الِابْتِدَاءِ فَهُوَ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ: الْقِيَاسُ اسْتِحْبَابُهُ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، كَذَا قَالَ، وَنُوزِعَ بِأَنَّ خِلَافَ الْأَوْلَى مَا انْدَرَجَ فِي عُمُومِ نَهْيٍ، وَالْمَكْرُوهُ مَا نُهِيَ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ النَّذْرِ بِخُصُوصِهِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا، وَإِنِّي لَأَتَعَجَّبُ مِمَّنِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ مَعَ ثُبُوتِ الصَّرِيحِ عَنْهُ فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَمِمَّنْ بَنَى عَلَى اسْتِحْبَابِهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنَّذْرِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا؛ لِأَنَّهَا مُنَاجَاةٌ لِلَّهِ فَأَشْبَهَ الدُّعَاءَ، اهـ.
وَإِذَا ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ مُطْلَقًا فَتَرْكُ فِعْلِهِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَوْلَى فَكَيْفَ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ هَؤُلَاءِ نَذْرُ التَّبَرُّرِ الْمَحْضِ بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا أَوْ لَأَفْعَلَنَّهُ عَلَى الْمُجَازَاةِ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ عَلَى مَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ عَدَمُ الْقِيَامِ بِمَا الْتَزَمَهُ، حَكَاهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ، وَلِمَا نَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ كَرَاهَةَ النَّذْرِ وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ الْمُتَوَلِّي بَعْدَهُ وَالْغَزَالِيِّ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَى مَنْ وَفَّى بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْقُرْبَةِ فَيَكُونُ قُرْبَةً، قَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَسَّطَ فَيُقَالُ: الَّذِي دَلَّ الْخَبَرُ عَلَى كَرَاهَتِهِ نَذْرُ الْمُجَازَاةِ، وَأَمَّا نَذْرُ التَّبَرُّرِ فَهُوَ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ ; لِأَنَّ لِلنَّاذِرِ فِيهِ غَرَضًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنْ يُثَابَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، وَهُوَ فَوْقَ ثَوَابِ التَّطَوُّعِ، اهـ.
وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ بِحَمْلِ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَلَى نَذْرِ الْمُجَازَاةِ، فَقَالَ: هَذَا النَّهْيُ مَحَلُّهُ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ فِعْلَ الْقُرْبَةِ الْمَذْكُورَ عَلَى حُصُولِ الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ لَهُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لِمَا صَدَرَ مِنْهُ، بَلْ سَلَكَ فِيهَا مَسْلَكَ الْمُعَارضَةِ، وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْفِ مَرِيضَهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِمَا عَلَّقَهُ
عَلَى شِفَائِهِ، وَهَذِهِ حَالَةُ الْبَخِيلِ، فَإِنَّهُ لَا يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا إِلَّا بِعِوَضٍ عَاجِلٍ يَزِيدُ عَلَى مَا أَخْرَجَ غَالِبًا، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ: إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنِ الْبَخِيلُ يُخْرِجُهُ، قَالَ: وَقَدْ يَنْضَمُّ إِلَى هَذَا اعْتِقَادُ جَاهِلٍ يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ يُوجِبُ حُصُولَ ذَلِكَ الْغَرَضِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَعَهُ ذَلِكَ الْغَرَضَ لِأَجْلِ ذَلِكَ النَّذْرِ، وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا، وَالْحَالَةُ الْأُولَى تُقَارِبُ الْكُفْرَ، وَالثَّانِيَةُ خَطَأٌ صَرِيحٌ. قُلْتُ: بَلْ تَقْرُبُ مِنَ الْكُفْرِ أَيْضًا. ثُمَّ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ حَمْلَ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِي الْخَبَرِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَقَالَ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ، فَيَكُونُ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ مُحَرَّمًا وَالْكَرَاهَةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ، اهـ.
وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ ابْنِ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّذْرِ، فَإِنَّهَا فِي نَذْرِ الْمُجَازَاةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قَالَ: كَانُوا يَنْذُرُونَ طَاعَةَ اللَّهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ أَبْرَارًا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الثَّنَاءَ وَقَعَ فِي غَيْرِ نَذْرِ الْمُجَازَاةِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ رَمَزَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ بِذَلِكَ، وَقَدْ يُشْعِرُ التَّعْبِيرَ بِالْبَخِيلِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مِنَ النَّذْرِ مَا فِيهِ مَالٌ فَيَكُونُ أَخَصَّ مِنَ الْمُجَازَاةِ، لَكِنْ قَدْ يُوصَفُ بِالْبُخْلِ مَنْ تَكَاسَلَ عَنِ الطَّاعَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ. ثُمَّ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الْمُجَازَاةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ - تَعَالَى - فَلْيُطِعْهُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُعَلَّقِ وَغَيْرِهِ، انْتَهَى. وَالِاتِّفَاقُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ الْمُعَلَّقِ نَظَرٌ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ بَابٍ
قوله: وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ الْبَخِيلِ، يَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي بَعْدَ بَيَانِ الْمُرَادِ بِالِاسْتِخْرَاجِ الْمَذْكُورِ
قَوْلُهُ: (مِنَ الْبَخِيلِ كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: مِنَ الشَّحِيحِ. وَكَذَا لِلنَّسَائِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: مِنَ اللَّئِيمِ، وَمَدَارُ الْجَمِيعِ عَلَى مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، فَالِاخْتِلَافُ فِي اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْ مَنْصُورٍ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ ; لِأَنَّ الشُّحَّ أَخَصُّ وَاللُّؤْمَ أَعَمُّ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْبُخْلُ إِمْسَاكُ مَا يُقْتَضَى عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ، وَالشُّحُّ بُخْلٌ مَعَ حِرْصٍ، وَاللُّؤْمُ فِعْلُ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ) ابْنَ آدَمَ بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، وَالنَّذْرُ بِالرَّفْعِ هُوَ الْفَاعِلُ.
قَوْلُهُ: لَمْ أَكُنْ قَدَّرْتُهُ، هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقُدُسِيَّةِ لَكِنْ سَقَطَ مِنْهُ التَّصْرِيحُ بِنِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْعَبْدِ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أُبَيٍّ، وَعُمَرُ، عَنِ الْأَعْرَجِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْقَدَرِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ: لَمْ يَكُنْ قَدَّرْتُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: لَمْ أُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ، وَلَكِنْ يَغْلِبُهُ النَّذْرُ فَأُقَدِّرُ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدَّرْتُهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ قَدَّرَهُ لَهُ، وَكَذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي قَوْلِهِ: فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ، فَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: فَيُسْتَخْرَجُ بِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَالنَّسَائِيِّ، وَعَبْدَةَ: وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ. وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ: وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ، وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَلَكِنَّ النَّذْرَ يُوَافِقُ الْقَدَرَ فَيُخْرِجُ بِذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنِ الْبَخِيلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ.
قَوْلُهُ: وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ، تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابُ إِلْقَاءِ الْعَبْدِ النَّذْرَ إِلَى الْقَدَرِ، وَأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ
مُطَابِقَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: الْقَدَرُ هُوَ الَّذِي يُلْقِيهِ إِلَى النَّذْرِ. قُلْنَا: تَقْدِيرُ النَّذْرِ غَيْرُ تَقْدِيرِ الْإِلْقَاءِ، فَالْأَوَّلُ يُلْجِئُهُ إِلَى النَّذْرِ، وَالنَّذْرُ يُلْجِئُهُ إِلَى الْإِعْطَاءِ.
قَوْلُهُ: (فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ) فِيهِ الْتِفَاتٌ، وَنَسَقُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: فَأَسْتَخْرِجُ لِيُوَافِقَ قَوْلَهُ أَوَّلًا: قَدَّرْتُهُ، وَثَانِيًا: فَيُؤْتِينِي.
قَوْلُهُ: فَيُؤْتِينِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، أَيْ: يُعْطِينِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يُؤْتِنِي بِالْجَزْمِ، وَوُجِّهَتْ بِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَكُنْ، فَجُزِمَتْ بِلَمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: يُؤْتِي فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: فَيُيَسَّرُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُيَسَّرُ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَيُخْرِجُ بِذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنِ الْبَخِيلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ، وَهَذِهِ أَوْضَحُ الرِّوَايَاتِ: قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: عَادَةُ النَّاسِ تَعْلِيقُ النَّذْرِ عَلَى تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، فَنُهِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْبُخَلَاءِ ; إِذِ السَّخِيُّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَرَّبَ بَادَرَ إِلَيْهِ، وَالْبَخِيلُ لَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ يَدِهِ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ يَسْتَوْفِيهِ أَوَّلًا، فَيَلْتَزِمُهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَحْصُلُ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، فَلَا يَسُوقُ إِلَيْهِ خَيْرًا، لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ وَلَا يَرُدُّ عَنْهُ شَرًّا قُضِيَ عَلَيْهِ، لَكِنَّ النَّذْرَ قَدْ يُوَافِقُ الْقَدَرَ، فَيُخْرِجُ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْرِجَهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ النَّاذِرُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يُسْتَخْرَجُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُهُ لَمَا تَمَّ الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِهِ بِالْبُخْلِ مِنْ صُدُورِ النَّذْرِ عَنْهُ ; إِذْ لَوْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْوَفَاءِ لَاسْتَمَرَّ لِبُخْلِهِ عَلَى عَدَمِ الْإِخْرَاجِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الرَّدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ فَظَاهِرُهُ يُعَارِضُ قَوْلَهُ: إِنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَكُونُ سَبَبًا لِدَفْعِ مِيتَةِ السُّوءِ، وَالْأَسْبَابُ مُقَدَّرَةٌ كَالْمُسَبَّبَاتِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الرُّقَى: هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ عُمَرَ: نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ الطِّبِّ وَالتَّدَاوِي. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: النَّذْرُ شَبِيهٌ بِالدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْقَدَرِ أَيْضًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نُهِيَ عَنِ النَّذْرِ وَنُدِبَ إِلَى الدُّعَاءِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ عَاجِلَةٌ وَيَظْهَرُ بِهِ التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ وَالتَّضَرُّعُ لَهُ وَالْخُضُوعُ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ الْعِبَادَةِ إِلَى حِينِ الْحُصُولِ وَتَرْكَ الْعَمَلِ إِلَى حِينِ الضَّرُورَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَبْتَدِئُهُ الْمُكَلَّفَ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ أَفْضَلُ مِمَّا يَلْتَزِمُهُ بِالنَّذْرِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ وَذَمِّ الْبُخْلِ، وَأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتَنَبَ الْمَنْهِيَّاتِ لَا يُعَدُّ بَخِيلًا.
(تَنْبِيهٌ): قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ أَحَادِيثِ الْبَابِ لِتَرْجَمَةِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ قَوْلُهُ: يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُ الْبَخِيلُ مَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِذْ لَوْ أَخْرَجَ مَا يَتَبَرَّعُ بِهِ لَكَانَ جَوَادًا. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: يُؤْخَذُ مَعْنَى التَّرْجَمَةِ مِنْ لَفْظِ: يُسْتَخْرَجُ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَشَارَ إِلَى تَخْصِيصِ النَّذْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِنَذْرِ الْمُعَاوَضَةِ وَاللَّجَاجِ بِدَلِيلِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الثَّنَاءَ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَذْرِ الْقُرْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ بِتَخْصِيصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ النَّذْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
27 - بَاب إِثْمِ مَنْ لَا يَفِي بِالنَّذْرِ
6695 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ، حَدَّثَنَا زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - قَالَ عِمْرَانُ:
لَا أَدْرِي ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلَا يَفُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ".
قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ لَا يَفِي بِالنَّذْرِ)، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ لَفْظُ: إِثْمِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي خَيْرُ الْقُرُونِ، وَفِي سَنَدِهِ أَبُو جَمْرَةَ، وَهُوَ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ، وَاسْمُهُ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ، وَزَهْدَمٌ - بِمُعْجَمَةٍ أَوَّلُهُ وَزْنَ جَعْفَرٍ - ابْنُ مُضَرِّبٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الشَّهَادَاتِ، وَفِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: يَنْذُرُونَ بِكَسْرِ الذَّالِ وَبِضَمِّهَا لُغَتَانِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَفُونَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَلَا يُوفُونَ، وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَفِي أُخْرَى لَهُ كَالْأُولَى، وَهُمَا لُغَتَانِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَلَا يُؤْتَمَنُونَ)، أَيْ: إِنَّهَا خِيَانَةٌ ظَاهِرَةٌ بِحَيْثُ لَا يَأْمَنُهُمْ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَا مُلَخَّصُهُ: سَوَّى بَيْنَ مَنْ يَخُونُ أَمَانَتَهُ، وَمَنْ لَا يَفِي بِنَذْرِهِ، وَالْخِيَانَةُ مَذْمُومَةٌ فَيَكُونُ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مَذْمُومًا، وَبِهَذَا تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ لِلتَّرْجَمَةِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: سَاقَ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ مَسَاقَ الْعَيْبِ وَالْجَائِزُ لَا يُعَابُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
28 - بَاب النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ
6696 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ.
[الحديث 6696 - ظرفه في 6700]
قَوْلُهُ: (بَابُ النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ)، أَيْ: حُكْمُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَابٌ بِالتَّنْوِينِ، وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ: النَّذْرُ فِي الطَّاعَةِ حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ، فَلَا يَكُونُ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ نَذْرًا شَرْعًا.
قَوْلُهُ: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} سَاقَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ أَنْصَارٍ. وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَ الثَّنَاءُ عَلَى فَاعِلِهِ نَذْرُ الطَّاعَةِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ)، هُوَ الْأَيْلِيُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ نَزِيلُ الْمَدِينَةِ، ثِقَةٌ عِنْدَهُمْ مِنْ طَبَقَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْقَاسِمُ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ طَلْحَةَ تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الْقَاسِمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ تَابَعَهُ أَيُّوبُ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَأَشَارَ التِّرْمِذِيُّ إِلَى رِوَايَةِ يَحْيَى وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَلَكِنْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ فَرَجَعَتْ رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى طَلْحَةَ وَرِوَايَةُ يَحْيَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ وَسَلِمَتْ رِوَايَةُ أَيُّوبَ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي رَدِّ دَعْوَى انْفِرَادِ طَلْحَةَ بِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُجَبَّرِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ عَنِ الْقَاسِمِ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ.
قَوْلُهُ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ إِلَخْ، الطَّاعَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ، وَيُتَصَوَّرُ النَّذْرُ فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ بِأَنْ يُؤَقِّتَهُ، كَمَنْ يَنْذُرُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا أَقَّتَهُ، وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ فَيَنْقَلِبُ بِالنَّذْرِ وَاجِبًا وَيَتَقَيَّدُ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ
النَّاذِرُ وَالْخَبَرُ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِوَفَاءِ النَّذْرِ إِذَا كَانَ فِي طَاعَةٍ، وَفِي النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَهَلْ يَجِبُ فِي الثَّانِي كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ سَيَأْتِي بَيَانُهُمَا بَعْدَ بَابَيْنِ، وَيَأْتِي أَيْضًا بَيَانُ الْحُكْمِ فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الْحَدِيثُ وَهُوَ نَذْرُ الْمُبَاحِ، وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الطَّاعَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ: وَاجِبٌ عَيْنًا فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا وَصِفَةً فِيهِ، فَيَنْعَقِدُ كَإِيقَاعِهَا أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَوَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ فَيَنْعَقِدُ، وَمَنْدُوبٌ عِبَادَةً عَيْنًا كَانَ أَوْ كِفَايَةً فَيَنْعَقِدُ، وَمَنْدُوبٌ لَا يُسَمَّى عِبَادَةً كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَزِيَارَةِ الْقَادِمِ فَفِي انْعِقَادِهِ وَجْهَانِ وَالْأَرْجَحُ انْعِقَادُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُهُ فَلَا يُخَصُّ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرِ إِلَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ
29 - بَاب إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ
6697 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ)، أَيْ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ أَوْ لَا؟ وَالْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ جَاهِلِيَّةُ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ حَالُهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَأَصْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقَدْ تَرْجَمَ الطَّحَاوِيُّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَنْ نَذَرَ وَهُوَ مُشْرِكٌ ثُمَّ أَسْلَمَ فَأَوْضَحَ الْمُرَادَ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي نَذْرِ عُمَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ يَعْتَكِفُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْفِ بِنَذْرِكَ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَاسَ الْبُخَارِيُّ الْيَمِينَ عَلَى النَّذْرِ، وَتَرَكَ الْكَلَامَ عَلَى الِاعْتِكَافِ، فَمَنْ نَذَرَ أَوْ حَلَفَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَلَى شَيْءٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ يَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ قِصَّةِ عُمَرَ، قَالَ: وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَذَا قَالَ، وَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ وَجْهٌ لِبَعْضِهِمْ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ وَجُلَّ أَصْحَابِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَلْ يُسْتَحَبُّ، وَكَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: يَجِبُ وَبِهِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْبُخَارِيُّ وَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ.
قُلْتُ: إِنْ وُجِدَ عَنِ الْبُخَارِيِّ التَّصْرِيحُ بِالْوُجُوبِ قُبِلَ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ تَرْجَمَتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ بِوُجُوبِهِ ; لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ لِأَنْ يَقُولَ بِالنَّدْبِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ يُنْدَبُ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ الْقَابِسِيُّ: لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ بَلْ عَلَى جِهَةِ الْمَشُورَةِ، كَذَا قَالَ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ مِنْ آكَدِ الْأُمُورِ فَغَلَّظَ أَمْرَهُ بِأَنْ أَمَرَ عُمَرَ بِالْوَفَاءِ، وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ وَالْكَافِرُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّقَرُّبُ بِالْعِبَادَةِ، وَأَجَابَ عَنْ قِصَّةِ عُمَرَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَهِمَ مِنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمَحَ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا كَانَ نَذَرَهُ، فَأَمَرَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ حِينَئِذٍ طَاعَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَكَانَ ذَلِكَ خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُخَالِفُ هَذَا، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ قَوِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ وَإِلَّا فَلَا
قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، هُوَ الْعُمَرِيُّ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، فَأَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، وَأَوَّلُ حَدِيثِهِ: لَمَّا قَفَلْنَا مِنْ حُنَيْنٍ سَأَلَ عُمَرُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَفَادَ تَعْيِينَ زَمَانِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ الِاخْتِلَافَ عَلَى نَافِعٍ ثُمَّ عَلَى أَيُّوبَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ هُنَاكَ، وَكَذَا ذَكَرْتُ فِيهِ فَوَائِدَ زَوَائِدَ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاقِهِ، وَكَذَلِكَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الِاعْتِكَافِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
وَذَكَرْتُ هُنَاكَ مَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا نَذَرَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ وَعَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اعْتِكَافَ عُمَرَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنِ الصِّيَامِ فِي اللَّيْلِ، وَبَقِيَ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّذْرِ إِذَا صَدَرَ مِنْ شَخْصٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ ثُمَّ أَسْلَمَ هَلْ يَلْزَمُهُ؟ وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ، لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَتَى اعْتَكَفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سُؤَالَهُ كَانَ بَعْدَ قَسْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بِالطَّائِفِ، وَتَقَدَّمَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ مِنَ الزِّيَادَةِ: قَالَ عُمَرُ: فَلَمْ أَعْتَكِفْ حَتَّى كَانَ بَعْدَ حُنَيْنٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَانِي جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ، فَبَيْنَا أَنَا مُعْتَكِفٌ إِذْ سَمِعْتُ تَكْبِيرًا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي مَنِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَوَازِنَ بِإِطْلَاقِ سَبْيِهِمْ، وَفِي الْحَدِيثِ لُزُومُ النَّذْرِ لِلْقُرْبَةِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، أَجَابَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ ذَلِكَ بِمِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا أَرَادَهُ وَنَوَاهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَزِمَهُ، قَالَ: وَكُلُّ عِبَادَةٍ يَنْفَرِدُ بِهَا الْعَبْدُ عَنْ غَيْرِهِ تَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ الْعَازِمَةِ الدَّائِمَةِ، كَالنَّذْرِ فِي الْعِبَادَةِ وَالطَّلَاقِ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ، وَلَمْ يُوَافَقْ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ نَقَلَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ مَعَ الْقَوْلِ أَوِ الشُّرُوعِ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَظَاهِرُ كَلَامِ عُمَرَ مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ بِمَا وَقَعَ مَعَ الِاسْتِخْبَارِ عَنْ حُكْمِهِ هَلْ لَزِمَ أَوْ لَا؟ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ تَجْدِيدِ نِيَّةٍ مِنْهُ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: قِصَّةُ عُمَرَ هِيَ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكَذَا، إِنْ قَدِمَ فُلَانٌ بَعْدَ شَهْرٍ فَمَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ قُدُومِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ فَعَلَهُ فَحَسَنٌ، فَلَمَّا نَذَرَ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِوَفَائِهِ اسْتِحْبَابًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ فِي حَالَةٍ لَا يَنْعَقِدُ فِيهَا. وَنَقَلَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُسْلِمُوا لِأَمْرِ عُمَرَ بِوَفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ فِي الشِّرْكِ، وَنَقَلَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ قَضَاؤُهَا، فَكَيْفَ يُكَلَّفُونَ بِقَضَاءِ مَا لَيْسَ وَاجِبًا بِأَصْلِ الشَّرْعِ؟ قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتٍ، وَقَدْ خَرَجَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ الْكَافِرُ، فَفَاتَ وَقْتُ أَدَائِهِ فَلَمْ يُؤْمَرْ بِقَضَائِهِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُؤَقِّتْ نَذْرَهُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ وَقْتٌ حَتَّى أَسْلَمَ، فَإِيقَاعُهُ لَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ يَكُونُ أَدَاءً لِاتِّسَاعِ ذَلِكَ بِاتِّسَاعِ الْعُمْرِ، قُلْتُ: وَهَذَا الْبَحْثُ يُقَوِّي مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو ثَوْرٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ النَّقْلُ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ فَلَعَلَّهُ كَانَ يَقُولُهُ أَوَّلًا، فَأَخَذَهُ عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ؛ لِاتِّسَاعِ وَقْتِهِ، بِخِلَافِ مَا فَاتَ وَقْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): الْمُرَادُ بِقَوْلِ عُمَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ جَاهِلِيَّةَ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ: الْجَاهِلِيَّةُ فِي كَلَامِهِ زَمَنُ فَتْرَةِ النُّبُوَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَا قَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ نَذَرَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، وَبَيْنَ الْبَعْثَةِ وَإِسْلَامِهِ مُدَّةٌ.
30 - بَاب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ
وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلَاةً بِقُبَاءٍ، فَقَالَ: صَلِّي عَنْهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ
6698 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بن عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ.
6699 -
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ إِنَّ أُخْتِي قَدْ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ)، أَيْ: هَلْ يُقْضَى عَنْهُ أَوْ لَا؟ وَالَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ يَقْتَضِي الْأَوَّلَ، لَكِنْ هَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، خِلَافٌ يَأْتِي بَيَانُهُ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلَاةً بِقُبَاءٍ) يَعْنِي: فَمَاتَتْ، (فَقَالَ: صَلِّي عَنْهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ) وَصَلَهُ مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَيِ: ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمَّتِهِ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ عَنْ جَدَّتِهِ، أَنَّهَا كَانَتْ جَعَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا مَشْيًا إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَمَاتَتْ، وَلَمْ تَقْضِهِ، فَأَفْتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنَتَهَا أَنْ تَمْشِيَ عَنْهَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ مَرَّةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ قَضَى عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: أَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَعْتَكِفَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَمَاتَتْ وَلَمْ تَعْتَكِفْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اعْتَكِفْ عَنْ أُمِّكَ، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُ ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِهِ مَوْقُوفًا، ثُمَّ قَالَ: وَالنَّقْلُ فِي هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُضْطَرِبٌ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ الْإِثْبَاتِ فِي حَقِّ مَنْ مَاتَ وَالنَّفْيِ فِي حَقِّ الْحَيِّ، ثُمَّ وَجَدْتُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بِمَا إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ شَيْءٌ وَاجِبٌ، فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ فَقَالَ: يُصَامُ عَنْهُ النَّذْرُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: صَلِّي عَنْهَا الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ، فَعَدَّ مِنْهَا الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ، فَأَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ مَكْتُوبَةٌ لِلْوَالِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ، فَمَعْنَى: صَلِّي عَنْهَا، أَنَّ صَلَاتَكِ مُكْتَتَبَةٌ لَهَا، وَلَوْ كُنْتِ إِنَّمَا تَنْوِي عَنْ نَفْسِكِ كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِ تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِالْوَلَدِ، وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ ابْنُ وَهْبٍ، وَأَبُو مُصْعَبٍ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَام مَالِكٍ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى ابْنِ بَطَّالٍ حَيْثُ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ لَا فَرْضًا وَلَا سُنَّةً لَا عَنْ حَيٍّ وَلَا عَنْ مَيِّتٍ، وَنُقِلَ عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ لَجَازَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَكَانَ الشَّارِعُ أَحَقَّ بِذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ أَبَوَيْهِ، وَلَمَا نُهِيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِعَمِّهِ، وَلَبَطَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ:{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} انْتَهَى. وَجَمِيعُ مَا قَالَ لَا يَخْفَى وَجْهُ تَعَقُّبِهِ خُصُوصًا مَا ذَكَرَهُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَعُمُومُهَا مَخْصُوصٌ اتِّفَاقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: قَالَ صَلِّي عَلَيْهَا، وُجِّهَ بِأَنَّ عَلَى بِمَعْنَى عَنْ عَلَى رَأْيٍ قَالَ: أَوِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى قُبَاءٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، وَذَكَرْتُ مَنْ قَالَ فِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهِ.
قَوْلُهُ: فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: (فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ)، أَيْ: صَارَ قَضَاءُ الْوَارِثِ مَا عَلَى الْمُوَرِّثِ طَرِيقَةً شَرْعِيَّةً أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَيُونُسَ وَمَعْمَرٍ، وَبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ
رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ، وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِدُونِهَا، وَأَظُنُّهَا مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، وَيَحْتَمِلُ مِنْ شَيْخِهِ، وَفِيهَا تَعَقُّبٌ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْهِجْرَةِ مُنْذُ زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَجَّ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا أَمَرَ بِهِ وَلَا أَذِنَ فِيهِ، فَيُقَالُ لِمَنْ قَلَّدَ، قَدْ بَلَغَ ذَلِكَ غَيْرَهُ ; وَهَذَا الزُّهْرِيُّ مَعْدُودٌ فِي فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ شَيْخُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ ابْنُ حَزْمٍ لِلظَّاهِرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي أَنَّ الْوَارِثَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ النَّذْرِ عَنْ مُوَرِّثِهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُهَيْلٍ فِي اللِّعَانِ لَمَّا فَارَقَهَا الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِهَا، قَالَ: فَكَانَتْ سُنَّةً.
وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ نَذْرِ أُمِّ سَعْدٍ، فَقِيلَ: كَانَ صَوْمًا لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ الْبَطِينُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. الْحَدِيثَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَقِيلَ: كَانَ عِتْقًا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي هَلَكَتْ، فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مَعَ إِرْسَالِهِ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا كَانَتْ نَذَرَتْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: كَانَ نَذْرُهَا صَدَقَةً، وَقَدْ ذَكَرْتُ دَلِيلَهُ مِنَ الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: أَنَّ سَعْدًا خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لِأُمِّهِ: أَوْصِ، قَالَتِ الْمَالُ مَالُ سَعْدٍ ; فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ نَحْوُهُ، وَزَادَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْمَاءُ الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا نَذَرَتْ ذَلِكَ، قَالَ عِيَاضٌ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ نَذْرُهَا فِي الْمَالِ أَوْ مُبْهَمًا. قُلْتُ: بَلْ ظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ كَانَ مُعَيَّنًا عِنْدَ سَعْدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ قَضَاءُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ مَالِيٌّ أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ إِلَّا إِنْ وَقَعَ النَّذْرُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَيَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ، وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا، وَاسْتُدِلَّ لِلْجُمْهُورِ بِقِصَّةِ أُمِّ سَعْدٍ هَذِهِ، وَقَوْلِ الزُّهْرِيِّ: إِنَّهَا صَارَتْ سُنَّةً بَعْدُ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَعْدٌ قَضَاهُ مِنْ تَرِكَتِهَا أَوْ تَبَرَّعَ بِهِ. وَفِيهِ اسْتِفْتَاءُ الْأَعْلَمِ، وَفِيهِ فَضْلُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَالتَّوَصُّلُ إِلَى بَرَاءَةِ مَا فِي ذِمَّتِهِمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي الْأَمْرِ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ: هَلْ يَكُونُ كَالْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ أَوْ لَا؟ فَرَجَّحَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ أَنَّهُ مِثْلُهُ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ غَيْرِهِ أَنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ كَمَا رَجَّحَ جَمَاعَةٌ فِي الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَاقْضِ دَيْنَ اللَّهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ، وَذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي السَّائِلِ أَهُوَ رَجُلٌ كَمَا وَقَعَ هُنَا أَوِ امْرَأَةٌ كَمَا وَقَعَ هُنَاكَ؟ وَأَنَّهُ الرَّاجِحُ وَذَكَرْتُ مَا قِيلَ فِي اسْمِهَا وَأَنَّهَا حَمْنَةُ، وَبَيَّنْتُ أَنَّهَا هِيَ السَّائِلَةُ عَنِ الصِّيَامِ أَيْضًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ
31 - بَاب النَّذْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَفِي مَعْصِيَةٍ
6700 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ.
6701 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ
تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ وَرَآهُ يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ"
وَقَالَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ
6702 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ"
6703 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِي أَنْفِهِ فَقَطَعَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ"
6704 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ" قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَوْلُهُ: (بَابُ النَّذْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكَ وَفِي مَعْصِيَةٍ) وَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ: وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَقَالَ: ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، الْحَدِيثَ. وَحَدِيثَ أَنَسٍ فِي الَّذِي رَآهُ يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ فَنَهَاهُ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الَّذِي طَافَ وَفِي أَنْفِهِ خِزَامَةٌ فَنَهَاهُ، وَحَدِيثَهُ فِي الَّذِي نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَسْتَظِلَّ فَنَهَاهُ، قَالَ: وَلَا مَدْخَلَ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي النَّذْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الصَّوَابَ مَعَ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ تَلَقَّى عَدَمَ لُزُومِ النَّذْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ ; لِأَنَّ نَذْرَهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: بَابُ النَّذْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَفِي الْمَعْصِيَةِ، بَلْ قَالَ: النَّذْرُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، فَأَشَارَ إِلَى انْدِرَاجِ نَذْرِ مَالِ الْغَيْرِ فِي نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ فَتَأَمَّلْهُ، انْتَهَى. وَمَا نَفَاهُ ثَابِتٌ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْبُخَارِيِّ لَكِنْ بِغَيْرِ لَامٍ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَنِ التَّقْرِيرِ الَّذِي قَرَّرَهُ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بَابُ النَّذْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَحُكْمِ النَّذْرِ فِي مَعْصِيَةٍ، فَإِذَا ثَبَتَ نَفْيُ النَّذْرِ فِي الْمَعْصِيَةِ الْتُحِقَ بِهِ النَّذْرُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْمَعْصِيَةَ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الدَّلَالَةُ عَلَى التَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّخْصَ لَا يَمْلِكُ تَعْذِيبَ نَفْسِهِ وَلَا الْتِزَامَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تَلْزَمُهُ حَيْثُ لَا قُرْبَةَ فِيهَا، ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ فَسَّرُوا مَا لَا يَمْلِكُ بِمِثْلِ النَّذْرِ بِإِعْتَاقِ عَبْدِ فُلَانٍ، انْتَهَى.
وَمَا وَجَّهَهُ بِهِ ابْنُ الْمُنِيرِ أَقْرَبُ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَخْصِيصُ مَا لَا يَمْلِكُ بِمَا إِذَا نَذَرَ شَيْئًا مُعَيَّنًا كَعِتْقِ عَبْدِ فُلَانٍ إِذَا مَلَكَهُ، مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا إِذَا نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَيُجَابُ بِأَنَّ دَلِيلَ التَّخْصِيصِ الِاتِّفَاقُ عَلَى انْعِقَادِ النَّذْرِ فِي الْمُبْهَمِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُعَيَّنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ فِي بَابُ مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ بِلَفْظِ: وَلَيْسَ عَلَى
ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُقْتَصِرًا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْحَرَ بِبَوَانَةَ - يَعْنِي مَوْضِعًا وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَبِنُونٍ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ أَسِيرَةً فَهَرَبَتْ عَلَى نَاقَةٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الَّذِينَ أَسَرُوا الْمَرْأَةَ انْتَهَبُوهَا، فَنَذَرَتْ إِنْ سَلِمَتْ أَنْ تَنْحَرَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْحَدِيثَ دُونَ الْقِصَّةِ بِنَحْوِهِ، وَوَقَعَتْ مُطَابِقَةً جَمِيعَ التَّرْجَمَةِ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْمَذْكُورِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلَمَةَ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بِلَفْظِ لَا يَمِينَ عَلَيْكَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، مِثْلَهُ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ وَقَعَ مِنْهُ النَّذْرُ فِي ذَلِكَ: هَلْ تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا، وَعَنْ أَحْمَدَ، وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ: نَعَمْ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ كَالْقَوْلَيْنِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النَّذْرِ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَاخْتِلَافُهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ ; فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فَدَلَّسَهُ بِإِسْقَاطِ اثْنَيْنِ وَحَسَّنَ الظَّنَّ بِسُلَيْمَانَ وَهُوَ عِنْدَ غَيْرِهِ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَصِحُّ، وَلَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَضَعَّفَهُ وَشَوَاهِدُ أُخْرَى ذَكَرْتُهَا آنِفًا، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ نَحْوَهُ، وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عُمُومُ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَقَدْ حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، لَكِنْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ حَدِيثَ عُقْبَةَ بِلَفْظِ: كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ: مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ الْحَدِيثَ.
وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِيهِ: وَمَنْ نَذَرَ فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَشْبَهُ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَحَمَلَهُ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ، لَكِنْ قَالُوا: إِنَّ النَّاذِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ أَوَّلَ الْبَابِ قَرِيبًا، وَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَوْ ثَبَتَتِ الزِّيَادَةُ لَكَانَتْ مُبِيِّنَةً لِمَا أُجْمِلَ فِيهِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا يُحْفَظُ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ قَالَ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ لَمَّا نَذَرَتْ أُخْتُهُ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً لِتُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهَا، فَسَمَّى النَّذْرَ يَمِينًا، وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرِ هُوَ عُقْدَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِالْتِزَامِ شَيْءٍ، وَالْحَالِفُ عَقَدَ يَمِينَهُ بِاللَّهِ مُلْتَزِمًا بِشَيْءٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ النَّذْرَ آكَدُ مِنَ الْيَمِينِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ مَعْصِيَةً فَفَعَلَهَا لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ الْحَالِفِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلْحَنَابِلَةِ وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ الشَّارِعَ نَهَى عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَأَمَرَ بِالْكَفَّارَةِ فَتَعَيَّنَتْ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ لِصِحَّةِ النَّذْرِ فِي الْمُبَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْيَ النَّذْرِ فِي الْمَعْصِيَةِ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ ثَابِتًا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُشْرَعُ فِي الْمُبَاحِ بِمَا
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأَسِكَ بِالدُّفِّ، فَقَالَ:
أَوْفِ بِنَذْرِكِ. وَزَادَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ خُرُوجِهِ فِي غَزْوَةٍ، فَنَذَرَتْ إِنْ رَدَّهُ اللَّهُ - تَعَالَى - سَالِمًا.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهَا فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الْفَرَحِ بِالسَّلَامَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِ النَّذْرِ بِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ لَا يَنْعَقِدُ فِي الْمُبَاحِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَالِثُ أَحَادِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ النَّاذِرَ بِأَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَيَصُومَ وَلَا يُفْطِرَ، بِأَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَيَتَكَلَّمَ وَيَسْتَظِلَّ، وَيَقْعُدَ، فَأَمَرَهُ بِفِعْلِ الطَّاعَةِ وَأَسْقَطَ عَنْهُ الْمُبَاحَ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَيْضًا: إِنَّمَا النَّذْرُ مَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ قِصَّةِ الَّتِي نَذَرَتِ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مِنْ قِسْمِ الْمُبَاحِ مَا قَدْ يَصِيُرُ بِالْقَصْدِ مَنْدُوبًا كَالنَّوْمِ فِي الْقَائِلَةِ لِلتَّقَوِّي عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَأَكْلَةِ السَّحَرِ لِلتَّقَوِّي عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِظْهَارَ الْفَرَحِ بِعَوْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَالِمًا مَعْنًى مَقْصُودٌ يَحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ وَالْخِتَانِ، وَرَجَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ وَتَبِعَهُ فِي الْمِنْهَاجِ الْإِبَاحَةَ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ إِذْنَهُ لَهَا فِي الضَّرْبِ بِالدُّفِّ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، لَا عَلَى خُصُوصِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُشْكَلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلَّا فَلَا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: نَذَرْتِ: حَلَفْتِ، وَالْإِذْنُ فِيهِ لِلْبِرِّ بِفِعْلِ الْمُبَاحِ،
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي آخَرِ الْحَدِيثِ: أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ فَتَرَكَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ. فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ مَا قَالَ ذَلِكَ، لَكِنْ هَذَا بِعَيْنِهِ يُشْكِلُ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ لِكَوْنِهِ نَسَبَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ حَضَرَ لِمَحَبَّتِهِ فِي سَمَاعِ ذَلِكَ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْفِتْنَةِ بِهِ، فَلَمَّا حَضَرَ عُمَرُ فَرَّ مِنْهُ لِعِلْمِهِ بِمُبَادَرَتِهِ إِلَى إِنْكَارِ مِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَحْضُرْ أَصْلًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مِثَالًا لِصُورَةِ مَا صَدَرَ مِنَ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ إِنَّمَا شَرَعَتْ فِي شَيْءٍ أَصْلُهُ مِنَ اللَّهْوِ، فَلَمَّا دَخَلَ عُمَرُ خَشِيَتْ مِنْ مُبَادَرَتِهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ بِخُصُوصِ النَّذْرِ أَوِ الْيَمِينِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهَا، فَشَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَالَهَا بِحَالَةِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يَخَافُ مِنْ حُضُورِ عُمَرَ وَالشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ، وَقَرُبَ مِنْ قِصَّتِهَا قِصَّةُ الْقَيْنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا تُغَنِّيَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَأَنْكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ: أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْلَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِبَاحَةِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْعِيدِ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ.
وَقَالَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ وَهُوَ الثَّانِي مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ فَذَكَرَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ قُبَيْلَ فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ بِتَمَامِهِ، وَأَوَّلُهُ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ، وَقَوْلُهُ: قَالَ الْفَزَارِيُّ، يَعْنِي: مَرْوَانَ بْنَ مُعَاوِيَةَ (عَنْ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ) كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ تَصْرِيحَ حُمَيْدٍ بِالتَّحْدِيثِ، وَقَدْ وَصَلَهُ فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْحَجِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ، عَنِ الْفَزَارِيِّ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ مَنْ رَوَاهُ عَنْ حُمَيْدٍ مُوَافِقًا لِلْفَزَارِيِّ، وَمَنْ رَوَاهُ عَنْ حُمَيْدٍ بِدُونِ ذِكْرِ ثَابِتٍ فِيهِ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: نَدَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ.
الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: لِتَمْشِي وَلْتَرْكَبْ، وَتَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ ثَمَّ، وَوَقَعَ لِلْمِزِّيِّ فِي الْأَطْرَافِ فِيهِ وَهْمٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ فِي الْحَجِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، وَفِي النُّذُورِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَالْمَوْجُودُ فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الطَّرِيقَيْنِ مَعًا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْحَجِّ، وَلَيْسَ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ فِي النُّذُورِ ذِكْرٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّاذِرَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنْ يَرْكَبَ جَزْمًا، وَأَمَرَ أُخْتَ عُقْبَةَ أَنْ تَمْشِيَ، وَأَنْ تَرْكَبَ ; لِأَنَّ النَّاذِرَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ كَانَ شَيْخًا ظَاهِرَ الْعَجْزِ وَأُخْتَ عُقْبَةَ لَمْ تُوصَفْ بِالْعَجْزِ، فَكَأَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَمْشِيَ إِنْ قَدَرَتْ وَتَرْكَبَ إِنْ عَجَزَتْ، وَبِهَذَا تَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ لِلْحَدِيثِ، وَأَوْرَدَ فِي
بَعْضِ طُرُقِهِ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ مَشْيِ أُخْتِكَ فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً.
وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: وَلْتُهْدِ هَدْيًا، وَوَهِمَ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: وَلْتُهْدِ بَدَنَةً، وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عِكْرِمَةَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الْهَدْيِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي حَلَفَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ، وَأنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهَا الْمَشْيُ، فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَمْشِيَ فَمَا أَغْنَى اللَّهَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى أُخْتِكَ، وَمِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، لِتَحُجَّ رَاكِبَةً ثُمَّ لِتُكَفِّرْ يَمِينَهَا، وَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مُرْ أُخْتَكَ فَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَرْكَبْ وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ الْهَدْيُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْكَعْبَةِ حَافِيَةً حَاسِرَةً، وَفِيهِ: لِتَرْكَبْ وَلْتَلْبَسْ وَلْتَصُمْ، وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمِنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ إِذْ بَصُرَ بِخَيَالٍ نَفَرَتْ مِنْهُ الْإِبِلُ، فَإِذَا امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ نَافِضَةٌ شَعْرَهَا، فَقَالَتْ: نَذَرْتُ أَنْ أَحُجَّ مَاشِيَةً عُرْيَانَةً نَافِضَةً شَعْرِي، فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَلْبَسْ ثِيَابَهَا وَلْتُهْرِقْ دَمًا، وَأَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ رَفَعَهُ: إِذَا نَذَرَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَلْيُهْدِ هَدْيًا وَلْيَرْكَبْ، وَفِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ، وَفِي الْحَدِيثِ صِحَّةُ النَّذْرِ بِإِتْيَانِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا لَمْ يَنْوِ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً لَا يَنْعَقِدُ، ثُمَّ إِنْ نَذَرَهُ رَاكِبًا لَزِمَهُ، فَلَوْ مَشَى لَزِمَهُ دَمٌ لِتَرَفُّهِهِ بِتَوَفُّرِ مُؤْنَةِ الرُّكُوبِ، وَإِنْ نَذَرَهُ مَاشِيًا لَزِمَهُ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْعُمْرَةُ أَوِ الْحَجُّ، وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنْ رَكِبَ بِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَلَزِمَهُ دَمٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتُلِفَ هَلْ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ أَوْ شَاةٌ؟ وَإِنْ رَكِبَ بِلَا عُذْرٍ لَزِمَهُ الدَّمُ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَاجِزِ يَرْجِعُ مِنْ قَابِلٍ فَيَمْشِي مَا رَكِبَ إِلَّا إِنْ عَجَزَ مُطْلَقًا فَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ، وَلَيْسَ فِي طُرُقِ حَدِيثِ عُقْبَةَ مَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ
وَمَنْ تَبِعَهُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مُطْلَقًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: زِيَادَةُ الْأَمْرِ بِالْهَدْيِ رُوَاتُهَا ثِقَاتٌ وَلَا تُرَدُّ، وَلَيْسَ سُكُوتُ مَنْ سَكَتَ عَنْهَا بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ حَفِظَهَا وَذَكَرَهَا، قَالَ: وَالتَّمَسُّكُ بِالْحَدِيثِ فِي عَدَمِ إِيجَابِ الرُّجُوعِ ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّ عُمْدَةَ مَالِكٍ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
(تَنْبِيهٌ) يُقَالُ: إِنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هُوَ أَبُو إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي بَعْدَ الْبَابِ، كَذَا نَقَلَهُ مُغَلْطَايْ، عَنِ الْخَطِيبِ وَهُوَ تَرْكِيبٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ آخِرَ الْبَابِ، وَتَغَايُرُ الْقِصَّتَيْنِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُتَكَلَّفَ لِبَيَانِهِ.
وَأَمَّاَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الَّذِي طَافَ بِزِمَامٍ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ فَأَوْرَدَهُ بِعُلُوٍّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَلَفْظُهُ: رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ بِنُزُولٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ: مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِي أَنْفِهِ، فَقَطَعَهَا ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ، وَالْخِزَامَةُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ حَلْقَةٌ مِنْ شَعْرٍ أَوْ وَبَرٍ تُجْعَلُ فِي الْحَاجِزِ الَّذِي بَيْنَ مَنْخِرَيِ الْبَعِيرِ يُشَدُّ فِيهَا الزِّمَامُ لِيَسْهُلَ انْقِيَادُهُ إِذَا كَانَ صَعْبًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابُ الْكَلَامِ فِي الطَّوَافِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَذَكَرْتُ مَا قِيلَ فِي اسْمِ الْقَائِدِ وَالْمَقُودِ، وَوَجْهَ إِدْخَالِهِ فِي أَبْوَابِ النَّذْرِ وَأَنَّهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ نَذَرَ ذَلِكَ،
وَأَنَّ الدَّاوُدِيَّ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَا لَا طَاعَةَ لِلَّهِ فِيهِ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، وَتَعَقُّبَ ابْنِ التِّينِ لَهُ، وَالْجَوَابَ عَنِ الدَّاوُدِيِّ وَتَصْوِيبَهُ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابنِ عَبَّاسٍ أيضًا وهو الحديث الرابع، فَ وُهَيْبٌ فِي سَنَدِهِ هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الَّذِي عَلَّقَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ آخِرَ الْبَابِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهَذَا مَنْ يَرَى أَنَّ الثِّقَاتِ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ يُرَجَّحُ قَوْلُ مَنْ وَصَلَ لِمَا مَعَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ وُهَيْبًا، وَعَبْدَ الْوَهَّابِ ثِقَتَانِ، وَقَدْ وَصَلَهُ وُهَيْبٌ وَأَرْسَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَصَحَّحَهُ الْبُخَارِيُّ مَعَ ذَلِكَ، وَالَّذِي عَرَفْنَاهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ، أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِقَاعِدَةٍ مُطَّرِدَةٍ، بَلْ يَدُورُ مَعَ التَّرْجِيحِ إِلَّا إِنِ اسْتَوَوْا، فَيُقَدِّمُ الْوَصْلَ وَالْوَاقِعُ هُنَا أَنَّ مَنْ وَصَلَهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ أَرْسَلَهُ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَصَلَهُ مَعَ وُهَيْبٍ عَاصِمُ بْنُ هِلَالٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، وَأَرْسَلَهُ مَعَ عَبْدِ الْوَهَّابِ خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ. قُلْتُ: وَخَالِدٌ مُتْقِنٌ، وَفِي عَاصِمٍ، وَالْحَسَنِ مَقَالٌ، فَيَسْتَوِي الطَّرَفَانِ فَيَتَرَجَّحُ الْوَصْلُ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَازْدَادَ قُوَّةً أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْرَائِيلَ.
قَوْلُهُ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، زَادَ الْخَطِيبُ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ
قَوْلُهُ: إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ وُهَيْبٍ: إِذِ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ
قَوْلُهُ: (قَائِمٌ)، زَادَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: فِي الشَّمْسِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى وَفِي رِوَايَةِ طَاوُسٍ: وَأَبُو إِسْرَائِيلَ يُصَلِّي
قَوْلُهُ: (فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ)، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: فَقَالُوا: هُوَ أَبُو إِسْرَائِيلَ، زَادَ الْخَطِيبُ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ
قَوْلُهُ: نَذَرَ أَنْ يَقُومَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ السُّؤَالُ عَنِ اسْمِهِ، فَلِذَلِكَ ذَكَرُوهُ وَزَادُوا فِعْلَهُ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَذَكَرُوهُ وَزَادُوا التَّعْرِيفَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّهُ لَمَّا كَانَ السُّؤَالُ مُحْتَمَلًا ذَكَرُوا الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا
قَوْلُهُ: وَلَا يَسْتَظِلَّ، فِي رِوَايَةِ الْخَطِيبِ: وَيَقُومُ فِي الشَّمْسِ.
قَوْلُهُ: (مُرْهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: مُرُوهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَفِي رِوَايَةِ طَاوُسٍ: لِيَقْعُدْ وَلْيَتَكَلَّمْ، وَأَبُو إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورُ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي كُنْيَتِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، فَقِيلَ: قُشَيْرٌ بِقَافٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ مُصَغَّرٌ، وَقِيلَ: يُسَيْرٌ بِتَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ أَيْضًا، وَقِيلَ: قَيْصَرُ بِاسْمِ مَلِكِ الرُّومِ، وَقِيلَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الصَّادِ، وَقِيلَ: بِغَيْرِ رَاءٍ فِي آخِرِهِ، وَهُوَ قُرَشِيٌّ ثُمَّ عَامِرِيٌّ، وَتَرْجَمَ لَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الصَّحَابَةِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، فَقَالَ: أَبُو إِسْرَائِيلَ الْأَنْصَارِيُّ.
وَاغْتَرَّ بِذَلِكَ الْكَرْمَانِيُّ فَجَزَمَ بِأَنَّهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْمُبَاحِ لَيْسَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: وَلَا صُمْتُ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ، وَتَقَدَّمَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِلْمَرْأَةِ إِنَّ هَذَا - يَعْنِي الصَّمْتَ - مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَتَأَذَّى بِهِ الْإِنْسَانُ وَلَوْ مَآلًا مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ، كَالْمَشْيِ حَافِيًا، وَالْجُلُوسِ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ هُوَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبَا إِسْرَائِيلَ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَتَكَلَّمَ وَيَسْتَظِلَّ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قِصَّةِ أَبِي إِسْرَائِيلَ هَذِهِ أَوْضَحُ الْحُجَجِ لِلْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً أَوْ مَا لَا طَاعَةَ فِيهِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لَمَّا ذَكَرَهُ وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ
32 - بَاب مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا فَوَافَقَ النَّحْرَ أَوْ الْفِطْرَ
6705 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ
أَبِي حُرَّةَ الْأَسْلَمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ لَا يَأْتِيَ عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلَّا صَامَ، فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَقَالَ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ، وَلَا يَرَى صِيَامَهُمَا.
6706 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ "كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثَلَاثَاءَ أَوْ أَرْبِعَاءَ مَا عِشْتُ فَوَافَقْتُ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ وَنُهِينَا أَنْ نَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ مِثْلَهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا)، أَيْ:(مُعَيَّنَةً فَوَافَقَ النَّحْرَ أَوِ الْفِطْرَ)، أَيْ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ، أَوِ الْبَدَلُ أَوِ الْكَفَّارَةُ؟ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمَ النَّحْرِ لَا تَطَوُّعًا وَلَا عَنْ نَذْرٍ سَوَاءٌ عَيَّنَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا بِالنَّذْرِ، أَوْ وَقَعَا مَعًا أَوْ أَحَدُهمَا اتِّفَاقًا، فَلَوْ نَذَرَ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَوْ أَقْدَمَ فَصَامَ وَقَعَ ذَلِكَ عَنْ نَذْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الصِّيَامِ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ الِاخْتِلَافَ فِي تَعْيِينِ الْيَوْمِ الَّذِي نَذَرَهُ الرَّجُلُ، وَهَلْ وَافَقَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ أَوِ النَّحْرِ، وَإنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ مَعَ بَيَانِ الْكَثِيرِ مِنْ طُرُقِهِ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي ثِقَاتِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ كَرِيمَةَ بِنْتِ سِيرِينَ أَنَّهَا سَأَلَتِ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَتْ: جَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ أَصُومَ كُلَّ أَرْبِعَاءَ وَالْيَوْمَ يَوْمُ أَرْبِعَاءَ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَقَالَ أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، فَلَوْلَا تَوَارُدُ الرُّوَاةِ بِأَنَّ السَّائِلَ رَجُلٌ لَفَسَّرْتُ الْمُبْهَمَ بِكَرِيمَةَ، وَلَا سِيَّمَا فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: سُئِلَ - بِضَمِّ أَوَّلِهِ - يَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَ السَّائِلُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ، أَنَّهَا امْرَأَةٌ فَيُفَسَّرُ بِهَا الْمُبْهَمُ فِي رِوَايَةِ حَكِيمٍ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ حَيْثُ قَالَ: فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ وَجَدْتُ الْخَبَرَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ لِيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ
الْقَاضِي، أَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيِّ، وَلَفْظُهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفُضَيْلٌ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ بِالتَّصْغِيرِ، وَحَكِيمٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَأَبُو حُرَّةَ أَبُوهُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّشْدِيدِ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ مُتَابِعًا لِرِوَايَةِ زِيَادَةِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي سِيَاقِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى إِشْعَارٌ بِرُجْحَانِ الْمَنْعِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّ لَفْظَهُ، فَقَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، لَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ، وَلَا يَرَى صِيَامَهُمَا، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي آخِرِهِ، قَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ فَقَالَ: يَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنْ، أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ: وَلَا نَرَى بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ مَقُولِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ الْغَائِبِ، وَفَاعِلُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَقَائِلُهُ حَكِيمٌ، قُلْتُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظِ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَلَا يَوْمَ الْفِطْرِ.
وَلَا يَأْمُرُ بِصِيَامِهِمَا وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ - بِنَاءً عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ - أَنَّ ابْنَ عُمَرَ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَجَزَمَ بِالْمَنْعِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَتَرَدَّدُ. اهـ،
وَلَيْسَ فِيمَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ عُمَرَ أَوَّلًا وَآخِرًا مَا يُصَرِّحُ بِالْمَنْعِ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ بَسَطْتُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي بَابُ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ: يُونُسُ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، وَصَرَّحَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ.
قَوْلُهُ: فَأَعَادَ عَلَيْهِ، زَادَ ابْنُ الْمِنْهَالِ فِي رِوَايَتِهِ: فَخُيِّلَ إِلَى الرَّجُلِ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ ثَانِيَةً.
33 - بَاب هَلْ يَدْخُلُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ الْأَرْضُ وَالْغَنَمُ وَالزُّرُعُ وَالْأَمْتِعَةُ؟
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ
قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا
وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، لِحَائِطٍ لَهُ مُسْتَقْبِلَةِ الْمَسْجِدِ.
6707 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِلَّا الْأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ، يُقَالُ لَهُ: رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا، يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ، فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى وَادِي الْقُرَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِوَادِي الْقُرَى بَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ.
قَوْلُهُ: بَابُ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ الْأَرْضُ وَالْغَنَمُ وَالزَّرْعُ وَالْأَمْتِعَةُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ: الْمَالُ فِي لُغَةِ دَوْسٍ قَبِيلَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ الْعَيْنِ كَالْعُرُوضِ وَالثِّيَابِ، وَعِنْدَ جَمَاعَةٍ الْمَالُ هُوَ الْعَيْنُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ كُلَّ مَا يُتَمَوَّلُ وَيُمْلَكُ فَهُوَ مَالٌ، فَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى رُجْحَانِ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ كَقَوْلِ عُمَرَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ. وَقَوْلِ أَبِي طَلْحَةَ: أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ.
وَقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا وَرِقًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ، وَأَمَّا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْعَرَبُ لَا تُوقِعُ اسْمَ الْمَالِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَّا عَلَى الْإِبِلِ لِشَرَفِهَا عِنْدَهُمْ فَلَا يَدْفَعُ إِطْلَاقَهُمُ الْمَالَ عَلَى غَيْرِ الْإِبِلِ، فَقَدْ أَطْلَقُوهُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ الْإِبِلِ مِنَ الْمَوَاشِي، وَوَقَعَ فِي السِّيرَةِ: فَسَلَكَ فِي الْأَمْوَالِ، يَعْنِي الْحَوَائِطَ، وَنَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُتَمَوَّلُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْأَرِقَّاءُ، وَقِيلَ: الْحَيَوَانُ كُلُّهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: مَا جَاءَكَ مِنَ الرِّزْقِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَتَمَوَّلْهُ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُتَمَوَّلُ، وَالْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ مُخَرَّجَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمُوَطَّأِ، وَحُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ: الْمَالُ كُلُّ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَمَا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمَالٍ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَالُ فِي الْأَصْلِ الْعَيْنُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مَا يُتَمَلَّكُ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ عَلَى مَذَاهِبَ تَقَدَّمَ نَقْلُهَا فِي بَابُ إِذَا أَهْدَى مَالَهُ وَمَنْ قَالَ كَأَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَقَعُ نَذْرُهُ إِلَّا عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَنْ قَالَ كَمَالِكٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَالٍ، قَالَ ابْنُ
بَطَّالٍ: وَأَحَادِيثُ هَذَا الْبَابِ تَشْهَدُ لِقَوْلِ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: مَعْنَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: هَلْ يَدْخُلُ، أَيْ: هَلْ يَصِحُّ الْيَمِينُ أَوِ النَّذْرُ عَلَى الْأَعْيَانِ، مِثْلُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ هَذِهِ الشَّمْلَةَ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا، وَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْأَرْضُ لِلَّهِ وَنَحْوِهُ. قُلْتُ: وَالَّذِي فَهِمَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَوْلَى، فَإِنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِذَا حَلَفَ أَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ اخْتُصَّ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ الزَّكَاةُ دُونَ مَا يَمْلِكُهُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الِاخْتِلَافِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ: يَتَصَدَّقُ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَوَاشِي لَا فِيمَا مَلَكَهُ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ مِنَ الْأَرْضِينَ وَالدُّورِ وَمَتَاعِ الْبَيْتِ وَالرَّقِيقِ وَالْحَمِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا شَيْءٌ، ثُمَّ نَقَلَ بَقِيَّةَ الْمَذَاهِبِ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْتُهُ فِي بَابُ مَنْ أَهْدَى مَالَهُ فَعَلَى هَذَا فَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ مُوَافَقَةُ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّ الْمَالَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُتَمَوَّلُ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ إِنَّمَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى مَا نَوَى أَوْ عَلَى مَا غَلَبَ عَلَى عُرْفِهِ كَمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ أَعْرَابِيٌّ فَإِنَّهُ لَا يُحْمَلُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى الْإِبِلِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِ عُمَرَ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا أَيْضًا هُنَاكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي أَبْوَابِ الْوَقْفِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.
وحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِلَّا الْأَمْوَالَ وَالْمَتَاعَ وَالثِّيَابَ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِابْنِ الْقَاسِمِ، وَالْقَعْنَبِيِّ وَالْمَتَاعُ بِالْعَطْفِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي تَنْزِيلِ ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ دَوْسٍ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْأَمْوَالَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُنْقَطِعًا فَتَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ، كَذَا قَالَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْغَنِيمَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ نَغْنَمْ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَوا غَنِمُوا الْعَيْنَ، وَأَثْبَتَ أَنَّهُمْ غَنِمُوا الْمَالَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَالَ عِنْدَهُ غَيْرُ الْعَيْنِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَقَوْلُهُ: الضُّبَيْبُ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُكَرَّرَةٍ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ، وَمِدْعَمٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ: سَهْمٌ عَائِرٌ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَحْتَانِيَّةٌ لَا يُدْرَى مَنْ رَمَى بِهِ، وَالشِّرَاكُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ كَافٌ مِنْ سُيُورِ النَّعْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ ذَلِكَ بِإِعَانَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
بسم الله الرحمن الرحيم
84 - كِتَاب كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ
1 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}
وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَزَلَتْ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ: أَوْ أَوْ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ، وَقَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ.
6708 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: أَتَيْتُهُ - يَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ادْنُ فَدَنَوْتُ، فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟
قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالنُّسُكُ شَاةٌ وَالْمَسَاكِينُ سِتَّةٌ.
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، كِتَابُ كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: بَابُ، وَلَهُ عَنِ الْمُسْتَمْلِي: كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ، وَسُمِّيَتْ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُكَفِّرُ الذَّنْبَ، أَيْ: تَسْتُرُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلزَّارِعِ كَافِرٌ ; لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْبَذْرَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْكَفَّارَةُ مَا يُعْطِي الْحَانِثُ فِي الْيَمِينِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَهُوَ مِنَ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ سَتْرُ الْفِعْلِ وَتَغْطِيَتُهُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُعْمَلْ، قَالَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ إِزَالَةَ الْكُفْرِ نَحْوَ التَّمْرِيضِ فِي إِزَالَةِ الْمَرَضِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أَيْ: أَزَلْنَاهَا، وَأَصْلُ الْكُفْرِ السَّتْرُ، يُقَالُ: كَفَرَتِ الشَّمْسُ النُّجُومَ: سَتَرَتْهَا، وَيُسَمَّى السَّحَابُ الَّذِي يَسْتُرُ الشَّمْسَ كَافِرًا، وَيُسَمَّى اللَّيْلُ كَافِرًا ; لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ عَنِ الْعُيُونِ، وَتَكَفَّرَ الرَّجُلُ بِالسِّلَاحِ إِذَا تَسَتَّرَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يُرِيدُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ: بِتَعَيُّنِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَوْ أَعْطَى مَا يَجِبُ لِلْعَشَرَةِ وَاحِدًا كَفَى، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَلِمَنْ قَالَ كَذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَنِ الثَّوْرِيِّ مِثْلُهُ، لَكِنْ قَالَ: إِنْ لَمْ يَجِدِ الْعَشَرَةَ.
قَوْلُهُ: (وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَزَلَتْ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الْمَوْصُولِ فِي الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ) يَعْنِي كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَوْ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ) أَمَّا أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ أَوْ نَحْوُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فَهُوَ فِيهِ مُخَيَّرٌ، وَمَا كَانَ:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} فَهُوَ عَلَى الْوَلَاءِ، أَيْ: عَلَى التَّرْتِيبِ، وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ قَوْلِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا أَثَرُ عَطَاءٍ فَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَوْ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُ شَاءَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ نَحْوَهُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ بِلَفْظِ الْأَصْلِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا.
وَأَمَّا أَثَرُ عِكْرِمَةَ فَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَوْ فَلْيَتَخَيَّرْ، أَيَّ: الْكَفَّارَاتِ شَاءَ، فَإِذَا كَانَ:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} فَالْأَوَّلَ الْأَوَّلَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْإِطْعَامِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ بِمُدِّ الشَّارِعِ صلى الله عليه وسلم وَفَرَّقَ مَالِكٌ فِي جِنْسِ الطَّعَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَاعْتَبَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ ; لِأَنَّهُ وَسَطٌ مِنْ عَيْشِهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْصَارِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمْ مَا هُوَ وَسَطٌ مِنْ عَيْشِهِ وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِطْعَامُ نِصْفِ صَاعٍ، وَالْحُجَّةُ لِلْأَوَّلِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فِي كَفَّارَةِ الْمُوَاقِعِ فِي رَمَضَانَ بِإِطْعَامِ مُدٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ كَعْبٍ هُنَا مِنْ أَجْلِ آيَةِ التَّخْيِيرِ فَإِنَّهَا وَرَدَتْ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَمَا وَرَدَتْ فِي كَفَّارَةِ الْأَذَى، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، فَقَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ وَافَقَ الْكُوفِيِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَوْرَدَ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّنْصِيصُ فِي خَبَرِ كَعْبٍ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي قَدْرِ طَعَامِ الْكَفَّارَةِ فَحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
قُلْتُ:
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ كَفَّارَةَ الْمُوَاقِعِ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَرَدَ النَّصُّ فِيهَا بِالتَّرْتِيبِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْأَذَى فَإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهَا بِالتَّخْيِيرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي قَدْرِ الصِّيَامِ بِخِلَافِ الظِّهَارِ، فَكَانَ حَمْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَيْهَا لِمُوَافَقَتِهَا لَهَا فِي التَّخْيِيرِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى كَفَّارَةِ الْمُوَاقِعِ مَعَ مُخَالَفَتِهَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ الْمُنِيرِ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَفَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ النَّاسَ بِذَلِكَ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً ; لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِهِ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَجَازَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنْ تُبَعَّضَ الْخَصْلَةُ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا كَمَنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً وَكَسَاهُمْ أَوْ كَسَا خَمْسَةً غَيْرَهُمْ أَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَةٍ وَأَطْعَمَ خَمْسَةً أَوْ كَسَاهُمْ.
وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَقَدِ احْتَجَّ مِنْ أَلْحَقَهَا بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِأَنَّ شَرْطَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ مُقَيَّدٌ آخَرُ، فَلَمَّا عَارَضَهُ هُنَا وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ أُخِذَ بِالْأَقَلِّ، وَأَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ بِأَنَّهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وُصِفَ بِالْأَوْسَطِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسِ وَأَوْسَطُ مَا يُشْبِعُ الشَّخْصَ رِطْلَانِ مِنَ الْخُبْزِ، وَالْمُدُّ رِطْلٌ وَثُلُثٌ مِنَ الْحَبِّ فَإِذَا خُبِزَ كَانَ قَدْرَ رِطْلَيْنِ وَأَيْضًا فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَإِنْ وَافَقَتْ كَفَّارَةَ الْأَذَى فِي التَّخْيِيرِ لَكِنَّهَا زَادَتْ عَلَيْهَا بِأَنَّ فِيهَا تَرْتِيبًا ; لِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَقَعَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّرْتِيبَ وَقَعَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَكَفَّارَةُ الْأَذَى وَقَعَ التَّخْيِيرُ فِيهَا بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ وَالذَّبْحِ حَسْبُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَيْسَ فِي الْكَفَّارَاتِ مَا فِيهِ تَخْيِيرٌ وَتَرْتِيبٌ إِلَّا كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا.
قَوْلُهُ (أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ نُسِبَ لِجَدِّهِ، وَأَبُو شِهَابٍ هُوَ الْأَصْغَرُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ نَافِعٍ، وَابْنُ عَوْنٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (أَتَيْتُهُ، يَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ بِهَذَا السَّنَدِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: نَزَلَتْ فِيَّ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قَالَ: فَرَآنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ادْنُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَوْنٍ) هُوَ مَقُولُ أَبِي شِهَابٍ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْأَوَّلِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَزْهَرَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ بِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَسَّرَهُ لِي مُجَاهِدٌ فَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَسَأَلْتُ أَيُّوبَ، فَقَالَ: الصِّيَامُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَالنُّسُكُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ، وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَفِي الطِّبِّ وَالْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ، وَسِيَاقُهَا أَتَمُّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
2 - بَاب قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} مَتَى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؟
6709 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ فِيهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَلَكْتُ. قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: تَسْتَطِيعُ تُعْتِقُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَالْعَرَقُ
الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ، قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ. قَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: أَطْعِمْهُ عِيَالَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَتَى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؟ وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} ، وَسَاقُوا الْآيَةَ، وَبَعْدَهَا: مَتَى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؟ وَسَقَطَ لِبَعْضِهِمْ ذِكْرُ الْآيَةِ ; وَأَشَارَ الْكَرْمَانِيُّ إِلَى تَصْوِيبِهِ، فَقَالَ: قَوْلُهُ: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أَيْ: تَحْلِيلُهَا بِالْكَفَّارَةِ، وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْمُجَامِعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ لَا يَجِدُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ أَوْ يَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ؟ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَقْصُودُهُ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِالْحِنْثِ كَمَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْمُوَاقِعِ إِنَّمَا تَجِبُ بِاقْتِحَامِ الذَّنْبِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ إِيجَابُ الْكَفَّارَةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ فَقْرَهُ وَأَعْطَاهُ مَعَ ذَلِكَ مَا يُكَفِّرُ بِهِ كَمَا لَوْ أَعْطَى الْفَقِيرَ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ، قَالَ: وَلَيْتَهُ كَمَا نَبَّهَ عَلَى احْتِجَاجِ الْكُوفِيِّينَ بِالْفِدْيَةِ نَبَّهَ هُنَا عَلَى مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ إِلْحَاقهَا بِكَفَّارَةِ الْمُوَاقِعِ، وَأَنَّهُ مُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ.
3 - بَاب مَنْ أَعَانَ الْمُعْسِرَ فِي الْكَفَّارَةِ
6710 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَلَكْتُ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ بِأَهْلِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: تَجِدُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا. قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِعَرَقٍ، وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: اذْهَبْ بِهَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ. قَالَ: أَعَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَعَانَ الْمُعْسِرَ فِي الْكَفَّارَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَ قَبْلُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، فَكَمَا جَازَ إِعَانَةُ الْمُعْسِرِ بِالْكَفَّارَةِ عَنْ وِقَاعِهِ فِي رَمَضَانَ، كَذَلِكَ تَجُوزُ إِعَانَةُ الْمُعْسِرِ بِالْكَفَّارَةِ عَنْ يَمِينِهِ إِذَا حَنِثَ فِيهِ
4 - بَاب يُعْطِي فِي الْكَفَّارَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا
6711 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: وَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ
تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا أَجِدُ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا، مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَفْقَرُ مِنَّا، ثُمَّ قَالَ: خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ.
قَوْلُهُ: بَابُ يُعْطِي فِي الْكَفَّارَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ قَرِيبًا كَانَ، أَيِ: الْمِسْكِينُ، (أَوْ بَعِيدًا) أَمَّا الْعَدَدُ فَبِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الْخِلَافَ فِيهِ قَرِيبًا، وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا قَوْلُهُ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ، لَكِنْ إِذَا جَازَ إِعْطَاءُ الْأَقْرِبَاءِ فَالْبُعَدَاءُ أَجْوَزُ، وَقَاسَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ عَلَى كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي الصِّيَامِ فِي إِجَازَةِ الصَّرْفِ إِلَى الْأَقْرِبَاءِ. قُلْتُ: وَهُوَ عَلَى رَأْيِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ عَلَى أَنَّهُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ التَّمْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ لِيُنْفِقَهُ عَلَيْهِمْ، وَتَسْتَمِرُّ الْكَفَّارَةُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ يُسْرَةٌ، فَلَا يَتَّجِهُ الْإِلْحَاقُ، وَكَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ تَسْقُطُ عَنِ الْمُعْسِرِ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ إِعْطَاءِ الْأَقْرِبَاءِ إِلَّا مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ اشْتِرَاطُ الْإِيمَانِ فِيمَنْ يُعْطِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَجَازَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِعْطَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْهُ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُجْزِئُ إِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ مِثْلَهُ، وَعَنِ الْحَكَمِ كَالْجُمْهُورِ.
5 - بَاب صَاعِ الْمَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَرَكَتِهِ، وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ
6712 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيُّ، حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ، فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
6713 -
حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجَارُودِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ وَهْوَ سَلْمٌ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُدِّ الأَوَّلِ وَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ لَنَا مَالِكٌ مُدُّنَا أَعْظَمُ مِنْ مُدِّكُمْ وَلَا نَرَى الْفَضْلَ إِلاَّ فِي مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لِي مَالِكٌ لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ فَضَرَبَ مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ قُلْتُ كُنَّا نُعْطِي بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَفَلَا تَرَى أَنَّ الأَمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
6714 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ"
قَوْلُهُ: (بَابُ صَاعِ الْمَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَرَكَتِهِ) أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ فِي الْوَاجِبَاتِ بِصَاعِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ ; لِأَنَّ التَّشْرِيعَ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلًا، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ الْمُدِّ وَالصَّاعِ فِي الْمَدِينَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِتَوَاتُرِهِ عِنْدَهُمْ إِلَى زَمَنِهِ، وَبِهَذَا احْتَجَّ مَالِكُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمَا، فَرَجَعَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فِي قَدْرِ الصَّاعِ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ في البابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ، فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ). قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّهُمْ حِينَ حَدَّثَ بِهِ السَّائِبُ كَانَ أَرْبَعَةَ أَرْطَالٍ، فَإِذَا زِيدَ عَلَيْهِ ثُلُثُهُ وَهُوَ رِطْلٌ، وَثُلُثٌ قَامَ مِنْهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ، وَثُلُثٌ وَهُوَ الصَّاعُ بِدَلِيلِ أَنَّ مُدَّهُ صلى الله عليه وسلم رِطْلٌ وَثُلُثٌ، وَصَاعُهُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، ثُمَّ قَالَ: مِقْدَارُ مَا زِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا نَعْلَمُهُ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّهِ. انْتَهَى. وَمِنْ لَازِمِ مَا قَالَ أَنْ يَكُونَ صَاعُهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، لَكِنْ لَعَلَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مِقْدَارَ الرِّطْلِ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابُ الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَكِيلَاتِ فَخَصَّ صَاعَ الْمَاءِ بِكَوْنِهِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ، وَمُدَّهُ بِرِطْلَيْنِ فَقَصَرَ الْخِلَافَ عَلَى غَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْمَكِيلَاتِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ وَهُوَ سَلْمٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْمُنْذِرِ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ. قُلْتُ: وَهُوَ الشَّعِيرِيُّ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، بَصْرِيٌّ أَصْلُهُ مِنْ خُرَاسَانَ، أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ بِالسِّنِّ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ، وَهُوَ غَيْرُ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَلَدِ أَمِيرِ خُرَاسَانَ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ وَقَدْ وُلِّيَ هُوَ إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الشَّعِيرِيِّ، وَمَاتَ قَبْلَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً.
قَوْلُهُ: (الْمُدُّ الْأَوَّلُ) هُوَ نَعْتُ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ، وَأَرَادَ نَافِعٌ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُعْطِي بِالْمُدِّ الَّذِي أَحْدَثَهُ هِشَامٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِثُلُثَيْ رِطْلٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ الْمُدَّ الْهِشَامِيَّ رِطْلَانِ، وَالصَّاعَ مِنْهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لَنَا مَالِكٌ) هُوَ مَقُولُ أَبِي قُتَيْبَةَ، وَهُوَ مَوْصُولٌ.
قَوْلُهُ: (مُدُّنَا أَعْظَمُ مِنْ مُدِّكُمْ) يَعْنِي فِي الْبَرَكَةِ، أَيْ: مُدُّ الْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَ دُونَ مُدِّ هِشَامٍ فِي الْقَدْرِ، لَكِنَّ مُدَّ الْمَدِينَةِ مَخْصُوصٌ بِالْبَرَكَةِ الْحَاصِلَةِ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ مُدِّ هِشَامٍ، ثُمَّ فَسَّرَ مَالِكٌ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَرَى الْفَضْلَ إِلَّا فِي مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي مَالِكٌ: لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ إِلَخْ)، أَرَادَ مَالِكٌ بِذَلِكَ إِلْزَامَ مُخَالِفِهِ ; إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ، فَلَوِ احْتَجَّ الَّذِي تَمَسَّكَ بِالْمُدِّ الْهِشَامِيِّ فِي إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا شُرِعَ إِخْرَاجُهُ بِالْمُدِّ كَإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِأَنَّ الْأَخْذَ بِالزَّائِدِ أَوْلَى، قِيلَ: كَفَى بِاتِّبَاعِ مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ بَرَكَةً، فَلَوْ جَازَتِ الْمُخَالَفَةُ بِالزِّيَادَةِ لَجَازَتْ مُخَالَفَتُهُ بِالنَّقْصِ، فَلَمَّا امْتَنَعَ الْمُخَالِفُ مِنَ الْأَخْذِ بِالنَّاقِصِ قَالَ لَهُ: أَفَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَمْدَادُ الثَّلَاثَةُ: الْأَوَّلُ وَالْحَادِثُ وَهُوَ الْهِشَامِيُّ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَيْهِ، وَالثَّالِثُ الْمَفْرُوضُ وُقُوعُهُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ وَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ الَّذِي تَحَقَّقَتْ شَرْعِيَّتُهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَالْحُجَّةُ فِيهِ نَقْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَهُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، قَالَ: وَقَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ بِمِثْلِ هَذَا فِي تَقْدِيرِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ إِلَى مَالِكٍ وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ.
(تَنْبِيهٌ): هَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا أَبُو قُتَيْبَةَ، وَلَا عَنْهُ إِلَّا الْمُنْذِرُ، وَقَدْ ضَاقَ مَخْرَجُهُ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَعَلَى أَبِي نُعَيْمٍ، فَلَمْ يَسْتَخْرِجَاهُ، بَلْ ذَكَرَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُقْدَةَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَاسِمِ الْبَجَلِيِّ، عَنِ الْمُنْذِرِ بِهِ دُونَ كَلَامِ مَالِكٍ، وَقَالَ: صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْمُنْذِرِ بِهِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي
دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ، وَكَذَا عِنْدَ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ - مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَخْتَصَّ هَذِهِ الدَّعْوَةُ بِالْمُدِّ الَّذِي كَانَ حِينَئِذٍ حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْمُدُّ الْحَادِثُ بَعْدَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَعُمَّ كُلَّ مِكْيَالٍ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى الْأَبَدِ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، كَذَا قَالَ، وَكَلَامُ مَالِكٍ الْمَذْكُورُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ يَجْنَحُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ تَغَيَّرَتِ الْمَكَايِيلُ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ عَصْرِ مَالِكٍ وَإِلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَقَدْ وُجِدَ مِصْدَاقُ الدَّعْوَةِ بِأَنْ بُورِكَ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ بِحَيْثُ اعْتَبَرَ قَدْرَهُمَا أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَمُقَلِّدُوهُمْ إِلَى الْيَوْمِ فِي غَالِبِ الْكَفَّارَاتِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُهَلَّبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَأَيُّ الرِّقَابِ أَزْكَى؟
6715 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الرَّقَبَةَ فِي آيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مُطْلَقَةٌ بِخِلَافِ آيَةِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَإِنَّهَا قُيِّدَتْ بِالْإِيمَانِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَمَلَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا حَمَلُوا الْمُطْلَقَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ فَقَالُوا: يَجُوزُ إِعْتَاقُ الْكَافِرِ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاحْتَجَّ لَهُ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ بِأَنَّ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ مُغَلَّظَةٌ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَمِنْ ثَمَّ اشْتُرِطَ التَّتَابُعُ فِي صِيَامِ الْقَتْلِ دُونَ الْيَمِينِ.
قَوْلُهُ: وَأَيُّ الرِّقَابِ أَزْكَى؟ يُشِيرُ إِلَى الْحَدِيثِ الْمَاضِي فِي أَوَائِلِ الْعِتْقِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَفِيهِ: قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ رَمَزَ بِذَلِكَ إِلَى مُوَافَقَةِ الْكُوفِيِّينَ ; لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَبُتَّ الْبُخَارِيُّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْفَضْلَ فِي عِتْقِ الْمُؤْمِنَةِ لِيُنَبِّهَ عَلَى مَجَالِ النَّظَرِ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا وَجَبَ عِتْقُ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَانَ الْأَخْذُ بِالْأَفْضَلِ أَحْوَطَ، وَإِلَّا كَانَ الْمُكَفِّرُ بِغَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ عَلَى شَكٍّ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. قَالَ: وَهَذَا أَقْوَى مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي أَوَائِلِ الْعِتْقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ مُرْجَانَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةً لِسَعِيدِ ابْنِ مُرْجَانَةَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَيِ: ابْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْمُلَقَّبِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ هُنَا أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهُ مِنْ سَعِيدِ ابْنِ مُرْجَانَةَ وَعَمِلَ بِهِ حَدَّثَ بِهِ عَنْ سَعِيدٍ، فَسَمِعَهُ مِنْهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَابِ زِيَادَةٌ فِي آخِرِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ وَحَتَّى هُنَا عَاطِفَةٌ لِوُجُودِ شَرَائِطِ الْعَطْفِ فِيهَا، فَيَكُونُ فَرْجُهُ بِالنَّصْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَوَائِدُ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيَانُ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ هُنَاكَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ الْبَابِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ شَيْخِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ دَرَجَتَيْنِ، فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدَ بْنَ مُطَرِّفٍ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ فِي كِتَابِهِ رَاوِيًا وَاحِدًا كَسَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ فِي الصِّيَامِ وَالنِّكَاحِ وَالْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَعَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ فِي الْبُيُوعِ
وَالْأَدَبِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ شَيْخِهِ فِيهِ، هُوَ الْمَعْرُوفُ بِصَاعِقَةَ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَدَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ بِشِينٍ وَمُعْجَمَةٍ مُصَغَّرٌ مِنْ طَبَقَةِ شُيُوخِهِ الْوُسْطَى، وَفِي السَّنَدِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقِ زَيْدٍ، وَعَلِيٍّ، وَسَعِيدٍ، وَالثَّلَاثَةُ مَدَنِيُّونَ وَزَيْدٌ، وَعَلِيٌّ قَرِينَانِ.
7 - بَاب عِتْقِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ فِي الْكَفَّارَةِ وَعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا، وَقَالَ طَاوُسٌ: يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ
6716 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ.
قَوْلُهُ: بَابُ عِتْقِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ فِي الْكَفَّارَةِ وَعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي عِتْقِ الْمُدَبَّرِ وَعَمْرٌو فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعِتْقِ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ وَالِاحْتِجَاجُ لِمَنْ قَالَ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ صِحَّةُ عِتْقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ ; لِأَنَّ صِحَّةَ بَيْعِهِ فَرْعُ بَقَاءِ الْمِلْكِ فِيهِ، فَيَصِحُّ تَنْجِيزُ عِتْقِهِ، وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الرَّقِيقِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ كَالْجِنَايَةِ وَالْحُدُودِ وَاسْتِمْتَاعِ السَّيِّدِ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهَا، وَلَكِنِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ تَنْجِيزِ عِتْقِهَا فَتُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا عِتْقُ الْمُكَاتَبِ فَأَجَازَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: لَا يُجْزِئُ أَصْلًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِنْ كَانَ أَدَّى بَعْضَ الْكِتَابَةِ لَمْ يُجْزِئْ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ أَعْتَقَ بَعْضَ الرَّقَبَةِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَعَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ إِنْ أَدَّى الثُّلُثَ فَصَاعِدًا لَمْ يُجْزِئْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ: يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: يُجْزِئُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ فِي الْكَفَّارَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فِي الظِّهَارِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فَوَافَقَ طَاوُسًا، الْحَسَنُ فِي الْمُدَبَّرِ وَالنَّخَعِيُّ فِي أُمِّ الْوَلَدِ، وَخَالَفَهُ فِيهِمَا الزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ مُدَبَّرٌ وَلَا أُمُّ وَلَدٍ وَلَا مُعَلَّقٌ عِتْقُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ يُجْزِئُ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ مَا دَامَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَاحْتُجَّ لِمَالِكٍ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ ثَبَتَ لَهُمْ عَقْدُ الْحُرِّيَّةِ لَا سَبِيلَ إِلَى رَفْعِهَا، وَالْوَاجِبُ فِي الْكَفَّارَةِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ فِي الْمُدَبَّرِ شُعْبَةٌ مِنْ حُرِّيَّةٍ مَا جَازَ بَيْعُهُ، وَأَمَّا عِتْقُ وَلَدِ الزِّنَا فَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَا أَعْلَمُ مُنَاسَبَةً بَيْنَ عِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا وَبَيْنَ مَا أَدْخَلَهُ فِي الْبَابِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِفُ فِي عِتْقِهِ خَالَفَ فِي عِتْقِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَمَّا جَوَّزَ عِتْقَ الْمُدَبَّرِ اسْتَدَلَّ لَهُ، وَلَمْ يَأْتِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ إِلَّا بِقَوْلِ طَاوُسٍ، وَلَا فِي وَلَدِ الزِّنَا بِشَيْءٍ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْحَثُّ عَلَى عِتْقِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، فَيَدْخُلُ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ فِي الْعُمُومِ بَلْ فِي الْخُصُوصِ ; لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا مَعَ إِيمَانِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَافِرِ، قُلْتُ: جَاءَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو حَسَنٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ أَنَّهُ سَمِعَ امْرَأَةً تَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ تَسْتَفْتِيهِ فِي غُلَامٍ لَهَا ابْنِ زَنْيَةٍ تُعْتِقُهُ فِي رَقَبَةٍ كَانَتْ عَلَيْهَا، فَقَالَ: لَا أَرَاهُ يُجْزِئُكَ، سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: لَأَنْ أُحْمَلَ عَلَى نَعْلَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ ابْنَ زَنْيَةٍ، وَصَحَّ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَأَنْ أَتْبَعَ بِسَوْطٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ وَلَدَ زَنْيَةٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
نَعَمْ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَفْتَى بِعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَعْتَقَ ابْنَ زِنًا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، وَزَادَ: قَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُجْزِئُ عِتْقُهُ، وَكَرِهَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمْ بِأَسَانِيدَ لَيِّنَةٍ، وَمَنَعَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ذَلِكَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَالْحُجَّةُ لِلْجُمْهُورِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَقَدْ صَحَّ مِلْكُ الْحَالِفِ لَهُ، فَيَصِحُّ إِعْتَاقُهُ لَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَمَنَعَ، قَالَ أَبُو الْخَيْرِ: فَسَأَلْنَا فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِعُقْبَةَ، وَهَلْ هُوَ إِلَّا نَسَمَةٌ مِنَ النَّسَمِ؟ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ فَأَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ مَا ذُكِرَ مَعَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
بَابُ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ) أَيْ فِي الْكَفَارَةِ ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ بِغَيْرٍ حَدِيثٍ فَكَأَنَّ اَلْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ فِيهَا حَدِيثَ اَلْبَابِ اَلَّذِي بَعْدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَلَمْ يَتَّفِقْ أَوْ تَرَدَّدَ فِي اَلتَّرْجَمَتَيْنِ فَاقْتَصَرَ اَلْأَكْثَرُ عَلَى اَلتَّرْجَمَةِ اَلَّتِي تَلِي هَذِهِ وَكَتَبَ الْمُسْتَمْلِي اَلتَّرْجَمَتَيْنِ احْتِيَاطًا وَالْحَدِيثُ فِي اَلْبَابِ اَلَّذِي يَلِيهِ صَالِحٌ لَهُمَا بِضَرْبٍ مِنَ اَلتَّأْوِيلِ وَجَمَعَ أَبُو نَعِيمٍ فِي بَابٍ وَاحِدٍ
8 - بَاب إِذَا أَعْتَقَ فِي الْكَفَّارَةِ لِمَنْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ
6717 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا الْوَلَاءَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أُعْتِقَ فِي الْكَفَّارَةِ لِمَنْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ)، أَيِ: الْعَتِيقُ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ مُخْتَصَرًا وَفِي آخِرِهِ: فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَعْتَقَ فَصَحَّ عِتْقُهُ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا صَحَّ وَضَمِنَ لِشَرِيكِهِ حِصَّتَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعْتِقَهُ مَجَّانًا أَوْ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُجْزِئُهُ عِتْقُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ عَنِ الْكَفَّارَةِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدٍ لَا جَمِيعَهُ ; لِأَنَّ الشَّرِيكَ عِنْدَهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُقَوَّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ وَبَيْنَ أَنْ يُعْتِقَهُ هُوَ، وَبَيْنَ أَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ
9 - بَاب الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ
6718 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ، ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ فَأُتِيَ بِإِبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِثَلَاثَةِ ذَوْدٍ، فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: لَا يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا أَتَيْنَا رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا فَحَمَلَنَا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ بَلْ اللَّهُ حَمَلَكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وكفرت.
6719 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَقَالَ "إِلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ أَوْ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ"
6720 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ عَنْ طَاوُسٍ "سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ لَاطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلٌّ تَلِدُ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي الْمَلَكَ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَنَسِيَ فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ تَأْتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ بِوَلَدٍ إِلاَّ وَاحِدَةٌ بِشِقِّ غُلَامٍ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ قَالَ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي حَاجَتِهِ وَقَالَ مَرَّةً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ اسْتَثْنَى" وَحَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ)، وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: الْيَمِينِ، وَعَلَيْهَا شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ، وَالِاسْتِثْنَاءُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الثُّنْيَا بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ النُّونِ، بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ، وَيُقَالُ لَهَا: الثَّنْوَى أَيْضًا بِوَاوٍ بَدَلَ الْيَاءِ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهِيَ مِنْ ثَنَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا عَطَفْتَهُ كَأَنَّ الْمُسْتَثْنِي عَطَفَ بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهَا فِي الِاصْطِلَاحِ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، وَأَدَاتُهَا إِلَّا وَأَخَوَاتُهَا، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى التَّعَالِيقِ، وَمِنْهَا التَّعْلِيقُ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، فَإِذَا قَالَ: لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى، وَكَذَا إِذَا قَالَ: لَا أَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ أَنْ يَقُولَ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَوْ أَتَى بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ بَدَلَ الْمَشِيئَةِ جَازَ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ إِذَا أَثْبَتَ أَوْ فَعَلَ إِذَا نَفَى لَمْ يَحْنَثْ، فَلَوْ قَالَ: إِلَّا إِنْ غَيَّرَ اللَّهُ نِيَّتِي، أَوْ بَدَّلَ، أَوْ إِلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي أَوْ يَظْهَرَ، أَوْ إِلَّا أَنْ أَشَاءَ أَوْ أُرِيدَ، أَوْ أَخْتَارَ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ أَيْضًا، لَكِنْ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالْمُسْتَثْنَى بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي الْقَصْدُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ لَفْظٍ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ خَرَّجَ - مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: إِنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ - أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُجْزِئُ بِالنِّيَّةِ، لَكِنْ نُقِلَ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّ مَالِكًا نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّلَفُّظِ بِالْيَمِينِ وَأَجَابَ الْبَاجِيُّ بِالْفَرْقِ أَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ، وَالِاسْتِثْنَاءَ حَلٌّ، وَالْعَقْدُ أَبْلَغُ مِنَ الْحَلِّ، فَلَا يُلْتَحَقُ بِالْيَمِينِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِهِ فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَّصِلَ بِالْحَلِفِ. قَالَ مَالِكٌ: إِذَا سَكَتَ أَوْ قَطَعَ كَلَامَهُ فَلَا ثُنْيَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُشْتَرَطُ وَصْلُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَوَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ نَسَقًا فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سُكُوتٌ انْقَطَعَ إِلَّا إِنْ كَانَتْ سَكْتَةَ تَذَكُّرٍ أَوْ تَنَفُّسٍ أَوْ عِيٍّ أَوِ انْقِطَاعِ صَوْتٍ، وَكَذَا يَقْطَعُهُ الْأَخْذُ فِي كَلَامٍ آخَرَ.
وَلَخَّصَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، فَقَالَ: شَرْطُهُ الِاتِّصَالُ لَفْظًا أَوْ في مَا في حُكْمِهِ كَقَطْعِهِ لِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَمْنَعُ الِاتِّصَالَ عُرْفًا، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَقْطَعُهُ مَا يَقْطَعُهُ الْقَبُولُ عَنِ الْإِيجَابِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَنْقَطِعُ بِالْكَلَامِ الْيَسِيرِ الْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَفِي وَجْهٍ لَوْ تَخَلَّلَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَمْ يَنْقَطِعْ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ النَّوَوِيُّ وَنَصُّ
الشَّافِعِيِّ يُؤَيِّدُهُ حَيْثُ قَالَ: تَذَكُّرٍ فَإِنَّهُ مِنْ صُوَرِ التَّذَكُّرِ عُرْفًا، وَيُلْتَحَقُ بِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَنَحْوُهَا، وَعَنْ طَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ، وَعَنْ أَحْمَدَ نَحْوَهُ، وَقَالَ: مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَعَنْ إِسْحَاقَ مِثْلُهُ، وَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَقَعَ السُّكُوتُ، وَعَنْ قَتَادَةَ: إِذَا اسْتَثْنَى قَبْلَ أَنْ يَقُومَ أَوْ يَتَكَلَّمَ، وَعَنْ عَطَاءٍ: قَدْرَ حَلْبِ نَاقَةٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقْوَالٌ، مِنْهَا: لَهُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَعَنْهُ: كَقَوْلِ سَعِيدٍ، وَعَنْهُ: شَهْرٌ، وَعَنْهُ: سَنَةٌ، وَعَنْهُ: أَبَدًا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا لَا يُؤْخَذُ عَلَى ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَحْنَثَ أَحَدٌ فِي يَمِينِهِ، وَأَنْ لَا تُتَصَوَّرَ الْكَفَّارَةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى الْحَالِفِ، قَالَ: وَلَكِنَّ وَجْهَ الْخَبَرِ سُقُوطُ الْإِثْمِ عَنِ الْحَالِفِ لِتَرْكِهِ الِاسْتِثْنَاءَ ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا نَسِيَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ يَسْتَدْرِكُهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ انْقَضَى كَلَامُهُ أَنَّ مَا عَقَدَهُ بِالْيَمِينِ يَنْحَلُّ، وَحَاصِلُهُ حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ عَلَى لَفْظِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَطْ، وَحَمْلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى التَّبَرُّكِ. وَعَلَى ذَلِكَ حُمِلَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا - ثَلَاثًا: ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ عَلَى السُّكُوتِ لِتَنَفُّسٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سُؤَالِ مَنْ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ غَدًا أُجِيبُكُمْ فَتَأَخَّرَ الْوَحْيُ، فَنَزَلَتْ:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مَعَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ هَكَذَا مِنْ وَجْهٍ ثَابِتٍ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ اتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْكَلَامِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ يُفِيدُ بَعْدَ قَطْعِ الْكَلَامِ لَقَالَ: فَلْيَسْتَثْنِ ; لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مِنَ التَّكْفِيرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - لِأَيُّوبَ:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فَإِنَّ قَوْلَهُ: اسْتَثْنِ أَسْهَلُ مِنَ التَّحَيُّلِ لِحَلِّ الْيَمِينِ بِالضَّرْبِ، وَلَلَزِمَ مِنْهُ بُطْلَانُ الْإِقْرَارَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، فَيُسْتَثْنَى مَنْ أَقَرَّ أَوْ طَلَّقَ أَوْ أَعَتَقَ بَعْدَ زَمَانٍ، وَيَرْتَفِعُ حُكْمُ ذَلِكَ، فَالْأَوْلَى تَأْوِيلُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتُلِفَ: هَلْ يُشْتَرَطُ قَصْدُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْ لَا؟ حَكَى الرَّافِعِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَنَقَلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى اشْتِرَاطِ وُقُوعِهِ قَبْلَ فَرَاغِ الْكَلَامِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ يَنْشَأُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَثَلًا وَهُوَ وَاضِحٌ، وَنَقْلُهُ مُعَارَضٌ بِمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ مُتَّصِلًا بِهِ كَفَى، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ عَقَّبَ الْحَلِفَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِاللَّفْظِ، وَحِينَئِذٍ يَتَحَصَّلُ ثَلَاثُ صُوَرٍ: أَنْ يَقْصِدَ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ مِنْ أَثْنَائِهِ، وَلَوْ قَبْلَ فَرَاغِهِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ، فَيَخْتَصُّ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ بأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي الثَّالِثِ، وَأَبْعَدَ مَنْ فَهِمَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي الثَّانِي أَيْضًا، وَالْمُرَادُ بِالْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ إِجْمَاعُ مَنْ قَالَ: يُشْتَرَطُ الِاتِّصَالُ، وَإِلَّا فَالْخِلَافُ ثَابِتٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: يُشْتَرَطُ الِاسْتِثْنَاءُ قَبْلَ تَمَامِ الْيَمِينِ، قَالَ: وَالَّذِي أَقُولُ: إِنَّهُ لَوْ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَلَا اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ فَيَحُلُّهَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ بِالْيَمِينِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا أَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ التَّبَرُّكَ فَقَطْ، فَفَعَلَ يَحْنَثُ، وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِثْنَاءَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَطْلَقَ أَوْ قَدَّمَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْحَلِفِ أَوْ أَخَّرَهُ هَلْ يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: وَاتَّفَقُوا عَلَى دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي كُلِّ مَا يُحْلَفُ بِهِ إِلَّا الْأَوْزَاعِيَّ فَقَالَ: لَا يَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَكَذَا جَاءَ عَنْ طَاوُسٍ وَعَنْ مَالِكٍ، مِثْلُهُ: وَعَنْهُ: إِلَّا الْمَشْيَ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَاللَّيْثُ: يَدْخُلُ فِي الْجَمِيعِ إِلَّا الطَّلَاقَ، وَعَنْ أَحْمَدَ يَدْخُلُ الْجَمِيعَ إِلَّا الْعِتْقَ
وَاحْتَجَّ بِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ لَهُ وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ مُعَاذٍ رَفَعَهُ: إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ حُرٌّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ حُمَيْدُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ لَا يَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ بِأَنَّهُ لَا تُحِلُّهُ الْكَفَّارَةُ، وَهِيَ أَغْلَظُ عَلَى الْحَالِفِ مِنَ النُّطْقِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَحُلَّهُ الْأَقْوَى لَمْ يَحُلَّهُ الْأَضْعَفُ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الِاسْتِثْنَاءُ أَخُو الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْيَمِينُ الشَّرْعِيَّةُ، وَهِيَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ
قَوْلُهُ: حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ ; لِأَنَّ قُتَيْبَةَ لَمْ يُدْرِكْ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ، وَغَيْلَانُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ: فَأُتِيَ بِإِبِلٍ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَكَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: بِشَائِلٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ شِينٌ مُعْجَمَةٌ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَحْتَانِيَّةٌ مَهْمُوزَةٌ ثُمَّ لَامٌ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنْ صَحَّتْ فَأَظُنُّهَا شَوَائِلَ، كَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ لَفْظَ شَائِلٍ خَاصٌّ بِالْمُفْرَدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: جَاءَ هَكَذَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ كَالسَّامِرِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: نَاقَةٌ شَائِلَةٌ وَنُوقٌ شَائِلٌ الَّتِي جَفَّ لَبَنُهَا، وَشَوَّلَتِ الْإِبِلُ بِالتَّشْدِيدِ لَصِقَتْ بُطُونُهَا بِظُهُورِهَا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: نَاقَةٌ شَائِلٌ قَلَّ لَبَنُهَا، وَأَصْلُهُ مِنْ شَالَ الشَّيْءُ إِذَا ارْتَفَعَ كَالْمِيزَانِ، وَالْجَمْعُ شَوْلٌ كَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَجَاءَ شَوَائِلُ جَمْعُ شَائِلٍ، وَفِيمَا نُقِلَ مِنْ خَطِّ الدِّمْيَاطِيِّ الْحَافِظِ: الشَّائِلُ: النَّاقَةُ الَّتِي تَشُولُ بِذَنَبِهَا اللِّقَاحَ، وَلَيْسَ لَهَا لَبَنٌ، وَالْجَمْعُ شُوَّلٌ بِالتَّشْدِيدِ كَرَاكِعٍ وَرُكَّعٍ، وَحَكَى قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: إِذَا أَتَى عَلَى النَّاقَةِ مِنْ يَوْمِ حَمْلِهَا سَبْعَةُ أَشْهُرٍ جَفَّ لَبَنُهَا فَهِيَ شَائِلَةٌ، وَالْجَمْعُ شَوْلٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَإِذَا شَالَتْ بِذَنَبِهَا بَعْدَ اللِّقَاحِ فَهِيَ شَائِلٌ، وَالْجَمْعُ شُوَّلٌ بِالتَّشْدِيدِ، وَهَذَا تَحْقِيقٌ بَالِغٌ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي الْمَطَالِعِ أَنَّ شَائِلَ جَمْعُ شَائِلَةٍ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ.
قَوْلُهُ فَأَمَرَ لَنَا، أَيْ: أَمَرَ أَنَّا نُعْطَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: بِثَلَاثِ ذَوْدٍ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ بِثَلَاثَةِ ذَوْدٍ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الذَّوْدَ مُؤَنَّثٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي السَّلِيلِ عَنْ زَهْدَمٍ كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ وَتَوْجِيهُ الْأُخْرَى أَنَّهُ ذُكِّرَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الذَّوْدِ، أَوْ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، أَوِ الرِّوَايَةُ بِالتَّنْوِينِ وَذَوْدٌ إِمَّا بَدَلٌ فَيَكُونُ مَجْرُورًا، أَوْ مُسْتَأْنَفٌ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا، وَالذَّوْدُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ مِنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْعَشْرِ، وَقِيلَ: إِلَى السَّبْعِ، وَقِيلَ: مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى التِّسْعِ مِنَ النُّوقِ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْكَثِيرُ أَذْوَادٌ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْإِنَاثِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الذُّكُورِ أَوْ عَلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ الذَّوْدَ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ بِخِلَافِ مَا أَطْلَقَ الْجَوْهَرِيُّ، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي بِلَفْظِ: خَمْسُ ذَوْدٍ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا يَصِحُّ.
قُلْتُ: لَعَلَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يَحْصُلُ مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِلَفْظِ: خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ، فَلَعَلَّ رِوَايَةَ الثَّلَاثِ بِاعْتِبَارِ ثَلَاثَةِ أَزْوَاجٍ، وَرِوَايَةَ الْخَمْسِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَحَدَ الْأَزْوَاجِ كَانَ قَرِينَهُ تَبَعًا، فَاعْتَدَّ بِهِ تَارَةً وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِ أُخْرَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بِأَنَّهُ أَمَرَ لَهُمْ بِثَلَاثِ ذَوْدٍ أَوَّلًا، ثُمَّ زَادَهُمُ اثْنَيْنِ فَإِنَّ لَفْظَ زَهْدَمٍ: ثُمَّ أُتِيَ بِنَهْبِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى فَأَعْطَانِي خَمْسَ ذَوْدٍ، فَوَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ زَهْدَمٍ جُمْلَةُ مَا أَعْطَاهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْلَانَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مَبْدَأُ مَا أَمَرَ لَهُمْ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ: خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ ثَلَاثَ مِرَارٍ. وَقَدْ مَضَى فِي الْمَغَازِي بِلَفْظٍ أَصْرَحَ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: سِتَّةُ أَبْعِرَةٍ، فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنْ تَكُونَ السَّادِسَةُ كَانَتْ تَبَعًا وَلَمْ تَكُنْ ذُرْوَتُهَا مَوْصُوفَةً بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي كِتَابِهِ: الثَّمِينُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْيَمِينِ لَمْ يَقَعْ قَوْلُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَسَقَطَ لَفْظُ: وَاللَّهِ مِنْ نُسْخَةِ ابْنِ الْمُنِيرِ، فَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ
لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى يَمِينٌ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِهِ بَيَانَ صِيغَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، وَأَشَارَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ إِلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَهَا لِلتَّبَرُّكِ لَا لِلِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
قَوْلُهُ: إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ. كَذَا وَقَعَ لَفْظُ: وَكَفَّرْتُ مُكَرَّرًا فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، وَحَمَّادٌ أَيْضًا هُوَ ابْنُ زَيْدٍ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ: إِلَّا كَفَّرْتُ، يَعْنِي: سَاقَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، أَوْ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ. فَزَادَ فِيهِ التَّرَدُّدَ فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ وَتَأْخِيرِهَا. وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِالتَّرْدِيدِ فِيهِ أَيْضًا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ، وَفِيهِ: فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَنَسِيَ، وَفِيهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ: وَقَالَ مَرَّةً: لَوِ اسْتَثْنَى، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ جَوَّزَ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ انْفِصَالِ الْيَمِينِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ، وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ يَمِينَ سُلَيْمَانَ طَالَتْ كَلِمَاتُهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ صَاحِبِهِ لَهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَعَ فِي أَثْنَائِهِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ حُجَّةٌ، وَلَوْ عَقَّبَهُ بِالرِّوَايَةِ بِالْفَاءِ فَلَا يَبْقَى الِاحْتِمَالُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ الَّذِي يَرْفَعُ حُكْمَ الْيَمِينِ وَيَحُلُّ عَقْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْمَشِيئَةِ وَالتَّسْلِيمِ لِحُكْمِهِ، فَهُوَ نَحْوَ قَوْلِهِ:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَقَالَ أَبُو مُوسَى فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ نَحْوَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنَّمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ. كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ قِصَّةَ سُلَيْمَانَ، وَفِي آخِرِهِ: لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، نَعَمْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: مَنْ قَالَ
…
إِلَخْ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْهُ، فَقَالَ: هَذَا خَطَأٌ أَخْطَأَ فِيهِ عَبْدُ الرَّازِقِ فَاخْتَصَرَهُ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِتَمَامِهِ وَأَشَرْتُ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَقَدِ اعْتَرَضَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُنَاقِضُ غَيْرَهَا ; لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَقْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا لِتُبَيِّنَ الْأَحْكَامَ بِأَلْفَاظٍ، أَيْ: فَيُخَاطِبُ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَكُونُ أَوْصَلَ لِأَفْهَامِهِمْ، وَإِمَّا بِنَقْلِ الْحَدِيثِ عَلَى الْمَعْنَى عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَأَجَابَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ وَافِيًا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَصَرَهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قَالَ سُلَيْمَانُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ غَيْرِ سُلَيْمَانَ، وَشَرْطُ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى عَدَمُ التَّخَالُفِ، وَهُنَا تَخَالُفٌ بِالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ.
قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ وَاحِدًا فَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ، لَكِنْ قَدْ جَاءَ لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمُخْتَصَرَةِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ وَهُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْقُوفًا، وَكَذَا رَوَاهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ غَيْرَ أَيُّوبَ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: كَانَ أَيُّوبُ أَحْيَانًا يَرْفَعُهُ، وَأَحْيَانًا لَا يَرْفَعُهُ، وَذَكَرَ فِي الْعِلَلِ أَنَّهُ سَأَلَ مُحَمَّدًا عَنْهُ، فَقَالَ: أَصْحَابُ نَافِعٍ رَوَوْهُ مَوْقُوفًا إِلَّا أَيُّوبَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ أَيُّوبَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَقَفَهُ. وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كَانَ أَيُّوبُ يَرْفَعُهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ
أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، وَكَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعُمَرِيِّ الْمُكَبَّرِ، وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَحَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ مَرْفُوعًا، انْتَهَى. وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، وَأَخْرَجَهَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَرِوَايَةُ كَثِيرٍ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَرِوَايَةُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَخْرَجَهَا ابْنُ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ بْنِ عَطَاءٍ أَحَدِ الضُّعَفَاءِ عَنْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَ رِوَايَةَ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ رِوَايَةَ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، وَرِوَايَةَ الْعُمَرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ عَنْ نَافِعٍ مَوْقُوفًا، وَكَذَا أَخْرَجَ سَعِيدٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ رِوَايَةَ سَالِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَعَقَّبَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ كَلَامَ التِّرْمِذِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ أَيُّوبَ، وَكَذَا رَوَاهُ سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا: قَالَ شَيْخُنَا: قُلْتُ: قَدْ رَوَاهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاسْتَثْنَى عَلَى أَثَرِهِ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ مَا قَالَ لَمْ يَحْنَثْ. انْتَهَى. وَلَمْ أَرَ هَذَا فِي التِّرْمِذِيِّ، وَلَا ذَكَرَهُ الْمِزِّيُّ فِي تَرْجَمَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ فِي الْأَطْرَافِ، وَقَدْ جَزَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام كَانَ قَدْ حَلَفَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ مِنْ إِيرَادِ قِصَّةِ سُلَيْمَانَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْيَمِينِ يَقَعُ بِصِيغَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْمُصَرِّحَ بِذِكْرِهَا مَعَ الْيَمِينِ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ سُلَيْمَانَ لِمَجِيءِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا تَارَةً بِلَفْظِ: لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَتَارَةً بِلَفْظِ: لَوِ اسْتَثْنَى فَأَطْلَقَ عَلَى لَفْظِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ يَمِينٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي ال حَاشِيَةِ: وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ إِذَا اسْتُثْنِيَ مِنَ الْأَخْبَارِ، فَكَيْفَ لَا يُسْتَثْنَى مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُؤَكَّدُ بِالْقَسَمِ وَهُوَ أَحْوَجُ فِي التَّفْوِيضِ إِلَى الْمَشِيئَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مُصَغَّرٍ هُوَ الْمَكِّيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حُجَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (لَأَطُوفَنَّ) اللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ كَأَنَّهُ قَالَ مَثَلًا: وَاللَّهِ لَأَطُوفَنَّ، وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ ذِكْرُ الْحِنْثِ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ وَنَفْيَهُ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ الْيَمِينِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّامُ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الْحِنْثِ وُقُوعُ مَا أَرَادَ، وَقَدْ مَشَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ: بَابُ اسْتِحْبَابِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ لِمَنْ قَالَ سَأَفْعَلُ كَذَا. وَسَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الَّذِي جَرَى مِنْهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِيَمِينٍ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَاخْتُلِفَ فِي الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ هَلْ هُوَ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ أَوْ دَوَرَانُهُ عَلَى النِّسَاءِ فَقَطْ دُونَ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْحَمْلِ وَالْوَضْعِ وَغَيْرِهِمَا، وَالثَّانِي أَوْجَهُ ; لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ تَمَنِّي حُصُولِ مَا يَسْتَلْزِمُ جَلْبَ الْخَيْرِ لَهُ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ حَلَفَ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِوَحْيٍ، وَلَوْ كَانَ بِوَحْيٍ لَمْ يَتَخَلَّفْ، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ وَحْيٍ لَزِمَ أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى غَيْرِ مَقْدُورٍ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِجَنَابِهِ. قُلْتُ: وَمَا الْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ، وَيَكُونُ لِشِدَّةِ وُثُوقِهِ بِحُصُولِ مَقْصُودِهِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ وَأَكَّدَ بِالْحَلِفِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ.
قَوْلُهُ (تِسْعِينَ) تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ عليه السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ أَنَّ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ عَقِبَ قِصَّةِ سُلَيْمَانَ هَذَا الِاخْتِلَافَ فِي هَذَا الْعَدَدِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ النَّاقِلِينَ، وَنَقَلَ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ أَكْثَرُ اخْتِلَافًا فِي الْعَدَدِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ. قُلْتُ: وَغَابَ عَنْ هَذَا الْقَائِلِ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قَدْرِ ثَمَنِ الْجَمَلِ وَقَدْ مَضَى بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ فِي الشُّرُوطِ، وَتَقَدَّمَ جَوَابُ النَّوَوِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي الْجَوَابِ عَنِ اخْتِلَافِ الْعَدَدِ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَذِكْرُ الْقَلِيلِ لَا يَنْفِي ذِكْرَ
الْكَثِيرِ، وَقَدْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ حُجَّةٌ، وَجَزَمَ بِنَقْلِهِ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَلَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يُخَالِفَهُ الْمَنْطُوقُ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مَعَ كَوْنِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاخْتِلَافِ الرُّوَاةِ عَنْهُ أَنَّ الْحُكْمَ لِلزَّائِدِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ ثِقَاتٌ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ تَوْجِيهٌ آخَرُ.
قَوْلُهُ: (تَلِدُ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَتَعْلَقُ فَتَحْمِلُ فَتَلِدُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: يُقَاتِلُ، تَقْدِيرُهُ: فَيَنْشَأُ فَيَتَعَلَّمُ الْفُرُوسِيَّةَ فَيُقَاتِلُ، وَسَاغَ الْحَذْفُ؛ لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مِنْهَا مُسَبَّبٌ عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ.
قَوْلُهُ: فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي الْمَلَكَ: هَكَذَا فَسَّرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ صَاحِبَ سُلَيْمَانَ الْمَلَكُ، وَتَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ الْمَلَكُ.
قَوْلُهُ: فَنَسِيَ زَادَ فِي النِّكَاحِ: فَلَمْ يَقُلْ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صَرَفَ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ السَّابِقِ الْقَدَرُ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَنَسِيَ يُغْنِي عَنْ قَوْلِهِ: فَلَمْ يَقُلْ، فَكَذَا يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَقُلْهَا، فَالْأَوْلَى عَدَمُ ادِّعَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ تَجْوِيزَ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ تَعَمَّدَ الْحِنْثَ مَعَ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً لِكَوْنِهَا صَغِيرَةً لَا يُؤَاخَذُ بِهَا لَمْ يُصِبْ دَعْوَى وَلَا دَلِيلًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: فَلَمْ يَقُلْ، أَيْ: لَمْ يَنْطِقْ بِلَفْظِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِلِسَانِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ غَفَلَ عَنِ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ بِقَلْبِهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اعْتِقَادَ التَّفْوِيضِ مُسْتَمِرٌّ لَهُ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَنَسِيَ أَنَّهُ نَسِيَ أَنْ يَقْصِدَ الِاسْتِثْنَاءَ الَّذِي يَرْفَعُ حُكْمَ الْيَمِينِ، فَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ لِاشْتِرَاطِ النُّطْقِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا.
قَوْلُهُ: (يَرْوِيهِ) هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ رَفْعِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ مَثَلًا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ.
قَوْلُهُ: (لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ) تَقَدَّمَ الْمُرَادُ بِمَعْنَى الْحِنْثِ، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِسُلَيْمَانَ عليه السلام، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَهَا وَقَعَ مَا أَرَادَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام قَالَهَا عِنْدَمَا وَعَدَ الْخَضِرَ أَنَّهُ يَصْبِرُ عَمَّا يَرَاهُ مِنْهُ وَلَا يَسْأَلُهُ عَنْهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَصْبِرْ كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ طه، وَقَدْ قَالَهَا الذَّبِيحُ فَوَقَعَ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فَصَبَرَ حَتَّى فَدَاهُ اللَّهُ بِالذِّبْحِ، وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَلِيمِ وَالذَّبِيحِ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ بَالَغَ فِي التَّوَاضُعِ فِي قَوْلِهِ:{مِنَ الصَّابِرِينَ} حَيْثُ جَعَلَ نَفْسَهُ وَاحِدًا مِنْ جَمَاعَةٍ، فَرَزَقَهُ اللَّهُ الصَّبْرَ. قُلْتُ وَقَدْ وَقَعَ لِمُوسَى عليه السلام أَيْضًا نَظِيرُ ذَلِكَ مَعَ شُعَيْبٍ، حَيْثُ قَالَ لَهُ:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} فَرَزَقَهُ اللَّهُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ دَرَكًا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ أَيْ لَحَاقًا، يُقَالُ: أَدْرَكَهُ إِدْرَاكًا وَدَرَكًا، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: لَمْ يَحْنَثْ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ)، الْقَائِلُ هُوَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ أَفْصَحَ بِهِ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَفَرَّقَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بِهِمَا.
قَوْلُهُ: (مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ)، أَيِ: الَّذِي سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِسُفْيَانَ فِيهِ سَنَدَيْنِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ: هِشَامٌ، عَنْ طَاوُسٍ، وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بَدَلَ قَوْلِهِ: مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ. أَوْ نَحْوُهُ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ نَفْيُ احْتِمَالِ الْإِرْسَالِ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ لِكَوْنِهِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: عَنِ الْأَعْرَجِ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَيْضًا احْتِمَالُ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي
السِّيَاقِ لِقَوْلِهِ: مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَبَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مُغَايَرَةٌ فِي مَوَاضِعَ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ شَرْحِهِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
10 - بَاب الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ
6721 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ الْقَاسِمِ الْتَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ وَمَعْرُوفٌ، قَالَ: فَقُدِّمَ طَعَامُهُ، قَالَ: وَقُدِّمَ فِي طَعَامِهِ لَحْمُ دَجَاجٍ، قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مَوْلًى، قَالَ: فَلَمْ يَدْنُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: ادْنُ فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْهُ، قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا قَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ ألَا أَطْعَمَهُ أَبَدًا. فَقَالَ: ادْنُ أُخْبِرْكَ عَنْ ذَلِكَ، أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ وَهُوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ، قَالَ أَيُّوبُ: أَحْسِبُهُ قَالَ: وَهُوَ غَضْبَانُ، قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا.
فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَقِيلَ: أَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَشْعَرِيُّونَ، أَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَشْعَرِيُّونَ؟ فَأَتَيْنَا فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، قَالَ: فَانْدَفَعْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا، فأَرْسَلَ إِلَيْنَا فَحَمَلَنَا، نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، وَاللَّهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا، ارْجِعُوا بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْنُذَكِّرْهُ يَمِينَهُ، فَرَجَعْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْنَاكَ نَسْتَحْمِلُكَ فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا، ثُمَّ حَمَلْتَنَا فَظَنَنَّا - أَوْ: فَعَرَفْنَا - أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ، قَالَ: انْطَلِقُوا فَإِنَّمَا حَمَلَكُمْ اللَّهُ، إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا.
تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ الْكُلَيْبِيِّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ، بِهَذَا. حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ زَهْدَمٍ بِهَذَا.
6722 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الْحَسَنِ "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسْأَلْ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ"
تَابَعَهُ أَشْهَلُ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ.
وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَسِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَحُمَيْدٌ وَقَتَادَةُ وَمَنْصُورٌ وَهِشَامٌ وَالرَّبِيعُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى فِي قِصَّةِ سُؤَالِهِمُ الْحُمْلَانَ، وَفِيهِ: إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا، وَقَدْ مَضَى فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ بِلَفْظِ: إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ سُؤَالِ الْإِمَارَةِ، وَفِيهِ: وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رَأْى رَبِيعَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ غَيْرَ أَهْلِ الرَّأْيِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تُجْزِئُ قَبْلَ الْحِنْثِ. إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّة اسْتَثْنَى الصِّيَامَ، فَقَالَ: لَا يُجْزِئُ إِلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تُجْزِئُ الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ.
قُلْتُ: وَنَقَلَ الْبَاجِيُّ، عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ رِوَايَتَيْنِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ الصَّدَقَةَ وَالْعِتْقَ، وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ وَخَالَفَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَاحْتَجَّ لَهُمُ الطَّحَاوِيُّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فَإِذًا الْمُرَادُ: إِذَا حَلَفْتُمْ فَحَنِثْتُمْ، وَرَدَّهُ مُخَالِفُوهُ فَقَالُوا: بَلِ التَّقْدِيرُ: فَأَرَدْتُمُ الْحِنْثَ، وَأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ أَحَدُ التَّقْدِيرَيْنِ بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْيَمِينِ، وَرَدَّهُ مَنْ أَجَازَ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِنَفْسِ الْيَمِينِ لَمْ تَسْقُطْ عَمَّنْ لَمْ يَحْنَثِ اتِّفَاقًا. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ الْحِنْثِ فَرْضٌ، وَإِخْرَاجُهَا قَبْلَهُ تَطَوُّعٌ، فَلَا يَقُومُ التَّطَوُّعُ مَقَامَ الْفَرْضِ. وَانْفَصَلَ عَنْهُ مَنْ أَجَازَ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ إِرَادَةُ الْحِنْثِ، وَإِلَّا فَلَا يُجْزِئُ كَمَا فِي تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا بِالْحِنْثِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا بَعْدَ الْحِنْثِ، وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ تَأْخِيرَهَا بَعْدَ الْحِنْثِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَمَنَعَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيمَ كَفَّارَةِ حِنْثِ الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَرَدَّهُ الْجُمْهُورُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاحْتُجَّ لِلْجُمْهُورِ بِأَنَّ اخْتِلَافَ أَلْفَاظِ حَدِيثَيْ أَبِي مُوسَى، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ الْحَالِفَ بِأَمْرَيْنِ، فَإِذَا أَتَى بِهِمَا جَمِيعًا فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ الْخَبَرُ عَلَى الْمَنْعِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا طَرِيقُ النَّظَرِ، فَاحْتُجَّ لِلْجُمْهُورِ بِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لَمَّا كَانَ يَحُلُّهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ كَلَامٌ فَلَأَنْ تَحُلَّهُ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ فِعْلٌ مَالِيٌّ أَوْ بَدَنِيٌّ أَوْلَى، وَيُرَجَّحُ قَوْلُهُمْ أَيْضًا بِالْكَثْرَةِ، وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ وَتَبِعَهُ عِيَاضٌ وَجَمَاعَةٌ أَنَّ عِدَّةَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا وَتَبِعَهُمْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا، ثُمَّ مَاتَتْ فِي يَدِهِ هِيَ وَأَوْلَادُهَا أَنَّ عَلَيْهِ جَزَاءَهَا وَجَزَاءَ أَوْلَادِهَا، لَكِنْ إِنْ كَانَ حِينَ إِخْرَاجِهَا أَدَّى جَزَاءَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي أَوْلَادِهَا شَيْءٌ مَعَ أَنَّ الْجَزَاءَ الَّذِي أَخْرَجَهُ عَنْهَا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ أَوْلَادَهَا فَيُحْتَاجُ إِلَى الْفَرْقِ، بَلِ الْجَوَازُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْلَى.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَتَقْدِيمَ زَكَاةِ الزَّرْعِ، وَأَجَازُوا تَقْدِيمَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَاحْتُجَّ لِلشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الصِّيَامَ مِنْ حُقُوقِ الْأَبَدَانِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ فَإِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ، فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا كَالزَّكَاةِ، وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ إِنْ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ قَبْلَ الْحِنْثِ رَجَوْتُ أَنْ يُجْزِئَ عَنْهُ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَا لِأَنَّ حُقُوقَ الْمَالِ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّهَا لَا تُقَدَّمُ عَلَى وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَكَذَا لَوْ حَجَّ الصَّغِيرُ وَالْعَبْدُ لَا يُجْزِئُ عَنْهُمَا إِذَا بَلَغَ أَوْ عَتَقَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مَنْ حَلَفَ فَأَرَادَ أَنْ يَحْنَثَ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَا يُكَفِّرَ حَتَّى يَحْنَثَ فَإِنْ كَفَّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ أَجْزَأَ، وَسَاقَ نَحْوَهُ مَبْسُوطًا. وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ إِلْحَاقَ الْكَفَّارَةِ بِالْكَفَّارَةِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِ الْإِطْعَامِ بِالزَّكَاةِ، وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ. وَأَيْضًا فَالْفَرْقُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ حَقِّ الْمَالِ وَحَقِّ الْبَدَنِ ظَاهِرٌ جِدًّا، وَإِنَّمَا خَصَّ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ الصِّيَامَ بِالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَوْلَى تَقْدِيمُ الْحِنْثِ عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَفِي مَذْهَبِهِ وَجْهٌ اخْتَلَفَ فِيهِ التَّرْجِيحُ أَنَّ كَفَّارَةَ الْمَعْصِيَةِ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهَا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْخِلَافُ فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ رُخْصَةٌ لِحَلِّ الْيَمِينِ أَوْ لِتَكْفِيرِ مَأْثَمِهَا بِالْحِنْثِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا رُخْصَةٌ شَرَعَهَا اللَّهُ لِحَلِّ مَا عُقِدَ مِنَ الْيَمِينِ فَلِذَلِكَ تُجْزِئُ قَبْلُ وَبَعْدُ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: لِلْكَفَّارَةِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: أَحَدُهَا قَبْلَ الْحَلِفِ فَلَا تُجْزِئُ اتِّفَاقًا. ثَانِيهَا بَعْدَ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ فَتُجْزِئُ اتِّفَاقًا. ثَالِثُهَا بَعْدَ الْحَلِفِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ فَفِيهَا الْخِلَافُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ لَفْظُ الْحَدِيثِ فَقَدَّمَ الْكَفَّارَةَ مَرَّةً وَأَخَّرَهَا أُخْرَى لَكِنْ بِحَرْفِ الْوَاوِ الَّذِي لَا يُوجِبُ رُتْبَةً، وَمَنْ مَنَعَ رَأَى أَنَّهَا لَمْ تَجْزِ فَصَارَتْ كَالتَّطَوُّعِ، وَالتَّطَوُّعُ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْوَاجِبِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ، وَابْنُ التِّينِ وَجَمَاعَةٌ: الرِّوَايَتَانِ دَالَّتَانِ عَلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُرَتِّبُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَلَوْ كَانَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ لَا يُجْزِئُ لَأَبَانَهُ، وَلَقَالَ: فَلْيَأْتِ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، فَلَمَّا تَرَكَهُمْ عَلَى مُقْتَضَى اللِّسَانِ دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ. قَالَ: وَأَمَّا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ فَهِيَ كَالْفَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلَوْ لَمْ تَأْتِ الثَّانِيَةُ لَمَا دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهَا أَبَانَتْ مَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ الْحَلِفِ، وَهُمَا شَيْئَانِ كَفَّارَةٌ وَحِنْثٌ وَلَا تَرْتِيبَ فِيهِمَا، وَهُوَ كَمَنْ قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ الدَّارَ فَكُلْ وَاشْرَبْ. قُلْتُ: قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ بِلَفْظِ: ثُمَّ الَّتِي تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بِهِ: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ أَحَالَ بِلَفْظِ الْمَتْنِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، كَأَبِي دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلُهُ. لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ بِالْوَاوِ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَيْضًا بِلَفْظِ: ثُمَّ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ، وَلَفْظُهُ: فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَأَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَالْقَاسِمُ التَّمِيمِيُّ هُوَ ابْنُ عَاصِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابُ الْيَمِينِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْقَاسِمِ وَحْدَهُ أَيْضًا، وَاقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِ وَمَضَى فِي بَابُ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ جَمِيعًا عَنْ زَهْدَمٍ، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ حَمَّادٍ وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الْعَتَكِيِّ، عَنْ حَمَّادٍ قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَاصِمٍ الْكُلَيْبِيُّ بِمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ نِسْبَةً إِلَى بَنِي كُلَيْبِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَهُوَ الْقَاسِمُ التَّمِيمِيُّ الْمَذْكُورُ قَبْلُ، قَالَ: وَأَنَا لِحَدِيثِ الْقَاسِمِ أَحْفَظُ عَنْ زَهْدَمٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَتَكِيِّ وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ كِلَاهُمَا عَنْ زَهْدَمٍ، قَالَ أَيُّوبُ: وَأَنَا لِحَدِيثِ الْقَاسِمِ أَحْفَظُ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى) أَيِ الْأَشْعَرِيِّ، وَنُسِبَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ وَمَعْرُوفٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ هَذَا الْحَيِّ إِلَخْ، وَهُوَ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ زَادَ الضَّمِيرَ، وَقَدَّمَهُ عَلَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كَانَ حَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، أَيْ: أَبِي مُوسَى يَعْنِي لِأَنَّ زَهْدَمًا مِنْ جَرْمٍ، فَلَوْ كَانَ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ لَاسْتَقَامَ الْكَلَامُ، قَالَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الصَّوَابِ فِي بَابُ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ حَيْثُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيِّينَ، ثُمَّ حَمَلَ مَا وَقَعَ هُنَا عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مِنْ قَوْمِ أَبِي مُوسَى لِكَوْنِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَصَارَ كَوَاحِدٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ فَأَرَادَ
بِقَوْلِهِ: بَيْنَنَا أَبَا مُوسَى وَأَتْبَاعَهُ وَأَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَرْمِيِّينَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْإِخَاءِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ فِي الذَّبَائِحِ بِلَفْظِ هَذَا الْبَابِ إِلَى قَوْلِهِ: إِخَاءٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْكَلَامَ بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى فَقَدَّمَ طَعَامَهُ، نَعَمْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِقِصَّةِ الدَّجَاجِ وَقَوْلِ الرَّجُلِ وَلَمْ يَسُقْ بَقِيَّتَهُ، وَقَوْلُهُ: إِخَاءٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ، أَيْ: صَدَاقَةٌ، وَقَوْلُهُ: وَمَعْرُوفٌ، أَيْ: إِحْسَانٌ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ الْمَاضِيَةِ قَرِيبًا: وُدٌّ وَإِخَاءٌ، وَقَدْ ذَكَرَ بَيَانَ سَبَبِ ذَلِكَ فِي بَابُ قُدُومِ الْأَشْعَرِيِّينَ مِنْ أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو مُوسَى الْكُوفَةَ أَكْرَمَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ جَرْمٍ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ نَسَبَ جَرْمٍ إِلَى قُضَاعَةَ.
قَوْلُهُ: (فَقُدِّمَ طَعَامُهُ)، أَيْ: وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: طَعَامٌ بِغَيْرِ ضَمِيرٍ، وَمَضَى فِي بَابُ قُدُومِ الْأَشْعَرِيِّينَ بِلَفْظِ: وَهُوَ يَتَغَذَّى لَحْمَ دَجَاجٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ جَوَازُ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ عَلَى الْمَوَائِدِ وَاسْتِخْدَامِ الْكَبِيرِ مَنْ يُبَاشِرُ لَهُ نَقْلَ طَعَامِهِ وَوَضْعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الزُّهْدَ وَلَا يُنْقِصُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَقَشِّفَةِ. قُلْتُ: وَالْجَوَازُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَنْقُصُ الزُّهْدَ فَفِيهِ وَقْفَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَقُدِّمَ فِي طَعَامِهِ لَحْمُ دَجَاجٍ) ذُكِرَ ضَبْطُهُ فِي بَابُ لَحْمِ الدَّجَاجِ مِنْ كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَكَلَامُ الْحَرْبِيِّ فِي ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ بِلَفْظِ: دَجَاجَةٍ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَاسْتَغْرَبَهُ ابْنُ التِّينِ.
قَوْلُهُ: (وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ) هُوَ اسْمُ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا: تَيْمُ الْلَاتِ، وَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا قِيلَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الرَّجُلِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ.
قَوْلُهُ: (أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مَوْلًى) تَقَدَّمَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ كَأَنَّهُ مِنَ الْمَوَالِي. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ سَبْيِ الرُّومِ، كَذَا قَالَ فَإِنْ كَانَ اطَّلَعَ عَلَى نَقْلٍ فِي ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِالرُّومِ دُونَ الْفُرْسِ أَوِ النَّبَطِ أَوِ الدَّيْلَمِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَدْنُ)، أَيْ: لَمْ يَقْرَبْ مِنَ الطَّعَامِ فَيَأْكُلَ مِنْهُ، زَادَ عَبْدُ الْوَارِثِ فِي رِوَايَتِهِ فِي الذَّبَائِحِ: فَلَمْ يَدْنُ مِنْ طَعَامِهِ.
قَوْلُهُ: (ادْنُ) بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ السَّلَامِ: هَلُمَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى ادْنُ، كَذَا فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَقَالَ لَهُ: هَلُمَّ فَتَلَكَّأَ بِمُثَنَّاةٍ وَلَامٍ مَفْتُوحَتَيْنِ وَتَشْدِيدٍ، أَيْ: تَمَنَّعَ وَتَوَقَّفَ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ: (يَأْكُلُ شَيْئًا قَذِرْتُهُ) بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ، وَحُكْمُ أَكْلِ لَحْمِ الْجَلَّالَةِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ مُسْتَوْفًى.
قَوْلُهُ: (أُخْبِرُكَ عَنْ ذَلِكَ) أَيْ: عَنِ الطَّرِيقِ فِي حَلِّ الْيَمِينِ، فَقَصَّ قِصَّةَ طَلَبِهِمُ الْحُمْلَانَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا فِي آخِرِهِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا، وَمَعْنَى: تَحَلَّلْتُهَا فَعَلْتُ مَا يَنْقُلُ الْمَنْعَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ إِلَى الْإِذْنِ فَيَصِيرُ حَلَالًا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا مَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْيَمِينَ تَتَحَلَّلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا الِاسْتِثْنَاءُ وَإِمَّا الْكَفَّارَةُ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُطْلَقِ الْيَمِينِ لَكِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي أَثْنَاءِ الْيَمِينِ قَبْلَ كَمَالِهَا وَانْعِقَادِهَا وَالْكَفَّارَةُ تَحْصُلُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: تَحَلَّلْتُهَا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وُقُوعُ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ السَّلَامِ، وَعَبْدِ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ بِلَفْظِ: إِنَّا أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ فَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ مَالِكٍ لِصِحَّةِ قَوْلِ الْأَخْفَشِ يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْحَاضِرِ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ - تَعَالَى -:{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَاحْتَرَزْتُ بِقَوْلِي بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ عَنِ الْبَعْضِ وَالِاشْتِمَالِ فَذَلِكَ جَائِزٌ
اتِّفَاقًا، وَلَمَّا حَكَاهُ الطِّيبِيُّ أَقَرَّهُ وَقَالَ: هُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى التَّجْرِيدُ.
قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَحْسُنُ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ إِلَّا لَوِ اتَّفَقَتِ الرُّوَاةُ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ انْفَرَدَ بِهِ عَبْدُ السَّلَامِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى بِإِثْبَاتِ فِي، فَقَالَ فِي مُعْظَمِهَا: فِي رَهْطٍ، كَمَا هِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ هُنَا، وَفِي بَعْضِهَا: فِي نَفَرٍ كَمَا هِيَ رِوَايَةُ حَمَّادٍ عَنْ أَيُّوبَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ.
قَوْلُهُ: يَسْتَحْمِلُهُ، أَيْ: يَطْلُبُ مِنْهُ مَا يَرْكَبُهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي السَّلِيلِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَلَامَيْنِ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ عَنْ زَهْدَمٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى: كُنَّا مُشَاةً فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ يَقْسِمُ نَعَمًا) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَيُّوبُ: أَحْسَبُهُ قَالَ وَهُوَ غَضْبَانُ)، هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ: فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ وَهُوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ. وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي عوانة في صحيحه: وهو يقسم ذودا من إبل الصدقة، وفي رواية بريد بن أبي بردة الماضية قريبا في باب اليمين فيما لا يملك عن أبي موسى: أرسلني أصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان، فقال: لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ، فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ أَبَا مُوسَى حَضَرَ هُوَ وَالرَّهْطُ فَبَاشَرَ الْكَلَامَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ جَوَازُ الْيَمِينِ عِنْدَ الْمَنْعِ وَرَدُّ السَّائِلِ الْمُلْحِفِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِسْعَافِ وَتَأْدِيبِهِ بِنَوْعٍ مِنَ الْإِغْلَاظِ بِالْقَوْلِ.
قَوْلُهُ: (فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، أَيْ: غَنِيمَةٌ وَأَصْلُهُ مَا يُؤْخَذُ اخْتِطَافًا بِحَسَبِ السَّبْقِ إِلَيْهِ عَلَى غَيْرِ تَسْوِيَةٍ بَيْنَ الْآخِذِينَ، وَتَقَدَّمَ فِي ال بَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ طَرِيقِ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ مُوسَى بِلَفْظِ: فَأُتِيَ بِإِبِلٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: شَائِلٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَفِي رِوَايَةِ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ابْتَاعَ الْإِبِلَ الَّتِي حَمَلَ عَلَيْهَا الْأَشْعَرِيِّينَ مِنْ سَعْدٍ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رِوَايَةِ الْبَابِ عُسْرٌ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ لَمَّا حَصَلَتْ حَصَلَ لِسَعْدٍ مِنْهَا الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ، فَابْتَاعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ نَصِيبَهُ فَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَقِيلَ: أَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَشْعَرِيُّونَ؟ فَأَتَيْنَا فَأَمَرَ لَنَا). فِي رِوَايَةِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَيُّوبَ: ثُمَّ لَمْ نَلْبَثْ أَنْ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ فَأَمَرَ لَنَا، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: وَأُتِيَ بِنَهْبِ إِبِلٍ فَسَأَلَ عَنَّا، فَقَالَ: أَيْنَ النَّفَرُ الْأَشْعَرِيُّونَ؟ فَأَمَرَ لَنَا، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ: ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ فَأُتِيَ. وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ: فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلَالًا يُنَادِي: أَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ؟ فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوكَ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ: خُذْ.
قَوْلُهُ: فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ، تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَانْدَفَعْنَا)، أَيْ: سِرْنَا مُسْرِعِينَ، وَالدَّفْعُ السَّيْرُ بِسُرْعَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ: فَلَبِثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي) فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ، وَعَبْدِ الْوَهَّابِ: قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا. وَفِي رِوَايَةِ غَيْلَانَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ: فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ رِوَايَةِ الْبَابِ الْبَادِئُ بِالْمَقَالَةِ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، وَاللَّهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا). فِي رِوَايَةِ عَبْدِ السَّلَامِ: فَلَمَّا قَبَضْنَاهَا قُلْنَا تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَمَعْنَى: تَغَفَّلْنَا أَخَذْنَا مِنْهُ مَا أَعْطَانَا فِي حَالِ غَفْلَتِهِ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُذَكِّرَهُ بِهَا، وَلِذَلِكَ خَشَوْا، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا؟ لَا يُبَارَكُ لَنَا، وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسْيَانَ أَيْضًا. وَفِي رِوَايَةِ غَيْلَانَ: لَا يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا، وَخَلَتْ رِوَايَةُ يَزِيدَ عَنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ كَمَا خَلَتْ عَمَّا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ قَوْلُ أَبِي مُوسَى لِأَصْحَابِهِ: لَا أَدَعُكُمْ حَتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ
إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي: فِي مَنْعِهِمْ أَوَّلًا وَإِعْطَائِهِمْ ثَانِيًا إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ
…
إِلَخْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ اسْتِدْرَاكُ جَبْرِ خَاطِرِ السَّائِلِ الَّذِي يُؤَدَّبُ عَلَى الحاجة بِمَطْلُوبِهِ إِذَا تَيَسَّرَ، وَأَنَّ مَنْ أَخْذَ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُعْطِيَ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِإِعْطَائِهِ لَا يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَظَنَنَّا أَوْ فَعَرَفْنَا أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ، قَالَ: انْطَلِقُوا فَإِنَّمَا حَمَلَكُمُ اللَّهُ) فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: فَنَسِيتَ. قَالَ: لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ السَّلَامِ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا وَقَدْ حَمَلْتَنَا قَالَ: أَجَلْ، وَلَمْ يَذْكُرْ: مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ إِلَخْ. وَفِي رِوَايَةِ غَيْلَانَ: مَا أَنَا حَمَلْتكُمْ بَلِ اللَّهُ حَمَلَكُمْ، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ فِطْرٍ، عَنْ زَهْدَمٍ: فَكَرِهْنَا أَنْ نُمْسِكَهَا، فَقَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا نَسِيتُهَا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ الشَّيْخِ الَّذِي أَخْرَجَهُ عَنْهُ أَبُو يَعْلَى وَلَمْ يَسُقْ مِنْهُ إِلَّا قَوْلَهُ: قَالَ: وَاللَّهِ مَا نَسِيتُهَا.
قَوْلُهُ: إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَخْ، تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ
قَوْلُهُ: (لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ) أَيْ: مَحْلُوفِ يَمِينٍ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ يَمِينٍ لِلْمُلَابَسَةِ وَالْمُرَادُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ ; فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَضْمِينٌ فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: عَلَى أَمْرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بِمَعْنَى الْبَاءِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: إِذَا حَلَفْتُ بِيَمِينٍ، وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ: فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ عَوْدُهُ عَلَى الْيَمِينِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَعُودُ عَلَى مَعْنَاهَا الْمَجَازِيِّ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: الْحَلِفُ هُوَ الْيَمِينُ، فَقَوْلُهُ: أَحْلِفُ، أَيْ: أَعْقِدُ شَيْئًا بِالْعَزْمِ وَالنِّيَّةِ، وَقَوْلُهُ: عَلَى يَمِينٍ تَأْكِيدٌ لِعَقْدِهِ وَإِعْلَامٌ بِأَنَّهُ لَيْسَتْ لَغْوًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: مَا عَلَى الْأَرْضِ يَمِينٌ أَحْلِفُ عَلَيْهَا. الْحَدِيثَ، قَالَ: فَقَوْلُهُ: أَحْلِفُ عَلَيْهَا صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْيَمِينِ، قَالَ: وَالْمَعْنَى لَا أَحْلِفُ يَمِينًا جَزْمًا لَا لَغْوَ فِيهَا، ثُمَّ يَظْهَرُ لِي أَمْرٌ آخَرُ يَكُونُ فِعْلُهُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُضِيِّ فِي الْيَمِينِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا فَعَلْتُهُ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: عَلَى يَمِينٍ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِقَوْلِهِ: أَحْلِفُ.
تَكْمِلَةٌ: اخْتُلِفَ هَلْ كَفَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ يَمِينِهِ الْمَذْكُورِ كَمَا اخْتُلِفَ هَلْ كَفَّرَ فِي قِصَّةِ حَلِفِهِ عَلَى شُرْبِ الْعَسَلِ أَوْ عَلَى غِشْيَانِ مَارِيَةَ، فَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُكَفِّرْ أَصْلًا ; لِأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ، وَتُعُقِّبَ بِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ حَلِفِهِ عَلَى الْعَسَلِ أَوْ مَارِيَةَ، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ لَهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَفَّرَ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ نَصًّا فِي رَدِّ مَا ادَّعَاهُ الْحَسَنُ، وَظَاهِرٌ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْبَابِ: وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ ذَلِكَ، وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلتَّشْرِيعِ بَعِيدٌ.
قَوْلُهُ: (وَتَحَلَّلْتهَا)، كَذَا فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ، وَعَبْدِ الْوَارِثِ، وَعَبْدِ الْوَهَّابِ كُلِّهِمْ عَنْ أَيُّوبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ السَّلَامِ: وَتَحَلَّلْتُهَا، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا أَبُو السَّلِيلِ، عَنْ زَهْدَمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْلَانَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ: إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي بَدَلَ وَتَحَلَّلْتُهَا وَهُوَ يُرَجِّحُ أَحَدَ احْتِمَالَيْنِ أَبْدَاهُمَا ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ثَانِيهِمَا إِتْيَانُ مَا يَقْتَضِي الْحِنْثَ، فَإِنَّ التَّحَلُّلَ يَقْتَضِي سَبْقَ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مِنْ مُوَافَقَةِ مُقْتَضَاهَا، فَيَكُونُ التَّحَلُّلُ الْإِتْيَانُ بِخِلَافِ مُقْتَضَاهَا، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَكْرَارٌ لِوُجُودِ قَوْلِهِ: أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، فَإِنَّ إِتْيَانَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ تَحْصُلُ بِهِ مُخَالَفَةُ الْيَمِينِ وَالتَّحَلُّلُ مِنْهَا، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهُ التَّصْرِيحَ بِالتَّحَلُّلِ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظٍ يُنَاسِبُ الْجَوَازَ صَرِيحًا لِيَكُونَ أَبْلَغَ مِمَّا لَوْ ذَكَرَهُ بِالِاسْتِلْزَامِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الثَّانِيَ أَقْوَى لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: مَعْنَى: تَحَلَّلْتُهَا خَرَجْتُ مِنْ حُرْمَتِهَا إِلَى مَا يَحِلُّ مِنْهَا، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْكَفَّارَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِشَرْطِهِ السَّابِقِ، لَكِنْ لَا يَتَّجِهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَّا إِنْ كَانَ وَقَعَ مِنْهُ اسْتِثْنَاءٌ لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ كَأَنْ يَكُونَ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَثَلًا، أَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ إِلَّا إِنْ حَصَلَ
شَيْءٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ: مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ، الْمَعْنَى بِذَلِكَ إِزَالَةُ الْمِنَّةِ عَنْهُمْ وَإِضَافَةُ النِّعْمَةِ لِمَالِكِهَا الْأَصْلِيِّ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ أَصْلًا فِي حَمْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ مَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي مَا حَمَلْتُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مَا حَمَلْتُكُمْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ نَسِيَ يَمِينَهُ وَالنَّاسِي لَا يُضَافُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ، وَيَرُدُّهُ التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهِ مَا نَسِيتُهَا، وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ عَنْهُ وَالْإِثْبَاتُ لِلَّهِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِتَسَبُّبٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا كَانَ مُتَطَلِّعًا إِلَيْهَا وَلَا مُنْتَظِرًا لَهَا، فَكَانَ الْمَعْنَى: مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ لِعَدَمِ ذَلِكَ أَوَّلًا وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ بِمَا سَاقَهُ إِلَيْنَا مِنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَالْقَاسِمِ بْنُ عَاصِمٍ الْكُلَيْبِيِّ). قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إِنَّمَا أَتَى بِلَفْظِ تَابَعَهُ أَوَّلًا وَبِـ حَدَّثَنَا ثَانِيًا وَثَالِثًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَخِيرَيْنِ حَدَّثَاهُ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالْأَوَّلَ مَعَ غَيْرِهِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِخِلَافِهِمَا. قُلْتُ: لَمْ يَظْهَرْ لِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مَعَ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَدَمَ التَّعْلِيقِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ فِي حُكْمِ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُدْرِكْ حَمَّادًا، وَقَدْ وَصَلَ الْمُصَنِّفُ مُتَابَعَةَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمُتَابَعَةَ وَقَعَتْ فِي الرِّوَايَةِ عَنِ الْقَاسِمِ فَقَطْ، وَلَكِنْ زَادَ حَمَّادٌ ذِكْرَ أَبِي قِلَابَةَ مَضْمُومًا إِلَى الْقَاسِمِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ.
قَوْلُهُ: (بِهَذَا) أَيْ بِجَمِيعِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ حَمَّادٍ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ مُتَّفِقَتَانِ فِي السِّيَاقِ، وَقَدْ سَاقَ رِوَايَةَ قُتَيْبَةَ هَذِهِ فِي بَابُ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ تَامَّةً، وَقَدْ سَاقَهَا أَيْضًا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَجْبِيِّ، عَنِ الثَّقَفِيِّ وَلَيْسَ بَعْدَ الْبَابِ الَّذِي سَاقَهَا فِيهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ سِوَى بَابَيْنِ فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) تَقَدَّمَ سِيَاقُ رِوَايَتِهِ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مِنَ التَّخَالُفِ مُفَصَّلًا، وَفِي الْحَدِيثِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ تَرْجِيحُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ إِذَا كَانَ خَيْرًا مِنَ التَّمَادِي، وَأَنَّ تَعَمُّدَ الْحِنْثِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يَكُونُ طَاعَةً لَا مَعْصِيَةً، وَجَوَازُ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا وَهُوَ يَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي تَرْجِيحِ الْحِنْثِ بِشَرْطِهِ الْمَذْكُورِ، وَفِيهِ تَطْيِيبُ قُلُوبِ الْأَتْبَاعِ، وَفِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ بِـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَرُّكًا، فَإِنْ قَصَدَ بِهَا حَلَّ الْيَمِينِ صَحَّ بِشَرْطِهِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَسِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَحُمَيْدٌ وَقَتَادَةُ وَمَنْصُورٌ وَهِشَامٌ وَالرَّبِيعُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ فَارِسِ بْنِ ذُؤَيْبٍ الذُّهْلِيُّ الْحَافِظُ الْمَشْهُورُ فِيمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ، وَقَالَ: نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْرَمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الثَّلْجِ، وَهُمَا مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، وَرَوَى أَيْضًا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ وَهُمْ أَعْلَى مِنْ طَبَقَةِ الْمَخْرَمِيِّ وَمَنْ مَعَهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا بِوَاسِطَةٍ تَارَةً وَبِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أُخْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، وَهُوَ أَعْلَى مِنْ طَبَقَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ شَيْخِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ شَيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَنْ هُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَابْنُ عَوْنٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ الْمَشْهُورُ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: تَابَعَهُ أَشْهَلُ بِالْمُعْجَمَةِ وَزْنُ أَحْمَرَ: عَنِ ابْنِ عَوْنٍ وَقَعَتْ رِوَايَتُهُ مَوْصُولَةً عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَالْحَاكِمِ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ الرَّقَاشِيِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَشْهَلُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَا: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ بِهِ.
قَوْلُهُ: وَتَابَعَهُ يُونُسُ، وَسِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، وَحُمَيْدٌ،
وَقَتَادَةُ، وَمَنْصُورٌ، وَهِشَامٌ، وَالرَّبِيعُ)، يُرِيدُ أَنَّ الثَّمَانِيَةَ تَابَعُوا ابْنَ عَوْنٍ فَرَوَوْهُ، عَنِ الْحَسَنِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَوَّلًا: تَابَعَهُ أَشْهَلُ لِعُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ثَانِيًا: وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَمَا بَعْدَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ شَيْخِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: وَحُمَيْدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ: وَحُمَيْدٌ، وَقَتَادَةُ بِالْوَاوِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مَنْ وَصَلَ هَذِهِ الْمُتَابَعَاتِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ يُونُسَ وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ فَسَتَأْتِي مَوْصُولَةً فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْهُ وَعَنْ يُونُسَ جَمِيعًا عَنِ الْحَسَنِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: مَا رَوَاهُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ إِلَّا حَمَّادٌ، وَلَا رَوَى سِمَاكُ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ إِلَّا هَذَا، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ فَوَصَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ حُمَيْدٍ وَهُوَ الطَّوِيلُ، وَمَنْصُورٍ هُوَ ابْنُ زَاذَانَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ عَنْهُمَا، قَالَ الْبَزَّارُ وَتَبِعَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ إِلَّا هُشَيْمٌ، وَلَا رَوَى مَنْصُورٌ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِمَنْصُورٍ مَنْصُورَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ الْبَزَّارُ أَيْضًا: لَمْ يَرْوِ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَسَنِ إِلَّا هَذَا، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ قَتَادَةَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْهُ. وَأَمَّا رِوَايَةُ هِشَامٍ وَهُوَ ابْنُ حَسَّانَ فَأَخْرَجَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَلَى مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَوَقَعَ لَنَا فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامٍ، وَمَطَرٍ الْوَرَّاقِ جَمِيعًا عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الرَّبِيعِ فَقَدْ جَزَمَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ بِأَنَّهُ ابْنُ مُسْلِمٍ، وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ ابْنُ صُبَيْحٍ، فَقَدْ وَقَعَ لَنَا فِي الشَّرَّانِيَّاتِ مِنْ رِوَايَةِ شَبَابَةَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ بِوَزْنِ عَظِيمٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَامِرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَالْمُبَارَكُ بْنُ فَضَال ةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ صَبِيحٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بِهِ، وَوَقَعَ لَنَا مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ غَيْرِ مَنْسُوبٍ عَنِ الْحَسَنِ، أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ يُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ فِي الْجُزْءِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْحَسَنِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّبِيعَ بْنَ صَبِيحٍ الْمَذْكُورَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّبِيعَ بْنَ مُسْلِمٍ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَتَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحَسَنِ. وَلَمَّا أَخْرَجَ طَرِيقَ سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ قَرَنَهَا بِيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، وَقَالَ: فِي آخَرِينَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَمِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ وَمِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ كُلُّهُمْ عَنِ الْحَسَنِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيِرِ عَنْ نَحْوِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ، يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو الْأَشْهَبِ، وَاسْمُهُ جَعْفَرُ بْنُ حَيَّانَ، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وَحَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، وَخُلَيْدُ بْنُ دَعْلَجٍ، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّرَّاجُ، وَعَرْفَطَةُ، وَالْمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، وَزِيَادٌ مَوْلَى مُصْعَبٍ، وَسَهْلٌ السَّرَّاجُ، وَشُبَيْبُ بْنُ شَيْبَةَ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ، وَالْأَشْعَثُ بْنُ سِوَارٍ، وَالْأَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ، وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَالسُّرِّيُّ بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو عُقَيْلٍ الدَّوْرَقِيُّ، وَعَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، وَعَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ، فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ وَأَرْبَعُونَ نَفْسًا.
وَقَدْ خَرَّجَ طُرُقَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ
الْبُلْدَانِيَّةِ لَهُ عَنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ نَفْسًا مِنَ الرُّوَاةِ عَنِ الْحَسَنِ، فِيهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَإِسْرَائِيلُ أَبُو مُوسَى، وَوَائِلُ بْنُ دَاوُدَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، وَقُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَأَبُو خَالِدٍ الْجَزَّارُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْبَاجِيُّ، وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ، وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ، وَعَلِيُّ بْنُ رِفَاعَةَ، وَمُسْلِمُ بْنُ أَبِي الذَّيَّالِ، وَالْعَوَّامُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، وَعُقَيْلُ بْنُ صَبِيحٍ، وَكَثِيرُ بْنُ زِيَادٍ، وَسَوْدَةُ بْنُ أَبِي الْعَالِيَةِ، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَالشَّامِ، وَلَعَلَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى الْخَمْسِينَ، ثُمَّ خَرَّجَ طُرُقَهُ الْحَافِظُ يُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ نَفْسًا عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَسَرَدَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ فِي تَذْكِرَتِهِ أَسْمَاءَ مَنْ رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ، فَبَلَغُوا مِائَةً وَثَمَانِينَ نَفْسًا وَزِيَادَةً، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٌ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، انْتَهَى.
وَلَمَّا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: وَفِي الْبَابِ، فَذَكَرَ الثَّمَانِيَّةَ الْمَذْكُورِينَ أَوَّلًا، وَأَهْمَلَ خَمْسَةً، وَاسْتَدْرَكَهُمْ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ إِلَّا ابْنَ مَسْعُودٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَزَادَ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ، وَعَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْجُشَمِيَّ وَالِدَ أَبِي الْأَحْوَصِ، وَأُذَيْنَةَ وَالِدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَكَمَّلُوا سِتَّةَ عَشَرَ نَفْسًا، قُلْتُ: أَحَادِيثُ الْمَذْكُورِينَ كُلُّهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْيَمِينِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ: لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ لَكِنْ سَأَذْكُرُ مَنْ رَوَى مَعْنَى ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ مَنْدَهْ أَنَّ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ غَيْرَ الْحُسَيْنِ، لَكِنْ ذَكَرَ عَبْدُ الْقَادِرِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ أَسْنَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْخَرَّازِ، عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، الْحَدِيثَ. وَقَالَ: غَرِيبٌ مَا كَتَبْتُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، انْتَهَى.
وَهَذَا مَعَ مَا فِي سَنَدِهِ مِنْ ضَعْفٍ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِرِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَخْرَجَهُ يُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ الْحَافِظُ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ أَوْرَدَهُ مِنَ الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ، وَهُوَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَرْوَزِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى عِكْرِمَةَ، قَالَ: كَانَ اسْمُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ عَبْدَ كَلُّوبٍ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَمَرَّ بِهِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: تَعَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَا تَطْلُبِ الْإِمَارَةَ، الْحَدِيثَ. وَهَذَا لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ عِكْرِمَةُ بِأَنَّهُ حَمَلَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ إِلَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ، وَلَا عَنْهُ إِلَّا ابْنُهُ إِسْحَاقُ، تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُنِيبٍ. قُلْتُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَيْسَانَ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَابْنُهُ إِسْحَاقُ لَيَّنَهُ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ)، فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَكَانَ غَزَا مَعَهُ كَإِبِلِ شَنُوءَةَ أَوْ شَنُوءَتَيْنِ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَكَذَا لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ، إِسْحَاقَ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْحَسَنِ لَكِنْ بِلَفْظِ: غَزَوْنَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ:، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ) تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، هَلْ لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ تَعَلُّقٌ بِالْآخَرِ أَوْ لَا؟ فَقِيلَ: لَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الشِّقَّيْنِ
أَنْ يُعْطَى الْإِمَارَةَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، فَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا أَرَبٌ فَيَمْتَنِعُ فَيَلْزَمُ فَيَحْلِفُ، فَأُمِرَ أَنْ يَنْظُرَ ثُمَّ يَفْعَلَ الَّذِي هُوَ أَوْلَى فَإِنْ كَانَ فِي الْجَانِبِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ فَيَحْنَثُ وَيُكَفِّرُ، وَيَأْتِي مِثْلَهُ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ.
قَوْلُهُ: (فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا) أَيْ: غَيْرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْيَمِينِ، وَلَا يَصِحُّ عَوْدُهُ عَلَى الْيَمِينِ بِمَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ، بَلْ بِمَعْنَاهَا الْمَجَازِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ هُنَا الِاعْتِقَادِيَّةُ لَا الْبَصَرِيَّةُ، قَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْفِعْلَ أَوِ التَّرْكَ خَيْرٌ لَهُ فِي دُنْيَاهُ أَوْ آخِرَتِهِ أَوْ أَوْفَقُ لِمُرَادِهِ وَشَهْوَتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: فَرَأَى غَيْرَهَا أَتْقَى لِلَّهِ فَلْيَأْتِ التَّقْوَى، وَهُوَ يُشْعِرُ بِقَصْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا فِيهِ طَاعَةٌ. وَيَنْقَسِمُ الْمَأْمُورُ بِهِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، إِنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِعْلًا فَكَانَ التَّرْكُ أَوْلَى، أَوْ كَانَ مَحْلُوفُ عَلَيْهِ تَرْكًا فَكَانَ الْفِعْلُ أَوْلَى، أَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِعْلًا وَتَرْكًا لَكِنْ يَدْخُلُ الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ; لِأَنَّ مِنْ لَازِمِ فِعْلِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ تَرْكِهِ تَرْكَ الْآخَرِ أَوْ فِعْلَهُ.
قَوْلُهُ: (فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ). هَكَذَا وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكَثِيرِ مِنْهُمْ: فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلُ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَدَعْهَا وَلِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَإِنَّ كَفَّارَتَهَا تَرْكُهَا، فَأَشَارَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى ضَعْفِهِ، وَقَالَ: الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا: فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ إِلَّا شَيْئًا لَا يُعْبَأُ بِهِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَفَعَهُ -: مَنْ حَلَفَ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ. وَيَحْيَى ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَا يُوهِمُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ بِلَفْظِ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيَتْرُكْ يَمِينَهُ. هَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَفَّارَةَ، وَلَكِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَمَدَارُهُ فِي الطُّرُقِ كُلِّهَا عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرِيفَةَ، عَنْ عَدِيٍّ وَالَّذِي زَادَ ذَلِكَ حَافِظٌ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْأَمْرِ بِالْكَفَّارَةِ مَعَ تَعَمُّدِ الْحِنْثِ دَلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ ; لِأَنَّهَا يَمِينٌ حَانِثَةٌ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْمُضِيِّ فِي حَلِفِهِ أَوِ الْحِنْثُ وَالْكَفَّارَةُ، وَانْفَصَلَ عَنْهُ مَنْ قَالَ.
إِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلنَّدَبِ بِمَا مَضَى فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ، فَقَالَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْحِنْثِ وَالْكَفَّارَةِ مَعَ أَنَّ حَلِفَهُ عَلَى تَرْكِ الزِّيَادَةِ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِهَا.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَةِ وَالْمُلْحَقَةِ بِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةٍ وَسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا فِيهِ، وَفِيمَا مَضَى سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، وَالْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةٌ وَخَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْخَالِصُ اثْنَا عَشَرَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَحَدِيثِهَا: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَحَدِيثِهِ: أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي نَذْرٍ وَافَقَ يَوْمَ عِيدٍ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَشَرَةُ آثَارٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.